المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خلاصة الرحلة الشرقية - مجلة الحقائق - جـ ٣٢

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌خلاصة الرحلة الشرقية

‌خلاصة الرحلة الشرقية

أهدانا صديقنا الشيخ السيد المكي هذه الرحلة لأخيه الأستاذ الشيخ السيد محمد الخضر بن الحسين أحد المدرسين بجامع الزيتونة بحاضرة تونس قال حفظه الله تعالى:

اقترح علي جماعة من الفضلاء أن أحرار خالصة من آثارنا رحلتنا الشرقية فعطفت عنان القلم لمساعفة اقتراحهم بعد أن رسمت له الوجهة العلمية والأدبية سبيلاً لا يحيد عن السير في مناكبها ولئن لم يلتقط الناظر منها درة علمية فائقة فإنها لا تخلو من أن تنبسط له بملحة أدبية رائقة وغليك التحرير.

بعث لي باعث على الرحلة إلى بلاد الشام وهو زيارة الأهل وفاء بحق صلة الرحم فامتطيت الباخرة يوم الخميس الرابع من شعبان سنة 1330 وعند ما أقلعت من مرساها وأخذت المباني التونسية تتوارى عن أبصارنا أخذ الحنو إلى الوطن يتزايد وحر الأسف لمفارقة الأصحاب يتصاعد حتى أصغيت إلى نفسي وهي تخاطب رائد السفينة بقولها:

حادي سفينتنا اطرح من حمولتها

زاد الوقود فما في طرحه خطر

وخذ إذا خمدت أنفاس مرجلها

من لوعة البين مقباساً فتستعر

وإني لأدرك في مثل هذا الموطن دقة نظر أمام الحرمين حين قيل له لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور بقوله لأن فيه فراق الأحبة.

رست الباخرة على جزيرة مالطة عند مغرب يوم الجمعة ولم نر فائدة في نزولنا والليل قد ضرب أطنابه فقضينا ليلتنا على متن البحر وانحدرنا صباحاً إلى المدينة التي هي مقر حكومتها وتسمى (قاليتا) فتجولنا في مناهجها المتناسقة وشهدنا من خطاباتهم كيف تنحط العربية وتندرس أطلال فصاحتها بين الأمة التي تجهل مكانتها وتزهد في تعاليمها إلى أن تلتحم بأخلاط من لغة أخرى فإن لغة أهل هذه الجزيرة عربية محرفة وأكثر ما يتخللها قطع من اللغة الطليانية وإنما انساقت إليها العربية حين استولى عليها أبو الغرانيق محمد ابن الأغلب سنة 255.

ويشعرك بانتشار العربية وآدابها بينهم لذلك العهد ما صه المؤرخون من أن ملك مالطة صنع له بعض مهندسي بلده تمثال جارية يتعرف بها أوقات الصلاة وكانت ترمي ببنادق على الصنج (قصاع الأبنوس) فقال أبو القاسم بن رمضان المالطي أحد شعرائها لعبد الله بن السمنطي المالطي وكانت له براعة في صناعة الشعر أجز هذا المصراع

ص: 18

جارية ترمي الصنج

فقال له: بها القلوب تبتهج

كأن من أحكمها

إلى السماء قد عرج

وطالع الأفلاك عن

سر البروج والدرج

ثم عدنا إلى الباخرة حيث أزف رحيلها وجعلت أنظر إلى زوارقها المزخرفة وهي تحوم حولنا واردة وصادرة فوقع بصري على زورق يطوف به على جوانب السفينة سائل مقعد فأراني إحدى رجليه نحيفة ملتوية فقذفت له مسكوكاً فالتقطه وهو يقول بالسلامة السلامة وحيث لم يتعرض لي قبل هذا سائل في زورق قلت:

عهدت الذي يسعى على متن زورق

إلى الرزق يدلي نحوه شرك الصيد

وذا قانص في اليم إلى العلا

حبالة أقوال فتظفر بالقصد

بارحنا مالطة عند الزوال يوم السبت واسترسلت السفينة على بحر صامت ما عدا نسمات لينة تخطر علينا غسق الليل وأطراف النهار حتى قدمت على مرسى الإسكندرية ضحوة يوم الأربعاء فنزلنا منزلاً ألقينا في رحلنا وبعد أن طفئت حرارة الهاجرة خرجت صحبة رفيق يعرف شعاب المدينة إلى أن وافينا باب مسجد فجزته لأداء صلاة الظهر وأثر ما قضيت الصلاة جلس أمام المسجد مستنداً إلى أسطوانة ودنا له طائفة من الناس فقرأ لهم نبذة من كتاب الشفا لعياض مع بعض بيانات تدل على أنه ذو حظ من علوم الدين ثم حان وقت العصر وبعد أن انصرف من صلاتها ألقى علي السلام متعرفاً لأثري وعرض علي المبيت بمنزله في طرف البلد فاعتذرت له بقصر مدة الإقامة وقصد الاستطلاع على مناظر البلد ومعاهدها العلمية.

امتطيت عربة أتت بنا على مكتبتها القائمة بإزاء إدارة البلدية فطالعت صحائف متفرقة من نموذج كتبها ولم يقع بصري فيما طالعته على كتاب نادر يستحق أن نذكره ثم اجتزنا إلى متحف يقال له (عمود السواري) يحتوي على تماثيل عتيقة وعلى عمود قائم ذكر لنا الدليل المكلف باستطلاع الغرباء على المتحف أن ارتفاعه يبلغ ستاً واربعين ذراعاً وذكر المقريزي في الخطط أن ارتفاعه سبعون ذراعاً وقال المقريزي أيضاً ويذكر أن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق أرسطاطاليس الذي كان يدرس به الحكمة.

ص: 19

وقصدنا لزيارة مقام الشيخ الأبوصيري ثم مقام أستاذه أبي العباس المرسي ويتجمع حول هذين المقامين عدد وافر من الطائفة الظاهرة في زي المجاذيب.

التقينا بالسيد حسين بن عباد من أهالي جزيرة جربة القاطنين بتلك المدينة وذهب بنا إلى ناد حافل يقال له (المنشية) فقضينا بها جانباً من الليل في أسمار مونسة واستطلاع على مجامع متنوعة وهيأت من الملابس مختلفة فإن هذا النادي يأوي إليه السائحون من بلاد الشرق ولا تتجافى عنه الطبقة العالية من الأهالي ومما يذود عن جفنك الكرى هنا أن باعة الجرائد يخترقون الصفوف والمجامع وهم يصرخون بأسمائها وأيدي القوم تتلقفها واحدة عقب واحدة.

وأبث الأسف هنا حيث لم يتمهد لنا التعارف بفضيلة العالم الأستاذ الشيخ السيد عبد الفتاح المكاوي أحد العلماء بمشيخة الاسكندرية قبل مقدمي هذا حتى أحظى بسعادة لقائه فإنه بعث لي رسالة بعد وأنا حينئذ بدمشق خاطبني فيها على أن أوجه له بنسخة من رسالتنا (الدعوة إلى الإصلاح) فما لبثت أن قدمتها لفضيلته بواسطة البريد فطالعها بعين الكرم وتفضل حفظه الله بالكتاب الذي قصرت اليراعة أن تبسط باعها بما يستوجبه من الشكر ونصه بعد الديباجة:

فقد تلقيت خطابك السامي ورسالتك الداعية إلى الإصلاح والخير والفلاح وبمطالعتها علمت أن الإسلام لم يعدم أنصاراً ولم يزال للإرشاد دعامة هي خير الدعامات قلت فبرهت، ودعوت فسددت، وأحييت سنة الخلفاء والمصلحين فربطت بهذا آخر العالم الإسلامي بأوله ولا يسعني إلا تهنئة الحاضرة التونسية بك بل الأقطار الإفريقية بل الممالك الشرقية وإني وأيم الله لقد امتلأ قلبي سروراً وأفعم فرحاً من تعاليم جامع الزيتونة حيث انتخبت مفكراً وعالماً دينياً بصيراً مثلك ولقد ضاقت علي سبل الشكران أشكرك على ما قدمته للإسلام والمسلمين من براهينك الساطعة وحججك الدامغة أم أشكرك على ما أهديته للحركة الفكرية العصرية مما تلقته البصائر بالإجلال والإعظام أو على عنايتك الكبرى بتبديد الخرافات التي علقت بأفئدة كثير من المسلمين أو على شجاعتك المتناهية في إزالة سحب الجهالات التي أخرتنا إلى الوراء أميالاً ليست بقليلة أو أشكرك على إهدائك لي ما أعده ذكراً حسناً وأثراً خالداً باكرنا يوم الخميس إلى القطار المصري فانطلق يهرع ما بين أشجار وأنهار

