المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذو القعدة - 1335ه - مجلة المنار - جـ ٢٠

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (20)

- ‌شوال - 1335ه

- ‌فاتحة السنة العشرين للمنار

- ‌فتاوى المنار

- ‌مقدمة لذكرى المولد النبوي

- ‌استدراك على الحواشي

- ‌المسألة العربية

- ‌مسألة استقلال الشعوب

- ‌المجمع اللغوي المصري [*]

- ‌ذو القعدة - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌اقتراح عظيم في الإصلاح الإسلامي

- ‌السنة الرابعة للحرب

- ‌تاريخ هذا الجزء

- ‌ذو الحجة - 1335ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌رحلة الحجاز(5)

- ‌وفاة الشيخ سليم البشري

- ‌شيخ الأزهر الجديد

- ‌ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد

- ‌حجم المنار

- ‌المحرم - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحرب والصلح

- ‌مختارات من الجرائد

- ‌ما قيل في سقوط بغداد

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع أول - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحرب والصلح

- ‌تنبيه

- ‌ربيع الآخر - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الحالة السياسية في الحجاز

- ‌ترجمة الشيخ سليم البشري

- ‌جمادى الآخرة - 1336ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌شعبان - 1336ه

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(1)

- ‌نقد ذكرى المولد النبوي

- ‌مصائب الحرب

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌شوال - 1336ه

- ‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [*]

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(2)

- ‌السيد الهمام - آل رضا

- ‌ذو الحجة - 1336ه

- ‌رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [

- ‌المتفرنجون والإصلاح الإسلامي(3)

- ‌الشيخ عبد الكريم سلمان

- ‌حسن جلال باشا

- ‌التحول في ميادين الحرب وقرب أجل الصلح

- ‌خاتمة المجلد العشرين

الفصل: ‌ذو القعدة - 1335ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة العشرين للمنار

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله تعالى وأشكر له توفيقه وتأييده، حمدًا يوافي نعمه وشكرًا يكافئ

مزيده، وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، ورحمته العامة المرسلة وحجته

القائمة على خلقه، محمد النبي الأمي العربي الذي بعث في الأميين؛ ليعلمهم

الكتاب والحكمة ويجعلهم الأئمة الوارثين، ويُصلح بهم فساد الأمم والشعوب

المتعلمين وغير المتعلمين، وعلى عترته آل بيته الطاهرين، وأصحابه الذين

نشروا دعوته بين العالمين، وعلى التابعين لهم في هدايتهم وهديهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد دخل المنار في العام العشرين، داعيًا إلى الاعتصام بحبل الله

المتين، والاهتداء بنوره المبين، والاستمساك بسنة رسوله الأمين، والسير على

منهج السلف الصالحين، مبينًا أن الخير كل الخير في اتباع مَن سلف، وأن الشر

كل الشر في ابتداع مَن خلف؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين فلا يقبل زيادة كمال،

فالزيادة فيه كالنقص منه خزي وضلال، وإنما الناقص الذي يحتاج دائمًا إلى

الإكمال والإصلاح، ما كان من أوضاع البشر عرضة للنقص والفساد، مثبتًا أن

ضعف الشعوب الإسلامية إنما جاء من عملهم بعكس هذه القضية، أعني الابتداع

في الأمور الدينية، واتباع مَن قبلهم في الأمور الدنيوية. فالأمم في ارتقاء دائم،

وهم في جمود ملازم، غلب عليهم الجهل المركب، فهم للعلم يدعون، ورُزِئوا

بالفقر المدقع، وهم في الدنيا طامعون، وخنعوا للضيم والذل، وهم معجبون

متكبرون، وخضعوا لظلم المتغلبين وهم بالمُلك والسيادة مفتونون {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا

آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: 69-70) .

خسروا أنفسهم، فخسروا كل شيء، وهل خسران النفس إلا فقْد استقلالها في

الفهم والعلم والحكم؟ ، وتقليد الآباء والأشياخ المتأخرين في جميع أمور الدنيا

والدين؟ ، فالتحقيق أنهم مقلدون حتى في الابتداع؛ لأنهم فقدوا ملكة الاستنباط

والاختراع؛ وقد ساروا بحسب الظاهر على الطريقة الثابتة بالعقل والاختبار،

وهي كون علوم المتأخرين وفنونهم أجدر بالثقة والاعتبار، سنة الله في التدريج

والارتقاء، على أنهم يعتقدون بحق أن متقدمي هذه الأمة خير من متأخريها في

جميع العلوم والأعمال؛ لأن الخلف لم يسيروا على سنة السلف في الاجتهاد

والاستقلال؛ ولو ساروا عليها لفاقوهم في كل ما هو من كسب الناس. وهم إنما

يقلدون المتأخرين؛ لأنهم لا يرون أنفسهم أهلاً لاتباع المتقدمين، إذ يزعمون أن

المتأخر أضعف من المتقدم عقلاً وفهمًا، وربما اعتقدوا أنه أقل قوة وأنحف جسمًا،

وأن هذا التفضيل منحة إلهية وهبية، لا يمكن إدراكه بالأسباب الكسبية، غافلين

عن سنة الله تعالى في سائر الأمم والأجيال، وسبق المتأخرين للمتقدمين في جميع

العلوم والأعمال، حتى أن الله تعالى سخر لمراكبهم الهواء، كما سخر لها الماء،

وسخر لها من البحار لججها وأعماقها، كما سخر لها متونها وأمواجها، بل سخر

الله تعالى لهم ما في السماوات وما في الأرض، فما كان مسخرًا لغيرهم بالقوة صار

مسخَّرًا لهم بالفعل. فما بال جماهير المسلمين لا يسمعون ولا يبصرون، ولا

ينظرون ولا يتفكرون، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ

آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .

كل ما هو مسخر للبشر، وكل ما هو من كسب البشر، فهو قابل للارتقاء،

إذا لم يجمد الأبناء فيه على ما ورثوه عن الآباء. وكل ما ينفع الناس من العلوم

والفنون والأعمال، فهو مما يتناوله كسبهم وتصرفهم بمقتضى الاستعداد الخاص

والتسخير العام، إلا الدين الإلهي، والوحي السماوي، وقد أكمل الله لنا الدين، كما

ثبت بنص الكتاب المبين، فما بالنا قد ابتدعنا فيه كثيرًا من الشعائر، كمواسم الأيام

الفاضلة والموالد، وكثيرًا من العبادات التي لا أصل لها من السنة والكتاب، كأذكار

أهل الطرق وما استحدثوا من الأوراد والأحزاب، بل ما بالنا نبني المساجد على ما

نشرّف من القبور، ونوقد عليها السرج والشموع؟ ! ، ونحن نعلم أن فاعلي ذلك

ملعونون على لسان الرسول، بل ما بالنا نطوف بهذه القبور كما نطوف ببيت الله،

وندعوها مع الله أو من دون الله، ونحن نعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله -

أن هذا عبادة لها من دون الله؟ ، أنتبع في هذا عمل الآباء المتأخرين، ونحن نتلو

ويُتلى علينا قول الله تعالى في المشركين، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا

بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) .

إنا لندعو الناس إلى عقيدة السلف ونحن بها موقنون، ونرشد من بَلَغَتْه

الدعوة إلى سيرتهم الدينية ونحن على طريقتها إن شاء الله مستقيمون، وإنما نورد

في باب التفسير وغيره من المنار بعض تأويلات الخلف للآيات والأخبار، وما قد

يخالف مذهبهم من الآراء العصرية، وخاصة في مقام الدفاع عن القرآن والسنة

النبوية؛ لأن الضرورة ألجأت إليها، بتوقف إقامة الحجة، أو دحض الشبهة عليها،

فإن المنار ليس خاصًّا بالمذعنين للكتاب والسنة من المؤمنين، بل يكتب لهم

ولغيرهم من المبتدعين والمنافقين والكافرين، ومنهم المنكر الجاحد، والمجادل

المعاند، ومنهم المشتبه المغرور بشبهته، والمرتاب المتردد في ريبته، وحسبنا من

الفلج أن نقنع بتأويل الخلف، من تعذر إقناعه بتفويض السلف، وأن ندحض

الشبهة برأي جديد، إذا أعيا دحضها برأي تليد، إذ يكفي في صحة الإيمان الجزم

بأن كل ما جاء به الرسول عن ربه فهو حق، وفي صحة الإذعان موافقة السلف

في مسائل الإجماع العملية وما لا يحتمل التأويل من النص، ولا حرج في دين

الفطرة فيما اقتضته الفطرة من تفاوت الأفهام، مع صحة قواعد الإيمان وإقامة

أركان الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرّ أصحابه على مثل ذلك في مسائل

الأحكام، كتارك الصلاة والمصلي بالتيمم للجنابة، والمختلفين في صلاة العصر يوم

بني قريظة [1] .

ورُب فهم جديد يؤيد دين الحق أعظم التأييد، ومن مزايا القرآن أنه لا تنتهي

عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، وأن من آياته ما يظهر في زمان دون زمان، وهل

يظهرها إلا أفهام أهل العرفان، الذين هم حجة الله في أرضه، على الجاهلين

والجاحدين من خلقه، ولن يخلوا عنهم عصر من الأعصار، وإن خلت منهم بعض

البلاد والأمصار، وكم من عالم ينتفع بعلمه الغائب البعيد، ويحرم منه القريب العتيد

{قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) .

تلك دعوة المنار، التي رددت صداها الأقطار، فكانت كالبرق المبشر بما

يتلوه من المطر، في نظر سليمي العقول صحيحي الفِطَر، وكالصواعق المحرقة

على أهل البدع، ومتعصبي الأحزاب والشيع، وقد آذانا لأجلها الظالمون، فصبرنا

لله وبالله، ولم نكن كمَن أُوذي في الله فجعل فتنة الناس كعذاب الله، وجهل علينا

بعض أحداث السياسة المغرورين، وبعض أدعياء العلم الجامدين، فقلنا: {سَلامٌ

عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: 55) ، وكاد لنا أعداء الدعوة كيدًا خفيًا،

أضرّ بنا ضررًا جليًا؛ إذ حُجب المنار عن كثير من قرائه الأخيار، وحرمنا بذلك

وبغيره كثيرًا من المال، وحسبنا أن حَمِدَ الدعوة كل مَن عرفها من طلاب الإصلاح،

وأهل الروية والاستقلال، وأما الأزهريون خاصة، فقد كانوا أزواجًا ثلاثة،

فقليل من الشيوخ وكثير من الشبان - يرون أن المنار من ضروريات الإسلام في

هذا الزمان، وكثير من الشيوخ والشبان يكرهون منه حمد الاستقلال وذم التقليد،

ورمي جماهير علماء العصر بالجمود والتقصير، والسواد الأعظم منهم مشغولون

بأمور معيشتهم، وبمطالعة دروسهم ومناقشات طلبتهم، عن النظر في مثل المنار

لتقريظ أو انتقاد، وعن كل ما يتجدد في الدنيا من إصلاح وإفساد، وقد دخل المنار

في السنة العشرين، ولم ينتقده أحد من الأزهريين، إلا أنه قام في هذا العام شاب

متخرج في الأزهر، فنشر في بعض الجرائد الساقطة مقالات سبَّ فيها صاحب

المنار وكفَّر، بانيًا ذلك على زعمه أنه أنكر كون آدم أبًا لجميع البشر، على أن

المنار قد صرح بإثبات هذه الأبوَّة تصريحات، آخرها ما في الجزء الأول من

المجلد التاسع عشر، وزعمه أنه فضَّل شبلي شميل على الخلفاء الراشدين، ويعلم

كذب هذا الزعم مما نشرناه في شميل من ترجمة وتأبين، ومَن لا يَزَعه هديُ

القرآن، عن السب والكذب والبهتان - قد يَزَعْه عقاب السلطان؛ لهذا رفع أحد

كبار المحامين عنا أمر هذا الطعن إلى محكمة الجنايات، بعد أن أنذرْنا بذلك كاتب

المقالات، ونصحنا له بلسان بعض ذوي رَحِمه وصحبه، بأن يستحلنا تائبًا من ذنبه،

فلم يزده ذلك إلا إصرارًا على الذنب، وتماديًا في الطعن والسب، ولكنه جنح في

المحكمة للسلم، وطلب - هو وصاحب الجريدة - من رئيسها الصلح، على أن

يعتذروا عما اتهما به من المطاعن الشخصية، ويعترفا باحترام عقيدة صاحب المنار

وآرائه الدينية، وأمضيا عبارة في ذلك أُثبتت في محضر القضية، وقد قبلنا ذلك

منهما، وكان خيرًا لهما لو فعلاه من تلقاء أنفسهما، على أنهما عادا إلى هذيانهما،

ولا قيمة عندي لمثل هذا الكلام، فإنه مما يقال لصاحبه: سلام، وإنما ذكرناه في

فاتحة المنار التي نشير فيها عادة إلى ما تجدَّد في تاريخ الإصلاح، تمهيدًا لذكر ما

قيل إنه ترتب على تلك القضية، من تأليف جمعية أزهرية، لأجل البحث عن أغلاط

المنار الدينية والعلمية، وبيانها للناس وللحكومة المصرية؛ ذكرت ذلك الجريدة

التي وقفت نفسها على الطعن في صاحب المنار، متوهمة أنه سيترتب عليه

إبطال المجلة أو إخراج صاحبها من هذه الديار؛ لأن عند أعضاء هذه الجمعية من

حقائق العلوم الأزهرية، ما ليس عند صاحب المنار، الذي تلقى العلم في البلاد

السورية؛

فنقول للواهمين، ولمن يمدونهم في غيهم من المغرورين: إنا نعلم

من كُنه علم الأزهر ما لا تعلمون، فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا

إنا منتظرون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى

عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .

إننا ندعو إلى الله على بصيرة، ونكتب ما نكتب عن علم وبينة، ولكننا

كغيرنا عرضة للخطأ والغلط، كما هو شأن غير المعصومين من البشر؛ فلهذا

ندعو قراء المنار في كل عام، إلى أن يكتبوا إلينا بما يرونه فيه من الأغلاط

والأوهام، لننشره فيه، فيطلع عليه جماهير قارئيه، وإنا لنتمنى أن تؤلَّف لجنة من

علماء الأزهر، تقرأ مجلدات المنار التسعة عشر، وتُحصي ما تراه من الأغلاط

المتفق عليها، بقدر ما يصل إليه علمها وفهمها، وأن تتحرى في ذلك ما يليق

بكرامة أهل العلم، من صحة النقل والتروي في الحكم، واجتناب الطعن والبذاء،

والسخرية والاستهزاء، وإننا نَعُدُّ ذلك إذا سمت إليه همة بعض الأزهريين - أعظم

خدمة للمنار، يُخدم بها العلم والدين، ونعِد بأن ننشر لهم ما يكتبونه فرحين

مغبوطين، مقرين إياهم على ما نراه فيه من الصواب، مبيّنين ما نراه من الخطإِ

مع التزام الآداب، وترديد عبارات الحمد والشكر، التي تبقى بقاء الدهر، ولَثَوابُ

الله خيرٌ للذين يُصلحون في الأرض ولا يفسدون، والذين هم على البر والتقوى

يتعاونون {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

وإننا على ضعف أملنا بتحقُّق تلك الأمنية، واحتقارنا لكل ما يُكتب

بجهالة وسوء نية - لَيحزُننا أن يقوم في الأزهر بعض علمائه، ورئيس

جمعية من جمعياته، ينتقم ممن يقاضي بعض أصحابه، بافتراء الكذب

عليه [2] ، ونسبة ما ينقله عن غيرنا إليه [3] وتحريف آيات القرآن، استدلالاً بها

على ما رماه به من الكفر والفسق والعصيان [4] بذلك الكذب والبهتان،

الذي زاد فيه على ما سبقه إليه ذلك الطعان، وإننا لَنكرمُ كلاً من المنار والأزهر

بعدم ذكر اسمه، وعسى أن يثوب إلى رشده، ويتوب من إثمه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا

فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ

عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا

تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ

يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) .

_________

(1)

الأول في سنن النسائي والثاني في الصحيحين.

(2)

ادَّعى أن صاحب المنار قال: إن آدم عليه السلام من سُلالة القرود، وإنه ليس أبا جميع البشر - وهذا كذب وافتراء - وادعى أنه عضو في لجنة أُلِّفت لنشر كتب شميل، وهذا كذب مفترًى أيضًا.

(3)

عزا إلى صاحب المنار أقوالاً في خلق الإنسان، وفي تكفير مَن يحكم على السارق بغير الحد الشرعي، وتلك الأقوال من منقول المنار، لا من أقوال صاحبه، بل مخالفة له.

