المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٢٠

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (20)

- ‌شوال - 1335ه

- ‌فاتحة السنة العشرين للمنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌مقدمة لذكرى المولد النبوي

- ‌استدراك على الحواشي

- ‌المسألة العربية

- ‌مسألة استقلال الشعوب

- ‌المجمع اللغوي المصري [*]

- ‌ذو القعدة - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌اقتراح عظيم في الإصلاح الإسلامي

- ‌السنة الرابعة للحرب

- ‌تاريخ هذا الجزء

- ‌ذو الحجة - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌رحلة الحجاز(5)

- ‌وفاة الشيخ سليم البشري

- ‌شيخ الأزهر الجديد

- ‌ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد

- ‌حجم المنار

- ‌المحرم - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحرب والصلح

- ‌مختارات من الجرائد

- ‌ما قيل في سقوط بغداد

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع أول - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحرب والصلح

- ‌تنبيه

- ‌ربيع الآخر - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحالة السياسية في الحجاز

- ‌ترجمة الشيخ سليم البشري

- ‌جمادى الآخرة - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌شعبان - 1336ه

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(1)

- ‌نقد ذكرى المولد النبوي

- ‌مصائب الحرب

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌شوال - 1336ه

- ‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [*]

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(2)

- ‌السيد الهمام - آل رضا

- ‌ذو الحجة - 1336ه

- ‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(3)

- ‌الشيخ عبد الكريم سلمان

- ‌حسن جلال باشا

- ‌التحول في ميادين الحرب وقرب أجل الصلح

- ‌خاتمة المجلد العشرين

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حكم التصوير

وصنع الصور والتماثيل واتخاذها

(س9) من صاحب الإمضاء الرمزي في سنغافوره.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله.

ما قول الأستاذ المرشد مولانا السيد محمد رشيد رضا -أرشده الله ورضي عنه

- في حكم عمل الصور من الجص والأحجار والمعادن مجسمة، وفي حكم عملها

بالحفر أو القلم أو بآلة حبس الظل (الفوتغراف) غير مجسمة، هل هو جائز مطلقًا،

أو في بعض الصور، وما الدليل على ذلك؟

وهل تقولون بحرمة ما صُنع للعبادة والتعظيم فقط، أم تذهبون إلى كون

التحريم خاصًّا بالزمن المتقدم خوفًا من أن يكون ذريعة إلى عبادة الصور، أما الآن

فلا يحرم لانسداد الذريعة؟ وهل يدل على ذلك ترْك الصحابة ما وجدوه في إيوان

كسرى من الصور مع صلاتهم فيه؛ لأنها لمحض الزينة أم لا؟ وما حكم

الاقتناء لها ولو لحاجة، والنظر ولو لضرورة عسر الاحتراز، أو لكونها عند

مَن لا يحرمها؟

أفتونا على صفحات مناركم مأجورين، ولا زلتم قبلة الإفادة، وللصواب

موفَّقين، وبإمداد الله مُعانين. حرره في سنقفوره - د. هـ. ن.

(ج) سبق لنا قول وجيز في هذه المسألة واقتضت الحال الآن بسط

المسألة بالتفصيل، وهو يتوقف على إيراد الأحاديث الصحيحة الواردة فيها،

وملخص ما فهمه العلماء المشهورون منها ، وقد استوفى الإمام البخاري جُل ذلك

في كتاب اللباس من صحيحه، فنعتمد في النقل على ما ورد فيه، فنذكره بغير

عزو إليه غالبًا، ونعزو ما ننقله عن غيره لزيادة فائدة فيه، ونعتمد في تلخيص

أقوال العلماء على ما أورده الحافظ ابن حجر في الفتح؛ فإنه أجمع الكتب التي

نعرفها لذلك ولأمثاله، وإن نقلنا شيئًا عن كتاب آخر نعزوه إليه.

* * *

الأحاديث الصحيحة في التصاوير والمصوِّرين

1-

عن مسلم (هو ابن صبيح أبو الضحى واشتهر بكنيته)، قال: كنا مع

مسروق في دار يسار بن نمير (هو مولى عمر بن الخطاب وروى عنه) ، فرأى

في صُفَّته [1] تماثيل، فقال: سمعت عبد الله (هو ابن مسعود)، قال: سمعت

النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: إن أشد الناس عذابًا عند الله المصوِّرون) ،

وفي رواية مسلم: (كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال مسروق: هذه

تماثيل كسرى؟ ، فقلت: لا، هذا تماثيل مريم) ، ثم ذكر الحديث.

2-

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما

خلقتم) .

3-

عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: (إني أصور هذه الصور، فأفتني

فيها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصوّر في النار،

يجعل له بكل صورة نفسًا فتعذبه في جهنم) .

وقال: فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر، وما لا نفس له.

ورواه مسلم وأحمد وفي بعض الروايات أن السائل رجل من أهل العراق

أراه نجَّارًا، وفي بعضها أنه قال له: إنما معيشتي من صنعة يدي، وأنه عندما

ذكر له الحديث انتفخ غيظًا، فرخص له بما ذُكر، ونص المرفوع في رواية أخرى:

(مَن صوَّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ،

قال الحافظ ابن حجر وفي رواية أبي سعيد بن أبي الحسن: (فإن الله يعذبه حتى

ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا) ، واستعمال حتى هنا نظير استعمالها في

قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف: 40)، وكذا قولهم:

لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، ثم ذكر أن هذا أمر تعجيز لا من تكليف ما لا

يُطاق، وأنه استشكل في حق المسلم؛ لأنه يدل على الخلود، وأنه يتعيّن تأويله

بإرادة الزجر الشديد، وأن ظاهره غير مراد. اهـ ما ذكره الحافظ ملخصًا، وأقول:

الأوْلى أن يُحمل على المشركين الذين يصنعون ما يُعبد لعبادته كما يُعلم مما يأتي.

4-

عن عمران بن حطان عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن النبي صلى

الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه.

التصاليب جمع تصليب وهو مصدر سمي به ما كان فيه صورة الصليب من

ثوب أو غيره، ونقضه أزاله، والإزالة تكون بنحو الطمس والحك واللطخ والقطع،

وقد ذكر البخاري هذا الحديث في (باب نقض الصور) وذكر الحافظ في وجه

مطابقة الحديث للترجمة أنه استنبط من نقض الصليب نقض الصورة التي تشترك

مع الصليب في المعنى، الذي هو سبب التحريم، وهو عبادتهما من دون الله.

5-

عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة فرأى في أعلاها

مصورًا يصور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (

ومن

أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة) .

في هذه الرواية حذفٌ عُلم من رواية أخرى، وهو: (قال الله عزوجل:

ومن أظلم ممن ذهب يخلق...... إلخ) ، رواها مسلم، وفيها أن الدار دار مروان،

وفي رواية له: تُبنى لسعيد أو لمروان، قال ابن بطال: فهم أبو هريرة أن

التصوير يتناول ما له ظل، وما ليس له ظل؛ فلهذا أنكر ما يُنقش على الحيطان،

يعني ابن بطال أن هذا الفهم غير صحيح، من حيث إن التشبيه في الحديث القدسي

لا ينطبق عليه، فإن الله تعالى خلق ذوات ماثلة لا نقوشًا في الحيطان ونحوها،

ويمكن أن يقال أيضًا: إن صنع التماثيل ذات الظل - التي شددوا فيها - لا تعد من

هذا الظلم إلا إذا قصد صانعها أن يخلق كخلق الله، وقد فسروا (ذهب يخلق)

بقصد، وهو رواية حديث ابن فضيل، ويؤيده حديث عائشة الآتي (وهو التاسع) ،

إذ قال: (يضاهون بخلق الله)، وفي رواية مسلم: (

يشبهون بخلق الله) ،

وإنما يكون هذا بالقصد.

6-

عن ابن عباس عن أبي طلحة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير) .

