المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوظائف الدينية والجهلاء - مجلة الحقائق - جـ ٣٢

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الوظائف الدينية والجهلاء

‌الوظائف الدينية والجهلاء

2

إن الشارع صلى الله عليه وسلم يعتبر في سائر مصالح الأمة سواء كانت دينية أو إدارية. الكفؤ لها والأصلح لإدارة شؤونها. ليقوم بأودها حق القيام ويمثل واجباتها أحسن تمثيل ومن هنا أخذ الفقهاء حكم سائر المصالح وأطبقوا على أن الأصلح يقدم على الصالح لا محالة.

وهذا أمر مقرر قد فرغ منه لا يحتاج إلى تبيان وزيادة إيضاج. . . إلا أنه لما انعكس الأمر وتبدلت الحقائق وضيعت حكم التشريع فأصبح الباطل حقاً والحق باطلاً والسنة بدعة ممقوتة والبدعة سنة معروفة يتبادل العلم بها جمهور الناس بل تسربت إلى بعض الخواص. وأضحى المنكر معروفاً وبالعكس وعاد الدين غريباً كما بدا. وضاعت محاسن الشريعة السمحة ودكت معالمها وقوضت أركان السنة الشريفة وعفت آثارها وطمس الله على القلوب فصارت كالحجر الصلد لا ترعوي لكلمة الحق بل لا تفقه لما يقال لها. صار من اللازم اللازب على أهل العلم الصحيح الذين استرعاهم الله الأمانة أن يبينوا حكم الله في هذه النوازل ومغزى الدين الإسلامي في هاتيك المسائل لئلا يشوه وجه الحقيقة الناصعة بمثل هذه اللبيسات ويتخرص المتخرصون بأن من شريعتنا الإسلامية السمحة ما نحن عاكفون عليه اليوم.

ولئلا يكونوا مؤاخذين أمام الله تعالى الذي أمر من أوتوا العلم أن يظهروه عند اصطدام الخطوب وجعل الشعوب وبما أخذ عليهم من العهود الوثيقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الأمر الذي هو من أعظم دعائم الدين الإسلامي إن لم نقل كله.

قال تعالى في الكتاب العزيز {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} . وقال حاكياً عن القوم الذين تركوا الأمر بالمعروف وموبخاً لهم {كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} .

وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي إمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال كيف انتم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر. قالوا وكائن ذلك يا رسول الله. قال نعم وأشد منه سيكون. قالوا وما أشد منه قال كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر

ص: 12

معروفاً قالوا وكائن ذلك يا رسول الله. قال نعم وأشد منه سيكون. قالوا وما أشد منه قال كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف إلخ. . .

هذا وإن من أعظم المنكرات الشائعة والبليات الذائعة. . . تولية الجهلاء الأغرار الوظائف الدينية واحتكارهم عوائدها الخيرية حتى أصبحت من الموروثات يرثونها عن آبائهم وأجداهم كما يورث الدرهم والدينار وسقط المتاع. كأنها من جملة التركة يخلفها الميت لبنيه عوناً لهم على صدمات الدهر وطوارق الحدثان بحيث لا نغالي إذا قلنا إن جل هذه الوظائف (إن لم يكن كلها) مغتسلة بأيدي هؤلاء الجهلة بطريق التغلب من دون أهلية ولا استحقاق. . . فهم يلتهمون أوقافها وريعها بسائق هذا الادعاء الباطل ولا منازع في الأمر ولا رادع.

وبالواقع ونفس الأمر لم تشرع هذه الوظائف وتؤسس تلك العوائد إلا لأناس مستحقين ذوي جدارة ولياقة من أهل العلم الصحيح ليس إلا.