(4)

استدل بآيات سورة الممتحنة في النهي عن موالاة أعداء الله على ضد ما تدل عليه، وأهمل ما قيدته به السورة من كونه فيمن قاتلونا في الدين إلخ.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

الرقيق الأبيض والأسود

(س1) من صاحب الإمضاء في قليوب

حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد وصاحب المنار المنير؛

تحيةً وسلامًا، وبعد: أعرض على مسامع فضيلتكم المسألة الشرعية الآتية،

وأرجو نشرها في باب السؤال والجواب المفتوح في المنار المنير خدمة للشرع

الشريف، لا حرمنا الله منكم وها هي:

ما قولكم - دام فضلكم - في مسألة الرقيق الأبيض والأسود ومسألة مشتراه

في الزمن الماضي قبل مقاومة الحكومات لهذه العادة. وهل هذا البيع حرام أم حلال

شرعًا، وما الفرق في الدين الإسلامي بين العبد والحر، وما هي ميزة الحر على

العبد في الدين. وهل سواد (العبد) من الإقليم القاطن فيه أو منحة إلهية للفرق بين

الحر والعبد. وما يستحقه العبد في الميراث الشرعي إذا كان من والد حر وله إخوة

أحرار؟ وكيف كان البيع في زمن الجاهلية وزمن النبي صلى الله عليه وسلم

وزمن الخلفاء الراشدين وما هي حجتهم في ذلك؟

نرجو الرد على هذه الأسئلة كما عودتمونا ذلك، ولفضيلتكم الشكر سلفًا، وفي

الختام أهدي فضيلتكم أزكى تحياتي وسلامي.

...

...

...

... كاتبه أحمد حسين فراج

...

بعيادة الدكتور محمد عبد الحميد بك الخصوصية بقليوب

(ج) الظاهر أن السائل يظن أن كل مَن كان أسود اللون فهو عبد رقيق

وكل مَن كان أبيض اللون أو قريبًا من الأبيض - كالأصفر والأسمر - فهو حر

وأن الرقيق الأبيض عبارة عما هو معروف في القطر المصري من الاتِّجار

بأعراض البنات اللواتي يحتويهن المشتغلون بهذه التجارة، وهن صغيرات

بضروب من الإغواء والحيل. والصواب أن الأصل الفطري أن يكون جميع البشر

أحرارًا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص: منذ كم تعبَّدتم

الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ! ، وإنما الرقّ أمر عارض أحدثه تحكُّم الأقوياء

في الضعفاء، فكانوا يقتلون الأسرى ثم عطفوا عليهم فاستبدلوا الاسترقاق بالقتل،

وكان عامًّا لجميع أقطار الأرض الآهلة بالبشر، وقد أقرته الشرائع القديمة كلها،

حتى صار من شئون العمران وضروريات الحياة الاجتماعية، وقد جاء الإسلام،

وهو على هذه الحال، فلم يكن من الحكمة أن يبطله دفعة واحدة، كما أبطل الربا

والفواحش والتبني؛ إذ لو أبطله لتعطَّل كثير من أمور المعايش والأعمال، فشرع

الأحكام لإزالة مفاسده كإذلال العبيد وإهانتهم وتحميلهم من العمل ما لا يطيقون،

حتى نهى الشارع أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي، وجعل العبيد إخوانًا لسادتهم،

وأمر بأن يطعموهم مما يأكلون وأوجب عتقهم في الكفارات وغير الكفارات من

الأسباب المعروفة في كتب السنة والفقه، وجعل العتق - من غير سبب - قربة من

أفضل القربات، حتى أن من العتق ما يوجبه الشرع بغير اختيار المالك، ومنه أن

مَن مثَّل بعبده بقطع عضو أو تشويه - أعتق عليه، قال صلى الله عليه وسلم:

(مَن لطم مملوكَه أو ضربه فكفارته أن يعتق) رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن

عمر، وقد عمل به ابن عمر، وروياهما والترمذي عن سويد بن مقرن قال:

(كنا بني مقرن ليس لنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خادم واحدة،

فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقوها، قالوا: ليس

لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها)

وإنما أبقى أصل استرقاق الأسرى والسبي من الكفار في الحرب الدينية مباحًا؛

لأنه قد تقتضيه المصلحة، حتى مصلحة السبي نفسه أحيانًا. مثال ذلك أن تقتل

رجال قبيلة في الحرب ولا يبقى منهم أحد يستطيع أن يقوم بأمر النساء والذراري؛

إذ لم تكن الشعوب والقبائل في الأزمنة الماضية -ولا هي الآن كلها أيضًا - ذات دول

غنية كدول أوربة وما يشبهها في النظام الاجتماعي، فإذا أخذ الغالبون السبي في مثل

تلك الحالة وربوه على ما يوجبه الإسلام من الرفق والتكريم، وتسروا النساء حتى

صرن أمهات أولاد لهم يُعتقن بمجرد موتهم - فلا شك أن هذا قد يكون خيرًا لهم من

تركهم هائمين على وجوههم. على أن الإسلام لم يوجب ذلك، بل شرع لنا أن نمن

عليهم بإطلاقهم بلا مقابل كرمًا وإحسانًا وأن نفدي بهم أسرانا، إن كان لنا أسرى عند

قومهم، كما قال في سورة القتال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ

وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4) .

وإذا عرفت أصل الرق الشرعي علمت أن ما اشتهر عن النخاسين من شرائهم

بعضَ بنات الشركس من آبائهن الفقراء لبيعهن في الآستانة وغيرها، ومن شرائهم

أو خطفهم لأولاد السودانيين أيضًا - كله باطل، فالأب لا يملك بيع أولاده. ومَن

دونه من الأقارب أوْلَى بأن لا يجوز له ذلك، والمشتري لأمثال هؤلاء لا يملكهم

شرعًا، ويجب على الحكام إبطال مثل هذا الرق قطعًا؛ لما يترتب عليه من مفاسد

التسري والتوارث وغير ذلك من الأحكام الباطلة.

وأما سواد السود من الناس فهو من تأثير الإقليم كما هو مشهور، وقد سكن

كثير من العرب - الذين يغلب عليهم اللون القمحي في البلاد الاستوائية وما يقرب

منها - فأثَّر ذلك في جلودهم؛ حتى صاروا أقرب إلى الزنوج منهم إلى البيض،

وسكن كثير منهم في البلاد الشمالية الباردة وما يقرب منها؛ فصار بياضهم كبياض

أهلها.

وأما الفرق بين الحر والعبد في الدين الإسلامي فهو أنه لا فرق بينهما في

الإيمان وتقوى الله تعالى والعمل الصالح وفضائل الدين وآدابه والجزاء عند الله

تعالى، وكم من عبد مملوك تقي خير عند الله من ألف حر، ولكن المملوك لما كان

لا يملك المال عند الجماهير ولا يملك التصرف في نفسه لتقيده بخدمة مالكه - كان

له بذلك أحكام خاصة لا يحتاج السائل إلى معرفتها كلها، فمنها ما هو تخفيف عليه،

ككونه لا تجب عليه الجمعة عند الجمهور خلافًا للظاهرية - وتصح منه إجماعًا -

ولا الجهاد ولا الحج، وإذا حج بإذن سيده أو معه صح منه ذلك وأثيب بقدر

إخلاصه وقيامه بالمناسك على وجهها ولا تجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يملك المال،

ويترتب على عدم ملكه المال أنه لا يرث ولا يورَّث، وحدّه نصف حدّ الحر،

ويترتب على عدم ملكه التصرف بنفسه أنه لا يلي الولايات العامة كالقضاء، ولا

الخاصة كالنكاح والوصاية على اليتيم، وكل مسألة من هذه المسألة وأشباهها مفصلة

في كتبها وأبوابها من كتب الفقه. وفي بعضها خلاف بين الفقهاء. وأما بيع الرقيق

فكبيع غيره مما يملك، وحسب السائل هذا البيان المختصر.

***

العوام والخواص

(س2) من الحاج عبد العزيز. ن. وفي بلد جكجاكرتا (بجاوه) .

نرجو من فضلكم أن ترشدونا في تعريف العام والخاص، هل العام مَن لم

يعرف اللغة العربية في فصاحتها وبلاغتها، والخاص مَن يعرفها؟ أو مَن هم؟

(ج) العامّ اسم فاعل من العموم وهو الإحاطة والشمول، والخاصّ اسم فاعل

من الخصوص وهو إصابة بعض الشيء أو الأفراد دون بعض. يقال: نزل المطر

فعمّ الأرض فهو عامّ أو خصّ بلد كذا فهو خاص. والسائل لا يسأل عن هذا، وإنما

يسأل عن معنى العامّيّ والخاصّيّ، واحد العامة والخاصة. فالعامّيّ هو المنسوب

إلى عامة الناس أي سوادهم الذين لا خصوصية لهم فيهم، ويقال لجماعتهم العوامّ،

والخاصّيّ المنسوب إلى خاصة الناس وهم كبراؤهم وزعماؤهم كالعلماء الأعلام

وكبار الحكام وأهل الفضل والجاه، ويقال لجماعتهم الخواص. وعلماء اللغة

العربية في جاوه يصح أن يكونوا من خواص أهلها، وأما كونهم هم الخواص

وحدهم فلا يتحقق إلا إذا كان أهل البلاد يخصونهم بالاحترام والتكريم ويفضلونهم

على سائر الناس، ويعدون مَن عداهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد ولا

كرامة.

_________

ص: 19

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقدمة لذكرى المولد النبوي

فيها بيان تاريخ الاحتفال بالمولد وحكمه شرعًا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه

ومَن والاه.

أما بعد: فإن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، وقد

اختلف في كونها بدعة حسنة أو بدعة سيئة كما سيأتي، والمشهور أن المُحْدِث لها

هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب

الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل [1] أحدثها في أوائل القرن السابع

أو أواخر القرن السادس، فإن السلطان صلاح الدين ولاه على إربل في ذي الحجة

سنة 586 وتوفي سنة 630.

وقد كان سخيًّا متلافًا صاحب خيرات كثيرة، وكان ينفق على الاحتفال بالمولد

ألوفًا كثيرة، ففي تاريخ ابن خلكان أنه كان ينصب له مقدار عشرين قبة من الخشب،

كل قبة منها أربع طبقات أو خمس طبقات، له قبة منها والباقي للأمراء وأعيان

دولته، وكانوا يزينون هذه القباب في أول شهر صفر بأنواع الزينة الفاخرة، وكان

يكون في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي،

بل كانوا لا يتركون طبقة من الطبقات بغير جوق من تلك الأجواق. وكان الناس

يتركون كل عمل في تلك الأيام، فلا يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران على

القباب.

قال ابن خلكان: فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم

شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفَّها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي

حتى أتى بها إلى الميدان ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان

المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد [2] عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة

ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع

- أشك في ذلك - من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن

ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل. فإذا كانت صبيحة يوم المولد

أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة،

وهم متتابعون، كل منهم وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير، لا أتحقق

عدده.

ثم ذكر عرضه الجند وتوزيعه تلك الخلع بعد ذلك على الفقهاء والوعاظ

والقراء والشعراء ومد السماط. وكان قد ذكر قبل ذلك أن الناس كانوا يأتون هذا

الموسم في إربل من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم

وتلك النواحي، فلا يزالون يتواصلون من شهر المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول.

لخصت هذا من تاريخ ابن خلكان الذي وصف ما رآه بعينيه؛ لأن ما يُعمل

بمصر الآن يشبه ما كان يعمل في إربل، إلا أنه دونه عظمة ونفقة، فهَهُنا تنصب

قباب أو خيام النسيج الجميلة لعزيز مصر ولوزارات حكومته ولبعض الوجهاء في

دائرة واسعة ويختلف إليها الناس من أول شهر ربيع الأول، يسمعون في بعضها

وعظ الوعاظ، وذكر أرباب الطرق المعروفة. ويرأس الاحتفال شيخ مشايخ طرق

الصوفية، ويقيم بجانب خيمته مأدبة فاخرة في مساء اليوم الحادي عشر من الشهر،

يحضرها كبار العلماء وكثير من الوجهاء، ويكون الاحتفال الأكبر في الليلة

الثانية عشرة في خيمته فيجتمع فيها مَن حضر المأدبة، ويؤمها الأمراء والوزراء،

حتى إذا ما انتظم جمْعهم حضر عزيز مصر بحاشيته، وتقرأ بين يديه قصة المولد،

فيخلع على مَن يقرأها خلعة سنية، وتدار بعد قراءتها كؤوس الشراب المحلّى

وصواني الحلوى الجافة. ثم ينصرف العزيز إلى خيمته وهي بجانب قبة شيخ

الشيوخ، فيمكث فيها ساعة زمانية، يشاهد في أثنائها زينة الألعاب النارية، ثم

ينصرف وينصرف الأمراء والوزراء، ويظل الناس يطوفون على تلك الخيام

المزينة بالأنوار الكهربائية وغير الكهربائية عامة ليلتهم. وفي ضحوة ذلك اليوم

يحضر نائب العزيز قبة شيخ الشيوخ فتعرض عليه مواكب الصوفية، يتقدم كلَّ

طريقة شيخُها، وهم يهللون أو يتلون الأوارد، ويقف كل منهم أمام شيخ الشيوخ

قليلاً، فيحييه، ثم ينصرف.

وقد استحسن جماهير المسلمين الاحتفال بالمولد في مشارق الأرض ومغاربها

ويجتمعون لقراءة قصته في المساجد، ومنهم مَن يجعل لها دعوة خاصة في البيوت،

وهذه لا تتقيد بجعلها في تاريخ الميلاد النبوي، ولكن أنكر هذا الاحتفال بعض

العلماء، وعدَّه بدعة مذمومة؛ لأنه عُدَّ موسمًا وشعارًا دينًا وعبادة غير مشروعة،

يظن العوام أنها مشروعة؛ ولما يقترن به من المنكرات الأخرى. وقال بعضهم: إنه

بدعة حسنة؛ لأنه عبارة عن الشكر لله تعالى على وجود خاتم أنبيائه وأفضل رسله

بإظهار السرور في مثل اليوم الذي وُلد فيه، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار،

وقد ألف الجلال السيوطي رسالة في عدِّه بدعة حسنة في جواب مَن سأل عن

حكمه شرعًا، وعرفه بقوله: هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية

الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من

الآيات، ثم يمد لهم سماط، فيأكلون، وينصرفون من غير زيادة على ذلك. وذكر

أن الحافظ ابن حجر سُئل عنه، فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن

أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن

وضدها، فمن جرد في عمله المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومَن لا

فلا.

ثم بيّن أن الحافظ خرجه على حديث الصحيحين في صيام عاشوراء شكرًا لله

تعالى على إنجائه فيه موسى نبيه، وإغراق فرعون عدوه، قال: فيُستفاد منه

الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في

نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام

والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟

وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم

عاشوراء ومَن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، وتوسع

قوم، فنقلوه إلى أي يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما تعلَّق بأصل عمله. وأما

ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم

ذكره من الإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل

الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن ما

كان من ذلك مباحًا بحيث يتعين للسرور بذلك اليوم - لا بأس بإلحاقه وبه وما كان

حرامًا أو مكروهًا فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى. اهـ.

وقد يقال: لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة والتابعين ولا الأئمة

المجتهدين ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد الشارع لهم بالخيرية؟ فهل كان

صاحب إربل التركماني ومَن تبعه أعلم وأهدى منهم وأعظم شكرًا لله تعالى؟ ويقال

مثل هذا في تخريج الحافظ ابن رجب إياه على تعليل صيام يوم الإثنين بأنه يوم وُلد

فيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي مزيد بيان لحجة المخالف.

وخرجه السيوطي على أصل آخر استنبطه من تخريج شيخه الحافظ، وهو ما

رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوة،

(قال) : مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه والعقيقة لا تعاد مرة ثانية،

فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد

الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب

لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه الآيات

وإظهار المسرات. اهـ.

وهذا تخريج ضعيف من وجوه:

(أحدها) أن هذا الحديث منكر كما قال راويه البيهقي، بل باطل كما قال

النووي في شرح المهذب.

(ثانيًا) أنه لو صح لكان دليلاً على استحباب عقّ الإنسان عن نفسه ولم يقل

بهذا أحد.

(ثالثها) جعل قولهم: إن العقيقة لا تعاد حجة على الحديث على تقدير

صحته، مع كون عبد المطلب عقّ عنه صلى الله عليه وسلم.

(رابعها) أنه لو كان تشريعًا لعمل به الصحابة وغيرهم وقال به أئمة الفقهاء

أو مَن بلغه منهم.

