الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة العشرين للمنار
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله تعالى وأشكر له توفيقه وتأييده، حمدًا يوافي نعمه وشكرًا يكافئ
مزيده، وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، ورحمته العامة المرسلة وحجته
القائمة على خلقه، محمد النبي الأمي العربي الذي بعث في الأميين؛ ليعلمهم
الكتاب والحكمة ويجعلهم الأئمة الوارثين، ويُصلح بهم فساد الأمم والشعوب
المتعلمين وغير المتعلمين، وعلى عترته آل بيته الطاهرين، وأصحابه الذين
نشروا دعوته بين العالمين، وعلى التابعين لهم في هدايتهم وهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد دخل المنار في العام العشرين، داعيًا إلى الاعتصام بحبل الله
المتين، والاهتداء بنوره المبين، والاستمساك بسنة رسوله الأمين، والسير على
منهج السلف الصالحين، مبينًا أن الخير كل الخير في اتباع مَن سلف، وأن الشر
كل الشر في ابتداع مَن خلف؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين فلا يقبل زيادة كمال،
فالزيادة فيه كالنقص منه خزي وضلال، وإنما الناقص الذي يحتاج دائمًا إلى
الإكمال والإصلاح، ما كان من أوضاع البشر عرضة للنقص والفساد، مثبتًا أن
ضعف الشعوب الإسلامية إنما جاء من عملهم بعكس هذه القضية، أعني الابتداع
في الأمور الدينية، واتباع مَن قبلهم في الأمور الدنيوية. فالأمم في ارتقاء دائم،
وهم في جمود ملازم، غلب عليهم الجهل المركب، فهم للعلم يدعون، ورُزِئوا
بالفقر المدقع، وهم في الدنيا طامعون، وخنعوا للضيم والذل، وهم معجبون
متكبرون، وخضعوا لظلم المتغلبين وهم بالمُلك والسيادة مفتونون {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: 69-70) .
خسروا أنفسهم، فخسروا كل شيء، وهل خسران النفس إلا فقْد استقلالها في
الفهم والعلم والحكم؟ ، وتقليد الآباء والأشياخ المتأخرين في جميع أمور الدنيا
والدين؟ ، فالتحقيق أنهم مقلدون حتى في الابتداع؛ لأنهم فقدوا ملكة الاستنباط
والاختراع؛ وقد ساروا بحسب الظاهر على الطريقة الثابتة بالعقل والاختبار،
وهي كون علوم المتأخرين وفنونهم أجدر بالثقة والاعتبار، سنة الله في التدريج
والارتقاء، على أنهم يعتقدون بحق أن متقدمي هذه الأمة خير من متأخريها في
جميع العلوم والأعمال؛ لأن الخلف لم يسيروا على سنة السلف في الاجتهاد
والاستقلال؛ ولو ساروا عليها لفاقوهم في كل ما هو من كسب الناس. وهم إنما
يقلدون المتأخرين؛ لأنهم لا يرون أنفسهم أهلاً لاتباع المتقدمين، إذ يزعمون أن
المتأخر أضعف من المتقدم عقلاً وفهمًا، وربما اعتقدوا أنه أقل قوة وأنحف جسمًا،
وأن هذا التفضيل منحة إلهية وهبية، لا يمكن إدراكه بالأسباب الكسبية، غافلين
عن سنة الله تعالى في سائر الأمم والأجيال، وسبق المتأخرين للمتقدمين في جميع
العلوم والأعمال، حتى أن الله تعالى سخر لمراكبهم الهواء، كما سخر لها الماء،
وسخر لها من البحار لججها وأعماقها، كما سخر لها متونها وأمواجها، بل سخر
الله تعالى لهم ما في السماوات وما في الأرض، فما كان مسخرًا لغيرهم بالقوة صار
مسخَّرًا لهم بالفعل. فما بال جماهير المسلمين لا يسمعون ولا يبصرون، ولا
ينظرون ولا يتفكرون، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
كل ما هو مسخر للبشر، وكل ما هو من كسب البشر، فهو قابل للارتقاء،
إذا لم يجمد الأبناء فيه على ما ورثوه عن الآباء. وكل ما ينفع الناس من العلوم
والفنون والأعمال، فهو مما يتناوله كسبهم وتصرفهم بمقتضى الاستعداد الخاص
والتسخير العام، إلا الدين الإلهي، والوحي السماوي، وقد أكمل الله لنا الدين، كما
ثبت بنص الكتاب المبين، فما بالنا قد ابتدعنا فيه كثيرًا من الشعائر، كمواسم الأيام
الفاضلة والموالد، وكثيرًا من العبادات التي لا أصل لها من السنة والكتاب، كأذكار
أهل الطرق وما استحدثوا من الأوراد والأحزاب، بل ما بالنا نبني المساجد على ما
نشرّف من القبور، ونوقد عليها السرج والشموع؟ ! ، ونحن نعلم أن فاعلي ذلك
ملعونون على لسان الرسول، بل ما بالنا نطوف بهذه القبور كما نطوف ببيت الله،
وندعوها مع الله أو من دون الله، ونحن نعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله -
أن هذا عبادة لها من دون الله؟ ، أنتبع في هذا عمل الآباء المتأخرين، ونحن نتلو
ويُتلى علينا قول الله تعالى في المشركين، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا
بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) .
إنا لندعو الناس إلى عقيدة السلف ونحن بها موقنون، ونرشد من بَلَغَتْه
الدعوة إلى سيرتهم الدينية ونحن على طريقتها إن شاء الله مستقيمون، وإنما نورد
في باب التفسير وغيره من المنار بعض تأويلات الخلف للآيات والأخبار، وما قد
يخالف مذهبهم من الآراء العصرية، وخاصة في مقام الدفاع عن القرآن والسنة
النبوية؛ لأن الضرورة ألجأت إليها، بتوقف إقامة الحجة، أو دحض الشبهة عليها،
فإن المنار ليس خاصًّا بالمذعنين للكتاب والسنة من المؤمنين، بل يكتب لهم
ولغيرهم من المبتدعين والمنافقين والكافرين، ومنهم المنكر الجاحد، والمجادل
المعاند، ومنهم المشتبه المغرور بشبهته، والمرتاب المتردد في ريبته، وحسبنا من
الفلج أن نقنع بتأويل الخلف، من تعذر إقناعه بتفويض السلف، وأن ندحض
الشبهة برأي جديد، إذا أعيا دحضها برأي تليد، إذ يكفي في صحة الإيمان الجزم
بأن كل ما جاء به الرسول عن ربه فهو حق، وفي صحة الإذعان موافقة السلف
في مسائل الإجماع العملية وما لا يحتمل التأويل من النص، ولا حرج في دين
الفطرة فيما اقتضته الفطرة من تفاوت الأفهام، مع صحة قواعد الإيمان وإقامة
أركان الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرّ أصحابه على مثل ذلك في مسائل
الأحكام، كتارك الصلاة والمصلي بالتيمم للجنابة، والمختلفين في صلاة العصر يوم
بني قريظة [1] .
ورُب فهم جديد يؤيد دين الحق أعظم التأييد، ومن مزايا القرآن أنه لا تنتهي
عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، وأن من آياته ما يظهر في زمان دون زمان، وهل
يظهرها إلا أفهام أهل العرفان، الذين هم حجة الله في أرضه، على الجاهلين
والجاحدين من خلقه، ولن يخلوا عنهم عصر من الأعصار، وإن خلت منهم بعض
البلاد والأمصار، وكم من عالم ينتفع بعلمه الغائب البعيد، ويحرم منه القريب العتيد
{قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) .
تلك دعوة المنار، التي رددت صداها الأقطار، فكانت كالبرق المبشر بما
يتلوه من المطر، في نظر سليمي العقول صحيحي الفِطَر، وكالصواعق المحرقة
على أهل البدع، ومتعصبي الأحزاب والشيع، وقد آذانا لأجلها الظالمون، فصبرنا
لله وبالله، ولم نكن كمَن أُوذي في الله فجعل فتنة الناس كعذاب الله، وجهل علينا
بعض أحداث السياسة المغرورين، وبعض أدعياء العلم الجامدين، فقلنا: {سَلامٌ
عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: 55) ، وكاد لنا أعداء الدعوة كيدًا خفيًا،
أضرّ بنا ضررًا جليًا؛ إذ حُجب المنار عن كثير من قرائه الأخيار، وحرمنا بذلك
وبغيره كثيرًا من المال، وحسبنا أن حَمِدَ الدعوة كل مَن عرفها من طلاب الإصلاح،
وأهل الروية والاستقلال، وأما الأزهريون خاصة، فقد كانوا أزواجًا ثلاثة،
فقليل من الشيوخ وكثير من الشبان - يرون أن المنار من ضروريات الإسلام في
هذا الزمان، وكثير من الشيوخ والشبان يكرهون منه حمد الاستقلال وذم التقليد،
ورمي جماهير علماء العصر بالجمود والتقصير، والسواد الأعظم منهم مشغولون
بأمور معيشتهم، وبمطالعة دروسهم ومناقشات طلبتهم، عن النظر في مثل المنار
لتقريظ أو انتقاد، وعن كل ما يتجدد في الدنيا من إصلاح وإفساد، وقد دخل المنار
في السنة العشرين، ولم ينتقده أحد من الأزهريين، إلا أنه قام في هذا العام شاب
متخرج في الأزهر، فنشر في بعض الجرائد الساقطة مقالات سبَّ فيها صاحب
المنار وكفَّر، بانيًا ذلك على زعمه أنه أنكر كون آدم أبًا لجميع البشر، على أن
المنار قد صرح بإثبات هذه الأبوَّة تصريحات، آخرها ما في الجزء الأول من
المجلد التاسع عشر، وزعمه أنه فضَّل شبلي شميل على الخلفاء الراشدين، ويعلم
كذب هذا الزعم مما نشرناه في شميل من ترجمة وتأبين، ومَن لا يَزَعه هديُ
القرآن، عن السب والكذب والبهتان - قد يَزَعْه عقاب السلطان؛ لهذا رفع أحد
كبار المحامين عنا أمر هذا الطعن إلى محكمة الجنايات، بعد أن أنذرْنا بذلك كاتب
المقالات، ونصحنا له بلسان بعض ذوي رَحِمه وصحبه، بأن يستحلنا تائبًا من ذنبه،
فلم يزده ذلك إلا إصرارًا على الذنب، وتماديًا في الطعن والسب، ولكنه جنح في
المحكمة للسلم، وطلب - هو وصاحب الجريدة - من رئيسها الصلح، على أن
يعتذروا عما اتهما به من المطاعن الشخصية، ويعترفا باحترام عقيدة صاحب المنار
وآرائه الدينية، وأمضيا عبارة في ذلك أُثبتت في محضر القضية، وقد قبلنا ذلك
منهما، وكان خيرًا لهما لو فعلاه من تلقاء أنفسهما، على أنهما عادا إلى هذيانهما،
ولا قيمة عندي لمثل هذا الكلام، فإنه مما يقال لصاحبه: سلام، وإنما ذكرناه في
فاتحة المنار التي نشير فيها عادة إلى ما تجدَّد في تاريخ الإصلاح، تمهيدًا لذكر ما
قيل إنه ترتب على تلك القضية، من تأليف جمعية أزهرية، لأجل البحث عن أغلاط
المنار الدينية والعلمية، وبيانها للناس وللحكومة المصرية؛ ذكرت ذلك الجريدة
التي وقفت نفسها على الطعن في صاحب المنار، متوهمة أنه سيترتب عليه
إبطال المجلة أو إخراج صاحبها من هذه الديار؛ لأن عند أعضاء هذه الجمعية من
حقائق العلوم الأزهرية، ما ليس عند صاحب المنار، الذي تلقى العلم في البلاد
السورية؛
…
فنقول للواهمين، ولمن يمدونهم في غيهم من المغرورين: إنا نعلم
من كُنه علم الأزهر ما لا تعلمون، فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا
إنا منتظرون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى
عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
إننا ندعو إلى الله على بصيرة، ونكتب ما نكتب عن علم وبينة، ولكننا
كغيرنا عرضة للخطأ والغلط، كما هو شأن غير المعصومين من البشر؛ فلهذا
ندعو قراء المنار في كل عام، إلى أن يكتبوا إلينا بما يرونه فيه من الأغلاط
والأوهام، لننشره فيه، فيطلع عليه جماهير قارئيه، وإنا لنتمنى أن تؤلَّف لجنة من
علماء الأزهر، تقرأ مجلدات المنار التسعة عشر، وتُحصي ما تراه من الأغلاط
المتفق عليها، بقدر ما يصل إليه علمها وفهمها، وأن تتحرى في ذلك ما يليق
بكرامة أهل العلم، من صحة النقل والتروي في الحكم، واجتناب الطعن والبذاء،
والسخرية والاستهزاء، وإننا نَعُدُّ ذلك إذا سمت إليه همة بعض الأزهريين - أعظم
خدمة للمنار، يُخدم بها العلم والدين، ونعِد بأن ننشر لهم ما يكتبونه فرحين
مغبوطين، مقرين إياهم على ما نراه فيه من الصواب، مبيّنين ما نراه من الخطإِ
مع التزام الآداب، وترديد عبارات الحمد والشكر، التي تبقى بقاء الدهر، ولَثَوابُ
الله خيرٌ للذين يُصلحون في الأرض ولا يفسدون، والذين هم على البر والتقوى
يتعاونون {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
وإننا على ضعف أملنا بتحقُّق تلك الأمنية، واحتقارنا لكل ما يُكتب
بجهالة وسوء نية - لَيحزُننا أن يقوم في الأزهر بعض علمائه، ورئيس
جمعية من جمعياته، ينتقم ممن يقاضي بعض أصحابه، بافتراء الكذب
عليه [2] ، ونسبة ما ينقله عن غيرنا إليه [3] وتحريف آيات القرآن، استدلالاً بها
على ما رماه به من الكفر والفسق والعصيان [4] بذلك الكذب والبهتان،
الذي زاد فيه على ما سبقه إليه ذلك الطعان، وإننا لَنكرمُ كلاً من المنار والأزهر
بعدم ذكر اسمه، وعسى أن يثوب إلى رشده، ويتوب من إثمه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ
يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) .
_________
(1)
الأول في سنن النسائي والثاني في الصحيحين.
(2)
ادَّعى أن صاحب المنار قال: إن آدم عليه السلام من سُلالة القرود، وإنه ليس أبا جميع البشر - وهذا كذب وافتراء - وادعى أنه عضو في لجنة أُلِّفت لنشر كتب شميل، وهذا كذب مفترًى أيضًا.