وقد سبب هذا لاحتكار أضراراً عظيمة وجنايات على الدين وأهله لا يرضى بها من له حمية دينية ونزعة وطنية. . فقد أصاب الفقر المدقع معظم من قضوا حياتهم بين جدران المدارس الدينية والمعاهد العلمية. ممن تاقت نفوسهم للاستضاءة بنور العلم. واشرأبت أعناقهم لارتشاف كؤوس آداب. . . فخرجوا من المدارس وبارحوا معاهدها صفر اليدين مما أسسه لهم أصحاب الخيرات العظيمة وواقفي العوائد الجسيمة - حتى ألجأهم سائق الاضطرار للاحتراف بالحرف الضئيلة ليسدوا رمقهم ويدفعوا عوزهم. . . وهم آسفون أشد الأسف على ترك العلم ومبارحة معاهده. يحنون إليها كلما ترقرق لهم ذكراها.

ولو وجدوا ما يسدون به رمق اليوم وعوز المستقبل لما بارحوها وفيهم عرق ينبض ومنهم شيوخ أجلاء أناخ عليهم الدهر بكلكله. ثبتوا على صدمات الدهر ومقارعة الأيام بقوا بين خرابات (المدارس) وأطلالها البالية يقاسون من العذاب ألواناً. حرصاً منهم (أبقاهم الله) على إفادة مستفيد وإرشاد مسترشد ونشر العلم ولو بين الموتى ولكن ويا للأسف بارت هذه التجارة وكسد سوقها. . .

في حين أن هؤلاء الفرقة الجاهلة تستبد بالزيغ وتستهلك عين الوقف بالبيع خوفاً من مصادرتهم ولو بعد حين.

ص: 13

وهكذا ذهب العلم ونضب ماؤه واندثر الفضل ودكت أركانه وزلزلت أبنيته المشيدة واضمحلت معالمه الرفيعة فلا حول ولا قوة إلا بالله.

من مثل هذه الطوارئ كان يخاف على أمته عليه الصلاة والسلام فقد أخرج الستة خلا أبا داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

ونحن نرى أن من أعظم الأسباب لانقراض العلم وأهله هو توارث وظائف الدين عن الآباء والأجداد تلك التي أيدها قانون التوجيهات وجهل حكام الشرع وتهورهم في توسيدها إلى غير الأكفاء وهرولتهم لإعطاء الإعلامات الشرعية - كذا - مؤذنة بأن حاملها من أعظم العلماء وأوحد العصر وفرد الأوان وهكذا من الألفاظ التي يندى لها جبين الدهر خجلاً فقد ظنوا (وبعض الظن إثم) أصلحهم الله أن العلم هين المنال سهل المراس يكفي فيه الألقاب الضخمة والصفات الفخمة وينقضي الأمر بتحكيم القبة فوق الجبة ويكون المنعوت هو فلان بن فلان. . . فقد طاش ورب الكعبة سهمهم وخاب فالهم تخرصوا على الله وخاضوا في الجاهلية الأولى وهاموا في تيه الضلالة ونازلوا جنوداً لا قبل لهم بها.

فكيف يدأب طالب العلم على طلبه ويسعى جهده لتحصيله ويعلم أنه لو طلبه من المهد إلى اللحد لما وجد شيئاً يعتاش به ويرتاش.

وقد نقبت طويلاً في كتب الفقه على اختلاف نزعاتها وتباين مشاربها لأعثر على أصل يرجع إليه أو قول يركن إليه يبرر هذا الاحتكار المضر فلم أظفر بعد عناء البحث بشيء من ذلك.

بل وجدت أن كلمة الفقهاء ممن أدركوا حدوث هذه البدعة السيئة. متفقة على إنكارها وردها والقيام بوجه تيارها الجارف.

وما يقال من أن شيخ الإسلام التقي السبكي هو المجيز لها المفتي بها تخرص بحت على هذا الشيخ الجليل. فقد نفى هذه التهمة عنه ولده التاج في طبقاته الكبرى ودحض هذه الحجة بقوة بيانه المشهورة ومما قاله رحمه الله أن الوالد كان يشدد النكير على هذه الكارثة ولا يجيزها البتة وبين الأضرار الجمة الناشئة عنها خلافاً لما يشيعه أعداؤه ولا بأس بأن

ص: 14

نورد شيئاً من نصوص السادة الفقهاء في حكم هذه المسألة قال في التتارخانية في أدب القاضي يعزل القاضي إذا ولى مدرساً للدين ليس بأهل له ولا تنفذ توليته لأنه مؤتمن على الدين وقد ثبتت خيانته بذلك أهو في الولوالجية والذخيرة نحو من هذا.