7-

عن عبد الله بن عمر قال: وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم،

فراث (أي أبطأ) عليه، حتى اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج،

فلقيه، فشكا إليه ما وجد، فقال:(إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب) هكذا

أخرجه البخاري مختصرًا، وهو عند مسلم من حديثي عائشة وميمونة أوضح،

وفي الأول: (ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال: يا عائشة، متى دخل

هذا الكلب ههنا؟ فقالت: والله ما دريت به. فأمر به، فأخرج، فجاء جبريل

)

إلخ، وفي الثاني: (ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر

به، فأخرج، ثم أخذ بيده ماءً، فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل

إلخ) ،

وظاهر الحديثين أن امتناع جبريل كان بسبب وجود الكلب؛ إذ ليس فيهما ذكر

للصور، وفي الأول أنه رأى الكلب عَرَضًا، ولم يكن عالمًا بوجوده، وفي الثاني

أنه كان عالمًا به، وتذكره بعده إبطاء جبريل، وفيهما الخلاف بين السرير

والفسطاط، والأول معروف، والثاني بيت من شعر دون السرادق، وقال النووي:

أصله عمود الأخبية، والمراد به في الحديث بعض حجال البيت، فيطابق حديث

عائشة. اهـ بالمعنى.

وفي القصة حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي

وصححه كابن حبان والحاكم وهو: (أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة، فلم

يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر

فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع،

فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر، فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان

توطآن، ومر بالكلب فليخرج) ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا

الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضد لهم، وفي رواية النسائي: (إما أن

تقطع رءوسها، وإما أن تجعل بسطًا توطَّأ) والنَّضَد بفتحتين: ما ينضد من متاع

البيت، يجعل بعضه فوق بعض، وما ينضد عليه ذلك المتاع من سرير وغيره،

فهو يطابق حديث عائشة من هذا الوجه.

ظاهر هذا الحديث أن الواقعة كانت في بيت علي وفاطمة، وظاهرُ حديثِ

كُلٍّ من عائشة وحفصة أنها كانت في بيتها.

ومن الاضطراب في هذه الروايات أن حديث ابن عمر صريح في أن النبي

صلى الله عليه وسلم خرج، فلقى جبريل خارج البيت، وظاهر حديث عائشة أن

جبريل دخل البيت بعد إخراج الكلب، وصرحت عائشة وحفصة بأنه صلى الله

عليه وسلم أمر بإخراج الكلب قبل لقاء جبريل بعد رؤيته، أو تذكره، وصرح أبو

هريرة بأن جبريل هو الذي أخبره به، واقترح عليه إخراجه، وعادة العلماء أن

يجمعوا بين أمثال هذه الروايات المتعارضة بتعدد الوقائع، وعليه يترجَّح أن يكون

ما رواه أبو هريرة وقع أولاً، فعلم منه النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل لا

يدخل مكانًا فيه كلب؛ ولذلك أمر بإخراج الكلب بعد ذلك لما رآه أو تذكره، لعلمه

مما سبق أنه هو سبب تأخر جبريل، ولكن في حديثي عائشة وحفصة عند مسلم أن

النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم سبب تأخُّر جبريل عليه السلام؛ لأنه سأله

عنه، فقال - في حديث عائشة -: (منعني الكلب الذي كان في بيتك

إنا لا

ندخل

)

إلخ.

وذكر النووي في سبب الامتناع أربع علل:

1-

كثرة أكل الكلاب للنجاسات.

2-

قبح رائحتها، أي رائحة بعضها.

3-

أن بعضها يسمى شيطانًا، وهو الأسود القبيح المنظر.

4-

النهي عن اتخاذها، ولهذا الأخير قال الخطابي: إن الامتناع خاص بما

نُهي عنه، دون المأذون فيه ككلب الماشية والزرع والصيد، وخالفه النووي، فقال

بالتعميم في الكلاب، ولكنه خص الملائكة بملائكة الرحمة.

8-

عن أنس رضي الله عنه قال: (كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها،

فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عني؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض

لي في صلاتي) ، أميطي: أي نحِّي وأزيلي، وفيه حذف المفعول، ورواية مسلم:

(أزيليه) .

9-

عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم

من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله

صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون

بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو سادتين) .

وفي رواية للبخاري في المظالم، (

قالت: فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا

في البيت يجلس عليهما) ، وفي رواية لمسلم: (

فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق

بهما في البيت) ، وفي لفظ أحمد: فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئًا على إحداهما،

وفيها صورة، والنمرقة والمرفقة: الوسادة كما سيأتي.

10-

وعنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلى الله عليه وسلم

بالباب فلم يدخل، (قالت) : فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت. قال: ما هذه

النمرقة؟ ! قلت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون

يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصور)

وفي رواية مسلم: (اشتريتها لك؛ تقعد عليها، وتوسّدها) . والفقرة المرفوعة منه:

(إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) .

11-

وعنها قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، وعلقت دُرْنُوكًا

فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه، فنزعته، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: (

وقد

سترت على بابي درنوكًا، وفيه الخيل ذات الأجنحة) ، وفي لفظ آخر عنده:

(دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي، وقد سترت نمطًا فيه تصاوير، فنحاه،

فاتخذت منه وسادتين) وستور الدرنوك، والنمط جنس واحد كما سيأتي.

12-

عن بشر بن سعيد عن زيد بن خالد (الجُهني الصحابي) عن أبي

طلحة (زيد بن سهل الأنصاري) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة)

(وفي نسخة (الصور) وفي أخرى (صور) قال بشر: ثم اشتكى زيد (أي

ابن خالد) فعُدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة (وفي نسخة صور) ، فقلت

لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان مع

بشر -: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ ! (وفي نسخة (يوم أول)

فقال عبيد الله: ألم تسمعه حيث قال: (إلا رقْمًا في ثوب) ، قال الحافظ في

رواية عمرو بن الحارث: فقال إنه قال: (إلا رقمًا في ثوب) ألا سمعتَه؟

قلت: لا. قال: بلى قد ذكره. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.

13-

وروى مسلم وأبو داود عن زيد بن خالد عن أبي طلحة الأنصاري قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا

تماثيل، قال: فأتيت عائشة، فقلت: إن هذا يخبرني أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: لا تدخل الملائكة

إلخ، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر ذلك؟ ، فقالت: لا، ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل، رأيته خرج في غزاة،

فأخذت نمطًا، فسترته على الباب، فلما قدم، فرأى النمط عرفت الكراهية في

وجهه، فجذبه حتى هتكه، أو قطعه، وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة

والطين، قالت: فقطعنا منه وسادتين، وحشوتهما ليفًا، فلم يعب ذلك عليَّ) .

قالوا: إن هذا النمط هو الذي فيه الخيل ذات الأجنحة كما تقدم آنفًا من رواية

أخرى عند مسلم، وذكر النووي أن العلماء استدلوا به على منع ستر الحيطان

وتنجيد البيوت بالثياب، وهو منع كراهة تنزيه لا تحريم، هذا هو الصحيح، ثم

رد على مَن حرمه.

وأقول: الظاهر أن هذا الحديث معارض لتلك الأحاديث؛ إذ ليس فيه أنه

أنكر الصور التي في النمط، ويمكن أن يقال إن: هذا وقع قبل امتناع جبريل من

دخول البيت لوجود التماثيل والكلب فيه، إلا أن عائشة حدثت بهذا وبغيره بعد

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسألة مشكلة من هذا الوجه، ومثله حديث أنس

عند البخاري (وهو الثامن مما أوردنا) ففيه: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها

بإماطة القرام؛ لأن تصاويره تعرض له في صلاته، فَعِلَّة الأمر بإزالته أنه يشغل

نظر المصلي إليه، وجماهير الفقهاء متفقون على كراهة الصلاة إلى ما يشغل

المصلي، ولا دليل فيه على إنكار الصور، أو تحريم اتخاذها، ومثله حديثها في

الدرنوك (وهو الحادي عشر) ، ولكن ليس فيه تصريح بالعلة، ومثله حديثها عند

مسلم في الثوب الممدود إلى السهوة، وأما حديثها في القرام (وهو التاسع) ،

وحديثها في النمرقة (وهو العاشر) - فهما صريحان في إنكار اتخاذ الصور بتلك

الهيئة، وقد استشكل ذلك العلماء، وأجاب بعضهم عنه بتعدد الوقائع، وبأن الصور

في بعضها من غير ذوات الأرواح، وهي التي لم ينكرها، وفي بعضها من ذوات

الأرواح كالطير والخيل، وهي التي أنكرها، ويقال هنا أيضًا ما قلناه في حديث

زيد بن خالد عن أبي طلحة، وهو أن عائشة كانت تحدث بذلك بعد رسول الله

صلى الله عليه وسلم، فلماذا كانت تذكر كل واقعة وحدها، ولم تبين لكل سائل أو

محدَّث كل ما علمته في المسألة؟ ، وهل يعقل أن ينكر النبي صلى الله عليه وسلم

على عائشة عملاً عملته في بيته، فتزيله بأمره، ثم تعود إلى فعله؟ ، كلا، إن

الروايات في هذه المسألة مضطربة، ولم نَرَ لأحد من العلماء قولاً شافيًا فيها.