ص: 20

ومزارع وقرى منها دمنهور وطنطا وبنها العسل. وأسماء الأماكن التي يقف عندها القطار مرسومة بالقلم العربي وباعة الصحف والمتكففون يلجون عربات الرتل ويتجولون فيها المسافة البعيدة مجاناً.

وصلنا إلى مصر وتبوأت بيتاً في قصر يمسى (الكلوب المصري) ثم هويت من المنزل يرافقني السيد محمد القديدي القيرواني ودرجنا إلى مسجد سيدنا الحسين رضي الله عنه وفيه منفذ للمكان الذي اشتهر أنه مشهد رأسه الشريف ورأيت زوار هذا المسجد وزائراته كيف يزدحمون على بابه ما بين وارد وصادر وللعلماء بالروايات مقال في هذا المشهد الحافل فإن منهم من يقول أن مدفن رأسي الحسين رضي الله عنه بعسقلان ولعلنا نقص أثر هذا المطلب في مقام آخر.

ثم توجهت إلى زيارة المعهد العلمي الشهير بالأزهر ولما وافيته نهض لي زمرة من التلامذة تونسيون وجزائريون وكان بعضهم ممن تقدم له الحضور بالدروس التي نلقيها بالمعهد الزيتوني فطافوا بنا في زوايا الجامع وحواشيه ثم جلينا برواق المغاربة مدة وجيزة وأزمعت على افياب تخلصاً من متاعب السفر فالتمسوا مني العود لزيارتهم مساء وجنح بنا السبيل إلى منزل صديقنا السيد الشريف بن حمودة فلما وقع بصره على رؤيتنا انطلق لسانه بعبارات الترحاب والإعجاب فلبثنا لديه ساعة أنس خففت عنا معظم ما مسنا من التعب ثم آويت على محل الإقامة.

اكتفيت بحظ من الراحة يسير وانصرفت لإنجاز الموعد الذي أخذه مني التلامذة فقضينا أمداً في محاورة علمية بحسب ما تجذب إليه المناسبة ثم ذهبنا نتجول في المناهج والأسواق ومن رفقائنا الشيخ محمد الصالح الشواشي والسيد محمود بن رشيد التونسي حتى برزنا إلى جسر ممدود على وادي النيل وعبرناه إلى حديقة ناضرة فذكرت قول صلاح الدين الصفدي:

رأيت في أرض مصر مذ حللت بها

عجائباً ما رآها الناس في جيل

تسود في عيني الدنيا فلم أرها

تبيض إلا إذا ما كنت في النيل

وقلت:

عبرت على جسر أرى النيل تحته

إلى روضة فاشتقت منهل زغوان

ص: 21

صراط وفردوس وسلسال كوثر

وما قيظ أشواقي سوى وهج نيراني

شهدت صلاة الجمعة بالجامع الأزهر والخطيب من ابناء الشيخ السقا صاحب الخطبةالمشهورة فكان موضوع الخطبة فضل ليلة النصف من شعبان ولكنه ألقاها بصوت جهير في هيأة مرتجل دون أن يمسك في يده ورقة وحينما شرع في دعاء الخطبة الثانية أخذ ينزل من موقفه الأعلى فانتهى الدعاء عند الدرجة السفلى من المنبر.

أجبنا دعوة الشيخ محمد عبان القيرواني وناولنا كؤوساً من الشاهي وهو يلتمس العذر كأنه يعد نفسه مقصراً في الضيافة فأنشدته قول الصاحب ابن عباد:

نسائلكم هل من قرى لنزيلكم

بملء جفون لا بملء جفان

التقينا مساء هذا اليوم بأساتذة أزهريين أحدهم الشيخ الزنتاني من طرابلس الغرب وأتى في المذكرة الحديث عن الشيخ ابن عرفة فقال ذلك الأستاذ أن الفخر به لأهل طرابلس لأن قبيلة الشيخ لذلك العهد كانت من ملحقات طرابلس فقلت له إنما يعود فخره إلى التونسيين لأن نشأته الأدبية وحياته العلمية إنما كانت في تونس.