قال الجلال السيوطي في أشباهه الفقهية يحرم على من بيدهم مقاليد الأمور إعطاء وظائف الدين من تدريس وإفتاء وحسبة وإمامة وغير ذلك إلى غير الكفؤ لها لأنه بذلك يكثر سواد الجهل ويضعف العلم وأهله ثم قال وهذا هو السبب في اعتزالي عن الناس خارج القاهرة فراراً من مشاهدة هذه البدع الحادثة وقال البدر الزركشي في قواعد (قاعدة الضرر يزال) اتفاقية بين المذهبين لمصالح الديانة مع وجود الكفؤ لها - والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً يجد المتتبع لها طرفاً صالحاً يؤيد ما نقول. .

وهنا نذكر شيئاً (والشيء بالشيء يذكر) أنه وقع في مدة قضاء شيخ الإسلام السبكي على دمشق الشام تدريس شاغر فتعرض له شمس الدين الذهبي ذلك المحدث الشهير حامل لواء السنة في عصره ولدى اجتماع علماء العصر عند قاضي القضاة للمداولة فيمن يصلح له ذكر الذهبي فيمن ذكر من الطلاب فمانعوا أشد الممانعة في إعطائه للذهبي وقالوا إن من شرط من يتولى هذا التدريس أن يكون أشعري العقيدة والذهبي ليس بذلك وبعد أخذ ورد أزمعوا أمرهم على أن يلزموا السبكي بقبوله لتوفر جملة الشروط فيه وقد فعلوا.

وأول من قر عيناً بصنيعهم هذا الذهبي نفسه ولم يتغير خاطره قد وقعد أمام السبكي فأدى الوظيفة. . . أبت النفوس الأبية والأرواح العالية إلا أن ترضخ لكلمة الحق مهما اختلفت المشارب وتعددت المآرب ولله في خلقه شؤون.

هكذا كانت تقل الغبراء وتظل الخضراء من مثل هذه الطبقة العالية والفرقة العالمة ممن شيدوا دعائم الدين الإسلامي ووطدوا أركانه ومهدوا سبل العلم وشيدوا بنيانه بل حموا ذمارهم عن الدخلاء وحفظوا مجداً طالما تعب بتأسيسه أسلافنا الصالحون ومن ذب عن حوضه ودافع شرفه ومجده لا عتب عليه ولا ملام.

شمروا عن ساعد الجد والعمل بثبات جأش وقوة عزيمة وهمة شماء لا تعرف الكلل والملل ودكوا ما بناه العابثون في الحقوق وقوضوا صروح ما أسس على الغصب والاحتيال وسائق التدليس والتمويه فما أبقوا له أثراً - ونكسوا أعلام جيش الباطل وهزموه شر

ص: 15

هزيمة وولوه الأدبار.

وما كان يثبط همتهم ويخور عزيمتهم محاباة هؤلاء المغتسلين (ولا محاباة في الدين) ولا مداهنة الجاهلية ولا مجاراة أهواء الحكام الغاشمين بل كانوا يتآزرون ويتعاونون على إظهار الحق بين الملأ ويقفون سداً منيعاً في وجه من يجتري على سدة العلم ليهتك سترها.

ويصدون هجمات المعتدين على حقوق الغير. ويضربون بعصا من حديد على كل يد تمتد إلى غير حلها كانت (فيحائنا) معهداً عظيماً للعلوم والمعارف ومنتدى للفضل وأهله ومحطاً لرحال نخبة العالم وأجلاء بني آدم كانت كعبة يؤمها ألوف من طلاب العلوم ومحبي المعارف بل كانت من أعمر الربع المسكون بالعلم والعرفان ومن أغنى بلاد الله بوفرة العلماء فيها وتهافتهم من أقصى أنحاء المسكونة على موائدها حين ما كانت تحتوي على أعلى طبقة راقية من أجلاء علماء الإسلام وتقل جهابذة الفضل وقادة الأفكار أيام خصبها ونضارتها من مثل ابن عساكر وأبي شامة وابن الصلاح والنووي وابن عبد السلام والتقي السبكي وأولاده وأفضلهم (التاج) وابن تيمية والمزي والذهبي والزملكاني وفخر الدين المصري والجار بردي والحافظ العلائي وأضرابهم ممن لا يحصون عدداً.

