المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدين الإسلامي والتوحيد - مجلة الحقائق - جـ ٤

[عبد القادر الإسكندراني]

الفصل: ‌الدين الإسلامي والتوحيد

‌الدين الإسلامي والتوحيد

تابع ما قبله

2 القدم

إذا ثبت أن جميع الكائنات مفتقرة إلى موجد أوجدها. وصانع دبرها وحكيم رتبها وذلك الموجد هو الله سبحانه المستجمع لصفات الكمال وجب أن يكون قديماً لاستلزام وجوب وجوده وجوب القدم. والقدم عبارة عن سلب العدم السابق على الوجود. فلو لم يكن قديماً لكان حادثاً، فيكون وجوده مسبوقاً بعدم. وهو ينافي وجوب الوجود. ومن القواعد المقررة كل قضية بديهية فلوازمها البنية بديهية أيضاً. والقدم لازم بين لثبوت الوجود الذاتي. إذ كلما تصور القدم والوجود الواجب جزم العقل باللزوم بينهما.

3 البقاء

هو عبارة عن سلب العدم اللحق. فما وجب قدمه. استحال عدمه ويؤيد ذلك البلهان النقلي قال تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) وورد من حديث طويل أخرجه الإمام مسلم والتلمذي أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الأخر فليس بعدك شيء. وفي البهيقي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد (الأكل شيء ما خلا الله باطل) أي فإن مضمحل.

4 و5 المخالفة للحوادث والقيام بنفسه

هاتان الصفتان لازمتان لصفتين القدم والبقاء وكلها 2 صفات سلبية دالة على التنزيه. إذ مفهوم كل صفة منها سلب أمر لا يليق به جل وعز. فيجب على الإنسان أن ينزهه سبحانه عن مشابهة الخلق وأن يتبرأ من كل ما يجيش بصدره من الميل إلى تكييفه وتصوريه. وأن يسد نافذة الخيال في مجال التفكر في ذاته تعالى وأن يعتقد انهم الحي القيوم اللطيف الخبير (ليس كمثله شيء) لا يحد بحد ولا يصور بصورة ذهنية. إذ هو تعالى أكبر من أن يحيط الوهم بسرادقات كماله وأعلى من أن يصعد التصور إلى معارج مجده وعلائه. قال علي رضي الله عنه هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته. وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات عيوب ملكوته. وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته. وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم

ص: 1

ذاته. ردعها وهي تجوب في مهاوي سدف الغيوم متخلصة إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال بالاعتساف كنه ومعرفته ولا تخطر ببال أولى الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته وهذا هو معنى التنزيه الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطهير قلوب الخلق وتنقيتها من أوضار الشبه وأرجاس الشكرك.

المخالفة للحوادث هي عبارة عن عدم المماثلة لها فلا يماثله سبحانه شيء من الممكنات مطلقاً لا في الذات ولا في الصفات. ولا في الأفعال فليس سبحانه وتعالى جسماً. لأن الجسم مركب وتحيز. وهو إمارة الحدوث (ولا جوهراً) لأنه عندنا اسم للجزء الذي لا يتجزأ وهو متحيز أيضاً ولا عرضاً لأنه لا يقوم لذاته بل يفتقر إلى محل يقومه فيكون ممكناً ولا محصوراً لأن التصوير من خواص الأجسام يحصل لها بواسطة الكميات والكيفيات وإحاطة الحدود والنهائيات له ولا محدوداً ولا معدولاً ولا متبعضاً ولا متركباً وملا متناهياً لما في ذلك كله من الاحتياج المنافي للوجوب (ولا متميزاً سبحانه بمكان) إذ المكان ما استقر عليه الجسم والحيز هو ما ملئه الجسم فالمكان والحيز من لواحق الأجسام والحق تعالى يستحيل عليه ذلك وأما الاستواء في قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) فليس معناه أنه استواء كاستواء الأجسام بل أستواء يليق به مع كمال تنزيهه سبحانه عن مشابهة كل شيء. أو يؤول الاستواء بالاستياء واضطر الخلف إلى هذا التأويل كما اضطروا إلى تأويل قوله تعالى (وهو معكم أينما كنتم) حيث كمل على الإحاطة والعلم وقوله عليه السلام قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن الحديث) حيث حمل على القدرة والقهر وقوله على السلام (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) حيث حمل على التشريف والإكرام. لأنه لو ترك على ظاهره للذم منه المحال. فكذا الاستواء لو ترك على معنى الاستقرار والتمكن للذم منه المحال أيضاً.

وهذا البحث الذي نحن بصدده يحتاج في بيانه إلى زيادة توضيح ينقع غلة العقل ويشفي رسيس الصدر. ويسمو بالروح ويعلو بالحياة سيكون لنا إنشاء الله مزيد اعتناء في بسطه وتفصيله. توفية لحقه عند البحث على صفة الكلام.