(3)
عزا إلى صاحب المنار أقوالاً في خلق الإنسان، وفي تكفير مَن يحكم على السارق بغير الحد الشرعي، وتلك الأقوال من منقول المنار، لا من أقوال صاحبه، بل مخالفة له.
(4)
استدل بآيات سورة الممتحنة في النهي عن موالاة أعداء الله على ضد ما تدل عليه، وأهمل ما قيدته به السورة من كونه فيمن قاتلونا في الدين إلخ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
الرقيق الأبيض والأسود
(س1) من صاحب الإمضاء في قليوب
حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد وصاحب المنار المنير؛
تحيةً وسلامًا، وبعد: أعرض على مسامع فضيلتكم المسألة الشرعية الآتية،
وأرجو نشرها في باب السؤال والجواب المفتوح في المنار المنير خدمة للشرع
الشريف، لا حرمنا الله منكم وها هي:
ما قولكم - دام فضلكم - في مسألة الرقيق الأبيض والأسود ومسألة مشتراه
في الزمن الماضي قبل مقاومة الحكومات لهذه العادة. وهل هذا البيع حرام أم حلال
شرعًا، وما الفرق في الدين الإسلامي بين العبد والحر، وما هي ميزة الحر على
العبد في الدين. وهل سواد (العبد) من الإقليم القاطن فيه أو منحة إلهية للفرق بين
الحر والعبد. وما يستحقه العبد في الميراث الشرعي إذا كان من والد حر وله إخوة
أحرار؟ وكيف كان البيع في زمن الجاهلية وزمن النبي صلى الله عليه وسلم
وزمن الخلفاء الراشدين وما هي حجتهم في ذلك؟
نرجو الرد على هذه الأسئلة كما عودتمونا ذلك، ولفضيلتكم الشكر سلفًا، وفي
الختام أهدي فضيلتكم أزكى تحياتي وسلامي.
…
...
…
...
…
...
…
... كاتبه أحمد حسين فراج
…
...
…
بعيادة الدكتور محمد عبد الحميد بك الخصوصية بقليوب
(ج) الظاهر أن السائل يظن أن كل مَن كان أسود اللون فهو عبد رقيق
وكل مَن كان أبيض اللون أو قريبًا من الأبيض - كالأصفر والأسمر - فهو حر
وأن الرقيق الأبيض عبارة عما هو معروف في القطر المصري من الاتِّجار
بأعراض البنات اللواتي يحتويهن المشتغلون بهذه التجارة، وهن صغيرات
بضروب من الإغواء والحيل. والصواب أن الأصل الفطري أن يكون جميع البشر
أحرارًا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص: منذ كم تعبَّدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ! ، وإنما الرقّ أمر عارض أحدثه تحكُّم الأقوياء
في الضعفاء، فكانوا يقتلون الأسرى ثم عطفوا عليهم فاستبدلوا الاسترقاق بالقتل،
وكان عامًّا لجميع أقطار الأرض الآهلة بالبشر، وقد أقرته الشرائع القديمة كلها،
حتى صار من شئون العمران وضروريات الحياة الاجتماعية، وقد جاء الإسلام،
وهو على هذه الحال، فلم يكن من الحكمة أن يبطله دفعة واحدة، كما أبطل الربا
والفواحش والتبني؛ إذ لو أبطله لتعطَّل كثير من أمور المعايش والأعمال، فشرع
الأحكام لإزالة مفاسده كإذلال العبيد وإهانتهم وتحميلهم من العمل ما لا يطيقون،
حتى نهى الشارع أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي، وجعل العبيد إخوانًا لسادتهم،
وأمر بأن يطعموهم مما يأكلون وأوجب عتقهم في الكفارات وغير الكفارات من
الأسباب المعروفة في كتب السنة والفقه، وجعل العتق - من غير سبب - قربة من
أفضل القربات، حتى أن من العتق ما يوجبه الشرع بغير اختيار المالك، ومنه أن
مَن مثَّل بعبده بقطع عضو أو تشويه - أعتق عليه، قال صلى الله عليه وسلم:
(مَن لطم مملوكَه أو ضربه فكفارته أن يعتق) رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن
عمر، وقد عمل به ابن عمر، وروياهما والترمذي عن سويد بن مقرن قال:
(كنا بني مقرن ليس لنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خادم واحدة،
فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقوها، قالوا: ليس
لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها)
وإنما أبقى أصل استرقاق الأسرى والسبي من الكفار في الحرب الدينية مباحًا؛
لأنه قد تقتضيه المصلحة، حتى مصلحة السبي نفسه أحيانًا. مثال ذلك أن تقتل
رجال قبيلة في الحرب ولا يبقى منهم أحد يستطيع أن يقوم بأمر النساء والذراري؛
إذ لم تكن الشعوب والقبائل في الأزمنة الماضية -ولا هي الآن كلها أيضًا - ذات دول
غنية كدول أوربة وما يشبهها في النظام الاجتماعي، فإذا أخذ الغالبون السبي في مثل
تلك الحالة وربوه على ما يوجبه الإسلام من الرفق والتكريم، وتسروا النساء حتى
صرن أمهات أولاد لهم يُعتقن بمجرد موتهم - فلا شك أن هذا قد يكون خيرًا لهم من
تركهم هائمين على وجوههم. على أن الإسلام لم يوجب ذلك، بل شرع لنا أن نمن
عليهم بإطلاقهم بلا مقابل كرمًا وإحسانًا وأن نفدي بهم أسرانا، إن كان لنا أسرى عند
قومهم، كما قال في سورة القتال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4) .
وإذا عرفت أصل الرق الشرعي علمت أن ما اشتهر عن النخاسين من شرائهم
بعضَ بنات الشركس من آبائهن الفقراء لبيعهن في الآستانة وغيرها، ومن شرائهم
أو خطفهم لأولاد السودانيين أيضًا - كله باطل، فالأب لا يملك بيع أولاده. ومَن
دونه من الأقارب أوْلَى بأن لا يجوز له ذلك، والمشتري لأمثال هؤلاء لا يملكهم
شرعًا، ويجب على الحكام إبطال مثل هذا الرق قطعًا؛ لما يترتب عليه من مفاسد
التسري والتوارث وغير ذلك من الأحكام الباطلة.
وأما سواد السود من الناس فهو من تأثير الإقليم كما هو مشهور، وقد سكن
كثير من العرب - الذين يغلب عليهم اللون القمحي في البلاد الاستوائية وما يقرب
منها - فأثَّر ذلك في جلودهم؛ حتى صاروا أقرب إلى الزنوج منهم إلى البيض،
وسكن كثير منهم في البلاد الشمالية الباردة وما يقرب منها؛ فصار بياضهم كبياض
أهلها.
وأما الفرق بين الحر والعبد في الدين الإسلامي فهو أنه لا فرق بينهما في
الإيمان وتقوى الله تعالى والعمل الصالح وفضائل الدين وآدابه والجزاء عند الله
تعالى، وكم من عبد مملوك تقي خير عند الله من ألف حر، ولكن المملوك لما كان
لا يملك المال عند الجماهير ولا يملك التصرف في نفسه لتقيده بخدمة مالكه - كان
له بذلك أحكام خاصة لا يحتاج السائل إلى معرفتها كلها، فمنها ما هو تخفيف عليه،
ككونه لا تجب عليه الجمعة عند الجمهور خلافًا للظاهرية - وتصح منه إجماعًا -
ولا الجهاد ولا الحج، وإذا حج بإذن سيده أو معه صح منه ذلك وأثيب بقدر
إخلاصه وقيامه بالمناسك على وجهها ولا تجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يملك المال،
ويترتب على عدم ملكه المال أنه لا يرث ولا يورَّث، وحدّه نصف حدّ الحر،
ويترتب على عدم ملكه التصرف بنفسه أنه لا يلي الولايات العامة كالقضاء، ولا
الخاصة كالنكاح والوصاية على اليتيم، وكل مسألة من هذه المسألة وأشباهها مفصلة
في كتبها وأبوابها من كتب الفقه. وفي بعضها خلاف بين الفقهاء. وأما بيع الرقيق
فكبيع غيره مما يملك، وحسب السائل هذا البيان المختصر.
***
العوام والخواص
(س2) من الحاج عبد العزيز. ن. وفي بلد جكجاكرتا (بجاوه) .
نرجو من فضلكم أن ترشدونا في تعريف العام والخاص، هل العام مَن لم
يعرف اللغة العربية في فصاحتها وبلاغتها، والخاص مَن يعرفها؟ أو مَن هم؟
(ج) العامّ اسم فاعل من العموم وهو الإحاطة والشمول، والخاصّ اسم فاعل
من الخصوص وهو إصابة بعض الشيء أو الأفراد دون بعض. يقال: نزل المطر
فعمّ الأرض فهو عامّ أو خصّ بلد كذا فهو خاص. والسائل لا يسأل عن هذا، وإنما
يسأل عن معنى العامّيّ والخاصّيّ، واحد العامة والخاصة. فالعامّيّ هو المنسوب
إلى عامة الناس أي سوادهم الذين لا خصوصية لهم فيهم، ويقال لجماعتهم العوامّ،
والخاصّيّ المنسوب إلى خاصة الناس وهم كبراؤهم وزعماؤهم كالعلماء الأعلام
وكبار الحكام وأهل الفضل والجاه، ويقال لجماعتهم الخواص. وعلماء اللغة
العربية في جاوه يصح أن يكونوا من خواص أهلها، وأما كونهم هم الخواص
وحدهم فلا يتحقق إلا إذا كان أهل البلاد يخصونهم بالاحترام والتكريم ويفضلونهم
على سائر الناس، ويعدون مَن عداهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد ولا
كرامة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمة لذكرى المولد النبوي
فيها بيان تاريخ الاحتفال بالمولد وحكمه شرعًا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه
ومَن والاه.
أما بعد: فإن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، وقد
اختلف في كونها بدعة حسنة أو بدعة سيئة كما سيأتي، والمشهور أن المُحْدِث لها
هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب
الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل [1] أحدثها في أوائل القرن السابع
أو أواخر القرن السادس، فإن السلطان صلاح الدين ولاه على إربل في ذي الحجة
سنة 586 وتوفي سنة 630.
وقد كان سخيًّا متلافًا صاحب خيرات كثيرة، وكان ينفق على الاحتفال بالمولد
ألوفًا كثيرة، ففي تاريخ ابن خلكان أنه كان ينصب له مقدار عشرين قبة من الخشب،
كل قبة منها أربع طبقات أو خمس طبقات، له قبة منها والباقي للأمراء وأعيان
دولته، وكانوا يزينون هذه القباب في أول شهر صفر بأنواع الزينة الفاخرة، وكان
يكون في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي،
بل كانوا لا يتركون طبقة من الطبقات بغير جوق من تلك الأجواق. وكان الناس
يتركون كل عمل في تلك الأيام، فلا يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران على
القباب.
قال ابن خلكان: فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم
شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفَّها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي
حتى أتى بها إلى الميدان ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان
المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد [2] عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة
ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع
- أشك في ذلك - من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن
ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل. فإذا كانت صبيحة يوم المولد
أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة،
وهم متتابعون، كل منهم وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير، لا أتحقق
عدده.
ثم ذكر عرضه الجند وتوزيعه تلك الخلع بعد ذلك على الفقهاء والوعاظ
والقراء والشعراء ومد السماط. وكان قد ذكر قبل ذلك أن الناس كانوا يأتون هذا
الموسم في إربل من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم
وتلك النواحي، فلا يزالون يتواصلون من شهر المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول.
لخصت هذا من تاريخ ابن خلكان الذي وصف ما رآه بعينيه؛ لأن ما يُعمل
بمصر الآن يشبه ما كان يعمل في إربل، إلا أنه دونه عظمة ونفقة، فهَهُنا تنصب
قباب أو خيام النسيج الجميلة لعزيز مصر ولوزارات حكومته ولبعض الوجهاء في
دائرة واسعة ويختلف إليها الناس من أول شهر ربيع الأول، يسمعون في بعضها
وعظ الوعاظ، وذكر أرباب الطرق المعروفة. ويرأس الاحتفال شيخ مشايخ طرق
الصوفية، ويقيم بجانب خيمته مأدبة فاخرة في مساء اليوم الحادي عشر من الشهر،
يحضرها كبار العلماء وكثير من الوجهاء، ويكون الاحتفال الأكبر في الليلة
الثانية عشرة في خيمته فيجتمع فيها مَن حضر المأدبة، ويؤمها الأمراء والوزراء،
حتى إذا ما انتظم جمْعهم حضر عزيز مصر بحاشيته، وتقرأ بين يديه قصة المولد،
فيخلع على مَن يقرأها خلعة سنية، وتدار بعد قراءتها كؤوس الشراب المحلّى
وصواني الحلوى الجافة. ثم ينصرف العزيز إلى خيمته وهي بجانب قبة شيخ
الشيوخ، فيمكث فيها ساعة زمانية، يشاهد في أثنائها زينة الألعاب النارية، ثم
ينصرف وينصرف الأمراء والوزراء، ويظل الناس يطوفون على تلك الخيام
المزينة بالأنوار الكهربائية وغير الكهربائية عامة ليلتهم. وفي ضحوة ذلك اليوم
يحضر نائب العزيز قبة شيخ الشيوخ فتعرض عليه مواكب الصوفية، يتقدم كلَّ
طريقة شيخُها، وهم يهللون أو يتلون الأوارد، ويقف كل منهم أمام شيخ الشيوخ
قليلاً، فيحييه، ثم ينصرف.
وقد استحسن جماهير المسلمين الاحتفال بالمولد في مشارق الأرض ومغاربها
ويجتمعون لقراءة قصته في المساجد، ومنهم مَن يجعل لها دعوة خاصة في البيوت،
وهذه لا تتقيد بجعلها في تاريخ الميلاد النبوي، ولكن أنكر هذا الاحتفال بعض
العلماء، وعدَّه بدعة مذمومة؛ لأنه عُدَّ موسمًا وشعارًا دينًا وعبادة غير مشروعة،
يظن العوام أنها مشروعة؛ ولما يقترن به من المنكرات الأخرى. وقال بعضهم: إنه
بدعة حسنة؛ لأنه عبارة عن الشكر لله تعالى على وجود خاتم أنبيائه وأفضل رسله
بإظهار السرور في مثل اليوم الذي وُلد فيه، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار،
وقد ألف الجلال السيوطي رسالة في عدِّه بدعة حسنة في جواب مَن سأل عن
حكمه شرعًا، وعرفه بقوله: هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية
الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من
الآيات، ثم يمد لهم سماط، فيأكلون، وينصرفون من غير زيادة على ذلك. وذكر
أن الحافظ ابن حجر سُئل عنه، فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن
أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن
وضدها، فمن جرد في عمله المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومَن لا
فلا.