وجرى في المحادثة لفظة (صلاعة) على معنى الاستراحة من التعليم فقلنا هي كلمة أصلها عربية قال في القاموس (صلاع الشمس ككتاب حرها) وأيام الاستراحة هي أوقات الحر غالباً والكلمة الشائعة في معنى الاستراحة من التعليم عند كثير من أهل الجزائر لاسيما المتخرجين من المدارس هي لفظ (فكالس) وهي حرف فرنسوي.

دعانا الشيخ إبراهيم صمادح أحد المجاورين بالأزهر للسمر عند ليلة يوم السبت فقضينا نصف هذه الليلة في أسمار علمية ومحاورات أدبية ممن جاذبنا أطرافها الشيخ أحمد أمين الشنقيطي أحد العلماء الذين تجولوا في بلاد الشام والحجاز والشيخ عبد المعطي السقا أحد المدرسين بالأزهر وفيما طرح من المباحث بمناسبة خطبة ذلك اليوم تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) حيث ساق بعض الخطباء الآية في فضائل ليلة النصف من شعبان كما ينقله بعض المفسرين عن عكرمة وأوردنا في هذه الليلة المذاكرة إنكار أبي بكر ابن العربي لهذا التفسير وتحقيقه أن المراد من الليلة المباركة ليلة القدر وهي التي يفرق فيها أمر حكيم.

واتصل الكلام بالبحث في البدعة وسقنا تحرير أبي سحاق الشاطبي في ضابطها وهو أن

ص: 22

يكون السبب الذي استند إليه العامل قائماً زمن رع الأحكام ويسكت عنه الشرع ولا يقرر له حكماً. ويصح أن يضرب المثل لهذا بصلاة الرغائب فقد ألف الشيخ عز الدين بن عبد السلام رسالة وضح فيها أنها بدعة وهذا مما لا تدخله الريبة فإنه إذا ثبت أن الحديث الذي يروي في شأنها موضوع كما حقق ذلك أبو الفرج بن الجوزي انطبق عليها أنها عمل لم يحدث له موجب ولا ورد فيه أثر عن صاحب الشريعة وهذا بخلاف ما يكون السبب الموجب له طارئاً بعد زمن الوحي كتدوين علم الغريبة وجمع القرآن في المصاحف.

سايرني بعد أن انتثر عقد المجلس بعض التلامذة واقترحوا علي إقراء درس في التفسير وحكوا أن لغيرهم من أهل العلم حرصاً أكيداً على هذا الاقتراح فبسطت إليهم بمعذرة أني قد ربطت العزم على الرحيل صبيحة يوم الأحد فقالوا يمكن أن نعين لميقات الدرس عشية غد ونكتفي بالمقدار الذي يتيسر جمعه وبيانه والغرض إنما هو المحافظة على سنة الكثير من أهل العلم يمرون بالأزهر فما وسعني إلا أن ساعدت مرغوبهم فأحضروا تفسير القاضي البيضاوي ووقع الاختيار على أن يكون موضوع الدرس قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) الخ الآية.

افتكرت في المنهج الذي نتبعه في تحرير الدرس فسبق لي استحسان إبرازه في الأسلوب المتعارف في جامع الزيتونة فلا أسل يدي من تقرير ما يناسب من مباحث عربية أو أصولية أو أحكام فرعية ن المقترحين للدرس أزهريون.

أتينا صباح يوم السبت على المسجد الذي ابتدعه عبد الرحمن ابن الشيخ عليش رحمه الله وشاهدنا بأم العين ما رسمه في أعلى مفتحه بالقلمين الإفرنجي والعربي وأنكره عليه علماء الإسلام. ثم مضينا للوفاء بموعد الشيخ عبد المعطي السقا فجاز بنا إلى داخل منزله وأهداني كتاباً حافلاً ألفه فضيلة جده المنعم في فضل عمارة المساجد وللشيخ عبد المعطي عناية كبرى بالفحص عن التآليف النادرة والسعي الحثيث في تحصيل ما نشرته المطابع في البلاد القاصية وقد تفضل علي برد الزيارة فاتفق أن كنت خارج المنزل فكتب بطاقة يشعرني فيها بزيارته ويتأسف لعدم الملاقاة وأودعها لدى ناظر الكلوب.