كذلك سبحانه لا يجري عليه زمان، إذ الزمان عندنا اقتران المتجدد بمتجدد آخر فهو نسبة بين الشيئين المتجددين والله تعالى ليس بمتجدد بل سابق على كل شيء من الأشياء

ص: 2

الماضية والحاضرة والمستقبلة سبقاً واحداً لا تفاوت فيه (وليس له جهة من الجهات ألست ولا هو في جهة) لأنها من طوابع الأجسام وأضافتها. إن ما ذكرناه من التنزيهات وإن كان بعضها يغني عن بعض إلا أننا حاولنا التفصيل والتوضيح في ذلك إداءً لحق الواجب سبحانه وتعالى في باب التنزيل ورداً على المشتهى والمرسمة وسائر فرق الضلال والطغيان بأبلغ وجه وأكده فلا نبالي إذاً بتكرر الألفاظ المترافدة والتصريح بما علم بطريق الالتزام.

والتدليل على أنه تعالى مخالف للحوادث. أنه لو ماثل شيئاً منها لكان حادثاً مثلها ولوجب له مثل ما وجب لها من الحدوث فيفتقر إلى محدث وهو محال لما تقدم من وجوه القدم والبقاء له تعالى يؤكد هذا قوله تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع والبصير) وحكمة تقديم السلب على الإثبات ليستفاد منه نفي التشبيه له مطلقاً حتى في السمع والبصر. وأما قيامه بنفسه فهو عبارة عن الغني المطلق أي لا يحتاج إلى محل ولا مخصص والمراد بالمحل الذات لا الحيز الذي يحل فيه الجسم. والدليل على ذلك أنه لو احتاج إلى محل لكان صفة إذ لا يحتاج إلى الذات إلا الصفات. والصفة لا تتصف بالصفات لامتناع قيام المعنى بالمعنى ولو احتاج إلى مخصص أي فاعل لكان حادثاً وهو محال (يا أيها الناس أنتم فقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).

الحج

الحج ركن من أركان الإسلام، ومبني من مباني الدين، فيه نزل قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) وفيه قال عليه الصلاة والسلام حجة مبرورة خير من الدنيا وما فيها وقال الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فأعظم بعبادة حاز الإسلام بها الكمال. وأكرم بما جل عن أن يكون ثوابه غير الجنة، هذه منزلة الحج في الإسلام. ومكانته من الدين. وله رتبة في الاجتماع عجز عن الوصول إلى منتهى حكمتها الباحثون. وقصر عن نيل ذرى بغيتها المتطاولون. مهما تصورا من فضيلة للاجتماع. والموا بشرف للاتحاد.

ذلك لأنه مجتمع يجمع المئات والألوف ما بين مشرقي ومغربي. وجنوبي وشمالي. من عربي وأعجمي. وهندي وصيني. وكلهم متأدبون بأدب واحد. ومتوجهون لوجهة واحدة.

ص: 3

غنيهم يساوي فقيرهم. وشريفهم يعدل وضيعهم. لا كبر ولا عجب. ولا خيلاء ولا استيلاء. غنما هو إزار ورداء. وحالة تأخذ بالعقول.

مجتمع يوثق عري الإسلام ويحكم من روابطه يجمع هذه الألوف فيعرف بعضهم بعضاً. يعرفون أخوانهم في الدين. يعرفون مشاركيهم في أوامره ونواهيه. يعرفون مؤازريهم في تعظيم شعائره. ومناصريهم في الذب عن حياضه. فاعظم بهذه الرابطة التي ما تصورها متصور إلا وقدس من أحكمها. وخضع لعزته وجبروته. وأكرم بتلك الصلة التي لا يدانيها غيرها من الصلات. ولو دأب من تمسكوا بها على نشر فضائلها السنين العديدة. وحثوا على القيام بواجبها الأحقاب الطويلة مجتمع كلما تصوره الغربيون أخذتهم الرعدة. وتمكنت من قلوبهم الرجفة. وبادروا لعقد المؤتمرات والمنتديات يتبادلون فيها الأفكار. ويتجاذبون الآراء لحل عري هذه الرابطة القوية. بوضع عقبات نحول بين المسلمين وبين هذا الاجتماع. فكم عقدوا تحت عنوان (خطر الإسلام) من جمعيات وألفوا لتلافي هذا الأمر من شركات. وكم منعوا من يحكمونهم من المسلمين تارة بوضع المحاجر الصحية. وأخرى بأخذ الضرائب والرسوم وطوراً بالاسيثاق بالوثائق والعهود. (يريدون أن يطفؤ نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).

مجتمع لو قدره أرباب التجارة وأصحاب الصنائع قدره لكان أكبر معرض في العالم تتقطع عليه قلوب الغربيين وأفئدتهم. وليس لهم من مثله ما يشفي من غلة. معرض تعرض فيه أصناف التجارة وسلع الصناعة فتبلغ أعلى درجة في الرواج. وتعلوا أرقى ذروة في الارتقاء.

مجتمع يجمع الفاضل المتحقق بالأخلاق الحميدة. والغر الجاهل ذا الطباع الرديئة. فإذا رأى الأول وما هو عليه تبدو له معايبه فيبتعد عنها ويقتبس كرائم الخصال.