(خامسها) أن يوم البعثة كان أوْلَى بهذا الشكر من يوم الولادة؛ لأن النعمة

والرحمة إنما كانت برسالته صلى الله عليه وسلم بنص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ

إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) .

وحجة المنكرين في هذا الباب أن كل بدعة دينية تعد من العبادات المحضة أو

تُجعل من شعائر الدين - فهي محظورة؛ لأن الله تعالى أكمل الدين وأجمعت الأمة

على أن أهل الصدر الأول أكمل الناس إيمانًا وإسلامًا، وأن كل بدعة ليست من هذا

القبيل - كالمنافع الدنيوية والوسائل التي يقوَّى بها أمر الدين والدنيا كالمدارس

والمستشفيات والملاجئ الخيرية التي يثاب صاحبها بحسن نيته فيها - فإنها تعد

بدعة حسنة، والتحقيق أن هذه لا تسمى بدعة شرعية، وإنما يطلق عليها اسم

البدعة لغةً، فلا تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث

الصحيح عند مسلم: (شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؛

لأن موضوع الحديث المحدثات في أمر الدين، ولكنها تعد من السنن الحسنة في

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها

إلى يوم القيامة) -الحديث (وهو في صحيح مسلم أيضًا) فقد رَغَّبَ أمته بهذا

الحديث في الاختراع النافع لها في دينها ودنياها، ولكن ليس لأحد أن يخترع في

الدين نفسه شيئًا.

ثم إن البدعة الدينية إما أن تكون اختراع عبادة أو شعارًا دينيًّا لا أصل لهما

وإما أن تكون تخصيصًا لعبادة مشروعة بزمان معين أو مكان معين أو هيئة معينة

لم يخصصها بها الشارع. ومن هذا النوع عَدَّ الفقهاء صلاة الرغائب في رجب

وصلاة ليلة النصف من شعبان من البدع المذمومة. قال النووي في المنهاج:

وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. وقد سمّى الشاطبي هذا النوع

بالبدع الإضافية، وسمى النوع الأول البدع الحقيقية. وأطال في بيان ذلك في كتابه

(الاعتصام) وفصله تفصيلاً.

هذا، وإن ما يعهد من الاحتفال بالمولد ليس عبادة مأثورة عن الشارع يؤتى

بها على الوجه المشروع، ولا هو عمل دنيوي محض، بل يجمعون فيه عبادات

يأتون بها أو ببعضها على وجه غير مشروع، وبين لعب ولهو، بعضه مباح

وبعضه محظور، وقد كان يكون في احتفال القاهرة خيام يرقص فيها النساء

المتهتِّكات مكشوفات الصدور والبطون، كما يحصل دائمًا في غيره من احتفالات

الموالد - كالموالد الحسيني والمولد البدوي - وما هو شر من ذلك، ولكن قد أبطل

هذا كله من الاحتفال الذي يكون في القاهرة، ولله الحمد.

وقد حاول مَن ذكرنا من العلماء تخريجه على أصل شرعي بإبطال ما يكون

فيه من اللهو والاقتصار فيه على عمل الخير، ولولا تخصيص تلك العبادة بالزمان

والمكان والصفات المخصوصة التي تشبه بها الشعائر والعبادات المشروعة وتلتبس

بها - لما احتيج في تخريجه إلى ما تكلفوه.

وأما اجتماع الناس في مثل القباب والخيام التي تنصب في العباسية، وتزين

بالمصابيح والأنوار الكهربائية، وإظهار البهجة والسرور، بذكرى مولد ذي الضياء

المعنوي والنور، وذكر إخراج الله الخلق بهديه من الظلمات، وما آتاه من الهدى

والآيات - فهو في نفسه من المباحات، المقرونة بالمستحبات والمندوبات، بشرط

أن يخلو من البدع والمنكرات، وأن لا يعد من الشعائر الدينية ولا من العبادات،

فإذا كان بحيث يظن العامة أنه مطلوب شرعًا حرم فعله قطعًا، بل كان بعض

الصحابة يتركون بعض المسنونات؛ لئلا تظن العامة أنها من الواجبات، ومن هنا

صرح الشاطبي في (الاعتصام)[3] بكون اتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه

وآله وسلم عيدًا من البدع، وأفتى ابن حجر المكي بأن القيام عند ذكر ولادته صلى

الله عليه وسلم بدعة، وذكر أن الناس يفعلونه تعظيمًا وقال: (فالعوام معذورون

لذلك بخلاف الخواص) [4] وقد علل فتواه بأن القيام يوهم العامة أنه مندوب، ويزاد

عليه أن بعضهم يظن أنه واجب، وقد يعلل أيضًا بأنه يُفعل بهيئة العبادة لما يكون

من الصلاة المخصوصة المعينة بالعدد في أثنائه.

ولكن لم يأخذ أحد بهذه الفتوى، فما زال العلماء يقومون كغيرهم ولم نَرَ لهم ردًّا

للفتوى بدليل أرجح من دليلها، ولعل أكثر العوام يعتقدون وجوب هذا القيام لالتزام

العلماء وسائر الناس له، ولو فطنوا لِتَرْك أحدٍ له لعدُّوه فاسقًا متهاونًا بالدين أو كافرًا

مارقًا منه! ، ولعلك لو اقترحت على جماعة العلماء - الذين يحضرون قراءة قصة

المولد - تركه في بعض الأوقات ليعلم العامة أنه غير واجب لما تجرءوا على ذلك.

والحق أن قصد التعظيم هو الذي زين للعوام والخواص أمثال هذه البدع. فإن

من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا، وإنما

التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره، ويعتز

دينه إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكًا. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم

تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذه السبيل. ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم

اللساني. ولا شك أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل

تعظيم، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تغيير أو

تبديل لأجل تعظيمه به، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين؛ فقد كان جُل ما

أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، ومازالوا يبتدعون بقصد

التعظيم وبحسن النية؛ حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم! . ولو تساهل

سلفنا الصالح كما تساهلوا وكما تساهل خلفنا الذين اتبعوا سَنَنهم شبرًا بشبر وذراعًا

بذراع - لضاع أصل ديننا أيضًا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب

علينا أن نرجع إليه ونعَض عليه بالنواجذ، ويجب على العلماء أن يبينوا للناس

الإحداث والبدع محذرين منها، كما يجب عليهم أن يبينوا لهم الفرائض والسنن

مرغّبين فيها، والبيان يحصل بالقول والفعل والإقرار والترك، كما أن التشريع حصل

بذلك؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يترك بعض سننه لئلا تُفرض.

قال الإمام الشاطبي في الاعتصام [5] : وقد ثبت في الأصول أن العالِم في

الناس قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء ورثة الأنبياء، فكما أن النبي

صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على

الأحكام بقوله وفعله وإقراره، واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور

المنهي عنها، فلم ينكرها العلماء أو عملوا بها فصارت تعد سننًا ومشروعات

كزيادتهم مع الأذان: (أصبح ولله الحمد)

إلخ. وقد أطال في هذه المسألة وبيَّن

مفاسد السكوت قبل هذه العبارة وبعدها، ولا سيما عمل (الخواص من الناس

بالبدعة عمومًا وخاصة العلماء خصوصًا) وذكر في هذا السياق أن علماء الصحابة

كانوا يتركون بعض السنن لئلا يظن الناس أنها واجبة، ومن ذلك أن أبا بكر

وعمر وابن عباس تركوا التضحية في عيد النحر؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة [6]-

على أن بعض الفقهاء بعدهم قال بوجوبها - ونُقل عن الإمام مالك أنه قال في

الموطأ - في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان - إنه لم يَرَ أحدًا من أهل العلم

والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم

يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس

منه لو رأوا رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك. اهـ.

وقد كان الإمام مالك يعرف الحديث في صيامها، وكلامه يدل على ذلك، كما

قال الشاطبي ولكنّ سد ذرائع البدع اقتضى ترك هذا المستحب، ومالك من أشد الأئمة

تشديدًا في ذلك. ومما نقله عنه الشاطبي وغيره قوله: (مَن أحدث في هذه الأمة شيئًا

لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله

يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا. اهـ[7] ، وقوله عندما

سئل عن القراءة في المساجد: (لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أُحدث،

ولم يأتِ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن) . اهـ[8] .

وجملة القول: إن خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو وجعْل ذلك

عملاً واحدًا عن باعث ديني - هو الذي يجعل مجموع تلك الأعمال من قبيل

الشعائر الدينية ويوهم العوام أن تلك العادات - وكذا العبادات المبتدعة في هيئتها

وتوقيتها وعددها - من أمور الدين المشروعة بهذه الصفة ندبًا أو وجوبًا، كما قال

الفقيه ابن حجر في مسألة القيام عند ذكر ولادته عليه أفضل الصلاة والسلام وما

يكون فيه من الصلاة المخصوصة كما قلنا.

وأما قراءة قصة المولد فهي عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة

النبوية كما قال السيوطي، ولكن كثيرًا من الناس كتبوا (موالد) حشوها بالأحاديث

الموضوعة والمنكرة وفي بعضها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق

كالتغزُّل بجماله. وكنت منذ سنين أتمنى لو يوجد بين أيدي الناس رسائل في هذا

الموضوع يتحرى فيها الصحيح المفيد، عسى أن يستبدل بها بعض ذلك الضار

السيئ التأثير، بيد أنني كنت أتحامى أن أكتب في ذلك شيئًا باسم المولد؛ لئلا

أكون محدِثًا أو مساعِدًا أو مقرًّا لما لم يفعله السلف الصالح.

ثم كان أن دعاني في غرة ربيع الأول من عام 1334 شيخ مشايخ طرق

الصوفية بمصر السيد عبد الحميد البكري [9] إلى مأدبة أعدها في داره وسماع قصة

المولد بعدها، فأجبت الدعوة، وتوسلت بها إلى تنفيذ تلك الفكرة؛ إذ كنت علمت

من أحاديث جرت بيني وبينه أنه من محبي الإصلاح للطرق الصوفية وغيرها،

وهنالك كلّمته في قصص الموالد المشهورة ووجوب تغييرها، فاستحسن ذلك، فقلت

له: أرأيت إذا كتبتُ شيئًا في هذا الموضوع أتستبدل به ما يُقرأ عندك في الاحتفال

الرسمي وغيره؟ ، قال: نعم، فانتهزت هذه الفرصة لبيان الحق في هذه المسألة

شكلاً وموضوعًا، ثم شرعت في كتابة شيء من ذلك في ساعات المساء من النهار،

فأتممته في بضعة أيام متفرقة، لم تتم أسبوعًا، وكتبت أكثره في دار البكري،

وكنت أُطْلعه على ما أكتب، فيُسرّ به، ولكنه جاء طويلاً لا يمكن أن يُقرأ في

الحفلة الرسمية كله، فاختصرنا منه نسخة قُرئت من الحفلة الرسمية، فكانت

موضع إعجاب أهل الفهم والذكاء من الوزراء والكبراء وغيرهم من أهل الروية.

ثم اطلع على ما كتبت كله بعض أهل العلم ومحبي الإصلاح فرغبوا إليَّ في

طبعه ونشره، ورأوا أنه من أحسن ما يُنشر في هذا العصر لبيان حقيقة دعوة

الإسلام وكليات الدين وخلاصة السيرة النبوية، فشرعت في طبعه وزدت فيه عند

الطبع حديث البعثة وقصة الهجرة وما تلاها من الخاتمة ومسائل أخرى في أثناء

الكلام. طبعته في المنار ثم جردته منه، وطبعته على حِدَتِه، وحذفت مما طبع في

المنار جملة وجيزة اقتبستها من (رسالة التوحيد) ، وزدت مسائل أخرى قليلة.

فكان فوق ما كنت أقدر وأتوخى في هذا المقام، الذي اعتيد فيه الاختصار، فجاء

كتابًا وجيزًا حاويًا لخلاصة الحقائق المتفرقة في أسفار التاريخ والسيرة النبوية،

وكتب التفسير والحديث والعقائد الإسلامية، مبينًا لِكُنْه الإسلام وحقيقته، وكليات

أحكامه وحكمته، بعبارة يسهل على الناس فهمها، ويتيسر لمريد الحفظ حفظها،

وحروف مضبوطة بالحركات، وأسجاع غير متكلفات، فهو جدير بأن يُقرأ في

البيوت وفي المحافل، وبأن يُلقَّن لطلاب العلوم الدينية والدنيوية في المدارس، وإذا

اكتفى سامعوه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره فُرادى ولم

يرفعوا أصواتهم بصيغة مخصوصة في أوقات معينة - لا يكون في قراءتهم ولا

سماعهم له شبهة على الابتداع الحقيقي ولا الإضافي.

طريقة اختصاره في القراءة:

هذا، وإن لمَن يقرؤه على الناس في وقت ضيق أن يختصر منه بعض

الفصول كفصل الهجرة بطوله من منتصف الصفحة 30 إلى فصل أخلاقه وسيرته

صلى الله عليه وسلم في الصفحة 36، ويمكن ترك هذا الفصل أيضًا إلى الخاتمة

في الصفحة 41، وإذا كان المقروء عليهم من العوام فللقارئ أن يحذف مما يقرأ لهم

بحث اصطفاء الله لقومه وقبيلته وآل بيته صلى الله عليه وسلم من أول الصفحة 4

إلى نهاية الصفحة 10؛ لأن هذا البحث لا يفهمه حق الفهم إلا الخواصُّ من أهل

العلم، ومازال كثير من الناس يستشكل ما ورد في الحديث الصحيح من اصطفاء

الله تعالى كنانة وقريشًا وبني هاشم، وحكمة جعل دين العلم والمدنية على لسان

نبي أمي بُعث في أمة أمية، ولم أَرَ أحدًا سبقني إلى بيان مزايا العرب التي أعدهم

الله بها لهذه المنقبة العظيمة، ولله الحمد والمنة، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ

الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي

تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} (الأحقاف: 15) ، وصلى الله على سيدنا محمد

خاتم النبيين، وآله وصحبه ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.

وكتب هذا في 5 رمضان سنة 1335.

...

...

...

...

محمد رشيد رضا

_________

(1)

إربِل بوزن إثمد، وضبط في المتن بفتح الباء غلطًا.

(2)

هي الليلة التاسعة من ربيع الأول على المختار عند المحدثين، أو ليلة 12 منه على المشهور عند الجمهور، وكان مظفر الدين يراعي الخلاف، فيجعلها ليلة تسع في سنة، وليلة 12 في أخرى.

(3)

ص34 من الجزء الأول.

(4)

ص 60 الفتاوى الحديثية له.

(5)

ص269، ج2.

(6)

ص276، ج2 من الاعتصام.

(7)

ص149 و150، ج2.

(8)

ص168، ج2 من الاعتصام.

(9)

بيت البكري من أشهر بيوتات مصر، ينتسبون إلى الصديق رضي الله عنه، ويلقبهم الجمهور بقلب السيد كالعلويين.

ص: 23

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استدراك على الحواشي

شاعر الأنصار - صاحب الأبيات المذكور بعضها في قصة الهجرة - هو أبو

قيس صرمة بن أبي أنس قد ترهّب، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وهمَّ

بالنصرانية، فلما جاء الإسلام أسلم وهو شيخ كبير، وله شعر كثير، وعاش نحوًا من

120.

_________

ص: 32

الكاتب: محمد رشيد رضا

ّ‌

‌المسألة العربية

مقالة للتاريخ

الإسلام والجنسية العربية. إبراهيم الخليل عربي. الأُخوَّتان الدينية

والجنسية. اتفاق الإسلام والجنسية العربية. مصلحة المسلمين وغيرهم من العرب

في تجديد الدولة العربية واحدة. مصلحة المسلمين الأعاجم ورأيهم في ذلك.

استقلال لبنان لم يكن عقبة في طلب العرب للاستقلال. لم ينهض العرب للاستقلال

في عهد عبد الحميد. اتهام الخديو والإنكليز بالميل إلى استقلال العرب. حال

أمراء الجزيرة وزيدية اليمن وزعماء الولايات العربية في ذلك. الخلافة عند أهل

الزيدية وأهل السنة. السبب الحقيقي لسكون العرب وسكوتهم هو الإسلام وأوربة.

إزالة الإسلام للعصبية الجنسية. إجماع العرب على المحافظة على الدولة ويأسهم

منها. استقلال الحجاز. اتفاق الحلفاء على استقلال الشعوب، أو تفويض أمر

حكمها إليها.