والذي نراه أقرب إلى الوقوع أن عائشة كانت علقت على الجدار سترًا فيه

تصاوير للزينة، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب الإرشاد إلى ما

يُستحسن في تدبير المنزل، وهو عدم إضاعة الثوب بوضعه على الجدار وضعًا لا

فائدة فيه؛ لأن الثياب لستر الأبدان وزينتها، لا لستر الحجر والطين، ويحتمل أن

يكون هذا هو الذي وقع أمامه في صلاته، وأنه علل أمره بإزالته بكونه يشغل

النظر في وقت الصلاة، وبكونه إسرافًا وإضاعة للثوب، وأن عائشة ذكرت كل

تعليل مرة في سياق كلام اقتضاه، أو ذكرتهما معًا، وذكر الرواة كلاً منهما في

سياق اقتضاه، ويحتمل أن يكون الحديثان في واقعتين، عُلل الإنكار في الأولى

منهما بشغل النظر في الصلاة، وأن الستر كان في الثانية، بحيث لا يراه في

الصلاة، وكل حديث في هذا الباب لم تنكر أو لم تذكر فيه التصاوير فهو محمول

على تلك الواقعة أو الواقعتين، وأما الروايات - التي فيها التصريح بإنكار اتخاذ

التصاوير بتلك الصفة - فالأقرب أنها في واقعة واحدة كانت بعد ما تقدم، وأنها

علقت النمرقة في غيبته؛ إذ كان مسافرًا، فلما عاد، ورآها أنكر عليها، وامتنع

من دخول البيت حتى تنزعها، فلما تابت دخل، وهتكها بيده، أي أزالها، إلا أن

الإخبار بها كان في أوقات مختلفة، فاختلف التعبير باللفظ والمعنى، ومن الأول

القرام والنمط والدرنوك والنمرقة والوسادة والمرفقة [2] ، ويدل على هذا الجمع

قولها: (أتوب إلى الله مما أذنبت؟ !) فلولا النهي السابق لم يكن تعليقها النمرقة

ذنبًا تتوب منه، ولكن في بعض روايات الصحيح أنها قالت: فما أذنبت، ولعل

هذا غلط من بعض الرواة.

14-

عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت ألعب بالبنات عند النبي

صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله

عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن منه (أي يستترن) ، فيُسَرِّبُهُنَّ (أي يرسلهن) إليّ،

فيلعبن معي) ، أخرجه البخاري في كتاب الأدب من الصحيح.

وقد حرّف بعض المشددين في مسألة الصور هذا الحديث، فزعم أن معنى

قولها كنت (ألعب بالبنات) كنت ألعب مع البنات، قال الحافظ في شرح الحديث:

حكاه ابن التين عن الداودي وردَّه، (قلت) : ويرده ما أخرجه ابن عيينة في

الجامع من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن هشام بن عروة في هذا

الحديث: (وكن جواري يأتين فيلعبن معي)، وفي رواية جرير عن هشام:

(كنت ألعب بالبنات وهن اللعب) ، أخرجه أبو عوانة وغيره، وأخرج أبو داود

والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من

غزوة تبوك أو خيبر

فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها،

قالت: فكشف ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟

قالت: بناتي، ورأى فيها فرسًا مربوطًا له جناحان، فقال: ما هذا؟ قلت:

فرس، قال: فرس له جناحان! قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها

أجنحة؟ ! فضحك) . فهذا صريح في أن المراد باللعب غير الآدميات. اهـ.

15-

عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اشتكى النبي صلى الله عليه

وسلم - أي مرض مرض الموت - ذكر بعض نسائه كنيسة يقال لها مارية،

وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتيا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها،

فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم

صوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) ، أخرجه البخاري في

أبواب المساجد وفي الجنائز، وأخرجه مسلم في المساجد.

* * *

أقوال العلماء في فقه هذه الأحاديث

(1)

قال الحافظ - عقب ذكر حديث أبي هريرة المتقدم عن أحمد

وأصحاب السنن ما نصه -: وفي هذا الحديث ترجيح قول مَن ذهب إلى أن

الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه - هي ما تكون على

هيئتها مرتفعة غير ممتهنة. فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة لكنها غيرت عن

هيئتها، إما بقطعها من نصفها، أو بقطع رأسها فلا امتناع.

(2)

ثم قال الحافظ - في إثْر ما تقدَّم -: وقال القرطبي: ظاهر حديث

زيد بن خالد عن أبي طلحة الماضي قبلُ (وهو التاسع مما نقلناه عن البخاري) أن

الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة إن كانت رقمًا في الثوب، وظاهر

حديث عائشة المنع، ويجمع بينهما بأن يُحمل حديث عائشة على الكراهة، وحديث

أبي طلحة على مطلق الجواز، وهو لا ينافي الكراهة. (قال الحافظ:) قلت

وهو جمع حسن، لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه، والله

أعلم.

(3)

قال الحافظ - عند الكلام على حديث النمرقة -: قال الرافعي: وفي

دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان، قال الأكثر: يكره وقال أبو محمد: يحرم،

فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار، كما في ظاهر الحمام أو دهليزها

لا يمتنع الدخول، قال: وكأن السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة، وفي

المجلس مكرمة، (قلت) وقضية إطلاق نص المختصر، وكلام الماوردي وابن

الصباغ وغيرهما لا فرق اهـ.

(4)

اختلفوا في الملائكة التي لا تدخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، فقيل هو

على العموم، وقيل هو خاص بملائكة الرحمة، وتقدم عن النووي، وصرح هؤلاء

بأنه يُستثنَى منه الحَفَظَة، وقيل مَن نزل بالوحي خاصة كجبريل (قال الحافظ:)

وهذا نقل عن ابن وضاح والداودي وغيرهما، وهو يستلزم اختصاص النهي بعهد

النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوحي انقطع بعده، وبانقطاعه انقطع نزولهم،

وقيل التخصيص في الصفة، أي لا تدخله الملائكة دخولَهم بيتَ مَن لا كلب

فيه.

(5)

قال الحافظ: وأغرب ابن حبان فادَّعى أن هذا الحكم خاص بالنبي

صلى الله عليه وسلم، قال: وهو نظير الحديث الآخر: (لا تصحب الملائكة

رفقة فيها جرس) (قال:) فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه

وسلم؛ إذ مُحال أن يخرج الحاج والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل على رواحل لا

تصحبها الملائكة، وهم وفد الله. انتهى، وقد استبعد الحافظ هذا التأويل، وقال إنه

لم يره لغيره.

(6)

قال: وقد استشكل كوْن الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير مع

قوله سبحانه وتعالى عند ذكر سليمان عليه السلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ

مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيل

} (سبأ: 13)، وقد قال مجاهد: كانت صورًا من

نُحَاس. أخرجه الطبري. وقال قتادة: كانت من خشب ومن زجاج، أخرجه عبد

الرزاق.

والجواب أن ذلك كان جائزًا في تلك الشريعة، وكانوا يعملون أشكال الأنبياء

والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة؛ ليتعبدوا كعبادتهم. وقد قال أبو العالية:

لم يكن ذلك في شريعتهم حرامًا، ثم جاء شرعنا بالنهي عنه، ويُحتمل أن يقال: إن

التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملاً لم

يتعين الحمل على المعنى المشكل، وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة

الكنيسة، التي كانت بأرض الحبشة، وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه

وسلم قال: (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا

فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) ، فإن ذلك يُشعر بأنه لو كان جائزًا في

ذلك الشرع ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق، فدل على

أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عُبَّاد الصور، والله أعلم. اهـ.

أقول: لم يأتِ الحافظ رحمه الله بشيء يشفي في هذه المسألة، والذي يظهر

في حل الإشكال أن وجود التصاوير في مكان ليس مانعًا ذاتيًّا لدخول الملائكة فيه؛

إذ لو كان كذلك لم يختلف فيه حكم شرائع الأنبياء عليهم السلام، وأصل دين الله

فيهم واحد، وإنما اختلفت فيه شرائعهم بما يختلف ضره ونفعه وفساده وصلاحه

باختلاف الزمان والمكان، وما ذكره الله تعالى من منَّته على نبيه سليمان عليه

السلام في هذه المسألة - دليل على أن عمل التماثيل له، واتخاذه إياها في مبانيه،

لم يكن فيه مظنة عبادة، ولا تشبه بالمشركين مذكِّر بعبادتهم مؤنس للمؤمن بها.

