الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللغة العربية
لا يتمالك المرء أن يزفر زفرة الثكلى ويتنفس الصعداء كلما أعاد النظر والتأمل في آفات الفترة التي أصابت هذه اللغة الكريمة، وأوشكت أن تذهب ببهجة لهجتها، ورونق فصاحتها ولولا إثارة من علم وصلت إلينا مما بقي في أيدينا من كتب حفاظها المتقدمين لأصحابنا اليوم لا نميز بين الثلة والتلة ولا بين الكوع والبوع فشكراً لأولئك العلماء الأعلام الذين كأنهم نظروا بلحظ الغيب إلى ما صرنا إليه من التكاسل والتغافل وقلة العناية والقيام بضبط هذا اللسان القرأني فاستودعوه لنا بطون الكتب وجعلوا له منها صواناً يحفظه من الضياع ريثما ينبهنا حادث الدهر المأدب فنصحوا ونستفيق ونهب إلى نقله من السطور إلى الصدور، ومن الأسفار الجادة والدواوين الصامتة إلى الأفكار النيرة، والألسنة الناطقة وما ذلك على رجال الهمم السامية ببعيد وها نحن قد دبت في قلوبنا روح هذا الإحساس الكريم ونفذت إلى أفئدتنا حياة الشعور بهذا الواجب المحتوم الذي يفرضه علينا الدين الإسلامي والكمال الإنساني، فقام بحول الكتبة وحملة اليراع يعملون على تلافي هذا النقص الذي هو في القادرين أشد منه قبحاً في القاصرين.
كما قال أبو الطيب:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً
…
كنقص القادرين على التمام
ولعمل الحق أن من تصفح كتابة نوابغ العصر لا يسعه إلا الاعتراف بحسن صنيعه وبيض أياديهم في خدمة هذه اللغة وتمهيد السبيل لقصديها بعدما كادت تعفو آثارها، وتنتمس صواها ومنارها ولقد قضينا ردحاً من عنفوان شبابنا عاكفين على دراسة الإنشاء العربي القديم ومتباعدين عن الكتابة العصرية، تباعد السليم عن الأجرب تحامياً من أن يعلق في أذهاننا شيء من الآثار السيئة التي تنشأ من فرط التكلف وكثرة التعسف ورغبة في الوقوف على أسرار لغة التنزيل العزيز وتعرف أسلوبها الأصلي البديل بحسن ديباجته ورونقه كي نتبين كيف كانت هذه اللغة المجيدة في عهد العرب العرباء.
قبل أن تتعاورها أيدي المذوقين والمبهجين من عشاق الجناس والبديع وكيف كانت تجري بسلاستها وعذوبتها على أسلات الألسنة أولئك الأقحاح اللذين كانوا يجيدون النطق بها وهم لم يضربوا زيداً ولا عمراً، ولا صرفوا نصر ينصر نصراً، وما أشوق النفس المشرأبة إلى تفهم تلك العربية، وما فصح من لغاتها وملح من بلاغاتها، مما كان يسمع من الإعراب في
بواديها ومن خطباء الحلل الحلل في نواديها ومن قراضبة نجد في أكلائها ومراتعها ومن سماسرة تهامه في أسواقها ومجامعها وما تراجزت بها السقات على أفواه قلوبها وتساجعة به الرعاة على شفاه علبها وما تقارضته شعراء قيس وتميم في ساعات المماتنة وتراملت به سفراء ثقيف وهزيل في أيام المفاتنة كما قاله العلامة الزمخشري.
