المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المحرم - 1336ه - مجلة المنار - جـ ٢٠

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (20)

- ‌شوال - 1335ه

- ‌فاتحة السنة العشرين للمنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌مقدمة لذكرى المولد النبوي

- ‌استدراك على الحواشي

- ‌المسألة العربية

- ‌مسألة استقلال الشعوب

- ‌المجمع اللغوي المصري [*]

- ‌ذو القعدة - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌اقتراح عظيم في الإصلاح الإسلامي

- ‌السنة الرابعة للحرب

- ‌تاريخ هذا الجزء

- ‌ذو الحجة - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌رحلة الحجاز(5)

- ‌وفاة الشيخ سليم البشري

- ‌شيخ الأزهر الجديد

- ‌ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد

- ‌حجم المنار

- ‌المحرم - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحرب والصلح

- ‌مختارات من الجرائد

- ‌ما قيل في سقوط بغداد

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع أول - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحرب والصلح

- ‌تنبيه

- ‌ربيع الآخر - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحالة السياسية في الحجاز

- ‌ترجمة الشيخ سليم البشري

- ‌جمادى الآخرة - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌شعبان - 1336ه

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(1)

- ‌نقد ذكرى المولد النبوي

- ‌مصائب الحرب

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌شوال - 1336ه

- ‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [*]

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(2)

- ‌السيد الهمام - آل رضا

- ‌ذو الحجة - 1336ه

- ‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(3)

- ‌الشيخ عبد الكريم سلمان

- ‌حسن جلال باشا

- ‌التحول في ميادين الحرب وقرب أجل الصلح

- ‌خاتمة المجلد العشرين

الفصل: ‌المحرم - 1336ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة العشرين للمنار

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله تعالى وأشكر له توفيقه وتأييده، حمدًا يوافي نعمه وشكرًا يكافئ

مزيده، وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، ورحمته العامة المرسلة وحجته

القائمة على خلقه، محمد النبي الأمي العربي الذي بعث في الأميين؛ ليعلمهم

الكتاب والحكمة ويجعلهم الأئمة الوارثين، ويُصلح بهم فساد الأمم والشعوب

المتعلمين وغير المتعلمين، وعلى عترته آل بيته الطاهرين، وأصحابه الذين

نشروا دعوته بين العالمين، وعلى التابعين لهم في هدايتهم وهديهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد دخل المنار في العام العشرين، داعيًا إلى الاعتصام بحبل الله

المتين، والاهتداء بنوره المبين، والاستمساك بسنة رسوله الأمين، والسير على

منهج السلف الصالحين، مبينًا أن الخير كل الخير في اتباع مَن سلف، وأن الشر

كل الشر في ابتداع مَن خلف؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين فلا يقبل زيادة كمال،

فالزيادة فيه كالنقص منه خزي وضلال، وإنما الناقص الذي يحتاج دائمًا إلى

الإكمال والإصلاح، ما كان من أوضاع البشر عرضة للنقص والفساد، مثبتًا أن

ضعف الشعوب الإسلامية إنما جاء من عملهم بعكس هذه القضية، أعني الابتداع

في الأمور الدينية، واتباع مَن قبلهم في الأمور الدنيوية. فالأمم في ارتقاء دائم،

وهم في جمود ملازم، غلب عليهم الجهل المركب، فهم للعلم يدعون، ورُزِئوا

بالفقر المدقع، وهم في الدنيا طامعون، وخنعوا للضيم والذل، وهم معجبون

متكبرون، وخضعوا لظلم المتغلبين وهم بالمُلك والسيادة مفتونون {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا

آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: 69-70) .

خسروا أنفسهم، فخسروا كل شيء، وهل خسران النفس إلا فقْد استقلالها في

الفهم والعلم والحكم؟ ، وتقليد الآباء والأشياخ المتأخرين في جميع أمور الدنيا

والدين؟ ، فالتحقيق أنهم مقلدون حتى في الابتداع؛ لأنهم فقدوا ملكة الاستنباط

والاختراع؛ وقد ساروا بحسب الظاهر على الطريقة الثابتة بالعقل والاختبار،

وهي كون علوم المتأخرين وفنونهم أجدر بالثقة والاعتبار، سنة الله في التدريج

والارتقاء، على أنهم يعتقدون بحق أن متقدمي هذه الأمة خير من متأخريها في

جميع العلوم والأعمال؛ لأن الخلف لم يسيروا على سنة السلف في الاجتهاد

والاستقلال؛ ولو ساروا عليها لفاقوهم في كل ما هو من كسب الناس. وهم إنما

يقلدون المتأخرين؛ لأنهم لا يرون أنفسهم أهلاً لاتباع المتقدمين، إذ يزعمون أن

المتأخر أضعف من المتقدم عقلاً وفهمًا، وربما اعتقدوا أنه أقل قوة وأنحف جسمًا،

وأن هذا التفضيل منحة إلهية وهبية، لا يمكن إدراكه بالأسباب الكسبية، غافلين

عن سنة الله تعالى في سائر الأمم والأجيال، وسبق المتأخرين للمتقدمين في جميع

العلوم والأعمال، حتى أن الله تعالى سخر لمراكبهم الهواء، كما سخر لها الماء،

وسخر لها من البحار لججها وأعماقها، كما سخر لها متونها وأمواجها، بل سخر

الله تعالى لهم ما في السماوات وما في الأرض، فما كان مسخرًا لغيرهم بالقوة صار

مسخَّرًا لهم بالفعل. فما بال جماهير المسلمين لا يسمعون ولا يبصرون، ولا

ينظرون ولا يتفكرون، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ

آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .

كل ما هو مسخر للبشر، وكل ما هو من كسب البشر، فهو قابل للارتقاء،

إذا لم يجمد الأبناء فيه على ما ورثوه عن الآباء. وكل ما ينفع الناس من العلوم

والفنون والأعمال، فهو مما يتناوله كسبهم وتصرفهم بمقتضى الاستعداد الخاص

والتسخير العام، إلا الدين الإلهي، والوحي السماوي، وقد أكمل الله لنا الدين، كما

ثبت بنص الكتاب المبين، فما بالنا قد ابتدعنا فيه كثيرًا من الشعائر، كمواسم الأيام

الفاضلة والموالد، وكثيرًا من العبادات التي لا أصل لها من السنة والكتاب، كأذكار

أهل الطرق وما استحدثوا من الأوراد والأحزاب، بل ما بالنا نبني المساجد على ما

نشرّف من القبور، ونوقد عليها السرج والشموع؟ ! ، ونحن نعلم أن فاعلي ذلك

ملعونون على لسان الرسول، بل ما بالنا نطوف بهذه القبور كما نطوف ببيت الله،

وندعوها مع الله أو من دون الله، ونحن نعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله -

أن هذا عبادة لها من دون الله؟ ، أنتبع في هذا عمل الآباء المتأخرين، ونحن نتلو

ويُتلى علينا قول الله تعالى في المشركين، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا

بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) .

إنا لندعو الناس إلى عقيدة السلف ونحن بها موقنون، ونرشد من بَلَغَتْه

الدعوة إلى سيرتهم الدينية ونحن على طريقتها إن شاء الله مستقيمون، وإنما نورد

في باب التفسير وغيره من المنار بعض تأويلات الخلف للآيات والأخبار، وما قد

يخالف مذهبهم من الآراء العصرية، وخاصة في مقام الدفاع عن القرآن والسنة

النبوية؛ لأن الضرورة ألجأت إليها، بتوقف إقامة الحجة، أو دحض الشبهة عليها،

فإن المنار ليس خاصًّا بالمذعنين للكتاب والسنة من المؤمنين، بل يكتب لهم

ولغيرهم من المبتدعين والمنافقين والكافرين، ومنهم المنكر الجاحد، والمجادل

المعاند، ومنهم المشتبه المغرور بشبهته، والمرتاب المتردد في ريبته، وحسبنا من

الفلج أن نقنع بتأويل الخلف، من تعذر إقناعه بتفويض السلف، وأن ندحض

الشبهة برأي جديد، إذا أعيا دحضها برأي تليد، إذ يكفي في صحة الإيمان الجزم

بأن كل ما جاء به الرسول عن ربه فهو حق، وفي صحة الإذعان موافقة السلف

في مسائل الإجماع العملية وما لا يحتمل التأويل من النص، ولا حرج في دين

الفطرة فيما اقتضته الفطرة من تفاوت الأفهام، مع صحة قواعد الإيمان وإقامة

أركان الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرّ أصحابه على مثل ذلك في مسائل

الأحكام، كتارك الصلاة والمصلي بالتيمم للجنابة، والمختلفين في صلاة العصر يوم

بني قريظة [1] .

ورُب فهم جديد يؤيد دين الحق أعظم التأييد، ومن مزايا القرآن أنه لا تنتهي

عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، وأن من آياته ما يظهر في زمان دون زمان، وهل

يظهرها إلا أفهام أهل العرفان، الذين هم حجة الله في أرضه، على الجاهلين

والجاحدين من خلقه، ولن يخلوا عنهم عصر من الأعصار، وإن خلت منهم بعض

البلاد والأمصار، وكم من عالم ينتفع بعلمه الغائب البعيد، ويحرم منه القريب العتيد

{قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) .

تلك دعوة المنار، التي رددت صداها الأقطار، فكانت كالبرق المبشر بما

يتلوه من المطر، في نظر سليمي العقول صحيحي الفِطَر، وكالصواعق المحرقة

على أهل البدع، ومتعصبي الأحزاب والشيع، وقد آذانا لأجلها الظالمون، فصبرنا

لله وبالله، ولم نكن كمَن أُوذي في الله فجعل فتنة الناس كعذاب الله، وجهل علينا

بعض أحداث السياسة المغرورين، وبعض أدعياء العلم الجامدين، فقلنا: {سَلامٌ

عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: 55) ، وكاد لنا أعداء الدعوة كيدًا خفيًا،

أضرّ بنا ضررًا جليًا؛ إذ حُجب المنار عن كثير من قرائه الأخيار، وحرمنا بذلك

وبغيره كثيرًا من المال، وحسبنا أن حَمِدَ الدعوة كل مَن عرفها من طلاب الإصلاح،

وأهل الروية والاستقلال، وأما الأزهريون خاصة، فقد كانوا أزواجًا ثلاثة،

فقليل من الشيوخ وكثير من الشبان - يرون أن المنار من ضروريات الإسلام في

هذا الزمان، وكثير من الشيوخ والشبان يكرهون منه حمد الاستقلال وذم التقليد،

ورمي جماهير علماء العصر بالجمود والتقصير، والسواد الأعظم منهم مشغولون

بأمور معيشتهم، وبمطالعة دروسهم ومناقشات طلبتهم، عن النظر في مثل المنار

لتقريظ أو انتقاد، وعن كل ما يتجدد في الدنيا من إصلاح وإفساد، وقد دخل المنار

في السنة العشرين، ولم ينتقده أحد من الأزهريين، إلا أنه قام في هذا العام شاب

متخرج في الأزهر، فنشر في بعض الجرائد الساقطة مقالات سبَّ فيها صاحب

المنار وكفَّر، بانيًا ذلك على زعمه أنه أنكر كون آدم أبًا لجميع البشر، على أن

المنار قد صرح بإثبات هذه الأبوَّة تصريحات، آخرها ما في الجزء الأول من

المجلد التاسع عشر، وزعمه أنه فضَّل شبلي شميل على الخلفاء الراشدين، ويعلم

كذب هذا الزعم مما نشرناه في شميل من ترجمة وتأبين، ومَن لا يَزَعه هديُ

القرآن، عن السب والكذب والبهتان - قد يَزَعْه عقاب السلطان؛ لهذا رفع أحد

كبار المحامين عنا أمر هذا الطعن إلى محكمة الجنايات، بعد أن أنذرْنا بذلك كاتب

المقالات، ونصحنا له بلسان بعض ذوي رَحِمه وصحبه، بأن يستحلنا تائبًا من ذنبه،

فلم يزده ذلك إلا إصرارًا على الذنب، وتماديًا في الطعن والسب، ولكنه جنح في

المحكمة للسلم، وطلب - هو وصاحب الجريدة - من رئيسها الصلح، على أن

يعتذروا عما اتهما به من المطاعن الشخصية، ويعترفا باحترام عقيدة صاحب المنار

وآرائه الدينية، وأمضيا عبارة في ذلك أُثبتت في محضر القضية، وقد قبلنا ذلك

منهما، وكان خيرًا لهما لو فعلاه من تلقاء أنفسهما، على أنهما عادا إلى هذيانهما،

ولا قيمة عندي لمثل هذا الكلام، فإنه مما يقال لصاحبه: سلام، وإنما ذكرناه في

فاتحة المنار التي نشير فيها عادة إلى ما تجدَّد في تاريخ الإصلاح، تمهيدًا لذكر ما

قيل إنه ترتب على تلك القضية، من تأليف جمعية أزهرية، لأجل البحث عن أغلاط

المنار الدينية والعلمية، وبيانها للناس وللحكومة المصرية؛ ذكرت ذلك الجريدة

التي وقفت نفسها على الطعن في صاحب المنار، متوهمة أنه سيترتب عليه

إبطال المجلة أو إخراج صاحبها من هذه الديار؛ لأن عند أعضاء هذه الجمعية من

حقائق العلوم الأزهرية، ما ليس عند صاحب المنار، الذي تلقى العلم في البلاد

السورية؛

فنقول للواهمين، ولمن يمدونهم في غيهم من المغرورين: إنا نعلم

من كُنه علم الأزهر ما لا تعلمون، فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا

إنا منتظرون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى

عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .

إننا ندعو إلى الله على بصيرة، ونكتب ما نكتب عن علم وبينة، ولكننا

كغيرنا عرضة للخطأ والغلط، كما هو شأن غير المعصومين من البشر؛ فلهذا

ندعو قراء المنار في كل عام، إلى أن يكتبوا إلينا بما يرونه فيه من الأغلاط

والأوهام، لننشره فيه، فيطلع عليه جماهير قارئيه، وإنا لنتمنى أن تؤلَّف لجنة من

علماء الأزهر، تقرأ مجلدات المنار التسعة عشر، وتُحصي ما تراه من الأغلاط

المتفق عليها، بقدر ما يصل إليه علمها وفهمها، وأن تتحرى في ذلك ما يليق

بكرامة أهل العلم، من صحة النقل والتروي في الحكم، واجتناب الطعن والبذاء،

والسخرية والاستهزاء، وإننا نَعُدُّ ذلك إذا سمت إليه همة بعض الأزهريين - أعظم

خدمة للمنار، يُخدم بها العلم والدين، ونعِد بأن ننشر لهم ما يكتبونه فرحين

مغبوطين، مقرين إياهم على ما نراه فيه من الصواب، مبيّنين ما نراه من الخطإِ

مع التزام الآداب، وترديد عبارات الحمد والشكر، التي تبقى بقاء الدهر، ولَثَوابُ

الله خيرٌ للذين يُصلحون في الأرض ولا يفسدون، والذين هم على البر والتقوى

يتعاونون {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

وإننا على ضعف أملنا بتحقُّق تلك الأمنية، واحتقارنا لكل ما يُكتب

بجهالة وسوء نية - لَيحزُننا أن يقوم في الأزهر بعض علمائه، ورئيس

جمعية من جمعياته، ينتقم ممن يقاضي بعض أصحابه، بافتراء الكذب

عليه [2] ، ونسبة ما ينقله عن غيرنا إليه [3] وتحريف آيات القرآن، استدلالاً بها

على ما رماه به من الكفر والفسق والعصيان [4] بذلك الكذب والبهتان،

الذي زاد فيه على ما سبقه إليه ذلك الطعان، وإننا لَنكرمُ كلاً من المنار والأزهر

بعدم ذكر اسمه، وعسى أن يثوب إلى رشده، ويتوب من إثمه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا

فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ

عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا

تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ

يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) .

_________

(1)

الأول في سنن النسائي والثاني في الصحيحين.

(2)

ادَّعى أن صاحب المنار قال: إن آدم عليه السلام من سُلالة القرود، وإنه ليس أبا جميع البشر - وهذا كذب وافتراء - وادعى أنه عضو في لجنة أُلِّفت لنشر كتب شميل، وهذا كذب مفترًى أيضًا.

(3)

عزا إلى صاحب المنار أقوالاً في خلق الإنسان، وفي تكفير مَن يحكم على السارق بغير الحد الشرعي، وتلك الأقوال من منقول المنار، لا من أقوال صاحبه، بل مخالفة له.

(4)

استدل بآيات سورة الممتحنة في النهي عن موالاة أعداء الله على ضد ما تدل عليه، وأهمل ما قيدته به السورة من كونه فيمن قاتلونا في الدين إلخ.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

الرقيق الأبيض والأسود

(س1) من صاحب الإمضاء في قليوب

حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد وصاحب المنار المنير؛

تحيةً وسلامًا، وبعد: أعرض على مسامع فضيلتكم المسألة الشرعية الآتية،

وأرجو نشرها في باب السؤال والجواب المفتوح في المنار المنير خدمة للشرع

الشريف، لا حرمنا الله منكم وها هي:

ما قولكم - دام فضلكم - في مسألة الرقيق الأبيض والأسود ومسألة مشتراه

في الزمن الماضي قبل مقاومة الحكومات لهذه العادة. وهل هذا البيع حرام أم حلال

شرعًا، وما الفرق في الدين الإسلامي بين العبد والحر، وما هي ميزة الحر على

العبد في الدين. وهل سواد (العبد) من الإقليم القاطن فيه أو منحة إلهية للفرق بين

الحر والعبد. وما يستحقه العبد في الميراث الشرعي إذا كان من والد حر وله إخوة

أحرار؟ وكيف كان البيع في زمن الجاهلية وزمن النبي صلى الله عليه وسلم

وزمن الخلفاء الراشدين وما هي حجتهم في ذلك؟

نرجو الرد على هذه الأسئلة كما عودتمونا ذلك، ولفضيلتكم الشكر سلفًا، وفي

الختام أهدي فضيلتكم أزكى تحياتي وسلامي.

...

...

...

... كاتبه أحمد حسين فراج

...

بعيادة الدكتور محمد عبد الحميد بك الخصوصية بقليوب

(ج) الظاهر أن السائل يظن أن كل مَن كان أسود اللون فهو عبد رقيق

وكل مَن كان أبيض اللون أو قريبًا من الأبيض - كالأصفر والأسمر - فهو حر

وأن الرقيق الأبيض عبارة عما هو معروف في القطر المصري من الاتِّجار

بأعراض البنات اللواتي يحتويهن المشتغلون بهذه التجارة، وهن صغيرات

بضروب من الإغواء والحيل. والصواب أن الأصل الفطري أن يكون جميع البشر

أحرارًا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص: منذ كم تعبَّدتم

الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ! ، وإنما الرقّ أمر عارض أحدثه تحكُّم الأقوياء

في الضعفاء، فكانوا يقتلون الأسرى ثم عطفوا عليهم فاستبدلوا الاسترقاق بالقتل،

وكان عامًّا لجميع أقطار الأرض الآهلة بالبشر، وقد أقرته الشرائع القديمة كلها،

حتى صار من شئون العمران وضروريات الحياة الاجتماعية، وقد جاء الإسلام،

وهو على هذه الحال، فلم يكن من الحكمة أن يبطله دفعة واحدة، كما أبطل الربا

والفواحش والتبني؛ إذ لو أبطله لتعطَّل كثير من أمور المعايش والأعمال، فشرع

الأحكام لإزالة مفاسده كإذلال العبيد وإهانتهم وتحميلهم من العمل ما لا يطيقون،

حتى نهى الشارع أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي، وجعل العبيد إخوانًا لسادتهم،

وأمر بأن يطعموهم مما يأكلون وأوجب عتقهم في الكفارات وغير الكفارات من

الأسباب المعروفة في كتب السنة والفقه، وجعل العتق - من غير سبب - قربة من

أفضل القربات، حتى أن من العتق ما يوجبه الشرع بغير اختيار المالك، ومنه أن

مَن مثَّل بعبده بقطع عضو أو تشويه - أعتق عليه، قال صلى الله عليه وسلم:

(مَن لطم مملوكَه أو ضربه فكفارته أن يعتق) رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن

عمر، وقد عمل به ابن عمر، وروياهما والترمذي عن سويد بن مقرن قال:

(كنا بني مقرن ليس لنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خادم واحدة،

فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقوها، قالوا: ليس

لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها)

وإنما أبقى أصل استرقاق الأسرى والسبي من الكفار في الحرب الدينية مباحًا؛

لأنه قد تقتضيه المصلحة، حتى مصلحة السبي نفسه أحيانًا. مثال ذلك أن تقتل

رجال قبيلة في الحرب ولا يبقى منهم أحد يستطيع أن يقوم بأمر النساء والذراري؛

إذ لم تكن الشعوب والقبائل في الأزمنة الماضية -ولا هي الآن كلها أيضًا - ذات دول

غنية كدول أوربة وما يشبهها في النظام الاجتماعي، فإذا أخذ الغالبون السبي في مثل

تلك الحالة وربوه على ما يوجبه الإسلام من الرفق والتكريم، وتسروا النساء حتى

صرن أمهات أولاد لهم يُعتقن بمجرد موتهم - فلا شك أن هذا قد يكون خيرًا لهم من

تركهم هائمين على وجوههم. على أن الإسلام لم يوجب ذلك، بل شرع لنا أن نمن

عليهم بإطلاقهم بلا مقابل كرمًا وإحسانًا وأن نفدي بهم أسرانا، إن كان لنا أسرى عند

قومهم، كما قال في سورة القتال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ

وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4) .

وإذا عرفت أصل الرق الشرعي علمت أن ما اشتهر عن النخاسين من شرائهم

بعضَ بنات الشركس من آبائهن الفقراء لبيعهن في الآستانة وغيرها، ومن شرائهم

أو خطفهم لأولاد السودانيين أيضًا - كله باطل، فالأب لا يملك بيع أولاده. ومَن

دونه من الأقارب أوْلَى بأن لا يجوز له ذلك، والمشتري لأمثال هؤلاء لا يملكهم

شرعًا، ويجب على الحكام إبطال مثل هذا الرق قطعًا؛ لما يترتب عليه من مفاسد

التسري والتوارث وغير ذلك من الأحكام الباطلة.

وأما سواد السود من الناس فهو من تأثير الإقليم كما هو مشهور، وقد سكن

كثير من العرب - الذين يغلب عليهم اللون القمحي في البلاد الاستوائية وما يقرب

منها - فأثَّر ذلك في جلودهم؛ حتى صاروا أقرب إلى الزنوج منهم إلى البيض،

وسكن كثير منهم في البلاد الشمالية الباردة وما يقرب منها؛ فصار بياضهم كبياض

أهلها.

وأما الفرق بين الحر والعبد في الدين الإسلامي فهو أنه لا فرق بينهما في

الإيمان وتقوى الله تعالى والعمل الصالح وفضائل الدين وآدابه والجزاء عند الله

تعالى، وكم من عبد مملوك تقي خير عند الله من ألف حر، ولكن المملوك لما كان

لا يملك المال عند الجماهير ولا يملك التصرف في نفسه لتقيده بخدمة مالكه - كان

له بذلك أحكام خاصة لا يحتاج السائل إلى معرفتها كلها، فمنها ما هو تخفيف عليه،

ككونه لا تجب عليه الجمعة عند الجمهور خلافًا للظاهرية - وتصح منه إجماعًا -

ولا الجهاد ولا الحج، وإذا حج بإذن سيده أو معه صح منه ذلك وأثيب بقدر

إخلاصه وقيامه بالمناسك على وجهها ولا تجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يملك المال،

ويترتب على عدم ملكه المال أنه لا يرث ولا يورَّث، وحدّه نصف حدّ الحر،

ويترتب على عدم ملكه التصرف بنفسه أنه لا يلي الولايات العامة كالقضاء، ولا

الخاصة كالنكاح والوصاية على اليتيم، وكل مسألة من هذه المسألة وأشباهها مفصلة

في كتبها وأبوابها من كتب الفقه. وفي بعضها خلاف بين الفقهاء. وأما بيع الرقيق

فكبيع غيره مما يملك، وحسب السائل هذا البيان المختصر.

***

العوام والخواص

(س2) من الحاج عبد العزيز. ن. وفي بلد جكجاكرتا (بجاوه) .

نرجو من فضلكم أن ترشدونا في تعريف العام والخاص، هل العام مَن لم

يعرف اللغة العربية في فصاحتها وبلاغتها، والخاص مَن يعرفها؟ أو مَن هم؟

(ج) العامّ اسم فاعل من العموم وهو الإحاطة والشمول، والخاصّ اسم فاعل

من الخصوص وهو إصابة بعض الشيء أو الأفراد دون بعض. يقال: نزل المطر

فعمّ الأرض فهو عامّ أو خصّ بلد كذا فهو خاص. والسائل لا يسأل عن هذا، وإنما

يسأل عن معنى العامّيّ والخاصّيّ، واحد العامة والخاصة. فالعامّيّ هو المنسوب

إلى عامة الناس أي سوادهم الذين لا خصوصية لهم فيهم، ويقال لجماعتهم العوامّ،

والخاصّيّ المنسوب إلى خاصة الناس وهم كبراؤهم وزعماؤهم كالعلماء الأعلام

وكبار الحكام وأهل الفضل والجاه، ويقال لجماعتهم الخواص. وعلماء اللغة

العربية في جاوه يصح أن يكونوا من خواص أهلها، وأما كونهم هم الخواص

وحدهم فلا يتحقق إلا إذا كان أهل البلاد يخصونهم بالاحترام والتكريم ويفضلونهم

على سائر الناس، ويعدون مَن عداهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد ولا

كرامة.

_________

ص: 19

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة لذكرى المولد النبوي

فيها بيان تاريخ الاحتفال بالمولد وحكمه شرعًا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه

ومَن والاه.

أما بعد: فإن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، وقد

اختلف في كونها بدعة حسنة أو بدعة سيئة كما سيأتي، والمشهور أن المُحْدِث لها

هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب

الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل [1] أحدثها في أوائل القرن السابع

أو أواخر القرن السادس، فإن السلطان صلاح الدين ولاه على إربل في ذي الحجة

سنة 586 وتوفي سنة 630.

وقد كان سخيًّا متلافًا صاحب خيرات كثيرة، وكان ينفق على الاحتفال بالمولد

ألوفًا كثيرة، ففي تاريخ ابن خلكان أنه كان ينصب له مقدار عشرين قبة من الخشب،

كل قبة منها أربع طبقات أو خمس طبقات، له قبة منها والباقي للأمراء وأعيان

دولته، وكانوا يزينون هذه القباب في أول شهر صفر بأنواع الزينة الفاخرة، وكان

يكون في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي،

بل كانوا لا يتركون طبقة من الطبقات بغير جوق من تلك الأجواق. وكان الناس

يتركون كل عمل في تلك الأيام، فلا يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران على

القباب.

قال ابن خلكان: فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم

شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفَّها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي

حتى أتى بها إلى الميدان ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان

المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد [2] عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة

ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع

- أشك في ذلك - من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن

ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل. فإذا كانت صبيحة يوم المولد

أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة،

وهم متتابعون، كل منهم وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير، لا أتحقق

عدده.

ثم ذكر عرضه الجند وتوزيعه تلك الخلع بعد ذلك على الفقهاء والوعاظ

والقراء والشعراء ومد السماط. وكان قد ذكر قبل ذلك أن الناس كانوا يأتون هذا

الموسم في إربل من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم

وتلك النواحي، فلا يزالون يتواصلون من شهر المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول.

لخصت هذا من تاريخ ابن خلكان الذي وصف ما رآه بعينيه؛ لأن ما يُعمل

بمصر الآن يشبه ما كان يعمل في إربل، إلا أنه دونه عظمة ونفقة، فهَهُنا تنصب

قباب أو خيام النسيج الجميلة لعزيز مصر ولوزارات حكومته ولبعض الوجهاء في

دائرة واسعة ويختلف إليها الناس من أول شهر ربيع الأول، يسمعون في بعضها

وعظ الوعاظ، وذكر أرباب الطرق المعروفة. ويرأس الاحتفال شيخ مشايخ طرق

الصوفية، ويقيم بجانب خيمته مأدبة فاخرة في مساء اليوم الحادي عشر من الشهر،

يحضرها كبار العلماء وكثير من الوجهاء، ويكون الاحتفال الأكبر في الليلة

الثانية عشرة في خيمته فيجتمع فيها مَن حضر المأدبة، ويؤمها الأمراء والوزراء،

حتى إذا ما انتظم جمْعهم حضر عزيز مصر بحاشيته، وتقرأ بين يديه قصة المولد،

فيخلع على مَن يقرأها خلعة سنية، وتدار بعد قراءتها كؤوس الشراب المحلّى

وصواني الحلوى الجافة. ثم ينصرف العزيز إلى خيمته وهي بجانب قبة شيخ

الشيوخ، فيمكث فيها ساعة زمانية، يشاهد في أثنائها زينة الألعاب النارية، ثم

ينصرف وينصرف الأمراء والوزراء، ويظل الناس يطوفون على تلك الخيام

المزينة بالأنوار الكهربائية وغير الكهربائية عامة ليلتهم. وفي ضحوة ذلك اليوم

يحضر نائب العزيز قبة شيخ الشيوخ فتعرض عليه مواكب الصوفية، يتقدم كلَّ

طريقة شيخُها، وهم يهللون أو يتلون الأوارد، ويقف كل منهم أمام شيخ الشيوخ

قليلاً، فيحييه، ثم ينصرف.

وقد استحسن جماهير المسلمين الاحتفال بالمولد في مشارق الأرض ومغاربها

ويجتمعون لقراءة قصته في المساجد، ومنهم مَن يجعل لها دعوة خاصة في البيوت،

وهذه لا تتقيد بجعلها في تاريخ الميلاد النبوي، ولكن أنكر هذا الاحتفال بعض

العلماء، وعدَّه بدعة مذمومة؛ لأنه عُدَّ موسمًا وشعارًا دينًا وعبادة غير مشروعة،

يظن العوام أنها مشروعة؛ ولما يقترن به من المنكرات الأخرى. وقال بعضهم: إنه

بدعة حسنة؛ لأنه عبارة عن الشكر لله تعالى على وجود خاتم أنبيائه وأفضل رسله

بإظهار السرور في مثل اليوم الذي وُلد فيه، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار،

وقد ألف الجلال السيوطي رسالة في عدِّه بدعة حسنة في جواب مَن سأل عن

حكمه شرعًا، وعرفه بقوله: هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية

الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من

الآيات، ثم يمد لهم سماط، فيأكلون، وينصرفون من غير زيادة على ذلك. وذكر

أن الحافظ ابن حجر سُئل عنه، فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن

أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن

وضدها، فمن جرد في عمله المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومَن لا

فلا.

ثم بيّن أن الحافظ خرجه على حديث الصحيحين في صيام عاشوراء شكرًا لله

تعالى على إنجائه فيه موسى نبيه، وإغراق فرعون عدوه، قال: فيُستفاد منه

الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في

نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام

والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟

وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم

عاشوراء ومَن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، وتوسع

قوم، فنقلوه إلى أي يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما تعلَّق بأصل عمله. وأما

ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم

ذكره من الإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل

الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن ما

كان من ذلك مباحًا بحيث يتعين للسرور بذلك اليوم - لا بأس بإلحاقه وبه وما كان

حرامًا أو مكروهًا فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى. اهـ.

وقد يقال: لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة والتابعين ولا الأئمة

المجتهدين ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد الشارع لهم بالخيرية؟ فهل كان

صاحب إربل التركماني ومَن تبعه أعلم وأهدى منهم وأعظم شكرًا لله تعالى؟ ويقال

مثل هذا في تخريج الحافظ ابن رجب إياه على تعليل صيام يوم الإثنين بأنه يوم وُلد

فيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي مزيد بيان لحجة المخالف.

وخرجه السيوطي على أصل آخر استنبطه من تخريج شيخه الحافظ، وهو ما

رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوة،

(قال) : مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه والعقيقة لا تعاد مرة ثانية،

فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد

الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب

لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه الآيات

وإظهار المسرات. اهـ.

وهذا تخريج ضعيف من وجوه:

(أحدها) أن هذا الحديث منكر كما قال راويه البيهقي، بل باطل كما قال

النووي في شرح المهذب.

(ثانيًا) أنه لو صح لكان دليلاً على استحباب عقّ الإنسان عن نفسه ولم يقل

بهذا أحد.

(ثالثها) جعل قولهم: إن العقيقة لا تعاد حجة على الحديث على تقدير

صحته، مع كون عبد المطلب عقّ عنه صلى الله عليه وسلم.

(رابعها) أنه لو كان تشريعًا لعمل به الصحابة وغيرهم وقال به أئمة الفقهاء

أو مَن بلغه منهم.

(خامسها) أن يوم البعثة كان أوْلَى بهذا الشكر من يوم الولادة؛ لأن النعمة

والرحمة إنما كانت برسالته صلى الله عليه وسلم بنص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ

إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) .

وحجة المنكرين في هذا الباب أن كل بدعة دينية تعد من العبادات المحضة أو

تُجعل من شعائر الدين - فهي محظورة؛ لأن الله تعالى أكمل الدين وأجمعت الأمة

على أن أهل الصدر الأول أكمل الناس إيمانًا وإسلامًا، وأن كل بدعة ليست من هذا

القبيل - كالمنافع الدنيوية والوسائل التي يقوَّى بها أمر الدين والدنيا كالمدارس

والمستشفيات والملاجئ الخيرية التي يثاب صاحبها بحسن نيته فيها - فإنها تعد

بدعة حسنة، والتحقيق أن هذه لا تسمى بدعة شرعية، وإنما يطلق عليها اسم

البدعة لغةً، فلا تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث

الصحيح عند مسلم: (شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؛

لأن موضوع الحديث المحدثات في أمر الدين، ولكنها تعد من السنن الحسنة في

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها

إلى يوم القيامة) -الحديث (وهو في صحيح مسلم أيضًا) فقد رَغَّبَ أمته بهذا

الحديث في الاختراع النافع لها في دينها ودنياها، ولكن ليس لأحد أن يخترع في

الدين نفسه شيئًا.

ثم إن البدعة الدينية إما أن تكون اختراع عبادة أو شعارًا دينيًّا لا أصل لهما

وإما أن تكون تخصيصًا لعبادة مشروعة بزمان معين أو مكان معين أو هيئة معينة

لم يخصصها بها الشارع. ومن هذا النوع عَدَّ الفقهاء صلاة الرغائب في رجب

وصلاة ليلة النصف من شعبان من البدع المذمومة. قال النووي في المنهاج:

وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. وقد سمّى الشاطبي هذا النوع

بالبدع الإضافية، وسمى النوع الأول البدع الحقيقية. وأطال في بيان ذلك في كتابه

(الاعتصام) وفصله تفصيلاً.