ومن العجيب أن يذكر الحافظ في تعليل ما كان يعمل لسليمان أنه كان يعمل له

صور الأنبياء والصالحين

إلخ، وهذا هو أصل البلاء في عبادة الصور

والتماثيل، فقد روى البخاري وغيره أن أصنام قوم نوح وأوثانهم المذكورة في

سورة نوح صارت إلى العرب، وأن أسماءها كانت أسماء رجال صالحين، فلما

ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها

أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسخ العلم

عُبدت. ويؤيد هذا حديث عائشة في قصة الكنيسة وقد تقدم، فالنصارى قد اتبعوا

سنن سلفهم من الروم واليونان في اتخاذ الصور والتماثيل، فكانوا يجعلون صور

الأنبياء والصالحين في المعابد وغيرها، وهي التي ذمَّهم الرسول صلى الله عليه

وسلم بها، ولم يذمهم على اتخاذ صور الملوك والقواد والوالدين والأولاد وغيرهم

مما لا شبهة فيه على العبادة، ولا دخل له في الدين، فمن العجيب أن يغفل

المستنبط عن علة الشيء الصريحة، ويتخذ له علة أخرى يفسر بها النصوص؛

ليجمع بينها، فيحمل الشيء على ضد المراد، على أن الحافظ ذكر حديث الكنيسة

المصرح بالعلة الصحيحة، ولكنه لم يرد به ما ذكره قبله.

وقد وقع مثل هذا لبعض المؤلفين المقلدين في تشريف القبور بالبناء، ووضع

الستور عليها، فحمل النهي عن ذلك في الأحاديث على ما لم يقصد به تعظيم الميت

الصالح، أي لأنه إضاعة للمال، وأباح ما اتبع به الخلف الصالح سنن مَن قبلهم

من بناء القبور الصالحين، ووضع الستور عليها إذا كان المراد به تعظيمها قياسًا

على أستار الكعبة! ، وهو قياس مصادم للنص، مبطل له، ناقض لعلته، ذاهب

بحكمته، فإن الخطر على أصل الدين - وهو التوحيد - إنما هو تعظيم قبور

الصالحين؛ لأنه أدى عبادتها بالتعظيم والطواف والتمسح ودعاء الموتى،

(والدعاء هو العبادة) ، كما ثبت في الحديث عند أحمد وأصحاب السنن

وغيرهم. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة مِرَارًا.

(7)

نقل الحافظ في شرح حديث عبد الله بن مسعود - وهو الأول مما

أوردنا - عن الخطابي أقدم شُراح البخاري أنه قال فيه: إنما عظمت عقوبة

المصور؛ لأن الصور كانت تُعبد من دون الله؛ ولأن النظر إليها يفتن، وبعض

النفوس إليها تميل، قال: والمراد بالصور هنا: التماثيل التي لها روح. اهـ.

أقول: التعليل الأول هو الصحيح الذي يؤخذ من مجموع النصوص،

واقتصر عليه المحققون، وأما دعوى الافتتان بجمالها، وهذا لا يقع إلا نادرًا فلا

يُبنى عليه مثل هذا الوعيد الشديد، وإنما يظهر وجهه إذا أُريد به الافتتان الديني،

الذي كان عليه الكفار، وهو يرجع إلى التعليل الأول. ومن العجيب أن يجعل

الميل والاستحسان لبعض خلق الله والسرور به مذمومًا شرعًا ومقتضيًا لتحريم

الاستمتاع به، وإن لم يترتب عليه ترك فريضة، ولا ارتكاب معصية. فليحرموا

إذًا النظر والتأمل في زينة الكواكب النيِّرات، والجنات معروشات وغير معروشات،

وجمال رياض الأزهار، ومحاسن حدائق الأشجار، وسماع خرير المياه،

ونغمات الأطيار، وغير ذلك من صنع الله {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل:

88) ، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه} (السجدة: 7) ، وماذا يفعلون بقول

الرسول عليه الصلاة والسلام لمَن سأله عن الزينة في اللباس: (إن الله جميل

يحب الجمال) ؟ رواه مسلم والترمذي من حديث ابن مسعود وغيرهما عن غيره

أيضًا.

(8)

ثم قال - بعد نقل ما تقدم عن الخطابي -: وقيل يفرق بين العذاب

والعقاب، فالعذاب: يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار، والعقاب:

يختص بالفعل. فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابًا أن يكون أشد الناس

عقوبة، هكذا ذكر الشريف المرتضى في الآية المشار إليها، وعليها انبنى الإشكال،

ولم يكن هو عرج عليها؛ فلهذا ارتضى التفرقة، والله أعلم.

(قال:) واستدل به أبو علي الفارسي في التذكرة على تكفير المشبِّهة،

فحمل الحديث عليهم، وأنهم المراد بقوله:(المصوِّرون) ، أي الذين يعتقدون أن

لله صورة، وتُعُقِّبَ بالحديث الذي بعده في الباب بلفظ: (إن الذين يصنعون هذه

الصور يعذَّبون) ، وبحديث عائشة الآتي بعد بابين بلفظ: (إن أصحاب هذه

الصور يعذَّبون) وغير ذلك، ولو سلم له استدلاله لم يرد عليه الإشكال المقدم ذكره

- أي معارضة الآية للحديث - اهـ، وحديث الباب الذي أشار إليه هو الثاني مما

أوردنا.

وأقول: كان يمكن لأبي علي أن يجيب عن هذا لو أورد عليه بجعْل حديث:

(إن أشد الناس عذابًا عند الله المصورون) - في الذين يجعلون لله تعالى صورة

مماثلة لصور بعض المخلوقات، ويجيب عن معارضة الآية بتقدير (من أشد)

ويتفصى بذلك من جعْل التصوير ككفر آل فرعون مشاركًا له في مثل عقابه،

ومعلوم من أصول الشريعة المجمع عليها أن ما ورد النص بتسميته أكبر الكبائر هو

دون أشد الكفر بالشرك بالله، ومعاندة رسله ككفر آل فرعون؛ إذ كل كبيرة من هذه

الكبائر - التي هي أعظم جرمًا من التصوير المحرم - يجوز أن تُغفر، ولا يعذب

صاحبها أصلاً، فكيف يجرم بأن المصورين أشد الناس أو من أشدهم عذابًا كآل

فرعون. وأما كونهم يعذبون فالأمر فيه دون ذلك، ولا سيما على قول مَن فرق بين

العذاب والعقاب، فلم يجعل كل عذاب عقابًا.

(9)

من أشد الفقهاء تشديدًا في التصوير واتخاذ الصور أبو بكر بن العربي

من المالكية والنووي من الشافعية. وقد جزما بتحريم التصوير مطلقًا، لخص الأول

الأقوال في اتخاذ الصور فقال: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات

أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقًا على

ظاهر قوله في الحديث: (إلا رقمًا في ثوب)، الثاني: المنع مطلقًا حتى الرقم،

الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قُطعت الرأس أو

تفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح، الرابع إن كان مما يمتهن جاز وإن

كان معلقًا لم يجز. اهـ. ونُوزِعَ في دعوى الإجماع فيما له ظل، واستثنى

الجمهور لعب البنات كما تقدم، وفيه بحث سيأتي قريبًا.

(10)

قال الحافظ - في شرح حديث الدرنوك -: واستدل بهذا الحديث

على جواز اتخاذ الصور إذا كانت مما لا ظل له، وهي مع ذلك مما يوطأ ويُداس،

أو يمتهن بالاستعمال كالمخادّ والوسائد، قال النووي: وهو قول جمهور العلماء من

الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، ولا فرق

في ذلك بين ما له ظل، وما لا ظل له، فإن كان معلقًا على حائط أو ملبوسًا أو

عمامة، أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنًا فهو حرام، ثم ذكر الحافظ مؤاخذات فيما

نقله النووي: (منها) حكاية ابن العربي تحريم ما له ظل بالإجماع، وقال: إن

محله في غير لعب البنات، وإن القرطبي حكى - فيما لا يتخذ للإبقاء كالفخار -

قولين: أظهرهما المنع، وجعل إلحاق ما يصنع من الحلوى بالفخار، وبلعب

البنات محل تأمل، (ومنها) أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو

كان معلقًا إلا أن يكون على جدار فيمنع، أي عملاً بحديث: (إن الله لم يأمرنا أن

نكسو الحجارة والطين) .