هكذا كنا نؤثر الاقتصار على استقراء كلام أهل الشيح والقيصوم من الإعراب والإعرابيات اللواتي قال فيهن أبو الطيب:
ما أوجه الحضر المستحسنات بها
…
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
…
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفنا بها
…
مضغ الكلاء ولا صبغ الحواجيب
ولا برزنا من الحمام ما إلى
…
أوراكهن ثقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة
…
تركت لون مشيبي غير مخضوب
ولم نزل على ذلك حتى أتيح لنا النظر فيما حبرته أيدي الكتاب بهذا العهد ونمقته أناملهم، وخطه بنانهم، من نفثات صدورهم، وبنات أفكارهم وعبارات ألسنتهم، وتراجم ضمائرهم فرأينا أن الكثير منهم والحق يقال قد سلك في إنشائه طريق السهل الممتنع يرسل عنان قلمه في ميدان صحيفته، معرباً عن ضميره بما يجري على لسانه مما تمليه القريحة بدون إجهاد ولا أعنات مع التحرز من العامية المبتذلة واللغة المرزولة ومن غير تكلف للسجع الذي هو من ألد أعداء المعاني إلا ما جاء عفواً صفواً مما يزيد الكلام بهجة وحسناً مع المحافظة على آداء تمام المعنى وألئك هم صفوة كتابنا الذين نقتبط بهم ونتمنى أن يكثر المتأسون بهم في رفع التكلف الكتابي الذي هو اضطهاد \ للفكر وضغط على القريحة مما يضيق به صدر الكتاب وتشمئز منه نفسه، ولا يزال أحدنا يقصر عن بلوغ هذه المنزلة السامية في الإنشاء ما دامت في اللغة الفصحى أقل رسوغاً منها في اللغة العامية المحكية ولذلك نرى الكاتب العربي يقاسي عرق القربة في تحصيل لغته الكتابية ويعاني من الجهد والعناء أكثر مما يعانيه أبناء اللغات الأخرى المتحدة كتابة وحكاية بين الخواص والعوام وهذا هو السر في كون التركي مثلاً أجرى قلماً وأنجز كتابة فيما لو جمعت بينه وبين عربي لم تقو ملكته الكتابية قوتها المحكية واقترحت على كل منهما أن يكتب من موضوع
درساه مقداراً محدوداً بصحيفة أو صحفتين لأن التركي إنما يكتب بلغة لا فرق بينها وبين التي يمارسها في مخاطبة قومه إلا قليلاً بخلاف العربي فإنه عندما يمسك القلم يضطر إلى تناسي اللغة التي شب عليها وتلقنها من أبويه وتمرن عليها في التفاهم مع قومه وغنما يلي من اللغة التي تعلمها كبيراً وأعدها في صدره زغيرة لوقت الحاجة إليها حين الإنشاء فيالله كم وكم يعاني كل كاتب عربي خصوصاً وكل مسلم عموماً في تحصيل لغة الدين الحنيفة تحصيلاً يرقي به إلى درجة فهم كلام الله عز وجل وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام ولولا الكتاب وألسنة لما كنا نأمن أن تسلم هذه اللغة الشريفة من الدروس والانمحاء ولما كنا نثق ببقائها مصونة محفوظة من التلاشي مهما انتابتها طواراق الحدثان وتعاقب عليها بتقلابات الأحوال الملوان.
وها هي اليوم قد أخذت تنفض غبار الخمول وتنهض من عثرتها زاهية مفتخرة بخيرة الكتاب، ونخبة المنشئين، قريرة العين بحسن ترسلهم وإنشائهم حر الكلام الذي تحرر بهم من رق التكلف والتنطع بعد أن وسم بل وصم به زماناً طويلاً وسامه الدهر ذلك على فترة من دولة ملوك الأقلام وسلاطين اليراع كما قال البسامي:
تباً لدهر قد أتى بعجاب
…
ومحافنون العلم والآداب
وأني بكتاب لو انبسطت يدي
…
فيهم ردد تهمو إلي الكتاب
هذا لا يخفى أن مقتضى الحالة الراهنة يدعو إلى متابعة البحث في شأن التنويه بفضل لغة الضاد والإشادة بذكر مزاياها وسرد الأدلة والبراهين على وجوب العناية بها مقاومة لغلبة إهمالها فإن النفس إذ مردت ومرنت على إهمال الواجب وأعتادت تركه ونبذه ظهرياً لا تزال تتناساه وتستصغره حتى تفقد وخز الضمير على ارتكابها تبعة ذلك ويموت إحساسها بمعرة القصور والتقاعس عما يتحتم أداؤه وتستمر ساهية لاهية عنه ولا تعود إليها حركة الضمير ونمو الإحساس إلا بالمبالغة في التنبيه والإيقاظ.