إنني عربي مسلم أو مسلم عربي؛ فأنا قُرشي عَلوي، من ذرية محمد النبي

العربي، الذي ينتهي نسبه الشريف إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام،

وملته الحنيفية هي ملة جده إبراهيم، أساسها التوحيد الخالص، وإسلام الوجه لله

تعالى وحده، {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) ،

اقرأ الآيات إلى قوله: {

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133) ، فإسلامي

مقارن في التاريخ لعربيتي، وإن من الناس مَن هو أقدم نسبًا في الإسلام، ومَن هو

أقدم نسبًا في العربية، وهم مَن عدا الإسماعيليين من متقدمي العرب ومتأخريهم.

وأما الإسماعيليون منهم فتاريخ عربيتهم وإسلامهم واحد؛ إذ كان أول أب لهم

في العرب مسلمًا، وقد يقال: إن إسلامهم أقدم إذا كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم غير

معدود من العرب على ما هو المشهور في كتب التاريخ من أن أول العرب

المستعربة إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وكأنهم عدّوه كذلك؛ لأنه وُلد في بلاد

العرب، ونشأ فيهم فلم يكن له لسان غير اللسان العربي. ولكن التاريخ يثبت لنا

أن أباه إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يتكلم باللغة العربية، كما يؤخذ من التاريخ

العربي والتاريخ المستنبَط من الآثار القديمة، أما مأخذ ذلك من التاريخ العربي فهو

أنه أقام في بلاد العرب زمنًا، أقام فيه الدين وبنى البيت العتيق الذي هو أقدم بيت

وُضع لعبادة الله وحده في الأرض، فمن البديهي أنه كان يعلِّمهم الدين بلسانهم،

ويخاطبهم به، وأما مأخذ ذلك من الآثار القديمة المكتشفة في هذا العصر موضحة

للتاريخ القديم، فهي أن علماء الآثار بينوا لنا أن مدينة الكلدان كانت عربية،وأن

حمورابي الذي كان ملكهم وصاحب شريعتهم في عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم

كان عربيًّا، وقد اكتشفت شريعته في بلاد العراق منقوشة على عمود من

الحجر الأصم، فكانت باللغة العربية لذلك الزمان. وقد جاء في سفر التكوين - أول

أسفار العهد القديم عند أهل الكتاب - أن حمورابي هذا كان في زمن إبراهيم، وأنه

كان يُدعى ملك السلام وكاهن الله العلي، وأنه بارك إبراهيم، وأن إبراهيم أعطاه

عشرًا من كل شيء (راجع: تك 14: 18) .

قلت: إنني عربي مسلم. فأنا أخ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من

العرب وغير العرب، وأخ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير

المسلمين. أما دليل الأخوة الدينية فقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وأما دليل الأخوة الجنسية فالآيات المتعددة في سورة

الأعراف والشعراء المصرحة بكون الأنبياء المرسلين إخوة لأقوامهم

المشركين. ولما كان شعيب عليه السلام قد أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى

أصحاب الأيكة من غير قومه - اختلف التعبير عنه، فقد قال تعالى في سورة

الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85)، أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب شعيبًا

إلخ.

وقال في سورة الشعراء {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا

تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 176-178) ولم يقل أخوهم شعيب،

كما قال في عاد {أَخُوهُمْ هُود} (الشعراء: 124) وفي ثمود {أَخُوهُمْ

صَالِحٌ} (الشعراء: 142) - مثلاً - لأنه لم يكن من جنسهم.

وإنني أحمد الله عز وجل أن جعل مصلحة العرب السياسية في عصرنا

موافقة لمصلحة المسلمين السياسية، كما أبينه في هذه المقالة، ولو تعارضتا لقدمت

ما يوجبه عليَّ ديني، على ما تقتضيه مصلحة أبناء جنسي؛ لأنني أرجو بديني

سعادة الدنيا والآخرة، وأنا موقن بذلك، ولا أرجو بخدمة جنسي وحده إلا الدنيا

وحدها، وما أنا على يقين من إدراكها، على أنني راضٍ بما آتاني الله منها، أما

وقد اتحدتا فخدمة جنسي خدمة لديني، ينفعني في الآخرة إن لم ينفعني في الدنيا،

وأنا مؤمن بهذا، وإن كان يخفى على كثير من إخواني المسلمين.

* * *

(مصلحة العرب والمسلمين في الدولة العربية)

إنما مصلحة العرب السياسية أن يكون لهم دولة مستقلة، وهذا أمر بديهي لا

يختلف فيه عاقلان، فالعرب أمة من أقدم أمم الأرض وأعرقها في الاستقلال، ذات

مجد عظيم، ومدنية عالية في التاريخ القديم والحديث، ولغة ممتازة في لغات العلم

والأدب، وشريعة هي أعدل الشرائع المنزلة للبشر، وقد ضعفت هذه الأمة الكريمة،

وضعفت مزاياها ولغتها، وأُهمل معظم شريعتها، وكادت تفنى بفنائها، كل ذلك

لعدم وجود دولة مستقلة لها؛ إذ يستحيل أن ترتقي أمة بغير دولة.

إن السواد الأعظم من العرب يَدينون دين الإسلام واللغة العربية هي لغة هذا

الدين، فلا تصح لمسلم عبادة بغير هذه اللغة، فبالدولة العربية تحيا لغة القرآن،

وتحيا بحياتها شريعة الإسلام. فمن البديهي إذًا أن يكون الخير كل الخير للمسلمين

في هذه الدولة إذا وُجدت، وإن عقلاء المسلمين من غير العرب يعلمون هذا،

ولكنهم يرونه الآن متعذرًا أو متعسرًا، ويخشون كما كان يخشى مسلمو العرب أن

يكون السعي له مفضيًا إلى إضعاف الدولة العثمانية التي لم يبق للمسلمين دولة

غيرها، فيكون مثل الساعين كمثل مَن له دار تكنه، فهدمها ليبني خيرًا منها،

فعجز عن البناء وأمسى في العراء معرضًا لما يجني على حياته! ، ولكن جمعية

الأغرار المغرورين (جمعية الاتحاد والترقي) ما زالت تهدم من آمال العرب في

بقاء الدولة، وفي كون بقائها خيرًا للإسلام والمسلمين، حتى دعتهم بل دعَّتهم [1]

إلى طلب الإصلاح في الجملة، ثم إلى طلب اللامركزية، ثم إلى استقلال الحجاز،

ولا يعلم غير الله ما تكون عاقبة ذلك؛ لأن العالم كله في طور تغيُّر وانقلاب

مجهول، ولكن المعلوم قطعًا أن ما حصل في بلاد العرب هو نتيجة طبيعية لسيرة

الاتحاديين، لم يكن في استطاعة أحد دفعه كما يعلم مما يأتي.

وأما غير المسلمين من العرب فهم الآن كالمسلمين ليس لهم دولة؛ ولأن

يكون لأبناء جنسهم دولة خير لهم من أن يكونوا تابعين لدولة أعجمية، لا

يشاركونها في النسب ولا في اللغة ولا في العادات والتقاليد ولا في الوطن

الجغرافي [2] ولا في الدين، ولا لدولة أعجمية، يشاركها بعضهم في الدين والمذهب

أو في الدين دون المذهب دون سائر مقومات الأمم ومشخصاتها، وهم يعلمون أن

الدين أو المذهب لا يحملها على جعْلهم مساوين لأبناء جنسها ووطنها، وإن كانوا

من غير أبناء دينها ومذهبها، ولا يضرهم أن تكون العربية في هذه الدولة الأغلبية

للمسلمين من أبناء جنسهم، فإن أفراد البشر وجمعياتهم يتآلفون ويتعاونون على

مصالحهم بكثرة ما يشتركون فيه من مقومات الأمم ومشخصاتها، وما يشترك فيه

المسلمون وغيرهم من العرب من المقومات والمشخصات كاللغة والعادات والآداب

والمصالح والمرافق الوطنية أكثر مما يشترك فيه غير المسلمين من العرب مع

الإفرنج الموافقين لهم في الدين، بله الترك المخالفين لهم حتى في الدين، ودين

الإسلام دين مساواة في الحقوق وحرية تامة في العقائد. وقد ارتقى غير المسلمين في

أرقى دول العرب الإسلامية مدنية إلى أعلى المناصب، حتى كان وزراؤهم

وأطباؤهم يزاحمون الخلفاء العباسيين بالمناكب، وإذا كان لغير المسلمين أغلبية في

بقعة من البلاد العربية كجبل لبنان - فإنه يمكنهم أن يكونوا مستقلين مع ارتباطهم

واتحادهم بالمملكة العربية فيها استقلالاً إداريًّا واسعًا خيرًا من الاستقلال الذي نالوه

منذ نصف قرن.

لو نهض زعماء العرب إلى السعي للاستقلال لما تعذر عليهم إرضاء

اللبنانيين منهم بذلك، وإزالة جميع ما في البلاد من أسباب الخلاف. ولو تعذر

عليهم إرضاء اللبنانيين في أوائل العهد بالسعي لَما كان ذلك موجبًا لتركه واليأس

منه. ولا أطيل في بيان هذا وكشف غواشي الأوهام عنه؛ لأنه يخرج بي عن

المقصد من هذا المقال، وأكتفي منه بتذكير الملمّ بتاريخ سورية الحديث بتلك

الحركة العربية التي حدثت في سورية أيام كان مدحت باشا زعيم الترك الأكبر واليًا

عليها؛ فإنهم يتذكرون أن اللبنانيين كانوا في طليعة العاملين، وبرهاننا على هذا

قصيدتا اليازجي البائية والسينية.

لأجل هذا كان سكون العرب العثمانيين وسكوتهم في الأجيال الأخيرة - التي

تحركت فيها عصبيات الأجناس وهبت لطلب الاستقلال - مثارًا لعجب مَن لم

يعرف سبب ذلك السكون من العقلاء.

* * *

(اتهام الترك للعرب)

كان الترك يتهمون العرب بالميل إلى الاستقلال دونهم والسعي لذلك، وأنه لا

يمنعهم منه إلا ضعفهم وعجزهم أمام قوة الترك. وقد ذكرت في مقالات (العرب

والترك) التي كتبتها في الآستانة ونشرتها في جرائدها ثم في المنار أنني لا أعرف

لهذه التهمة أصلاً إلا ما كان من افتراء جواسيس السلطان عبد الحميد وطلاب

المنافع عنده أو استغلال أوهامه، بل أقول: إن هذه التهمة لم تكن معقولة في عهد

السلطان عبد الحميد؛ لأن النهوض بأمر الاستقلال إما أن يكون من جانب الأمة بما

تتوسل به إليه من الجمعيات السياسية والعصابات المسلحة، ولم تتصدَّ الأمة

العربية لذلك ألبتة، وإما أن يكون من جانب الأمراء المستقلين بالإدارة في بعض

الأقطار أو من دونهم من الزعماء أصحاب العصبية، ولم نعلم أن أحدًا من أمراء

جزيرة العرب أو من الزعماء في الولايات العربية العثمانية - كان مظنة أو موضعًا

لهذه التهمة؛ إذ لا توجد شبهة يُعتمد عليها في ذلك. إلا أن المفسدين كانوا يتهمون

خديو مصر عباس حلمي باشا بذلك، فكان يُسمع لهم؛ لأن مصر بلاد عربية غنية

بالمال والرجال، وقد تصدى رأس حكومتها الأخيرة محمد علي باشا لحرب الدولة

العثمانية، فقهرها واستولى على سورية والحجاز وتوغل في الأناضول ولولا الدولة

الإنكليزية لاستولى على سائر مملكتها، ولكن عباس حلمي باشا لم يكن ليطمع بمثل

ما طمع به جده الأعلى، بل ولا بمثل ما كان يطمع به جده الأدنى (إسماعيل باشا)

من الاستقلال السياسي بمصر والسودان فقط لمكان الاحتلال الإنكليزي، الذي

جعل السلطة الفعلية في مصر بيد إنكلترة دونه؛ ولهذا كان الموسوسون والجواسيس

يزعمون أنه على اتفاق مع الإنكليز في هذا الأمر، وكان كثير من المصريين

وغيرهم يصدق ذلك، ومنهم من لم يرجع عن هذا التصديق إلا بعد نشر كتاب

(عباس حلمي الثاني) للورد كرومر؛ إذ صرح فيه بأن حياة عباس مع الاحتلال

كانت حياة خلاف وشقاق لا يُرجى معه اتفاق.

إن المطلعين على الحقائق يعلمون علم اليقين أن عباس حلمي باشا ما كان

يسعى لهذا الأمر ولا يرجوه، على أنه كان يعلم أنه لا سبيل له إليه لو تصدى له،

ويعلمون أن من سياسة إنكلترة التقليدية بقاء ما للترك من السلطان والسيادة على

بلاد العرب، وترجيح ذلك على تأسيس دولة عربية جديدة، وهي لم تجنح إلى

سياسة العطف على العرب وإظهار الميل لمساعدتهم على الاستقلال إلا بعد وقوع

الحرب بينها وبين الترك بمدة طويلة.

أما أمراء جزيرة العرب فقد كان كل منهم راضيًا بحاله ولم يكن يخطر ببال

أحد منهم أن يعتدي على الدولة فيما وراء حدود إمارته ولا أن يسعى لذلك بالاتحاد

مع غيره، كما أنه لم يكن يسهل على أحد منهم أن تعتدي الدولة على استقلاله أو

تُحْدث في بلاده حدثًا ما لِما استقر في أنفسهم من غريزة الاستقلال الموروثة في

الأمة العربية، مع عدم ثقة أحد منهم بأن الدولة تقيم شرع الله في بلادهم، على أن

للزيدية دولة أقدم من الدولة العثمانية مازالت تُنَصِّب الأئمة من قريش عليها

ويعتقدون أن الترك من البغاة الخوارج على الإمام الحق، وأهون اعتقاد سائر

عرب الجزيرة في حكام الترك - أنهم ظلمة فسقة مبغضون للعرب، ولكنهم مع ذلك

يحبون بقاء الدولة ويتمنون لها القوة والعظمة لأجل صد الإفرنج عن البلاد

الإسلامية. وقد كان رجال الدولة في العهد الأخير يعتقدون أن الشيخ مبارك الصباح

من أشد العرب عداوة للدولة، ولكنني لما لقيته سنة 1330 منصرفي من الهند

أخبرني بما لقيه من عدوان الدولة عليه، وتصديقها لنفيه من الكويت، وأن إنكلترة

منعتها من ذلك بدون طلب منه، وأنه مع ذلك محافظ على نسبته إليها ورافع لعلمها

باختياره، ولو شاء لاستبدل به غيره، ومن كلامه في الترك والعرب: (نحبهم ولا

يحبوننا) .

وأما كبراء العرب في ولايات سورية والعراق من العلماء والوجهاء فقد

كانوا أشد تعصبًا للترك من الترك أنفسهم، حتى كانوا يفضلونهم على العرب

ويسترون ما يعرفون من سيئاتهم، ويكبّرون الصغير من حسناتهم، بل يذكرون لهم

فضائل ومناقب لا يُعرف لها أصل، منها أنهم يعدون بعض ملوكهم من الأولياء،

ومؤرخو الترك يعدونهم من الفساق! . ومما كانوا يذيعونه بين العامة أن الشيخ

محيي الدين بن العربي والشيخ عبد الغني النابلسي قد علما بالكشف أن ملكهم

يبقى إلى قيام الساعة!

تلك حال كبراء البلاد وخاصتها والعامة تبع لهم، لم يُسمع لأحد منهم نبأة

ظاهرة ولا دعوة خفية إلى عداوة الترك أو القيام عليهم أو الاستعداد لتأسيس حكومة

عربية تستقل في البلاد، اللهم إلا ما كان قد قيل من أن شيعة الماسون كانت تسعى

لجعل الأمير عبد القادر خديويًا لسورية، وما قيل في عهد ولاية مدحت باشا على

سورية من أنه كان هو الذي يسعى لجمع كلمة المسلمين وغيرهم للاتفاق على

تأسيس إمارة عربية في سورية كالإمارة المصرية يكون هو الخديو عليها، ومن أن

رستم باشا متصرف لبنان الأجنبي الأصل كان هو الذي كشف للدولة دسيسة شيخ

أحرار الترك وزعيمهم الأكبر، وترتب على ذلك إخراج السلطان عبد الحميد

لمدحت باشا من سورية، وقيل إن تلك الحركة كانت مدبرة بدسائس الآستانة

ليتوسل السلطان بها إلى نفي مدحت باشا، ثم الفتك به. وفي تلك الأثناء نُشرت

قصيدتا الشيخ إبراهيم اليازجي السينية والبائية (راجع ص831، م12) .