ثم بيّن أن الحافظ خرجه على حديث الصحيحين في صيام عاشوراء شكرًا لله
تعالى على إنجائه فيه موسى نبيه، وإغراق فرعون عدوه، قال: فيُستفاد منه
الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في
نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام
والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟
وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم
عاشوراء ومَن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، وتوسع
قوم، فنقلوه إلى أي يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما تعلَّق بأصل عمله. وأما
ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم
ذكره من الإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل
الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن ما
كان من ذلك مباحًا بحيث يتعين للسرور بذلك اليوم - لا بأس بإلحاقه وبه وما كان
حرامًا أو مكروهًا فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى. اهـ.
وقد يقال: لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة والتابعين ولا الأئمة
المجتهدين ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد الشارع لهم بالخيرية؟ فهل كان
صاحب إربل التركماني ومَن تبعه أعلم وأهدى منهم وأعظم شكرًا لله تعالى؟ ويقال
مثل هذا في تخريج الحافظ ابن رجب إياه على تعليل صيام يوم الإثنين بأنه يوم وُلد
فيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي مزيد بيان لحجة المخالف.
وخرجه السيوطي على أصل آخر استنبطه من تخريج شيخه الحافظ، وهو ما
رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوة،
(قال) : مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه والعقيقة لا تعاد مرة ثانية،
فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد
الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب
لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه الآيات
وإظهار المسرات. اهـ.
وهذا تخريج ضعيف من وجوه:
(أحدها) أن هذا الحديث منكر كما قال راويه البيهقي، بل باطل كما قال
النووي في شرح المهذب.
(ثانيًا) أنه لو صح لكان دليلاً على استحباب عقّ الإنسان عن نفسه ولم يقل
بهذا أحد.
(ثالثها) جعل قولهم: إن العقيقة لا تعاد حجة على الحديث على تقدير
صحته، مع كون عبد المطلب عقّ عنه صلى الله عليه وسلم.
(رابعها) أنه لو كان تشريعًا لعمل به الصحابة وغيرهم وقال به أئمة الفقهاء
أو مَن بلغه منهم.
(خامسها) أن يوم البعثة كان أوْلَى بهذا الشكر من يوم الولادة؛ لأن النعمة
والرحمة إنما كانت برسالته صلى الله عليه وسلم بنص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) .
وحجة المنكرين في هذا الباب أن كل بدعة دينية تعد من العبادات المحضة أو
تُجعل من شعائر الدين - فهي محظورة؛ لأن الله تعالى أكمل الدين وأجمعت الأمة
على أن أهل الصدر الأول أكمل الناس إيمانًا وإسلامًا، وأن كل بدعة ليست من هذا
القبيل - كالمنافع الدنيوية والوسائل التي يقوَّى بها أمر الدين والدنيا كالمدارس
والمستشفيات والملاجئ الخيرية التي يثاب صاحبها بحسن نيته فيها - فإنها تعد
بدعة حسنة، والتحقيق أن هذه لا تسمى بدعة شرعية، وإنما يطلق عليها اسم
البدعة لغةً، فلا تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث
الصحيح عند مسلم: (شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؛
لأن موضوع الحديث المحدثات في أمر الدين، ولكنها تعد من السنن الحسنة في
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها
إلى يوم القيامة) -الحديث (وهو في صحيح مسلم أيضًا) فقد رَغَّبَ أمته بهذا
الحديث في الاختراع النافع لها في دينها ودنياها، ولكن ليس لأحد أن يخترع في
الدين نفسه شيئًا.
ثم إن البدعة الدينية إما أن تكون اختراع عبادة أو شعارًا دينيًّا لا أصل لهما
وإما أن تكون تخصيصًا لعبادة مشروعة بزمان معين أو مكان معين أو هيئة معينة
لم يخصصها بها الشارع. ومن هذا النوع عَدَّ الفقهاء صلاة الرغائب في رجب
وصلاة ليلة النصف من شعبان من البدع المذمومة. قال النووي في المنهاج:
وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. وقد سمّى الشاطبي هذا النوع
بالبدع الإضافية، وسمى النوع الأول البدع الحقيقية. وأطال في بيان ذلك في كتابه
(الاعتصام) وفصله تفصيلاً.
هذا، وإن ما يعهد من الاحتفال بالمولد ليس عبادة مأثورة عن الشارع يؤتى
بها على الوجه المشروع، ولا هو عمل دنيوي محض، بل يجمعون فيه عبادات
يأتون بها أو ببعضها على وجه غير مشروع، وبين لعب ولهو، بعضه مباح
وبعضه محظور، وقد كان يكون في احتفال القاهرة خيام يرقص فيها النساء
المتهتِّكات مكشوفات الصدور والبطون، كما يحصل دائمًا في غيره من احتفالات
الموالد - كالموالد الحسيني والمولد البدوي - وما هو شر من ذلك، ولكن قد أبطل
هذا كله من الاحتفال الذي يكون في القاهرة، ولله الحمد.
وقد حاول مَن ذكرنا من العلماء تخريجه على أصل شرعي بإبطال ما يكون
فيه من اللهو والاقتصار فيه على عمل الخير، ولولا تخصيص تلك العبادة بالزمان
والمكان والصفات المخصوصة التي تشبه بها الشعائر والعبادات المشروعة وتلتبس
بها - لما احتيج في تخريجه إلى ما تكلفوه.
وأما اجتماع الناس في مثل القباب والخيام التي تنصب في العباسية، وتزين
بالمصابيح والأنوار الكهربائية، وإظهار البهجة والسرور، بذكرى مولد ذي الضياء
المعنوي والنور، وذكر إخراج الله الخلق بهديه من الظلمات، وما آتاه من الهدى
والآيات - فهو في نفسه من المباحات، المقرونة بالمستحبات والمندوبات، بشرط
أن يخلو من البدع والمنكرات، وأن لا يعد من الشعائر الدينية ولا من العبادات،
فإذا كان بحيث يظن العامة أنه مطلوب شرعًا حرم فعله قطعًا، بل كان بعض
الصحابة يتركون بعض المسنونات؛ لئلا تظن العامة أنها من الواجبات، ومن هنا
صرح الشاطبي في (الاعتصام)[3] بكون اتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم عيدًا من البدع، وأفتى ابن حجر المكي بأن القيام عند ذكر ولادته صلى
الله عليه وسلم بدعة، وذكر أن الناس يفعلونه تعظيمًا وقال: (فالعوام معذورون
لذلك بخلاف الخواص) [4] وقد علل فتواه بأن القيام يوهم العامة أنه مندوب، ويزاد
عليه أن بعضهم يظن أنه واجب، وقد يعلل أيضًا بأنه يُفعل بهيئة العبادة لما يكون
من الصلاة المخصوصة المعينة بالعدد في أثنائه.
ولكن لم يأخذ أحد بهذه الفتوى، فما زال العلماء يقومون كغيرهم ولم نَرَ لهم ردًّا
للفتوى بدليل أرجح من دليلها، ولعل أكثر العوام يعتقدون وجوب هذا القيام لالتزام
العلماء وسائر الناس له، ولو فطنوا لِتَرْك أحدٍ له لعدُّوه فاسقًا متهاونًا بالدين أو كافرًا
مارقًا منه! ، ولعلك لو اقترحت على جماعة العلماء - الذين يحضرون قراءة قصة
المولد - تركه في بعض الأوقات ليعلم العامة أنه غير واجب لما تجرءوا على ذلك.
والحق أن قصد التعظيم هو الذي زين للعوام والخواص أمثال هذه البدع. فإن
من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا، وإنما
التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره، ويعتز
دينه إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكًا. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم
تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذه السبيل. ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم
اللساني. ولا شك أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل
تعظيم، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تغيير أو
تبديل لأجل تعظيمه به، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين؛ فقد كان جُل ما
أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، ومازالوا يبتدعون بقصد
التعظيم وبحسن النية؛ حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم! . ولو تساهل
سلفنا الصالح كما تساهلوا وكما تساهل خلفنا الذين اتبعوا سَنَنهم شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع - لضاع أصل ديننا أيضًا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب
علينا أن نرجع إليه ونعَض عليه بالنواجذ، ويجب على العلماء أن يبينوا للناس
الإحداث والبدع محذرين منها، كما يجب عليهم أن يبينوا لهم الفرائض والسنن
مرغّبين فيها، والبيان يحصل بالقول والفعل والإقرار والترك، كما أن التشريع حصل
بذلك؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يترك بعض سننه لئلا تُفرض.
قال الإمام الشاطبي في الاعتصام [5] : وقد ثبت في الأصول أن العالِم في
الناس قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء ورثة الأنبياء، فكما أن النبي
صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على
الأحكام بقوله وفعله وإقراره، واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور
المنهي عنها، فلم ينكرها العلماء أو عملوا بها فصارت تعد سننًا ومشروعات
كزيادتهم مع الأذان: (أصبح ولله الحمد)
…
إلخ. وقد أطال في هذه المسألة وبيَّن
مفاسد السكوت قبل هذه العبارة وبعدها، ولا سيما عمل (الخواص من الناس
بالبدعة عمومًا وخاصة العلماء خصوصًا) وذكر في هذا السياق أن علماء الصحابة
كانوا يتركون بعض السنن لئلا يظن الناس أنها واجبة، ومن ذلك أن أبا بكر
وعمر وابن عباس تركوا التضحية في عيد النحر؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة [6]-
على أن بعض الفقهاء بعدهم قال بوجوبها - ونُقل عن الإمام مالك أنه قال في
الموطأ - في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان - إنه لم يَرَ أحدًا من أهل العلم
والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم
يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس
منه لو رأوا رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك. اهـ.
وقد كان الإمام مالك يعرف الحديث في صيامها، وكلامه يدل على ذلك، كما
قال الشاطبي ولكنّ سد ذرائع البدع اقتضى ترك هذا المستحب، ومالك من أشد الأئمة
تشديدًا في ذلك. ومما نقله عنه الشاطبي وغيره قوله: (مَن أحدث في هذه الأمة شيئًا
لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله
يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا. اهـ[7] ، وقوله عندما
سئل عن القراءة في المساجد: (لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أُحدث،
ولم يأتِ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن) . اهـ[8] .
وجملة القول: إن خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو وجعْل ذلك
عملاً واحدًا عن باعث ديني - هو الذي يجعل مجموع تلك الأعمال من قبيل
الشعائر الدينية ويوهم العوام أن تلك العادات - وكذا العبادات المبتدعة في هيئتها
وتوقيتها وعددها - من أمور الدين المشروعة بهذه الصفة ندبًا أو وجوبًا، كما قال
الفقيه ابن حجر في مسألة القيام عند ذكر ولادته عليه أفضل الصلاة والسلام وما
يكون فيه من الصلاة المخصوصة كما قلنا.
وأما قراءة قصة المولد فهي عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة
النبوية كما قال السيوطي، ولكن كثيرًا من الناس كتبوا (موالد) حشوها بالأحاديث
الموضوعة والمنكرة وفي بعضها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق
كالتغزُّل بجماله. وكنت منذ سنين أتمنى لو يوجد بين أيدي الناس رسائل في هذا
الموضوع يتحرى فيها الصحيح المفيد، عسى أن يستبدل بها بعض ذلك الضار
السيئ التأثير، بيد أنني كنت أتحامى أن أكتب في ذلك شيئًا باسم المولد؛ لئلا
أكون محدِثًا أو مساعِدًا أو مقرًّا لما لم يفعله السلف الصالح.
ثم كان أن دعاني في غرة ربيع الأول من عام 1334 شيخ مشايخ طرق
الصوفية بمصر السيد عبد الحميد البكري [9] إلى مأدبة أعدها في داره وسماع قصة
المولد بعدها، فأجبت الدعوة، وتوسلت بها إلى تنفيذ تلك الفكرة؛ إذ كنت علمت
من أحاديث جرت بيني وبينه أنه من محبي الإصلاح للطرق الصوفية وغيرها،
وهنالك كلّمته في قصص الموالد المشهورة ووجوب تغييرها، فاستحسن ذلك، فقلت
له: أرأيت إذا كتبتُ شيئًا في هذا الموضوع أتستبدل به ما يُقرأ عندك في الاحتفال
الرسمي وغيره؟ ، قال: نعم، فانتهزت هذه الفرصة لبيان الحق في هذه المسألة
شكلاً وموضوعًا، ثم شرعت في كتابة شيء من ذلك في ساعات المساء من النهار،
فأتممته في بضعة أيام متفرقة، لم تتم أسبوعًا، وكتبت أكثره في دار البكري،
وكنت أُطْلعه على ما أكتب، فيُسرّ به، ولكنه جاء طويلاً لا يمكن أن يُقرأ في
الحفلة الرسمية كله، فاختصرنا منه نسخة قُرئت من الحفلة الرسمية، فكانت
موضع إعجاب أهل الفهم والذكاء من الوزراء والكبراء وغيرهم من أهل الروية.
ثم اطلع على ما كتبت كله بعض أهل العلم ومحبي الإصلاح فرغبوا إليَّ في
طبعه ونشره، ورأوا أنه من أحسن ما يُنشر في هذا العصر لبيان حقيقة دعوة
الإسلام وكليات الدين وخلاصة السيرة النبوية، فشرعت في طبعه وزدت فيه عند
الطبع حديث البعثة وقصة الهجرة وما تلاها من الخاتمة ومسائل أخرى في أثناء
الكلام. طبعته في المنار ثم جردته منه، وطبعته على حِدَتِه، وحذفت مما طبع في
المنار جملة وجيزة اقتبستها من (رسالة التوحيد) ، وزدت مسائل أخرى قليلة.
فكان فوق ما كنت أقدر وأتوخى في هذا المقام، الذي اعتيد فيه الاختصار، فجاء
كتابًا وجيزًا حاويًا لخلاصة الحقائق المتفرقة في أسفار التاريخ والسيرة النبوية،
وكتب التفسير والحديث والعقائد الإسلامية، مبينًا لِكُنْه الإسلام وحقيقته، وكليات
أحكامه وحكمته، بعبارة يسهل على الناس فهمها، ويتيسر لمريد الحفظ حفظها،
وحروف مضبوطة بالحركات، وأسجاع غير متكلفات، فهو جدير بأن يُقرأ في
البيوت وفي المحافل، وبأن يُلقَّن لطلاب العلوم الدينية والدنيوية في المدارس، وإذا
اكتفى سامعوه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره فُرادى ولم
يرفعوا أصواتهم بصيغة مخصوصة في أوقات معينة - لا يكون في قراءتهم ولا
سماعهم له شبهة على الابتداع الحقيقي ولا الإضافي.