ولذلك نراك تعذرنا إيها القارئ الكريم مهما أطلنا عليك في هذا الصدد بل تتوق مصغياً إلى الإفاضة في حديث لغة الضاد التي هي مصدر الشريعة السمحاء ومادة جميع العلوم العربية، ولاشك أنه يعز عليك أن تمسها الألسنة بسوء التحريف وفيك عرق نابض، ودم جار، وفؤاد شاعر، ولا يليق بنا أن نكون أقل حرصاً على مجدنا القديم من رجال الإفرنجة
القائمين اليوم بافتتاح المدارس وبذل النفوس والنفائس في سبيل تعلم اللغة العربية ابتغاء ترقية حضارتهم وتكميل مدنيتهم ومنافسة لنا في العلوم التي كان العرب ينفردون بالإخصاء فيها وطالما صرفوا أعماراً وأموالاً على احتواء احاش الكتب العربية القديمة حتى تسربت إلى بلادهم ولم يبق منها لدينا إلا غيض من فيض وها هم يترجمونها إلى لغاتهم مما ربما يؤدي إلى انقراضها من صحيفة الوجود العربي وهذا من الأسباب التي حملت الأجانب على أن تعني بشأن لغاتها التي أصبح العربي في حاجة إلى تعلمها لدراسة الكثير من فنون هذه الحياة الدنيا التي أستأسر الغربيون بإتقانها والحذق في تفهم أسرارها.
هذه فرنسا لها جمعية مخصوصة للنظر في لغتها الأفرنسية والقيام بإصلاح ألفاظها وتحسينها حسبما تقتضي الحالة العصرية والذوق الجديد، فلا تزال تمحو وتثبت وتقرر وتنسخ وتزيد وتنقص ورجال الأقلام هنالك لا يخالفون لها قراراً بل يجرون على ما تخطه لهم وتسنه بينهم ويقتدون في كتابتهم بها حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة هذا ولغتهم لم يبلغ التفاوت بين كتابيتها ومحليتها ما بلغ لدينا معاشر العرب.
فنحن أولى بهذه العناية اللغوية منهم فأين جمعيتنا التي تستضيء بنورها في بيان العربي والمعرب والأعجمي والدخيل ونحو ذلك لنقتفى آثارها فيما نريد تدوينه بلغتنا الفصحى التي قامت لغتنا العامية المحكية تنازعها البقاء وتشن عليها الغارة بعد سلبتها من أصل مادتها جزأ لا ينبغي أن يستهان به نعم سلبتها ثلاثة أحرف وهي الثاء والذال والظاء ذهبت ويا للأسف فريسة الإهمال والتساهل المخل فأما الثاء والذال فقد حرمناهما لا إلى بدل مستحدث يقوم مقامها وغنما استعيض عنهما بالسين والزاي وبذلك نقص من حروف الهجاء العربي حرفان لهما نظير في بعض اللغات الأعجمية كالإنكليزية ولم يزل أهلها محافظين على التمسك بذلك والتلفظ به على أصله. وأما الظاء فقد استعيض عنها بحرف أجنبي عن اللغة العربية. مع أن العلماء ذكروا أن الظاء من خصائص لغة الضاد فلا توجد في سواها اللهم إلا إذا دخلت الآن في محدثات بعض اللغات وهكذا أصبحت حروف الهجاء العربي خمسة وعشرين مع حرف مبتدع محدث تصير به ستة وعشرين وربما وافينا القراء في العدد الآتي بنبذة تتعلق بهذا الموضوع الجليل. والله الهادي إلى سواء السبيل.