(11)

قال النووي: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل،

وأما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقًا، وهو مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكره

النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك، ومع ذلك فأمر

بنزعه (قال الحافظ متعقبًا للنووي) قلت: المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن

القاسم بن محمد بسند صحيح، ولفظه عن ابن عون قال: دخلت على القاسم، وهو

بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء. ففي

إطلاق كونه مذهبًا باطلاً نظر؛ إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله: (إلا

رقمًا في ثوب) ؛ فإنه أعم من أن يكون معلقًا أو مفروشًا، وكأنه جعل إنكار النبي

صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبًا من كونه مصورًا،

ومن كونه ساترًا للجدار. ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم - وذكر تعليل

الحديث المتقدم في ذلك، وقال - فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب

المصور، فلا يساويه الثوب الممتهن، ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي

لا يستر به الجدار، والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل

زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما

استجاز استعمالها.

ثم رجح الحافظ أن الرخصة فيما يمتهن لا فيما كان منصوبًا، ونقل عن

جماعة من علماء السلف القول بذلك، منها ما روي عن عكرمة: كانوا يكرهون ما

نصب من التماثيل نصبًا، ولا يرون بأسًا بما وطئته الأقدام، وما روي من طريق

عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها تماثيل الطير والرجال. اهـ.

* * *

(المنار)

القاسم بن محمد هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أحد أئمة

التابعين، تربى في حجر عمته عائشة، وتفقه بها، وروى عن غيرها من الصحابة

أيضًا وممن أخذ عنه الزهري وربيعة شيخ الإمام مالك وكثيرون. قال يحيى بن

سعيد الأنصاري: (ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم) ، وعن أبي الزناد

قال: (ما رأيت فقيهًا أعلم من القاسم، وما رأيت أحدًا أعلم بالسنة منه) ، وقال

سفيان بن عيينة: (كان القاسم أعلم أهل زمانه)، وقال ابن سعيد: (كان إمامًا

فقيهًا ثقةً رفيعًا ورعًا كثير الحديث) ، قال أيوب السختياني: (ما رأيت أحدًا

أفضل من القاسم) . انتهى ملخصًا من تذكرة الحفاظ.

(12)

قال الخطابي في شرح حديث اللعب: إن اللعب بالبنات ليس

كالتلهِّي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما أرخص لعائشة فيها؛ لأنها إذ

ذاك كانت غير بالغ. قال الحافظ - عقب نقله -: وفي الجزم به نظر، لكنه

محتمل؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتها، أو

جاوزتها، أو قاربتها. وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعًا فيترجح رواية مَن

قال في خيبر، ويجمع بما قال الخطابي؛ لأن ذلك أولى من التعارض. اهـ.

وأقول: إن هذا ليس بجمع؛ إذ لو كانت لعب البنات محرمة لما أقر النبي

صلى الله عليه وسلم عائشة وصواحبها على اللعب بها، وإن كن غير بالغات، ولما

تركها في بيته. والصواب أن هذه اللعب لا تدخل في عموم ما أنكره من الصور

المعلقة، بل هي أشبه بما أقره من الصور في الوسائد والمرافق في أن كلاًّ منهما لا

يشبه ما كان يُعبد من الصور والتماثيل.

(13)

بعد كتابة ما تقدم كله راجعت ما كتبه الحافظ في شرح حديث كنيسة

مارية في الحبشة المقارن في البخاري لحديث لعن أهل الكتاب لاتخاذهم قبورَ

أنبيائهم مساجدَ، فإذا هو يقول - في شرح الأول في باب: هل تُنبش قبور

المشركين -: وإنما فعل ذلك أوائلهم؛ ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم

الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم،

ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها فاعبدوها.

فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وفي

الحديث دليل على تحريم التصوير، وحمل بعضهم الوعيد على مَن كان في ذلك

الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا، وقد أطنب ابن دقيق

العيد في رد ذلك، كما سيأتي في كتاب اللباس. اهـ.

ثم قال - في شرح الحديث الثاني في باب بناء المسجد على القبر -: وقد

تقدَّم أن المنع من ذلك إنما هو في حال خشية أن يصنع بالقبر ما صنع أولئك الذين

لُعنوا، وأما إذا أمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول بالمنع مطلقًا مَن يرى سد الذريعة،

وهو هنا متجه قوي. اهـ.

ويعني بما تقدم قوله في الكلام على ترجمة الباب السابق:

إن الوعيد على ذلك يتناول مَن اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ومغالاةً، كما

صنع أهل الجاهلية وجرهم ذلك إلى عبادتهم. اهـ.

(للفتوى بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الصُّفَّة بضم الصاد وتشديد الفاء كالظلة وزنًا ومعنى: وتُطلَق على المكان المظلل بفناء الدار أو المسجد، وعن الليث أنها مكان كالبهو مظلَّل مستطيل.

(2)

القِرَام بالكسر: ستر فيه نقوش وتصاوير، وقيل: ثوب من صوف ملون يُفرش في الهودج، أو يُغطَى به، والنمط قال النووي في شرح مسلم: المراد به هنا بساط ليف له خمل، والدرنوك - بالضم كعصفور -: ثوب غليظ له خمل، إذا فُرش فهو بساط، وإذا عُلق فهو ستر، والنمرقة - بضم النون والراء - وكسرهما لغة كلب -: الوسادة يُجلس عليها، وتوضع على الرحل تحت الراكب للينها، وتُتَوَسَّد أيضًا فتسمى وسادة، والوسادة - بتثليث الواو - المخدة التي تتوسد في النوم، أي يوضع عليها الرأس، وتسمى مِخدة بكسر الميم؛ لأنها يوضع عليها الخد عند النوم، وتسمى مرفقة ومرفقًا بكسر الميم وفتح الفاء؛ لأنها يوضع عليها المرفق عند الاتكاء عليها، فاختلاف الأسماء لاختلاف الاستعمال، وقد كان يختلف المسمى بالكبر والصغر كما يختلف الآن، وهو جنس واحد تحديد معناه أنه شبه كيس من نسيج يوضع فيه نحو قطن أو صوف أو ليف، ويُخاط عليه، ومنه ما يُصنع أولاً، وبالذات للنوم، ومنه ما يُصنع للاتكاء أو الجلوس، ثم يُستعمل لغير ذلك عند الحاجة.

ص: 220

الكاتب: محمد رشيد رضا

رحلة الحجاز

(6)

صفة الوقوف بعرفات:

بلغنا عرفات في وقت السحر، فألفينا الخيام قد ضُربت لنا وفُرشت، فنزلنا

فيها، ولما طلع النهار وجدنا أنفسنا بالقرب من مسجد الصخرات، حيث كان

موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأينا أكثر الحجاج في هذا الجانب من

بسيط عرفات وسائر الجوانب والأجواز خالية، وفي بعضها قليل من الحجاج،

ولبعض حجاج الأقطار مواضع خاصة يقفون فيها كل عام، كما يرى القارئ في

صورة الموقف من الفصل السابق. ويقف كثير من عرب الجزيرة في جبل الرحمة

ويصعده كثير من حجاج الأقطار الأخرى كما علم مما تقدم. وكانت خيام الشريف

في موضعها المعتاد من وسط ذلك البسيط، وكان السبب في بُعدها عن مسجد

الصخرات وموقف الإمام أن يسهل على أي فريق من الحجاج الوصول إليه للزيارة

أو الشكوى في زمن قصير.

وإنني - بعد كتابة ما تقدم من وصف عرفات - اطَّلعت على كتاب دليل الحج

لمحمد باشا صادق المصري المهندس، أحد ضباط أركان الحرب، الذي طُبع سنة

1313، فإذا فيه: إن مساحة البقعة المستوية من عرفات (كيلو متر مربع) ، أي

نحو ألفي ذراع بذراع الآدمي - وهو من رؤوس الأصابع إلى المرفق - والذي

يتراءى للنظر أنه أوسع من ذلك، وهذا المكان لا يسع مئات الألوف من الحجاج،

ولكن كثيرًا منهم يقفون في جبل الرحمة وفي غيره مما إلى ذلك البسيط من الجبال،

وجبل الرحمة يرى في المساء مكتظًا بالحجاج من سفحه إلى قنته. وارتفاعه نحو

من ستين ذراعًا (30 مترًا) ، وطوله قريب من ستمائة ذراع (300 متر) ، كما

قال محمد صادق باشا، قال: وأعلى هذا الجبل سطح مستوٍ مبلط بالحجر، مربع

في نحو عشرين مترًا، وفي وسطه مصطبة، طولها سبعة أمتار في (عرض)

سبعة، وارتفاعها متر ونصف، وفي ركنها الغربي عمود، ارتفاعه أربعة أمتار

في عرض مترين، يُرى من أسفل الجبل كمنار للطريق. اهـ.