ذهبت إلى الجامع الأزهر لأذان العصر وانتبذت للتحية مكاناً بين مجمعين لتعليم القرآن فانشق صدري أسفاً لأحد المعلمين إذ كان لا يضع العصا من يده ولا يفتر أن يقرع بها

ص: 23

جنوب الأطفال وظهورهم بما ملكت يده من القوة وربما قفز الصبي آبقاً من وجع الضرب الذي لا يستطيع له صبراً فيثب في أثره بخطوات سريعة ويجلده بالمقرعة جلداً قاسياً حتى قلت لأزهري كان بجنبي (من جلس إزاء هذه المزعجات فقد ظلم نفسه) وذكرت أني كنت ألقيت خطبة في أدب تعليم الصبيان ببلد بنزرت حالما كنت قاضياً بها وأدرجت فيها ما قرره صاحب المدخل من الرفق بالصبي وعدم زيادة المعلم إن اضطر إلى ضربه على ثلاثة أسواط وتحذيره من اتخاذ آلة للضرب مثل عصا اللوز اليابس والفلقة. ولما خطبت في هذه الآداب أرسل لي بعض المعلمين كتاباً على طريق البريد يعترض فيه على نشر هذه الآداب ويقول أن هذا مما ينبه قلوب التلامذة للجسارة علينا.

وكان أمامي في هذه الجلسة تلميذان يتفاهمان كتاباً في العربية يطالعانه بمقربة منهم تلميذ ثالث حتى أتيا على قول الشاعر (على أن فاها كالسلافة أو أحلى) فقال أحد التلميذين السلافة الخمر فقال له ذلك التلميذ الذي هو بمعزل عنهما السلافة حيوان فأعاد عليه الأول القول بأنها الخمر وكرر الآخر القول بأنها حيوان فقال له صاحبه منبهاً له على وجه خطأه (أو أحلى أو أحلى) فرجع وقال السلافة شيء ضيق قال هذا ليلائم تشبيه الفم بها وأظنه اشتبه عليه أولاً لفظ السلافة بالسلحفاة سبق في ظني أن مقترحي الدرس قصدوا أن يكون قراؤه برواق المغاربة فانصرفت بعد صلاة العصر متوجهاً لذلك الرواق فأنبأوني بأنهم اختاروا أن يكون بوسط الجامع وعرضوا علي منصة بعض الأساتذة فلم يسعني إلا أجلس حيث عزموا.

أقبلت قبل الشروع في تقرير الدرس على تلميذ أعرفه بحفظ القرآن وصرف الهمة في تجويده واقترحت عليه أن يجهر بتلاوة الآية ليسمعها الحاضرون فقنعه الحياء وتقدم تلميذ آخر فرفع بها قراءته ورتلها ترتيلاً.

ونودع في هذه الخلاصة جملة من المباحث التي أوردناها في تفسير الآية عسى أن تكون أنظار بعض القارئين قد طمحت إلى الإلمام بمقاصدها.

قررنا فاتحة الدرس قول الشيخ ابن عرفة (من الناس من ينظر في وجه المناسبة بين الآية وما قبلها كابن الخطيب ومنهم من لا يلتزمه في كل آية كالزمخشري وابن عطية ومنهم من يمنع النظر في ذلك ويحرمه لئلا يعتقد أن المناسبة من إعجاز القرآن فإذا لم تظهر المناسبة

ص: 24

للناظر وهم في دينه ووقع له خلل في معتقده) وعلقنا عليه أن هذا الاختلاف إنما يقع لهم في الآيات التي لم تقترن بنحو حرف عطف إذ يمكن الاكتفاء في بعضها بأن اتصال الآية بما قبلها معتبر فيه الترتيب بينهما في النزول الوارد على حسب الوقائع والحاجات أما إذا اتصل بها حرف الوصل كهذه الآية فتطلب المناسبة متعين لأن رعايتها حينئذ داخلة في حقيقة البلاغة التي هي الركن الأعظم في الإعجاز. ثم أتينا على عقد المناسبة بين هذه الآية وما قبلها.