هذا، وإن ما يعهد من الاحتفال بالمولد ليس عبادة مأثورة عن الشارع يؤتى

بها على الوجه المشروع، ولا هو عمل دنيوي محض، بل يجمعون فيه عبادات

يأتون بها أو ببعضها على وجه غير مشروع، وبين لعب ولهو، بعضه مباح

وبعضه محظور، وقد كان يكون في احتفال القاهرة خيام يرقص فيها النساء

المتهتِّكات مكشوفات الصدور والبطون، كما يحصل دائمًا في غيره من احتفالات

الموالد - كالموالد الحسيني والمولد البدوي - وما هو شر من ذلك، ولكن قد أبطل

هذا كله من الاحتفال الذي يكون في القاهرة، ولله الحمد.

وقد حاول مَن ذكرنا من العلماء تخريجه على أصل شرعي بإبطال ما يكون

فيه من اللهو والاقتصار فيه على عمل الخير، ولولا تخصيص تلك العبادة بالزمان

والمكان والصفات المخصوصة التي تشبه بها الشعائر والعبادات المشروعة وتلتبس

بها - لما احتيج في تخريجه إلى ما تكلفوه.

وأما اجتماع الناس في مثل القباب والخيام التي تنصب في العباسية، وتزين

بالمصابيح والأنوار الكهربائية، وإظهار البهجة والسرور، بذكرى مولد ذي الضياء

المعنوي والنور، وذكر إخراج الله الخلق بهديه من الظلمات، وما آتاه من الهدى

والآيات - فهو في نفسه من المباحات، المقرونة بالمستحبات والمندوبات، بشرط

أن يخلو من البدع والمنكرات، وأن لا يعد من الشعائر الدينية ولا من العبادات،

فإذا كان بحيث يظن العامة أنه مطلوب شرعًا حرم فعله قطعًا، بل كان بعض

الصحابة يتركون بعض المسنونات؛ لئلا تظن العامة أنها من الواجبات، ومن هنا

صرح الشاطبي في (الاعتصام)[3] بكون اتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه

وآله وسلم عيدًا من البدع، وأفتى ابن حجر المكي بأن القيام عند ذكر ولادته صلى

الله عليه وسلم بدعة، وذكر أن الناس يفعلونه تعظيمًا وقال: (فالعوام معذورون

لذلك بخلاف الخواص) [4] وقد علل فتواه بأن القيام يوهم العامة أنه مندوب، ويزاد

عليه أن بعضهم يظن أنه واجب، وقد يعلل أيضًا بأنه يُفعل بهيئة العبادة لما يكون

من الصلاة المخصوصة المعينة بالعدد في أثنائه.

ولكن لم يأخذ أحد بهذه الفتوى، فما زال العلماء يقومون كغيرهم ولم نَرَ لهم ردًّا

للفتوى بدليل أرجح من دليلها، ولعل أكثر العوام يعتقدون وجوب هذا القيام لالتزام

العلماء وسائر الناس له، ولو فطنوا لِتَرْك أحدٍ له لعدُّوه فاسقًا متهاونًا بالدين أو كافرًا

مارقًا منه! ، ولعلك لو اقترحت على جماعة العلماء - الذين يحضرون قراءة قصة

المولد - تركه في بعض الأوقات ليعلم العامة أنه غير واجب لما تجرءوا على ذلك.

والحق أن قصد التعظيم هو الذي زين للعوام والخواص أمثال هذه البدع. فإن

من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا، وإنما

التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره، ويعتز

دينه إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكًا. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم

تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذه السبيل. ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم

اللساني. ولا شك أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل

تعظيم، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تغيير أو

تبديل لأجل تعظيمه به، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين؛ فقد كان جُل ما

أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، ومازالوا يبتدعون بقصد

التعظيم وبحسن النية؛ حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم! . ولو تساهل

سلفنا الصالح كما تساهلوا وكما تساهل خلفنا الذين اتبعوا سَنَنهم شبرًا بشبر وذراعًا

بذراع - لضاع أصل ديننا أيضًا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب

علينا أن نرجع إليه ونعَض عليه بالنواجذ، ويجب على العلماء أن يبينوا للناس

الإحداث والبدع محذرين منها، كما يجب عليهم أن يبينوا لهم الفرائض والسنن

مرغّبين فيها، والبيان يحصل بالقول والفعل والإقرار والترك، كما أن التشريع حصل

بذلك؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يترك بعض سننه لئلا تُفرض.

قال الإمام الشاطبي في الاعتصام [5] : وقد ثبت في الأصول أن العالِم في

الناس قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء ورثة الأنبياء، فكما أن النبي

صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على

الأحكام بقوله وفعله وإقراره، واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور

المنهي عنها، فلم ينكرها العلماء أو عملوا بها فصارت تعد سننًا ومشروعات

كزيادتهم مع الأذان: (أصبح ولله الحمد)

إلخ. وقد أطال في هذه المسألة وبيَّن

مفاسد السكوت قبل هذه العبارة وبعدها، ولا سيما عمل (الخواص من الناس

بالبدعة عمومًا وخاصة العلماء خصوصًا) وذكر في هذا السياق أن علماء الصحابة

كانوا يتركون بعض السنن لئلا يظن الناس أنها واجبة، ومن ذلك أن أبا بكر

وعمر وابن عباس تركوا التضحية في عيد النحر؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة [6]-

على أن بعض الفقهاء بعدهم قال بوجوبها - ونُقل عن الإمام مالك أنه قال في

الموطأ - في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان - إنه لم يَرَ أحدًا من أهل العلم

والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم

يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس

منه لو رأوا رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك. اهـ.

وقد كان الإمام مالك يعرف الحديث في صيامها، وكلامه يدل على ذلك، كما

قال الشاطبي ولكنّ سد ذرائع البدع اقتضى ترك هذا المستحب، ومالك من أشد الأئمة

تشديدًا في ذلك. ومما نقله عنه الشاطبي وغيره قوله: (مَن أحدث في هذه الأمة شيئًا

لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله

يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا. اهـ[7] ، وقوله عندما

سئل عن القراءة في المساجد: (لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أُحدث،

ولم يأتِ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن) . اهـ[8] .

وجملة القول: إن خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو وجعْل ذلك

عملاً واحدًا عن باعث ديني - هو الذي يجعل مجموع تلك الأعمال من قبيل

الشعائر الدينية ويوهم العوام أن تلك العادات - وكذا العبادات المبتدعة في هيئتها

وتوقيتها وعددها - من أمور الدين المشروعة بهذه الصفة ندبًا أو وجوبًا، كما قال

الفقيه ابن حجر في مسألة القيام عند ذكر ولادته عليه أفضل الصلاة والسلام وما

يكون فيه من الصلاة المخصوصة كما قلنا.

وأما قراءة قصة المولد فهي عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة

النبوية كما قال السيوطي، ولكن كثيرًا من الناس كتبوا (موالد) حشوها بالأحاديث

الموضوعة والمنكرة وفي بعضها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق

كالتغزُّل بجماله. وكنت منذ سنين أتمنى لو يوجد بين أيدي الناس رسائل في هذا

الموضوع يتحرى فيها الصحيح المفيد، عسى أن يستبدل بها بعض ذلك الضار

السيئ التأثير، بيد أنني كنت أتحامى أن أكتب في ذلك شيئًا باسم المولد؛ لئلا

أكون محدِثًا أو مساعِدًا أو مقرًّا لما لم يفعله السلف الصالح.

ثم كان أن دعاني في غرة ربيع الأول من عام 1334 شيخ مشايخ طرق

الصوفية بمصر السيد عبد الحميد البكري [9] إلى مأدبة أعدها في داره وسماع قصة

المولد بعدها، فأجبت الدعوة، وتوسلت بها إلى تنفيذ تلك الفكرة؛ إذ كنت علمت

من أحاديث جرت بيني وبينه أنه من محبي الإصلاح للطرق الصوفية وغيرها،

وهنالك كلّمته في قصص الموالد المشهورة ووجوب تغييرها، فاستحسن ذلك، فقلت

له: أرأيت إذا كتبتُ شيئًا في هذا الموضوع أتستبدل به ما يُقرأ عندك في الاحتفال

الرسمي وغيره؟ ، قال: نعم، فانتهزت هذه الفرصة لبيان الحق في هذه المسألة

شكلاً وموضوعًا، ثم شرعت في كتابة شيء من ذلك في ساعات المساء من النهار،

فأتممته في بضعة أيام متفرقة، لم تتم أسبوعًا، وكتبت أكثره في دار البكري،

وكنت أُطْلعه على ما أكتب، فيُسرّ به، ولكنه جاء طويلاً لا يمكن أن يُقرأ في

الحفلة الرسمية كله، فاختصرنا منه نسخة قُرئت من الحفلة الرسمية، فكانت

موضع إعجاب أهل الفهم والذكاء من الوزراء والكبراء وغيرهم من أهل الروية.

ثم اطلع على ما كتبت كله بعض أهل العلم ومحبي الإصلاح فرغبوا إليَّ في

طبعه ونشره، ورأوا أنه من أحسن ما يُنشر في هذا العصر لبيان حقيقة دعوة

الإسلام وكليات الدين وخلاصة السيرة النبوية، فشرعت في طبعه وزدت فيه عند

الطبع حديث البعثة وقصة الهجرة وما تلاها من الخاتمة ومسائل أخرى في أثناء

الكلام. طبعته في المنار ثم جردته منه، وطبعته على حِدَتِه، وحذفت مما طبع في

المنار جملة وجيزة اقتبستها من (رسالة التوحيد) ، وزدت مسائل أخرى قليلة.

فكان فوق ما كنت أقدر وأتوخى في هذا المقام، الذي اعتيد فيه الاختصار، فجاء

كتابًا وجيزًا حاويًا لخلاصة الحقائق المتفرقة في أسفار التاريخ والسيرة النبوية،

وكتب التفسير والحديث والعقائد الإسلامية، مبينًا لِكُنْه الإسلام وحقيقته، وكليات

أحكامه وحكمته، بعبارة يسهل على الناس فهمها، ويتيسر لمريد الحفظ حفظها،

وحروف مضبوطة بالحركات، وأسجاع غير متكلفات، فهو جدير بأن يُقرأ في

البيوت وفي المحافل، وبأن يُلقَّن لطلاب العلوم الدينية والدنيوية في المدارس، وإذا

اكتفى سامعوه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره فُرادى ولم

يرفعوا أصواتهم بصيغة مخصوصة في أوقات معينة - لا يكون في قراءتهم ولا

سماعهم له شبهة على الابتداع الحقيقي ولا الإضافي.

طريقة اختصاره في القراءة:

هذا، وإن لمَن يقرؤه على الناس في وقت ضيق أن يختصر منه بعض

الفصول كفصل الهجرة بطوله من منتصف الصفحة 30 إلى فصل أخلاقه وسيرته

صلى الله عليه وسلم في الصفحة 36، ويمكن ترك هذا الفصل أيضًا إلى الخاتمة

في الصفحة 41، وإذا كان المقروء عليهم من العوام فللقارئ أن يحذف مما يقرأ لهم

بحث اصطفاء الله لقومه وقبيلته وآل بيته صلى الله عليه وسلم من أول الصفحة 4

إلى نهاية الصفحة 10؛ لأن هذا البحث لا يفهمه حق الفهم إلا الخواصُّ من أهل

العلم، ومازال كثير من الناس يستشكل ما ورد في الحديث الصحيح من اصطفاء

الله تعالى كنانة وقريشًا وبني هاشم، وحكمة جعل دين العلم والمدنية على لسان

نبي أمي بُعث في أمة أمية، ولم أَرَ أحدًا سبقني إلى بيان مزايا العرب التي أعدهم

الله بها لهذه المنقبة العظيمة، ولله الحمد والمنة، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ

الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي

تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} (الأحقاف: 15) ، وصلى الله على سيدنا محمد

خاتم النبيين، وآله وصحبه ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.

وكتب هذا في 5 رمضان سنة 1335.

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(1)

إربِل بوزن إثمد، وضبط في المتن بفتح الباء غلطًا.

(2)

هي الليلة التاسعة من ربيع الأول على المختار عند المحدثين، أو ليلة 12 منه على المشهور عند الجمهور، وكان مظفر الدين يراعي الخلاف، فيجعلها ليلة تسع في سنة، وليلة 12 في أخرى.

(3)

ص34 من الجزء الأول.

(4)

ص 60 الفتاوى الحديثية له.

(5)

ص269، ج2.

(6)

ص276، ج2 من الاعتصام.

(7)

ص149 و150، ج2.

(8)

ص168، ج2 من الاعتصام.

(9)

بيت البكري من أشهر بيوتات مصر، ينتسبون إلى الصديق رضي الله عنه، ويلقبهم الجمهور بقلب السيد كالعلويين.

ص: 23

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استدراك على الحواشي

شاعر الأنصار - صاحب الأبيات المذكور بعضها في قصة الهجرة - هو أبو

قيس صرمة بن أبي أنس قد ترهّب، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وهمَّ

بالنصرانية، فلما جاء الإسلام أسلم وهو شيخ كبير، وله شعر كثير، وعاش نحوًا من

120.

_________

ص: 32

الكاتب: محمد رشيد رضا

ّ‌

‌المسألة العربية

مقالة للتاريخ

الإسلام والجنسية العربية. إبراهيم الخليل عربي. الأُخوَّتان الدينية

والجنسية. اتفاق الإسلام والجنسية العربية. مصلحة المسلمين وغيرهم من العرب

في تجديد الدولة العربية واحدة. مصلحة المسلمين الأعاجم ورأيهم في ذلك.

استقلال لبنان لم يكن عقبة في طلب العرب للاستقلال. لم ينهض العرب للاستقلال

في عهد عبد الحميد. اتهام الخديو والإنكليز بالميل إلى استقلال العرب. حال

أمراء الجزيرة وزيدية اليمن وزعماء الولايات العربية في ذلك. الخلافة عند أهل

الزيدية وأهل السنة. السبب الحقيقي لسكون العرب وسكوتهم هو الإسلام وأوربة.

إزالة الإسلام للعصبية الجنسية. إجماع العرب على المحافظة على الدولة ويأسهم

منها. استقلال الحجاز. اتفاق الحلفاء على استقلال الشعوب، أو تفويض أمر

حكمها إليها.

إنني عربي مسلم أو مسلم عربي؛ فأنا قُرشي عَلوي، من ذرية محمد النبي

العربي، الذي ينتهي نسبه الشريف إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام،

وملته الحنيفية هي ملة جده إبراهيم، أساسها التوحيد الخالص، وإسلام الوجه لله

تعالى وحده، {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) ،

اقرأ الآيات إلى قوله: {

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133) ، فإسلامي

مقارن في التاريخ لعربيتي، وإن من الناس مَن هو أقدم نسبًا في الإسلام، ومَن هو

أقدم نسبًا في العربية، وهم مَن عدا الإسماعيليين من متقدمي العرب ومتأخريهم.

وأما الإسماعيليون منهم فتاريخ عربيتهم وإسلامهم واحد؛ إذ كان أول أب لهم

في العرب مسلمًا، وقد يقال: إن إسلامهم أقدم إذا كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم غير

معدود من العرب على ما هو المشهور في كتب التاريخ من أن أول العرب

المستعربة إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وكأنهم عدّوه كذلك؛ لأنه وُلد في بلاد

العرب، ونشأ فيهم فلم يكن له لسان غير اللسان العربي. ولكن التاريخ يثبت لنا

أن أباه إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يتكلم باللغة العربية، كما يؤخذ من التاريخ

العربي والتاريخ المستنبَط من الآثار القديمة، أما مأخذ ذلك من التاريخ العربي فهو

أنه أقام في بلاد العرب زمنًا، أقام فيه الدين وبنى البيت العتيق الذي هو أقدم بيت

وُضع لعبادة الله وحده في الأرض، فمن البديهي أنه كان يعلِّمهم الدين بلسانهم،

ويخاطبهم به، وأما مأخذ ذلك من الآثار القديمة المكتشفة في هذا العصر موضحة

للتاريخ القديم، فهي أن علماء الآثار بينوا لنا أن مدينة الكلدان كانت عربية،وأن

حمورابي الذي كان ملكهم وصاحب شريعتهم في عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم

كان عربيًّا، وقد اكتشفت شريعته في بلاد العراق منقوشة على عمود من

الحجر الأصم، فكانت باللغة العربية لذلك الزمان. وقد جاء في سفر التكوين - أول

أسفار العهد القديم عند أهل الكتاب - أن حمورابي هذا كان في زمن إبراهيم، وأنه

كان يُدعى ملك السلام وكاهن الله العلي، وأنه بارك إبراهيم، وأن إبراهيم أعطاه

عشرًا من كل شيء (راجع: تك 14: 18) .

قلت: إنني عربي مسلم. فأنا أخ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من

العرب وغير العرب، وأخ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير

المسلمين. أما دليل الأخوة الدينية فقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وأما دليل الأخوة الجنسية فالآيات المتعددة في سورة

الأعراف والشعراء المصرحة بكون الأنبياء المرسلين إخوة لأقوامهم

المشركين. ولما كان شعيب عليه السلام قد أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى

أصحاب الأيكة من غير قومه - اختلف التعبير عنه، فقد قال تعالى في سورة

الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85)، أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب شعيبًا

إلخ.

وقال في سورة الشعراء {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا

تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 176-178) ولم يقل أخوهم شعيب،

كما قال في عاد {أَخُوهُمْ هُود} (الشعراء: 124) وفي ثمود {أَخُوهُمْ

صَالِحٌ} (الشعراء: 142) - مثلاً - لأنه لم يكن من جنسهم.

وإنني أحمد الله عز وجل أن جعل مصلحة العرب السياسية في عصرنا

موافقة لمصلحة المسلمين السياسية، كما أبينه في هذه المقالة، ولو تعارضتا لقدمت

ما يوجبه عليَّ ديني، على ما تقتضيه مصلحة أبناء جنسي؛ لأنني أرجو بديني

سعادة الدنيا والآخرة، وأنا موقن بذلك، ولا أرجو بخدمة جنسي وحده إلا الدنيا

وحدها، وما أنا على يقين من إدراكها، على أنني راضٍ بما آتاني الله منها، أما

وقد اتحدتا فخدمة جنسي خدمة لديني، ينفعني في الآخرة إن لم ينفعني في الدنيا،

وأنا مؤمن بهذا، وإن كان يخفى على كثير من إخواني المسلمين.

* * *

(مصلحة العرب والمسلمين في الدولة العربية)

إنما مصلحة العرب السياسية أن يكون لهم دولة مستقلة، وهذا أمر بديهي لا

يختلف فيه عاقلان، فالعرب أمة من أقدم أمم الأرض وأعرقها في الاستقلال، ذات

مجد عظيم، ومدنية عالية في التاريخ القديم والحديث، ولغة ممتازة في لغات العلم

والأدب، وشريعة هي أعدل الشرائع المنزلة للبشر، وقد ضعفت هذه الأمة الكريمة،

وضعفت مزاياها ولغتها، وأُهمل معظم شريعتها، وكادت تفنى بفنائها، كل ذلك

لعدم وجود دولة مستقلة لها؛ إذ يستحيل أن ترتقي أمة بغير دولة.

إن السواد الأعظم من العرب يَدينون دين الإسلام واللغة العربية هي لغة هذا

الدين، فلا تصح لمسلم عبادة بغير هذه اللغة، فبالدولة العربية تحيا لغة القرآن،

وتحيا بحياتها شريعة الإسلام. فمن البديهي إذًا أن يكون الخير كل الخير للمسلمين

في هذه الدولة إذا وُجدت، وإن عقلاء المسلمين من غير العرب يعلمون هذا،

ولكنهم يرونه الآن متعذرًا أو متعسرًا، ويخشون كما كان يخشى مسلمو العرب أن

يكون السعي له مفضيًا إلى إضعاف الدولة العثمانية التي لم يبق للمسلمين دولة

غيرها، فيكون مثل الساعين كمثل مَن له دار تكنه، فهدمها ليبني خيرًا منها،

فعجز عن البناء وأمسى في العراء معرضًا لما يجني على حياته! ، ولكن جمعية

الأغرار المغرورين (جمعية الاتحاد والترقي) ما زالت تهدم من آمال العرب في

بقاء الدولة، وفي كون بقائها خيرًا للإسلام والمسلمين، حتى دعتهم بل دعَّتهم [1]

إلى طلب الإصلاح في الجملة، ثم إلى طلب اللامركزية، ثم إلى استقلال الحجاز،

ولا يعلم غير الله ما تكون عاقبة ذلك؛ لأن العالم كله في طور تغيُّر وانقلاب

مجهول، ولكن المعلوم قطعًا أن ما حصل في بلاد العرب هو نتيجة طبيعية لسيرة

الاتحاديين، لم يكن في استطاعة أحد دفعه كما يعلم مما يأتي.

وأما غير المسلمين من العرب فهم الآن كالمسلمين ليس لهم دولة؛ ولأن

يكون لأبناء جنسهم دولة خير لهم من أن يكونوا تابعين لدولة أعجمية، لا

يشاركونها في النسب ولا في اللغة ولا في العادات والتقاليد ولا في الوطن

الجغرافي [2] ولا في الدين، ولا لدولة أعجمية، يشاركها بعضهم في الدين والمذهب

أو في الدين دون المذهب دون سائر مقومات الأمم ومشخصاتها، وهم يعلمون أن

الدين أو المذهب لا يحملها على جعْلهم مساوين لأبناء جنسها ووطنها، وإن كانوا

من غير أبناء دينها ومذهبها، ولا يضرهم أن تكون العربية في هذه الدولة الأغلبية

للمسلمين من أبناء جنسهم، فإن أفراد البشر وجمعياتهم يتآلفون ويتعاونون على

مصالحهم بكثرة ما يشتركون فيه من مقومات الأمم ومشخصاتها، وما يشترك فيه

المسلمون وغيرهم من العرب من المقومات والمشخصات كاللغة والعادات والآداب

والمصالح والمرافق الوطنية أكثر مما يشترك فيه غير المسلمين من العرب مع

الإفرنج الموافقين لهم في الدين، بله الترك المخالفين لهم حتى في الدين، ودين

الإسلام دين مساواة في الحقوق وحرية تامة في العقائد. وقد ارتقى غير المسلمين في

أرقى دول العرب الإسلامية مدنية إلى أعلى المناصب، حتى كان وزراؤهم

وأطباؤهم يزاحمون الخلفاء العباسيين بالمناكب، وإذا كان لغير المسلمين أغلبية في

بقعة من البلاد العربية كجبل لبنان - فإنه يمكنهم أن يكونوا مستقلين مع ارتباطهم

واتحادهم بالمملكة العربية فيها استقلالاً إداريًّا واسعًا خيرًا من الاستقلال الذي نالوه

منذ نصف قرن.

لو نهض زعماء العرب إلى السعي للاستقلال لما تعذر عليهم إرضاء

اللبنانيين منهم بذلك، وإزالة جميع ما في البلاد من أسباب الخلاف. ولو تعذر

عليهم إرضاء اللبنانيين في أوائل العهد بالسعي لَما كان ذلك موجبًا لتركه واليأس

منه. ولا أطيل في بيان هذا وكشف غواشي الأوهام عنه؛ لأنه يخرج بي عن

المقصد من هذا المقال، وأكتفي منه بتذكير الملمّ بتاريخ سورية الحديث بتلك

الحركة العربية التي حدثت في سورية أيام كان مدحت باشا زعيم الترك الأكبر واليًا

عليها؛ فإنهم يتذكرون أن اللبنانيين كانوا في طليعة العاملين، وبرهاننا على هذا

قصيدتا اليازجي البائية والسينية.

لأجل هذا كان سكون العرب العثمانيين وسكوتهم في الأجيال الأخيرة - التي

تحركت فيها عصبيات الأجناس وهبت لطلب الاستقلال - مثارًا لعجب مَن لم

يعرف سبب ذلك السكون من العقلاء.

* * *

(اتهام الترك للعرب)

كان الترك يتهمون العرب بالميل إلى الاستقلال دونهم والسعي لذلك، وأنه لا

يمنعهم منه إلا ضعفهم وعجزهم أمام قوة الترك. وقد ذكرت في مقالات (العرب

والترك) التي كتبتها في الآستانة ونشرتها في جرائدها ثم في المنار أنني لا أعرف

لهذه التهمة أصلاً إلا ما كان من افتراء جواسيس السلطان عبد الحميد وطلاب

المنافع عنده أو استغلال أوهامه، بل أقول: إن هذه التهمة لم تكن معقولة في عهد

السلطان عبد الحميد؛ لأن النهوض بأمر الاستقلال إما أن يكون من جانب الأمة بما

تتوسل به إليه من الجمعيات السياسية والعصابات المسلحة، ولم تتصدَّ الأمة

العربية لذلك ألبتة، وإما أن يكون من جانب الأمراء المستقلين بالإدارة في بعض

الأقطار أو من دونهم من الزعماء أصحاب العصبية، ولم نعلم أن أحدًا من أمراء

جزيرة العرب أو من الزعماء في الولايات العربية العثمانية - كان مظنة أو موضعًا

لهذه التهمة؛ إذ لا توجد شبهة يُعتمد عليها في ذلك. إلا أن المفسدين كانوا يتهمون

خديو مصر عباس حلمي باشا بذلك، فكان يُسمع لهم؛ لأن مصر بلاد عربية غنية

بالمال والرجال، وقد تصدى رأس حكومتها الأخيرة محمد علي باشا لحرب الدولة

العثمانية، فقهرها واستولى على سورية والحجاز وتوغل في الأناضول ولولا الدولة

الإنكليزية لاستولى على سائر مملكتها، ولكن عباس حلمي باشا لم يكن ليطمع بمثل

ما طمع به جده الأعلى، بل ولا بمثل ما كان يطمع به جده الأدنى (إسماعيل باشا)

من الاستقلال السياسي بمصر والسودان فقط لمكان الاحتلال الإنكليزي، الذي

جعل السلطة الفعلية في مصر بيد إنكلترة دونه؛ ولهذا كان الموسوسون والجواسيس

يزعمون أنه على اتفاق مع الإنكليز في هذا الأمر، وكان كثير من المصريين

وغيرهم يصدق ذلك، ومنهم من لم يرجع عن هذا التصديق إلا بعد نشر كتاب

(عباس حلمي الثاني) للورد كرومر؛ إذ صرح فيه بأن حياة عباس مع الاحتلال

كانت حياة خلاف وشقاق لا يُرجى معه اتفاق.

إن المطلعين على الحقائق يعلمون علم اليقين أن عباس حلمي باشا ما كان

يسعى لهذا الأمر ولا يرجوه، على أنه كان يعلم أنه لا سبيل له إليه لو تصدى له،

ويعلمون أن من سياسة إنكلترة التقليدية بقاء ما للترك من السلطان والسيادة على

بلاد العرب، وترجيح ذلك على تأسيس دولة عربية جديدة، وهي لم تجنح إلى

سياسة العطف على العرب وإظهار الميل لمساعدتهم على الاستقلال إلا بعد وقوع

الحرب بينها وبين الترك بمدة طويلة.

أما أمراء جزيرة العرب فقد كان كل منهم راضيًا بحاله ولم يكن يخطر ببال

أحد منهم أن يعتدي على الدولة فيما وراء حدود إمارته ولا أن يسعى لذلك بالاتحاد

مع غيره، كما أنه لم يكن يسهل على أحد منهم أن تعتدي الدولة على استقلاله أو

تُحْدث في بلاده حدثًا ما لِما استقر في أنفسهم من غريزة الاستقلال الموروثة في

الأمة العربية، مع عدم ثقة أحد منهم بأن الدولة تقيم شرع الله في بلادهم، على أن

للزيدية دولة أقدم من الدولة العثمانية مازالت تُنَصِّب الأئمة من قريش عليها

ويعتقدون أن الترك من البغاة الخوارج على الإمام الحق، وأهون اعتقاد سائر

عرب الجزيرة في حكام الترك - أنهم ظلمة فسقة مبغضون للعرب، ولكنهم مع ذلك

يحبون بقاء الدولة ويتمنون لها القوة والعظمة لأجل صد الإفرنج عن البلاد

الإسلامية. وقد كان رجال الدولة في العهد الأخير يعتقدون أن الشيخ مبارك الصباح

من أشد العرب عداوة للدولة، ولكنني لما لقيته سنة 1330 منصرفي من الهند

أخبرني بما لقيه من عدوان الدولة عليه، وتصديقها لنفيه من الكويت، وأن إنكلترة

منعتها من ذلك بدون طلب منه، وأنه مع ذلك محافظ على نسبته إليها ورافع لعلمها

باختياره، ولو شاء لاستبدل به غيره، ومن كلامه في الترك والعرب: (نحبهم ولا

يحبوننا) .

وأما كبراء العرب في ولايات سورية والعراق من العلماء والوجهاء فقد

كانوا أشد تعصبًا للترك من الترك أنفسهم، حتى كانوا يفضلونهم على العرب

ويسترون ما يعرفون من سيئاتهم، ويكبّرون الصغير من حسناتهم، بل يذكرون لهم

فضائل ومناقب لا يُعرف لها أصل، منها أنهم يعدون بعض ملوكهم من الأولياء،

ومؤرخو الترك يعدونهم من الفساق! . ومما كانوا يذيعونه بين العامة أن الشيخ

محيي الدين بن العربي والشيخ عبد الغني النابلسي قد علما بالكشف أن ملكهم

يبقى إلى قيام الساعة!

تلك حال كبراء البلاد وخاصتها والعامة تبع لهم، لم يُسمع لأحد منهم نبأة

ظاهرة ولا دعوة خفية إلى عداوة الترك أو القيام عليهم أو الاستعداد لتأسيس حكومة

عربية تستقل في البلاد، اللهم إلا ما كان قد قيل من أن شيعة الماسون كانت تسعى

لجعل الأمير عبد القادر خديويًا لسورية، وما قيل في عهد ولاية مدحت باشا على

سورية من أنه كان هو الذي يسعى لجمع كلمة المسلمين وغيرهم للاتفاق على

تأسيس إمارة عربية في سورية كالإمارة المصرية يكون هو الخديو عليها، ومن أن

رستم باشا متصرف لبنان الأجنبي الأصل كان هو الذي كشف للدولة دسيسة شيخ

أحرار الترك وزعيمهم الأكبر، وترتب على ذلك إخراج السلطان عبد الحميد

لمدحت باشا من سورية، وقيل إن تلك الحركة كانت مدبرة بدسائس الآستانة

ليتوسل السلطان بها إلى نفي مدحت باشا، ثم الفتك به. وفي تلك الأثناء نُشرت

قصيدتا الشيخ إبراهيم اليازجي السينية والبائية (راجع ص831، م12) .

ولما كنت أنشر في الآستانة مقالات (العرب والترك) وأشرت فيها إلى هذه

المسألة جرى بيني وبين الصدر الأعظم حسين حلمي باشا حديث في هذا الموضوع،

قال لي في أثنائه: إنه أقام في سورية عدة سنين أيقن في أثنائها بأنه لا يوجد فيها

أحد من وجهاء المسلمين يكره الدولة إلا بعض الأفراد من بيت المؤيد ومن بيت

الصلح، وسائر الوجهاء مخلصون للدولة كغيرهم. ولا أدري مَن عنى بقوله ذاك.

ولم أعلم عن أحد من المعاصرين لنا من أهل هذين البيتين شيئًا يبين المراد لنا من

قوله، إلا أن أحد أفراد البيت الأول كان قد جاء مصر في أوائل عهد مجيئي إليها،

وأسس جمعية دينية يشترط في أعضائها ترك المحرمات والمحافظة على أداء

الفرائض وقد ساعدته على ذلك ولم أكن أسمع منه كلمة تُشعر بأن له غرضًا سياسيًّا

منها وقد أفادت الجمعية فائدة دينية ظاهرة، ثم انشق عنها عضو مصري تركي

الأصل زاعمًا أن للمؤسس غرضًا سياسيًّا منها، وتبعه على هذا جماعة من

أعضائها في القاهرة صاروا يلغطون بذلك. ثم إن المؤسس سافر إلى الآستانة ثم

عاد إلى سورية وأقام فيها. ولو صدّق السلطانُ عبد الحميد أنه كان يسعى إلى ذلك

الغرض السياسي لما أفلت من قبضة انتقامه. وإنما اتهمه بعض الناس بأنه تعمد

إلقاء كلام لأولئك اللاغطين ليشتهر ويوصله الجواسيس إلى السلطان.

هذا كل ما نعلم عن سورية في هذا الأمر. وأما العراق فقد قيل: إن السيد

سلمان القادري نقيب بغداد كان يسعى إلى تأسيس حكومة عربية، وإن طلب السلطان

عبد الحميد في الآستانة قتلاً بالسم كعادة الملوك لم يطعم في القصر السلطاني ولا عند

أحد في الآستانة شربة ماء ولا فنجان قوة ولا غير ذلك، وكان يعتذر بأنه مريض لا

يذوق شيئًا إلا بأمر طبيبه الخاص، ولكن اشتهر أن السلطان أكرم مثواه وقلده نوطًا

ذهبيًا كتب عليه (شيخنا سلمان) وأعاده إلى بغداد عزيزًا كريمًا، ومما

كان يقال في ذلك الوقت أن للسيد سلمان أعداء، سعوا به إلى السلطان؛ وسمعت

والدي رحمه الله تعالى يقول: كان السيد سلمان ذا نفوذ عظيم في قبائل العراق وكان

يوجد مئة ألف مسلح بالمرتين منهم طوع أمره، وأنه بلغه أن سبب نجاته من

فتك السلطان عبد الحميد أن بعض العقلاء من كبراء الآستانة قالوا أن من مصلحة

المسلمين أن يدخر مثل هذا الزعيم لأنه قد يحتاج إليه إذا طرأ على الدولة ما تخشى

عاقبته على بلاد العراق أو ما هو أعظم من ذلك، فلهذه الفكرة أقنعوا السلطان

بوجوب تكريمه (أو تلطيفه كما يقولون) وإعادته إلى بلاده. ولا أدري من أين

وصل إلى والدي هذا الخبر وكنت إذ سمعته منه صغيرًا لا أحفل بالبحث عن أمثال

هذه المسائل.