وأقول: إن هذا منار لا كالمنار، ولا يُشترط في مسمى المنار لغةً أن يُوضَع

في أعلاه أو أثنائه نور، وإنما هو العلم الذي يُهتدَى به، وهذا المنار يراه حجاج

الآفاق من الجهات المختلفة.

قد فاتنا لقلة الحجاج رؤية منظر من أعظم المناظر المؤثرة في النفس،

المحركة لشعور الخشوع والعبودية في القلب، وهو رؤية تلك البقعة الشريفة غاصَّة

بالشعوب الوافدة من جميع أقطار الأرض، ملبّين داعين، باكين خاشعين، يجأرون

إلى الله عز وجل على اختلاف لهجاتهم، الناشئة عن اختلاف لغاتهم، يرددون

الأذكار المأثورة بالعربية، ويدعون الله ما شاءوا بلغاتهم المختلفة.

قال صديقنا محمد لبيب بك في رحلته - بعد وصف عرفات والكلام على

الوقوف -: عند وصول الحجاج إلى هذا الوادي ينزل ركب المحملين (أي

المصري والشامي) بخيامهم قريبًا من جبل الرحمة، يليهما مضارب الحجاج على

اختلاف أجناسهم، وعلى سفح عرفة من عاليه إلى جبل الرحمة - ترى حجيج

الأعراب محتشدين إلى جوف الجبل، بعضهم فوق بعض كالبنيان المرصوص. أما

باقي الحجيج فإنه ينصب الخيام في بطن الوادي الذي يزدحم إليه الناس حتى لا تكاد

ترى فيه مكانًا خاليًا من واقف وقاعد، وجمالهم وحميرهم مربوطة بجوارهم،

وترى الكل في صعيد واحد؛ حتى يتعذر على الإنسان السير إلى جهة أراد، ولو

لضرورة في نفسه، ولو كان مولانا الشريف يأمر بتقسيم وادي عرفة إلى أحذية

أفقية (أي أمكنة متحاذية كالصفوف) ، يقسمها شارع رأسي، ويخصص كل حذاء

لسكنى جماعة من الحجيج وجمالهم من ورائهم. وتوضع لذلك علامات من البناء،

لا يتجاوزها الحجاج في وضع مضاربهم، ولا الجَمَّالة في ربط جمالهم، ويعين لهذا

النظام مَن يحفظه مع الدقة - لكان له شكر الله والملائكة والناس أجمعين.

وفي سعة الوادي ما يضمن لدولته إقامة الكل على الراحة التامة؛ لأن هذا

التزاحم إنما سببه التقرب من مجرى الماء ومن السوق الذي تراه بجوار مسجد

الصخرات (ويباع فيه بعض الأغذية الضرورية) ، وربما كان لتزاحمهم سبب آخر،

وهو خوفهم من الأعراب الذين يكون لهم من ذلك الرحاب عون على النهب والسلب،

وبسبب هذا التزاحم يضل الناس عن أمكنتهم إذا تركوها لأمر ما؛ ولذلك تراهم ينادون

بعضهم - أي أنفسهم - إما بأسمائهم أو بألفاظ اصطلح عليها أهل كل جهة،

حتى إذا سمعها واحد منهم أجابه بصوت عالٍ وقصد مصدر الصوت. وهذه الحركة لا

تكاد تنقطع مدة الإقامة بعرفة. اهـ. وأقول: إننا لم نشاهد شيئًا من ذلك لقلة

الحجاج، وهذا يؤيد ما قلنا من قبل إن التعارف بين الشعوب في عرفة لا يتيسر.

وذكر ابن جبير الأندلسي في رحلته أن الجمع الذي كان في عرفات في سنة

حجه - وهي سنة 579 - لا شبيه له إلا الحشر، وأن المحققين من الأشياخ

المجاورين زعموا (أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعًا أحفل منه، وأنه ما رؤي

- من عهد الرشيد الذي هو آخر مَن حج من الخلفاء - جمع في الإسلام مثله) . ثم

قال: (فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين

باكين وإلى الله عز وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس

بالدعاء قد ارتفع، فما رُؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوبًا خواشع، ولا أعناقًا لهيبة

الله خوانع خواضع، من ذلك اليوم. فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح

وجوههم إلى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب وقد وصل أمير الحاج مع جملة

من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور وأخذ

السَّر واليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جدّ

فجدّ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى، وكان

المُجتمِع منهم في هذا العام عددًا لم يجتمع قط مثله، وكذلك وصل الأمير العراقي

في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخُرَاسانيين، ومن

النساء العقائل المعروفات بالخواتين (واحدتهن خاتون) ومن السيدات بنات الأمراء

وكثير ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع، وقد جعلوا قدوتهم في النفر

الإمام المالكي؛ لأن مذهب مالك رضي الله عنه يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن

سقوط القرصة ويحين وقت المغرب، ومن السر واليمنيين مَن نفر قبل ذلك. فلما

أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعًا

ارتجت له الأرض، ورجفت الجبال، فيا له موقفًا ما أهول مرآه، وأرجى في

النفوس عقباه، وجعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كريم

حنان منان) . اهـ. المراد منه.

* * *

وقوفنا بعرفات وتأويل رؤيا صادقة:

زرت في أثناء النهار الأمير الشريف مع بعض الإخوان فجئت سرادقه راكبًا

فرسًا لبُعده عن موقفنا. ورأيت سوق عرفة وهي بقرب مجرى عين زبيدة كما يُعلم

من الصورة التي نشرناها. ولما رأيت مجرى عين زبيدة هنالك ووجدتها تنحدر

بقوة في مجاريها الواسعة المبنية، تذكرت رؤيا كنت رأيتها بمصر قبل ثورة

الحجاز، وكتبتها وذكرتها لكثير من الناس: رأيت في جمادى الأولى سنة 1334

أنني في مكة المكرمة ومعي رفيق لي، فدخلنا المسجد الحرام، ثم أردنا أن نخرج

لحاجة لنا فسمعنا أذان العصر، فقلت لرفيقي: لا ينبغي لنا أن نخرج، وقد أدركتنا

الصلاة إلا بعد أدائها في المسجد، وبينما أنا جالس في المصلى بالقرب من الكعبة

المعظمة رأيت الشريف حسينًا أمير مكة جالسًا أمامي من جهة يميني قريبًا مني

واعتقدت أنه جاء ليصلي بالناس إمامًا، فالتفت إليَّ من جهة يساره وقال لي:

أبطأت علينا، إننا منذ زمن ننتظر قدومك إلينا. وبعد أن خرجنا - ولم أره صلى

ولا أننا صلينا معه - رأيت معي بعض رجاله، وأننا ذاهبون بأمره إلى أحد دوره

- أي غير دار الإمارة - لأكون فيها ضيفًا عليه، وبَيْنَا نحن نسير غربًا جنوبيًّا

رأيت في شارع واسع ممتد من الجنوب إلى الشمال ماءً غزيرًا صافيًا مندفعًا بقوة

في مجرى واسع مبنِيٍّ بالحجارة، وله فرع إلى الغرب وفرع إلى الشرق، فوقفت

متعجبًا من قوة جريان ذلك الماء وقلت في نفسي: أهذا ماء عين زبيدة؟ ، ما سمعنا

أحدًا من الحجاج ذكره بهذا الوصف، وهذه القوة في الجريان لا تكون إلا بقوة دافعة

كالكهربائية أو البخارية. ورأيت في الطريق دارًا جديدة ممتازة بين دور مكة

ببياضها من الخارج، علمت أنها خاصة بنساء الشريف، وخطر في بالي أن دار

الضيافة التي خُصصت لي سأكون فيها قبل مع الشريف عبد الله أحد أنجال الأمير.