طريقة اختصاره في القراءة:
هذا، وإن لمَن يقرؤه على الناس في وقت ضيق أن يختصر منه بعض
الفصول كفصل الهجرة بطوله من منتصف الصفحة 30 إلى فصل أخلاقه وسيرته
صلى الله عليه وسلم في الصفحة 36، ويمكن ترك هذا الفصل أيضًا إلى الخاتمة
في الصفحة 41، وإذا كان المقروء عليهم من العوام فللقارئ أن يحذف مما يقرأ لهم
بحث اصطفاء الله لقومه وقبيلته وآل بيته صلى الله عليه وسلم من أول الصفحة 4
إلى نهاية الصفحة 10؛ لأن هذا البحث لا يفهمه حق الفهم إلا الخواصُّ من أهل
العلم، ومازال كثير من الناس يستشكل ما ورد في الحديث الصحيح من اصطفاء
الله تعالى كنانة وقريشًا وبني هاشم، وحكمة جعل دين العلم والمدنية على لسان
نبي أمي بُعث في أمة أمية، ولم أَرَ أحدًا سبقني إلى بيان مزايا العرب التي أعدهم
الله بها لهذه المنقبة العظيمة، ولله الحمد والمنة، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي
تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} (الأحقاف: 15) ، وصلى الله على سيدنا محمد
خاتم النبيين، وآله وصحبه ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
وكتب هذا في 5 رمضان سنة 1335.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________
(1)
إربِل بوزن إثمد، وضبط في المتن بفتح الباء غلطًا.
(2)
هي الليلة التاسعة من ربيع الأول على المختار عند المحدثين، أو ليلة 12 منه على المشهور عند الجمهور، وكان مظفر الدين يراعي الخلاف، فيجعلها ليلة تسع في سنة، وليلة 12 في أخرى.
(3)
ص34 من الجزء الأول.
(4)
ص 60 الفتاوى الحديثية له.
(5)
ص269، ج2.
(6)
ص276، ج2 من الاعتصام.
(7)
ص149 و150، ج2.
(8)
ص168، ج2 من الاعتصام.
(9)
بيت البكري من أشهر بيوتات مصر، ينتسبون إلى الصديق رضي الله عنه، ويلقبهم الجمهور بقلب السيد كالعلويين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
استدراك على الحواشي
شاعر الأنصار - صاحب الأبيات المذكور بعضها في قصة الهجرة - هو أبو
قيس صرمة بن أبي أنس قد ترهّب، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وهمَّ
بالنصرانية، فلما جاء الإسلام أسلم وهو شيخ كبير، وله شعر كثير، وعاش نحوًا من
120.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ّ
المسألة العربية
مقالة للتاريخ
الإسلام والجنسية العربية. إبراهيم الخليل عربي. الأُخوَّتان الدينية
والجنسية. اتفاق الإسلام والجنسية العربية. مصلحة المسلمين وغيرهم من العرب
في تجديد الدولة العربية واحدة. مصلحة المسلمين الأعاجم ورأيهم في ذلك.
استقلال لبنان لم يكن عقبة في طلب العرب للاستقلال. لم ينهض العرب للاستقلال
في عهد عبد الحميد. اتهام الخديو والإنكليز بالميل إلى استقلال العرب. حال
أمراء الجزيرة وزيدية اليمن وزعماء الولايات العربية في ذلك. الخلافة عند أهل
الزيدية وأهل السنة. السبب الحقيقي لسكون العرب وسكوتهم هو الإسلام وأوربة.
إزالة الإسلام للعصبية الجنسية. إجماع العرب على المحافظة على الدولة ويأسهم
منها. استقلال الحجاز. اتفاق الحلفاء على استقلال الشعوب، أو تفويض أمر
حكمها إليها.
إنني عربي مسلم أو مسلم عربي؛ فأنا قُرشي عَلوي، من ذرية محمد النبي
العربي، الذي ينتهي نسبه الشريف إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام،
وملته الحنيفية هي ملة جده إبراهيم، أساسها التوحيد الخالص، وإسلام الوجه لله
تعالى وحده، {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) ،
اقرأ الآيات إلى قوله: {
…
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133) ، فإسلامي
مقارن في التاريخ لعربيتي، وإن من الناس مَن هو أقدم نسبًا في الإسلام، ومَن هو
أقدم نسبًا في العربية، وهم مَن عدا الإسماعيليين من متقدمي العرب ومتأخريهم.
وأما الإسماعيليون منهم فتاريخ عربيتهم وإسلامهم واحد؛ إذ كان أول أب لهم
في العرب مسلمًا، وقد يقال: إن إسلامهم أقدم إذا كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم غير
معدود من العرب على ما هو المشهور في كتب التاريخ من أن أول العرب
المستعربة إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وكأنهم عدّوه كذلك؛ لأنه وُلد في بلاد
العرب، ونشأ فيهم فلم يكن له لسان غير اللسان العربي. ولكن التاريخ يثبت لنا
أن أباه إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يتكلم باللغة العربية، كما يؤخذ من التاريخ
العربي والتاريخ المستنبَط من الآثار القديمة، أما مأخذ ذلك من التاريخ العربي فهو
أنه أقام في بلاد العرب زمنًا، أقام فيه الدين وبنى البيت العتيق الذي هو أقدم بيت
وُضع لعبادة الله وحده في الأرض، فمن البديهي أنه كان يعلِّمهم الدين بلسانهم،
ويخاطبهم به، وأما مأخذ ذلك من الآثار القديمة المكتشفة في هذا العصر موضحة
للتاريخ القديم، فهي أن علماء الآثار بينوا لنا أن مدينة الكلدان كانت عربية،وأن
حمورابي الذي كان ملكهم وصاحب شريعتهم في عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم
كان عربيًّا، وقد اكتشفت شريعته في بلاد العراق منقوشة على عمود من
الحجر الأصم، فكانت باللغة العربية لذلك الزمان. وقد جاء في سفر التكوين - أول
أسفار العهد القديم عند أهل الكتاب - أن حمورابي هذا كان في زمن إبراهيم، وأنه
كان يُدعى ملك السلام وكاهن الله العلي، وأنه بارك إبراهيم، وأن إبراهيم أعطاه
عشرًا من كل شيء (راجع: تك 14: 18) .
قلت: إنني عربي مسلم. فأنا أخ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من
العرب وغير العرب، وأخ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير
المسلمين. أما دليل الأخوة الدينية فقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وأما دليل الأخوة الجنسية فالآيات المتعددة في سورة
الأعراف والشعراء المصرحة بكون الأنبياء المرسلين إخوة لأقوامهم
المشركين. ولما كان شعيب عليه السلام قد أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى
أصحاب الأيكة من غير قومه - اختلف التعبير عنه، فقد قال تعالى في سورة
الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85)، أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب شعيبًا
…
إلخ.
وقال في سورة الشعراء {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا
تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 176-178) ولم يقل أخوهم شعيب،
كما قال في عاد {أَخُوهُمْ هُود} (الشعراء: 124) وفي ثمود {أَخُوهُمْ
صَالِحٌ} (الشعراء: 142) - مثلاً - لأنه لم يكن من جنسهم.
وإنني أحمد الله عز وجل أن جعل مصلحة العرب السياسية في عصرنا
موافقة لمصلحة المسلمين السياسية، كما أبينه في هذه المقالة، ولو تعارضتا لقدمت
ما يوجبه عليَّ ديني، على ما تقتضيه مصلحة أبناء جنسي؛ لأنني أرجو بديني
سعادة الدنيا والآخرة، وأنا موقن بذلك، ولا أرجو بخدمة جنسي وحده إلا الدنيا
وحدها، وما أنا على يقين من إدراكها، على أنني راضٍ بما آتاني الله منها، أما
وقد اتحدتا فخدمة جنسي خدمة لديني، ينفعني في الآخرة إن لم ينفعني في الدنيا،
وأنا مؤمن بهذا، وإن كان يخفى على كثير من إخواني المسلمين.
* * *
(مصلحة العرب والمسلمين في الدولة العربية)
إنما مصلحة العرب السياسية أن يكون لهم دولة مستقلة، وهذا أمر بديهي لا
يختلف فيه عاقلان، فالعرب أمة من أقدم أمم الأرض وأعرقها في الاستقلال، ذات
مجد عظيم، ومدنية عالية في التاريخ القديم والحديث، ولغة ممتازة في لغات العلم
والأدب، وشريعة هي أعدل الشرائع المنزلة للبشر، وقد ضعفت هذه الأمة الكريمة،
وضعفت مزاياها ولغتها، وأُهمل معظم شريعتها، وكادت تفنى بفنائها، كل ذلك
لعدم وجود دولة مستقلة لها؛ إذ يستحيل أن ترتقي أمة بغير دولة.
إن السواد الأعظم من العرب يَدينون دين الإسلام واللغة العربية هي لغة هذا
الدين، فلا تصح لمسلم عبادة بغير هذه اللغة، فبالدولة العربية تحيا لغة القرآن،
وتحيا بحياتها شريعة الإسلام. فمن البديهي إذًا أن يكون الخير كل الخير للمسلمين
في هذه الدولة إذا وُجدت، وإن عقلاء المسلمين من غير العرب يعلمون هذا،
ولكنهم يرونه الآن متعذرًا أو متعسرًا، ويخشون كما كان يخشى مسلمو العرب أن
يكون السعي له مفضيًا إلى إضعاف الدولة العثمانية التي لم يبق للمسلمين دولة
غيرها، فيكون مثل الساعين كمثل مَن له دار تكنه، فهدمها ليبني خيرًا منها،
فعجز عن البناء وأمسى في العراء معرضًا لما يجني على حياته! ، ولكن جمعية
الأغرار المغرورين (جمعية الاتحاد والترقي) ما زالت تهدم من آمال العرب في
بقاء الدولة، وفي كون بقائها خيرًا للإسلام والمسلمين، حتى دعتهم بل دعَّتهم [1]
إلى طلب الإصلاح في الجملة، ثم إلى طلب اللامركزية، ثم إلى استقلال الحجاز،
ولا يعلم غير الله ما تكون عاقبة ذلك؛ لأن العالم كله في طور تغيُّر وانقلاب
مجهول، ولكن المعلوم قطعًا أن ما حصل في بلاد العرب هو نتيجة طبيعية لسيرة
الاتحاديين، لم يكن في استطاعة أحد دفعه كما يعلم مما يأتي.
وأما غير المسلمين من العرب فهم الآن كالمسلمين ليس لهم دولة؛ ولأن
يكون لأبناء جنسهم دولة خير لهم من أن يكونوا تابعين لدولة أعجمية، لا
يشاركونها في النسب ولا في اللغة ولا في العادات والتقاليد ولا في الوطن
الجغرافي [2] ولا في الدين، ولا لدولة أعجمية، يشاركها بعضهم في الدين والمذهب
أو في الدين دون المذهب دون سائر مقومات الأمم ومشخصاتها، وهم يعلمون أن
الدين أو المذهب لا يحملها على جعْلهم مساوين لأبناء جنسها ووطنها، وإن كانوا
من غير أبناء دينها ومذهبها، ولا يضرهم أن تكون العربية في هذه الدولة الأغلبية
للمسلمين من أبناء جنسهم، فإن أفراد البشر وجمعياتهم يتآلفون ويتعاونون على
مصالحهم بكثرة ما يشتركون فيه من مقومات الأمم ومشخصاتها، وما يشترك فيه
المسلمون وغيرهم من العرب من المقومات والمشخصات كاللغة والعادات والآداب
والمصالح والمرافق الوطنية أكثر مما يشترك فيه غير المسلمين من العرب مع
الإفرنج الموافقين لهم في الدين، بله الترك المخالفين لهم حتى في الدين، ودين
الإسلام دين مساواة في الحقوق وحرية تامة في العقائد. وقد ارتقى غير المسلمين في
أرقى دول العرب الإسلامية مدنية إلى أعلى المناصب، حتى كان وزراؤهم
وأطباؤهم يزاحمون الخلفاء العباسيين بالمناكب، وإذا كان لغير المسلمين أغلبية في
بقعة من البلاد العربية كجبل لبنان - فإنه يمكنهم أن يكونوا مستقلين مع ارتباطهم
واتحادهم بالمملكة العربية فيها استقلالاً إداريًّا واسعًا خيرًا من الاستقلال الذي نالوه
منذ نصف قرن.
لو نهض زعماء العرب إلى السعي للاستقلال لما تعذر عليهم إرضاء
اللبنانيين منهم بذلك، وإزالة جميع ما في البلاد من أسباب الخلاف. ولو تعذر
عليهم إرضاء اللبنانيين في أوائل العهد بالسعي لَما كان ذلك موجبًا لتركه واليأس
منه. ولا أطيل في بيان هذا وكشف غواشي الأوهام عنه؛ لأنه يخرج بي عن
المقصد من هذا المقال، وأكتفي منه بتذكير الملمّ بتاريخ سورية الحديث بتلك
الحركة العربية التي حدثت في سورية أيام كان مدحت باشا زعيم الترك الأكبر واليًا
عليها؛ فإنهم يتذكرون أن اللبنانيين كانوا في طليعة العاملين، وبرهاننا على هذا
قصيدتا اليازجي البائية والسينية.
لأجل هذا كان سكون العرب العثمانيين وسكوتهم في الأجيال الأخيرة - التي
تحركت فيها عصبيات الأجناس وهبت لطلب الاستقلال - مثارًا لعجب مَن لم
يعرف سبب ذلك السكون من العقلاء.