* * *

(تعاون جمعيات الترك والعرب)

هذا ما يصح أن يذكر من تاريخ هذه المسألة ولا نعلم وراءه شيئًا إلا ما كان

يكتبه في بعض الجرائد والمنشورات، من يقصدون استغلال وسوسة السلطان عبد

الحميد كما تقدم. ولكن أهل الرأي وحملة الأقلام من العرب لم يقصروا في التعاون

مع أمثالهم من الترك على السعي لإصلاح حال الدولة والقضاء على الاستبداد

الحميدي، فلما أسس شبان الترك جمعية الاتحاد والترقي ونشروها في الولايات

دخل فيها كثيرون من شبان العرب وكانت شعبها في سورية أعظم منها في غيرها،

وأسس بعض العرب جمعية أخرى كجمعية الاتحاد بعد ضعف شأن هذه في مصر

وسورية وهي جمعية الشورى العثمانية وأدخلوا في لجنتها المركزية أشهر رجال

الاتحاديين الذين كانوا في مصر وغيرهم من العثمانيين. فكان هَمّ طلاب الإصلاح

من العرب في عهد عبد الحميد هو همّ طلاب الإصلاح من الترك وكانوا يشتغلون

متعاونين والمواصلات بين جمعياتهم لا تنقطع ولا سيما جمعية الاتحاد والترقي في

أوربة وجميعة الشورى العثمانية بمصر، ظلوا على ذلك إلى أن ظفروا بإعادة

الدستور فظن العرب كما ظن غيرهم من الأجناس الذين تتألف منهم المملكة

العثمانية أنهم فازوا بما جاهدوا في سبيله إلى أن قلب لهم المتغلبون على جمعية

الاتحاد - وعلى الدولة - ظَهْر المِجَن، وأوقعوهم في هوة اليأس من

الدولة.

* * *

(السبب الصحيح)

تبين مما شرحناه من الحقائق أن عدم تصدي العرب لإنشاء دولة جديدة لم

يكن سببه الخوف من قوة الدولة كما كان يتوهم الترك؛ فإن العرب أقوى من

اليونان والبلغار وغيرهما من الشعوب التي انفصلت من السلطنة العثمانية،

وصارت دولاً مستقلة، ولم يكن سببه تفرق العرب وتعذر اتفاق أمرائهم وزعمائهم

كما يتوهم الكثيرون منهم ومن غيرهم، فلو وجد هذا القصد لكان هو الجامع لهم،

ولا الجهل الضارب بجرانه في البلاد العربية؛ فإن محمد علي الكبير لما غزا

الدولة وكاد يفتحها كلها لم يكن من علماء السياسة والاجتماع، ولم يكن الشعب

المصري على درجة عالية من العلوم والفنون التي تدفع الشعوب إلى الفتح

والاستعمار.

وإنما كان السبب الصحيح لسكون العرب وسكوتهم عن طلب استقلالهم

وتجديد دولة لهم هو الإسلام وأوربة.

دين الإسلام وسياسة دول أوروبة سببان مستقلان أو سبب واحد مركب،

لكل من جزئيه تأثير خاص في صرف العرب العثمانيين عن السعي للاستقلال،

ولعله لو انفرد أي منهما لما صرفهم كلهم عن كل سعي واستعداد لذلك.

أما الإسلام فقد أزال من أنفس العرب عصبية الجنسية إلا مَن غلبت عليهم

البداوة فإنهم بما توارثوه من الغرائز والأخلاق - لا يخضعون إلا لسلطة رؤسائهم

الذين من أبناء جنسهم، بل من رؤساء عشائرهم. وأما من غلبت عليهم الحضارة

فما زالوا يألفون سلطة الأعاجم من الملوك والسلاطين الذين يتولون أمرهم من قِبَل

الخلفاء العباسيين، ويحكمون بشريعتهم، ويؤيدون لغتهم، ويتركون لغاتهم إليها،

إلى أن هان عليهم الخضوع لسلطة الأعاجم المصرّين على أعجميتهم، الذين لا

يستمدون سلطتهم من خليفة قرشي عربي وهم الترك، بل هان عليهم ادعاء هؤلاء

الأعاجم للخلافة النبوية ورضوا بذلك واطمأنوا له؛ لأنه مع إشرافه على مجموعهم

المتفرق من شاهق القوة العسكرية - قد أطل على قلوبهم من سماء الفتاوى الشرعية،

وتسرب إلى أفكارهم من باب المصلحة الإسلامية؛ ذلك بأن أكثرهم من المنتمين

إلى مذاهب علماء السنة، الذين يوجبون طاعة المتغلب بالقوة، وإن لم يكن حائزًا

لغير الإسلام من شروط الخلافة الشرعية، ومنها النسب القرشي بإجماعهم،

ومستندهم في ذلك رعاية المصلحة الراجحة، وخوف الفتنة. على أنهم مختلفون

في عدّ رعاية المصلحة حجة، أو داخلة فيما ذكروه للقياس من مسالك العلة،

ومختلفون في سد الذرائع أيضًا. ولما كانت الزيدية لا تقول بطاعة المتغلبين، ولا

بمصلحة تبيح ترك اشتراط النسب القرشي العلوي وشرط العلم الديني في أئمة

المسلمين (أي الخلفاء) لم يخضعوا لسلطان الترك، ولا دانوا لحكمهم، بل ظلوا

ينصّبون الأئمة الحائزين للشروط الشرعية في مذهبهم، ويقاتلون الترك الذين

يتصدون لفتح بلادهم، ولم تستطع الترك أن تغلب أئمة اليمن على أمرهم، بل

صالحوا إمامهم الإمام يحيى منذ سنين قليلة، وأقروه على إمامته في قومه ووطنه

بعد أن حاربوه، وحاربوا سلفه أربع مائة سنة، على أن الإمامة لا تتجزأ ولا تتعدد

والحق أن الباعث الأخير لاعتراف أكثر المسلمين بخلافة سلاطين الترك - هو

كوْنهم أمسوا حصنًا لبقية البلاد الإسلامية في وجه أوربة.

وليس من غرضنا هنا أن نبحث في الخلافة وشروطها، وإنما بحْثنا هذا

تاريخي إذا ذكرت فيه مسألة شرعية، فإنما تُذكر على سبيل الاستطراد مختصرة

بقدر الضرورة، ولم تكن مسألة الخلافة من مواضع بحث طلاب الإصلاح من

العرب في السنين الأخيرة خلافًا لأوهام الواهمين التي أثارها في مخيلاتهم لغط

بعض الكُتاب بها في عهد السلطان عبد الحميد لأجل استغلال وساوسه كما تقدم،

حتى صارت حكومته تمنع نشر كل كتاب من كتب الكلام والعقائد والحديث

والتفسير تذكر فيه هذه المسألة. ومن أثر ذلك أنه لما طبع كتاب المسايرة لكمال بن

الهمام، وهو من أهم كتب العقائد عند الحنفية وكثير الرواج في الآستانة، اضطر

طابعه بمصر أن يطبع منه نسخًا، حذف منها بحث الإمامة (الخلافة) لأجل بيعها

في الآستانة وسائر البلاد العثمانية. وصار بعض الجاهلين في مصر يظن أن ذكر

الشروط الشرعية للخلافة - ولا سيما شرط النسب القرشي - لا يصدر إلا من عدو

للدولة وللإسلام أيضًا. على أن هذا الشرط مذكور في الكتب العربية والتركية التي

طُبعت في الآستانة قبل تشديد الحكومة الحميدية في مراقبة المطبوعات وقد ذكر في

بعض الكتب العصرية التي طبعت بعد الدستور، ومنها كتاب لإسماعيل حقي بك

بابان الاتحادي الذي كان مدرسًا في مكتب الحقوق، وصار ناظرًا للمعارف.

* * *

(تكوين الترك للعصبية العربية)

فهذا وجه صدّ الإسلام للعرب عن محاولة الاستقلال دون الترك، وقد قلت

مرارًا: إنه لا يقدر أحد على إعادة هذه العصبية إلى العرب أو إعادتهم إليها بعد أن

أبعدهم الإسلام عنها - إلا الآستانة، أو تحامل الترك عليهم بباعث العصبية

التركية [3] . وقد صدق الزمان هذا القول وأسس الاتحاديون - بعصبيتهم التركية

واضطهادهم للعرب - بناء العصبية العربية أو أحيوها بعد موتها. فإن هؤلاء

الاتحاديين قد تمرسوا برجالات العرب وشبانهم في الآستانة وغيرها، فعلموا من

أقوالهم وأفعالهم في دُور الحكومة الرسمية ومدارسها وأندية الجمعية في البلاد

العربية أن عزمهم على تتريك العرب كغيرهم بالقوة عزم ثابت لا يرجعون عنه،

وأنهم جازمون بسهولة تتريك بلاد سورية والعراق في سنين معدودة، وما يعسر

تتريكه الآن من جزيرة العرب يعد من المستعمرات، يوضع له قانون خاص

لإدارته، ولا يكون لأهله ما لسائر العثمانيين من الحقوق المنصوصة في القانون

الأساسي. وقد أرسلوا طائفة من طلبة الترك إلى أوربة لأجل درس قوانين

الاستعمار.

بهذا علم نبهاء العرب أن أمتهم ولغتهم عرضة للزوال من المملكة العثمانية -

ولا يجهل أحد أن الدين الإسلامي يقوى بقوة لغته العربية ويضعف بضعفها ولا

نقول أكثر من ذلك - فتوجهت قلوب كثير منهم لتدارك الخطب وألفوا بعض

الجمعيات لذلك ورأى الذين يتحرون هدي الإسلام في أعمالهم أن ما كان مانعًا من

إحياء الجنسية العربية قد زال وخلفه المقتضي لإحيائها، فقد كان المانع من ذلك

اتقاء الشقاق بين العرب والترك وإفضاء ذلك إلى زوال الدولة واستيلاء الأجانب

على بلادها، وقد وقع ذلك من قِبَل الاتحاديين أي من قبل الدولة نفسها؛ لأنها في

قبضتهم فلا معنى لاتقائه وقد حصل، وخلفه المقتضي لإحياء هذه الجنسية، وهو

وجوب المحافظة على اللغة العربية والأمة العربية شرعًا. ولكن هذا قد يحصل بما

دون استقلال العرب بأنفسهم دون الترك، وإن كان حصولاً ضعيفًا، فلم يكن باعثًا

على السعي إلى تأليف دولة عربية بل إلى طلب إصلاح اضطرب في تحديده

أفرادُهم وجماعاتهم وكان حزب اللامركزية أقصدها وأشدها اعتدالاً.

وما كان يخفى على أحد من هؤلاء أن مطالبهم معلقة بين الرجاء واليأس،

وأن الحياة إنما هي حياة الاستقلال، لا تحيا اللغة ولا ترتقي الأمم بدونها، ولكن

دونها خَرْط القتاد؛ إذ لا تحصل إلا بثورة يصطدم بها الترك والعرب اصطدامًا

يُخشى أن يُضعف الفريقين، وينتهي بزوال الدولة واقتسام أوربة لبلادهما. ومن ذا

الذي يُقدم على حمل هذه التبعة الثقيلة التي تئطُّ من حملها الجبال الرواسي؟

أيجهل أحد من طلاب الإصلاح العرب أن هدم آخر سلطنة إسلامية - مهما يكن

سببه الحامل عليه - لا يعقب الساعي إليه والقائم به إلا لعْن مئات الملايين من

المسلمين إلى يوم الدين؟

لهذا أجمع طلاب الإصلاح من العرب الذين يعتد برأيهم، ويرجى تأثير

عملهم - على أن لا يكونوا سببًا لسقوط الدولة وزوالها. ولا يسعوا إلى ضررها

ولا إلى إضعافها، وعلى أن يجعلوا همّهم في إصلاح أنفسهم وعمارة بلادهم، مع

النصح للدولة والإخلاص لها، وطلب حقوقهم التي أثبتها لهم القانون الأساسي فيها،

ليرتقوا ويعتزوا بأنفسهم، فلا يسقطوا مع الدولة إن سقطت وتعتز الدولة وترتقي

بارتقائهم إن بقيت، وأن يكون جلّ سعيهم إلى ذلك في مجلس الأمة بواسطة

مبعوثهم.

ثم طرأ على بعضهم اليأس من بقاء الدولة وقوي ذلك وكثر التفكر في عواقبه

عندما غلب البلقانيون الدولة في الحرب، وكادت دولة البلغار التي تم لها استقلالها

في عهد الدستور تستولي على الآستانة، وتحدثت جرائد أوربة بحقوق بعض الدول

الكبرى في بلاد الدولة وخص بالذكر بعض الولايات العربية، وطفق المفكرون

يناجي بعضهم بعضًا: ما حيلتنا إذا أقدمت دولة قوية على الاستيلاء على بلادنا،

كما استولت إيطالية على طرابلس وبرقة وليس فيها شيء من أسباب الدفاع ولا

يمكن الدولة ولا مصر أن تساعدها على مقاومة كما ساعدتهما.

صدعهم هذا اليأس بعد أن قوي رجاؤهم في الدولة بانتصار حزب الحرية

والائتلاف على حزب الاتحاد والترقي وانتزاعه السلطةَ التنفيذيةَ من يده، ثم قوي

ذلك اليأس واشتد بثورة الاتحاديين على وزارة كامل باشا وقتلهم لناظر الحربية في

الباب العالي وتأليف وزارة جديدة منهم بقوة الثورة، ولولا أن زعماء العرب كانوا

مجمعين على المحافظة على الدولة مهما تكن حالها - لبادروا عند ذلك اليأس الشديد

إلى إضرام تار الثورة على الدولة والجهر بالاستقلال دونها، لعلمهم بأنه لم يبق

عندها في ذلك الوقت سلاح ولا ذخيرة تدافع بهما عن عاصمتها، فكيف تقدر على

تجريد عسكر يخمد نيران الثورة في البلاد البعيدة عنها؟ ! ، ولكنهم لم يفعلوا، ولم

يكن الإسلام هو المانع لهم من التصدي لتأسيس دولة عربية وهم يائسون من بقاء

الدولة التركية ومن إقامتها للإسلام إن بقيت والاتحاديون غالبون على أمرها، فإن

إفتاء مذاهبهم بوجوب طاعة المتغلب خوف الفتنة التي ترجح مفسدتها على

المصلحة لم يعد ينطبق على حالتهم مع الدولة، ولكن المانع الحقيقي هو الخوف من

أوربة أن تغتنم الفرصة وتستولي على البلاد.

فتبين بهذا أن ما كان يصد زعماء العرب من المسلمين عن التصدي لتأسيس

دولة عربية أمران: الإسلام والخوف من أوربة، وكان الرجحان في بعض

الأحوال للأول وفي بعضها للثاني، ولكنهما كانا في عامة الأحوال والأوقات مانعًا

واحدًا أو سببًا واحدًا مركبًا من أمرين كل منهما يقوي الآخر.

وبعد حرب البلقان أقدمت الحكومة الاتحادية على عقد الاتفاق بينها وبين

الدول الكبرى على الاعتراف لهن بالنفوذ الاقتصادي في أعظم الولايات العربية

ليقرضنها عشرات الملايين من الجنيهات، وصرح بعض كبار السياسيين في جرائد

أوربة بأن مناطق النفوذ الاقتصادي تتحول إلى مناطق نفوذ سياسي عند سنوح أول

فرصة لذلك، فثبت عند زعماء العرب أن الاتحاديين شرعوا في تنفيذ ما هددوهم

به من بيع بلادهم وترقية الترك بثمنها، كما فعلوا ببيع طرابلس الغرب وبرقة،

فاشتدت عزيمتهم على طلب الإصلاح وعقدوا المؤتمر العربي في باريس لذلك؛

فذعرت الحكومة الاتحادية، ولجأت إلى الحيلة والخداع لضعفها في ذلك الوقت،

وكان من أمر نتيجة المؤتمر ما هو معلوم من اعتراف جمعية الاتحاد ثم حكومتها

ببعض حقوق العرب في الدولة ووعدها بإعطائهم تلك الحقوق بالتدريج وخداعها

للسيد عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر وتصديقه إياها بما وعدت به.

* * *

(الحرب الأوربية واستقلال الحجاز)

ثم ظهرت بوادر الحرب الأوروبية وعزم الدولة على الدخول فيها

فبادرت إلى كتابة مقالة نصحت فيها لإخواني العرب بالكف عن طلب

الإصلاح في حال الحرب، وتأييد دولتهم بالإجماع، فكان لها تأثير عظيم.

ولكن الاتحاديين لما دخلوا في الحرب، وجعلوا الأحكام في المملكة

عسكرية عرفية - جعلوا ذلك وسيلة للتنكيل بالعرب والأرمن حسب خطتهم

المقررة منذ سنين، فصلبوا في سورية جميع مَن عرفوا من المطالبين

بالإصلاح من نابغي العرب، ونفوا من البلاد أرباب البيوتات والثروة الكبيرة،

وصادروا أموال الناس، وغلات أرضهم، وفعلوا مثل ذلك في العراق، ثم

تحرشوا بالحجاز، فبادر الشريف أمير مكة المكرمة إلى إعلان استقلال

الحجاز بعد النصح لجمال باشا الحاكم العسكري الاتحادي المطلق في سورية

ولحكومة الآستانة - بالكف عن الفظائع في سورية والعراق، فلم يقبل نصحه،

وانتهى أمر الشريف باعتراف دول الحلفاء باستقلاله التام، وبما بايعه به

أهل البلاد من جعْله ملكًا عليهم.

وقد نشر الشريف قبل المبايعة منشورًا بيَّن فيه سبب قيامه مع

الحجازيين بما قاموا به، ففهمنا منه أنه كان موافقًا لما أجمع عليه مَن دونه

من زعماء العرب من الرغبة في المحافظة على بقاء الدولة، واتقاء أن يكون

زوالها أو ضعفها من قِبَل العرب، فإن استقلال الحجاز - الذي أنتجته

الضرورات - لا يمكن أن يكون سببًا لزوال الدولة، وهي داخلة في أحد

الحلفين اللذين انقسمت إليهما دولة أوربة الكبرى؛ فإن النصر لأحد الحلفين على

الآخر إنما يكون بانتصاره عليه في أوربة، واستقلال الحجاز لا يقدم في ذلك،

ولا يؤخر، ولكنه أفاد العرب فوائد عظيمة، فصدق عليه قولنا: إما أن ينفع

نفعًا كبيرًا أو صغيرًا، وإما أن لا يضر.

وقد ثبت عندنا أن استقلال الحجاز كان سببًا لكف الاتحاديين عن

محاولة إبادة العرب من سورية والعراق الآن، وتخفيف ما كانوا شرعوا فيه

من المذابح والفظائع، وكان هذا من أجلّ منافعه التي تربي على ما ترتب عليه من

سفك الدم الذي اجتهدت الحكومة العربية الحجازية في اجتنابه بقدر الطاقة.

* * *

(عاقبة العرب استقلال الشعوب)

ثم طرأ بعد استقلال الحجاز أن أعلن دول الأحلاف أنهن قد اتفقن على

حرية الشعوب واستقلالها في أمر حكومتها، وذكروا العرب والأرمن منها،

وهذه قاعدة عادلة عظيمة الشأن إذا نُفذت على وجهها الصحيح، وكانت الدول

كلها متضامنة في حفظها بما يتعاهدن عليه في مؤتمر الصلح، وأوَّلها بعضهم

بمعنى أن لا يحكم شعب إلا بالطريقة التي يختارها لنفسه، ولكن الوقوف على

آراء الشعوب المغلوبة على حريتها متعذر في هذه الأوقات التي تخضع فيها

للأحكام العسكرية، وقد علمنا ممن فر من سورية والعراق إلى مصر والحجاز

ومن أسرهم بمصر أن العداء بين العرب والترك قد عمَّ وتمكن، فلا مطمع في

زواله. ولم يبق في العرب مَن لا يرغب في الاستقلال دون الترك، ومن

البديهي أنه لا يوجد شعب في الدنيا يختار على الحرية والاستقلال شيئًا إذا

تيسر له، ولكن يوجد في كل أمة أفراد من عبيد المال، ومن الجاهلين الذين

يُخدعون بزُخرُف الأقوال، فيمكن أن يُستخدم من هؤلاء وأولئك بالترغيب

والترهيب طائفة تقول ما تؤمر أن تقوله، ولا يمكن أن يكون اختيار هؤلاء

للعبودية بتسميتها بغير اسمها حجة على الشعب، ولكن القوة تحتج على

الضعف بما تشاء، وإنما يُعرف رأي الشعوب في بلاد الحضارة من قِبَل

أحزابها السياسية، وليس للشعب العربي العثماني حزب سياسي عام إلا

(حزب اللامركزية) ، ويمكنه أن يبين رأي الشعب إن استطاع زعماؤه

أن يعربوا عن آرائهم، وله جمعيات موضعية خاصة كجمعية الاتحاد

اللبناني بمصر وأمريكة والنهضة اللبنانية في أمريكة، فهي تمثل آراء

جمهور اللبنانيين. والدول إذا أخلصت في تنفيذ هذه القاعدة تقررها،

وعندما يجتمع زعماء كل أمة تنال استقلالاً جديدًا لتأسيس حكومتها العليا

يعرف رأيهم في شكلها، ولا يعرف معرفة صحيحة بغير ذلك. فإذا انتهت

الحرب بذلك كانت عاقبتها على البشر خير العواقب. والله الموفق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

دعَّتهم بتشديد العين: دفعتهم بعنف.

(2)

هذا الوصف احتراز من الوطن السياسي.

(3)

أذكر أنني كتبت هذا غير مرة في المنار ولكنني لا أتذكر من مواضعها إلا ما في ص 252 و253 من المجلد الثالث عشر والعبارة فيه تدل على أنها مسبوقة، وإلا ما في ص80 من المجلد التاسع عشر.

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة استقلال الشعوب

نشر (المقطم) في العدد الذي صدر منه في 23 شعبان (13 يونيو) مقالة

عنوانها: (الصلح الدائم وكيف يُنال؟) قال فيها ما نصه:

وضعت روسية الديمقراطية على بساط البحث مسألة الغرض من الحرب

الحاضرة في أواسط الشهر الماضي، فحملت الدول المتحاربة على إعلان قصدها

وغايتها، وحثت الأمم الكبيرة والصغيرة على بسط آمالها وأمانيها، وكانت روسية

أولى الدول التي أعلنت غايتها من الحرب، فقالت: إنها لا تتوخى ضم الأملاك

وتقاضي الغرامات الحربية، وإن غرضها الأساسي الوحيد إنما هو إبرام صلح

وطيد الأركان على أساس استقلال الأمم الكبيرة والصغيرة وتحقيق آمالها القومية

العادلة وتخويلها حقًّا من أقدس حقوقها وهو أن تحكم نفسها بنفسها وتختار شكل

الحكومة التي تلائم أخلاقها وعاداتها. وقام المسيو ريبو بعد ذلك، فأعلن رغبة

فرنسة في إبرام صلح عادل أساسه استقلال العناصر. ثم وقف في مجلس النواب

الفرنسوي وقفته التاريخية المشهورة، فجاهر في جلسة 4 يونيو الحالي بأن فرنسا

لا ترمي من هذه الحرب إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين اللتين سُلختا عنها

سنة 1871، رغم إرادة سكانهما، ومنح الأمم الكبيرة والصغيرة الاستقلال التام.

ووافقت بريطانيا العظمى على قرار حليفتيها العظيمتين إذا كان مبدأ عدم ضم

الأملاك، وتقاضي الغرامات الحربية يعني رد المسلوب والتعويض من الخسارة

التي نزلت بالأمم التي اعتُدِي عليها.

وقد وافانا روتر أمس بنص المذكرة الكبيرة الشأن التي أرسلها الدكتور ولسن

رئيس الولايات المتحدة إلى روسية وبيَّن فيها أغراض أميركا من هذه الحرب،

فقال:

(إنها لا تروم الربح المادي ولا التوسع ولا تقاتل لجرّ مغنم، ولكن لتحرير

الشعوب في كل مكان، ومساعدتها على النهوض والارتقاء في ظل الاستقلال من

غير تسلط متسلط عليها، وإن المشاكل الحاضرة يجب أن تسوَّى طِبقًا لمبدأ واضح

جلي، وهو أنه لا يصح إجبار شعب من الشعوب على أن يعيش في ظل حكم لا

يريده، ولا إجراء تعديل في الكون إلا فيما يؤدي إلى توطيد أركان السلام وسعادة

الأمم، فيصير إخاء البشر حينئذ حقيقة واضحة وقوة فعالة لصون الحياة من اعتداء

المستبدين وطمع الطامعين) .

هذه غاية الولايات المتحدة من الحرب، وذلك هو الغرض الوحيد الذي

وضعه الحلفاء كلهم نصب عيونهم، وأعلنوا غير مرة عزمهم الأكيد على الوصول

إليه مهما كلفهم الأمر، وبديهي أن الولايات المتحدة لم تخُض غمار الحرب

الحاضرة إلا بعد ما اتفقت مع الحلفاء على تحقيق هذا المبدأ الشريف العادل، فإن

المسيو بريان رئيس الوزارة الفرنسوية سابقًا أرسل إليها - باسم الحلفاء جميعهم -

مذكرة مسهبة في 3 ديسمبر الماضي، قال فيها: إن للحرب الحاضرة ثلاثة

أغراض:

أولها: إعطاء الأمم الكبيرة والصغيرة حريتها واستقلالها.

وثانيها: نيل التعويض من الخَسارة التي نشأت عن اعتداء ألمانية الفظيع.

وثالثها: الحصول على ضمان وافٍ لمنع وقوع الحرب في المستقبل.

على هذا الأساس تم الاتفاق بين الحلفاء والولايات المتحدة، ومن أجل هذه

الغاية الشريفة فقط بذلت أمريكة رفاهية شعبها، والأموال الطائلة التي كانت تنهال

عليها من أوربة. فالمجد لها والفخر لرئيسها العظيم نصير الإنسانية وحامل لواء

الحرية والعدل في العالم. اهـ.

* * *

وجاء في (المقطم) الذي صدر في 24 شعبان (14 يونيو) ما نصه:

خطة روسية

دعا وزير خارجية روسية مندوبي الصحف إلى مقابلته، وبسط لهم خطة

روسية الحاضرة، وقال ما خلاصته:

ترمي روسية الجديدة الحرة إلى إبرام الصلح العام في أقرب آن على أساس

تحرير الأمم وتخويلها حقَّ انتقاء شكل حكوماتها وعدم ضم الأملاك وتقاضي

الغرامات الحربية من الأعداء، وهي تتوخى من مواصلة الحرب أمرين:

أولهما: الحصول على صلح شريف يزيل الضغائن والأحقاد من بين الأمم

المتحاربة.

وثانيهما: استقلال الشعوب استقلالاً تامًّا وجعْلها قوة عظيمة لصون الحرية

ومنع اعتداء المعتدين في المستقبل.

إن الخطأ الذي ارتكب في حرب السبعين لا يجوز أن نرتكب مثله اليوم،

فسكان الإلزاس واللورين الذين سُلخوا عن فرنسا - رغم إرادتهم - لم ينسوا وطنهم

الأصلي إلى الآن، وكانت مسألتهم من أسباب الحرب الحاضرة؛ لأن الظلم لا يُنسى

مهما تقادم عهده؛ لذلك ترى روسية الحرة أن تشيد الصلح المقبل على أساس العدل

وحرية الشعوب الكبيرة والصغيرة.

لا أنكر أن الحكم السابق ارتبط بمعاهدات سرية مع بعض الدول، وأن هذه

المعاهدات أقلقت الديموقراطيين الروس لاعتقادهم بأنها ترمي إلى التوسع وضم

الأملاك، فألحّوا على الحكومة المؤقتة في نشرها في الحال خوفًا من وقوع الشقاق

بين أحزاب الأمة، ولكن هذا الطلب لا يتفق مع مصلحة روسية؛ لأنه يؤدي إلى

قطع صِلاتها بحلفائها وإكراهها على إبرام صلح منفرد، مع علمها أن الصلح

الوحيد الذي يلائم مبادئها هو الصلح العام على أساس استقلال الأمم الكبيرة

والصغيرة استقلالاً تامًا، فالواجب على روسيا في هذه الحال أن تنسى الماضي،

وتنظر إلى المستقبل فقط بعد الانقلابات العظيمة التي طرأت على الكون كالثورة

الروسية، ودخول الجمهورية الأميركية العظمى في الحرب. وهذه الانقلابات

ستؤثر أعظم تأثير في ديمقراطية الأمم المتحالفة، ولا سيما أن صِلاتها بممثلي تلك

الديمقراطية على أحسن ما يُرام. وبديهي أن مهمتي الأساسية في وزارة الخارجية

هي التوفيق بين الديمقراطية الروسية وديمقراطية الأمم الغربية على أساس يكفل

السلم للعالم. ولكن تحقيق هذه المهمة يتعذر علينا إذا أحجمنا عن القيام بالعهود التي

قطعناها لحلفائنا.

أما مسألة ضم الأملاك فلا تخطر على بال أحد منا، وليست المعارك التي

تخوض غمارها الآن إلا معارك دفاعية ترمي إلى طرد العدو من البلاد التي احتلها

في روسية والبلجيك وفرنسة وسربية ورومانية ونيل الأمم الكبيرة والصغيرة

حريتها واستقلالها.

هذا كل ما أستطيع أن أقول الآن عن غرض روسية، والخطة التي تنهجها

لتحقيق آمالها وأمانيها. انتهى.

* * *

وجاء في (المقطم) الذي صدر في يوم السبت 18 رجب (19 مايو) :

غرض بريطانية العظمى من الحرب

لندن في 17 مايو

إن الخطبة التي خطبها اللورد روبرت سسل في مجلس النواب في الليلة

البارحة تعد هنا - وفي سائر بلدان الحلفاء - من أهم ما قيل في بيان غرض

بريطانية العظمى من الحرب.

فتح المستر سنودن باب المناقشة وردّ اللورد روبرت سسل عليه، فقال: إن

عبارة (عدم الضم) راجت كثيرًا وتناقلتها الأفواه. ثم شرع بطرق أبواب هذا

الموضوع بابًا فبابًا، واستهل البحث بذكر بلاد العرب، فقال: ليس في الدنيا رجل

يشير علينا بأن نبذل نفوذنا لرد بلاد العرب إلى تحت سلطة الأتراك (هُتاف) ، ثم

إن أعظم ضم لأرمينية بأوسع معنى السيادة والإمبراطورية - يفيد شعبها الذي عانى

الويلات والنكبات بما اقترفه الأتراك به من الجرائم، وما يقال عن أرمينية يقال

مثله عن سورية وفلسطين.

ثم انتقل إلى الكلام عن مستعمرات ألمانية في إفريقية، فقال: إننا لم نهجم

على تلك المستعمرات لننقذ أهلها الأصليين من سوء الحكم، ولكن أتريدون أن

نعيدهم إلى ألمانية بعد ما أنقذناهم منها؟ ! ، فهتف المجلس له هتافًا شديدًا لما قال:

إن بدني يقشعرُّ إذا فكرنا في رد أولئك الوطنيين إلى حكم الحكومة التي ارتكبت بهم

ضروب القسوة.

وماذا أقول عن بولندا وهل فيكم مَن يعترض على إنشاء مملكة بولندية

مستقلة. وماذا أقول عن الإلزاس واللورين وهل مَن يقول (؟) إن ألمانية بعدما

أخذت ولايتين من فرنسة لا يجب أن تردهما إليها (هتاف) . وعندنا أيضًا

الولايات الإيطالية الداخلة في حكم النمسا، فهل توافق الحكومة البريطانية على عدم

رد هذه الولايات إلى إيطالية وسكانها من الإيطاليين.

ثم طرق اللورد روبرت بابًا آخر من أبواب الموضوع، وأشار إلى عبارة

(عدم عقد الصلح مع آل هوهنزلرن) ، فقال إن في هذه العبارة كثيرًا مما

يُستصوب، وهي مقبولة عند عامة البريطانيين، ولكن الفطنة قد تقتضي بعدم

اتخاذها قاعدة لتعريف سياستنا الوطنية.

قال: وقد سمعنا البعض يقولون: (لا غرامة حربية) فهل يراد أن لا

تعطَى البلجيك غرامة؟ وماذا يكون نصيب سربيا وولايات فرنسة الشمالية؟

وهل يسعنا أن نغضي عن تعويض ما دُمر من البواخر التجارية؟ أما أنا فلست

مستعدًّا للموافقة على ذلك.

وعقبه المستر إسكويث، فخطب خطبة كان لها وقع عظيم فقال: إن عبارة

(عدم الضم) التي وردت في بعض التصريحات الروسية - لم تُفهم تمامًا لعدم

وجود معجم وافٍ للغةِ السياسة الدولية، ولكني لا أعتقد أن زعماء روسية وحكامها

المسئولين استعملوها بغير المعنى الذي نسلم به نحن.

ولكن لضم البلدان أربعة معانٍ مختلفة يمكن استعمالها لها:

(فالمعنى الأول) أن هذه الحرب إذا أريد أن تؤدي إلى صلح وطيد الأركان

فيجب أن تسفر عن ضم بعض البلدان لتحرير الشعوب الراسفة في قيود الظلم

وأغلال الاستبداد (هتاف) ، وهذا أمر مشروع، وإلا فإن الأغراض التي امتشقنا

لأجلها الحُسام في هذه الحرب لا تُنال أو يُنال جانب منها فقط إلا إذا قام الحلفاء حق

القيام بعمل هذا التحرير بضم البلدان (هتاف)، قال: وإني واثق أن رجال

حكومة روسية الجديدة لا يحتجون على ضم البلدان إذا كان هذا هو الغرض منه.

(والمعنى الثاني) يسري على البلدان التي تحوي جنسيات فُصلت عن

أصولها، مثال ذلك بلاد الترنتينو فضمها إلى إيطالية ضروري لراحة ضمير العالم

المتمدن (هتاف) .

ثالثًا (كذا) أن الضم قد يكون من الأمور المطلوبة لنقل ملك أو أرض لأجل

الاحتفاظ بمواقع حربية تكون ضرورية لا للهجوم بل للدفاع، ووقاية البلاد من

هجوم في المستقبل.

ويبقى (الوجه الرابع) أي الضم بمعنى فتح البلدان للتوسع والتبسط للسؤدد

السياسي بالربح الاقتصادي، وهذا أمر لا يلقى شيئًا من التأييد في البرلمان

البريطاني ولا في بريطانية العظمى ولا بين حلفائها (هتاف) .

ومتى جلونا هذا الإبهام فهل يبقى خلاف بيننا وبين أصدقائنا ديمقراطِيِّي

روسية على القواعد العامة التي يجب مراعاتها في الكلام عن الصلح؟ !

أما أنا فلا أعتقد بوجود شيء من الفرق (اسمعوا اسمعوا) - روتر.