هذا ما رأيته في نومي قبل ثورة الحجاز بعدة أشهر، ولما حدثت الثورة

وأعلن الاستقلال خطر في بالي أنه ربما كان تأويل رؤياي إصلاحًا جديدًا تحيا به

مكة ويمتد إلى سائر الجهات كامتداد ذلك الماء الذي رأيته؛ فإن الله تعالى يقول:

{وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) ، ولما جئت مكة حاجًّا ظهر لي

من تأويل الرؤيا أنه كان معي رفيق، وأنني كنت ضيفًا للأمير، وأنه رحب بي

أحسن ترحيب، وكان ينتظر مجيئي، وأن دار الضيافة كانت في الجهة الغربية من

الحرم الشريف، وأن الشريف عبد الله زارني في هذه الدار، وأنني رأيت دارًا

بيضاء قيل لي: إنها دار حرم الأمير الخاص، وأن الناس تحدثوا بأنه سيبايَع

بالخلافة والإمامة الخاصة قد تؤول بالإمامة العامة، وكل منهما كان متوقعًا، ولم

يقع وأما مصدق الرؤيا في مسألة الماء فلم أشاهده في اليقظة على نحو ما رأيته في

النوم إلا في عرفات، فالمجرى المبني وطوله وامتداده يشبه الذي رأيت إلا أن

سرعة اندفاع الماء وقوته كانتا دون ما رأيت في النوم، والفرق يسير، فهذه الرؤيا

من أوضح الرؤى، وأجلاها تأويلاً، وهي حجة على الذين ينكرون الرؤى الصادقة.

* * *

الحالة الروحية في الوقوف والنفر:

إن الحالة الروحية لا تبلغ الكمال في عرفات ظاهرًا وباطنًا إلا في أصيل ذلك

اليوم العظيم، ففي أول النهار يعرض لأكثر الناس شواغل تشغل حواسهم

وجوارحهم وأفكارهم، منها ضروريات الأكل والشرب، ومنها رؤية المناظر

الجديدة من تلك البقعة الجامعة لشعوب كثيرة، وما يحيط بها من الخيال، فهذه

المناظر تشغل كثيرًا من الناس بصورتها، وشكا في أول العهد برؤيتها، عن

معناها وحكمة كوْن السير إليها والوقوف فيها عبادة لله تعالى، وفي أثناء النهار

يأكل الناس طعامهم، ويستريح أكثرهم في خيامهم ومضاربهم، أو في ظلال

الجبال، ولا سيما إذا كان الحر شديدًا، فإذا جاء وقت العصر جمعوا متاعهم وشدوا

رحالهم وفرغوا قلوبهم للذكر والدعاء، وازدحموا عند موقف الخطيب من جبل

الرحمة، حرصًا على سماع الخطبة، أو الاشتراك مع الألوف من إخوانهم في التكبير

والتلبية، وقد بينَّا في المناسك أن الشرع لم يجعل لعرفة ذكرًا ولا دعاءً خاصًّا،

بل ترك ذلك للأفراد. ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي بعرفة في

الخطبة ولا في غير الخطبة، ولكن صح أنه كان يلبي بين المشاعر ذهابًا وإيابًا،

وهي منى ومزدلفة وعرفة. ودعا على ناقته بعرفة رافعًا يديه، ولم يرد في الصحاح

نص ذكره ولا دعائه، واستحسن العلماء ذكر ما ورد في الضعاف كقول: (لا إله إلا

الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء

قدير) روي عن عدة من الصحابة مرفوعًا، وإنه خير ما يقال.

قضينا جل نهار عرفة بذكر الله والدعاء وتيسر لي - والحمد لله - الاغتسال

فيه، وصلينا الظهر والعصر جميعًا في مسجد الصخرات، ورأينا هنالك خطيب

عرفة وهو نائب الشرع بمكة وقد صعد بناقته، فاستوى على تلك الصخرة من جبل

الرحمة ذات التاريخ الإسلامي العظيم، وقد أحاط به الناس وازدحموا من حوله،

يسمعون منه أحكام المناسك، ومن دونه ومن فوقه في الجبل ألوف من الناس يشاهد

بعضهم بعضًا، ويراهم مَن في السفح ومن في بسيط عرفات كلها؛ لأن الجبل

مدرَّج يشبه ما يتخذ في بعض المدارس الكبرى من المقاعد ذات الدرج المقوسة التي

تسميها الفرنجة (نفيتاترو) وكلما لبى وكبر الخطيب لبى من حوله وكبروا وأشاروا

بأطراف أرديتهم البيضاء أو مناديلهم ويتبعهم في التلبية والإشارة كل من هنالك من

قمة الجبل إلى سفحه، فيلبي سائر الناس ويكبرون، فيتموج بأصواتهم الهواء،

وترتج الجواء، حتى تصل إلى عَنان السماء، بل تخترقها حاملة ذلك الذكر والثناء،

والضرعة والدعاء، إلى مَن استوى إلى عرشه المجيد، وهو أقرب إلى عبده من

حبل الوريد. فيا له من موقف ما أعظمه! ، وما أصدق مَن شبهه بيوم القيامة،

وقد يكون التشبيه على أكمله في ذلك المساء؛ فإنه وقت يكون فيه لكل مؤمن من

الشغل بنفسه والتوجه إلى ربه، ما لا يعهد مثله في وقت من أوقات حياته، يشعر

والناس محيطون به من كل جانب - بأنه في خلوة لا يشغله فيها عن ربه شاغل،

ولا يشوب خشوعه له وبكاءه من خشيته وسروره بمناجاته رياءٌ ولا سمعةٌ، بل لا

يكاد يخطر بباله أن أحدًا هنالك يرى أبدًا.

فما أعجب شأن هذا الاجتماع العظيم الذي يجمع كل مَن شهده بإيمان وعرفان،

بين مزايا عبادة الخلوة وعبادة شعائر الاجتماع، بل أقول: إن له مزية على سائر

الشعائر، لا يعرفها إلا مَن ذاقها.

وقبيل الغروب أقبل الشريف أمير مكة بموكبه الحافل، حتى صعد أدنى جبل

الرحمة، فكان قريبًا من موقف الخطيب وتلاه ركب المحمل المصري، وحينئذ

أطلقت المدافع، وعزفت المعازف (الموسيقى) واستعد الناس للدفع من عرفة،

لأجل مبيت تلك الليلة بمزدلفة، وبدأ الدفع بعد الغروب. فركبت السيدتان هودجهما،

وسار الرفيقان الكريمان والخدم معهما، وتفضل السيد الزواوي بإرسال نجله

السيد عبد الرحمن معهم وعهدنا إليه أن يذهب بهم إلى منى ليلاً بعد أداء أدنى ما

يجب من المقام بمزدلفة ويعبر عنه بالمبيت، ورافقني هو، فدفعنا معًا على دابتين،

فقطعنا ذلك الطريق، في ذلك الوقت المعتدل اللطيف. ونحن نجأر إلى الله تعالى

بالتلبية والتكبير، ولقد وصفنا تأثير التلبية في الطريق بين جدة ومكة، وأين تأثير

طريق مكة من تأثير عرفة؟ وما أبعد الفرق بين حال المبتدئ بهذه العبادة - عبادة

المناسك - الذي لم يذق منها إلا طعم الإحرام والتلبية، وبين من شاهد بيت الله عز

وجل وطاف به كثيرًا وسعى بين الصفا والمروة متذكرًا تلك الآيات البينات، ثم

أقام ركن الحج الأكبر وهو الوقوف بعرفة فامتلأ قلبه إيمانًا وعرفانًا وانثنى بين

الألوف من الموحدين، يكبر الله على هدايته تكبيرًا، ويكرر التلبية له تكريرًا؟ !

* * *

(المبيت بمزدلفة وقصر الصلاة وجمعها)

الإلمام بمزدلفة ليلة النحر وذكر الله عند المشعر الحرام (أي فيها) واجب

وجعله بعض علماء الأثر ركنًا، وقد ثبت في السنة التعجل بالضعفة كالنساء

والصبيان بالإفاضة من مزدلفة إلى منى بعد غياب القمر. وأدنى الواجب الوقوف

فيها ليلاً لذكر الله تعالى وأما المبيت إلى الصباح فهو سنة كما بينا في المناسك.

نزلت مع السيد الزواوي بفناء مسجد المزدلفة فصليت هنالك المغرب والعشاء

قصرًا وجمعًا. والسيد لا يقصر في عرفة ومزدلفة ولا يجمع؛ لأنه مكي شافعي،

والشافعية لا يجيزون القصر والجمع إلا في السفر الطويل، والحنفية يوجبون

الجمع في المزدلفة لأجل النسك، والتحقيق عند أهل الحديث أن القصر عزيمة

والجمع رخصة في كل سفر طويل أو قصير، وأن الجمع في المشاعر أفضل

للاتباع، وناهيك باتباعه صلى الله عليه وآله وسلم في أعمال حجة الوداع التي علَّم

فيها الألوف المناسك وغير المناسك، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب.