* * *
(اتهام الترك للعرب)
كان الترك يتهمون العرب بالميل إلى الاستقلال دونهم والسعي لذلك، وأنه لا
يمنعهم منه إلا ضعفهم وعجزهم أمام قوة الترك. وقد ذكرت في مقالات (العرب
والترك) التي كتبتها في الآستانة ونشرتها في جرائدها ثم في المنار أنني لا أعرف
لهذه التهمة أصلاً إلا ما كان من افتراء جواسيس السلطان عبد الحميد وطلاب
المنافع عنده أو استغلال أوهامه، بل أقول: إن هذه التهمة لم تكن معقولة في عهد
السلطان عبد الحميد؛ لأن النهوض بأمر الاستقلال إما أن يكون من جانب الأمة بما
تتوسل به إليه من الجمعيات السياسية والعصابات المسلحة، ولم تتصدَّ الأمة
العربية لذلك ألبتة، وإما أن يكون من جانب الأمراء المستقلين بالإدارة في بعض
الأقطار أو من دونهم من الزعماء أصحاب العصبية، ولم نعلم أن أحدًا من أمراء
جزيرة العرب أو من الزعماء في الولايات العربية العثمانية - كان مظنة أو موضعًا
لهذه التهمة؛ إذ لا توجد شبهة يُعتمد عليها في ذلك. إلا أن المفسدين كانوا يتهمون
خديو مصر عباس حلمي باشا بذلك، فكان يُسمع لهم؛ لأن مصر بلاد عربية غنية
بالمال والرجال، وقد تصدى رأس حكومتها الأخيرة محمد علي باشا لحرب الدولة
العثمانية، فقهرها واستولى على سورية والحجاز وتوغل في الأناضول ولولا الدولة
الإنكليزية لاستولى على سائر مملكتها، ولكن عباس حلمي باشا لم يكن ليطمع بمثل
ما طمع به جده الأعلى، بل ولا بمثل ما كان يطمع به جده الأدنى (إسماعيل باشا)
من الاستقلال السياسي بمصر والسودان فقط لمكان الاحتلال الإنكليزي، الذي
جعل السلطة الفعلية في مصر بيد إنكلترة دونه؛ ولهذا كان الموسوسون والجواسيس
يزعمون أنه على اتفاق مع الإنكليز في هذا الأمر، وكان كثير من المصريين
وغيرهم يصدق ذلك، ومنهم من لم يرجع عن هذا التصديق إلا بعد نشر كتاب
(عباس حلمي الثاني) للورد كرومر؛ إذ صرح فيه بأن حياة عباس مع الاحتلال
كانت حياة خلاف وشقاق لا يُرجى معه اتفاق.
إن المطلعين على الحقائق يعلمون علم اليقين أن عباس حلمي باشا ما كان
يسعى لهذا الأمر ولا يرجوه، على أنه كان يعلم أنه لا سبيل له إليه لو تصدى له،
ويعلمون أن من سياسة إنكلترة التقليدية بقاء ما للترك من السلطان والسيادة على
بلاد العرب، وترجيح ذلك على تأسيس دولة عربية جديدة، وهي لم تجنح إلى
سياسة العطف على العرب وإظهار الميل لمساعدتهم على الاستقلال إلا بعد وقوع
الحرب بينها وبين الترك بمدة طويلة.
أما أمراء جزيرة العرب فقد كان كل منهم راضيًا بحاله ولم يكن يخطر ببال
أحد منهم أن يعتدي على الدولة فيما وراء حدود إمارته ولا أن يسعى لذلك بالاتحاد
مع غيره، كما أنه لم يكن يسهل على أحد منهم أن تعتدي الدولة على استقلاله أو
تُحْدث في بلاده حدثًا ما لِما استقر في أنفسهم من غريزة الاستقلال الموروثة في
الأمة العربية، مع عدم ثقة أحد منهم بأن الدولة تقيم شرع الله في بلادهم، على أن
للزيدية دولة أقدم من الدولة العثمانية مازالت تُنَصِّب الأئمة من قريش عليها
ويعتقدون أن الترك من البغاة الخوارج على الإمام الحق، وأهون اعتقاد سائر
عرب الجزيرة في حكام الترك - أنهم ظلمة فسقة مبغضون للعرب، ولكنهم مع ذلك
يحبون بقاء الدولة ويتمنون لها القوة والعظمة لأجل صد الإفرنج عن البلاد
الإسلامية. وقد كان رجال الدولة في العهد الأخير يعتقدون أن الشيخ مبارك الصباح
من أشد العرب عداوة للدولة، ولكنني لما لقيته سنة 1330 منصرفي من الهند
أخبرني بما لقيه من عدوان الدولة عليه، وتصديقها لنفيه من الكويت، وأن إنكلترة
منعتها من ذلك بدون طلب منه، وأنه مع ذلك محافظ على نسبته إليها ورافع لعلمها
باختياره، ولو شاء لاستبدل به غيره، ومن كلامه في الترك والعرب: (نحبهم ولا
يحبوننا) .
وأما كبراء العرب في ولايات سورية والعراق من العلماء والوجهاء فقد
كانوا أشد تعصبًا للترك من الترك أنفسهم، حتى كانوا يفضلونهم على العرب
ويسترون ما يعرفون من سيئاتهم، ويكبّرون الصغير من حسناتهم، بل يذكرون لهم
فضائل ومناقب لا يُعرف لها أصل، منها أنهم يعدون بعض ملوكهم من الأولياء،
ومؤرخو الترك يعدونهم من الفساق! . ومما كانوا يذيعونه بين العامة أن الشيخ
محيي الدين بن العربي والشيخ عبد الغني النابلسي قد علما بالكشف أن ملكهم
يبقى إلى قيام الساعة!
تلك حال كبراء البلاد وخاصتها والعامة تبع لهم، لم يُسمع لأحد منهم نبأة
ظاهرة ولا دعوة خفية إلى عداوة الترك أو القيام عليهم أو الاستعداد لتأسيس حكومة
عربية تستقل في البلاد، اللهم إلا ما كان قد قيل من أن شيعة الماسون كانت تسعى
لجعل الأمير عبد القادر خديويًا لسورية، وما قيل في عهد ولاية مدحت باشا على
سورية من أنه كان هو الذي يسعى لجمع كلمة المسلمين وغيرهم للاتفاق على
تأسيس إمارة عربية في سورية كالإمارة المصرية يكون هو الخديو عليها، ومن أن
رستم باشا متصرف لبنان الأجنبي الأصل كان هو الذي كشف للدولة دسيسة شيخ
أحرار الترك وزعيمهم الأكبر، وترتب على ذلك إخراج السلطان عبد الحميد
لمدحت باشا من سورية، وقيل إن تلك الحركة كانت مدبرة بدسائس الآستانة
ليتوسل السلطان بها إلى نفي مدحت باشا، ثم الفتك به. وفي تلك الأثناء نُشرت
قصيدتا الشيخ إبراهيم اليازجي السينية والبائية (راجع ص831، م12) .
ولما كنت أنشر في الآستانة مقالات (العرب والترك) وأشرت فيها إلى هذه
المسألة جرى بيني وبين الصدر الأعظم حسين حلمي باشا حديث في هذا الموضوع،
قال لي في أثنائه: إنه أقام في سورية عدة سنين أيقن في أثنائها بأنه لا يوجد فيها
أحد من وجهاء المسلمين يكره الدولة إلا بعض الأفراد من بيت المؤيد ومن بيت
الصلح، وسائر الوجهاء مخلصون للدولة كغيرهم. ولا أدري مَن عنى بقوله ذاك.
ولم أعلم عن أحد من المعاصرين لنا من أهل هذين البيتين شيئًا يبين المراد لنا من
قوله، إلا أن أحد أفراد البيت الأول كان قد جاء مصر في أوائل عهد مجيئي إليها،
وأسس جمعية دينية يشترط في أعضائها ترك المحرمات والمحافظة على أداء
الفرائض وقد ساعدته على ذلك ولم أكن أسمع منه كلمة تُشعر بأن له غرضًا سياسيًّا
منها وقد أفادت الجمعية فائدة دينية ظاهرة، ثم انشق عنها عضو مصري تركي
الأصل زاعمًا أن للمؤسس غرضًا سياسيًّا منها، وتبعه على هذا جماعة من
أعضائها في القاهرة صاروا يلغطون بذلك. ثم إن المؤسس سافر إلى الآستانة ثم
عاد إلى سورية وأقام فيها. ولو صدّق السلطانُ عبد الحميد أنه كان يسعى إلى ذلك
الغرض السياسي لما أفلت من قبضة انتقامه. وإنما اتهمه بعض الناس بأنه تعمد
إلقاء كلام لأولئك اللاغطين ليشتهر ويوصله الجواسيس إلى السلطان.
هذا كل ما نعلم عن سورية في هذا الأمر. وأما العراق فقد قيل: إن السيد
سلمان القادري نقيب بغداد كان يسعى إلى تأسيس حكومة عربية، وإن طلب السلطان
عبد الحميد في الآستانة قتلاً بالسم كعادة الملوك لم يطعم في القصر السلطاني ولا عند
أحد في الآستانة شربة ماء ولا فنجان قوة ولا غير ذلك، وكان يعتذر بأنه مريض لا
يذوق شيئًا إلا بأمر طبيبه الخاص، ولكن اشتهر أن السلطان أكرم مثواه وقلده نوطًا
ذهبيًا كتب عليه (شيخنا سلمان) وأعاده إلى بغداد عزيزًا كريمًا، ومما
كان يقال في ذلك الوقت أن للسيد سلمان أعداء، سعوا به إلى السلطان؛ وسمعت
والدي رحمه الله تعالى يقول: كان السيد سلمان ذا نفوذ عظيم في قبائل العراق وكان
يوجد مئة ألف مسلح بالمرتين منهم طوع أمره، وأنه بلغه أن سبب نجاته من
فتك السلطان عبد الحميد أن بعض العقلاء من كبراء الآستانة قالوا أن من مصلحة
المسلمين أن يدخر مثل هذا الزعيم لأنه قد يحتاج إليه إذا طرأ على الدولة ما تخشى
عاقبته على بلاد العراق أو ما هو أعظم من ذلك، فلهذه الفكرة أقنعوا السلطان
بوجوب تكريمه (أو تلطيفه كما يقولون) وإعادته إلى بلاده. ولا أدري من أين
وصل إلى والدي هذا الخبر وكنت إذ سمعته منه صغيرًا لا أحفل بالبحث عن أمثال
هذه المسائل.
* * *
(تعاون جمعيات الترك والعرب)
هذا ما يصح أن يذكر من تاريخ هذه المسألة ولا نعلم وراءه شيئًا إلا ما كان
يكتبه في بعض الجرائد والمنشورات، من يقصدون استغلال وسوسة السلطان عبد
الحميد كما تقدم. ولكن أهل الرأي وحملة الأقلام من العرب لم يقصروا في التعاون
مع أمثالهم من الترك على السعي لإصلاح حال الدولة والقضاء على الاستبداد
الحميدي، فلما أسس شبان الترك جمعية الاتحاد والترقي ونشروها في الولايات
دخل فيها كثيرون من شبان العرب وكانت شعبها في سورية أعظم منها في غيرها،
وأسس بعض العرب جمعية أخرى كجمعية الاتحاد بعد ضعف شأن هذه في مصر
وسورية وهي جمعية الشورى العثمانية وأدخلوا في لجنتها المركزية أشهر رجال
الاتحاديين الذين كانوا في مصر وغيرهم من العثمانيين. فكان هَمّ طلاب الإصلاح
من العرب في عهد عبد الحميد هو همّ طلاب الإصلاح من الترك وكانوا يشتغلون
متعاونين والمواصلات بين جمعياتهم لا تنقطع ولا سيما جمعية الاتحاد والترقي في
أوربة وجميعة الشورى العثمانية بمصر، ظلوا على ذلك إلى أن ظفروا بإعادة
الدستور فظن العرب كما ظن غيرهم من الأجناس الذين تتألف منهم المملكة
العثمانية أنهم فازوا بما جاهدوا في سبيله إلى أن قلب لهم المتغلبون على جمعية
الاتحاد - وعلى الدولة - ظَهْر المِجَن، وأوقعوهم في هوة اليأس من
الدولة.
* * *
(السبب الصحيح)
تبين مما شرحناه من الحقائق أن عدم تصدي العرب لإنشاء دولة جديدة لم
يكن سببه الخوف من قوة الدولة كما كان يتوهم الترك؛ فإن العرب أقوى من
اليونان والبلغار وغيرهما من الشعوب التي انفصلت من السلطنة العثمانية،
وصارت دولاً مستقلة، ولم يكن سببه تفرق العرب وتعذر اتفاق أمرائهم وزعمائهم
كما يتوهم الكثيرون منهم ومن غيرهم، فلو وجد هذا القصد لكان هو الجامع لهم،
ولا الجهل الضارب بجرانه في البلاد العربية؛ فإن محمد علي الكبير لما غزا
الدولة وكاد يفتحها كلها لم يكن من علماء السياسة والاجتماع، ولم يكن الشعب
المصري على درجة عالية من العلوم والفنون التي تدفع الشعوب إلى الفتح
والاستعمار.
وإنما كان السبب الصحيح لسكون العرب وسكوتهم عن طلب استقلالهم
وتجديد دولة لهم هو الإسلام وأوربة.
دين الإسلام وسياسة دول أوروبة سببان مستقلان أو سبب واحد مركب،
لكل من جزئيه تأثير خاص في صرف العرب العثمانيين عن السعي للاستقلال،
ولعله لو انفرد أي منهما لما صرفهم كلهم عن كل سعي واستعداد لذلك.
أما الإسلام فقد أزال من أنفس العرب عصبية الجنسية إلا مَن غلبت عليهم
البداوة فإنهم بما توارثوه من الغرائز والأخلاق - لا يخضعون إلا لسلطة رؤسائهم
الذين من أبناء جنسهم، بل من رؤساء عشائرهم. وأما من غلبت عليهم الحضارة
فما زالوا يألفون سلطة الأعاجم من الملوك والسلاطين الذين يتولون أمرهم من قِبَل
الخلفاء العباسيين، ويحكمون بشريعتهم، ويؤيدون لغتهم، ويتركون لغاتهم إليها،
إلى أن هان عليهم الخضوع لسلطة الأعاجم المصرّين على أعجميتهم، الذين لا
يستمدون سلطتهم من خليفة قرشي عربي وهم الترك، بل هان عليهم ادعاء هؤلاء
الأعاجم للخلافة النبوية ورضوا بذلك واطمأنوا له؛ لأنه مع إشرافه على مجموعهم
المتفرق من شاهق القوة العسكرية - قد أطل على قلوبهم من سماء الفتاوى الشرعية،
وتسرب إلى أفكارهم من باب المصلحة الإسلامية؛ ذلك بأن أكثرهم من المنتمين
إلى مذاهب علماء السنة، الذين يوجبون طاعة المتغلب بالقوة، وإن لم يكن حائزًا
لغير الإسلام من شروط الخلافة الشرعية، ومنها النسب القرشي بإجماعهم،
ومستندهم في ذلك رعاية المصلحة الراجحة، وخوف الفتنة. على أنهم مختلفون
في عدّ رعاية المصلحة حجة، أو داخلة فيما ذكروه للقياس من مسالك العلة،
ومختلفون في سد الذرائع أيضًا. ولما كانت الزيدية لا تقول بطاعة المتغلبين، ولا
بمصلحة تبيح ترك اشتراط النسب القرشي العلوي وشرط العلم الديني في أئمة
المسلمين (أي الخلفاء) لم يخضعوا لسلطان الترك، ولا دانوا لحكمهم، بل ظلوا
ينصّبون الأئمة الحائزين للشروط الشرعية في مذهبهم، ويقاتلون الترك الذين
يتصدون لفتح بلادهم، ولم تستطع الترك أن تغلب أئمة اليمن على أمرهم، بل
صالحوا إمامهم الإمام يحيى منذ سنين قليلة، وأقروه على إمامته في قومه ووطنه
بعد أن حاربوه، وحاربوا سلفه أربع مائة سنة، على أن الإمامة لا تتجزأ ولا تتعدد
والحق أن الباعث الأخير لاعتراف أكثر المسلمين بخلافة سلاطين الترك - هو
كوْنهم أمسوا حصنًا لبقية البلاد الإسلامية في وجه أوربة.