* * *

وجاء في المقطم الذي صدر في 21 رمضان (10 يوليو) ما نصه:

غاية الحلفاء من الحرب

رد فرنسة وإنكلترة على المذكرة الروسية

أرسلت الحكومة الروسية المؤقتة في شهر أبريل الماضي مذكرة خطيرة

الشأن إلى دول الحلفاء، بسطت فيها غايتها من الحرب، وألحت عليهم في إعلان

أغراضهم الحقيقية منها. وقد نشرنا المذكرة الروسية في حينه، ورأينا الآن أن

نوافي القراء برد فرنسة وإنكلترة عليها لما فيه من الدلالة على حسن نيات الحلفاء

وسمو مبادئهم نبل مقاصدهم، وهو الجواب الذي وصل إلى بتروغراد في أواخر

شهر يونيو الماضي. قالت فرنسة في مذكرتها:

(جواب فرنسة عن مذكرة روسية)

اطلعت حكومة الجمهورية الفرنسوية بارتياح عظيم على المذكرة التي سلمها

إليها سفير روسية في باريس باسم الحكومة المؤقتة، وشاركتها في الثقة التامة بكل

ما يتعلق بتحسين موارد روسية الاقتصادية وزيادة قوتها الحربية أو السياسية ثم

رأت أن تعلن ما يأتي:

إن فرنسة لم تفكر في استعباد شعب من الشعوب حتى أعدائها الحاليين،

ولكنها تريد أن يزول الخطر الذي يهدد العالم وأن يُعاقَب المجرمون الذين أضرموا

نار هذه الحرب الهائلة، وكانوا عارًا على أعدائنا أنفسهم، وهي تترك لأعدائها

عواطف الطمع التي امتازوا بها في الحرب والسلم، ولا تطلب من البلاد إلا ما هو

لها شرعًا.

لقد ذهبت مساعيها السلمية أدراج الرياح، واضطرت إلى امتشاق الحسام

دفاعًا عن حريتها واستقلالها ورغبة في إكراه العدو على احترام استقلال الأمم،

فكما أن روسية أعلنت إحياء مملكة بولندة القديمة المستقبلة، هكذا فرنسة تحيي

بسرور عظيم كل المساعي الحرة التي تبذلها الأمم المستعبَدة.

ولا ترمي فرنسة في هذه الحرب إلا إلى غاية واحدة وهي انتصار الحق

والعدل، سواء قامت الأمم لإعلان استقلالها ووحدتها وإعادة سالف مجدها ومدنيتها،

أو لخلع نير العبودية عن عاتقها، وهو النير الذي كان يهدد جميع الأمم التي لم

تبلغ منزلة الجرمان من الارتقاء الظاهري.

ولا تطلب فرنسة لنفسها إلا تحرير الولايتين الفرنسويتين اللتين سلختا عنها

بالقوة وهما الإلزاس واللورين ولكنها تحارب مع حلفائها إلى النصر الذي يعيد إليهم

حقوقهم واستقلالهم السياسي والاقتصادي ويعيضهم من الخسارة التي نزلت بهم

ويكفل لهم منع كل اعتداء يقع عليهم في المستقبل.

وتعتقد حكومة الجمهورية اعتقادًا تامًّا كاعتقاد الأمة الروسية أن هذه المبادئ

العادلة هي المبادئ الوحيدة التي يجب أن يضعها الخلق نصب عيونهم لإبرام صلح

دائم على أساس العدل والحق.

فعلى الحكومة المؤقتة أن تثق ثقة تامة بمبادئ الحكومة الفرنسوية وتعلم أنها

مستعدة للاتفاق معها ليس فقط على التدابير اللازمة لمواصلة الحرب، بل على

طرق الانتهاء منها أيضًا بشكل يتفق مع الغاية التي خُضنا غمار الحرب من أجلها

انتهى.

قرار مجلس نواب فرنسا

ثم شفعت الحكومة الفرنسوية هذه المذكرة بالقرار الخطير الشأن الذي أصدره

مجلس نواب فرنسة في جلسته التاريخية في 5 يونيو، ونقلته إلينا التلغرافات

الخصوصية والعمومية في حينه [المنار وهذه ترجمته:]

باريس في 5 يونيو

هذا نص قرار الثقة بالحكومة الذي وضعه مجلس النواب الفرنسوي:

إن مجلس النواب الذي يعبر رأسًا عن سلطة الشعب الفرنسوي يرسل إلى

الديمقراطية الروسية وسائر ديمقراطيات الحلفاء التحية والسلام.

إن مجلس النواب يؤيد الاحتجاج الإجماعي الذي قدمه مندوبو الإلزاس

واللورين المسلوختين عن فرنسة إلى الجمعية الوطنية في سنة 1871، ويجاهر

بأنه ينتظر أن هذه الحرب التي أكرهت ألمانية المحبة للفتح سائر بلدان أوربة على

خوض غمارها لا تؤدي إلى تحرير الولايات التي اكتسحها الألمان فقط، بل إلى رد

الإلزاس واللورين إلى وطنهما الأصلي، وتعويض فرنسة مما أصابها من الضرر

والخسارة.

إن مجلس نواب فرنسة لا يفكر في فتح البلدان وإخضاع شعوب أخرى ولكنه

ينتظر أن يؤدي جهاد جيوش الجمهورية الفرنسوية وجيوش حلفائها إلى سحق

الروح العسكري البروسي والحصول على ضمان وطيد لاستقلال الشعوب الكبيرة

والشعوب الصغيرة.

والمجلس واثق بأن الحكومة تكفل إحراز هذه النتائج بالتعاون العسكري

والسياسي مع حلفائنا - روتر.

* * *

(جواب إنكلترة عن مذكرة روسية)

وأرسلت الحكومة البريطانية المذكرة التالية إلى حكومة روسيا وهي:

تلقت الحكومة البريطانية المذكرة التي سلمها إليها معتمد روسية في لندن وتضمنت

أغراض روسية من الحرب الحاضرة.

وقد ورد في المنشور الذي أُعلن على الشعب الروسي، ووصل إلينا مع

المذكرة أن روسية لا تتوخَّى سيادة الأمم الأخرى والاعتداء على أملاكها القومية

واحتلال بلادها بالقوة، فالحكومة البريطانية تشارك الحكومة المؤقتة في مبادئها

وتعلن أنها لم تخض غمار الحرب من أجل التوسع والفتح وإنما خاضت غمارها في

بدء الأمر دفاعًا عن كِيانها ورغبة في إكراه المعتدين على احترام المعاهدات الدولية،

أما الآن فقد صار لها غاية أخرى وهي تحرير الأمم التي تئن من جور الاستبداد

الأجنبي.

وقد قابلت الحكومة البريطانية بسرور عظيم عزم روسية على تحرير بولندا

التي تحت حكمتها الأتقراطية الروسية، وبولندا التي تئن من جور الاستبعاد

الجرماني، فالديمقراطية البريطانية تحيي روسية وتتمنى لها النجاح في هذه المهمة

من صميم فؤادها.

ويهمنا قبل كل شيء أن نجد طريقة حسنة لحل المشاكل الحاضرة حلاً يكفل

للأمم سعادتها وهناءها ويستأصل جراثيم الحروب المقبلة من العالم.

والحكومة البريطانية تنضم إلى حلفائها الروسيين من صميم فؤادها وتقبل

معهم المبادئ السامية التي أعلنها الرئيس ولسن في خطبته الشهيرة في مجلس الأمة

الأميركية.

وتعتقد الحكومة البريطانية أن الاتفاقات التي أبرمتها مع حلفائها في الماضي

لا تناقض هذه المبادئ، ومع ذلك فإنها تقبل أن تعيد النظر فيها إذا شاءت الحكومة

الروسية ذلك، وأن تعدل بعض موادها إذا اقتضت الحال؛ انتهى.

* * *

وجاء في المقطم الذي صدر في 18 رمضان (7 يوليو) :

الحلفاء واستقلال الأمم

أرسلت الحكومة الروسية مذكرة إلى دول الحلفاء بسطت فيها غايتها الحقيقية

من الحرب وطلبت منهم أن تعرف الغاية التي يتوخَّوْنها هم أيضًا، فأجابتها فرنسة

بمذكرة طويلة، قالت فيها: إنها لا ترمي إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين ومنح

الأمم الكبيرة والصغيرة استقلالها التام، ثم شفعت هذه المذكرة بالقرار الذي أصدره

مجلس نواب فرنسا في 5 يونيو الماضي.

وقالت إنكلترة في ردها على المذكرة الروسية إنها خاضت غمار هذه الحرب

دفاعًا عن كيانها ورغبة في إكراه الآخرين على احترام المعاهدات الدولية. أما اليوم

فصارت ترمي إلى غاية ثالثة وهي تحرير الأمم التي تئن من جور الاستعباد

الأجنبي، فإنكلترا في هذه الحال توافق على المباديء السامية التي جاهر بها

الدكتور ولسن وأعلنتها الدمقراطية الروسية، وهي مستعدة لإعادة النظر في

المعاهدات التي أبرمتها مع روسية وسائر حلفائها.

وقد قابلت الصحف الروسية هاتين المذكرتين بارتياح عظيم إذا استثنينا

الصحف الثورية والمتطرفة والداعية إلى الصلح. فقالت جريدة نوفو فريميا ما

خلاصته:

لا يمكننا أن نزيد حرفًا واحدًا على جواب الحلفاء عن مذكرتنا؛ فهو في غاية

الوضوح في ما يتعلق بخطة الفتح الذي يتهمهم أعداؤنا بها.

وقد أعلن حلفاؤنا غايتهم الحقيقية من الحرب، فإذا هي غاية روسيا وغاية

أميركا حليفتنا الجديدة. انتهى.

وقالت (البورص غازت) إن جواب الحلفاء أرضى روسية الديمقراطية

وأكد لها أن ديمقراطيات العالم كله متفقة على الدفاع عن استقلال الأمم وسحق

الاستبداد البروسي.

* * *

استقلال ألبانيا

رومية في 4 يونيو - صدر منشور في أرجيرو كاسترو يوم 3 يونيو

باستقلال ألبانيا وتوحيدها كلها تحت حماية إيطاليا - روتر.

رومية في 4 يونيو

هذا بعض نص المنشور بإعلان الحماية الإيطالية على ألبانيا وهو بإمضاء

الجنرال فريرو:

أيها الألبانيون، إنكم بهذا القرار سيصير لكم معاهد حرة، وجنود ومحاكم

ومدارس، يديرها أبناء قومكم، ويتيسر لكم أن تديروا أملاككم، وتجنوا ثمرة تعبكم

لأنفسكم، ولزيادة خير بلادكم وإسعادها.

أيها الألبانيون، إنكم أينما كنتم سواء في بلادكم الحرة الآن أو فارين في

سواها من البلدان أو كنتم خاضعين لحكم أجنبي يمتنّ عليكم بالمواعيد الكثيرة ولكنه

في الحقيقة يسلبكم ويعاملكم بالشدة - أنتم سُلالة جنس عريق نبيل، تربطكم عدة

قرون من التقاليد القديمة بحضارة رومية والبندقية. إنكم لا تجهلون اشتراك

المصلحة بين الإيطاليين والألبانيين في البحار التي تفصل بيننا والتي وحدت بيننا

أيضًا، إنكم لحسنو النية واليقين، تعتقدون بحسن مصير وطنكم المحبوب، فأنتم

تقفون الآن في ظل راية إيطاليا وألبانيا، وتحلفون يمين الإخلاص الأبدي لألبانيا

المستقلة التي تنادي بها اليوم باسم إيطاليا وتتمتعون بصداقة إيطاليا.

وقد تُلِيَ هذا المنشور على جمهور كبير من ألبانيي أرجيرو كسترو، فقابلوه

بالحماسة ونُشر في سواها من الجهات التي تحت إدارة الإيطاليين، وألقى الطيارون

نسخًا منه في البلاد الواقعة وراء فوجوزا - روتر.

* * *

(المنار)

هذا، وإن البرقيات العامة نقلت إلينا أن روسية الحرة لم تعترف بهذا

الاستقلال، بل صرحت بأن مؤتمر الصلح هو الذي يفصل في أمرها.

ومن تأمل أجوبة الحلفاء كلها رأى أن جواب فرنسة أبعدها عن مظان التأويل

وأقربها إلى مقصد المذكرة الروسية، ولما كان المعهود في السياسة أن يكون لكل

كلام ظاهر وباطن، وأن يكون ظاهره محتملاً للتأويل - كتب أحد كُتاب فرنسة

الأحرار (المسيو أولار) مقالة في الموضوع الذي نبحث فيه، لخصتها جريدة

(المقطم) في العدد الذي صدر منها يوم الجمعة 13 يوليو (24 رمضان) بما يأتي:

غرض فرنسا من الحرب

من مقالة للمسيو أولار

أنشأ المسيو أولار الكاتب الفرنسوي الشهير مقالة شائقة في جريدة (البايي)

(الوطن) الباريسية، بسط فيها غاية فرنسة من الحرب والأغراض الحقيقية التي

ترمي إليها. والمسيو أولار من أعظم الكتاب الفرنسويين وأشدهم تأثيرًا في الرأي

العام وأكثرهم خبرة بشؤون الشرق الأدنى، ولا سيما سورية التي زارها لآخر مرة

سنة 1907، وأسس فيها مدرسة بيروت العلمانية ومدرسة دمشق للبنات، وهو

أستاذ التاريخ في جامعة السوربون وصاحب المؤلَّفات العديدة عن الثورة الفرنسوية،

ومن زعماء الماسون والرئيس الأكبر لجمعيات التعليم العلماني في فرنسا؛ لذلك

رأينا أن نلخص مقالته للقراء لما فيها من الدلالة على أغراض الأمة الفرنسوية من

هذه الحرب وسمو مبادئها ونبل مقاصدها ورغبتها الأكيدة في مواصلة الحرب إلى

النصر قال:

خاضت الولايات المتحدة غمار الحرب ودخلت الثورة الروسية في دور جديد

في الأسابيع الأخيرة فأحدث ذلك تأثيرًا عظيمًا في العالم، ظهرت نتائجه الأولى في

انقشاع الغيوم المتلبدة في جو سياسة الحلفاء.

وقد وقعت هذه الأيام حوادث سياسية لها مغزى عظيم واضح، فأعلن المسيو

ريبو رئيس الوزراء الفرنسوية في مجلس النواب - بعد اتفاقه مع الحكومات

المتحالفة -: إنه لا يمكن أن تكون لنا خطة سرية غير الخطة الصريحة التي

يعرفها العالم كله وإن في التلاعب بالوجدان الوطني خطرًا عظيمًا يؤدي إلى أعظم

النكبات، فالمسيو ريبو أنس من نفسه هذه الجرأة الأدبية التي حملته على هذا

التصريح الخطير الشأن بعد ما أبدت الديمقراطيتان الأميركية والروسية آراءهما في

الأمر وأعربتا عن عدم رضائهما عن السياسة السرية.

وهذا، وإننا نرى من جهة أخرى أن الجنود الفرنسويين الذين يقاسون

ضروب الشقاء ويريقون دماءهم الزكية في الخنادق دفاعًا عن الوطن العزيز -

يريدون أن يعلموا الغاية الحقيقية التي يقاسون الشقاء ويقتحمون الأخطار للوصول

إليها. لا مشاحة في أنهم يعلمون أن غرضهم الوحيد من الحرب الحاضرة طرد

العدو من البلاد التي اجتاحها، وتحرير العناصر من ربقة الاستعباد، ولكنهم

يخشون أن تكون هنالك سياسة سرية وراءها مقاصد فتح ومطامع استعمار تحت

ستار العدل والحق، وأن يتخذ ذلك حجة لتحقيق الأحلام القديمة التي منشأها الغرور

وغاياتها استعباد الأمم.

إن الفرنسويين قاطبة يحاربون إلى النهاية من أجل فرنسا والإلزاس

واللورين ويريقون آخر نقطة من دمهم لإنقاذ البلجيك التاعسة من مخالب العدو،

ولكنهم لا يقبلون بوجه من الوجوه أن تكون غايتهم من الحرب فتح آسيا الصغرى

وتحقيق مشروع استعماري بعيد تخفيه الحكومات. اهـ.

* * *

(المنار)

إن الذكي الفطِن يفهم من هذا التلخيص ما وراءه، فعسى أن تنتهي هذه

الحرب بما يحبه - مثلنا - هذا الكاتب الحر بتحقيق آمال المستضعفين وتحرير

الشعوب أجمعين.

* * *

الترك والعرب.. وهل يكونان كالنمسة والمجر؟

نشر (المقطم) في 5 شوال مقالة أرسلها إليه إبراهيم أفندي النجار من

باريس شرح فيها ما أحدثته الثورة الروسية ودخول الولايات المتحدة في الحرب -

من الروح الجديدة في سياسة العالم وأشار فيها إلى ما بين قاعدة أحرار الروس

ومرامي الرئيس ولسون وبين تنفيذ فكرتهما من العقبات وذكر تأثير ذلك في الدولة

العثمانية، فقال ما نصه:

(وقد اتصل بي هذين اليومين خبر كبير الأهمية إذا صدقت الرواية وصدق

راويها وهو أن هذه الفكرة التي سبقت الإشارة إليها مشت شرقًا ووقفت في فروق

الآستانة) ، ففكر أصحاب الحل والعقد فيها في إنشاء السلطنة العثمانية على

الأساس الثنائي من الترك والعرب، كما قامت إمبراطورية النمسا على أساس سلطة

النمسويين والمجريين. وإن الحكومة شارعة في تعديل القانون الأساسي على هذا

المبدأ. قرأت هذا الخبر الذي رواه لي مخبري في سويسرا ووقفت عنده وقفة

الحائر في نقضه وتصديقه.الأول لأنه لا ينطبق على سياسة غلاة الترك

العنصرية، والله أعلم بما أعرف من خبايا نياتهم وبما يضمرون. والثاني لأن

القوم ضاقوا ذرعًا في هذه الحرب وعلموا أن عاقبتها ستكون وبالاً عليهم وأن

نهايتها ستكون على حسابهم وعرفوا مبادئ الثورة الروسية والرئيس ولسن كما

عرفنا الخاص والعام، وسمعوا آراء رجال الحل والعقد في برلين وفَّينا في

النصح لهم بالتخفيف من غلوائهم، فرأوا من الحكمة أن يفعلوا مختارين ما تحملهم

القوة القاهرة على قبوله وإقراره، والذي يعلم كيف أعلن مدحت باشا القانون

الأساسي الأول يوم كان سفراء الدول المجتمعين في الطوبخانة في الآستانة

لتبادل الرأي في كيفية حمل الدولة على الإصلاح - يعرف مسالك الترك في هذه

المآزق، ويتبين له وجه الشبه التام بين اليوم والبارحة؛ لهذا السبب ملت إلى

تصديق الرواية، وإن كنت لا أجزم بصحتها. اهـ.

_________

ص: 48

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المجمع اللغوي المصري [*]

لقد تم تأليف هذا المجمع في دار الكتب السلطانية، وهذا هو القانون الذي

وضعه لبيان أعماله اللغوية وأنظمته الداخلية.

عملاً بالمادة الثانية من القانون المتضمنة تأليف لجان لوضع مصطلح كل

علم أو فن - قد قرر المجمع في جلسته المنعقدة يوم أول يونيو سنة 1917 تأليف

اللجان الآتية، وألفت فعلاً، وهذه هي أسماؤها:

1-

لجنة الجغرافيا والتاريخ والآثار والملابس والأواني والملاحة والتجارة.

2-

لجنة الطب والعلوم الطبيعية عدا علم النبات.

3-

لجنة المنطق والفلسفة والعلوم الاجتماعية.

4-

لجنة الفقه والقانون.

5-

لجنة العلوم الرياضية والفنون الجميلة والصناعة والزراعة وعلم النبات.

6-

لجنة اصطلاحات الدواوين.

أما أعضاء المجمع فهم الآتية أسماؤهم، وقد رُتِّبت بحسب الترتيب الأبجدي

بالحروف الأولى فيها:

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رئيس

المجمع وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وكيل

وحضرات أحمد لطفي السيد بك مدير دار الكتب السلطانية كاتب السر، والسيد

محمد الببلاوي وكيل دار الكتب مساعد كاتب السر، وحضرات الشيخ أحمد إبراهيم

والشيخ أحمد الإسكندري وأحمد برادة بك وأحمد تيمور بك وصاحب السعادة أحمد

زكي باشا وأحمد سليمان بك والدكتور أحمد عيسى بك وأحمد كمال بك وإسماعيل

رأفت بك وحفني ناصف بك وعبد الحميد فتحي بك وعبد الحميد مصطفى بك

وصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة وعثمان فهمي بك والدكتور فارس نمر

ومحمد أمين واصف بك والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محمد شريف سليم ومحمد

عاطف بركات بك والشيخ مصطفى العناني والدكتور يعقوب صروف، وهذه

صورة قانون المجمع:

الفصل الأول

في غرض المجمع

المادة الأولى: غرض هذا المجمع خدمة اللغة العربية وخصوصًا وضع معجم

وافٍ بحاجة الزمن، شامل اصطلاحات العلوم والفنون والصناعات.

المادة الثانية: يكلف المجمع لجانًا أو أفرادًا جمع مصطلح كل علم أو فن

وإعداده ولكل لجنة أو فرد أن يطلب من المجمع أن يدعو إلى الانضمام إليه من

يرى دعوته من الاختصاصيين ويعرض ما تم من ذلك على المجمع لبحثه وتقرير

ما يراه وإذا تم جزء صالح للنشر جاز نشره على حدة قبل إتمام المعجم.

المادة الثالثة: للمجمع أن يزيد في اللغة للضرورة ويراعي في الزيادة دفع

الحرج.

المادة الرابعة: يستبدل بالكلمة العامية أو الأعجمية التي لم تُعرَّب من قبلُ

غيرها من الألفاظ العربية الموضوعة للدلالة على معناها فإذا لم يهتدِ المجمع إلى

كلمة عربية وضع كلمة عربية للدلالة عليها أو أقر الكلمة العامية أو عرَّب الكلمة

الأعجمية مع مراعاة المادة الثالثة.

المادة الخامسة: يكون وضع الكلمات بطريق المجاز والاشتقاق أو النحت أو

غير ذلك مما يقع إجماع على منعه ويفضل الأخذ من الكلمات المهجورة تقليلاً

لاشتراك المستعمل.

المادة السادسة: تُذكر الكلمات من المعجم بمعانيها القديمة ويضاف إليها

استعمالها في المعاني الجديدة التي يقرها المجمع، وينبّه على ما كان من وضع

المجمع.

* * *

الفصل الثاني

في أعضاء المجمع

المادة السابعة: يؤلف المجمع من ثمانية وعشرين عضوًا، منهم ثلاثة

يعرف أحدهم اللغة العبرية، والثاني الفارسية، والثالث السريانية زيادة على معرفة

كل منهم للغة العربية.

المادة الثامنة: متى خلا مركز أحد الأعضاء فلكل عضوين أن يرشحا خلفًا

وتعرض أسماء المرشحين ثم يدور عليهم الانتخاب على حسب المادة الثالثة عشرة

ويشترط في قبول المرشح أن ينال انتخاب ثلثي الأعضاء الحاضرين على الأقل.

المادة التاسعة: للمجمع أن ينتخب أعضاء مراسلين بالطريقة التي ينتخب بها

الأعضاء ويكون لهم حضور الجلسات وليس لهم أصوات في القرارات.

المادة العاشرة: مَن أعان المجمع من أعضائه المراسلين أو غيرهم إعانة

لغوية يُعتدّ بها ذُكر اسمه في ثبت واضعي المعجم.

* * *

الفصل الثالث

في إدارة أعمال المجمع

المادة الحادية عشرة: تقوم بالأعمال الإدارية للمجمع لجنة مؤلفة من الرئيس

والوكيل وكاتب السر ومساعده.

المادة الثانية عشرة: يُنتخب أعضاء اللجنة من بين أعضاء المجمع لمدة

سنة، ويجوز إعادة انتخابهم.

المادة الثالثة عشرة: يكون الانتخاب بالاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة

للأعضاء الحاضرين في جمعية عمومية، يحضرها ثلثا الأعضاء على الأقل، فإن

لم يحضر ثلثا الأعضاء تم الانتخاب في الجلسة التالية مهما كان عدد الأعضاء فيها.

المادة الرابعة عشرة: يدير الرئيس أعمال المجمع ويدعو لجانه ويقدم إليها

موضوعات البحث ويهيمن على تنفيذ قرارات المجمع. وهو عضو بالقانون في كل

لجنة من لجان المجمع يشترك مع أيها شاء.

المادة الخامسة عشرة: يقوم الوكيل مقام الرئيس عند غيابه في كل ما له من

الحقوق وما عليه من الواجبات.

المادة السادسة عشرة: على كاتب السر ومساعده تحرير محاضر الجلسات

وتسجيلها في سجل خاص بعد التصديق عليها، وهما مكلفان بمراسلات المجمع

وحفظ أوراقه ونشر أعماله التي يتقرر نشرها.

* * *

الفصل الرابع

في نظام الجلسات

المادة السابعة عشرة: ينعقد المجمع مرتين في كل شهر على الأقل ويجتمع

فوق العادة بناءً على طلب يكتبه خمسة من أعضائه أو بناءً على طلب الرئيس.

المادة الثامنة عشرة: يعين المجمع في شهر أكتوبر من كل سنة الأيام التي

ينعقد فيها كل شهر إلى نهاية شهر مايو.

المادة التاسعة عشرة: إذا لم يستطع أحد الأعضاء حضور جلسة وجب أن

يعتذر وتتلى الاعتذارات عند افتتاح الجلسة.

المادة العشرون: كل عضو غاب أكثر من ست جلسات متواليات من غير

عذر يقبله المجمع يعتبر مستقيلاً ويستبدل به غيره بالانتخاب.

المادة الواحد والعشرون: في غير الأحوال المنصوص عليها يكون الاجتماع

صحيحًا متى حضره ربع الأعضاء.

المادة الثانية والعشرون: للمجمع أن يستعين باختصاصين يدعوهم لحضور

جلساته عند النظر في البحوث المتعلقة بمعارفهم الخاصة

المادة الثالثة والعشرون: تعقد الجلسات برئاسة الرئيس أو الوكيل عند غيابه

وإذا غاب كلاهما انعقدت الجلسة برئاسة أكبر الحاضرين سنًا.

المادة الرابعة والعشرون: في غير الأحوال المنصوصة في القانون تكون

قرارات المجمع بالأغلبية النسبية.

المادة الخامسة والعشرون: للمجمع أن يعيد المناقشة في قرار سابق إذا طلب

ذلك ثمانية من الأعضاء.

المادة السادسة والعشرون: لا يجوز تغيير مادة من هذا القانون إلا بطلب

مكتوب يقدمه خمسة من الأعضاء، مبينة فيه أسباب التغيير يُقرأ في المجمع، ثم

ينظر في جلسة تالية ولا يكون التغيير صحيحًا إلا إذا اتفق عليه سبعة عشر عضوًا.

المادة السابعة والعشرون: كل خلاف يقع في تفسير مادة من مواد القانون

يعرض على المجمع لتقرير ما يُتَّبع في ذلك.

* * *

(تنبيه)

مقالة المسألة العربية كُتبت في العام الماضي، وأشير إليها في تقريظ

جريدة (القبلة) ، ج6، 190، الذي صدر في 30 المحرم سنة 1335 ثم

حذف منها، وزدنا في آخرها ذكر (استقلال الشعوب) .

_________

(*) هذا ما نشره كاتب سر المجمع في الصحف، وقد بيَّن المنار سبب تأليف هذا المجمع في المجلد 19.

ص: 61

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

فسخ عقد النكاح بالعيب في أحد الزوجين

(س3) من صاحب الإمضاء في العلاقمة بالشرقية

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

إلى القائم بأمر ربه المعتضد بحجة الله البالغة صاحب مجلة المنار أرفعه

مستفتيًا فضيلتكم بعد حمد الله حق حمده والصلاة والسلام على خير عباده سيدنا

محمد وعلى آله ومَن تبعه وتحية الله وسلامه عليكم.

أيها الأستاذ النبيل السيد السند:

يا صاحب الفضيلة بينما نقرأ ما يتعلق بالمرء وزوجه من بقاء النكاح وفسخه

في الكتب التي للأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم؛ إذ

رأينا فيها أنه ليس لأحد الزوجين أن يفسخ النكاح لعيب بالآخر إلا بالجنون

والجذام والبرص، ويسميها الأئمة - ومن تبعهم - العيوب المشتركة فتوقفنا في

حصر العيوب المشتركة التي يفسخ بها النكاح في الثلاثة الآنفة الذكر، مع وجود ما

يماثلها في الضرر، بل ربما كان أشد وأولى مما ذكروا بالفسخ كالسل والزهري

وغيرهما من الأدواء المستحدثة، وبعد البحث والتنقيب لم نعثر على قول لا في

الكتب التي بأيدينا ولا ممن سألناهم ممن يظن فيهم أنهم لا يتقيدون بما تقع عليه

أبصارهم من المنصوص، فبعثنا إليكم بتلك الرسالة مستفتين: هل تجري

الأدواء المستحدثة مجرى ما نصوا عليه لمشاركتها له في علة الحكم، فتكون مقيسة

عليه، فيفسخ بها النكاح أو يقف الأمر عند حد المنصوص، وهنا تساؤل: أيّ

فرق بينها وبينه؟ وإذا كان ما نص عليه الفقهاء مأخوذًا من دليل فما هو؟ هذا ما

نرجو أن تجيبوا عنه بفصل القول الذي نعهده فيكم ويعهده العقلاء أجمع، أمدكم

الله بالعلم النافع وهدانا الله وإياكم إلى ما يوصلنا إلى مرضاته وسلوك سبيله القويم،

إنه سميع قريب عليم.

...

...

...

أحمد عطية قوره من العلاقمة

(ج) ليس في هذه المسألة نص صريح في الكتاب ولا في السنة

الصحيحة وحديث زيد بن كعب بن عجرة الآتي فيه مقال، وليس فيه تصريح

بالفسخ لأجل البرص. ولكن فيها آثارًا عن بعض الصحابة والتابعين مستندة إلى

أصول الشريعة الثابتة من منع الغش ونفي الضرر والضرار، وحينئذ لا وجه

لحصر العيوب فيما ورد في تلك الآثار؛ إذ لا دليل على الحصر وإن ورد عن

بعضهم عبارة فيه فتلك العبارة ليست مما يحتج به مَن ذكرتم من الفقهاء كما يُعلم

من أصولهم، ومذاهبهم ليست متفقة كما ادَّعيتم. وقد حرر المسألة العلامة المحقق

ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) في فصل مستقل قال:

(فصل)

في حكمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد

بصاحبه برصًا أو جنونًا أو جذامًا أو يكون الزوج عِنِّينًا

في مسند أحمد من حديث يزيد بن كعب بن عجرة [1] رضي الله عنه أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها فوضع [2] ثوبه

وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضًا فانحاز [3] عن الفراش، ثم قال: (خذي

عليك ثيابك) ولم يأخذ مما آتاها شيئًا. وفي الموطأ عن عمر رضي الله عنه، أنه

قال: أيما امرأة غُرّ بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها المهر بما أصاب

منها وصداق الرجل على مَن غره [4] وفي لفظ آخر: قضى عمر رضي الله عنه

في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فُرق بينهما والصداق لها بمسيسه

إياها وهو له على وليها.

وفي سنن أبي داود من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: طلق

عبد يزيد أبو ركانة [5] زوجته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي

صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها

من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية، فذكر

الحديث

، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له: طلِّقْها، ففعل، قال: راجع

امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله قال: قد علمت،

راجعها، وتلا:] ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ [ (الطلاق: 1) ،

ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج له عن بعض بني أبي رافع وهو مجهول

ولكن هو تابعي وابن جريج من الأئمة الثقات العدول، ورواية العدل عن غيره

تعديل له ما لم يعلم فيه جرح، ولم يكن الكذب ظاهرًا في التابعين ولا سيما التابعين

من أهل المدينة ولا سيما موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما مثل هذه

السُّنة التي اشتدت حاجة الناس إليها، لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا

عن غير ثقة عنده ولم يبين حاله.

وجاء التفريق بالعنّة عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود

وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان والحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة

والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، لكن عمر وابن مسعود والمغيرة - رضي الله

عنهم - أجلوه سنة، وعثمان ومعاوية وسمرة رضي الله عنهم لم يؤجلوه،

والحرث بن عبد الله رضي الله عنه أجله عشرة أشهر. وذكر سعيد بن

منصور: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الله بن عوف عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب

رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيمًا، فقال له

عمر رضي الله عنه: أعلمتَها أنك عقيم؟ ، قال: لا. قال: فانطلقْ فأعلمْها، ثم

خَيِّرْها، وأجَّل مجنونًا سنة، فإن أفاق، وإلا فرق بينه وبين امرأته. فاختلف

الفقهاء في ذلك، فقال داود وابن حزم ومَن وافقهما: لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة،

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يفسخ إلا بالجب والعنة خاصة. وقال الشافعي

ومالك يفسخ بالجنون والبرص والجذام والقرن والجب والعنة خاصة. وزاد الإمام

أحمد عليهما: أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين، ولأصحابه في نتن

الفرج والفم وانخراق مجرى البول والمني في الفرج والقروح السيالة فيه والبواسير

والناصور والاستحاضة واستطلاق البول والنجو والخصي وهو قطع البيضتين

والسل وهو سل البيضتين والوجء وهو رضهما وكون أحدهما خنثى مشكلاً، والعيب

الذي بصاحبه مثله من العيوب السبعة والعيب الحادث بعد العقد وجهان.

وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في

البيع، وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه ولا مظنته ولا مَن قاله، وممن حكاه أبو

عاصم العباداني في كتاب طبقات أصحاب الشافعي، وهذا القول هو القياس أو قول

ابن حزم ومَن وافقه. وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو

أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة

اليدين أو الرجلين أو إحداهما أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات والسكوت عنه

من أقبح التدليس والغش وهو منافٍ للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو

كالمشروط عرفًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمَن تزوج

امرأة، وهو لا يولد له: أخبرْها أنك عقيم وخيِّرْها، فماذا يقول رضي الله

عنه في العيوب التي هذا عندها كمال بلا نقص.

والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح

من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط

المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورًا

قط ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغُبِنَ به. ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده

وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول،

وقُربه من قواعد الشريعة.

وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب رضي الله عنه قال:

قال عمر رضي الله عنه: أيما امرأة تزوجت وبها جنون أو جذام أو برص فدخل

بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها وعلى الولي الصداق بما دلس كما

غره. وَرَدُّ هذا بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر رضي الله عنه من باب الهذيان

البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة، قال الإمام أحمد: إذا لم يقبل سعيد بن

المسيب عن عمر رضي الله عنه فمَن يُقبل؟ ، وأئمة الإسلام جمهورهم يحتجون

بقول سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بروايته عن

عمر رضي الله عنه؟ وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يرسل إلى سعيد يسأله

عن قضايا عمر رضي الله عنه، فيفتي بها، ولم يطعن أحد قط من أهل عصره -

ولا مَن بعده ممن له في الإسلام قول معتبر - في رواية سعيد بن المسيب عن عمر

رضي الله عنه ولا عبرة بغيرهم.