قال الحافظ ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر

والعصر بعرفة وكذلك مَن صلى مع الإمام، وذكر أصحاب الشافعي أنه لا يجوز

الجمع إلا لمَن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخًا إلحاقًا له بالقصر (قال) : وليس

بصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع، فجمع معه مَن حضره من المكيين

وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجمع.

كما أمرهم بترك القصر فقال: (أتموا؛ فإنا سَفْر)[1] ، ولو حرم الجمع

لبينه لهم؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قال: ولم يبلغنا عن أحد من

المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة والمزدلفة، بل وافق عليه مَن لا يرى الجمع في

غيره. اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناسك الحج بعد أن ذكر صلاة النبي صلى

الله عليه وسلم الظهر والعصر جمع تقديم ببطن عرنة في حدود عرفة وخطبته هناك

ما نصه: ويصلي بعرفة والمزدلفة ومنى قصرًا، ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة

وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة والمزدلفة ومنى كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي

صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي صلى الله

عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة

ومزدلفة ومنى: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ،

ولكن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى

بهم بمكة. وأما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلاً خارج مكة وهناك كان

يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما

رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه ولم يقل لهم أتموا

صلاتكم فإنا قوم سفر، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم السفر لا بمسافة ولا

بزمان، ولم يكن بمنى أحد ساكنًا في زمنه؛ ولهذا قال:(منى مناخ من سبق)

ولكن قيل: إنها سكنت في خلافة عثمان وإنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة؛ لأنه كان

يرى أن المسافر يحمل الزاد والمزاد. اهـ.

وذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي ما تقدم عن المناسك مختصرًا وزاد

أنه ليس على المسافر جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم عرفة

ولا في سفر آخر. وأقول: إن عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة

بالإتمام في منى وما بعدها ينطبق على حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه

وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين) رواه أحمد ومسلم

وأبو داود وصرحوا أن الشاك في الأميال والفراسخ شعبة لا أنس. وقال

الحافظ في الفتح: إن هذا أصح حديث وأصرحه في المسألة.

مكث السيد الزواوي معي قليلاً في المزدلفة ثم ذهب إلى منى وأوصى الخادم

بإحضار دابتي في الصباح، فنمت ساعات، واستيقظت في وقت السحر، وقد

سخر الله تعالى لي رفاقًا من خير الناس بتّ بجوارهم، وقد عرف الزواوي منهم

رجلاً مكيًّا، اسمه الشيخ علي مؤمنة، فلما استيقظت وجدتهم أيقاظًا، فطلبت منهم

ماءً، فتوضأت وصليت الوتر إحدى عشرة ركعة فلما أتممت صلاتي وجدتهم قد

أحضروا الشاي وخصني كبيرهم بإبريق نظيف من نوع جيد منه وقدم لي معه

صحنًا فيه لوز مقشور وصحنًا فيه هشة من الكعك المعروف بالقراقيش فأصبت من

ذلك كله شاكرًا لهم. وطفق كبيرهم يسألني أسئلة في السنة والاتباع والابتداع

واختلاف العلماء والصوفية ويتلقى أجوبتي عنها بالقبول مسرورًا بما جليتها به

الشرح والتفصيل. وهذا الرجل بخاري الأصل يعرف العربية، وكنت توهمت أنه

داغستاني وقد ساح في كثير من البلاد، وقد فهمت أنه جاور في مكة المكرمة وأنه

يخرج كل سنة منها إلى عرفة ببعض أصحابه في الموسم مشاة ويعودون مشاة. وقد

اختلف العلماء في أي الأمرين أفضل في المناسك في المشي أم الركوب؟ ، فقيل:

المشي؛ لأنه أقرب إلى التواضع وأعون على الدعاء، وقيل بل: الركوب تأسيًا

بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يفعل إلا الأفضل والأكمل ويمكن أن يقال: إن

الأفضل لأهل الآفاق وللضعفاء من أهل مكة الركوب وإن الأقوياء من المقيمين بمكة

قد يكون المشي أفضل لهم من عدة وجوه، منها مشاركة أهل الآفاق ببعض مشقة

السفر وإن ذلك لا ينافي الاتباع.

وقد سألت السيد الزواوي عن هذا الشيخ وعن رفيقه الخاص الشيخ علي

مؤمنة وكلفته بعد عودتي أن يسأل عنهما، فكتب إليَّ أن الثاني نشأ من صغره محبًّا

للعزلة والبعد عن كبراء الدنيا وهو على الدوام يخدم العلماء وأهل الطريق من

الغرباء ومنهم الشيخ حسام الدين البخاري صاحبكم في المزدلفة، ويقول تلميذه

الشيخ علي مؤمن إنه أقام في مصر مدة طويلة وخرج منها في العام الماضي مأمورًا

عليه (كذا) بالوصول إلى مكة والإقامة بها هذا العام وهو الآن موجود في أحد

أربطة البخارية بحارة جياد، لا يخالط أحدًا، لا يعرف ولا يُعرف، مواظبًا على

الجمعة والجماعة كتلميذه الشيخ علي. ولما طلع الفجر صلينا مع الجماعة ثم ذهبنا

حول المسجد نجمع الحصا لرمي الجمار فلما جمعناها ركبت دابتي وسرت وسار

أصحابي مشاة قاصدين منى.

* * *

الإفاضة إلى منى ورمي جمرة العقبة

أفضنا من مزدلفة ملبين مكبرين قبل طلوع الشمس عملاً بالسنة، ومخالفة لما

كان عليه عمل الجاهلية من تأخير الإفاضة منها إلى طلوعها، ومن السنة المبنية

على سبب تاريخي هنالك الإسراع المعتدل في السير في بطن محسر لا فرق في

ذلك من الماشي والراكب. وتقدم أن بطن مُحَسِّر - بتشديد السين المكسورة - هو

الوادي الفاصل بين منى ومزدلفة. قال بعض العلماء: إن حكمة الإيضاع فيه أن

أهل الجاهلية كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم، ففي الإسراع فيه إظهار

البراءة من ذلك. وقال بعضهم: إن هذا المكان هو الذي أهلك الله تعالى فيه

أصحاب الفيل، الذين جاءوا من طريق اليمن لهدم بيته المحرم؛ فاستحب الإسراع

في الخروج منه؛ لأنه كان موضع سخط الله تعالى وعذابه لأولئك الظالمين

المعتدين، ويستحب مثل ذلك في كل مكان مثله كديار ثمود.

ولما وصلنا إلى منى قصدنا الجمرة الكبرى جمرة العقبة وكانت الشمس قد

ارتفعت فرميناها بسبع حصيات، نكبر مع كل حصاة. وفي مثل هذا الوقت رماها

النبي صلى الله عليه وآله وسلم راكبًا، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم جعل

البيت عن يمينه ومنى عن يساره ورمى. وأنه كان يكبر مع كل حصاة، وأنه قال:

(اللهم اجعله حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا) .

وبعد الرمي جئت الدار المعدة لنزولنا فيها، فإذا هي من أعظم دور منى حُسنًا

وسعة وهي لصديقنا الشيخ محمد نصيف، فرأيت السيدتين في قسم النساء منها،

والرفيقين في قسم الرجال، والجميع كما أحب، وأعطيت لوكيل الخرج دراهم

ووكلته بشراء النسك والذبح عني. وقد قصصت قليلاً من شعر رأسي بيدي، ولم

يتيسر لي الإتيان بحلاق إلى الدار؛ لأنني أريد الإفاضة إلى مكة لأجل طواف

الركن. وفي حديث أنس عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة

فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن،

ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس.

ومتى شرع الحاج في رمي جمرة العقبة مكبرًا تنقطع التلبية التي شعار الحج،

ويستبدل بها التكبير الذي هو ذكر الله في العيد، ومتى رماها وحلق شعر رأسه

أو قصره حل له كل ما كان محرمًا في النسك إلا ملامسة النساء؛ فإنها لا تحل إلا

بالتحلل الأخير بطواف الإفاضة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

السفر بفتح السين وسكون الفاء: جماعة المسافرين كالشرب جماعة الشاربين.

ص: 236