ولما كنت أنشر في الآستانة مقالات (العرب والترك) وأشرت فيها إلى هذه

المسألة جرى بيني وبين الصدر الأعظم حسين حلمي باشا حديث في هذا الموضوع،

قال لي في أثنائه: إنه أقام في سورية عدة سنين أيقن في أثنائها بأنه لا يوجد فيها

أحد من وجهاء المسلمين يكره الدولة إلا بعض الأفراد من بيت المؤيد ومن بيت

الصلح، وسائر الوجهاء مخلصون للدولة كغيرهم. ولا أدري مَن عنى بقوله ذاك.

ولم أعلم عن أحد من المعاصرين لنا من أهل هذين البيتين شيئًا يبين المراد لنا من

قوله، إلا أن أحد أفراد البيت الأول كان قد جاء مصر في أوائل عهد مجيئي إليها،

وأسس جمعية دينية يشترط في أعضائها ترك المحرمات والمحافظة على أداء

الفرائض وقد ساعدته على ذلك ولم أكن أسمع منه كلمة تُشعر بأن له غرضًا سياسيًّا

منها وقد أفادت الجمعية فائدة دينية ظاهرة، ثم انشق عنها عضو مصري تركي

الأصل زاعمًا أن للمؤسس غرضًا سياسيًّا منها، وتبعه على هذا جماعة من

أعضائها في القاهرة صاروا يلغطون بذلك. ثم إن المؤسس سافر إلى الآستانة ثم

عاد إلى سورية وأقام فيها. ولو صدّق السلطانُ عبد الحميد أنه كان يسعى إلى ذلك

الغرض السياسي لما أفلت من قبضة انتقامه. وإنما اتهمه بعض الناس بأنه تعمد

إلقاء كلام لأولئك اللاغطين ليشتهر ويوصله الجواسيس إلى السلطان.

هذا كل ما نعلم عن سورية في هذا الأمر. وأما العراق فقد قيل: إن السيد

سلمان القادري نقيب بغداد كان يسعى إلى تأسيس حكومة عربية، وإن طلب السلطان

عبد الحميد في الآستانة قتلاً بالسم كعادة الملوك لم يطعم في القصر السلطاني ولا عند

أحد في الآستانة شربة ماء ولا فنجان قوة ولا غير ذلك، وكان يعتذر بأنه مريض لا

يذوق شيئًا إلا بأمر طبيبه الخاص، ولكن اشتهر أن السلطان أكرم مثواه وقلده نوطًا

ذهبيًا كتب عليه (شيخنا سلمان) وأعاده إلى بغداد عزيزًا كريمًا، ومما

كان يقال في ذلك الوقت أن للسيد سلمان أعداء، سعوا به إلى السلطان؛ وسمعت

والدي رحمه الله تعالى يقول: كان السيد سلمان ذا نفوذ عظيم في قبائل العراق وكان

يوجد مئة ألف مسلح بالمرتين منهم طوع أمره، وأنه بلغه أن سبب نجاته من

فتك السلطان عبد الحميد أن بعض العقلاء من كبراء الآستانة قالوا أن من مصلحة

المسلمين أن يدخر مثل هذا الزعيم لأنه قد يحتاج إليه إذا طرأ على الدولة ما تخشى

عاقبته على بلاد العراق أو ما هو أعظم من ذلك، فلهذه الفكرة أقنعوا السلطان

بوجوب تكريمه (أو تلطيفه كما يقولون) وإعادته إلى بلاده. ولا أدري من أين

وصل إلى والدي هذا الخبر وكنت إذ سمعته منه صغيرًا لا أحفل بالبحث عن أمثال

هذه المسائل.

* * *

(تعاون جمعيات الترك والعرب)

هذا ما يصح أن يذكر من تاريخ هذه المسألة ولا نعلم وراءه شيئًا إلا ما كان

يكتبه في بعض الجرائد والمنشورات، من يقصدون استغلال وسوسة السلطان عبد

الحميد كما تقدم. ولكن أهل الرأي وحملة الأقلام من العرب لم يقصروا في التعاون

مع أمثالهم من الترك على السعي لإصلاح حال الدولة والقضاء على الاستبداد

الحميدي، فلما أسس شبان الترك جمعية الاتحاد والترقي ونشروها في الولايات

دخل فيها كثيرون من شبان العرب وكانت شعبها في سورية أعظم منها في غيرها،

وأسس بعض العرب جمعية أخرى كجمعية الاتحاد بعد ضعف شأن هذه في مصر

وسورية وهي جمعية الشورى العثمانية وأدخلوا في لجنتها المركزية أشهر رجال

الاتحاديين الذين كانوا في مصر وغيرهم من العثمانيين. فكان هَمّ طلاب الإصلاح

من العرب في عهد عبد الحميد هو همّ طلاب الإصلاح من الترك وكانوا يشتغلون

متعاونين والمواصلات بين جمعياتهم لا تنقطع ولا سيما جمعية الاتحاد والترقي في

أوربة وجميعة الشورى العثمانية بمصر، ظلوا على ذلك إلى أن ظفروا بإعادة

الدستور فظن العرب كما ظن غيرهم من الأجناس الذين تتألف منهم المملكة

العثمانية أنهم فازوا بما جاهدوا في سبيله إلى أن قلب لهم المتغلبون على جمعية

الاتحاد - وعلى الدولة - ظَهْر المِجَن، وأوقعوهم في هوة اليأس من

الدولة.

* * *

(السبب الصحيح)

تبين مما شرحناه من الحقائق أن عدم تصدي العرب لإنشاء دولة جديدة لم

يكن سببه الخوف من قوة الدولة كما كان يتوهم الترك؛ فإن العرب أقوى من

اليونان والبلغار وغيرهما من الشعوب التي انفصلت من السلطنة العثمانية،

وصارت دولاً مستقلة، ولم يكن سببه تفرق العرب وتعذر اتفاق أمرائهم وزعمائهم

كما يتوهم الكثيرون منهم ومن غيرهم، فلو وجد هذا القصد لكان هو الجامع لهم،

ولا الجهل الضارب بجرانه في البلاد العربية؛ فإن محمد علي الكبير لما غزا

الدولة وكاد يفتحها كلها لم يكن من علماء السياسة والاجتماع، ولم يكن الشعب

المصري على درجة عالية من العلوم والفنون التي تدفع الشعوب إلى الفتح

والاستعمار.

وإنما كان السبب الصحيح لسكون العرب وسكوتهم عن طلب استقلالهم

وتجديد دولة لهم هو الإسلام وأوربة.

دين الإسلام وسياسة دول أوروبة سببان مستقلان أو سبب واحد مركب،

لكل من جزئيه تأثير خاص في صرف العرب العثمانيين عن السعي للاستقلال،

ولعله لو انفرد أي منهما لما صرفهم كلهم عن كل سعي واستعداد لذلك.

أما الإسلام فقد أزال من أنفس العرب عصبية الجنسية إلا مَن غلبت عليهم

البداوة فإنهم بما توارثوه من الغرائز والأخلاق - لا يخضعون إلا لسلطة رؤسائهم

الذين من أبناء جنسهم، بل من رؤساء عشائرهم. وأما من غلبت عليهم الحضارة

فما زالوا يألفون سلطة الأعاجم من الملوك والسلاطين الذين يتولون أمرهم من قِبَل

الخلفاء العباسيين، ويحكمون بشريعتهم، ويؤيدون لغتهم، ويتركون لغاتهم إليها،

إلى أن هان عليهم الخضوع لسلطة الأعاجم المصرّين على أعجميتهم، الذين لا

يستمدون سلطتهم من خليفة قرشي عربي وهم الترك، بل هان عليهم ادعاء هؤلاء

الأعاجم للخلافة النبوية ورضوا بذلك واطمأنوا له؛ لأنه مع إشرافه على مجموعهم

المتفرق من شاهق القوة العسكرية - قد أطل على قلوبهم من سماء الفتاوى الشرعية،

وتسرب إلى أفكارهم من باب المصلحة الإسلامية؛ ذلك بأن أكثرهم من المنتمين

إلى مذاهب علماء السنة، الذين يوجبون طاعة المتغلب بالقوة، وإن لم يكن حائزًا

لغير الإسلام من شروط الخلافة الشرعية، ومنها النسب القرشي بإجماعهم،

ومستندهم في ذلك رعاية المصلحة الراجحة، وخوف الفتنة. على أنهم مختلفون

في عدّ رعاية المصلحة حجة، أو داخلة فيما ذكروه للقياس من مسالك العلة،

ومختلفون في سد الذرائع أيضًا. ولما كانت الزيدية لا تقول بطاعة المتغلبين، ولا

بمصلحة تبيح ترك اشتراط النسب القرشي العلوي وشرط العلم الديني في أئمة

المسلمين (أي الخلفاء) لم يخضعوا لسلطان الترك، ولا دانوا لحكمهم، بل ظلوا

ينصّبون الأئمة الحائزين للشروط الشرعية في مذهبهم، ويقاتلون الترك الذين

يتصدون لفتح بلادهم، ولم تستطع الترك أن تغلب أئمة اليمن على أمرهم، بل

صالحوا إمامهم الإمام يحيى منذ سنين قليلة، وأقروه على إمامته في قومه ووطنه

بعد أن حاربوه، وحاربوا سلفه أربع مائة سنة، على أن الإمامة لا تتجزأ ولا تتعدد

والحق أن الباعث الأخير لاعتراف أكثر المسلمين بخلافة سلاطين الترك - هو

كوْنهم أمسوا حصنًا لبقية البلاد الإسلامية في وجه أوربة.

وليس من غرضنا هنا أن نبحث في الخلافة وشروطها، وإنما بحْثنا هذا

تاريخي إذا ذكرت فيه مسألة شرعية، فإنما تُذكر على سبيل الاستطراد مختصرة

بقدر الضرورة، ولم تكن مسألة الخلافة من مواضع بحث طلاب الإصلاح من

العرب في السنين الأخيرة خلافًا لأوهام الواهمين التي أثارها في مخيلاتهم لغط

بعض الكُتاب بها في عهد السلطان عبد الحميد لأجل استغلال وساوسه كما تقدم،

حتى صارت حكومته تمنع نشر كل كتاب من كتب الكلام والعقائد والحديث

والتفسير تذكر فيه هذه المسألة. ومن أثر ذلك أنه لما طبع كتاب المسايرة لكمال بن

الهمام، وهو من أهم كتب العقائد عند الحنفية وكثير الرواج في الآستانة، اضطر

طابعه بمصر أن يطبع منه نسخًا، حذف منها بحث الإمامة (الخلافة) لأجل بيعها

في الآستانة وسائر البلاد العثمانية. وصار بعض الجاهلين في مصر يظن أن ذكر

الشروط الشرعية للخلافة - ولا سيما شرط النسب القرشي - لا يصدر إلا من عدو

للدولة وللإسلام أيضًا. على أن هذا الشرط مذكور في الكتب العربية والتركية التي

طُبعت في الآستانة قبل تشديد الحكومة الحميدية في مراقبة المطبوعات وقد ذكر في

بعض الكتب العصرية التي طبعت بعد الدستور، ومنها كتاب لإسماعيل حقي بك

بابان الاتحادي الذي كان مدرسًا في مكتب الحقوق، وصار ناظرًا للمعارف.

* * *

(تكوين الترك للعصبية العربية)

فهذا وجه صدّ الإسلام للعرب عن محاولة الاستقلال دون الترك، وقد قلت

مرارًا: إنه لا يقدر أحد على إعادة هذه العصبية إلى العرب أو إعادتهم إليها بعد أن

أبعدهم الإسلام عنها - إلا الآستانة، أو تحامل الترك عليهم بباعث العصبية

التركية [3] . وقد صدق الزمان هذا القول وأسس الاتحاديون - بعصبيتهم التركية

واضطهادهم للعرب - بناء العصبية العربية أو أحيوها بعد موتها. فإن هؤلاء

الاتحاديين قد تمرسوا برجالات العرب وشبانهم في الآستانة وغيرها، فعلموا من

أقوالهم وأفعالهم في دُور الحكومة الرسمية ومدارسها وأندية الجمعية في البلاد

العربية أن عزمهم على تتريك العرب كغيرهم بالقوة عزم ثابت لا يرجعون عنه،

وأنهم جازمون بسهولة تتريك بلاد سورية والعراق في سنين معدودة، وما يعسر

تتريكه الآن من جزيرة العرب يعد من المستعمرات، يوضع له قانون خاص

لإدارته، ولا يكون لأهله ما لسائر العثمانيين من الحقوق المنصوصة في القانون

الأساسي. وقد أرسلوا طائفة من طلبة الترك إلى أوربة لأجل درس قوانين

الاستعمار.

بهذا علم نبهاء العرب أن أمتهم ولغتهم عرضة للزوال من المملكة العثمانية -

ولا يجهل أحد أن الدين الإسلامي يقوى بقوة لغته العربية ويضعف بضعفها ولا

نقول أكثر من ذلك - فتوجهت قلوب كثير منهم لتدارك الخطب وألفوا بعض

الجمعيات لذلك ورأى الذين يتحرون هدي الإسلام في أعمالهم أن ما كان مانعًا من

إحياء الجنسية العربية قد زال وخلفه المقتضي لإحيائها، فقد كان المانع من ذلك

اتقاء الشقاق بين العرب والترك وإفضاء ذلك إلى زوال الدولة واستيلاء الأجانب

على بلادها، وقد وقع ذلك من قِبَل الاتحاديين أي من قبل الدولة نفسها؛ لأنها في

قبضتهم فلا معنى لاتقائه وقد حصل، وخلفه المقتضي لإحياء هذه الجنسية، وهو

وجوب المحافظة على اللغة العربية والأمة العربية شرعًا. ولكن هذا قد يحصل بما

دون استقلال العرب بأنفسهم دون الترك، وإن كان حصولاً ضعيفًا، فلم يكن باعثًا

على السعي إلى تأليف دولة عربية بل إلى طلب إصلاح اضطرب في تحديده

أفرادُهم وجماعاتهم وكان حزب اللامركزية أقصدها وأشدها اعتدالاً.

وما كان يخفى على أحد من هؤلاء أن مطالبهم معلقة بين الرجاء واليأس،

وأن الحياة إنما هي حياة الاستقلال، لا تحيا اللغة ولا ترتقي الأمم بدونها، ولكن

دونها خَرْط القتاد؛ إذ لا تحصل إلا بثورة يصطدم بها الترك والعرب اصطدامًا

يُخشى أن يُضعف الفريقين، وينتهي بزوال الدولة واقتسام أوربة لبلادهما. ومن ذا

الذي يُقدم على حمل هذه التبعة الثقيلة التي تئطُّ من حملها الجبال الرواسي؟

أيجهل أحد من طلاب الإصلاح العرب أن هدم آخر سلطنة إسلامية - مهما يكن

سببه الحامل عليه - لا يعقب الساعي إليه والقائم به إلا لعْن مئات الملايين من

المسلمين إلى يوم الدين؟

لهذا أجمع طلاب الإصلاح من العرب الذين يعتد برأيهم، ويرجى تأثير

عملهم - على أن لا يكونوا سببًا لسقوط الدولة وزوالها. ولا يسعوا إلى ضررها

ولا إلى إضعافها، وعلى أن يجعلوا همّهم في إصلاح أنفسهم وعمارة بلادهم، مع

النصح للدولة والإخلاص لها، وطلب حقوقهم التي أثبتها لهم القانون الأساسي فيها،

ليرتقوا ويعتزوا بأنفسهم، فلا يسقطوا مع الدولة إن سقطت وتعتز الدولة وترتقي

بارتقائهم إن بقيت، وأن يكون جلّ سعيهم إلى ذلك في مجلس الأمة بواسطة

مبعوثهم.

ثم طرأ على بعضهم اليأس من بقاء الدولة وقوي ذلك وكثر التفكر في عواقبه

عندما غلب البلقانيون الدولة في الحرب، وكادت دولة البلغار التي تم لها استقلالها

في عهد الدستور تستولي على الآستانة، وتحدثت جرائد أوربة بحقوق بعض الدول

الكبرى في بلاد الدولة وخص بالذكر بعض الولايات العربية، وطفق المفكرون

يناجي بعضهم بعضًا: ما حيلتنا إذا أقدمت دولة قوية على الاستيلاء على بلادنا،

كما استولت إيطالية على طرابلس وبرقة وليس فيها شيء من أسباب الدفاع ولا

يمكن الدولة ولا مصر أن تساعدها على مقاومة كما ساعدتهما.