وليس من غرضنا هنا أن نبحث في الخلافة وشروطها، وإنما بحْثنا هذا
تاريخي إذا ذكرت فيه مسألة شرعية، فإنما تُذكر على سبيل الاستطراد مختصرة
بقدر الضرورة، ولم تكن مسألة الخلافة من مواضع بحث طلاب الإصلاح من
العرب في السنين الأخيرة خلافًا لأوهام الواهمين التي أثارها في مخيلاتهم لغط
بعض الكُتاب بها في عهد السلطان عبد الحميد لأجل استغلال وساوسه كما تقدم،
حتى صارت حكومته تمنع نشر كل كتاب من كتب الكلام والعقائد والحديث
والتفسير تذكر فيه هذه المسألة. ومن أثر ذلك أنه لما طبع كتاب المسايرة لكمال بن
الهمام، وهو من أهم كتب العقائد عند الحنفية وكثير الرواج في الآستانة، اضطر
طابعه بمصر أن يطبع منه نسخًا، حذف منها بحث الإمامة (الخلافة) لأجل بيعها
في الآستانة وسائر البلاد العثمانية. وصار بعض الجاهلين في مصر يظن أن ذكر
الشروط الشرعية للخلافة - ولا سيما شرط النسب القرشي - لا يصدر إلا من عدو
للدولة وللإسلام أيضًا. على أن هذا الشرط مذكور في الكتب العربية والتركية التي
طُبعت في الآستانة قبل تشديد الحكومة الحميدية في مراقبة المطبوعات وقد ذكر في
بعض الكتب العصرية التي طبعت بعد الدستور، ومنها كتاب لإسماعيل حقي بك
بابان الاتحادي الذي كان مدرسًا في مكتب الحقوق، وصار ناظرًا للمعارف.
* * *
(تكوين الترك للعصبية العربية)
فهذا وجه صدّ الإسلام للعرب عن محاولة الاستقلال دون الترك، وقد قلت
مرارًا: إنه لا يقدر أحد على إعادة هذه العصبية إلى العرب أو إعادتهم إليها بعد أن
أبعدهم الإسلام عنها - إلا الآستانة، أو تحامل الترك عليهم بباعث العصبية
التركية [3] . وقد صدق الزمان هذا القول وأسس الاتحاديون - بعصبيتهم التركية
واضطهادهم للعرب - بناء العصبية العربية أو أحيوها بعد موتها. فإن هؤلاء
الاتحاديين قد تمرسوا برجالات العرب وشبانهم في الآستانة وغيرها، فعلموا من
أقوالهم وأفعالهم في دُور الحكومة الرسمية ومدارسها وأندية الجمعية في البلاد
العربية أن عزمهم على تتريك العرب كغيرهم بالقوة عزم ثابت لا يرجعون عنه،
وأنهم جازمون بسهولة تتريك بلاد سورية والعراق في سنين معدودة، وما يعسر
تتريكه الآن من جزيرة العرب يعد من المستعمرات، يوضع له قانون خاص
لإدارته، ولا يكون لأهله ما لسائر العثمانيين من الحقوق المنصوصة في القانون
الأساسي. وقد أرسلوا طائفة من طلبة الترك إلى أوربة لأجل درس قوانين
الاستعمار.
بهذا علم نبهاء العرب أن أمتهم ولغتهم عرضة للزوال من المملكة العثمانية -
ولا يجهل أحد أن الدين الإسلامي يقوى بقوة لغته العربية ويضعف بضعفها ولا
نقول أكثر من ذلك - فتوجهت قلوب كثير منهم لتدارك الخطب وألفوا بعض
الجمعيات لذلك ورأى الذين يتحرون هدي الإسلام في أعمالهم أن ما كان مانعًا من
إحياء الجنسية العربية قد زال وخلفه المقتضي لإحيائها، فقد كان المانع من ذلك
اتقاء الشقاق بين العرب والترك وإفضاء ذلك إلى زوال الدولة واستيلاء الأجانب
على بلادها، وقد وقع ذلك من قِبَل الاتحاديين أي من قبل الدولة نفسها؛ لأنها في
قبضتهم فلا معنى لاتقائه وقد حصل، وخلفه المقتضي لإحياء هذه الجنسية، وهو
وجوب المحافظة على اللغة العربية والأمة العربية شرعًا. ولكن هذا قد يحصل بما
دون استقلال العرب بأنفسهم دون الترك، وإن كان حصولاً ضعيفًا، فلم يكن باعثًا
على السعي إلى تأليف دولة عربية بل إلى طلب إصلاح اضطرب في تحديده
أفرادُهم وجماعاتهم وكان حزب اللامركزية أقصدها وأشدها اعتدالاً.
وما كان يخفى على أحد من هؤلاء أن مطالبهم معلقة بين الرجاء واليأس،
وأن الحياة إنما هي حياة الاستقلال، لا تحيا اللغة ولا ترتقي الأمم بدونها، ولكن
دونها خَرْط القتاد؛ إذ لا تحصل إلا بثورة يصطدم بها الترك والعرب اصطدامًا
يُخشى أن يُضعف الفريقين، وينتهي بزوال الدولة واقتسام أوربة لبلادهما. ومن ذا
الذي يُقدم على حمل هذه التبعة الثقيلة التي تئطُّ من حملها الجبال الرواسي؟
أيجهل أحد من طلاب الإصلاح العرب أن هدم آخر سلطنة إسلامية - مهما يكن
سببه الحامل عليه - لا يعقب الساعي إليه والقائم به إلا لعْن مئات الملايين من
المسلمين إلى يوم الدين؟
لهذا أجمع طلاب الإصلاح من العرب الذين يعتد برأيهم، ويرجى تأثير
عملهم - على أن لا يكونوا سببًا لسقوط الدولة وزوالها. ولا يسعوا إلى ضررها
ولا إلى إضعافها، وعلى أن يجعلوا همّهم في إصلاح أنفسهم وعمارة بلادهم، مع
النصح للدولة والإخلاص لها، وطلب حقوقهم التي أثبتها لهم القانون الأساسي فيها،
ليرتقوا ويعتزوا بأنفسهم، فلا يسقطوا مع الدولة إن سقطت وتعتز الدولة وترتقي
بارتقائهم إن بقيت، وأن يكون جلّ سعيهم إلى ذلك في مجلس الأمة بواسطة
مبعوثهم.
ثم طرأ على بعضهم اليأس من بقاء الدولة وقوي ذلك وكثر التفكر في عواقبه
عندما غلب البلقانيون الدولة في الحرب، وكادت دولة البلغار التي تم لها استقلالها
في عهد الدستور تستولي على الآستانة، وتحدثت جرائد أوربة بحقوق بعض الدول
الكبرى في بلاد الدولة وخص بالذكر بعض الولايات العربية، وطفق المفكرون
يناجي بعضهم بعضًا: ما حيلتنا إذا أقدمت دولة قوية على الاستيلاء على بلادنا،
كما استولت إيطالية على طرابلس وبرقة وليس فيها شيء من أسباب الدفاع ولا
يمكن الدولة ولا مصر أن تساعدها على مقاومة كما ساعدتهما.
صدعهم هذا اليأس بعد أن قوي رجاؤهم في الدولة بانتصار حزب الحرية
والائتلاف على حزب الاتحاد والترقي وانتزاعه السلطةَ التنفيذيةَ من يده، ثم قوي
ذلك اليأس واشتد بثورة الاتحاديين على وزارة كامل باشا وقتلهم لناظر الحربية في
الباب العالي وتأليف وزارة جديدة منهم بقوة الثورة، ولولا أن زعماء العرب كانوا
مجمعين على المحافظة على الدولة مهما تكن حالها - لبادروا عند ذلك اليأس الشديد
إلى إضرام تار الثورة على الدولة والجهر بالاستقلال دونها، لعلمهم بأنه لم يبق
عندها في ذلك الوقت سلاح ولا ذخيرة تدافع بهما عن عاصمتها، فكيف تقدر على
تجريد عسكر يخمد نيران الثورة في البلاد البعيدة عنها؟ ! ، ولكنهم لم يفعلوا، ولم
يكن الإسلام هو المانع لهم من التصدي لتأسيس دولة عربية وهم يائسون من بقاء
الدولة التركية ومن إقامتها للإسلام إن بقيت والاتحاديون غالبون على أمرها، فإن
إفتاء مذاهبهم بوجوب طاعة المتغلب خوف الفتنة التي ترجح مفسدتها على
المصلحة لم يعد ينطبق على حالتهم مع الدولة، ولكن المانع الحقيقي هو الخوف من
أوربة أن تغتنم الفرصة وتستولي على البلاد.
فتبين بهذا أن ما كان يصد زعماء العرب من المسلمين عن التصدي لتأسيس
دولة عربية أمران: الإسلام والخوف من أوربة، وكان الرجحان في بعض
الأحوال للأول وفي بعضها للثاني، ولكنهما كانا في عامة الأحوال والأوقات مانعًا
واحدًا أو سببًا واحدًا مركبًا من أمرين كل منهما يقوي الآخر.
وبعد حرب البلقان أقدمت الحكومة الاتحادية على عقد الاتفاق بينها وبين
الدول الكبرى على الاعتراف لهن بالنفوذ الاقتصادي في أعظم الولايات العربية
ليقرضنها عشرات الملايين من الجنيهات، وصرح بعض كبار السياسيين في جرائد
أوربة بأن مناطق النفوذ الاقتصادي تتحول إلى مناطق نفوذ سياسي عند سنوح أول
فرصة لذلك، فثبت عند زعماء العرب أن الاتحاديين شرعوا في تنفيذ ما هددوهم
به من بيع بلادهم وترقية الترك بثمنها، كما فعلوا ببيع طرابلس الغرب وبرقة،
فاشتدت عزيمتهم على طلب الإصلاح وعقدوا المؤتمر العربي في باريس لذلك؛
فذعرت الحكومة الاتحادية، ولجأت إلى الحيلة والخداع لضعفها في ذلك الوقت،
وكان من أمر نتيجة المؤتمر ما هو معلوم من اعتراف جمعية الاتحاد ثم حكومتها
ببعض حقوق العرب في الدولة ووعدها بإعطائهم تلك الحقوق بالتدريج وخداعها
للسيد عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر وتصديقه إياها بما وعدت به.
* * *
(الحرب الأوربية واستقلال الحجاز)
ثم ظهرت بوادر الحرب الأوروبية وعزم الدولة على الدخول فيها
فبادرت إلى كتابة مقالة نصحت فيها لإخواني العرب بالكف عن طلب
الإصلاح في حال الحرب، وتأييد دولتهم بالإجماع، فكان لها تأثير عظيم.
ولكن الاتحاديين لما دخلوا في الحرب، وجعلوا الأحكام في المملكة
عسكرية عرفية - جعلوا ذلك وسيلة للتنكيل بالعرب والأرمن حسب خطتهم
المقررة منذ سنين، فصلبوا في سورية جميع مَن عرفوا من المطالبين
بالإصلاح من نابغي العرب، ونفوا من البلاد أرباب البيوتات والثروة الكبيرة،
وصادروا أموال الناس، وغلات أرضهم، وفعلوا مثل ذلك في العراق، ثم
تحرشوا بالحجاز، فبادر الشريف أمير مكة المكرمة إلى إعلان استقلال
الحجاز بعد النصح لجمال باشا الحاكم العسكري الاتحادي المطلق في سورية
ولحكومة الآستانة - بالكف عن الفظائع في سورية والعراق، فلم يقبل نصحه،
وانتهى أمر الشريف باعتراف دول الحلفاء باستقلاله التام، وبما بايعه به
أهل البلاد من جعْله ملكًا عليهم.
وقد نشر الشريف قبل المبايعة منشورًا بيَّن فيه سبب قيامه مع
الحجازيين بما قاموا به، ففهمنا منه أنه كان موافقًا لما أجمع عليه مَن دونه
من زعماء العرب من الرغبة في المحافظة على بقاء الدولة، واتقاء أن يكون
زوالها أو ضعفها من قِبَل العرب، فإن استقلال الحجاز - الذي أنتجته
الضرورات - لا يمكن أن يكون سببًا لزوال الدولة، وهي داخلة في أحد
الحلفين اللذين انقسمت إليهما دولة أوربة الكبرى؛ فإن النصر لأحد الحلفين على
الآخر إنما يكون بانتصاره عليه في أوربة، واستقلال الحجاز لا يقدم في ذلك،
ولا يؤخر، ولكنه أفاد العرب فوائد عظيمة، فصدق عليه قولنا: إما أن ينفع
نفعًا كبيرًا أو صغيرًا، وإما أن لا يضر.
وقد ثبت عندنا أن استقلال الحجاز كان سببًا لكف الاتحاديين عن
محاولة إبادة العرب من سورية والعراق الآن، وتخفيف ما كانوا شرعوا فيه
من المذابح والفظائع، وكان هذا من أجلّ منافعه التي تربي على ما ترتب عليه من
سفك الدم الذي اجتهدت الحكومة العربية الحجازية في اجتنابه بقدر الطاقة.