وأقرب منهم عهداً. البدر الغزي وعماد الدين الحنفي وأبو الصفا الحلبي والقاضي محب الأدب الحموي والكوراني والعجلوني وعبد الرحمن العمادي المفتي وكمال الدين الحمزاوي (الممدوح من قبل العلامة الأديب عبد القادر البغدادي تلميذ الخفاجي في أوائل حاشيته العظيمة على شرح بانت سعاد ونجم الدين الغزي صاحب حسن التنبه في التشبه وهو كتاب لا نظير له في بابه) مما يطول تعداد أسمائهم ويفنى المداد دون إحصائهم وكان البدر الغزي هو المدرس في جامع بني أمية وهو أعلم علماء جلق يومئذ.

وكان يجري بين (البدر) وبين علماء عصره حين ما يلقي الدروس من الأبحاث الرائقة والتحقيقات الفائقة ما يأخذ بمجامع القلوب طرباً. . .

فقد ذكر تقي الدين في طبقاته أن المولى الفاضل علي جلبي المعروف بابن الخيالي القاضي بدمشق الشام حضر درس العلامة الشيخ بدر الدين الغزي لما ختم الشيخ في الجامع الأموي التفسير الذي صنفه وجرى بينهما من مطارحة العلوم والسباق في ميدان الأبحاث ما يدهش الألباب ويبعث على الإعجاب. ثم اختلفا في مسألة عويصة وعي اعتراضات السمين في

ص: 16

كتابه إعراب القرآن على البحر المحيط لشيخه أبي حيان. . كان الحكم فيها علماء الفيحاء.

لمثل هؤلاء الأعلام كانت توسد وظائف الدين ورتب الوعظ والإرشاد وبهم كانت دمشق آهلة بالفضلاء مفعمة بالأدباء والنبلاء عامرة بالصلحاء والأتقياء تتيه دلالاً وإعجاباً وتفاخر غيرها من البلاد والأمصار بما منحها الله من مزية عالية طالما حسدها عليها سائر البلدان ولكن أبى الله إلا أن يقلب لها ظهر المجن ويبدل صفاءها بالأكدار (وأي صفاء لا يكدره الدهر):

(وبعد) فإني وأيم الحق واجس خيفة على الملأ الصالح من البقية الباقية من شيوخ العلم الذي أمهلنا بهم الدهر وأخاف كما يخاف غيري أن يسلب الله منا هذه النعمة نعمة وجودهم بين ظهرانينا (لا سمح الله) ولو فعل لا نجد من يحل لنا إشكالاً في علم ولا معضلة في فن ونبقى كالقطيع الشارد لا راعي ولا مأوى. . . بل أخاف ما هو أعظم من ذلك بكثير.

فيا أهل العلم الصحيح أفلا تتلافون هذا الخطر المداهم والتيار الجارف فتجتمعون (ويد الله مع الجماعة) وتطالبون الحكومة بأن تضع حداً لمثل هذه الفوضى في وظائف الدين فتميز الجاهل عن العالم وتفرق بين الحق والباطل وذلك بالامتحان الذي هو الحكم الفصل في قضيتنا هذه فإن لبت نداءكم وأنصتت لصداكم قضي الأمر وحل على أيديكم ما استعجم على يد غيركم وخدمتم العلم بل أنفسكم خدمة يسطرها لكم التاريخ إلى الأبد وإن لم تجب طلبكم سقط وزر هذه الضلالة عن عاتقكم وما أراكم فاعلون إن شاء الله تعالى.

(أبو الضيا)

(البقية تأتي)

ص: 17