صدعهم هذا اليأس بعد أن قوي رجاؤهم في الدولة بانتصار حزب الحرية

والائتلاف على حزب الاتحاد والترقي وانتزاعه السلطةَ التنفيذيةَ من يده، ثم قوي

ذلك اليأس واشتد بثورة الاتحاديين على وزارة كامل باشا وقتلهم لناظر الحربية في

الباب العالي وتأليف وزارة جديدة منهم بقوة الثورة، ولولا أن زعماء العرب كانوا

مجمعين على المحافظة على الدولة مهما تكن حالها - لبادروا عند ذلك اليأس الشديد

إلى إضرام تار الثورة على الدولة والجهر بالاستقلال دونها، لعلمهم بأنه لم يبق

عندها في ذلك الوقت سلاح ولا ذخيرة تدافع بهما عن عاصمتها، فكيف تقدر على

تجريد عسكر يخمد نيران الثورة في البلاد البعيدة عنها؟ ! ، ولكنهم لم يفعلوا، ولم

يكن الإسلام هو المانع لهم من التصدي لتأسيس دولة عربية وهم يائسون من بقاء

الدولة التركية ومن إقامتها للإسلام إن بقيت والاتحاديون غالبون على أمرها، فإن

إفتاء مذاهبهم بوجوب طاعة المتغلب خوف الفتنة التي ترجح مفسدتها على

المصلحة لم يعد ينطبق على حالتهم مع الدولة، ولكن المانع الحقيقي هو الخوف من

أوربة أن تغتنم الفرصة وتستولي على البلاد.

فتبين بهذا أن ما كان يصد زعماء العرب من المسلمين عن التصدي لتأسيس

دولة عربية أمران: الإسلام والخوف من أوربة، وكان الرجحان في بعض

الأحوال للأول وفي بعضها للثاني، ولكنهما كانا في عامة الأحوال والأوقات مانعًا

واحدًا أو سببًا واحدًا مركبًا من أمرين كل منهما يقوي الآخر.

وبعد حرب البلقان أقدمت الحكومة الاتحادية على عقد الاتفاق بينها وبين

الدول الكبرى على الاعتراف لهن بالنفوذ الاقتصادي في أعظم الولايات العربية

ليقرضنها عشرات الملايين من الجنيهات، وصرح بعض كبار السياسيين في جرائد

أوربة بأن مناطق النفوذ الاقتصادي تتحول إلى مناطق نفوذ سياسي عند سنوح أول

فرصة لذلك، فثبت عند زعماء العرب أن الاتحاديين شرعوا في تنفيذ ما هددوهم

به من بيع بلادهم وترقية الترك بثمنها، كما فعلوا ببيع طرابلس الغرب وبرقة،

فاشتدت عزيمتهم على طلب الإصلاح وعقدوا المؤتمر العربي في باريس لذلك؛

فذعرت الحكومة الاتحادية، ولجأت إلى الحيلة والخداع لضعفها في ذلك الوقت،

وكان من أمر نتيجة المؤتمر ما هو معلوم من اعتراف جمعية الاتحاد ثم حكومتها

ببعض حقوق العرب في الدولة ووعدها بإعطائهم تلك الحقوق بالتدريج وخداعها

للسيد عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر وتصديقه إياها بما وعدت به.

* * *

(الحرب الأوربية واستقلال الحجاز)

ثم ظهرت بوادر الحرب الأوروبية وعزم الدولة على الدخول فيها

فبادرت إلى كتابة مقالة نصحت فيها لإخواني العرب بالكف عن طلب

الإصلاح في حال الحرب، وتأييد دولتهم بالإجماع، فكان لها تأثير عظيم.

ولكن الاتحاديين لما دخلوا في الحرب، وجعلوا الأحكام في المملكة

عسكرية عرفية - جعلوا ذلك وسيلة للتنكيل بالعرب والأرمن حسب خطتهم

المقررة منذ سنين، فصلبوا في سورية جميع مَن عرفوا من المطالبين

بالإصلاح من نابغي العرب، ونفوا من البلاد أرباب البيوتات والثروة الكبيرة،

وصادروا أموال الناس، وغلات أرضهم، وفعلوا مثل ذلك في العراق، ثم

تحرشوا بالحجاز، فبادر الشريف أمير مكة المكرمة إلى إعلان استقلال

الحجاز بعد النصح لجمال باشا الحاكم العسكري الاتحادي المطلق في سورية

ولحكومة الآستانة - بالكف عن الفظائع في سورية والعراق، فلم يقبل نصحه،

وانتهى أمر الشريف باعتراف دول الحلفاء باستقلاله التام، وبما بايعه به

أهل البلاد من جعْله ملكًا عليهم.

وقد نشر الشريف قبل المبايعة منشورًا بيَّن فيه سبب قيامه مع

الحجازيين بما قاموا به، ففهمنا منه أنه كان موافقًا لما أجمع عليه مَن دونه

من زعماء العرب من الرغبة في المحافظة على بقاء الدولة، واتقاء أن يكون

زوالها أو ضعفها من قِبَل العرب، فإن استقلال الحجاز - الذي أنتجته

الضرورات - لا يمكن أن يكون سببًا لزوال الدولة، وهي داخلة في أحد

الحلفين اللذين انقسمت إليهما دولة أوربة الكبرى؛ فإن النصر لأحد الحلفين على

الآخر إنما يكون بانتصاره عليه في أوربة، واستقلال الحجاز لا يقدم في ذلك،

ولا يؤخر، ولكنه أفاد العرب فوائد عظيمة، فصدق عليه قولنا: إما أن ينفع

نفعًا كبيرًا أو صغيرًا، وإما أن لا يضر.

وقد ثبت عندنا أن استقلال الحجاز كان سببًا لكف الاتحاديين عن

محاولة إبادة العرب من سورية والعراق الآن، وتخفيف ما كانوا شرعوا فيه

من المذابح والفظائع، وكان هذا من أجلّ منافعه التي تربي على ما ترتب عليه من

سفك الدم الذي اجتهدت الحكومة العربية الحجازية في اجتنابه بقدر الطاقة.

* * *

(عاقبة العرب استقلال الشعوب)

ثم طرأ بعد استقلال الحجاز أن أعلن دول الأحلاف أنهن قد اتفقن على

حرية الشعوب واستقلالها في أمر حكومتها، وذكروا العرب والأرمن منها،

وهذه قاعدة عادلة عظيمة الشأن إذا نُفذت على وجهها الصحيح، وكانت الدول

كلها متضامنة في حفظها بما يتعاهدن عليه في مؤتمر الصلح، وأوَّلها بعضهم

بمعنى أن لا يحكم شعب إلا بالطريقة التي يختارها لنفسه، ولكن الوقوف على

آراء الشعوب المغلوبة على حريتها متعذر في هذه الأوقات التي تخضع فيها

للأحكام العسكرية، وقد علمنا ممن فر من سورية والعراق إلى مصر والحجاز

ومن أسرهم بمصر أن العداء بين العرب والترك قد عمَّ وتمكن، فلا مطمع في

زواله. ولم يبق في العرب مَن لا يرغب في الاستقلال دون الترك، ومن

البديهي أنه لا يوجد شعب في الدنيا يختار على الحرية والاستقلال شيئًا إذا

تيسر له، ولكن يوجد في كل أمة أفراد من عبيد المال، ومن الجاهلين الذين

يُخدعون بزُخرُف الأقوال، فيمكن أن يُستخدم من هؤلاء وأولئك بالترغيب

والترهيب طائفة تقول ما تؤمر أن تقوله، ولا يمكن أن يكون اختيار هؤلاء

للعبودية بتسميتها بغير اسمها حجة على الشعب، ولكن القوة تحتج على

الضعف بما تشاء، وإنما يُعرف رأي الشعوب في بلاد الحضارة من قِبَل

أحزابها السياسية، وليس للشعب العربي العثماني حزب سياسي عام إلا

(حزب اللامركزية) ، ويمكنه أن يبين رأي الشعب إن استطاع زعماؤه

أن يعربوا عن آرائهم، وله جمعيات موضعية خاصة كجمعية الاتحاد

اللبناني بمصر وأمريكة والنهضة اللبنانية في أمريكة، فهي تمثل آراء

جمهور اللبنانيين. والدول إذا أخلصت في تنفيذ هذه القاعدة تقررها،

وعندما يجتمع زعماء كل أمة تنال استقلالاً جديدًا لتأسيس حكومتها العليا

يعرف رأيهم في شكلها، ولا يعرف معرفة صحيحة بغير ذلك. فإذا انتهت

الحرب بذلك كانت عاقبتها على البشر خير العواقب. والله الموفق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

دعَّتهم بتشديد العين: دفعتهم بعنف.

(2)

هذا الوصف احتراز من الوطن السياسي.

(3)

أذكر أنني كتبت هذا غير مرة في المنار ولكنني لا أتذكر من مواضعها إلا ما في ص 252 و253 من المجلد الثالث عشر والعبارة فيه تدل على أنها مسبوقة، وإلا ما في ص80 من المجلد التاسع عشر.

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة استقلال الشعوب

نشر (المقطم) في العدد الذي صدر منه في 23 شعبان (13 يونيو) مقالة

عنوانها: (الصلح الدائم وكيف يُنال؟) قال فيها ما نصه:

وضعت روسية الديمقراطية على بساط البحث مسألة الغرض من الحرب

الحاضرة في أواسط الشهر الماضي، فحملت الدول المتحاربة على إعلان قصدها

وغايتها، وحثت الأمم الكبيرة والصغيرة على بسط آمالها وأمانيها، وكانت روسية

أولى الدول التي أعلنت غايتها من الحرب، فقالت: إنها لا تتوخى ضم الأملاك

وتقاضي الغرامات الحربية، وإن غرضها الأساسي الوحيد إنما هو إبرام صلح

وطيد الأركان على أساس استقلال الأمم الكبيرة والصغيرة وتحقيق آمالها القومية

العادلة وتخويلها حقًّا من أقدس حقوقها وهو أن تحكم نفسها بنفسها وتختار شكل

الحكومة التي تلائم أخلاقها وعاداتها. وقام المسيو ريبو بعد ذلك، فأعلن رغبة

فرنسة في إبرام صلح عادل أساسه استقلال العناصر. ثم وقف في مجلس النواب

الفرنسوي وقفته التاريخية المشهورة، فجاهر في جلسة 4 يونيو الحالي بأن فرنسا

لا ترمي من هذه الحرب إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين اللتين سُلختا عنها

سنة 1871، رغم إرادة سكانهما، ومنح الأمم الكبيرة والصغيرة الاستقلال التام.

ووافقت بريطانيا العظمى على قرار حليفتيها العظيمتين إذا كان مبدأ عدم ضم

الأملاك، وتقاضي الغرامات الحربية يعني رد المسلوب والتعويض من الخسارة

التي نزلت بالأمم التي اعتُدِي عليها.

وقد وافانا روتر أمس بنص المذكرة الكبيرة الشأن التي أرسلها الدكتور ولسن

رئيس الولايات المتحدة إلى روسية وبيَّن فيها أغراض أميركا من هذه الحرب،

فقال:

(إنها لا تروم الربح المادي ولا التوسع ولا تقاتل لجرّ مغنم، ولكن لتحرير

الشعوب في كل مكان، ومساعدتها على النهوض والارتقاء في ظل الاستقلال من

غير تسلط متسلط عليها، وإن المشاكل الحاضرة يجب أن تسوَّى طِبقًا لمبدأ واضح

جلي، وهو أنه لا يصح إجبار شعب من الشعوب على أن يعيش في ظل حكم لا

يريده، ولا إجراء تعديل في الكون إلا فيما يؤدي إلى توطيد أركان السلام وسعادة

الأمم، فيصير إخاء البشر حينئذ حقيقة واضحة وقوة فعالة لصون الحياة من اعتداء

المستبدين وطمع الطامعين) .

هذه غاية الولايات المتحدة من الحرب، وذلك هو الغرض الوحيد الذي

وضعه الحلفاء كلهم نصب عيونهم، وأعلنوا غير مرة عزمهم الأكيد على الوصول

إليه مهما كلفهم الأمر، وبديهي أن الولايات المتحدة لم تخُض غمار الحرب

الحاضرة إلا بعد ما اتفقت مع الحلفاء على تحقيق هذا المبدأ الشريف العادل، فإن

المسيو بريان رئيس الوزارة الفرنسوية سابقًا أرسل إليها - باسم الحلفاء جميعهم -

مذكرة مسهبة في 3 ديسمبر الماضي، قال فيها: إن للحرب الحاضرة ثلاثة

أغراض:

أولها: إعطاء الأمم الكبيرة والصغيرة حريتها واستقلالها.

وثانيها: نيل التعويض من الخَسارة التي نشأت عن اعتداء ألمانية الفظيع.

وثالثها: الحصول على ضمان وافٍ لمنع وقوع الحرب في المستقبل.

على هذا الأساس تم الاتفاق بين الحلفاء والولايات المتحدة، ومن أجل هذه

الغاية الشريفة فقط بذلت أمريكة رفاهية شعبها، والأموال الطائلة التي كانت تنهال

عليها من أوربة. فالمجد لها والفخر لرئيسها العظيم نصير الإنسانية وحامل لواء

الحرية والعدل في العالم. اهـ.

* * *

وجاء في (المقطم) الذي صدر في 24 شعبان (14 يونيو) ما نصه:

خطة روسية

دعا وزير خارجية روسية مندوبي الصحف إلى مقابلته، وبسط لهم خطة

روسية الحاضرة، وقال ما خلاصته:

ترمي روسية الجديدة الحرة إلى إبرام الصلح العام في أقرب آن على أساس

تحرير الأمم وتخويلها حقَّ انتقاء شكل حكوماتها وعدم ضم الأملاك وتقاضي

الغرامات الحربية من الأعداء، وهي تتوخى من مواصلة الحرب أمرين:

أولهما: الحصول على صلح شريف يزيل الضغائن والأحقاد من بين الأمم

المتحاربة.

وثانيهما: استقلال الشعوب استقلالاً تامًّا وجعْلها قوة عظيمة لصون الحرية

ومنع اعتداء المعتدين في المستقبل.

إن الخطأ الذي ارتكب في حرب السبعين لا يجوز أن نرتكب مثله اليوم،

فسكان الإلزاس واللورين الذين سُلخوا عن فرنسا - رغم إرادتهم - لم ينسوا وطنهم

الأصلي إلى الآن، وكانت مسألتهم من أسباب الحرب الحاضرة؛ لأن الظلم لا يُنسى

مهما تقادم عهده؛ لذلك ترى روسية الحرة أن تشيد الصلح المقبل على أساس العدل

وحرية الشعوب الكبيرة والصغيرة.

لا أنكر أن الحكم السابق ارتبط بمعاهدات سرية مع بعض الدول، وأن هذه

المعاهدات أقلقت الديموقراطيين الروس لاعتقادهم بأنها ترمي إلى التوسع وضم

الأملاك، فألحّوا على الحكومة المؤقتة في نشرها في الحال خوفًا من وقوع الشقاق

بين أحزاب الأمة، ولكن هذا الطلب لا يتفق مع مصلحة روسية؛ لأنه يؤدي إلى

قطع صِلاتها بحلفائها وإكراهها على إبرام صلح منفرد، مع علمها أن الصلح

الوحيد الذي يلائم مبادئها هو الصلح العام على أساس استقلال الأمم الكبيرة

والصغيرة استقلالاً تامًا، فالواجب على روسيا في هذه الحال أن تنسى الماضي،

وتنظر إلى المستقبل فقط بعد الانقلابات العظيمة التي طرأت على الكون كالثورة

الروسية، ودخول الجمهورية الأميركية العظمى في الحرب. وهذه الانقلابات

ستؤثر أعظم تأثير في ديمقراطية الأمم المتحالفة، ولا سيما أن صِلاتها بممثلي تلك

الديمقراطية على أحسن ما يُرام. وبديهي أن مهمتي الأساسية في وزارة الخارجية

هي التوفيق بين الديمقراطية الروسية وديمقراطية الأمم الغربية على أساس يكفل

السلم للعالم. ولكن تحقيق هذه المهمة يتعذر علينا إذا أحجمنا عن القيام بالعهود التي

قطعناها لحلفائنا.

أما مسألة ضم الأملاك فلا تخطر على بال أحد منا، وليست المعارك التي

تخوض غمارها الآن إلا معارك دفاعية ترمي إلى طرد العدو من البلاد التي احتلها

في روسية والبلجيك وفرنسة وسربية ورومانية ونيل الأمم الكبيرة والصغيرة

حريتها واستقلالها.

هذا كل ما أستطيع أن أقول الآن عن غرض روسية، والخطة التي تنهجها

لتحقيق آمالها وأمانيها. انتهى.