* * *
(عاقبة العرب استقلال الشعوب)
ثم طرأ بعد استقلال الحجاز أن أعلن دول الأحلاف أنهن قد اتفقن على
حرية الشعوب واستقلالها في أمر حكومتها، وذكروا العرب والأرمن منها،
وهذه قاعدة عادلة عظيمة الشأن إذا نُفذت على وجهها الصحيح، وكانت الدول
كلها متضامنة في حفظها بما يتعاهدن عليه في مؤتمر الصلح، وأوَّلها بعضهم
بمعنى أن لا يحكم شعب إلا بالطريقة التي يختارها لنفسه، ولكن الوقوف على
آراء الشعوب المغلوبة على حريتها متعذر في هذه الأوقات التي تخضع فيها
للأحكام العسكرية، وقد علمنا ممن فر من سورية والعراق إلى مصر والحجاز
ومن أسرهم بمصر أن العداء بين العرب والترك قد عمَّ وتمكن، فلا مطمع في
زواله. ولم يبق في العرب مَن لا يرغب في الاستقلال دون الترك، ومن
البديهي أنه لا يوجد شعب في الدنيا يختار على الحرية والاستقلال شيئًا إذا
تيسر له، ولكن يوجد في كل أمة أفراد من عبيد المال، ومن الجاهلين الذين
يُخدعون بزُخرُف الأقوال، فيمكن أن يُستخدم من هؤلاء وأولئك بالترغيب
والترهيب طائفة تقول ما تؤمر أن تقوله، ولا يمكن أن يكون اختيار هؤلاء
للعبودية بتسميتها بغير اسمها حجة على الشعب، ولكن القوة تحتج على
الضعف بما تشاء، وإنما يُعرف رأي الشعوب في بلاد الحضارة من قِبَل
أحزابها السياسية، وليس للشعب العربي العثماني حزب سياسي عام إلا
(حزب اللامركزية) ، ويمكنه أن يبين رأي الشعب إن استطاع زعماؤه
أن يعربوا عن آرائهم، وله جمعيات موضعية خاصة كجمعية الاتحاد
اللبناني بمصر وأمريكة والنهضة اللبنانية في أمريكة، فهي تمثل آراء
جمهور اللبنانيين. والدول إذا أخلصت في تنفيذ هذه القاعدة تقررها،
وعندما يجتمع زعماء كل أمة تنال استقلالاً جديدًا لتأسيس حكومتها العليا
يعرف رأيهم في شكلها، ولا يعرف معرفة صحيحة بغير ذلك. فإذا انتهت
الحرب بذلك كانت عاقبتها على البشر خير العواقب. والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
دعَّتهم بتشديد العين: دفعتهم بعنف.
(2)
هذا الوصف احتراز من الوطن السياسي.
(3)
أذكر أنني كتبت هذا غير مرة في المنار ولكنني لا أتذكر من مواضعها إلا ما في ص 252 و253 من المجلد الثالث عشر والعبارة فيه تدل على أنها مسبوقة، وإلا ما في ص80 من المجلد التاسع عشر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة استقلال الشعوب
نشر (المقطم) في العدد الذي صدر منه في 23 شعبان (13 يونيو) مقالة
عنوانها: (الصلح الدائم وكيف يُنال؟) قال فيها ما نصه:
وضعت روسية الديمقراطية على بساط البحث مسألة الغرض من الحرب
الحاضرة في أواسط الشهر الماضي، فحملت الدول المتحاربة على إعلان قصدها
وغايتها، وحثت الأمم الكبيرة والصغيرة على بسط آمالها وأمانيها، وكانت روسية
أولى الدول التي أعلنت غايتها من الحرب، فقالت: إنها لا تتوخى ضم الأملاك
وتقاضي الغرامات الحربية، وإن غرضها الأساسي الوحيد إنما هو إبرام صلح
وطيد الأركان على أساس استقلال الأمم الكبيرة والصغيرة وتحقيق آمالها القومية
العادلة وتخويلها حقًّا من أقدس حقوقها وهو أن تحكم نفسها بنفسها وتختار شكل
الحكومة التي تلائم أخلاقها وعاداتها. وقام المسيو ريبو بعد ذلك، فأعلن رغبة
فرنسة في إبرام صلح عادل أساسه استقلال العناصر. ثم وقف في مجلس النواب
الفرنسوي وقفته التاريخية المشهورة، فجاهر في جلسة 4 يونيو الحالي بأن فرنسا
لا ترمي من هذه الحرب إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين اللتين سُلختا عنها
سنة 1871، رغم إرادة سكانهما، ومنح الأمم الكبيرة والصغيرة الاستقلال التام.
ووافقت بريطانيا العظمى على قرار حليفتيها العظيمتين إذا كان مبدأ عدم ضم
الأملاك، وتقاضي الغرامات الحربية يعني رد المسلوب والتعويض من الخسارة
التي نزلت بالأمم التي اعتُدِي عليها.
وقد وافانا روتر أمس بنص المذكرة الكبيرة الشأن التي أرسلها الدكتور ولسن
رئيس الولايات المتحدة إلى روسية وبيَّن فيها أغراض أميركا من هذه الحرب،
فقال:
(إنها لا تروم الربح المادي ولا التوسع ولا تقاتل لجرّ مغنم، ولكن لتحرير
الشعوب في كل مكان، ومساعدتها على النهوض والارتقاء في ظل الاستقلال من
غير تسلط متسلط عليها، وإن المشاكل الحاضرة يجب أن تسوَّى طِبقًا لمبدأ واضح
جلي، وهو أنه لا يصح إجبار شعب من الشعوب على أن يعيش في ظل حكم لا
يريده، ولا إجراء تعديل في الكون إلا فيما يؤدي إلى توطيد أركان السلام وسعادة
الأمم، فيصير إخاء البشر حينئذ حقيقة واضحة وقوة فعالة لصون الحياة من اعتداء
المستبدين وطمع الطامعين) .
هذه غاية الولايات المتحدة من الحرب، وذلك هو الغرض الوحيد الذي
وضعه الحلفاء كلهم نصب عيونهم، وأعلنوا غير مرة عزمهم الأكيد على الوصول
إليه مهما كلفهم الأمر، وبديهي أن الولايات المتحدة لم تخُض غمار الحرب
الحاضرة إلا بعد ما اتفقت مع الحلفاء على تحقيق هذا المبدأ الشريف العادل، فإن
المسيو بريان رئيس الوزارة الفرنسوية سابقًا أرسل إليها - باسم الحلفاء جميعهم -
مذكرة مسهبة في 3 ديسمبر الماضي، قال فيها: إن للحرب الحاضرة ثلاثة
أغراض:
أولها: إعطاء الأمم الكبيرة والصغيرة حريتها واستقلالها.
وثانيها: نيل التعويض من الخَسارة التي نشأت عن اعتداء ألمانية الفظيع.
وثالثها: الحصول على ضمان وافٍ لمنع وقوع الحرب في المستقبل.
على هذا الأساس تم الاتفاق بين الحلفاء والولايات المتحدة، ومن أجل هذه
الغاية الشريفة فقط بذلت أمريكة رفاهية شعبها، والأموال الطائلة التي كانت تنهال
عليها من أوربة. فالمجد لها والفخر لرئيسها العظيم نصير الإنسانية وحامل لواء
الحرية والعدل في العالم. اهـ.
* * *
وجاء في (المقطم) الذي صدر في 24 شعبان (14 يونيو) ما نصه:
خطة روسية
دعا وزير خارجية روسية مندوبي الصحف إلى مقابلته، وبسط لهم خطة
روسية الحاضرة، وقال ما خلاصته:
ترمي روسية الجديدة الحرة إلى إبرام الصلح العام في أقرب آن على أساس
تحرير الأمم وتخويلها حقَّ انتقاء شكل حكوماتها وعدم ضم الأملاك وتقاضي
الغرامات الحربية من الأعداء، وهي تتوخى من مواصلة الحرب أمرين:
أولهما: الحصول على صلح شريف يزيل الضغائن والأحقاد من بين الأمم
المتحاربة.
وثانيهما: استقلال الشعوب استقلالاً تامًّا وجعْلها قوة عظيمة لصون الحرية
ومنع اعتداء المعتدين في المستقبل.
إن الخطأ الذي ارتكب في حرب السبعين لا يجوز أن نرتكب مثله اليوم،
فسكان الإلزاس واللورين الذين سُلخوا عن فرنسا - رغم إرادتهم - لم ينسوا وطنهم
الأصلي إلى الآن، وكانت مسألتهم من أسباب الحرب الحاضرة؛ لأن الظلم لا يُنسى
مهما تقادم عهده؛ لذلك ترى روسية الحرة أن تشيد الصلح المقبل على أساس العدل
وحرية الشعوب الكبيرة والصغيرة.
لا أنكر أن الحكم السابق ارتبط بمعاهدات سرية مع بعض الدول، وأن هذه
المعاهدات أقلقت الديموقراطيين الروس لاعتقادهم بأنها ترمي إلى التوسع وضم
الأملاك، فألحّوا على الحكومة المؤقتة في نشرها في الحال خوفًا من وقوع الشقاق
بين أحزاب الأمة، ولكن هذا الطلب لا يتفق مع مصلحة روسية؛ لأنه يؤدي إلى
قطع صِلاتها بحلفائها وإكراهها على إبرام صلح منفرد، مع علمها أن الصلح
الوحيد الذي يلائم مبادئها هو الصلح العام على أساس استقلال الأمم الكبيرة
والصغيرة استقلالاً تامًا، فالواجب على روسيا في هذه الحال أن تنسى الماضي،
وتنظر إلى المستقبل فقط بعد الانقلابات العظيمة التي طرأت على الكون كالثورة
الروسية، ودخول الجمهورية الأميركية العظمى في الحرب. وهذه الانقلابات
ستؤثر أعظم تأثير في ديمقراطية الأمم المتحالفة، ولا سيما أن صِلاتها بممثلي تلك
الديمقراطية على أحسن ما يُرام. وبديهي أن مهمتي الأساسية في وزارة الخارجية
هي التوفيق بين الديمقراطية الروسية وديمقراطية الأمم الغربية على أساس يكفل
السلم للعالم. ولكن تحقيق هذه المهمة يتعذر علينا إذا أحجمنا عن القيام بالعهود التي
قطعناها لحلفائنا.
أما مسألة ضم الأملاك فلا تخطر على بال أحد منا، وليست المعارك التي
تخوض غمارها الآن إلا معارك دفاعية ترمي إلى طرد العدو من البلاد التي احتلها
في روسية والبلجيك وفرنسة وسربية ورومانية ونيل الأمم الكبيرة والصغيرة
حريتها واستقلالها.
هذا كل ما أستطيع أن أقول الآن عن غرض روسية، والخطة التي تنهجها
لتحقيق آمالها وأمانيها. انتهى.
* * *
وجاء في (المقطم) الذي صدر في يوم السبت 18 رجب (19 مايو) :
غرض بريطانية العظمى من الحرب
لندن في 17 مايو
إن الخطبة التي خطبها اللورد روبرت سسل في مجلس النواب في الليلة
البارحة تعد هنا - وفي سائر بلدان الحلفاء - من أهم ما قيل في بيان غرض
بريطانية العظمى من الحرب.
فتح المستر سنودن باب المناقشة وردّ اللورد روبرت سسل عليه، فقال: إن
عبارة (عدم الضم) راجت كثيرًا وتناقلتها الأفواه. ثم شرع بطرق أبواب هذا
الموضوع بابًا فبابًا، واستهل البحث بذكر بلاد العرب، فقال: ليس في الدنيا رجل
يشير علينا بأن نبذل نفوذنا لرد بلاد العرب إلى تحت سلطة الأتراك (هُتاف) ، ثم
إن أعظم ضم لأرمينية بأوسع معنى السيادة والإمبراطورية - يفيد شعبها الذي عانى
الويلات والنكبات بما اقترفه الأتراك به من الجرائم، وما يقال عن أرمينية يقال
مثله عن سورية وفلسطين.
ثم انتقل إلى الكلام عن مستعمرات ألمانية في إفريقية، فقال: إننا لم نهجم
على تلك المستعمرات لننقذ أهلها الأصليين من سوء الحكم، ولكن أتريدون أن
نعيدهم إلى ألمانية بعد ما أنقذناهم منها؟ ! ، فهتف المجلس له هتافًا شديدًا لما قال:
إن بدني يقشعرُّ إذا فكرنا في رد أولئك الوطنيين إلى حكم الحكومة التي ارتكبت بهم
ضروب القسوة.
وماذا أقول عن بولندا وهل فيكم مَن يعترض على إنشاء مملكة بولندية
مستقلة. وماذا أقول عن الإلزاس واللورين وهل مَن يقول (؟) إن ألمانية بعدما
أخذت ولايتين من فرنسة لا يجب أن تردهما إليها (هتاف) . وعندنا أيضًا
الولايات الإيطالية الداخلة في حكم النمسا، فهل توافق الحكومة البريطانية على عدم
رد هذه الولايات إلى إيطالية وسكانها من الإيطاليين.
ثم طرق اللورد روبرت بابًا آخر من أبواب الموضوع، وأشار إلى عبارة
(عدم عقد الصلح مع آل هوهنزلرن) ، فقال إن في هذه العبارة كثيرًا مما
يُستصوب، وهي مقبولة عند عامة البريطانيين، ولكن الفطنة قد تقتضي بعدم
اتخاذها قاعدة لتعريف سياستنا الوطنية.
قال: وقد سمعنا البعض يقولون: (لا غرامة حربية) فهل يراد أن لا
تعطَى البلجيك غرامة؟ وماذا يكون نصيب سربيا وولايات فرنسة الشمالية؟
وهل يسعنا أن نغضي عن تعويض ما دُمر من البواخر التجارية؟ أما أنا فلست
مستعدًّا للموافقة على ذلك.
وعقبه المستر إسكويث، فخطب خطبة كان لها وقع عظيم فقال: إن عبارة
(عدم الضم) التي وردت في بعض التصريحات الروسية - لم تُفهم تمامًا لعدم
وجود معجم وافٍ للغةِ السياسة الدولية، ولكني لا أعتقد أن زعماء روسية وحكامها
المسئولين استعملوها بغير المعنى الذي نسلم به نحن.
ولكن لضم البلدان أربعة معانٍ مختلفة يمكن استعمالها لها:
(فالمعنى الأول) أن هذه الحرب إذا أريد أن تؤدي إلى صلح وطيد الأركان
فيجب أن تسفر عن ضم بعض البلدان لتحرير الشعوب الراسفة في قيود الظلم
وأغلال الاستبداد (هتاف) ، وهذا أمر مشروع، وإلا فإن الأغراض التي امتشقنا
لأجلها الحُسام في هذه الحرب لا تُنال أو يُنال جانب منها فقط إلا إذا قام الحلفاء حق
القيام بعمل هذا التحرير بضم البلدان (هتاف)، قال: وإني واثق أن رجال
حكومة روسية الجديدة لا يحتجون على ضم البلدان إذا كان هذا هو الغرض منه.
(والمعنى الثاني) يسري على البلدان التي تحوي جنسيات فُصلت عن
أصولها، مثال ذلك بلاد الترنتينو فضمها إلى إيطالية ضروري لراحة ضمير العالم
المتمدن (هتاف) .
ثالثًا (كذا) أن الضم قد يكون من الأمور المطلوبة لنقل ملك أو أرض لأجل
الاحتفاظ بمواقع حربية تكون ضرورية لا للهجوم بل للدفاع، ووقاية البلاد من
هجوم في المستقبل.
ويبقى (الوجه الرابع) أي الضم بمعنى فتح البلدان للتوسع والتبسط للسؤدد
السياسي بالربح الاقتصادي، وهذا أمر لا يلقى شيئًا من التأييد في البرلمان
البريطاني ولا في بريطانية العظمى ولا بين حلفائها (هتاف) .