وروى الشعبي عن علي كرم الله وجهه: أيما امرأة نُكحت وبها برص أو

جنون أو جذام أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك وإن شاء طلق،

وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها. وقال وكيع عن سفيان الثوري عن

يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنهم قال: إذا تزوجها

برصاء أو عمياء فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على مَن غره. وهذا يدل على

أن عمر رضي الله عنه لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص

والحصر دون ما عداها، وكذلك حكم قاضي الإسلام حقًّا، الذي يُضرب المثل

بعلمه ودينه وحكمه - شريح رضي الله عنه، قال عبد الرزاق عن معمر عن أيوب

عن ابن سيرين رضي الله عنه: خاصم رجل إلى شريح، فقال: إن هؤلاء قالوا

لي: إنا نزوجك أحسن الناس فجاؤوني بامرأة عمياء، فقال شريح: إن كان دلس

لك بعيب لم يجُز. فتأمل هذا القضاء وقوله: إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي

أن كل عيب دُلِّسَتْ به المرأة فللزوج الرد به.

وقال الزهري رضي الله عنه: يرد النكاح من كل داء عضال. ومَن تأمل

فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب إلا رواية رُويت

عن عمر رضي الله عنه: لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة الجنون والجذام

والبرص والداء في الفرج، وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادًا أكثر من أصبغ وابن

وهب عن عمر وعلي رضي الله عنهما وقد رُوي عن ابن عباس ذلك بإسناد متصل

ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عنه.

هذا كله إذا أطلق الزوج، وأما إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت

شوهاء، أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزًا شمطاء، أو شرطها بيضاء

فبانت سوداء، أو بكرًا فبانت ثيبًا. فله الفسخ في ذلك كله، فإن كان قبل الدخول

فلا مهر، وإن كان بعده فلها المهر، وهو غرم على وليها إن كان غرَّه، وإن كانت

هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد

في إحدى الروايتين عنه، وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما (إذا) كان الزوج

هو المشترط. وقال أصحابه: إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها إلا

في شرط الحرية إذا بان عبدًا فلها الخيار، وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان.

والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل

إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى؛ لأنه لا تتمكن من المفارقة بالطلاق،

فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى، وإذا جاز لها أن تفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به فإذا شرطته شابًّا جميلاً صحيحًا

فبان شيخًا مشوهًا أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به وتمنع من

الفسخ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع

وبالله التوفيق. وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا

يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن، وهو أشد إعداءً من ذلك البرص اليسير،

وكذلك غيره من أنواع الداء العُضَال [6] وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته وحرم على مَن علمه أن يكتمه من المشتري، فكيف

بالعيوب في النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس - حين

استشارته في نكاح معاوية رضي الله عنه أو أبي جهم رضي الله عنه: (أما

معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) ، فعلم أن

بيان العيب في النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به

سببًا للزومه، وجعل ذا العيب غلاً لازمًا في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه، ولا

سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه؟ ، وهذا مما يعلم يقينًا أن التصرفات

(في) الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه، والله أعلم.

وقد ذهب أبو محمد بن حزم إلى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد

أي عيب كان فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه ولا إجازة ولا

نفقة ولا ميراث، قال: إن التي أدخلت عليه غير التي تزوج؛ إذ السالمة غير

المعيبة بلا شك؛ فإذًا لم يتزوجها، فلا زوجية بينهما. اهـ.

***

الإصرار على البدع

وما يُشترط في مكان الجمعة وزمانها وعدد جماعتها

(4-7) من الشيخ يوسف أحمد سليمان، الطالب بمشيخة الإسكندرية

من (طملاي) بمركز منوف.

فضيلة الأستاذ مفتي المنار

سأل عبد الرحمن أحمد الصعيدي من طملاي عن حكم فعل البدع التي كثيرًا

ما نهينا أئمة البلد عنها ولله الحمد، فأجبتم إجابة كافية شافية في الجزء التاسع الذي

صدر في 30 ربيع سنة 1335 (صحيفة 538) ، وعرضنا الجواب على علماء

الناحية، لا فرق بين مدرس في الأزهر وغير مدرس فقرؤوه وفهموه، والتمسنا

العمل بما علموه فامتنعوا، وقالوا: إن تَرْكُ العمل غير جائز والعمل بالبدع جائز

وهو أحسن! ولذا لم يتركوا حتى ولا واحدة، بل زادوا الطبل والرايات أمام

الجنازة إذا شخص منهم مات، وعضوا عليها بالنواجذ. وقد رأينا في كتاب فتاوى

أئمة المسلمين للشيخ محمود (صحيفة 56) : سئل الشيخ أحمد الرفاعي عن الذي

لم يرضَ بسنة النبي في الصلاة أو الدفن، فهل تصح الصلاة خلفه، ويصح أن

يجعل من عدد الجمعة؟ ، فأجاب بأن الصلاة خلفه باطلة وإذا جعل من عدد الجمعة

بطلت صلاة الجمعة على جميع المسلمين. وسئل الشيخ سليم البشري عن رجل

يقول بعدم جواز ترك البدع المجمع على بدعيتها كالترقية

إلخ، وإذا قيل له سُنَّةُ

النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمور لا يقبل النصيحة، وهذا الرجل إمام

راتب في مسجد، فهل يصلون جماعة في المسجد قبله أو معه أو بعده؟ ، فأجاب

بأن هذا الإمام مبتدع فلا يكون إمامًا للمسلمين، وعليهم أن يجتهدوا في منعه من

الإمامة ولو بواسطة الأفراد.

فعلى هذا؛ هل الشرع الذي شرعه لنا رسول الله يرى لنا رخصة في كوننا

نصلي الجمعة في الغيط أو في البيت أو في المسجد بعدد أقله ثلاثة غير الإمام

الخاطب من وقت صلاة العيد إلى الاصفرار، هل ذلك يجزئ أم لا، وما هي التي

تجزئ؟ اشفنا بالجواب، رفعك الملك الوهاب.

* * *

الجواب في مسألة البدع:

البدع منها ما يكون كفرًا أو وسيلة إلى الكفر ومنها ما هو حرام وما هو

مكروه، وليس في البدع الشرعية شيء جائز كأن يكون مباحًا؛ لأنها لا تكون إلا

ضلالة كما ورد في الحديث، وقد صرح بهذا الفقيه ابن حجر المكي في الفتاوى

الحديثية (ص306) وأما البدعة غير الشرعية فهي التي قالوا: إنها تنقسم إلى

الأحكام الخمسة كما بيّنه ابن حجر في ص112 من الفتاوى الحديثية أيضًا، ولكنه

أخطأ في بعض الأمثلة، وعبّر عن بعض هذه البدعة بالبدعة اللغوية وقد فصَّل

العلامة الشاطبي هذا البحث تفصيلاً تامًّا في كتابه (الاعتصام) ، وسبق لنا نقل

كثير من فصوله. ولم يبلغنا قبل اليوم أن الجهل بلغ من أحد ينسب إلى الإسلام

مبلغًا حمله على القول بأن العمل بالبدعة الشرعية جائز وأنه خير من تركها! . وما

نقله السائل عن الشيخ أحمد الرفاعي فيه مبالغة لا نعرف لها وجهًا بذلك الإطلاق،

وما أفتى به الشيخ سليم البشري حق ظاهر، والشيخ أقدر من كل أحد في مصر

على مقاومة البدع وإبطال كثير منها؛ وذلك لا يكون بفتوى منه؛ فإنه يَقِلُّ في هذا

القطر مَن يترك شيئًا تعوَّده لفتوى عالم، ولكن لدى الشيخ وسائل أخرى، كل منها

يؤثر ما لا تؤثر الفتاوى الفردية.

يسهل على الشيخ - وهو رئيس العلماء - أن يؤلف لجنة من كبار علماء

المذاهب الأربعة في الأزهر ويأمرها بإحصاء البدع الفاشية في المساجد والأضرحة

والموالد وغيرها وتأليف رسائل في التغير عنها، تطبع ويذكر فيها أسماء عشرات

من العلماء الذين ألفوها وأقروها، وأن يعهد إلى علماء جميع المعاهد الدينية

وطلابها بنشرها وقراءتها على الناس في المساجد بنظام متبع، وكذا في غير

المساجد بشرط أن يكونوا أول العاملين بها والمنكرين على كل من يخالفها، ويمكن

طبع الألوف من هذه الرسائل على نفقة الأوقاف الخيرية المطلقة وتوزيعها بغير

ثمن، وأن يعهد إلى بعض المنشئين المجيدين بإنشاء خطب في ذلك، توزعها

وزارة الأوقاف على خطباء جميع المساجد ليخطبوا بها، وأن يقترح على الشعراء

المجيدين أن ينظموا ذلك في قصائد وموشحات تزجر الناس عن تلك البدع. ويسهل

عليه أيضًا أن يتوسل بالحكومة إلى إبطال كثير من تلك البدع، ولا سيما بدع

المواسم والاحتفالات التي للحكومة يد فيها. فعسى الله أن يوفق الشيخ إلى هذا

العمل الذي لا يقدر عليه غيره، فيكون ذخرًا له عند الله تعالى، وموجبًا لثناء

الناس كلهم بحق.

***

الجواب عن مسألة العدد في الجمعة:

اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على خمسة عشر قولاً، نقلها

الشوكاني عن الحافظ ابن حجر، أضعفها القول بأنها تصح من الواحد، فلا يشترط

فيها عدد - وقد نقل الإجماع على خلافه - ثم القول بأنها لا تنعقد بأقل من ثمانين،

وهو أكثر ما قيل فيها. وأوسطها القول بأنها تصح من اثني عشر غير الإمام،

وهو العدد الذي بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجمَّع بهم حين انفض الناس

إلى التجارة، وهم الذين نزل في شأنهم آخر سورة الجمعة، فظاهر حديث جابر في

المسألة عند أحمد والشيخين أنه صلى بهم، وإن لم يصرح بذلك وصح عند

الطبراني وابن أبي حاتم أنه صلى الله عليه وسلم سألهم عن عددهم فكانوا 12

رجلاً وامرأة، فلولا اعتبار العدد الذي لا يعرف إلا بالعد - دون مجرد النظر - لم

يسألهم، وفيه أن ذلك لا ينفي صحتها بأقل من هذا العدد؛ لأن هذه واقعة عين لا

تدل على العموم، وإنما وجه الاستدلال به أنه يقال فيه ما قيل في خبر انعقادها

بالأربعين، وهو أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد في الجمعة، وقد ثبت جوازها

بهذا العدد، فلا يجوز بأقل منه، ولا سيما في الابتداء إلا بدليل، ولم نَرَ دليلاً

صحيحًا لأحد ممن قالوا بانعقادها بأقل من ذلك، فأقل ما يقال فيه: إن انعقادها بما

دون هذا العدد مشكوك في صحته، ولا يزيل هذا الشك قياسها على الجماعة الذي

استدل به مَن قال بانعقادها باثنين أو ثلاثة مع الإمام أو بدونه؛ لأنه معارض لما دل

عليه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد مَن بقي يوم انفض الناس من حوله؛

ولأن مخالفة الجمعة لغيرها من الصلوات الخمس في بعض الأحكام فارق يبطل

صحة القياس، ولو كان صحيحًا لما خفي على الصدر الأول، ولم ينقل عنهم

التجميع بثلاثة أو أربعة، ولكنَّ في الأربعة حديثًا لا يصح. هذا ما أراه أقوى

الأقوال في المسألة. وقال الحافظ - عند ذكر القول الخامس عشر - وهو اشتراط

جمع كثير بغير قيد: ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. اهـ، وفيه أن

الاثني عشر إذا لم يكونوا جمعًا كثيرًا فما حد الكثرة عنده، وهي من الأمور

النسبية، وما الدليل عليها؟

* * *

الجواب عن مسألة مكان الجمعة:

اشترط بعض الفقهاء أن تقام الجمعة في مصر جامع؛ أي: مدينة، ولم يجيزوا

إقامتها في القرى بمعناها العرفي أي الضياع أي البُليدات القليلة السكان. وروي

ذلك عن علي كرم الله وجهه مرفوعًا، وقد ضعَّف أحمد رفعه وصحَّح ابن حزم وقفه

وعليه زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله من أئمة العِتْرة وأبو حنيفة وأصحابه.

والجمهور يجيزون التجميع في القرى بالمعنى العرفي المذكور، ومن حججهم ما

رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: أول جمعة جُمعت بعد

جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بجُواثي من

البحرين هذا لفظ البخاري ولفظ أبي داود: بجواثي قرية من قرى البحرين. وزاد

أيضًا: (في الإسلام) بعد قوله: أول جمعة جمعت. قالوا: وصلاة الجمعة في

ذلك الوقت مما لا يفعله الصحابة باجتهادهم بل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي

وإن فُرض فعلها باجتهادهم فلا يعقل أن يخفى عليه فإذًا لا يكون إلا بأمره، وهو

الراجح أو بإقراره؛ إذ لو أنكره عليهم لتوفرت الدواعي على نقله. وكتب عمر إلى

أهل البحرين: أن جَمِّعُوا حيثما كنتم، وصححه ابن خزيمة عنه. وروى عبد الرزاق

عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يُجَمِّعُونَ فلا

يعتب عليهم. أقول: ولا حجة فيما هو آثار عن الصحابة مختلفة والقرية في حديث

ابن عباس الذي في معنى المرفوع هو المصر. ويمكن الجمع بأنها تصح من أهل

الضياع والمزارع ولا تجب عليهم، بل على أهل المدن. ونص حديث علي المشار

إليه آنفًا: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع) .

والقرية والمدينة والمصر والبلد تتوارد على معنى واحد في اللغة، وإن كان

بينها فروق دقيقة في موادها، فقد أطلق في القرآن اسم القرية والبلد على مكة،

وهي أيضًا مدينة ومصر بلا خلاف، وأطلق اسم القرية في سورة يوسف على

مصر (82: 12) وقال علماء اللغة: القَِرية - بالفتح والكسر - المصر الجامع،

ولا ندري متى جعل المولدون لفظ القرية اسمًا للبُليدة الصغيرة، وفسر أهل اللغة

المصر بالكورة والصقع، والكورة بالمدينة، وقالوا: إن الكورة والخلاف والرستاق

والجند واحد، وهو مجموع القرى والمزارع، فكأن المصر البلد الذي يتبعه عدة

مزارع وضياع وهو كالبندر في عُرف مصر، وقال الراغب: المصر اسم لكل بلد

ممصور أي محدود، يقال: مصرت مصرًا: أي بنيته. والمصر: الحد. اهـ،

وقول الليث إنه عندهم الكورة التي تقام فيها الحدود، ويقسم الفيء والصدقات من

غير مؤامرة الخليفة - اصطلاح إسلامي.

واشترط بعض العلماء إقامة الجمعة في مسجد مستدلاً بعمل الناس في الصدر

الأول وما بعده، والعمل وحده لا يعدونه دليلاً، وروى أهل السير أنه صلى الله

عليه وسلم صلى الجمعة بالناس في بطن الوادي قبل وصوله إلى المدينة، وصرح

ابن القيم بأنه صلاها هنالك في مسجد، والجمهور لا يشترطون المسجد، وثبت

عن الصحابة إقامة الجمعة في مصلى العيد خارج البلد.

***

الجواب عن مسألة وقت الجمعة:

ورد في الأحاديث الصحيحة التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان

يصلي الجمعة حين تميل الشمس أي عند الزوال، بأنهم كانوا يصلون معه، ثم

يرجعون إلى القائلة فيقيلون، روى المعنيين أحمد والبخاري من حديث أنس،

والقائلة:الظهيرة أي منتصف النهار والقيلولة:وهي النوم في الظهيرة أو الاستراحة

فيها، وإن لم ينمْ، وفي حديث سهل بن سعد الذي اتفق عليه الجماعة: ما

كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. أي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما

صرح به في رواية مسلم والترمذي. وعن ابن قتيبة: (لا يسمى غداء ولا قائلة

بعد الزوال) ، وهنالك أحاديث أخرى بهذا المعنى أخذ بها الإمام أحمد، فقال

بصحة الجمعة قبل الزوال، وتكلف الجمهور تأويلها، وذهب بعض أصحاب أحمد

إلى أن وقتها وقت العيد، وبعضهم إلى أنها لا تقدم على الساعة السادسة، أي التي

تنتهي بالزوال، والجمهور منهم كغيرهم، فالمعروف في فقههم أن وقتها وقت

الظهر، ولا دليل على صحتها في وقت العصر، والتجميع قبل الزوال مختلف فيه،

وموجب للافتراق والقيل والقال بلا فائدة، فلا ينبغي الإقدام عليه.

_________

(1)

كذا في نسخة الكتاب المطبوعة بمصر الكثيرة الغلط، وهو غلط صوابه زيد بن كعب بن عجرة، كما في سنن سعيد بن منصور، وقد شك في المسند، فقال عن جميل بن زيد قال: حدثني رجل من الأنصار ذكر أنه كان له صحبة يقال له كعب بن زيد أو زيد بن كعب ومثله عند ابن عدي والبيهقي ورواه الحاكم في المستدرك من حديث كعب بن عجرة ولم يشك وجميل بن زيد ضعيف، وقد اضطرب في هذا الحديث، وقال الحافظ ابن حجر: مجهول.

(2)

في النسخة المذكورة: وضع.

(3)

وفيها: فأماز.

(4)

عزاه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام إلى سعيد بن منصور ومالك وابن أبي شيبة، ثم قال: ورجاله ثقات، وروى سعيد أيضًا عن علي نحوه، وزاد: وبها قرن فزوجها بالخيار، فإن مسها فله المهر بما استحل من فرجها (وسيأتي) .

(5)

في السنن زيادة: وإخوته أي: وأبو إخوة ركانة.

(6)

ومنه داء السل وداء الزهري.

ص: 97

الكاتب: محمد رشيد رضا

رحلة الحجاز [1]

(4)

السفر إلى مكة المكرمة

في صبيحة يوم السبت سافر ركب المحمل المصري من جدة قبل شروق

الشمس، وفي ضحوته سافرت الوالدة والشقيقة ومعهما الصديق الكريم الشيخ خالد

النقشبندي والصهر الحميم محمد نجيب أفندي وقد استأجرنا لهم أربعة جِمال

بجنيهين، اثنان للركوب واثنان لحمل المتاع (العفش) وأرسلت حكومة جدة معهم

جنديين عربيين من جنود الشريف الهجانة للخفارة وزوَّدهم صديقنا ومضيفنا الشيخ

محمد نصيف بأنفس الزاد الكافي. وتأخرت عنهم لإتمام ما كنت بدأت به من كتابة

نبذة من التفسير للمنار لإرسالها مع البريد من جدة مع كتابة ما لا بد من كتابته

إلى مصر. ثم سافرت بعد صلاة العصر من هذا اليوم على حمار استأجرته بمائة

قرش عثماني ولم أكد أظفر به لولا مساعدة الأصدقاء؛ لأن المغاربة والمصريين قد

سبقوا إلى استئجار جميع حمير البلد أو أكثرها! وسافر معي جنديان من هجانة

العرب بأمر الحكومة لأجل التكريم لا الحفظ؛ فإنها واثقة بأمن الطريق، وركب

معي الشيخ محمد نصيف والشيخ مساعد اليافي مدير الشرطة في جدة وبعض

الأصدقاء مشيعين مودعين ثم عادوا عند غروب الشمس إلى جدة، وقد زودني

الصديق المضيف بالزاد النفيس الكافي كما زود الآل والصحب واختار لي شابًّا

نشيطًا من أهل جدة للخدمة في الطريق وأخذ الحمار في مكة وأدركنا في الطريق

أحد الحجاج المصريين على حمار، فرافقنا.

* * *

(العناية بأمر الماء في السفر)

ولم أهتم لنفسي إلا بملء إبريقي المعدني الذي يحفظ ما يودع فيه من بارد

وحار زمنًا طويلاً بقطع الثلج وملء قربة من الماء النقي. ذلك بأني أعنى بأمر

الماء ما لا أعنى بأمر الطعام ولا سيما في السفر، ولا يشق عليّ فقْد شيء من

طيبات الدنيا التي اعتدتها إلا الماء البارد النقي. وهذا الإبريق من نوع الرَّوَّايات

الوارد (أوعية الماء للسفر) الإفرنجية التي يسمون واحدها (ترموس) وأكثر هذا

النوع عمودي الشكل، وهو يحفظ ما يودع فيه من بارد وحار يومًا وليلة بالتقريب،

وإبريقي الذي ذكرت يخالفها في الشكل والجودة؛ فهو نوع جيد يحفظ الثلج أو

الجليد عدة أيام لا يذوب منه إلا القليل، وقد ملأته بالثلج مرة في طرابلس الشام

وسافرت قاصدًا مصر، فبِتّ في بيروت ليلتين وفي البحر ليلتين، بعدها لم أحتجْ

فيها إليه؛ لأنني أعده لشرب الليل والماء المثلوج متيسر في الباخرة عامة النهار

وناشئة الليل. وقد اتفق أن كان منزلي (القمرة) من الدرجة الأولى بجانب

مستودع الماء المثلوج للباخرة، وفي ضحوة اليوم الخامس نزلنا في محجر

الإسكندرية الصحي فتعاهدت الإبريق فإذا بالثلج فيه لم يذُب إلا بعضه. وقد كان

هذا الإبريق هدية من سلطان مسقط السابق السيد فيصل رحمه الله تعالى - ولم أَرَ

هذا النوع إلا عنده - أهداه إليَّ عند سفري من مسقط سنة 1330؛ إذ رأى أنني

حين كنت في ضيافته لم أسأل عن شيء إلا عن الماء المثلوج. وكان عنده آلة

لصنع الثلج، ولكنها كانت معطلة في فصل الشتاء، وكان وصولي إلى مسقط في

أول فصل الربيع والشمس في برج الحَمَل (شهر أبريل - نيسان) ، فأمر بإصلاح

الآلة واستعمالها قبل الموعد المعتاد عندهم لأجلي. ووضع عندي في دار الضيافة

إبريقًا من هذا النوع الذي نتكلم عنه ليتيسر وجود الثلج عندي في كل ساعة من

الليل والنهار، ولما سافرت وجدت مع متاعي في الباخرة إبريقًا آخر منه جديدًا لم

يُستعمل من قبل، فاستفدت منه في سفري ذاك، وكان أكبر نفعه في السفر من

البصرة إلى بغداد في شط العرب ودجلة؛ إذ قلّ الثلج في الباخرة بين العمارة

وبغداد، ثم نفد، ثم في السفر من بغداد إلى حلب ولا يوجد الثلج بينهما إلا في

مدينة دير الزور وهي بين العراق وسورية، وكان شأننا في تدبير ماء الشرب في

ذلك الطريق - التي قطعناه في 18 ليلة في مركبات (عربات) سفرية تسير على

ضفاف الفرات لا تبعد عنه في بعض الأحيان إلا قليلاً- أننا كنا كلما نزلنا منزلاً في

المساء نبادر إلى تقطير الماء في قدور من الفخار، ثم نبرده بهواء الليل الجاف

البارد في أكواز (قلل) الماء البغدادية وفي قلة معدنية مغشَّاة بقِماش يبلل بالماء،

فيبرد المعدن بضرب الهواء له، ويبرد الماء ببرده - وهذه القلة أهداها إليّ الطبيب

النطاسي محمد عبد الولي في مدينة لكنهو بالهند - وكنت قبل الإدلاج في آخر الليل

أملأ الإبريق المعهود من هذا الماء وترمسًا آخر عموديًّا من النوع المعروف لكثرته

في هذه البلاد، كان أهداه إليَّ صديقي السيد يوسف الزواوي أكبر سروات مسقط

بعد بيت السلطان فيها، فكنت أشرب في بكرة النهار من هذا وأدخر ذاك إلى العشي؛

لأنه أحفظ، والتغير فيه أبطأ. وقد انكسر العمودي معي في حماه، ولا أسف

عليه؛ لأن مثله كثير، إلا أنه أثر من صديق، ثم انكسر الأول في مصر فآلمني

كسره لطرافته وفائدته ولكونه أثرًا من ذلك السلطان الكريم - سقى الله لحده - ولكن

نجله البر الوفي صديقي السيد نادر قائد الجيش الأول لسلطنة مسقط أهداه إليّ إبريقًا

آخر عوضًا عنه، وهو الذي كان معي في الحجاز وكان ما حملت فيه من الثلج

كافيًا لي بين جدة ومكة، إلا أن ماء قربة الجلد تغير في الطريق؛ لأنها كانت بعيدة

العهد بالاستعمال.

وسبب حفظ الترمس لما يودع فيه مدة طويلة هو أنه مؤلف من إناءين،

أحدهما وهو الظاهر معدني وثانيهما زجاجي، باطنه كالمرآة وظاهره مُغشّى بمادة

من المواد البطيئة التوصيل للحرارة والبرودة، ويوضع الزجاجي في باطن المعدني

منفصلاً عنه، ويكون الاتصال بينهما من أعلى الفوهة ولهذه الفوهة صمام (سداد)

من الفلين على رأسه قطعة من معدنه الأبيض ويكون فوقها غطاؤه المعدني المتصل

به، فإذا رفع الصمام قليلاً أمكن صب الماء من بلبل الإبريق.

أطلت في مسألة الماء ليستفيد مما كتبت مَن يعنون بأمر صحتهم ورفاهيتهم

في السفر. والعناية بأمر الماء محمودة، بل ضرورية، فالماء الرديء يكون سببًا

لأمراض كثيرة؛ إذ الماء يحمل من جراثيم الأمراض والأوبئة ما لا يحمل غيره،

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل ما وجد ولا يذم طعامًا ولكنه لم يكن

يشرب من كل ماء يوجد، بل كان يستعذب له الماء من آبار السقيا وهي على

مسافة يوم من المدينة أو أكثر، وكان أحب الشراب إليه العذب البارد. والماء الذي

يوجد بين جدة ومكة في القهاوي - أي الأكواخ التي يأوي إليها المسافرون

للاستراحة وشرب القهوة والشاي - كله قذر، فلا أصله جيد ولا أوانيه نظيفة،

وماء بحرة - التي ينزل فيها جميع الحجاج للاستراحة - رديء غير عذب. ويقال

إن بالقرب منها بئرًا لا بأس بمائها، ولكن لا يسهل إلا على الأقلين الوصول إلى

شيء منها. فمن الضروري للمسافر الذي يُعنَى بصحته أن يحمل ما يكفيه من الماء

بين جدة ومكة في سفره من كل منهما إلى الأخرى، وللشقادف قلل من الفخار

يربطونها في مؤخرتها، فيكون ماؤها مقبولاً ولا سيما في الليل.

* * *

(القهوات في طريق مكة والدكرور)

نزلنا بعد المغرب في أول قهوة من القهوات التي أشرنا إليها آنفًا، فأذنت

وصليت المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، وصلى معي الرفاق، وشربت الماء

المثلوج وشرب الرفاق القهوة وبعد أن استرحنا قليلاً أعطيت صاحب القهوة عنهم

أضعاف المعتاد، فدعا لنا، وركبنا حُمُرنا وركب الجنديان هجانهما، وسرينا لا

نرى من الحجاج في الطريق إلا سودان الدكرور مشاة على أرجلهم رجالاً ونساءً

وأطفالاً، يحمل الرجال حرابهم والنساء أطفالهن على ظهورهن وما لديهن من

المتاع والزاد على رءوسهن، وكنا نرى بعضهم نيامًا على جانبي الطريق، فهم

ينامون إذا تعبوا، فإذا استيقظوا في أي ساعة في ليل أو نهار مشوا، لا يخافون

اللصوص ولا قُطاع الطريق، وقد قيل لنا: إنه لا يتعرض لهم أحد بسوء؛ لأنه لا

يكاد يوجد معهم شيء له قيمة ينتفع به اللصوص من الأعراب هنالك؛ فأكثرهم

عراة لا يملكون من اللباس ما يزيد على ستر العورة ولباس جميع رجالهم ونسائهم

الأبيض وهم مع ذلك يدافعون عن أنفسهم دفاع الأبطال بحرابهم السودانية، فلا

يُستهان بهم مع كثرتهم؛ فإنهم منتشرون طول الطريق، لا تبعد ثلة منهم عن أخرى

إلا قليلاً، واللصوص قلما يكونون كثيرين إلا إذا كانوا يقصدون سلب القوافل

الكبيرة.

* * *

(أمن الطريق وحادثة اعتداء)

وقد كان الطريق في هذا الموسم آمنًا مطمئنًّا، لم يبلغنا أنه وقع فيه اعتداء

على أحد إلا ما حدث بالقرب منا، فإننا سمعنا قبل انتهاء الثلث الأول من الليل

صوت طلق رَصاص استفز الحارسين اللذين معنا، فسألتهما: ما هذا؟ قالا: قوم.

وهم يعنون بكلمة القوم اللصوص وقطاع الطريق، وأشارا علينا بأن نسرع في

السير ما استطعنا، ونقصد قهوة كنا نرى ضوءها فننزل فيها، وتركانا مسرعين

بهجانهما إلى الجهة التي سمع منها صوت الرصاص، وطفقنا نحن نلكز حمرنا

مسرعين بها إلى تلك القهوة، فبلغناها بعد جهد وعناء فاسترحنا فيها ساعة، وشرب

رفيقاي الجندي والمصري الذي ألفَيْناه في الطريق الشاي، ورأينا هناك أناسًا من

الفقراء يطلبون من القهوة طعامًا. ثم جاء الجنديان مع رجل آخر، فأخبرا أن القوم

- قطاع الطريق - الذين سمعنا صوت رصاصهم قد شرّدوا بعيرين للرجل الذي

عاد معهما ولرفيق له، وكانا عائدين من جدة بعد بيع ما كانا حملاه إليها، وأن

خفراء الطريق ما زالوا يقتفون أثرهم، وقال الرجل: إنه لم يَرَ هو ورفيقه إلا لصًّا

واحدًا، ولكنه مسلح وهما أعزلان.

* * *

(النزول ببحرة)

وبعد استراحة الجنديين وشربهما الشاي أكرمت صاحب القهوة واستأنفنا

السرى، فبلغنا (بحرة) في منتصف الليل تقريبًا ورأينا أنوار ركب المحمل

المصري بالقرب من الخصاص التي يأوي إليها الحجاج وغيرهم من المسافرين،

والخصاص جمع خص، وهي البيوت من عيدان الأشجار أو القصب أو غيره من

النبات وهي هنالك كثيرة تسع الألوف الكثيرة من الناس، وعلى جانبي الطريق

سوق منها، فيه الحوانيت والقهوات وإن شئت قلت: الخانات أو الفنادق لإيواء

المسافرين، فيجد المسافرون فيها الماء والخبز واللحم والبيض وأنواعًا أخرى من

الأغذية وقهوة البن والشاي، والموسرون من المسافرين قلما يحتاجون إلى شيء

منها؛ لأنهم يحملون زادهم من جدة أو مكة لعلمهم بأن ما يوجد هنالك غير نظيف

ولا جيد. والخصاص التي وراء هذه السوق التي في الطريق العام عبارة عن دور

يتألف كل منها من عدة بيوت، يمكن أن يجعل بعضها للنساء وبعضها للرجال ولها

مراحيض وراء المساكن. وقد نزلنا في قهوة كبيرة كنا أُوصِينا بالنزول فيها،

فاسترحنا فيها ساعتين كاملتين وكنا قد جُعنا فأكلنا مما نحمل من لحوم الضأن

والدجاج والسمك والخضر والحلوى والفاكهة وشربت الماء المثلوج وحمدت الله

تعالى حمدًا كثيرًا. وأحببت أن أعرف أين نزل جماعتنا فتعذر عليّ ذلك.

* * *

(السُّرَى من بحرة ومسألة أمن الطريق)

ولما أردنا استئناف السرى استأذنني الجنديان في البقاء ببحرة؛ لأنهما

يريدان العودة صباحًا إلى جدة، وجاءاني بجنديين عربيين من المشاة، فقالا: هذان

من جنود سيدنا الموكلين بحراسة الطريق وهما يقومان مقامنا، فسرينا ومشيا أمامنا،

يحمل كل منهما بندقية من الماوزر على كتفه شادًّا مِنطقة من رصاصها المنضود

في وسطه، وهو حافي القدمين، ليس عليه إلا قميص قصير، فسألت أحدهما عن

أمن الطريق، فقال: إن الأمن تام ولا خوف عليكم في الطريق، قلت: أرأيت إذا

هجم علينا قوم كثيرون فماذا تغني عني أنت وصاحبك؟ قال: إن القوم الكثيرين

لا يعتدون على الأفراد أو الجماعة القليلة من المسافرين وإنما يقصدون القوافل

الكبيرة التي تحمل ما يحتاجون إليه من الطعام ونحوه، والقوم القليلون لا يتجرؤون

على جنود سيدنا، وإن كانوا أقل منهم، وفي الطريق على طوله مخافر متقاربة

يمكن إيصال أنباء الاعتداء من بعضها إلى بعض بسهولة. وحقًّا ما قال؛ فإنَّا كنا

بعد مفارقة جدة بقليل نرى تلك المخافر على جانبي الطريق، وكثير منها في

الروابي والهضاب، وهي كثيرة متقاربة، وكان هذان الجنديان كلما أبصرا أحداً في

الطريق على مقربة منا أسرعا إليه قبل وصوله إلينا وعرفا حاله. وقد رأينا في

طريقنا قبل بحرة وبعدها كثيرًا من القوافل قاصدة جدة إما من مكة وإما من الطائف،

وهي التي تحمل الفاكهة كالرمان والعنب والسفرجل، ورأينا أيضًا كثيرًا من

الأفراد والجماعات يقصدون جدة. وفي أثناء الساعة الثانية وصلنا إلى قهوة

استرحنا فيها قليلاً واستأذنني الجنديان بالتخلف وأوصيا جنديًّا كان هنالك بأن

يصحبني إلى مكة، وكانت المسافة قد قربت وعلمت منهما أنهما جائعان، وليس

معهما شيء، فأعطيتهما ما تيسر من الدراهم.

ثم أدلجنا وسألت الجندي عن حال الأمن في تلك البقعة فقال: إن هذه الأرض

أرض هذيل الذين أنا منهم، وهم لا يسرقون ولا يعتدون على أحد وإن ماتوا جوعًا

بل يعيشون بمواشيهم وإنما اللصوص وقطاع الطريق هم عرب الشمال. وبعد أن

أصبحنا وصلنا إلى مكان، فذكر لي حادثة من الحوادث المثبتة لأمانتهم، قال:

مات في هذا المكان رجل من حجاج المغاربة، يظهر أنه كان مريضًا، فتعب في

الطريق فتحول عنه إلى هذا المكان للاستراحة فمات فيه وكان له ولد منفرد عنه

وصل مكة، فلم يجد والده فعاد ينشده في الطريق وكان بعض عربنا قد رأوا الميت

ووجدوا معه كيسًا كبيرًا فيه نقود كثيرة فحفظوه ولما رأوا الولد دلوه على والده

وأعطوه نقوده وأعانوه على دفنه ولم يأخذوا من الكيس شيئًا ولو شاؤوا لأخذوه كله.