ثم انتقلنا إلى بيان قول القاضي في تفسير الآية (لا يستقيم للمؤمنين أن ينفروا جميعاً لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإن يخل بأمر المعاش) والبيان أما خطر انصراف الناس قاطبة إلى اجتناء ثمر العلوم وإخلاله بمطالب حياتهم فلأن الإنسان يفتقر في تحصيل معاشه ووسائل بقائه إلى مساعدة أبناء جنسه ولا يستطيع أحد أن يقوم بها وحده وإن بلغ أشده في استقامة البنية وسعة الفكر فإذا نفر الشعب بحذافيرهم وولوا وجوههم شطر الارتواء من العلم ضاعت واجبات اجتماعهم وانتقضت عليهم قواعد العمران من زراعة وصناعة وتجارة.

وأما تخلفهم جميعاً وقعودهم عن الرحلة في طلب العلم فإنه يخل بنظام العيش من جهة إن جهل القبلة بما أرشدت إليه الشريعة من العقائد والأخلاق وخلوها عما فصلته من قوانين الاجتماع وضروب السياسات يفضي إلى انتشار المفاسد واشتعال نار الفتن مثلما كانت عليه حال العرب في جاهليتهم ولا تخالجنا الريبة في هذه الحقيقة متى شاهدنا انتظام شؤون العمران وتوفر أسباب الراحة لدى بعض الأمم العارية عن الصيغة الدينية فإنها ما وصلت إلى تلك التراتيب التي ضربت بها أطناب الأمن والسكينة إلا بعد أن فتحت أعينها في نظامات الشرائع السماوية واقتدت على أثر الأمم المتدينة.

وفضائل العبادات أيضاً لها مدخل في انتظام العيش بمعنى قرار النفس ورضاها عما سخر الله لها من العيش وهذا ما يعتبره الإنسان من نفسه متى نظر إلى حالته وهو ملتفت بقلبه إلى زخارف الدنيا وقاسها بحالته إذا أقبل بسريرتها على ما يقر به إلى فاطر السماوات والأرض فإنه يجد في هذه الحالة من لذة اليقين وراحة الخاطر ما يكشف له عن كدر كان يمازج قلبه وحزازة هي أثر القساوة والإعراض بجانبه عن الطاعة فيرى أن العيش

ص: 25

المنتظم على الحقيقة إنما هو عيش الفائزين بهداية الدين علماً وعملاً.

وعبر في الآية بالمؤمنين دون الناس لأن الآية مسوقة للحث على القيام بعمل والأعمال إنما يرجى الامتثال فيها من المؤمنين ولو كان الأمر هنا بواجب من العقائد لناسبه التعبير بنحو الناس وقد قرر بعض المفسرين فيما أعهد أن من عادة القرآن التعبير بمثل (يا أيها الناس) إذا كان المخاطب به مما يرجع إلى أصل من أصول الدين فإذا كان المأمور به فرعاً من الفروع صدر الخطاب بنحو (يا أيها الذين آمنوا).

أو يقال أن ذكر المكلفين هنا بوصف الإيمان لتقوية داعيتهم وإغرائها على العمل بأسلوب لطيف فإن من تسميتهم بالمؤمنين تلويحاً إلى صفة الإيمان بالله من شأنه أن تبعث على حسن الطاعة والمسارعة إلى امتثال أوامره وتعرضنا عقب هذا إلى البحث في لفظة (كافة) فقررنا أن ابن هشام ذهب في مغني اللبيب إلى أنها من الأسماء التي لا تخرج عن النصب على الحال وخطأ الزمخشري في قوله بخطبة المفصل (محيطاً بكافة الأبواب) وقد صحح الشهاب في شرحه درة الغواص أنها لا تلزم النصب على الحالية ومما استشهدنا به القائلون بانفصالها عن الحالية قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال دهباً إبرايزاً قال الدماميني إن صح هذا سقط القول بملازمتها للنصب على الحالية.

(لها بقية)

ص: 26