مجتمع يتوصل به لحل مشكلات العلوم. ومعضلات الفنون. إذ أن هذا المشهد الحافل لا يخلو على التحقيق من فضلاء برزوا في كل فن واستسلم إليهم ما عصي فهمه على كثيرين من حملة العلوم. يعلم هذا من تصفح كتب التاريخ وأطلع على ما وقع في هذا المجتمع من المناظرات العلمية والمباحثات الفنية. التي انكشفت عن فتح باب كثير من المغلقات هذا ما استحضرناه الآن وأردنا نشره من فوائد هذا المجتمع. وما هو إلا قطرة من بحر مما حواه

ص: 4

من الفضائل. وأحاط به من الكمالات. وللحج فوائد أخرى أجلها التوصل لزيارة سيد العالمين. وفخر الأنبياء والمرسلين. صلى الله تعالى عليه وسلم. وزيارة أهل بيته وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم. حيث يقوم الزائر ببعض الواجب لهم. ويتوسل بهم إلى ربه في تكفير ذنبه. وكشف كربه. وإصلاح حياته ومعاده أجل أن من أعظم الواجب زيارة حضرة سيد الوجود عليه الصلاة والسلام. وزيارة آله وأصحابه. وسلف الأمة ومتقدميها. ممن قام بتأسيس هذا الدين القويم. وشيد مبانيه. وحبس نفسه على إرشاد الأمة. وقطعها لإفادتها الخير. بل الواجب تعظيم كل من سبقت له يد في إصلاح. أو كان له اعتناء ببعض المنافع العامة. واحترامه حياً وميتاً. وتقديس عمله في سائر الأوقات هذا الخلق مغروز في كل من منح عقلاً سليماً ورزق بصيرة نافذة. لا فرق بين أن يكون من المسلمين أو غيرهم. إذ نرى كثيراً من الأمم المتمدنة والشعوب الراقية. ينشئون الأسفار لزيارة من يرون له أثراً صالحاً في الاجتماع ويداً عاملة في سبيل الرقي والإصلاح تنويهاً بشكل ما فعل وحثا لغيره على العمل وقياماً بالواجب الإنساني له. بل نراهم يشدون الرحال لكل من روى لهم التاريخ عنه شيئاً من عظائم الأعمال. أو جلائل الخصال ولو كانوا من أعدائه ومحاربيه.

هذا ضريح صلاح الدين بن أيوب يتوارده السائحون صباح مساء. ويأتونه بالهدايا والتحف. وجلهم ممن حاربهم وحاربون هذا ولولا الخروج عما نحن بصدده الآن لأسهبنا الكلام في هذا الموضوع فإنه من أجل المواضيع وعسانا نأتي عليه بأزيد مما ذكرناه عند سنوح الفرص.

ومن فوائد الحج تهذيب النفس بتركها ملاذها وشهواتها. من التمتع بالأهل والأولاد. والإسئناس بالأخوان والأصحاب. والتخفيض من غلوائها بركوبها المشاق. والمتاعب. وتحمل ألم الحر والبرد ومشقة الركوب والمشي. وعناء التقشف في المطعم واللباس. ومنها ترويض الجسم بتفرغه من تعب الكسب. وتنقله من بلدة لأخرى. واستنشاقه هواء بعد هواء. بل أن السفر وهو من لوازم الحج معدود في مقدمة الأدوية الفعالة في الشفاء من الأمراض، وهو العلاج الفرد لبعض الأدواء، والمؤثر الوحيد في التخلص منها.

قضية لا ينكرها أحد. ولا مجال فيها لارتياب مرتاب حيث قامت عليها قواطع الأدلة، وحكمت بصحتها شواهد التجربة هذا ولا يسعنا بعد ما أتينا على بعض ما وصل إليه دركنا

ص: 5

من حكم الحج وفوائده، إلا أن نحث من وجب عليه أن يبادر إليه فإنه من الفروض العينة على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع قال الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) وقال عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا من مات ولم يحج فليمت أن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً. وقال عمر رضي الله تعالى عنه، لقد هممت أن أكتب إلى الأمصار بضرب الجزية على من لم يحج ممن يستطيع إليه سبيلاً، وروى عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومجاهد طاووس (وهم أئمة التابعين) أنهم قالوا لو علمنا رجلاً غنياً وجب عليه الحج ثم مات قبل أن يحج ما صلينا عليه.

وقد ذهب الأئمة الأربعة ما عدا الشافعي رحمه الله في أصح الراويتين عنهم إلى أن افتراض الحج على الفور في أول سني الإمكان لأن فرضيته ثبتت بالكتاب والسنة وانعقد عليها الإجماع ولا يأمن أحد على نفسه من الموت إذا أخره فوجب على الفور احتياطاً، وللحج شروط وأركان وسنن وآداب لولا أن الكلام في بيانها يستدعي مجالاً واسعاً ووقتاً طويلاً لأتينا عليها مفصلة مبينة تتميماً للفائدة غير أنا نحيل على مناسك العلامة الألوسي الذي سماه (أوضح منهج لمناسك الحج) ففيه كفاية في هذا الباب، وبغية لأولي الألباب.

ص: 6