وجملة القول إن العناية بحفظ الأمن في هذا الموسم كانت كبيرة، وإنني لم

أسمع من أحد من الحجاج شكوى اعتداء على نفس ولا مال، ولكن حدثتني الوالدة

- بعد الوصول إلى مكة المكرمة - أنه عرض لهم في الليل رجل ادعى أنه من

الحجاج المصريين من المنصورة، وأنه فقير لم يجد ما يركبه، وكان يحاول أن

يركب البعير الذي عليه أسفاطنا وصناديقنا، فينهره أحد الجنديين اللذين معهم

بالكلام فيتحول قليلاً، ثم يعود، ولم ينصرف حتى هدده بالضرب، واتهمه بأنه

يريد أن يركب البعير ليشرده ويذهب به، وأنه لا بد أن يكون له رفاق ينتظرونه.

ويجوز أن يكون الرجل صادقًا، ولكن إساءة الظن في هذا المقام من الفِطنة.

والفضل الأول في هذا الأمن الذي لم يُسمع بمثله منذ قرون لشخص الشريف

الحسين بن علي [2]، وقد كان السيد الزواوي قال لي -منذ بضع سنين -: إنه لم

يَرَ أقدر من هذا الأمير على حفظ الأمن في الحجاز كله، وسياسة العرب فيه.

* * *

(بحث لغوي في الحجر والفِهْر والصخر)

لم أستفد من حديث هذا الأعرابي الجندي ولا من حديث مَن قبله فائدة لغوية

تُذكر، على أني أكثرت من الكلام مع هذا ما لم أكثر مع الآخرين ورأيته أفصح

منهم وذكرت له أبياتًا من الشعر العربي، فرأيته لا يفهم جميع مفرداتها، ولكنه

امتحنني بالسؤال عن شيء أبيض في الجبل - ولون الجبل أسود بل أصهب - قلت:

أي شيء هو؟ ، قال: ما هو مثل الشاة؟ والغنم هناك أبيض اللون، قلت: نعم.

قال: هذا فِهر. وأقول: إن المشهور في كتب اللغة أن الفِهر الحَجر الصغير

الذي يؤخذ باليد، ويدق به الجوز ونحوه، وقال بعضهم: الذي يملأ الكف. وذلك

الحجر كبير لا يمكن رفعه بيد واحدة؛ ولذلك رجعت إلى معاجم اللغة، فرأيت في

لسان العرب - بعد تعريفه بما ذكرت آنفًا -: (وقيل هو الحجر مطلقًا) ، ومن

العجيب أنه قد فسر هو والفيروزآبادي الحجر بالصخرة، والصخرة بالحجر

العظيم الصلب. وهو تساهل أو تقصير في تحديد المعاني، والصواب أن الحجر

اسم جنس لهذه الأجسام المعروفة يُطلَق على صغيرها وكبيرها وعلى الصلب الشديد

اليبوسة منها وغيره. وقالت العرب: استحجر الطين أي يبس فصار حجرًا.

والصخر ما عظم من الحجارة، واحدته صخرة، والحصى صغار الحجر، واحدتها

حصاة، وجمعها حصيات وحُصيّ. قالهما ابن سيده في المخصص، وهذا ما يفهمه

جميع الناطقين بالضاد من معنى الحجر والصخر والحصى. وقول اللسان في الفهر:

(وقيل هو الحجر مطلقًا) على ضعفه - لا يؤخذ على إطلاقه والذي ظهر لي من

نُقول أهل اللغة ومن كلمة الأعرابي الهذيلي أن أكثر العرب كانت تطلق الفهر على

الحجر الذي يؤخذ باليد الواحدة للدق به والكسر أو الحذف والرجم، وقليل منهم

أطلقه على ما يؤخذ بكلتا اليدين لدقّ شيء أو ضربه، وأكثر العرب تؤنث الفِهر،

وورد تذكيره في حديث حمالة الحطب؛ فإنها أخذت فهرًا وجاءت لتضرب به النبي

صلى الله عليه وسلم، فلم تره فقالت لأبي بكر رضي الله عنه وهو معه -: لو

وجدت صاحبك لشدخت رأسه بهذا الفهر. نقله شارح القاموس بهذا اللفظ عن

الروض. قال صاحب الهمزية:

وأعدّت حمالة الحطب الفهـ

ـر وجاءت كأنها الورقاء

يوم جاءت غضبى تقول في مثـ

ـلي من أحمد يقال الهجاء

وتولت وما رأته ومن أيـ

ـن ترى الشمس مقلة عمياء

(قهوة سالم)

وقد بلغنا قهوة سالم مصبحين، وهي في حدود الحرم على مقربة من مكة،

وكنا مررنا ليلاً بالعلمين المنصوبين لحدوده. فصيلنا فيها صلاة الفجر ثم لم أملك

نفسي من التعب والنعاس أن اضطجعت، فنمت حتى طلعت الشمس. وكنت عازمًا

على الاغتسال في هذه القهوة لدخول مكة عملاً بالسنة، وسألت في جدة وفي

الطريق عن مكان يمكنني أن أغتسل فيه فقيل لي قهوة سالم، ولكنني خشيت على

نفسي المرض من الاغتسال وقتئذ بالمال البارد مع شدة الإعياء، فاكتفيت بالوضوء،

ورأيت أن أمشي ميلاً أو ميلين لتلين عروق رجلي ووركي وأعصابها المتيبِّسة

من طول الركوب الذي طال عليَّ عهده، ففعلت وضايقني دخول الرمل في نعلي

فمشيت حافيًا ضاحيًا (أي بارزًا للشمس) كسودان الدكرور، الذين كنت أراهم

أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي منذ خرجت من جدة إلى أن دخلت مكة.

* * *

(أسرى الترك)

ولما قربنا من مكة وظهرت لنا ضواحيها - رأينا أسرى الترك الذين أسرهم

العرب في الطائف خارجين منها مشاة في الطريق اليسرى مرسَلين إلى جدة،

يخفرهم قليل من الجنود الأعراب، وفي اليوم الثاني من دخولنا مكة رأينا فيها

ضباطهم ركوبًا على الإبل متلفِّعين، لا ترى إلا أعينهم وأنوفهم، وهم مرسَلون إلى

جدة يخفرهم قليل من جنود الأعراب الهجانة، وكان قد بلغنا في جدة خبر فتح

الشريف الأمير عبد الله الطائف بعد أن حاصرها عدة أشهر، وتسليم قائد الحامية

التركية غالب باشا الذي كان والي الحجاز له.

* * *

(وفد الأمير لاستقبال العبد الفقير)

ولما بلغنا قهوة المعلم وهي آخر قهوة بين جدة ومكة - رأيت صديقنا الأستاذ

الكبير السيد عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة مع بعض ولده وبعض

المكيين، فأقبل لاستقبالي ونزلت عن دابتي فتعانقنا وتصافحنا وجلسنا للاستراحة

وبعد السلام قال لي: إن هذا الوقت هو وقت دخول سيدنا الشريف عبد الله نجل

سيدنا الأمير مكة قادمًا من الطائف، بعد أن تم فتحها على يديه، وقد أُعِدَّ له احتفال

كبير، وخرج سيدنا بجميع الشرفاء والوجهاء ورجال الحكومة إلى خارج البلد

لاستقباله، ولما علم بأن قدومك يتفق في هذا الوقت أوفدني من قِبَله لأجل استقبالك،

وأرسل إليك بغلته هذه مع مَن ترى من حُجّاب سيادته لتدخل عليها مكة - وأشار

إلى بغلة دهماء مشدودة مع حاجبين أبيضَيْ اللون بثياب حمر كالثياب التي يلبَسها

قواسة وكلاء الدول - ولو جئت قبل هذا الموعد لرأيت من العناية باستقبالك ما

يسرك، ولكنت معنا الآن في استقبال صديقك سيدنا الشريف عبد الله، ولدخلت بك

مكة من الطريق التي دخل منها سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فقابلت هذه

العناية الهاشمية بالشكر والثناء وخالص الدعاء.

هذا، وإنني كنت عازمًا عند الوصول إلى جدة أن أكتب إلى هذا الصديق

الوفي أكلفه أن يستأجر لي ولمَن معي دارًا ننزل فيها، ولكنه كلمني بالمسرة

(التلفون) من مكة، فقال: إن سيدنا الأمير - أعزه الله - قد أمر بإعداد منزل لك

مؤلَّف من دائرتين، إحداهما للرجال والأخرى للنساء، وفيه جميع ما يُحتاج إليه

من الأثاث والماعون والخدم وهو بقرب الحرم الشريف. وعلمت من هذا الصديق

أنه كان يتمنى أن ننزل في داره ضيوفًا عليه، لو لم يتفضل (سيد الجميع)

بتشريفنا بضيافته السنية الهاشمية.

وقد تذكرت الآن - والشيء بالشيء يُذكر - أن صديقي السيد يوسف

الزواوي كبير تجار مسقط وسرواتها، الذي مرّ ذكره في هذه الرحلة - وهو من آل

هذا البيت - كان قد كتب إليَّ وأنا في بمباي ثغر الهند الأول سنة 1330 يقول إنه

بلغه أنني عازم على زيارة مسقط ويدعوني إلى النزول في داره، ولم يكن يعلم أن

سمو سلطانها السيد فيصل رحمه الله وطيب ثراه - قد أمر مندوبه في بمباي

بدعوتي إلى ضيافته وبأن يخبره عن يوم سفري بالبرق (التلغراف) ، فلما جئت

مسقط ونزل السيد إلى الباخرة مع مَن نزل من ولد السلطان وحاشيته في زورقه

البخاري لاستقبالي فيها - أخبرني بما كان تمناه واستعد له من حسن الضيافة، لولا

أن سمو السلطان نفس عليه بذلك وقال له: أنت تنتظر مثلي قدوم فلان على بلدنا

وتريد أن تستأثر بضيافته من دوننا؟ ! ولكن السيد يوسف - أحسن الله إليه -

أدب لي مأدبة عظيمة في نفس مسقط، ودعا إليها جميع كبرائها ووجهائها ومأدبة

أعظم وأفخم منها في دار له بمزرعة في ضواحي مسقط، دعا إليها كبراء مسقط

ووجهاء البلاد المجاورة لها، حضرها عشرات منهم، فقضينا معهم يومًا كاملاً من

أطيب أيام الحياة، ذكَّرناهم فيه بآيات الله، فألفينا آذانًا صاغية وقلوبًا واعية،

وكذلك الأستاذ السيد عبد الله - حيّاه الله تعالى - فإنه أدّب لنا عدة مآدب فخمة،

حضر بعضها أهل العلم والوجاهة من حجاج المغاربة، وسيجيء ذكر هؤلاء

المغاربة في هذه الرحلة.

* * *

(دخول مكة المكرمة والطواف والسعي)

بعد أن استرحنا قليلاً ركبت البغلة التي تفضل بإرسالها إليَّ سيدنا الأمير،

ومشى أمامي حاجباه، وركب السيد الزواوي فرسه اللينة السير ونجله السيد عبد

الرحمن دابته، وسارا إلى جانبي، وركب مطوّف بلدنا (طرابلس الشام) الشيخ

محمد الحريري ونجله دوابهما وسارا وراءنا، فلما دخلنا مكة ومررنا في أسواقها

جعل الناس يقومون على الجانبين تكريمًا لمَن كرَّم أميرُهم ومنقذُهم من الهلكة، وإن

كانوا لا يعرفون شخصه ولا صفته، حتى إذا ما بلغ السير بنا بيت الله الحرام،

دخلناه ومررنا فيه من باب بني شيبة [3] حيث دخله سيد الرسل عليه أفضل الصلاة

والسلام، فلما وقعت العين على الكعبة المعظمة، التي كساها الله تعالى حُلل المهابة

والعظمة، قلت كما كان يقول عمر بن الخطاب عليه الرضوان: اللهم أنت السلام

ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام. وقفَّيت على ذلك بالدعاء الذي ورد، وإن لم

يصح به السند: (اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًّا) .

وطفت طواف القدوم والعمرة سبعة أشواط، وطاف معي مطوفنا رافعًا

صوتًا بما يحفظه من الثناء والدعاء - وهو ما اعتاد المطوفون تلقينه للحجاج - وأنا

أدعو وأثني بما أعلم وما أُلهم. وقد ذكَّرني المطوف بما كدت أذهل عنه من الرَّمَل

في هذا الطواف، وما يُسَنُّ فيه من كشف المنكب الذي يكون بالاضطباع، وبعد

الطواف صليت ركعتين، وشربت من ماء زمزم، ثم خرجت من باب الصفا لأجل

السعي بين الصفا والمروة.

كنت أحب أن أطَّوَّف بالصفا والمروة ماشيًا ولكن السعي بينهما سبع مرات

عبارة عن قطع ثلاثة كيلو مترات مشيًا، وذلك ما كنت أعجز عنه في ذلك الوقت

لما عرض لوركي من التعب والألم من الركوب عامة الليل على حمار غير فاره

لولا الإشناق له طول الطريق لخرَّ بي مرارًا، وكم ثنى ركبتيه للركوع، ومنعه

جذبي الرسن من السجود، فسعيت راكبًا على البلغة وهو جائز، ورملت بها في

موضع الرمل وهو ما بين الميلين (العمودين) الأخضرين الناتئين من جدار الحرم،

وقد بينت في المناسك أن جميع مناسك الحج قد شرعها الله تعالى على لسان

إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام إلا الرمل في الطواف والسعي، فإنه من

آثار نبينا صلى الله عليه وسلم، فعله مع الاضطباع وهو عبارة عن كشف المنكب

الأيمن وإظهاره ليظهر قوة المسلمين للمشركين في عمرة القضاء؛ إذ كان بلغه أنهم

قالوا: إن محمدًا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهُزَال، وكان بلغه

عنهم في الحديبية أنهم قالوا في المؤمنين: أوهنتهم حمى يثرب.

وبعد السعي عدت إلى دار السيد الزواوي إجابة لدعوته، فمروا بي من

طريق آخر وحُجاب الأمير أمامي والكثيرون من الناس يقفون في دكاكينهم، وفي

الطريق من الجانبين، فأحييهم بالسلام وبالإشارة حتى إذا ما جئت الدار أعد لي ماءً

للاستحمام فاغتسلت وتغديت مع السيد وولده ونمت، وكان الحر قد اشتد، فلم أنم

إلا قليلاً. وقد سألني السيد: متى تحب أن أذهب بك لزيارة سيدنا الأمير؟ قلت

له: إنني كنت محرمًا بالعمرة وقد أديت طوافها وسعيها وسأقصر شعري وأتحلل

منها، ولكن ثيابي مع الوالدة والرفاق، فمتى وصلوا ألبَس ونذهب، ورغبت إليه

في الذهاب إلى الدار المعدة لنا لأجل انتظارهم فيها، ولما جئت الدار وجدتها على

الشارع العام بجوار باب الحرم الغربي الكبير المسمى بباب إبراهيم، وقد تأخر

وصول الجماعة إلى قرب المغرب، فلم نتشرف بتلك الزيارة إلا ليلاً، وسأذكر لقاء

الأمير وشمائله في فصل آخر.

* * *

الحالة الروحية عند أداء المناسك

وحُكم التلبية والطواف والسعي

الحج عبادة روحية جسدية اجتماعية، فهو تربية عالية للإنسان منفردًا

ومجتمعًا، أي تربية كاملة له، فإن الإنسان مركَّب من جسد وروح، وقد خُلق

ليعيش مجتمعًا، وفي الحج تقوية لجسده ولروحه ولروابطه الاجتماعية.

أما كونه رياضة بدنية مقوية للجسد فظاهر في جميع المناسك؛ فالإحرام

ضرب من الرياضة والسفر كذلك، قد وصفت لك - أيها القارئ - سفري من جدة

إلى مكة، وعلمت بالإجمال ما قاسيت فيه من المشقة، مع استكمال أسباب الراحة

وقرب الشقة. وفي الطواف والسعي رياضة المشي التي يصف الأطباء نفعها

ويوصون بها، فدائرة المطاف حول الكعبة المعظمة لا يقل متوسطها عن مائة متر

وأقل الطواف سبعة أشواط (مرات) ومن الناس من يطوف في اليوم والليلة أسابيع

كثيرة متصلة ومنفصلة، أما أنا فلم أستطع أن أزيد على سبعة أسابيع في أمثل

الأوقات وأعدلها وهو وقت السحر؛ لما كنت عليه من ضعف البدن، وكان رفيقي

وأخي في الله الشيخ خالد يطوف ضِعفي ذلك أو يزيد. وإذا كان أقل الطواف -

وهو أسبوع - عبارة عن مشي ثلاثة أرباع الكيلو فإن السعي بين الصفا والمروة

سبع مرات يقرب من مشي 3 كيلو.

وأما كونه مقويًا للروابط الاجتماعية فلما فيه من التعارف والتآلف بين

الشعوب المختلفة في أفضل بقاع الأرض، وفي أحسن الأحوال التي يكون عليها

الإنسان في هذه الحياة، وهي التجرد من شواغل الدنيا والتوبة إلى الله تعالى من

جميع المعاصي والآثام.

وأما كونه عبادة روحية مهذبة للنفس بتقوية شعور الإيمان، فهو المقصود

بالذات الذي يجب أن يُتَحَرَّى وينوى، ويلاحظ عند كل عمل من أعمال المناسك،

وهاك خلاصة وجيزة من العلم والاختبار في ذلك:

(الحالة الروحية في طريق مكة وتأثير التلبية)

كنت قبل عودة المشيعين لي من جدة ألبي في السير قليلاً، وأتكلم معهم

كثيرًا، فلما عادوا وولى النهار بأنسه وبهائه، وأقبل الليل بوحشته وظلماته -

هدأت المشاعر، وقرت النواظر، وخشعت السرائر، وتزاحمت الخواطر - فكان

الغالب منها على الفكر والقلب ما يثيره تأثير الزمان والمكان وزي الإحرام في

النفس.

فأما الزمان فهو شهر ذي الحجة الحرام، وأما المكان فهو الطريق إلى بيت

الله الحرام، وأما زي الإحرام فهو الذي كان يتزيَّا به إبراهيم خليل الله،

وإسماعيل ذبيح الله، ومحمد خاتم رسل الله، وغيرهم من رسل الله الكرام، عليهم

الصلاة والسلام، وكل مَن حج البيت أو اعتمر من أصحابهم وأتباعهم هداة البشر،

فيا لها من ذكرى لذي اللب، يخشع لها القلب، ويُرجى بها رضوان الرب، بما

تثمره من قوة الإيمان، وطهارة الوجدان، وخلوص السر والإعلان، ولو لم يقترن

بها ذكر لسان، ولا عمل أركان، فكيف إذا صحبها تكرار التلبية، التي تزيد

حرارتها تذكية؛ وإخلاصها تزكية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن

الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

تأملت نفسي في تلك الليلة الليلاء، والطريق الجرداء، فرأيتني حاسرًا حافيًا

في إزار ورداء، غير مُبالٍ بما يكون من تأثير الهواء، وهي حال لم أعهدها في

سالف الأيام، إلا بين جُدُر الحمام، وقد كان الهواء عند خروجنا من جدة حارًّا

رطبًا، وكانت الدابة وهي في أول السير تنهب الأرض نهبًا. وهذه ثلاثة أسباب

يتفصَّد بها العرق من الإهاب، ثم كنا كلما أوغلنا في السرى، وتغلغلنا في البيداء،

نشعر بجفاف الجو، وبرد الهواء، حتى اضطررت إلى إخراج سجادة صلاة كانت

تحتي، فوضعتها على عاتقي فلم تغنِ عني، فأخرجت العباءة فتلفعت بها، جاعلاً

لأجل الإحرام أعلاها أسفلها، ولم أخف من أذى يصيبني من برد الليل ولا ضرر،

ولم يعرض لي سأم من طول السرى ولا ضجر، فإن مسني طائف من شيطان

الوسوسة - ذكرت الله تعالى، فطردته بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك

لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

ويالله ما أحلى التلبية في تلك الفلوات، وما أعظم الأُنس بها في حنادس

الظلمات، إذا خشعت بها الأصوات، واستمطرت بها العَبَرات، ومن دقائق حكم

الشرع استحبابه رفع الصوت بها للرجال، وتجديدها بتجدد المناظر واختلاف

الأحوال، فرفْع الصوت بها ينفي الوسواس، وإذا كان في الليل يطرد النعاس،

وهو أجلب للخشوع، وأذرف للدموع، واستئنافها عند اختلاف الأحوال وتجدد

المناظر أدعى إلى دوام الذكر وعدم تفرق الخواطر، فكنت كلما علونا نجْدًا، أو

هبطنا غورًا، أو نزلنا مكانًا، أو استأنفنا سُرَانا، أو لقينا مشاة أو ركبانًا - جأرتُ

إلى الله تعالى: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك

والملك، لا شريك لك.

* * *

(تأثير رؤية الكعبة والطواف بها)

تلك التلبية تملأ قلب متدبرها إيمانًا وتوحيدًا، وتجرده من الحظوظ والأهواء

تجريدًا، وتعده لزيارة بيت الله والطواف، وهو في أحسن حال وأتم استعداد، حتى

إذا اكتحلت عينه برؤية الكعبة المعظمة، وراع القلب ما جللها من المهابة والعظمة

- تذكَّر أنها أول بيت وُضع للناس مباركًا وهدى للعالمين، وخصه الله بالآيات

البينات الباقية على بقاء الأيام والسنين، ورأى أمامها مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا

وآلهما الصلاة والسلام، ووجد نفسه حيث كان بدء دين الله الإسلام، وحيث الختام،

فإذا دنا من مهبط الروح الأمين، ومطاف الملائكة والنبيين، والصديقين والشهداء

والصالحين فلا تسلْ ثَمَّ عن الدموع كيف تنسكب، وعن الضلوع كيف تضطرب،

وعن الأعناق كيف تخضع، وعن القلوب كيف تخشع، ولا عن وجدان الإيمان،

كيف يتألق نوره في الجَنان، ويفيض بيانه على اللسان، فيحركه بما يُلهم من الثناء،

وما يشعر بالحاجة إليه من الدعاء، وما يذكره أو يُذكّر به من المأثور، من

مرفوع أو موقوف، لا تسلْ - أيها القارئ - عن شيء من ذلك، ولا عن غيره مما

يكون عند أداء المناسك، فمَن ذاق عرف، ومَن حُرم انحرف.

على هذه الحال تدخل الحرم المقدس، طاهر القلب والبدن من الحدث

والدنس، فتأتي الركن الأسود، حيث العظمة والسؤدد، فتقول: بسم الله، الله أكبر،

فيصغر في قلبك كل شئون البشر، ثم تبدأ الطواف، مع النية والإخلاص، بلمس

الحجر وتقبيله إن قدرت، وبالإشارة إليه إن أنت عجزت، ولا بأس بأن تتذكر ما

رُوي من أنه رمز إلى يمين الله التي لا تشبه الأيمان، وأن استلامه وتقبيله في

معنى تحية رب البيت ومبايعته على الإيمان والإسلام والإحسان، ومن أنه يشهد

لمستلمه يوم القيامة كما تشهد الأعضاء، وبأن تقول بلسانك أو قلبك، كما قال أمير

المؤمنين عمر بن الخطاب من قبلك: (إنني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع،

ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبَّلك [4] لما قبَّلْتك) ، فتقبيلك ليس

لذاتك الحجرية، ولا لمنفعة فيك مرجوة أو مضرة مخشية، ولا هذا الطواف الذي

بك يبتدأ وعندك يختتم، في معنى عبادة الوثن وتعظيم الصنم، وإنما هو خضوع

لأمر الله، واقتداء برسل الله، وتعظيم لما عظم الله، وأنس بالقرب مما نُسب إلى

الله، يكمل به توحيد الله، وتنمي به محبة الله، فمن شأن المحبين الأُنس بكل ما

يُنسب إلى المحبوب، ولا سيما إذا تعذر اللقاء وعز الوصول، وكم نظموا من

الأشعار، في الوقوف بالأطلال والطواف بالآثار:

أمر على الديار ديارِ ليلى

أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب مَن سكن الديارا

ولما كان الرب العلي العظيم، الجدير بأعلى مراتب الحب والتعظيم، لا

تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، ولا يراه عباده في هذه الدار - كان من

رحمته بالمؤمنين المحبين أن وضع هذا البيت للطائفين منهم والعاكفين، ونسبه إليه؛

ليكون تعظيمه تعظيمًا له.

فإذا مضيت في الطواف يمينًا مصاحبًا لهذه الذكرى، جاعلاً البيت من الجهة

اليسرى، فاشغلْه بالثناء على الله، والدعاء لنفسك، ولآلك وصحبك، ولأمتك

وأولي أمرك، فإذا بلغت الركن اليماني - وهو الجنوبي الغربي - فاستلمه إن سهل

عليك؛ فإنه على قواعد إبراهيم، التي ذكرها الله تعالى في القرآن العظيم، ومتى

انتهيت إلى مقابله - وهو الركن الأسود - فقد أتممت من طوافك الشوط الأول،

وبقية الأشواط مثله في الشروط والآداب، كالخشوع والتذكر وترك غير الضروري

من الكلام، وعدم التهافت على استلام الركن والحجر عند الزحام، فإذا أتممت

السبعة الأشواط فاختم دعاءك بين الركعتين بقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا

حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201) ، ثم صَلِّ ركعتين

سنة الطواف، والأفضل أن تصليهما وراء المقام.

* * *

(تأثير السعي وحكمته)

السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، وليس له نفل فلا

يفعل في كل منهما أكثر من مرة، ويجب أن يكون بعد الطواف، ولا يشترط فيه

شروط الصلاة. فإذا جئت الصفا فاقرأ كما قرأ الرسول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن

شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158)، وقُل كما قال:(نبدأ بما بدأ الله) ، ثم اصعد

درجة أو أكثر، واستقبل البيت الحرام، فإذا رأيته فقل كما كان يقول عليه الصلاة

والسلام: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل

شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب

وحده) ، وادعُ الله تعالى مكررًا ذلك ثلاث مرات.

وتذكر عند السعي أنه ذكرى سعي جدَّتنا السيدة هاجر عليها الرضوان، أم

أبينا إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وعلى أبيه، وصفوة بنيه، ويا لها من ذكرى

لمجد العرب الكرام، ومعجزات الإسلام، مثبتة لحفظ الله تعالى لهذه الملة، وعنايته

بهذه الأمة، حفظتها العرب بالعمل المتواتر، وكم حفظت ما هو دونها من المآثر.

وما يحفظ بالتمثيل والمحاكاة يكون أثبت مما يحفظ بالتلقين والروايات، ولكنهم

مزجوا مناسك الحنيفية، بخرافات الوثنية، فإن كانوا قد وضعوا صنمين على

الصفا والمروة فقد وضعوا 360 صنمًا على الكعبة، ثم طهر الله تعالى هذه البقاع

بالإسلام، وأعادها إلى ما كانت عليه في عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما وآلهما

الصلاة والسلام، روى البخاري وغيره من طريقين عن ابن عباس رضي الله

عنهما، قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان [5] خرج بإسماعيل وأم

إسماعيل ومعهم شنة [6] فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها

على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة - زاد في الرواية الأخرى فوق

زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد ولا بها ماء ووضع عندهما جرابًا فيه

تمر، وسقاءً فيه ماء - ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا

كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى مَن تتركنا؟ ، قال: إلى الله، قالت:

رضيت بالله، وفي الرواية الأخرى أنها قالت: إذًا لا يضيعنا، وفيها أنه لما كان

عند الثنية، أي ثنية كداء حيث لا يرونه - استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء

الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ

بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ

الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37)، قال: فرجعت فجعلت تشرب من

الشنّة ويدرّ لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبتُ فنظرت لعلِّي

أُحسّ أحدًا - زاد في الرواية الأخرى: حتى إذا نفد ما في السقاء (أي الشنة)

عطشت وعطش ابنها، فجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية

أن تنظر إليه - (قال) : فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت هل تُحسّ أحدًا،

فلم تُحسّ أحدًا، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة، ففعلت ذلك أشواطًا ثم قالت:

لو ذهبت فنظرت ما فعل، تعني الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه

ينشغ [7] للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أُحسّ أحدًا،

فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدًا حتى أتمت سبعًا - زاد في

الرواية الأخرى: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك سعي

الناس بينهما) - ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت، فقالت:

أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل - وفي الرواية الأخرى فقالت: قد أسمعت

إن كان عندك غَواث، فإذا هي بالمَلَك عند زمزم - قال: فقال بعَقِبه هكذا وغمز

عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل [8] ، فجعلت تحفر

(قال) : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (لو تركته كان الماء ظاهرًا) -

ولفظ الرواية الأخرى: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت - أو قال - لو لم تغرف

من زمزم لكانت زمزم عينًا معينًا) ، أي جاريًا على وجه الأرض - (قال) :

فجعلت تشرب من الماء ويدرّ لبنها على صبيها، قال: فمر ناس من جرهم ببطن

الوادي، فإذا هم بطير - وفي الرواية الأخرى: فرأوا طائرًا عائفًا أي يحوّم على

الماء - كأنهم أنكروا ذاك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم،

فنظر فإذا هم بالماء، فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل، أتأذنين لنا أن

نكون معك أو نسكن معك - وزاد في الرواية الأخرى فقالت: نعم ولكن لا حق لكم

في الماء، قالوا: نعم - ثم قال مصرحًا بالرفع: (فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم

فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم

وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم) . اهـ المراد منه،

ويليه ذكر عودة إبراهيم إلى مكة لتفقد تركته، أي ما تركه فيها وخبر بنائه البيت.

وجرهم كقُنفذ هو ابن قحطان ولكن رجح الحافظ أن قحطان نفسه من ذرية إسماعيل.

فهذا حديث صرح فيه ابن عباس بما يدل على رفعه كله، وإن لم يسنده إلى

النبي صلى الله عليه وسلم في أوله. وفيه نص صريح في بيان حكمة جعْل الصفا

والمروة من شعائر الله، التي يحيا شعور الإيمان بها، ووجوب التطوف بهما

والسعي بينهما. فإنه تمثيل يذكِّر بتلك الواقعة التي هي من أكبر آيات الله ومظاهر

قدرته، وعنايته بتلك السيدة العظيمة القوية الإيمان به والاتكال عليه والثقة به،

وبولدها الذي أراد سبحانه أن يباركه ويجعله أمة عظيمة، كما هو منصوص في

سفر التكوين من أسفار التوراة القديمة، وأي شيء أجدر بأن نتذكره هنالك، ونمثله

كما وقع لأجل الاعتبار به، وإحياء شعور الإيمان بتصوره، من رضاء أم مُرضع

بأن تقيم مع طفلها منفردين بعيدين عن العمران، في وادٍ غير ذي زرع ولا ماء؛

لأن الله تعالى قد أمر بذلك أبَا ولدها الذي لقنها الإيمان، ورأت ما أيده الله به من

الآيات البينات، وكيف نصره وحده على قومه المشركين الظالمين الأقوياء؟

أليس تمثيل حال تلك الأم جائعة ظامئة، والهة حائرة، تشاهد طفلها يتلوَّى

ويتمرغ، من شدة الجوع والظمأ، ويضرب بنفسه الأرض كالمصاب بالصَّرع،

وينشغ - أي يشهق من صدره - للموت في ذلك القفر، فيسوقها ذلك الألم إلى

الفرار من رؤيته بتلك الحال، والسعي بين ذينك الجبلين القريبين من ذلك المكان،

تصعد هذا مرة وذلك أخرى، ضارعة إلى الله، راجية أن تجد من عنده غوثًا،

حتى إذا ما انتهت من الشوط السابع أرسل الله تعالى روحه الأمين الذي يؤيد به

الأنبياء، فأنبع لها ذلك الماء، وجعل فيه الري والغذاء، ثم ساق ذلك الركب من

جرهم إليها، وسخرهم للإقامة عندها، ليتربى فيهم، ويتذرّاهم ولدها، ثم يجعله

أصلاً لهذه الأمة الكريمة، ويجعل ذلك الوادي القاحل صدفة لدرة الكعبة اليتيمة، إذ

جعله بلدًا يحفظ بيته الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، وجعل قلوب الناس تهوي إليه

من جميع الأقطار إيمانًا ونسكًا، ورزق أهله من الثمرات، وسخر لهم البشر في

كل زمان، ألسنا نرى في هذا العام معجزة من معجزات هذا التسخير؟ بلى، وقد

ابتلى في هذا العام وما قبله الأمم الغنية القوية، المتصرفة في البلاد العامرة

الخصبة الغنية، بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات،

بهذه الحرب الأوربية التي تقطعت بها الروابط، وقلَّت المواصلات، واقتضى

دخول الدولة العثمانية في غمراتها، أن تضرب الدول المحاربة لها حَجْرًا بحريًّا

على جميع سواحلها، فكان الضيق على سكان حرم الله تعالى أليمًا شديدًا، حتى إذا

ما أوشك أن يفتك بهم الموت جوعًا - سخر الله تعالى لهم تلك الدول تحمل إليهم

الأقوات والأموال، وتنقل إليهم وفود الحجاج، وأراهم بهذه الإغاثة العامة مثالاً

لتلك الإغاثة الخاصة، أعني إغاثة هاجر وإسماعيل، استجابة لدعاء الخليل:

{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} (إبراهيم: 37) ،

وكثيرًا ما ذكَّرت الناس بذلك في أثناء أداء المناسك.

فمن سعى بين الصفا والمروة عالمًا بما ذُكر، متذكرًا له، معتبرًا به - فإنه

يشعر في قلبه بنماء الإيمان بالله وبرسل الله، ويفهم سر قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا

وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تأخر نشرُه بغير تعمُّد.

(2)

نبهنا قبلُ على أن حوادث الرحلة حدثت قبل المبايعة بالمُلْك، فبقي التعبير فيها على ما كان عند وقوعها.

(3)

هو الآن في صحن الحرم كأنه قوس منصوب، ويقابله في جار الحرم الشرقي بابان يسمى أحدهما باب العباس والثاني باب علي، وفي وسط هذا الجدار الباب الذي يسمونه باب النبي صلى الله عليه وسلم، يليه في الجانب الشمالي باب السلام الذي يدخل منه أكثر الحجاج.

(4)

عبارة عمر: ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك إلخ، رواه الجماعة كلهم.

(5)

أهله: امرأته سارة، غارت من هاجر لما ولدت، وحملته على طردها مع طفلها إسماعيل وفي الفصل 21 من سفر التكوين (التوراة) أن إبراهيم استاء من كلامها، فأمره الله تعالى بإخراجهما، ووعده بأن يجعل إسماعيل ابنه أُمة، وفيه أنه زود هاجر بخبز وقربة ماء، وأعطاها ابنها، فتاهت في بَرِّية بئر سبع، وأنه لما نفد ماؤها، وتوهمت أن يموت ولدها - ناداها ملاك الرب وأراها الماء، ووعدها بجعْل ابنها أمة عظيمة وأن الله كان مع الغلام، وأنه سكن برية فاران أقول: وفاران من أسماء مكة كما في معجم البلدان، وما يخالف هذه الرواية مما هنالك نعده تحريفًا وقالوا: إن إبراهيم جاء مكة على البراق.