* * *

وجاء في (المقطم) الذي صدر في يوم السبت 18 رجب (19 مايو) :

غرض بريطانية العظمى من الحرب

لندن في 17 مايو

إن الخطبة التي خطبها اللورد روبرت سسل في مجلس النواب في الليلة

البارحة تعد هنا - وفي سائر بلدان الحلفاء - من أهم ما قيل في بيان غرض

بريطانية العظمى من الحرب.

فتح المستر سنودن باب المناقشة وردّ اللورد روبرت سسل عليه، فقال: إن

عبارة (عدم الضم) راجت كثيرًا وتناقلتها الأفواه. ثم شرع بطرق أبواب هذا

الموضوع بابًا فبابًا، واستهل البحث بذكر بلاد العرب، فقال: ليس في الدنيا رجل

يشير علينا بأن نبذل نفوذنا لرد بلاد العرب إلى تحت سلطة الأتراك (هُتاف) ، ثم

إن أعظم ضم لأرمينية بأوسع معنى السيادة والإمبراطورية - يفيد شعبها الذي عانى

الويلات والنكبات بما اقترفه الأتراك به من الجرائم، وما يقال عن أرمينية يقال

مثله عن سورية وفلسطين.

ثم انتقل إلى الكلام عن مستعمرات ألمانية في إفريقية، فقال: إننا لم نهجم

على تلك المستعمرات لننقذ أهلها الأصليين من سوء الحكم، ولكن أتريدون أن

نعيدهم إلى ألمانية بعد ما أنقذناهم منها؟ ! ، فهتف المجلس له هتافًا شديدًا لما قال:

إن بدني يقشعرُّ إذا فكرنا في رد أولئك الوطنيين إلى حكم الحكومة التي ارتكبت بهم

ضروب القسوة.

وماذا أقول عن بولندا وهل فيكم مَن يعترض على إنشاء مملكة بولندية

مستقلة. وماذا أقول عن الإلزاس واللورين وهل مَن يقول (؟) إن ألمانية بعدما

أخذت ولايتين من فرنسة لا يجب أن تردهما إليها (هتاف) . وعندنا أيضًا

الولايات الإيطالية الداخلة في حكم النمسا، فهل توافق الحكومة البريطانية على عدم

رد هذه الولايات إلى إيطالية وسكانها من الإيطاليين.

ثم طرق اللورد روبرت بابًا آخر من أبواب الموضوع، وأشار إلى عبارة

(عدم عقد الصلح مع آل هوهنزلرن) ، فقال إن في هذه العبارة كثيرًا مما

يُستصوب، وهي مقبولة عند عامة البريطانيين، ولكن الفطنة قد تقتضي بعدم

اتخاذها قاعدة لتعريف سياستنا الوطنية.

قال: وقد سمعنا البعض يقولون: (لا غرامة حربية) فهل يراد أن لا

تعطَى البلجيك غرامة؟ وماذا يكون نصيب سربيا وولايات فرنسة الشمالية؟

وهل يسعنا أن نغضي عن تعويض ما دُمر من البواخر التجارية؟ أما أنا فلست

مستعدًّا للموافقة على ذلك.

وعقبه المستر إسكويث، فخطب خطبة كان لها وقع عظيم فقال: إن عبارة

(عدم الضم) التي وردت في بعض التصريحات الروسية - لم تُفهم تمامًا لعدم

وجود معجم وافٍ للغةِ السياسة الدولية، ولكني لا أعتقد أن زعماء روسية وحكامها

المسئولين استعملوها بغير المعنى الذي نسلم به نحن.

ولكن لضم البلدان أربعة معانٍ مختلفة يمكن استعمالها لها:

(فالمعنى الأول) أن هذه الحرب إذا أريد أن تؤدي إلى صلح وطيد الأركان

فيجب أن تسفر عن ضم بعض البلدان لتحرير الشعوب الراسفة في قيود الظلم

وأغلال الاستبداد (هتاف) ، وهذا أمر مشروع، وإلا فإن الأغراض التي امتشقنا

لأجلها الحُسام في هذه الحرب لا تُنال أو يُنال جانب منها فقط إلا إذا قام الحلفاء حق

القيام بعمل هذا التحرير بضم البلدان (هتاف)، قال: وإني واثق أن رجال

حكومة روسية الجديدة لا يحتجون على ضم البلدان إذا كان هذا هو الغرض منه.

(والمعنى الثاني) يسري على البلدان التي تحوي جنسيات فُصلت عن

أصولها، مثال ذلك بلاد الترنتينو فضمها إلى إيطالية ضروري لراحة ضمير العالم

المتمدن (هتاف) .

ثالثًا (كذا) أن الضم قد يكون من الأمور المطلوبة لنقل ملك أو أرض لأجل

الاحتفاظ بمواقع حربية تكون ضرورية لا للهجوم بل للدفاع، ووقاية البلاد من

هجوم في المستقبل.

ويبقى (الوجه الرابع) أي الضم بمعنى فتح البلدان للتوسع والتبسط للسؤدد

السياسي بالربح الاقتصادي، وهذا أمر لا يلقى شيئًا من التأييد في البرلمان

البريطاني ولا في بريطانية العظمى ولا بين حلفائها (هتاف) .

ومتى جلونا هذا الإبهام فهل يبقى خلاف بيننا وبين أصدقائنا ديمقراطِيِّي

روسية على القواعد العامة التي يجب مراعاتها في الكلام عن الصلح؟ !

أما أنا فلا أعتقد بوجود شيء من الفرق (اسمعوا اسمعوا) - روتر.

* * *

وجاء في المقطم الذي صدر في 21 رمضان (10 يوليو) ما نصه:

غاية الحلفاء من الحرب

رد فرنسة وإنكلترة على المذكرة الروسية

أرسلت الحكومة الروسية المؤقتة في شهر أبريل الماضي مذكرة خطيرة

الشأن إلى دول الحلفاء، بسطت فيها غايتها من الحرب، وألحت عليهم في إعلان

أغراضهم الحقيقية منها. وقد نشرنا المذكرة الروسية في حينه، ورأينا الآن أن

نوافي القراء برد فرنسة وإنكلترة عليها لما فيه من الدلالة على حسن نيات الحلفاء

وسمو مبادئهم نبل مقاصدهم، وهو الجواب الذي وصل إلى بتروغراد في أواخر

شهر يونيو الماضي. قالت فرنسة في مذكرتها:

(جواب فرنسة عن مذكرة روسية)

اطلعت حكومة الجمهورية الفرنسوية بارتياح عظيم على المذكرة التي سلمها

إليها سفير روسية في باريس باسم الحكومة المؤقتة، وشاركتها في الثقة التامة بكل

ما يتعلق بتحسين موارد روسية الاقتصادية وزيادة قوتها الحربية أو السياسية ثم

رأت أن تعلن ما يأتي:

إن فرنسة لم تفكر في استعباد شعب من الشعوب حتى أعدائها الحاليين،

ولكنها تريد أن يزول الخطر الذي يهدد العالم وأن يُعاقَب المجرمون الذين أضرموا

نار هذه الحرب الهائلة، وكانوا عارًا على أعدائنا أنفسهم، وهي تترك لأعدائها

عواطف الطمع التي امتازوا بها في الحرب والسلم، ولا تطلب من البلاد إلا ما هو

لها شرعًا.

لقد ذهبت مساعيها السلمية أدراج الرياح، واضطرت إلى امتشاق الحسام

دفاعًا عن حريتها واستقلالها ورغبة في إكراه العدو على احترام استقلال الأمم،

فكما أن روسية أعلنت إحياء مملكة بولندة القديمة المستقبلة، هكذا فرنسة تحيي

بسرور عظيم كل المساعي الحرة التي تبذلها الأمم المستعبَدة.

ولا ترمي فرنسة في هذه الحرب إلا إلى غاية واحدة وهي انتصار الحق

والعدل، سواء قامت الأمم لإعلان استقلالها ووحدتها وإعادة سالف مجدها ومدنيتها،

أو لخلع نير العبودية عن عاتقها، وهو النير الذي كان يهدد جميع الأمم التي لم

تبلغ منزلة الجرمان من الارتقاء الظاهري.

ولا تطلب فرنسة لنفسها إلا تحرير الولايتين الفرنسويتين اللتين سلختا عنها

بالقوة وهما الإلزاس واللورين ولكنها تحارب مع حلفائها إلى النصر الذي يعيد إليهم

حقوقهم واستقلالهم السياسي والاقتصادي ويعيضهم من الخسارة التي نزلت بهم

ويكفل لهم منع كل اعتداء يقع عليهم في المستقبل.

وتعتقد حكومة الجمهورية اعتقادًا تامًّا كاعتقاد الأمة الروسية أن هذه المبادئ

العادلة هي المبادئ الوحيدة التي يجب أن يضعها الخلق نصب عيونهم لإبرام صلح

دائم على أساس العدل والحق.

فعلى الحكومة المؤقتة أن تثق ثقة تامة بمبادئ الحكومة الفرنسوية وتعلم أنها

مستعدة للاتفاق معها ليس فقط على التدابير اللازمة لمواصلة الحرب، بل على

طرق الانتهاء منها أيضًا بشكل يتفق مع الغاية التي خُضنا غمار الحرب من أجلها

انتهى.

قرار مجلس نواب فرنسا

ثم شفعت الحكومة الفرنسوية هذه المذكرة بالقرار الخطير الشأن الذي أصدره

مجلس نواب فرنسة في جلسته التاريخية في 5 يونيو، ونقلته إلينا التلغرافات

الخصوصية والعمومية في حينه [المنار وهذه ترجمته:]

باريس في 5 يونيو

هذا نص قرار الثقة بالحكومة الذي وضعه مجلس النواب الفرنسوي:

إن مجلس النواب الذي يعبر رأسًا عن سلطة الشعب الفرنسوي يرسل إلى

الديمقراطية الروسية وسائر ديمقراطيات الحلفاء التحية والسلام.

إن مجلس النواب يؤيد الاحتجاج الإجماعي الذي قدمه مندوبو الإلزاس

واللورين المسلوختين عن فرنسة إلى الجمعية الوطنية في سنة 1871، ويجاهر

بأنه ينتظر أن هذه الحرب التي أكرهت ألمانية المحبة للفتح سائر بلدان أوربة على

خوض غمارها لا تؤدي إلى تحرير الولايات التي اكتسحها الألمان فقط، بل إلى رد

الإلزاس واللورين إلى وطنهما الأصلي، وتعويض فرنسة مما أصابها من الضرر

والخسارة.

إن مجلس نواب فرنسة لا يفكر في فتح البلدان وإخضاع شعوب أخرى ولكنه

ينتظر أن يؤدي جهاد جيوش الجمهورية الفرنسوية وجيوش حلفائها إلى سحق

الروح العسكري البروسي والحصول على ضمان وطيد لاستقلال الشعوب الكبيرة

والشعوب الصغيرة.

والمجلس واثق بأن الحكومة تكفل إحراز هذه النتائج بالتعاون العسكري

والسياسي مع حلفائنا - روتر.

* * *

(جواب إنكلترة عن مذكرة روسية)

وأرسلت الحكومة البريطانية المذكرة التالية إلى حكومة روسيا وهي:

تلقت الحكومة البريطانية المذكرة التي سلمها إليها معتمد روسية في لندن وتضمنت

أغراض روسية من الحرب الحاضرة.

وقد ورد في المنشور الذي أُعلن على الشعب الروسي، ووصل إلينا مع

المذكرة أن روسية لا تتوخَّى سيادة الأمم الأخرى والاعتداء على أملاكها القومية

واحتلال بلادها بالقوة، فالحكومة البريطانية تشارك الحكومة المؤقتة في مبادئها

وتعلن أنها لم تخض غمار الحرب من أجل التوسع والفتح وإنما خاضت غمارها في

بدء الأمر دفاعًا عن كِيانها ورغبة في إكراه المعتدين على احترام المعاهدات الدولية،

أما الآن فقد صار لها غاية أخرى وهي تحرير الأمم التي تئن من جور الاستبداد

الأجنبي.

وقد قابلت الحكومة البريطانية بسرور عظيم عزم روسية على تحرير بولندا

التي تحت حكمتها الأتقراطية الروسية، وبولندا التي تئن من جور الاستبعاد

الجرماني، فالديمقراطية البريطانية تحيي روسية وتتمنى لها النجاح في هذه المهمة

من صميم فؤادها.

ويهمنا قبل كل شيء أن نجد طريقة حسنة لحل المشاكل الحاضرة حلاً يكفل

للأمم سعادتها وهناءها ويستأصل جراثيم الحروب المقبلة من العالم.

والحكومة البريطانية تنضم إلى حلفائها الروسيين من صميم فؤادها وتقبل

معهم المبادئ السامية التي أعلنها الرئيس ولسن في خطبته الشهيرة في مجلس الأمة

الأميركية.

وتعتقد الحكومة البريطانية أن الاتفاقات التي أبرمتها مع حلفائها في الماضي

لا تناقض هذه المبادئ، ومع ذلك فإنها تقبل أن تعيد النظر فيها إذا شاءت الحكومة

الروسية ذلك، وأن تعدل بعض موادها إذا اقتضت الحال؛ انتهى.

* * *

وجاء في المقطم الذي صدر في 18 رمضان (7 يوليو) :

الحلفاء واستقلال الأمم

أرسلت الحكومة الروسية مذكرة إلى دول الحلفاء بسطت فيها غايتها الحقيقية

من الحرب وطلبت منهم أن تعرف الغاية التي يتوخَّوْنها هم أيضًا، فأجابتها فرنسة

بمذكرة طويلة، قالت فيها: إنها لا ترمي إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين ومنح

الأمم الكبيرة والصغيرة استقلالها التام، ثم شفعت هذه المذكرة بالقرار الذي أصدره

مجلس نواب فرنسا في 5 يونيو الماضي.

وقالت إنكلترة في ردها على المذكرة الروسية إنها خاضت غمار هذه الحرب

دفاعًا عن كيانها ورغبة في إكراه الآخرين على احترام المعاهدات الدولية. أما اليوم

فصارت ترمي إلى غاية ثالثة وهي تحرير الأمم التي تئن من جور الاستعباد

الأجنبي، فإنكلترا في هذه الحال توافق على المباديء السامية التي جاهر بها

الدكتور ولسن وأعلنتها الدمقراطية الروسية، وهي مستعدة لإعادة النظر في

المعاهدات التي أبرمتها مع روسية وسائر حلفائها.

وقد قابلت الصحف الروسية هاتين المذكرتين بارتياح عظيم إذا استثنينا

الصحف الثورية والمتطرفة والداعية إلى الصلح. فقالت جريدة نوفو فريميا ما

خلاصته:

لا يمكننا أن نزيد حرفًا واحدًا على جواب الحلفاء عن مذكرتنا؛ فهو في غاية

الوضوح في ما يتعلق بخطة الفتح الذي يتهمهم أعداؤنا بها.

وقد أعلن حلفاؤنا غايتهم الحقيقية من الحرب، فإذا هي غاية روسيا وغاية

أميركا حليفتنا الجديدة. انتهى.

وقالت (البورص غازت) إن جواب الحلفاء أرضى روسية الديمقراطية

وأكد لها أن ديمقراطيات العالم كله متفقة على الدفاع عن استقلال الأمم وسحق

الاستبداد البروسي.

* * *

استقلال ألبانيا

رومية في 4 يونيو - صدر منشور في أرجيرو كاسترو يوم 3 يونيو

باستقلال ألبانيا وتوحيدها كلها تحت حماية إيطاليا - روتر.

رومية في 4 يونيو

هذا بعض نص المنشور بإعلان الحماية الإيطالية على ألبانيا وهو بإمضاء

الجنرال فريرو:

أيها الألبانيون، إنكم بهذا القرار سيصير لكم معاهد حرة، وجنود ومحاكم

ومدارس، يديرها أبناء قومكم، ويتيسر لكم أن تديروا أملاككم، وتجنوا ثمرة تعبكم

لأنفسكم، ولزيادة خير بلادكم وإسعادها.

أيها الألبانيون، إنكم أينما كنتم سواء في بلادكم الحرة الآن أو فارين في

سواها من البلدان أو كنتم خاضعين لحكم أجنبي يمتنّ عليكم بالمواعيد الكثيرة ولكنه

في الحقيقة يسلبكم ويعاملكم بالشدة - أنتم سُلالة جنس عريق نبيل، تربطكم عدة

قرون من التقاليد القديمة بحضارة رومية والبندقية. إنكم لا تجهلون اشتراك

المصلحة بين الإيطاليين والألبانيين في البحار التي تفصل بيننا والتي وحدت بيننا

أيضًا، إنكم لحسنو النية واليقين، تعتقدون بحسن مصير وطنكم المحبوب، فأنتم

تقفون الآن في ظل راية إيطاليا وألبانيا، وتحلفون يمين الإخلاص الأبدي لألبانيا

المستقلة التي تنادي بها اليوم باسم إيطاليا وتتمتعون بصداقة إيطاليا.