(6)

بفتح الشين والنون والمشددة: القربة اليابسة.

(7)

بوزن يفتح معناه: يشهق من صدره.

(8)

قوله: فقال بعقبه هكذا: أي فعل وقوله: ودهشت بفتح الدال والهاء ولأبي ذر بكسر الهاء.

ص: 108

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اقتراح عظيم في الإصلاح الإسلامي

يود بعض الموسرين من المستمسكين بعروة الكتاب والسنة لو يعرفون

أمثالهم من الفقراء والمساكين المتجنبين للمعاصي والبدع، المحافظين على

الفرائض والسنن؛ ليؤدوا إليهم ما يجب من زكاة المال وزكاة الفطر وغيرهما من

الصدقات؛ إذ لا تطيب أنفسهم لصرفها إلى فاسق ولا مبتدع ولا مجهول الحال؛ لما

يعلمون من فشوّ البدع والضلال، وكثرة المعاصي والنفاق، دعْ المجاهرة بالكفر

والإلحاد، فالصدقات المفروضة التي يُتقرَّب بها إلى الله تعالى لإقامة دينه، يتحرى

صرفها إلى من ينفقها في طاعته، أو فيما أباحه لعباده من الطيبات، لا في

المعاصي والمحرمات، ولا في البدع والخرافات، فإذا كانت صدقة التطوع يجوز

بذلها لكل مؤمن وكافر - من ذمي أو مستأمن أو معاهد - فصدقة الفرض ليست

كذلك؛ لذلك اقترح علينا بعض هؤلاء الموسرين أن نحصي مَن نعرف، ومن

يتيسر لنا أن نعرفهم من المؤمنين المذعنين المعتصمين، من فريق الموسرين

وفريق المستحقين للزكاة من الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم والغارمين، ومن

يلم بإدارة المنار من أبناء السبيل، وأن نكون واسطة التعارف والتعاون بين

الفريقين؛ لأن وقوف كل فرد من الموسرين على هؤلاء المستحقين متعذر، وأن

منهم من تعدد تأخيرهم الزكاة عن وقتها زمنًا طويلاً أو قصيرًا لأجل ذلك.

ولعمري إن هذا اقتراح جليل، ولكن القيام به على حقه عسير غير يسير،

وإذا علم الناس أن بعض الناس يعطون صدقاتهم لمجتنب كبائر المعاصي والبدع

والمحافظين على الفرائض والسنن - يكثر المدّعون لذلك وحاملو الشهادات من

العلماء والوجهاء على صحة دعواهم، وأخذ الشهادات على هذا سهل على أكثر

الناس في هذا العصر، فإن كثيرًا من محبي الصدق يستحلون أن يشهدوا لمن يدعي

مثل هذه الدعوى إذا كانوا لم يروا منه ما يصدقها ولا ما يكذبها، وأما غيرهم فلا

يتحامى شهادة الزور وقول الباطل في ذلك، ومنهم من يرى أنه يتقرب به إلى الله

تعالى بمساعدة الفقير على تحصيل قوته. وإننا على ما نعلم من العسر في ذلك

سننظر فيه ونجتهد في القيام به بقدر الطاقة، ونرجو من إخواننا الصادقين إعانتنا

على ذلك.

_________

ص: 127

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السنة الرابعة للحرب

دخلت الحرب في السنة الرابعة من عمرها، فشاب لأهوالها الوِلدان،

وهي لم تزدد إلا شبابًا! وخمدت بها نار حياة الأمم، ولم تزدد نيرانها إلا

شبوبًا، وكان أهم أحداث عامها الثالث في الميادين الشرقية ثورة الروس

على حكومتهم القيصرية، وإسقاط القيصر نقولا عن عرشه، واعتقاله مع

زوجه وولده، ثم نفيهم إلى سيبرية؛ حيث كانت حكومته المستبدة تنفي

الألوف من أحرار السياسيين، والعلماء والكتاب النابغين!

وأكبر العبر في هذا الانقلاب العظيم أن طلاب حكومة الشعب الشورية من

الروس عجزوا عن جمع كلمة أحزابهم على شكل آخر لحكومتهم، فانشقت العصا،

وتفرقت الشيع، وتعددت الثورات والفتن الداخلية حتى في الجند، وقد كانت الحكومة

الجديدة المؤقتة أمسكت عن الحرب عقب الثورة، وأمسك عنها أعداؤها، حتى ظن أن

هنالك هدنة، ثم هجمت في هذا الصيف على النمسة، فشدد الألمان الهجوم عليها،

واستولوا على كثير من ولاياتها، وأعظم ما استولوا عليه قيمة عندهم (ريغا) .

يلي هذا ما حدث قبله من دخول دولة رومانية في الحرب واستيلاء الجرمان

على عاصمتها، وقسم كبير من بلادها وخروج الملك والحكومة منها، وإقامتهم في

روسية، ويليه استيلاء الإنكليز في الربيع الماضي على مدينة بغداد عاصمة المدنية

العربية في الشرق، وتهنئة الملوك ورؤساء حكومات الأحلاف لملكهم بهذا الظفر.

وأما الميدان الغربي الأعظم فأهم أحداثه أن الإنكليز والفرنسيس ما زالوا

يكاثرون الألمان في المدافع والذخيرة وغيرهما، حتى كثروهم فيها كما كثروهم في

عدد الجيوش، وأن الألمان قد جلوا عن قسم عظيم من أرض فرنسة وامتنعوا وراءه

في خط أقصر من الخط الأول سموه خط هندنبرج نسبة إلى قائدهم العام، وقد استولى

الحلفاء على ذلك القسم، بعد أن صار معظمه خرابًا يبابًا كما توقعنا من قبل، وحاربوا

الألمان عند انسحابهم منه حربًا عوانًا، ربحوا فيها كثيرًا من الأسرى

والمدافع، ولا تزال الحرب في هذا الميدان سجالاً.

_________

ص: 128

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تاريخ هذا الجزء

صدر الجزء الأول من هذ المجلد في شوال؛ فوجب أن يكون الثاني جزءَ ذي

القعدة، وكان جَعْل تاريخه سلخ شوال خطأً.

_________

ص: 128

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حكمة تحريم الدم المسفوح

(س8) من صاحب الإمضاء بمصر

حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا

ما قولكم دام فضلكم في الدم المنصوص على تحريمه في القرآن الشريف

مقيدًا بالمسفوح مرة، وغير مقيد مرارًا، وما الحكمة في تحريمه؟ أفيدونا

الجواب ولكم الثواب.

...

...

...

... طبيب جمعية الرفق بالحيوان

...

...

...

...

... حسن ذهني

(ج) الدم المسفوح هو الذي حرم الله شربه وأكله، وهو الذي يراق من

الحيوان بذبح أو جرح أو غيرهما، وتقييده بالمسفوح هو الذي نزل أولاً في سورة

الأنعام، وما نزل بعده مطلقًا فهو محمول على ذلك المقيد بقيده. واحترز بالقيد عن

الجامد كالطحال، وعما يخالط اللحم من المائع القليل فإنه لا يسفح. وقد بينا في

تفسير آية محرمات الطعام من سورة المائدة أن حكمة تحريمه أمران:

أحدهما: أنه خبث تستقذره الطباع السليمة، فوجب التنزه عن جعْله غذاءً

للمؤمنين الطيبين الذين لا يليق بهم إلا الطيبات.

وثانيهما: أنه ضار؛ لأنه عسر الهضم، ويشتمل على كثير من الفضلات

العفنة، وكثيرًا ما يشتمل على جراثيم الأمراض والأدواء الخطرة. فإن سهل على

بعض البارعين في العلوم الطبية معرفة مثل هذا واتقاء ضرره فهو لا يسهل على

جميع البشر من البدو والحضر المخاطَبين بهذا الدين العام. وتتمة الكلام على ذلك

في (ص 134 و 135 من جزء التفسير السادس) .

* * *

الكتابة

وطريق تحصيلها ومكان القرآن والحديث منها

(س9) من صاحب الإمضاء بمصر

أستاذي الفاضل الشيخ رشيد رضا

السلام عليكم ورحمة الله؛

وبعد؛ فإنا نعلم مكانتكم من العلم في هذا البلد؛ لذلك نرجو الإجابة على ما

يأتي:

إن فن الكتابة والتحرير الذي أحياه فينا الأستاذ الإمام ما زال يتصعد درجات

الكمال، حتى إنه ليخيل للناظر في كتابات هذا العصر أنه بين أولئكم الأعراب

البائدين أو العباسيين المتحضرين حسب اختلاف درجات الكتّاب. وقد توافقت آراء

الكاتبين على أن أقوم طريق إلى الكتابة النظر في كلام العرب وحفظ الجيد منه

والنسج على منواله. وإنا نجد أحسن كلام في جزالة الألفاظ ومتانة الأسلوب وعلو

المعنى كتاب الله تعالى وحديث رسوله، وإنا نحفظ الكتاب وكثيرًا من السنة، ومع

ذلك أرانا لا نجيد شيئًا من الكتابة، بل لم نصل فيها إلى الدرجة الوسطى من ذلك.

وقد بلغنا أن بعض النصارى كان يحفظ القرآن لهذا الغرض، وينتفع به، فبأي

عين نظر إليه ذلك النصراني حتى انتفع به وما بالنا ضللنا هذا الطريق في حين

أننا أولى به؟ ! وكم من رجل ما حفظ شيئًا من القرآن ولا عرف شيئًا من السنة

غير أنه زاول كثيرًا من اللغة العربية هو قليل بالنسبة لكتاب الله وسنة رسوله،

وبهذا طال باعه فيها، وذهب فيها مذاهب آبائها الأولين. فاللهم هيئ لنا ما يرشدنا

إلى الصواب. وإنا نرجو الاهتداء بهديك والاستنارة بمنارك إن شاء الله، فأجبنا

عن ذلك، وما السبب فيه على صفحات المجلة لفائدة القراء، ولكم الشكر.

...

...

...

...

محمد أحمد عليوة

(ج) كان الناس في أول العهد بالنهضة العلمية والأدبية التي جددها الإسلام

للعرب يطلبون اللغة العربية من أهلها بالتلقي والمشافهة، ولما سرت العُجمة إلى

الأمصار العربية بكثرة مخالطة العرب للعجم فيها - صار أبناء العرب ومواليهم من

العجم يرحلون إلى الأعراب في البوادي، فيقيمون عندهم زمنًا طويلاً يتلقون عنهم

العربية الخالصة من شوائب العجمة، ويحفظون أشعارهم ويروونها، كما يحفظون

ويروون الكتاب والسنة، فيتلقاها عنهم طلاب العلم والآداب في الأمصار، بالرواية

والدراية والاستظهار، ولما استنبطوا منها الفنون لأجل ضبطها وفهمها، وبيان

أسرارها وفلسفتها - وصاروا يتدارسون هذه الفنون في المساجد والدُّور والقصور،

مع تطبيق قواعدها على الشواهد من الكتاب العزيز والسنة، وأقوال العرب

وأشعارهم المحفوظة، فيجمعون بين مَلَكَة اللغة وذوقها، وبين فنونها وفلسفتها،

ومنهم من كان يضم إلى ذلك العلوم الشرعية والعلوم العقلية والكونية، ولا يَحُول

رسوخ ملكاتهم في العلوم والفنون دون رسوخ ملكة اللغة في منثور ولا منظوم، وقد

انسلخ القرن الخامس للهجرة والعلماء البلغاء كثيرون، حتى إذا ما تغير منهج

التعليم، وأسلوب التأليف، وقل الحفظ والحفاظ، وكثر الاختصار في الكتب وما

اقتضاه من البحث في الألفاظ - ضعفت ملكة اللسان، وسقطت مكانة البيان،

وصار جهابذة علماء الشرع واللغة، والمصنفون في فنون الفصاحة والبلاغة - لا

يستطيعون التفلت من عقل اصطلاحات علومهم وفنونهم البعيدة عن الأسلوب

العربي، إلا إلى أسجاع متكلفة أو عجمة أو عجرفة، ومَن شاء قايس بين عبارة

الزمخشري في الكشاف وعبارة الفخر الرازي في التفسير الكبير، وبين عبارة عبد

القاهر في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وعبارة السعد التفتازاني في المطول

والمختصر، فإذا كانت عبارة العلامة التفتازاني في دقتها وتحريرها نائية عن

براعة عبارة الإمام الجرجاني في فصاحتها ورشاقة أسلوبها، وإذا كانت عبارة

الإمام الرازي - على بسطها وإيضاحها - تكاد تعد ركاكة عامية في جنب عبارة

العلامة الزمخشري في متانتها وعلو أسلوبها، فما القول في المتأخرين الذين يعدون

منتهى العلم الاستعداد لفهم كلام مثل الرازي والتفتازاني، بل القدرة على المناقشة

فيه، وإيراد الاحتمالات والأجوبة في معانيه؟ !

أتى على الأمة العربية بضعة قرون وهي في تدلٍّ وضعف في اللغة، لا

يمضي عليهم قرن ولا عام إلا والذي بعده شر منه، وما سببه إلا تنكُّب سبيل

الأولين في حفظ الكثير من الكلام العربي الحر الفصيح وفهمه، ومعارضة أسلوبه

في نثره ونظمه، فكان إذا اتفق لأحد منهم ذلك بإلهام الفطرة، أو إرشاد أحد من

بقية أهل المعرفة، فصار كاتبًا بليغًا، أو خطيبًا مفوهًا، أو شاعرًا مجيدًا - أحال

الباحثون ذلك على ندور في الاستعداد، يكاد ينتظم في سلك خوارق العادات، حتى

إن ذلك النابغ نفسه يظل غافلاً عن السبب، دعْ مَن كان بعيدًا عنه أو كان منه على

كثب.

بلغ الجهل من أكثر أهل هذه القرون بهذه المسألة كل هذا ولم تكشفه عنهم

سيرة سلفهم، ولا ما يؤثر من العلم وطريقة التعليم عنهم، ولا ما شرحه الحكيم عبد

الرحمن بن خلدون في القرن الثامن في ذلك وفي هذه المسألة بخصوصها عند الكلام

على اللغة العربية وفنونها وآدابها، وتحصيل ملكة البيان فيها، فقد وَفَّاهَا حقها في

اثني عشر فصلاً من مقدمته المشهورة وهي الفصل السابع والثلاثون وما بعده إلى

الخمسين، ذلك بأنه كتب ما كتب والأمة في طور يقل فيها من يقرأ مقدمته، فيفقه

ويعتبر، ولم يكن كل من يفقه بالذي يقدر على تلافي الخطْب، والسير بالأمة في

الطريق القصد، وقد استبد بأمر الأمة الأعاجم الجاهلون، وقل العلماء المستقلون

وساد المقلدون.

أما هذه النهضة الأخيرة فقد كان حكيمنا السيد جمال الدين مقتدح زنادها،

وشيخنا الأستاذ الإمام قائد جيادها، ولكن السائل بالغ في إطراء المعاصرين من

كتابها، فنظمهم في سلك الأولين، من الفحول المقرمين، وما هم إلا عيال على بعض

المولدين، على قلة ما يحفظون من المفردات، وكثرة ما يخطئون في المركبات.

وأما سؤاله عمن حفظ القرآن من النصارى استعانة به على تحصيل ملكة

البلاغة - وهم ثلة من المتقدمين، وأفراد من المتأخرين - بأي عين نظروا إليه

وكيف صار بعضهم بليغًا دون كثير ممن حفظه من المسلمين وأضاف إليه شيئًا من

الأحاديث؟ ، فجوابه أنهم نظروا إليه بعين طالب الفصاحة والبلاغة، لا بعين

طالب الدين والهداية، والأمور بمقاصدها، وإنما يستفيد كل امرئ من كل شيء

مفيد بقدر ما تتوجه إليه إرادته من فوائده، وتحصيل ملكة البيان في العربية لا

تتوقف على حفظ القرآن الكريم، ولكن حفظه يكون مزيد كمال فيها لمَن حفظه

وقصد منه ذلك؛ لأنه أبلغ الكلام العربي وأعلاه أسلوبًا، وإن كان أسلوبه معجزًا لا

يمكن أن يُحتذَى مثاله، ومن حفظه لا يقصد ذلك منه لا يستفيد شيئًا من بلاغته،

كما أنه إذا لم يقصد الاهتداء به لا يستفيد من هدايته، ومن هنا تعلم أن حفظه وحده

لا يكفي في تحصيل ملكة البيان في اللغة العربية، بل يتوقف ذلك على ممارسة

الكثير من كلام بلغاء العرب في العهدين الجاهلي والإسلامي أو العهد الثاني فقط،

وإن هذه الممارسة هي الأصل في تحصيل ملكة البيان؛ لأنها هي التي تُحتذَى وقدر

القرآن الكريم أو ضعفه لا يكفي خلافًا لما تُظهره عبارة السائل وما قيل في القرآن

يقال مثله في الأحاديث النبوية وإن كان أسلوبها غير معجز؛ وذلك أن المحفوظ

منها قليل، وأكثرها جمل مختصرة، فلا تنطبع في نفس حافظها ملكة التصرف في

جميع الأغراض والمعاني. ومن لم يقصد استفادة البلاغة منهما لم يستفد منها شيئًا.

وإن من حفاظ القرآن عندنا مَن لا قصد لهم من حفظه إلا تجويد ألفاظه وتوقيع

آياته على الأنغام الموسيقية؛ ليُعجبوا أو يُطربوا مَن يستأجرونهم لقراءته في المآتم

أو ليالي رمضان، ومن الناس من لا ينظر فيه إلا بقصد البحث عن آية يمكن

التشكيك فيها، بحملها على غير ما أريد منها، ولا يعجزه أن يجد ذلك، وقد ذم

بعض الشعراء وجهًا أبيض أزهر فشبَّهه برئة الحيوان، وذم ابن الرومي الورد

فشبّهه بما ننزه عنه هذا الكلام. (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .

_________

ص: 129

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رحلة الحجاز

(5)

مقامنا بمكة قبل الحج

تقدم أنني دخلت مكة ضحوة يوم الأحد (وهو الثالث من أيام ذي الحجة

بحسب تقاويم مصر وهو ما ثبت لدى حكومة مكة بعد وكانوا يعدونه الرابع في

تقاويمها) وإنني كنت متمتعًا بالعمرة إلى الحج، وإنني لم أتجاوز يوم الأحد دار

السيد الزواوي التي جئتها بعد الطواف والسعي إلا مساءً؛ إذ جئت المنزل الذي أُعد

لي من قِبَل الأمير - أحسن الله كرامته - وإنني لم أخرج منه إلا ليلاً بعد وصول

السيدة الوالدة والرفاق إلى قصر الأمير للتشريف بزيارته. ولقيت في القصر نجله

النجيب صديقي الشريف عبد الله، وليس في مكة من أنجاله النجباء سواه؛ إذ كان

قد وجَّه الأمراء الثلاثة عليًّا وفيصلاً وزيدًا إلى فتح المدينة المنورة والأمير عبد

الله إلى فتح الطائف، وتقدم أن فتح الطائف قد تم على يديه قبيل قدومنا، وأنه دخل

مكة منصرفًا عنها في وقت دخولنا.

وفي اليوم الثاني - وهو يوم الاثنين رابع ذي الحجة - علم الناس بوصولي

إلى مكة مع الحجاج المصريين، وذكرته جريدة القبلة في عددها الخامس عشر

الذي صدر فيه، فأقبل الكثيرون من الشرفاء والعلماء والوجهاء بزيارتنا وفي

مقدمتهم الأمير الشريف عبد الله وبعض مَن يشار إليهم بعد، وبقينا إلى يوم التروية

- وهو يوم الجمعة ثامن ذي الحجة - لا عمل لنا إلا عبادة الله تعالى، وأخصها

التطوف ببيته، وإلا لقاء الناس في الدار وفي الحرم والاستفادة من مذاكراتهم.

وقد كنت مدة إقامتي بمكة ضعيف البدن بنزف دم كان قد عرض لي، لم

يسبق لي مثله، فكنت لا أستطيع الطواف إلا في وقت الأصيل ووقت السحر،

وثقل عليَّ الحر، على أنه لم يكد يتجاوز الدرجة 35 من ميزان سنتكراد إلا قليلاً،

ولم أكن أجد راحة في جسمي إلا حيث كانت راحة روحي، وما ذاك إلا في الحرم

الشريف. ولا يوجد في بطن مكة مكان كالحرم يتخلله الهواء لسعته وكثرة الفجاج

الموصلة إليه من الجهات الأربع، ولولا أن وصفه مبين بالتفصيل - في كتب

المتقدمين والمتأخرين من المؤرخين والرحالين - لوصفته في هذه الرحلة الوجيزة.

وكنت أصلي الفجر كل يوم بجانب مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى

آله الكرام، وأصلي المغرب والعشاء في الجانب الشرقي من الحرم مع صديقنا

الشريف أبي نمي الذي يعشق فضله وأخلاقه كثير من فضلاء المصريين؛ إذ

عرفوه بإقامته في القاهرة عدة سنين، وكانت داره في مصر بجوار دارنا من شارع

درب الجماميز، واتفق أن زاويته في جدار الحرم الشريف بالقرب من باب إبراهيم

- وكذا داره - فهي بجوار المنزل الذي أُنزلنا فيه كما علم مما تقدم. وكان خدمه

يفرشون له في كل أصيل سجادة أو سجادتين تجاه زاويته، حيث يصلي مع بعض

أصحابه، وكنت أنا والسيد الزواوي منهم، وكنا نجيئه في الأصيل، ونخرج بعد

صلاة العشاء.

لم أجد قوة على رد كل مَن زارني ولم أتمكن من إحصائهم، فنويت أن أرجئ

النظر في ذلك إلى ما بعد الانتهاء من أعمال النسك، ولكنني زرت فوزي بك

البكري من سروات دمشق الشام في داره وعبد العزيز بك المصري في منزله وكلاً

من الشيخ كامل قصاب أحد علماء الشام ومحب الدين أفندي الخطيب وفؤاد أفندي

الخطيب في إدارة جريدة القبلة، وكلهم يعملون فيها، وكثر التلاقي بيني وبين

هؤلاء، والحديث معهم في الشؤون السياسية الحاضرة، ونعرف أخبار الحجاز

منهم.

ولم أدخل دار أحد من المكيين زائرًا إلا زاوية الشريف أبي نمي ودار الشيخ

محمد صالح الشيبي فاتح بيت الله الحرام (ورئيس مجلس الشيوخ في الحكومة

الجديدة كما يأتي) ، ثم لم يتيسر لي بعد الحج زيارة أحد ممن زارني، كما يعلم مما

يأتي إلا نائب الشرع الشريف الشيخ يونس أفندي، فإنني زُرته في المحكمة

الشرعية، وكنت عرفته مجاورًا في رواق الشوام بالأزهر، إذ كان يحضر دروس

الأستاذ الإمام، وزرت الشيخ عبد الملك الخطيب من أدباء مكة قبل السفر منها بيوم

واحد. وكنت أود أن أزور الشيخ عبد الله سراج قاضي القضاة ووكيل رئيس

النظار في الحكومة الجديدة، وأخلو به في داره ساعة للمذاكرة في الشئون الحجازية،

فلم أجد فرصة لذلك، وكان قد تفضَّل بزيارتي في دار الضيافة الهاشمية، وأثنى

لي على تفسير المنار، وطلب مني جميع ما طُبع منه. وقد رأيت أنه في أقرب

منزلة من ثقة الأمير، وقلما جئت قصر الإمارة إلا ورأيته معه، أو منتظرًا لقاءه.

وأما الشيخ الشيبي فهو كبير بني شيبة حَجَبَة الكعبة المعظمة، ووارثي

مفتاحها في الجاهلية والإسلام، وبيتهم من أكبر بيوت قريش بعد بيوتات الهاشميين

عامة والعلويين منهم خاصة، وهم يُنسبون إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة،

وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة الصحابي الذي فتح باب الكعبة للنبي

صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ودخلها معه كما في الصحيحين وغيرهما من كتب

السنة والسير والتاريخ. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: (أقبل رسول

الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة،

ثم دعا عثمان بن طلحة، فقال:(ائتني بالمفتاح) ، فذهب إلى أمه، فأبت أن

تعطيه، فقال: والله لتعطينَّه، أو ليخرجنَّ هذا السيف من صلبي (يعني أنه يقتل

نفسه بطعن بطنه به، حتى ينفد من ظهره) ، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى

النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه، ففتح الباب. وظاهر هذه الرواية أن

النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح الباب، وورد التصريح بذلك في رواية

عنه أيضًا، سندها ضعيف في تاريخ مكة للفاكهي قال:(أي ابن عمر) كان بنو

أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى

الله عليه وسلم المفتاح، ففتحها بيده. ولكن روى عنه البخاري من طريق فليح أنه

قال: وقال لعثمان: (ائتنا بالمفتاح) ، فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل.

وفي هذه الرواية أيضًا أنه كان مردفًا لأسامة على القصواء، وهي ناقته صلى الله

عليه وسلم، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم

الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد الحديث.

وقال الحافظ في الفتح: روى عبد الرزاق والطبراني من جهته من مرسل

الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوم الفتح: (ائتني بمفتاح

الكعبة) فأبطأ عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، حتى إنه ليتحدَّر منه

مثل الجمان من العرق، ويقول:(ما يحبسه؟ !) فسعى إليه رجل وجعلت المرأة

التي عندها المفتاح وهي أم عثمان واسمها سلافة بنت سعيد تقول: إن أخذه

منكم لا يعطيكموه أبدًا، فلم يزل بها، حتى أعطت المفتاح، فجاء به، ففتح، ثم

دخل البيت، ثم خرج منه، فجلس عند السقاية. فقال علي: (إِنَّا - يعني بني

هاشم - أُعطينا النبوة والسقاية والحجابة، ما قوم بأعظم نصيبًا منا) . فكره النبي

صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه. ثم قال

الحافظ: وروى ابن عائذ من مرسل عبد الرحمن بن سابط (وهو ثقة) أن النبي

صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان، فقال: (خذها خالدة مخلدة،

إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم، لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، ومن طريق

ابن جريج أن عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية،

فنزلت {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) ، فدعا

عثمان، فقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ومن

طريق علي بن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني شيبة كلوا

مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف) . اهـ.

والظاهر أن ذكر بني شيبة ههنا غلط من النُّسَّاخ، صوابه: يا بني أبي طلحة؛

فإن عثمان بن طلحة هذا هو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة كما تقدم،

وكانوا كلهم يدعون بني أبي طلحة نسبة إلى جدهم أبي طلحة عبد الله بن عبد

العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وقد ذكر الحافظ في ترجمة كل من

عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان من (تهذيب التهذيب) من عبارة

الأصل عن مصعب الزبيري أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إليهما معًا،

وقال: (خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلا ظالم) وذكر

عن ابن سعد عن هوذة بن خليفة عن عوف عن رجل من أهل المدينة: دعا النبي

صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح شيبة بن عثمان، فأعطاه المفتاح، وقال:

(دونك هذا، فأنت أمين الله على بيته) وذكر الحافظ هذين الحديثين في ترجمة

شيبة من الإصابة أيضًا، ثم قال: وذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم

أعطاها يوم الفتح لعثمان، وأن عثمان ولي الحجابة إلى أن مات، فوليها شيبة،

واستمرت في ولده. اهـ. وهذا هو الصواب، وقد استمرت في ولده إلى اليوم،

وبهذا حفظ نسبهم، وعظم حسبهم، وقد نزعها منهم بعض أمراء مكة، ثم عادت

إليهم كما يؤخذ من بعض كتب التاريخ.

أقول: ولأهل هذا البيت أن يفخروا على جميع الناس بهذه الوظيفة القديمة

الثابتة من قبل الإسلام، التي أقرها الله تعالى ورسوله لهم في محكم القرآن، وبأن

إقرارها لهم كان سبب نزول الآية العظيمة التي هي قاعدة أصول الأحكام، عليها

مدار إصلاح الأنام، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى

أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) كما تقدم آنفًا.

وذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور من تخريج ابن جرير وابن المنذر عن

ابن جريج، بمعنى ما تقدم، وفيه أنه قال: وقال عمر بن الخطاب: لما خرج

رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية -فداؤه أبي وأمي -

ما سمعته يتلوها قبل ذلك. وذكر هو والحافظ ابن كثير رواية طويلة في هذا المعنى

عن ابن عباس أخرجها ابن مردويه عنه من طريق الكلبي عن أبي صالح، وفيها

أن العباس رضي الله عنه حاول أخذ المفتاح، وطلب من النبي صلى الله عليه

وسلم أن يجعل له الحجابة مع السقاية، فأنزل الله الآية في ذلك. قال الحافظ ابن

كثير - بعد ذكر هذه الرواية -: وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك،

وسواء كانت في ذلك أو لا فحكمها عام. اهـ. وذكر علماء الحديث والسير أن

عثمان بن طلحة أسلم في هدنة الحديبية هو وخالد بن الوليد وهاجرا، وأن شيبة

أسلم عام الفتح.

الشيخ محمد صالح الشيبي:

هذا، وإنني لم أَرَ فيمن رأيت رجلاً تمثل رؤيته فصلاً من تاريخ قريش في

الجاهلية والإسلام وتاريخ بيت الله الحرام إلا كبير الشيبيين الشيخ محمد صالح،

وهو رجل جليل المنظر، لطيف المعاشرة، حسن المفاكهة، له مشاركة في العلوم

الإسلامية، والآداب العربية، وحظ من المدنية العصرية، ورأيته على مشربي في

العناية بأمر الماء النقي البارد، فهو لا يشرب من ماء عين زبيدة التي يشرب منها

أهل مكة، بل يستعذب له الماء من بئر في ضواحيها - كما كان يستعذب الماء من

آبار السقيا للرسول الأعظم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ويثلج له الماء في

داره، وعنده روايا إفرنجية من نوع الترمس الأسطواني المشهور، يحمل له فيها

الماء المثلوج مع قطع من الجليد المصنوع، إذا خرج هو منها إلى سفر قريب

كعرفة أو جدة. وقد أقام في الآستانة زمنًا وهو يعرف اللغة التركية.

رخاء المعيشة بمكة:

وعلى ذكر الثلج أذكر من خبر رخاء المعيشة في مكة المكرمة أن أهل هذا

البلد الأمين يتمتعون أبدًا بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي حكاه الله

عنه في قوله: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) ،

ودعائه أن يبارك الله لهم في اللحم، عندما زار بيت إسماعيل بمكة بعد زواجه

الثاني، كما ثبت في حديث ابن عباس عند البخاري، الذي ذكرنا القسم الأول منه

في بيان حكمة السعي بين الصفا والمروة من هذه الرحلة. فاللحم في مكة كثير

رخيص، وهو جيد شديد السمن، والثمرات والخضر فيها كثيرة رخيصة أيضًا،

على أنهم يرفعون أثمان كل شيء في موسم الحج. وقد كنا في دار الضيافة

الهاشمية تُستطاب لنا ألوان اللحم والخضر في كل غداء وعشاء، ولكن كان يغلب

عليَّ وعلى الوالدة والشقيقة الإقهاء [1] ؛ فرغبتنا في الطعام كانت ضعيفة، ولولا

عنب الطائف ورمانها الجيدان لما طابت لنا المعيشة، وكان لدينا طاهٍ يحسن الطبخ

على الطريقتين المكية والتركية، ثم استحسنت الوالدة أن تتولى الطبخ لنا إحدى

الجاريتين اللتين خُصصتا للخدمة المنزلية، وأما الثلج أو الجليد فقد قيل لنا إنه كان

له معمل في مكة وقد كُسر وتعطل. ووجدنا بعض الهنود هنالك يعملون قطعًا

صغيرة من الجليد يجمدونها في قوالب من الزنك، ويبيعونها بأثمان غالية جدًّا

لمعتادي شرب الماء المثلوج كالشيخ الشيبي، فكنت أشتري منهم كل يوم؛ إذ لم

أجد ماء كيزان الفخار مقبولاً، وإن كنا في شهر الميزان، خلافًا للمثل الحجازي

القائل: إذا دخلت الشمس في الميزان يبرد الماء في الكيزان.

وقد ذكر الرحالة محمد بن جبير الأندلسي في رحلته ما وجد في مكة من

الثمرات والبقول، كما ذكر غير ذلك من خيراتها وتحفها، قال: وأما الأرزاق

والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ له المَزِيَّة على

سائر حظوظ البلاد، حتى حللنا هذه البلاد المباركة، فألفيناها تغصّ بالنعم والفواكه

كالتين والعنب والرمان والسفرجل، والخوخ والأُتْرُجّ والجوز والمقل

إلخ،

ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البِطِّيخ والسفرجل وكل فواكهها عجب، لكن

للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة؛ وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح

وأطيبها، يدخل به الداخل عليك، فتجد رائحته العبقة قد سبقت إليك، فيكاد يشغلك

الاستمتاع بطيب رياه، عن أكلك إياه، حتى إذا ذقته خُيِّلَ إليك أنه شبيه بسكر

مُذاب، أو بجنى النحل اللباب

إلخ، وأطنب في وصف جودة اللحم وسمنه

ولينه وسهولة هضمه، وهو كما قال، نحن لم ندرك كل ما أدرك من الثمرات،

فإنه جاء مكة في قلب الصيف من سنة 579، وبقي فيها إلى أواخر الشتاء.

والبطيخ الأصفر - الذي أدركناه - دون النوع الجيد منه في مصر المعروف

بالشمام.

* * *

(الإحرام بالحج وشدّ الرحال إلى عرفات)

صلينا الجمعة يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة [2] في الحرم الشريف، وفي

ليلة السبت شددنا الرحال إلى عرفات محرمين بالحج، وقد قال لي صديقنا السيد

الزواوي في صبيحة ذلك اليوم: إن سيدنا الأمير - أيده الله تعالى - قد كان

استحسن أن نخرج معه إلى عرفة، ونكون في صحبته هنالك وفي منى إلى أن

تعودوا إلى مكة، ولما ذكر لي ذلك مستشيرًا فيه ذكَّرته بوجود والدتكم معكم، وقلت

لعل الأوْلى أن يخرج في خدمتها؛ لأن ذلك آنس لها وأقر لعينها ومزيد ثواب له،

فاستحسن ذلك، وأمرني بتجهيز الرواحل والمؤنة وسائر ما يلزم وأمر بصرف

عشرين جنيهًا لنفقة عرفة خاصة، وقد عهد إلى إبراهيم (وهو وكيل الخرج

والمتولي أمر خدمتنا) باختيار جمال قوية جيدة لكم، والجمال في هذا العام قليلة جدًّا

لكثرة ما مات منها قبل الثورة لقلة العلف، ولو كان الحاج كثيرًا كالعادة لما وجد من

الجمال ما يكفيه، وقد وصلت أجرة الجمل الواحد إلى عرفة ذهابًا وإيابًا إلى

عشرين ريالاً مجيديًا، ولولا أن سيدنا الأمير - حفظه الله - أمر عسكر البيشة

بجلب الجمال من الأعراب ولو بالقوة لتعذر على بعض الحجاج أن يجدوها إلا

بأجرة فاحشة.