وقد تُلِيَ هذا المنشور على جمهور كبير من ألبانيي أرجيرو كسترو، فقابلوه

بالحماسة ونُشر في سواها من الجهات التي تحت إدارة الإيطاليين، وألقى الطيارون

نسخًا منه في البلاد الواقعة وراء فوجوزا - روتر.

* * *

(المنار)

هذا، وإن البرقيات العامة نقلت إلينا أن روسية الحرة لم تعترف بهذا

الاستقلال، بل صرحت بأن مؤتمر الصلح هو الذي يفصل في أمرها.

ومن تأمل أجوبة الحلفاء كلها رأى أن جواب فرنسة أبعدها عن مظان التأويل

وأقربها إلى مقصد المذكرة الروسية، ولما كان المعهود في السياسة أن يكون لكل

كلام ظاهر وباطن، وأن يكون ظاهره محتملاً للتأويل - كتب أحد كُتاب فرنسة

الأحرار (المسيو أولار) مقالة في الموضوع الذي نبحث فيه، لخصتها جريدة

(المقطم) في العدد الذي صدر منها يوم الجمعة 13 يوليو (24 رمضان) بما يأتي:

غرض فرنسا من الحرب

من مقالة للمسيو أولار

أنشأ المسيو أولار الكاتب الفرنسوي الشهير مقالة شائقة في جريدة (البايي)

(الوطن) الباريسية، بسط فيها غاية فرنسة من الحرب والأغراض الحقيقية التي

ترمي إليها. والمسيو أولار من أعظم الكتاب الفرنسويين وأشدهم تأثيرًا في الرأي

العام وأكثرهم خبرة بشؤون الشرق الأدنى، ولا سيما سورية التي زارها لآخر مرة

سنة 1907، وأسس فيها مدرسة بيروت العلمانية ومدرسة دمشق للبنات، وهو

أستاذ التاريخ في جامعة السوربون وصاحب المؤلَّفات العديدة عن الثورة الفرنسوية،

ومن زعماء الماسون والرئيس الأكبر لجمعيات التعليم العلماني في فرنسا؛ لذلك

رأينا أن نلخص مقالته للقراء لما فيها من الدلالة على أغراض الأمة الفرنسوية من

هذه الحرب وسمو مبادئها ونبل مقاصدها ورغبتها الأكيدة في مواصلة الحرب إلى

النصر قال:

خاضت الولايات المتحدة غمار الحرب ودخلت الثورة الروسية في دور جديد

في الأسابيع الأخيرة فأحدث ذلك تأثيرًا عظيمًا في العالم، ظهرت نتائجه الأولى في

انقشاع الغيوم المتلبدة في جو سياسة الحلفاء.

وقد وقعت هذه الأيام حوادث سياسية لها مغزى عظيم واضح، فأعلن المسيو

ريبو رئيس الوزراء الفرنسوية في مجلس النواب - بعد اتفاقه مع الحكومات

المتحالفة -: إنه لا يمكن أن تكون لنا خطة سرية غير الخطة الصريحة التي

يعرفها العالم كله وإن في التلاعب بالوجدان الوطني خطرًا عظيمًا يؤدي إلى أعظم

النكبات، فالمسيو ريبو أنس من نفسه هذه الجرأة الأدبية التي حملته على هذا

التصريح الخطير الشأن بعد ما أبدت الديمقراطيتان الأميركية والروسية آراءهما في

الأمر وأعربتا عن عدم رضائهما عن السياسة السرية.

وهذا، وإننا نرى من جهة أخرى أن الجنود الفرنسويين الذين يقاسون

ضروب الشقاء ويريقون دماءهم الزكية في الخنادق دفاعًا عن الوطن العزيز -

يريدون أن يعلموا الغاية الحقيقية التي يقاسون الشقاء ويقتحمون الأخطار للوصول

إليها. لا مشاحة في أنهم يعلمون أن غرضهم الوحيد من الحرب الحاضرة طرد

العدو من البلاد التي اجتاحها، وتحرير العناصر من ربقة الاستعباد، ولكنهم

يخشون أن تكون هنالك سياسة سرية وراءها مقاصد فتح ومطامع استعمار تحت

ستار العدل والحق، وأن يتخذ ذلك حجة لتحقيق الأحلام القديمة التي منشأها الغرور

وغاياتها استعباد الأمم.

إن الفرنسويين قاطبة يحاربون إلى النهاية من أجل فرنسا والإلزاس

واللورين ويريقون آخر نقطة من دمهم لإنقاذ البلجيك التاعسة من مخالب العدو،

ولكنهم لا يقبلون بوجه من الوجوه أن تكون غايتهم من الحرب فتح آسيا الصغرى

وتحقيق مشروع استعماري بعيد تخفيه الحكومات. اهـ.

* * *

(المنار)

إن الذكي الفطِن يفهم من هذا التلخيص ما وراءه، فعسى أن تنتهي هذه

الحرب بما يحبه - مثلنا - هذا الكاتب الحر بتحقيق آمال المستضعفين وتحرير

الشعوب أجمعين.

* * *

الترك والعرب.. وهل يكونان كالنمسة والمجر؟

نشر (المقطم) في 5 شوال مقالة أرسلها إليه إبراهيم أفندي النجار من

باريس شرح فيها ما أحدثته الثورة الروسية ودخول الولايات المتحدة في الحرب -

من الروح الجديدة في سياسة العالم وأشار فيها إلى ما بين قاعدة أحرار الروس

ومرامي الرئيس ولسون وبين تنفيذ فكرتهما من العقبات وذكر تأثير ذلك في الدولة

العثمانية، فقال ما نصه:

(وقد اتصل بي هذين اليومين خبر كبير الأهمية إذا صدقت الرواية وصدق

راويها وهو أن هذه الفكرة التي سبقت الإشارة إليها مشت شرقًا ووقفت في فروق

الآستانة) ، ففكر أصحاب الحل والعقد فيها في إنشاء السلطنة العثمانية على

الأساس الثنائي من الترك والعرب، كما قامت إمبراطورية النمسا على أساس سلطة

النمسويين والمجريين. وإن الحكومة شارعة في تعديل القانون الأساسي على هذا

المبدأ. قرأت هذا الخبر الذي رواه لي مخبري في سويسرا ووقفت عنده وقفة

الحائر في نقضه وتصديقه.الأول لأنه لا ينطبق على سياسة غلاة الترك

العنصرية، والله أعلم بما أعرف من خبايا نياتهم وبما يضمرون. والثاني لأن

القوم ضاقوا ذرعًا في هذه الحرب وعلموا أن عاقبتها ستكون وبالاً عليهم وأن

نهايتها ستكون على حسابهم وعرفوا مبادئ الثورة الروسية والرئيس ولسن كما

عرفنا الخاص والعام، وسمعوا آراء رجال الحل والعقد في برلين وفَّينا في

النصح لهم بالتخفيف من غلوائهم، فرأوا من الحكمة أن يفعلوا مختارين ما تحملهم

القوة القاهرة على قبوله وإقراره، والذي يعلم كيف أعلن مدحت باشا القانون

الأساسي الأول يوم كان سفراء الدول المجتمعين في الطوبخانة في الآستانة

لتبادل الرأي في كيفية حمل الدولة على الإصلاح - يعرف مسالك الترك في هذه

المآزق، ويتبين له وجه الشبه التام بين اليوم والبارحة؛ لهذا السبب ملت إلى

تصديق الرواية، وإن كنت لا أجزم بصحتها. اهـ.

_________

ص: 48

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المجمع اللغوي المصري [*]

لقد تم تأليف هذا المجمع في دار الكتب السلطانية، وهذا هو القانون الذي

وضعه لبيان أعماله اللغوية وأنظمته الداخلية.

عملاً بالمادة الثانية من القانون المتضمنة تأليف لجان لوضع مصطلح كل

علم أو فن - قد قرر المجمع في جلسته المنعقدة يوم أول يونيو سنة 1917 تأليف

اللجان الآتية، وألفت فعلاً، وهذه هي أسماؤها:

1-

لجنة الجغرافيا والتاريخ والآثار والملابس والأواني والملاحة والتجارة.

2-

لجنة الطب والعلوم الطبيعية عدا علم النبات.

3-

لجنة المنطق والفلسفة والعلوم الاجتماعية.

4-

لجنة الفقه والقانون.

5-

لجنة العلوم الرياضية والفنون الجميلة والصناعة والزراعة وعلم النبات.

6-

لجنة اصطلاحات الدواوين.

أما أعضاء المجمع فهم الآتية أسماؤهم، وقد رُتِّبت بحسب الترتيب الأبجدي

بالحروف الأولى فيها:

حضرة صاحب الفضيلة الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رئيس

المجمع وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وكيل

وحضرات أحمد لطفي السيد بك مدير دار الكتب السلطانية كاتب السر، والسيد

محمد الببلاوي وكيل دار الكتب مساعد كاتب السر، وحضرات الشيخ أحمد إبراهيم

والشيخ أحمد الإسكندري وأحمد برادة بك وأحمد تيمور بك وصاحب السعادة أحمد

زكي باشا وأحمد سليمان بك والدكتور أحمد عيسى بك وأحمد كمال بك وإسماعيل

رأفت بك وحفني ناصف بك وعبد الحميد فتحي بك وعبد الحميد مصطفى بك

وصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة وعثمان فهمي بك والدكتور فارس نمر

ومحمد أمين واصف بك والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محمد شريف سليم ومحمد

عاطف بركات بك والشيخ مصطفى العناني والدكتور يعقوب صروف، وهذه

صورة قانون المجمع:

الفصل الأول

في غرض المجمع

المادة الأولى: غرض هذا المجمع خدمة اللغة العربية وخصوصًا وضع معجم

وافٍ بحاجة الزمن، شامل اصطلاحات العلوم والفنون والصناعات.

المادة الثانية: يكلف المجمع لجانًا أو أفرادًا جمع مصطلح كل علم أو فن

وإعداده ولكل لجنة أو فرد أن يطلب من المجمع أن يدعو إلى الانضمام إليه من

يرى دعوته من الاختصاصيين ويعرض ما تم من ذلك على المجمع لبحثه وتقرير

ما يراه وإذا تم جزء صالح للنشر جاز نشره على حدة قبل إتمام المعجم.

المادة الثالثة: للمجمع أن يزيد في اللغة للضرورة ويراعي في الزيادة دفع

الحرج.

المادة الرابعة: يستبدل بالكلمة العامية أو الأعجمية التي لم تُعرَّب من قبلُ

غيرها من الألفاظ العربية الموضوعة للدلالة على معناها فإذا لم يهتدِ المجمع إلى

كلمة عربية وضع كلمة عربية للدلالة عليها أو أقر الكلمة العامية أو عرَّب الكلمة

الأعجمية مع مراعاة المادة الثالثة.

المادة الخامسة: يكون وضع الكلمات بطريق المجاز والاشتقاق أو النحت أو

غير ذلك مما يقع إجماع على منعه ويفضل الأخذ من الكلمات المهجورة تقليلاً

لاشتراك المستعمل.

المادة السادسة: تُذكر الكلمات من المعجم بمعانيها القديمة ويضاف إليها

استعمالها في المعاني الجديدة التي يقرها المجمع، وينبّه على ما كان من وضع

المجمع.

* * *

الفصل الثاني

في أعضاء المجمع

المادة السابعة: يؤلف المجمع من ثمانية وعشرين عضوًا، منهم ثلاثة

يعرف أحدهم اللغة العبرية، والثاني الفارسية، والثالث السريانية زيادة على معرفة

كل منهم للغة العربية.

المادة الثامنة: متى خلا مركز أحد الأعضاء فلكل عضوين أن يرشحا خلفًا

وتعرض أسماء المرشحين ثم يدور عليهم الانتخاب على حسب المادة الثالثة عشرة

ويشترط في قبول المرشح أن ينال انتخاب ثلثي الأعضاء الحاضرين على الأقل.

المادة التاسعة: للمجمع أن ينتخب أعضاء مراسلين بالطريقة التي ينتخب بها

الأعضاء ويكون لهم حضور الجلسات وليس لهم أصوات في القرارات.

المادة العاشرة: مَن أعان المجمع من أعضائه المراسلين أو غيرهم إعانة

لغوية يُعتدّ بها ذُكر اسمه في ثبت واضعي المعجم.

* * *

الفصل الثالث

في إدارة أعمال المجمع

المادة الحادية عشرة: تقوم بالأعمال الإدارية للمجمع لجنة مؤلفة من الرئيس

والوكيل وكاتب السر ومساعده.

المادة الثانية عشرة: يُنتخب أعضاء اللجنة من بين أعضاء المجمع لمدة

سنة، ويجوز إعادة انتخابهم.

المادة الثالثة عشرة: يكون الانتخاب بالاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة

للأعضاء الحاضرين في جمعية عمومية، يحضرها ثلثا الأعضاء على الأقل، فإن

لم يحضر ثلثا الأعضاء تم الانتخاب في الجلسة التالية مهما كان عدد الأعضاء فيها.

المادة الرابعة عشرة: يدير الرئيس أعمال المجمع ويدعو لجانه ويقدم إليها

موضوعات البحث ويهيمن على تنفيذ قرارات المجمع. وهو عضو بالقانون في كل

لجنة من لجان المجمع يشترك مع أيها شاء.

المادة الخامسة عشرة: يقوم الوكيل مقام الرئيس عند غيابه في كل ما له من

الحقوق وما عليه من الواجبات.

المادة السادسة عشرة: على كاتب السر ومساعده تحرير محاضر الجلسات

وتسجيلها في سجل خاص بعد التصديق عليها، وهما مكلفان بمراسلات المجمع

وحفظ أوراقه ونشر أعماله التي يتقرر نشرها.

* * *

الفصل الرابع

في نظام الجلسات

المادة السابعة عشرة: ينعقد المجمع مرتين في كل شهر على الأقل ويجتمع

فوق العادة بناءً على طلب يكتبه خمسة من أعضائه أو بناءً على طلب الرئيس.

المادة الثامنة عشرة: يعين المجمع في شهر أكتوبر من كل سنة الأيام التي

ينعقد فيها كل شهر إلى نهاية شهر مايو.

المادة التاسعة عشرة: إذا لم يستطع أحد الأعضاء حضور جلسة وجب أن

يعتذر وتتلى الاعتذارات عند افتتاح الجلسة.

المادة العشرون: كل عضو غاب أكثر من ست جلسات متواليات من غير

عذر يقبله المجمع يعتبر مستقيلاً ويستبدل به غيره بالانتخاب.

المادة الواحد والعشرون: في غير الأحوال المنصوص عليها يكون الاجتماع

صحيحًا متى حضره ربع الأعضاء.

المادة الثانية والعشرون: للمجمع أن يستعين باختصاصين يدعوهم لحضور

جلساته عند النظر في البحوث المتعلقة بمعارفهم الخاصة

المادة الثالثة والعشرون: تعقد الجلسات برئاسة الرئيس أو الوكيل عند غيابه

وإذا غاب كلاهما انعقدت الجلسة برئاسة أكبر الحاضرين سنًا.

المادة الرابعة والعشرون: في غير الأحوال المنصوصة في القانون تكون

قرارات المجمع بالأغلبية النسبية.

المادة الخامسة والعشرون: للمجمع أن يعيد المناقشة في قرار سابق إذا طلب

ذلك ثمانية من الأعضاء.

المادة السادسة والعشرون: لا يجوز تغيير مادة من هذا القانون إلا بطلب

مكتوب يقدمه خمسة من الأعضاء، مبينة فيه أسباب التغيير يُقرأ في المجمع، ثم

ينظر في جلسة تالية ولا يكون التغيير صحيحًا إلا إذا اتفق عليه سبعة عشر عضوًا.

المادة السابعة والعشرون: كل خلاف يقع في تفسير مادة من مواد القانون

يعرض على المجمع لتقرير ما يُتَّبع في ذلك.

* * *

(تنبيه)

مقالة المسألة العربية كُتبت في العام الماضي، وأشير إليها في تقريظ

جريدة (القبلة) ، ج6، 190، الذي صدر في 30 المحرم سنة 1335 ثم

حذف منها، وزدنا في آخرها ذكر (استقلال الشعوب) .

_________

(*) هذا ما نشره كاتب سر المجمع في الصحف، وقد بيَّن المنار سبب تأليف هذا المجمع في المجلد 19.

ص: 61