هذا ملخص ما قاله السيد الزواوي، فشكرت لسيدنا الأمير كرمه وفضله

ودعوت له بالتوفيق والتأييد، ثم للسيد عنايته بنا هو ونجله السيد عبد الرحمن،

وتعاهدهما إيانا بكل ما نحتاج إليه في كل يوم، بل في كل آن، وكانت هذه العناية

على أتمها عند الحل والترحال، ففي أصيل هذا اليوم - يوم التروية- جِئَ

بالرواحل إلى حوش الدار، وتولى وكيل الخرج ووالده شد الشقادف وفرشها بنظر

السيد عبد الرحمن وإرشاده، ثم ركبنا في وقت العشاء، فكانت السيدتان الوالدة

والشقيقة في أحسن الهوادج ومعهما غزلان الجارية جلست بينهما لخدمتهما،

وركبت أنا ومحمد نجيب أفندي في شقدف، وركب وكيل الخرج مع الأستاذ الشيخ

خالد في شقدف، وركب والد وكيل الخرج الجمل الذي يحمل الخيام والأثاث

والماعون والمؤنة، وركب السيد عبد الرحمن دابة فارهة، وسرنا الهُوَينا في

أسواق مكة قاصدين عرفة، بعد أن أحرمنا جميعًا، وأهللنا بالحج من منزلنا، إلا

الذي ذهب بالخيام والماعون فإنه سبقنا، وتأخر عنا السيد الزواوي الكبير، ثم

أدركنا، وبعد سرى نحو من ست ساعات، وصلنا إلى حيث ضربت خيامنا من

عرفات، وذلك بالقرب من موقف النبي صلى الله عليه وسلم حيث مسجد

الصخرات، (وسيأتي قريبًا بيان هذا الموقف) ، ولم يكن في استطاعتنا أن نتبع

سُنته صلى الله عليه وسلم في السير بأصحابه إلى عرفة.

كان مَن لم يَسُقْ الهدي من الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم

في حجة الوداع، قد قلبوا حجهم إلى عمرة بأمره صلى الله عليه وسلم وبعد طواف

العمرة وسعيها قصروا شعورهم، وتمتعوا إلى يوم التروية، وكانوا نازلين في

خارج مكة، فلما خرجوا معه صلى الله عليه وسلم فيه إلى منى أهلّوا بالحج من

الأبطح - وهو ما انبطح من الأرض في أول طريق منى ما بين الجبلين إلى مقبرة

مكة (المعلى) ويسمى البطحاء والمحصب - وقد صلى النبي صلى الله عليه

وسلم الظهر والعصر يوم التروية بمنى، وبات في ليلة عرفة وإنما رحل منها بعد

طلوع الشمس، ففي ذلك عدة سنن لم تتيسر لنا. والخروج في كل وقت من يوم

الترويه مباح، وكره مالك التقدم إليها قبله، والتأخر عنه إلا إن أدركه وقت الجمعة

بمكة، فيصليها فيها كما فعلنا. وروى ابن المنذر أن عائشة لم تخرج من مكة يوم

التروية حتى دخل الليل، وذهب ثلثه. اهـ من نيل الأوطار.

صفة الطريق من مكة إلى عرفات:

خرجنا من الدار وهي غربي الحرم بقرب بابه المعروف بباب إبراهيم [3] ،

فسرنا في الشارع الكبير، مائلين يمينًا إلى جهة الجنوب الشرقي، حيث يكون

الحرم الشريف عن يسارنا، ويسمى ذلك الموقع بالسوق الصغير، ويليه من

الشارع جياد وفيه معاهدة الحكومة والمطبعة والتكية المصرية، ويليه شارع المسعى

حيث يكون السعي بين الصفا والمروة، فالقشيشية فسوق الليل الذي كان فيه ميلاد

النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، وهنالك يتحول السائر في الطريق إلى

جهة الشمال، فيمر بالغزة، وفيها قصر الإمارة عن يمينه، فالنقا فالسليمانية عن

يساره، وهذا القسم الشمالي من مكة واقع بين جبل أبي قبيس من جهة الشرق وجبل

قيعقعان وجبل الهندي من جهة الغرب، ودونهما جبل لعلع الصغير عند النقا.

ومتى جاوز الخارج من مكة عمرانها من هذا القسم - يرى عن يساره مقبرتها

المعلاة أو المعلى، وفيها قبر السيدة خديجة أم المؤمنين، وجدة آل البيت الطاهرين،

عليها وعليهم السلام، وهذه الجهة هي أعلى مكة، وتسمى الحَجُون (بفتح الحاء

المهملة) التي قال فيها الحارث بن مضاض الجرهمي:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بل نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العواثر

ويدخل فيها من ثنية كداء [4] التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم

مكة عام الفتح وفي حجة الوداع وهي في أعلى الجبل الذي على يسار المار إلى

المقبرة، ويقال لثنية كداء الثنية العليا، وللثنية الأخرى التي دخلنا منها الثنية

السفلى، وتسمى كُدَى (بالضم والقصر) ومنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم

من مكة، وهي بقرب شعب الشاميين من ناحية جبل قيعقعان. وهناك باب الشبيكة

المشهور بعد جرول.

ووراء المعلى في طريق منى مكان يسمى البياضية مطلق الهواء، فيه قصور

لبعض الشرفاء. ومن هناك يتحول طريق منى إلى الشرق، وهو وادٍ يختلف

عرضه من مئتي ذراع بذراع الآدمي إلى ألف ذراع بالتقريب، وتختلف أسماؤه

باختلاف المواقع، وأشهرها وادي المنحنى الذي قال فيه ابن الفارض:

ما بين ضال المنحنى وظلاله

ضل المُتَيَّم واهتدى بضلاله

ويليه وادي السَّلَم بفتح السين واللام، ويذكر كثيرًا في أشعارهم. والضال هو

البري من شجر السدر وهو ذو شوك ونبقه صغير، والسلم الشجر الذي يسمى ورقه

القرظ، ويُدبغ به، وهما من أشجار تلك البلاد.

وأول منى العقبة التي فيها الجمرة المنسوبة إليها وسيأتي ذكرها. والمسافة

بين مكة ومنى فرسخ واحد أي ثلاثة أميال كما قالوا، ففي معجم البلدان لياقوت:

مِنًى بالكسر والتنوين في درج الوادي الذي ينزله الحاج ويرمي فيه الجمار، يسمى

بذلك لما يمنى فيه، أي يُراق من الدماء - أي دماء الأنعام للنسك - إلى أن قال:

وهي بُلَيْدة على فرسخ من مكة، طولها ميلان، تعمّر أيام الموسم، وتخلو بقية

السنة إلا ممن يحفظها، وقلّ أن يكون للإسلام بلد مذكور إلا ولأهله بمنى مضرب.

اهـ.، والمراد بالمضرب: المكان الذي تُضرب فيه خيام الحاج. وهذه الطريق

يقطعها راكبو الخيل - وكذا الحمير - في ساعة واحدة وراكبو الإبل في ساعتين،

وحدّ منى من العقبة التي فيها جمرة العقبة إلى بطن مُحَسِّر (بكسر السين المشددة)

كما سيأتي، والغالب فيه التذكير والصرف، وقد تؤنث على الأصل في أسماء

البقاع، وتمنع من الصرف.

والوادي بين منى والمزدلفة يسمى وادي المنار، وتسمى المزدلفة جمعًا أيضًا،

ويكثر هذا الاسم في الأخبار والآثار والأشعار، وهي المشعر الحرام عند الجمهور،

أو هو جبل قزح فيها، قال تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} (البقرة:

198) ، أي في المزدلفة، فهي عند الجبل. والمسافة بينها وبين منى من نهاية

حدها الشرقي نصف ساعة لركاب الخيل أو الحمير الفارهة وساعة أو ساعة وربع

لراكبي الإبل. وسميت جمعًا لجمعها الناس في ليلة النحر، والمزدلفة من الازدلاف

وهو الاقتراب، إما للتقرب إلى الله بذكره فيها، أو للازدلاف إليها من منى بعد

الإفاضة من عرفات، وقيل: إن آدم وحواء تعارفا في عرفة، واجتمعا في

المزدلفة، وسيأتي الكلام على المبيت فيها للنسك.

والمسافة بين المزدلفة وعرفات ساعة ونصف على الدواب، ويمكن قطعها

بأقل من ذلك، وثلاث ساعات للإبل. وبين المزدلفة وعرفة مضيق الأخشبين

ووادي نمرة وبطن عرنة، وقال العلماء: إن المسافة بين مكة وعرفة تسعة أميال

تقريبًا، نقله الزَّبِيدي شارح القاموس والإحياء، ولكنه ذكر - عند الكلام على نمرة

- أنها على مسافة أحد عشر ميلاً.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الإقهاء: فقد شهوة الطعام.

(2)

سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يروون فيه إبلهم، ويحملونها الماء الكثير لعدم وجوده في عرفة.

(3)

إبراهيم الذي أُضيف إليه هذا الباب مزيّن كان هناك، ويظن بعض الناس أن المراد إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وممن اغتر بظاهر التسمية الرحالة ابن جبير، فظن ذلك.

(4)

الثنية: بوزن قضية: الطريق في العقبة أو العقبة المسلوكة وقال الراغب: الثنية من الجبل ما يحتاج في قطْعه إلى صعود وحدور، والعقبة: الطريق الوعر في الجبل وكداء: بفتح الكاف والمد.

ص: 150

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وفاة الشيخ سليم البشري

شيخ الأزهر

في الضحوة الكبرى من يوم الجمعة لأربع خلون من شهر ذي الحجة الحرام

تُوفي الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر عن عمر ناهز المائة

سنة وقيل جاوزها، وكان قبل يومين من وفاته سليمًا معافى، وقد نعته إدارة

المعاهد العلمية في الأزهر إلى رؤساء الحكومة والجرائد اليومية، بما نصه:

أصيب المسلمون في مصر بفقد شيخ المسلمين وكبير علماء الدين حضرة

صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر ورئيس

المجلس الأعلى للمعاهد العلمية والدينية الإسلامية.

توفي إلى رحمة الله قبيل ظهر اليوم (الجمعة 21 سبتمبر 1917) بعد ما

لزم الفراش يومين، كان من قبلهما ينهض بأعباء المعاهد الدينية ويلقي دروسه

العالية في الأزهر بعزم فتيّ، لا تنال منه الشيخوخة، ولا يدركه هرم.

وستشيع جنازة الفقيد غدًا السبت 22 سبتمبر 1917، الساعة 11 صباحًا

من محطة كُبري الليمون مارة بشارع كامل، فشارع الموسكي إلى الجامع الأزهر،

حيث يجتمع وفود المشيعين من العلماء والطلاب وغيرهم للصلاة عليه. ثم تسير

الجنازة إلى مدافن السادات المالكية بقرافة الإمام مارة بشارع الغورية فشارع

المغربلين فشارع محمد علي ويلقي صاحب العزة حافظ إبراهيم بك على قبر الفقيد

مرثاة من نظمه. أحسن الله عزاء المسلمين في فقيدهم الجليل وتولاه برضوانه

ورحمته.

كانت وفاته في داره بالحلمية من ضواحي مصر وبدئ الاحتفال بتشييع

جنازته في الوقت الذي ذُكر في النعي، وقد وصفت ذلك جريدتا الأهرام والمقطم

بالتفصيل، قالت الأهرام:

فجيء بالجثة من الحلمية إلى كبري الليمون بقطار خاص يصحبها أنجال

الفقيد وأحفاده وآله وجمهور من العلماء والأعيان. وكان في انتظارها في محطة

كبري الليمون نفسها من الداخل جمهور عظيم من كبار العلماء والموظفين الملكيين

والعسكريين والأعيان والتجار والمحامين، يتقدمهم حضرة صاحب السعادة حسن

عبد الرازق باشا وكيل الديوان العالي السلطاني بالنيابة عن صاحب العظمة

السلطانية، والكولونِل ر. ف. هربرت بالنيابة عن القومسير العالي البريطاني،

وحضرة صاحب المعالي إبراهيم فتحي باشا وزير الأوقاف العمومية بالنيابة عن

رئيس الوزراء والميجر هـ. م. جريفس أحد أركان الحرب في الجيش البريطاني

بالنيابة عن القائد العام، فاللواء السيد علي باشا مساعد الأدجونانت الجنرال بالنيابة

عن وزير الحربية، فالقائم مقام إدواردس بك بالنيابة عن سردار الجيش، فحضرة

صاحب المعالي محمود شكري باشا رئيس الديوان العالي السلطاني، فحضرة

صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية.

(ثم ذكرت وكلات الوزارات بأسمائهم وكبار الموظفين الوجهاء بالإجمال

وخيَّالة البوليس، فجمهور الطلاب الأزهريين وطلبة مدرسة القضاء الشرعي

ومدرسة ماهر باشا) .

ثم وصفت الجريدة السير بالجنازة إلى الأزهر والصلاة عليها فيه وتأبين الفقيد

كما بلغت، ومنه أن المؤذنين كانوا يرتلون في المآذن التي مرت فيها الجنازة -

وكذا في صحن الأزهر - آيات الأبرار، أي الآيات التي وردت في وصفهم من

سورة الإنسان، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا

كَافُوراً} (الإِنسان: 5)

إلخ.

وأقول: إن هذا من البدع الخاصة بكبار رجال العلم الديني، ومَن يُنزلونه

منزلتهم؛ ولذلك يظن الكثير من غير المسلمين ومن المسلمين الجاهلين الذين لا

يعرفون السنن والبدع أنه من شعائر الدين. وللمؤذنين في قراءة هذه الآيات طريقة

رديئة، لو لم تكن قراءتها والاجتماع لها في المآذن والمساجد بدعًا لكانت هذه

الطريقة في التلاوة كافية في وجوب الإنكار عليهم ووجوب منعهم من ذلك على

القادر؛ ذلك أنهم يقطعون الآيات قطعًا، يقرأ بعضهم كَلِمًا منها، يسكت في غير

مواضع الوقف منها، فيتم بعض آخر ما بدأ كما يفعل الممثلون للقصص في

الملاهي، فيفصلون بين الصفة والموصوف، والعامل والمعمول، يقول بعضهم:

{إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: 5)، فيقول آخرون: {كَانَ

مِزَاجُهَا كَافُوراً} (الإِنسان: 5)، ثم يقول بعضهم:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإِنسان: 6)، فيقول آخرون:{يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} (الإِنسان: 6) ،

وهكذا يفرقون في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (الإِنسان: 7) بين (يومًا) وما وصف به، ولو تدبروا الآية لخافوا أن يعذبهم

الله تعالى في ذلك اليوم على هذا التمزيق في قراءة كتابه. ومن غريب الاتفاق أننا

اقترحنا في جزء المنار الماضي على شيخ الأزهر أن يسعى لإبطال البدع من

المساجد، ولم يكد نوزع الجزء إلا وقد قضى الشيخ نحبه، فعسى أن يقوم بذلك

خلفه.

ثم قالت الأهرام: وكان الناس من وطنيين وأجانب وقوفًا بالعشرات والمئات

على جانبي الطريق، يحيون الفقيد في مشهده، ويترحَّمون عليه. ثم ذكرت

وصول الجنازة إلى الجامع الأزهر في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر والصلاة

عليه وقراءة الشيخ محمد الحملاوي قصيدة من نظمه في رثاء الفقيد. وتلاه الشيخ

محمد أبو العيون بتأبين منثور، أشير إليه بأن يختصره لأجل التعجيل بالدفن

المطلوب شرعًا، ففعل.

ثم حملت الجنازة من الأزهر، والمؤذنون يكررون الآيات التي تقدم الكلام

عليها إلى مقابر المالكية من قرافة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبعد مواراتها

التراب أنشد محمد حافظ بك إبراهيم مرثيته، وتلاه الشيخ محمد فراج المنياوي

بتأبين نثري، أساء فيه الإطراء، فجعل فيه الفقيد من الخلفاء الراشدين، بل فضَّله

عليهم في التعبير. ثم عزى جمهور المشيعين أبناء الفقيد، وانصرفوا.

***

(مرثية محمد حافظ بك إبراهيم)

أيدري المسلمون بمن أُصيبوا

وقد واروا سليمًا في التراب

هوى ركن الحديث فأي خطب

لطلاب الحقيقة والصواب

موطأ مالك عزى البخاري

ودع لله تعزية الكتاب

فما في الناطقين فم يوفي

عزاء الدين في هذا المصاب

قضى الشيخ المحدث وهو يملي

على طلابه فصل الخطاب

ولم تنقص له التسعون عزمًا

ولا صدته عن درك الطلاب

وما غالت قريحته الليالي

ولا خانته ذاكرة الشباب

أشيخ المسلمين نأيت عنا

عظيم الأجر موفور الثواب

لقد سبقت لك الحسنى فطوبى

لموقف شيخنا يوم الحساب

إذا ألقى السؤال عليك ملقٍ

تصدى عنك برك للجواب

ونادى العدل والإحسان أَنَّا

نزكي ما يقول ولا نحابي

قفوا يا أيها العلماء وابكوا

ورووا لحده قبل الحساب

فهذا يومنا ولنحن أولى

ببذل الدمع من ذات الخضاب

عليك تحية الإسلام وقفًا

وأهليه إلى يوم المآب

***

التعازي:

ونشرت جريدتا الأهرام والمقطم تعزية برقية من نائب الملك لمدير المعاهد

الدينية، وأخرى للشيخ طه البشري أكبر أبناء الفقيد، صرح فيهما بأن نعي الفقيد

قد شق عليه كثيرًا، ودعا له بالرحمة والرضوان، وبرقيتان أُخريان بمعناهما من

كبير الوزراء، صرح فيهما بأنه أسف جدًا لعدم إمكان تشييعه الجنازة بشخصه.

وقد تألف وفد من أنجال الفقيد ومراقب الأزهر رأسه المدير العام للمعاهد

الدينية الشيخ عبد الرحمن قراعة لأداء الشكر لرؤساء الحكومة وكبراء البريطانيين

الذين اشتركوا في تشييع الجنازة بالذات، أو بإنابة الوكلاء عنهم والمعزين، فبدءوا

بقصر عابدين، وسجلوا أسماءهم في (دفتر التشريفات) ، ثم نائب وزير الحربية،

وإدواردس بك لشكر السردار، ثم الجنرال كليتون لشكر القائد العام للقوات

البريطانية بمصر على إرساله مندوبًا لتشييع الجنازة، ثم وكيل الأوقاف لشكره

وشكر الوزير، وأرسلوا برقيات شكر إلى نائب الملك ورئيس الوزراء وقومندان

المحروسة ومحافظ العاصمة وحكمدارها.

***

(ترجمة الفقيد)

نشرت جريدة الأهرام ترجمة وجيزة للفقيد، قيل إنها مستمدة من أهل بيته

ملخصها:

أنه (وُلِدَ حوالي سنة 1243 أو 1244 في محلة بشر بمركز شبراخيت،

ولما شبَّ حضر إلى مصر لتلقي العلم، وأقام تحت رعاية شيخه الشيخ بسيوني

البشري من شيوخ المسجد الزينبي، وأنه تعب في طلب العلم تعبًا شديدًا، ولقي من

الدهر مقاومات عظيمة، وأنه كان يتعبد في المسجد الزينبي ليلاً، ويذهب إلى

الأزهر نهارًا لتلقي الدروس، وأن خاله عُين أمينًا لكساوي المحمل في أول ولاية

سعيد باشا، فخرج معه إلى الحجاز حاجًّا، وبعد أن أدى فريضة الحج عاد إلى

مصر، وبقي يشتغل بالتدريس حتى سنة 1273 تقريبًا) .

وإن أول عهده بالوظائف أن (عُين إمامًا لمسجد إينال بمرتب 90 فضة في

الشهر) ، وفي سنة 1291 مات الشيخ علي العدوي فنِيط به التدريس في المسجد

الزينبي بدلاً منه بمرتب مئة قرش في الشهر، وعين وكيلاً عن شيخ المسجد

الزينبي لحداثة سنه، وهو الشيخ أحمد الصفتي الشيخ الحالي، وبقي كذلك إلى آخر

ولاية إسماعيل باشا، ثم عين إمامًا وخطيبًا لمسجد زين العابدين، ثم شيخًا للمالكية

بعد وفاة الشيخ عليش، ثم شيخًا للأزهر لأول مرة في سنة 1901، وكانت مدتها

أربع سنين. وذكر من حبه للعلم وإيثاره له أن تلميذه قدري باشا عرض عليه

وظيفة بثلاثين جنيهًا، فأبى مفضلاً الانقطاع إلى تعليم العلم. ولم يذكر تلك الوظيفة،

فالظاهر أنه لم يكن يمكن الجمع بينها وبين التعليم.

وذكر مسألتين من خلائقه: إحداهما أنه كان اختار الشيخ أحمد المنصوري

شيخًا لرواق الصعايدة، فأبى قاضي مصر إقامته ناظرًا على أوقاف الرواق، فأصر

صاحب الترجمة على تعيينه دون غيره (ورأى في العدول إهدارًا لرأيه، وبالغ في

التشبث برأيه حتى فضَّل ترك المشيخة على التجاوز عن حقه المفروض بحكم

القانون) ، والثانية أنه لما جدد المسجد الزينبي رأى رئيس مهندسي الأوقاف أن

ينقل القبر المنسوب إلى السيدة زينب بما فيه، فعارضه الشيخ، وأعلمه أن ذلك

مخالف للشرع من وجوه عديدة، وانتهى الخبر إلى الخديو محمد توفيق باشا، فأمر

بإبقاء القبر في مكانه، وترضَّى الشيخ، فتم له ما أراد، ولما كانت نشأة الشيخ

الدينية قد كانت في جوار ذلك الضريح وصار قيِّمًا له عدة سنين ظل محافظًا على

تكريمه طول عمره، ولا ندري أكان يعتقد أن السيدة زينب مدفونة في هذا المكان

كما يظن عامة المصريين أم كان يرى أن نسبة القبر إليها كدفنها فيه؟

وفي هذه الترجمة أغلاط وقصور. وقد علمنا من عالم من أكبر تلاميذ الفقيد

وأعلمهم بترجمته أنه سمع منه أنه وُلد في سنة 1237، وأنه جاء مصر في سنة

1245 أو 1247، وأقام عند خاله الشيخ بسيوني شلتوت المؤذن في مسجد السيدة

زينب. ثم قضت الحال أن أرسله الخال إلى الأزهر.

وقد رأينا في جريدة وادي النيل التي تصدر في الإسكندرية - وهي أرقى

جريدة للمسلمين في هذا القطر - نعيًا للفقيد، وشيئًا من حاله، يبلغ زهاء نصف

عمود، بدأه بقوله: (نعت العاصمة الأستاذ الشيخ سليمًا البشري شيخ الجامع

الأزهر عن عمر طويل، قضى شطره الأكبر في خدمة العلم، وقضى أواخره في

ولاية المشيخة الأزهرية غير مرة. وكان رحمه الله في ولاية المشيخة ذا أنصار

يحفون من حوله، وخصوم كثيرين يأخذونه بأمور ليس من المناسب ذكرها

) ،

ثم ذكر أن علماء الأزهر متفقون على أنه أعلمهم بالحديث وأن طريقته في قراءته

أنه كان يقرأ الحديث أولاً على سبيل التبرك، ثم يقرؤه أحد الطلبة بصوت جهوري،

ثم يشرحه الشيخ بما شاء الله من علمه.

أقول: وهذه المزيَّة له مشهورة سمعتها من كثيرين، وعليها بنى حافظ مرثيته،

وهي أعظم مزية تُذكر له في هذا العصر، الذي أهمل الأزهريون فيه العناية بعلم

السنة روايةً ودرايةً؛ حتى صار طلبة العلوم الدينية في ديوبند وغيرها من بلاد

الهند يفضلون أكبر شيوخ الأزهر في علوم الحديث. وإنما كان الشيخ سليم البشري

على حظ من علم الحديث؛ لأنه طلب العلم قبل هذا الجيل بجيلين، وكانت كتب

السنة لا تزال تدرس في الأزهر.

وقد أدركنا من أقران الشيخ في الطلب شيخ شيوخنا الشيخ محمود نشابه

فألفيناه منفردًا بعلوم الحديث، وقد كنت أقرأ عليه صحيح مسلم، فيصحح لي أسماء

الرواة وغريب الحديث، ويجيبني عن كل ما أسأله عنه من المشكلات على البداهة

من غير مراجعة شرح ولا كتاب آخر، فإذا رجعت إلى تلك الكتب رأيت ما قاله

هو الصواب. ولكن صاحب الترجمة لم يعمل شيئًا لإحياء ما اندرس من علوم

الحديث في الأزهر في أيام رياسته ومشيخته.

وعندنا أن أعظم ما يُذكر في تاريخ مشيخته للأزهر قبوله للقانون الذي

وضعته الحكومة له ولمعاهد التعليم الديني التابعة له وتنفيذه إياه، وقد بيَّنَّا رأينا فيه

في المجلد الرابع عشر من المنار، ولا مجال لبيان ذلك، ولا لما كان بين المترجم

وبين الأستاذ الإمام من الوفاق والخلاف في إدارة الأزهر، وإنما أقول: إن المترجم

كان حريصًا على نيل رضاء السلطة العليا في كل وقت، وقد فصَّلنا ذلك بعض

التفصيل في تاريخ الأستاذ الإمام.

(للترجمة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 160

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شيخ الأزهر الجديد

لما تُوُفِّيَ الشيخ البشري كثر القيل والقال في الأزهر في ترشيح خلف له،

وسرى ذلك إلى سائر معاهد العلم الديني للأزهر وإلى غيرها، واشتهر أن

الأزهريين رشحوا أربعة أشياخ: كل منهم له حزب رَشَّحَه، وسعى له سعيه، وقد

كتب بعضهم مقالات إلى الجرائد يطعن فيها ببعض، منها ما نُشر، ومنها ما لم

يُنشر، واتسع الوقت للخوض في ذلك بأن البشري توفي قُبيل عطلة عيد الأضحى،

ولم يتعين الخلف له إلا بعد انتهائها، فقد صدرت الإرادة بتعيين الشيخ محمد أبي

الفضل الجيزاوي شيخ معهد الإسكندرية شيخًا للأزهر ورئيسًا لمجلس المعاهد

الدينية الأعلى في يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من شهر ذي الحجة الحرام، وهو

أكبر علماء المالكية بعد البشري سنًا، ومن أشهر علماء الأزهر في العلم والمحافظة

على آداب الشيوخ وشمائلهم، ويقال إنه في العقد الثامن من العمر، وقد سبق له

الاشتغال بإدارة الأزهر؛ إذ كان أحد أعضاء مجلس إدارته في مشيخة الشيخ

حسونة النواوي، ثم عين وكيلاً للأزهر، وبعد قليل من الزمن عيّن شيخًا لمعاهد

الإسكندرية.

فنهنئه بأكبر منصب يرتقي إليه شيوخ العلم الديني بمصر، ونسأل الله تعالى

أن يوفقه، ويسدده فيه، ويجعل لإحياء علم السنة، ومقاومة البدع أفضل حظ من

عنايته.

_________

ص: 165

الكاتب: محمد رشيد رضا

عبر التاريخ

‌ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد

قالت جريدة (المقطم) في فاتحة مقالة طويلة نُشرت في صدر العدد الذي

صدر في 19 جمادى الأولى سنة 1335 - 13 مارس سنة 1917:

قُضي الأمر في العراق، وسقطت بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين، ومباءة

مجدهم، وعُنوان فخرهم، واستولى البريطانيون على منبت أثلة المنصور

والمهدي وهارون الرشيد والمأمون، وموئل العلماء والشعراء والأدباء في عصر

الشرق الذهبي الحديث، أي ذكرى تهيج في خاطر العربي إذا ذكر اسم بغداد

والزوراء ودار السلام؟ بل أي مجد يتحلى لعينيه عند سماع اسمها من دولة

عظيمة الأركان، متينة البنيان، قامت على العدل والنظام والعلم والأمان، وشعب

ناهض ناشط لطلب العلم وإتقان الصناعة وترويج التجارة، وتوسيع نطاق الزراعة

وبسط السيادة، وإضاءة مصباح العلم لتمزيق دياجير الظلام، بغداد دار العلم

والمجد، وبغداد مقر العظمة والثروة وبغداد عاصمة العرب وقاعدة الشرق.

هذا إرث مجيد ظل بيد الشرقيين اثني عشر قرنًا شاهدًا ناطقًا بعظمة أسلافهم

يناوح خرائب بابل وآثار نينوى، حتى صار أمره إلى الاتحاديين، فضاع منهم،

كما ضاع سواه، وصارت بغداد في يد مَن يعرف قيمتها، ويقدرها حق قدرها.

هذا ميراث العرب الكرام أخذه الاتحاديون، كما يأخذ الصبي الكرة، وقذفوا

به، كما يقذف بها، فأفلت من يدهم، وهم يسيرون الجيوش إلى بلدان أوربة

فاتحين، وثغور تركيا وكبار مدنها تسقط الواحدة بعد الأخرى، هذه سُنَّة الله في

خلقه، وقد سخر الاتحاديين لإنفاذ مشيئته وإنزال قضائه ".

ثم قال في فاتحة العدد الذي صدر في 22 جُمادى الأولى بعد كلام، علل فيه

تسمية الجرائد الإنكليزية بغداد مدينة الشعر والخيال بأنهم أخذوا ذلك من كتاب ألف

ليلة وليلة، الذي هو أشهر كتاب عند الإنكليز بعد التوراة والإنجيل:

أما العرب فينظرون إلى بغداد من وجهة أخرى، وإن لم يغفلوا وجهة

الشعر والخيال، فالعرب في مقدمة الأمم التي تجلّ الشعر والشعراء، ولكن العرب

يرون في بغداد القديمة عنوان مجد جنسهم، ورمزًا إلى أكبر شأو بلغته حضارتهم،

ويذكرون أن عصرها الأول كان عصرهم الذهبي؛ إذ منها انبلج صُبح العلم في

العصور الحديثة، فأضاء الشرق والغرب.

إن العرب يرون في بغداد الأولى مقر العلم والحكمة، وخزانة معارف الشرق،

ومدرسته التي نبغ فيها العلماء والأطباء والفلاسفة والفلكيون والكيماويون

والشعراء والكُتاب واللغويون والمهندسون برعاية العباسيين، وعناية أفاضل

خلفائهم، ولا سيما المأمون الذي كان عضد العلم وسند العلماء.

قال السر هنري رولنصن المؤرخ الشهير كلامه عن بغداد ما نصه: وقد

نافست بغداد قرطبة في الآداب والعلم والصناعة والفنون، فكان لهاتين المدينتين

سيادة العالم من هذا القبيل. أما في التجارة والثروة فإن قرطبة لم تبلغ شأو بغداد.

وكانت بغداد عاصمة الإسلام الدينية والعاصمة السياسية لمعظم بلدانه، لما كان

الإسلام ركن حضارة الدنيا.

هذه هي بغداد كما يراها العرب الذين يعرفون تاريخ قومهم، ويحفظون ذكر

عظمة جنسهم، ويتحسرون على أيام الرشيد والمأمون، ويتمنون لو أتيح للعرب أن

ينهضوا مثل نهضتهم في ذلك العصر السعيد، ويتعاونوا على رفع شأنهم بإتقان

العلم وتنشيط الصناعة والتفاني في تأييد المجموع.

كانت بغداد لسلطنة العرب كلندن اليوم لسلطنة البريطانيين، فكانت مركز

قوتهم، ومجمع علمهم، وركن صناعتهم، وسوق تجارتهم، ومجلس حكومتهم،

وكان خلفاؤها ينظرون في الجهات الأربع ويعلمون أن الرياح كيفما هبت فإنها تهب

عليهم من ولاياتهم وممالكهم، حتى لقد قال الرشيد - يخاطب السحابة -: (أمطري

حيث شئت فإن خيركِ يأتيني) .

إن بغداد صارت الآن للعرب مدينة الشعر والخيال؛ إذ لا سبيل إلا بهما إلى

تمثُّل عظمتها الماضية، أما في عصر العرب الذهبي فقد كانت بغداد جامعة لأبهة

الملك وشرف العلم ومجد الصناعة وعظمة التجارة وإتقان الفنون وبراعة النظام،

فكان الخيال والشعر فيها تفكهة يلطفان من أخلاق أهلها، وهم في طلب العلى

جادون، وإلى التقدم والارتقاء والنجاح ناشطون، وفي ذلك يقول أحد شعرائهم:

بغداد أيتها الجياد فإنها

أنجى وأقرب للشؤون وأنجح

ولله در ذلك المستشرق القائل [1] :

في بلاد سكانها من صميم العرب الذين عُرفوا بالعزة والأَنَفَة والشمم، ودانت

لهم الأقطار، ففتحوا الممالك، ودوخوا الأمصار في غابر الأعصار، وأنشؤوا لهم

في التاريخ مجدًا خالدًا، وذكرًا باقيًا، فذاع فضلهم، وطارت شهرتهم، وتناقلت

الركبان أخبارهم، هناك جنة عدن، وهناك جنات النعيم، كانت رافلة في حُلل

الهناء والرخاء أيام كانت إنكلترة وألمانية فيافي وقِفَارًا، وكان أهلهما غارقين في

بحار الجهل، يتخبطون في دياجي الظلام، بلادكم - أيها العرب - هي التي

أزهرت فيها الحضارة، وأينعت الفنون، وأثمر الأدب، وعمرت دور العلم

والفلسفة، وهي البلاد التي انبعث منها نور الدين، وألبَست العالم ثوب الرفاهية

والسعادة.

ترى هل يكون للعرب نصيب من يقظة العالم بعد الحرب، ويد في نهضته

القادمة، فيحل الجد محل الخيال، وتطلق العقول والقلوب مما أصابها من الفتور،

وتنزل هذه الأمة المنزلة التي تجدر بها في مجالس الشعوب؟ ، أو تظل تعود

ببصرها القهقرى إلى عصور مضت، وأيام انقضت، تتغذى بالذكرى، وتصعد

الأنفاس الحرّى. اهـ.

_________

(1)

أي في مقالة نُشرت مترجمة في (المقطم) بتاريخ 27 سبتمبر سنة 1916.

ص: 166

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حجم المنار

اضطرنا انقطاع ورود الورق وغلاؤه المضاعف الفاحش إلى تصغير حجمه

رجاء الزيادة في أجزائه، وهو ضرورة تقدر بقدرها، وعسى أن لا يطول أجلها.

_________

ص: 168