ومتى جلونا هذا الإبهام فهل يبقى خلاف بيننا وبين أصدقائنا ديمقراطِيِّي
روسية على القواعد العامة التي يجب مراعاتها في الكلام عن الصلح؟ !
أما أنا فلا أعتقد بوجود شيء من الفرق (اسمعوا اسمعوا) - روتر.
* * *
وجاء في المقطم الذي صدر في 21 رمضان (10 يوليو) ما نصه:
غاية الحلفاء من الحرب
رد فرنسة وإنكلترة على المذكرة الروسية
أرسلت الحكومة الروسية المؤقتة في شهر أبريل الماضي مذكرة خطيرة
الشأن إلى دول الحلفاء، بسطت فيها غايتها من الحرب، وألحت عليهم في إعلان
أغراضهم الحقيقية منها. وقد نشرنا المذكرة الروسية في حينه، ورأينا الآن أن
نوافي القراء برد فرنسة وإنكلترة عليها لما فيه من الدلالة على حسن نيات الحلفاء
وسمو مبادئهم نبل مقاصدهم، وهو الجواب الذي وصل إلى بتروغراد في أواخر
شهر يونيو الماضي. قالت فرنسة في مذكرتها:
(جواب فرنسة عن مذكرة روسية)
اطلعت حكومة الجمهورية الفرنسوية بارتياح عظيم على المذكرة التي سلمها
إليها سفير روسية في باريس باسم الحكومة المؤقتة، وشاركتها في الثقة التامة بكل
ما يتعلق بتحسين موارد روسية الاقتصادية وزيادة قوتها الحربية أو السياسية ثم
رأت أن تعلن ما يأتي:
إن فرنسة لم تفكر في استعباد شعب من الشعوب حتى أعدائها الحاليين،
ولكنها تريد أن يزول الخطر الذي يهدد العالم وأن يُعاقَب المجرمون الذين أضرموا
نار هذه الحرب الهائلة، وكانوا عارًا على أعدائنا أنفسهم، وهي تترك لأعدائها
عواطف الطمع التي امتازوا بها في الحرب والسلم، ولا تطلب من البلاد إلا ما هو
لها شرعًا.
لقد ذهبت مساعيها السلمية أدراج الرياح، واضطرت إلى امتشاق الحسام
دفاعًا عن حريتها واستقلالها ورغبة في إكراه العدو على احترام استقلال الأمم،
فكما أن روسية أعلنت إحياء مملكة بولندة القديمة المستقبلة، هكذا فرنسة تحيي
بسرور عظيم كل المساعي الحرة التي تبذلها الأمم المستعبَدة.
ولا ترمي فرنسة في هذه الحرب إلا إلى غاية واحدة وهي انتصار الحق
والعدل، سواء قامت الأمم لإعلان استقلالها ووحدتها وإعادة سالف مجدها ومدنيتها،
أو لخلع نير العبودية عن عاتقها، وهو النير الذي كان يهدد جميع الأمم التي لم
تبلغ منزلة الجرمان من الارتقاء الظاهري.
ولا تطلب فرنسة لنفسها إلا تحرير الولايتين الفرنسويتين اللتين سلختا عنها
بالقوة وهما الإلزاس واللورين ولكنها تحارب مع حلفائها إلى النصر الذي يعيد إليهم
حقوقهم واستقلالهم السياسي والاقتصادي ويعيضهم من الخسارة التي نزلت بهم
ويكفل لهم منع كل اعتداء يقع عليهم في المستقبل.
وتعتقد حكومة الجمهورية اعتقادًا تامًّا كاعتقاد الأمة الروسية أن هذه المبادئ
العادلة هي المبادئ الوحيدة التي يجب أن يضعها الخلق نصب عيونهم لإبرام صلح
دائم على أساس العدل والحق.
فعلى الحكومة المؤقتة أن تثق ثقة تامة بمبادئ الحكومة الفرنسوية وتعلم أنها
مستعدة للاتفاق معها ليس فقط على التدابير اللازمة لمواصلة الحرب، بل على
طرق الانتهاء منها أيضًا بشكل يتفق مع الغاية التي خُضنا غمار الحرب من أجلها
انتهى.
قرار مجلس نواب فرنسا
ثم شفعت الحكومة الفرنسوية هذه المذكرة بالقرار الخطير الشأن الذي أصدره
مجلس نواب فرنسة في جلسته التاريخية في 5 يونيو، ونقلته إلينا التلغرافات
الخصوصية والعمومية في حينه [المنار وهذه ترجمته:]
باريس في 5 يونيو
هذا نص قرار الثقة بالحكومة الذي وضعه مجلس النواب الفرنسوي:
إن مجلس النواب الذي يعبر رأسًا عن سلطة الشعب الفرنسوي يرسل إلى
الديمقراطية الروسية وسائر ديمقراطيات الحلفاء التحية والسلام.
إن مجلس النواب يؤيد الاحتجاج الإجماعي الذي قدمه مندوبو الإلزاس
واللورين المسلوختين عن فرنسة إلى الجمعية الوطنية في سنة 1871، ويجاهر
بأنه ينتظر أن هذه الحرب التي أكرهت ألمانية المحبة للفتح سائر بلدان أوربة على
خوض غمارها لا تؤدي إلى تحرير الولايات التي اكتسحها الألمان فقط، بل إلى رد
الإلزاس واللورين إلى وطنهما الأصلي، وتعويض فرنسة مما أصابها من الضرر
والخسارة.
إن مجلس نواب فرنسة لا يفكر في فتح البلدان وإخضاع شعوب أخرى ولكنه
ينتظر أن يؤدي جهاد جيوش الجمهورية الفرنسوية وجيوش حلفائها إلى سحق
الروح العسكري البروسي والحصول على ضمان وطيد لاستقلال الشعوب الكبيرة
والشعوب الصغيرة.
والمجلس واثق بأن الحكومة تكفل إحراز هذه النتائج بالتعاون العسكري
والسياسي مع حلفائنا - روتر.
* * *
(جواب إنكلترة عن مذكرة روسية)
وأرسلت الحكومة البريطانية المذكرة التالية إلى حكومة روسيا وهي:
تلقت الحكومة البريطانية المذكرة التي سلمها إليها معتمد روسية في لندن وتضمنت
أغراض روسية من الحرب الحاضرة.
وقد ورد في المنشور الذي أُعلن على الشعب الروسي، ووصل إلينا مع
المذكرة أن روسية لا تتوخَّى سيادة الأمم الأخرى والاعتداء على أملاكها القومية
واحتلال بلادها بالقوة، فالحكومة البريطانية تشارك الحكومة المؤقتة في مبادئها
وتعلن أنها لم تخض غمار الحرب من أجل التوسع والفتح وإنما خاضت غمارها في
بدء الأمر دفاعًا عن كِيانها ورغبة في إكراه المعتدين على احترام المعاهدات الدولية،
أما الآن فقد صار لها غاية أخرى وهي تحرير الأمم التي تئن من جور الاستبداد
الأجنبي.
وقد قابلت الحكومة البريطانية بسرور عظيم عزم روسية على تحرير بولندا
التي تحت حكمتها الأتقراطية الروسية، وبولندا التي تئن من جور الاستبعاد
الجرماني، فالديمقراطية البريطانية تحيي روسية وتتمنى لها النجاح في هذه المهمة
من صميم فؤادها.
ويهمنا قبل كل شيء أن نجد طريقة حسنة لحل المشاكل الحاضرة حلاً يكفل
للأمم سعادتها وهناءها ويستأصل جراثيم الحروب المقبلة من العالم.
والحكومة البريطانية تنضم إلى حلفائها الروسيين من صميم فؤادها وتقبل
معهم المبادئ السامية التي أعلنها الرئيس ولسن في خطبته الشهيرة في مجلس الأمة
الأميركية.
وتعتقد الحكومة البريطانية أن الاتفاقات التي أبرمتها مع حلفائها في الماضي
لا تناقض هذه المبادئ، ومع ذلك فإنها تقبل أن تعيد النظر فيها إذا شاءت الحكومة
الروسية ذلك، وأن تعدل بعض موادها إذا اقتضت الحال؛ انتهى.
* * *
وجاء في المقطم الذي صدر في 18 رمضان (7 يوليو) :
الحلفاء واستقلال الأمم
أرسلت الحكومة الروسية مذكرة إلى دول الحلفاء بسطت فيها غايتها الحقيقية
من الحرب وطلبت منهم أن تعرف الغاية التي يتوخَّوْنها هم أيضًا، فأجابتها فرنسة
بمذكرة طويلة، قالت فيها: إنها لا ترمي إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين ومنح
الأمم الكبيرة والصغيرة استقلالها التام، ثم شفعت هذه المذكرة بالقرار الذي أصدره
مجلس نواب فرنسا في 5 يونيو الماضي.
وقالت إنكلترة في ردها على المذكرة الروسية إنها خاضت غمار هذه الحرب
دفاعًا عن كيانها ورغبة في إكراه الآخرين على احترام المعاهدات الدولية. أما اليوم
فصارت ترمي إلى غاية ثالثة وهي تحرير الأمم التي تئن من جور الاستعباد
الأجنبي، فإنكلترا في هذه الحال توافق على المباديء السامية التي جاهر بها
الدكتور ولسن وأعلنتها الدمقراطية الروسية، وهي مستعدة لإعادة النظر في
المعاهدات التي أبرمتها مع روسية وسائر حلفائها.
وقد قابلت الصحف الروسية هاتين المذكرتين بارتياح عظيم إذا استثنينا
الصحف الثورية والمتطرفة والداعية إلى الصلح. فقالت جريدة نوفو فريميا ما
خلاصته:
لا يمكننا أن نزيد حرفًا واحدًا على جواب الحلفاء عن مذكرتنا؛ فهو في غاية
الوضوح في ما يتعلق بخطة الفتح الذي يتهمهم أعداؤنا بها.
وقد أعلن حلفاؤنا غايتهم الحقيقية من الحرب، فإذا هي غاية روسيا وغاية
أميركا حليفتنا الجديدة. انتهى.
وقالت (البورص غازت) إن جواب الحلفاء أرضى روسية الديمقراطية
وأكد لها أن ديمقراطيات العالم كله متفقة على الدفاع عن استقلال الأمم وسحق
الاستبداد البروسي.
* * *
استقلال ألبانيا
رومية في 4 يونيو - صدر منشور في أرجيرو كاسترو يوم 3 يونيو
باستقلال ألبانيا وتوحيدها كلها تحت حماية إيطاليا - روتر.
رومية في 4 يونيو
هذا بعض نص المنشور بإعلان الحماية الإيطالية على ألبانيا وهو بإمضاء
الجنرال فريرو:
أيها الألبانيون، إنكم بهذا القرار سيصير لكم معاهد حرة، وجنود ومحاكم
ومدارس، يديرها أبناء قومكم، ويتيسر لكم أن تديروا أملاككم، وتجنوا ثمرة تعبكم
لأنفسكم، ولزيادة خير بلادكم وإسعادها.
أيها الألبانيون، إنكم أينما كنتم سواء في بلادكم الحرة الآن أو فارين في
سواها من البلدان أو كنتم خاضعين لحكم أجنبي يمتنّ عليكم بالمواعيد الكثيرة ولكنه
في الحقيقة يسلبكم ويعاملكم بالشدة - أنتم سُلالة جنس عريق نبيل، تربطكم عدة
قرون من التقاليد القديمة بحضارة رومية والبندقية. إنكم لا تجهلون اشتراك
المصلحة بين الإيطاليين والألبانيين في البحار التي تفصل بيننا والتي وحدت بيننا
أيضًا، إنكم لحسنو النية واليقين، تعتقدون بحسن مصير وطنكم المحبوب، فأنتم
تقفون الآن في ظل راية إيطاليا وألبانيا، وتحلفون يمين الإخلاص الأبدي لألبانيا
المستقلة التي تنادي بها اليوم باسم إيطاليا وتتمتعون بصداقة إيطاليا.
وقد تُلِيَ هذا المنشور على جمهور كبير من ألبانيي أرجيرو كسترو، فقابلوه
بالحماسة ونُشر في سواها من الجهات التي تحت إدارة الإيطاليين، وألقى الطيارون
نسخًا منه في البلاد الواقعة وراء فوجوزا - روتر.
* * *
(المنار)
هذا، وإن البرقيات العامة نقلت إلينا أن روسية الحرة لم تعترف بهذا
الاستقلال، بل صرحت بأن مؤتمر الصلح هو الذي يفصل في أمرها.
ومن تأمل أجوبة الحلفاء كلها رأى أن جواب فرنسة أبعدها عن مظان التأويل
وأقربها إلى مقصد المذكرة الروسية، ولما كان المعهود في السياسة أن يكون لكل
كلام ظاهر وباطن، وأن يكون ظاهره محتملاً للتأويل - كتب أحد كُتاب فرنسة
الأحرار (المسيو أولار) مقالة في الموضوع الذي نبحث فيه، لخصتها جريدة
(المقطم) في العدد الذي صدر منها يوم الجمعة 13 يوليو (24 رمضان) بما يأتي:
غرض فرنسا من الحرب
من مقالة للمسيو أولار
أنشأ المسيو أولار الكاتب الفرنسوي الشهير مقالة شائقة في جريدة (البايي)
(الوطن) الباريسية، بسط فيها غاية فرنسة من الحرب والأغراض الحقيقية التي
ترمي إليها. والمسيو أولار من أعظم الكتاب الفرنسويين وأشدهم تأثيرًا في الرأي
العام وأكثرهم خبرة بشؤون الشرق الأدنى، ولا سيما سورية التي زارها لآخر مرة
سنة 1907، وأسس فيها مدرسة بيروت العلمانية ومدرسة دمشق للبنات، وهو
أستاذ التاريخ في جامعة السوربون وصاحب المؤلَّفات العديدة عن الثورة الفرنسوية،
ومن زعماء الماسون والرئيس الأكبر لجمعيات التعليم العلماني في فرنسا؛ لذلك
رأينا أن نلخص مقالته للقراء لما فيها من الدلالة على أغراض الأمة الفرنسوية من
هذه الحرب وسمو مبادئها ونبل مقاصدها ورغبتها الأكيدة في مواصلة الحرب إلى
النصر قال:
خاضت الولايات المتحدة غمار الحرب ودخلت الثورة الروسية في دور جديد
في الأسابيع الأخيرة فأحدث ذلك تأثيرًا عظيمًا في العالم، ظهرت نتائجه الأولى في
انقشاع الغيوم المتلبدة في جو سياسة الحلفاء.
وقد وقعت هذه الأيام حوادث سياسية لها مغزى عظيم واضح، فأعلن المسيو
ريبو رئيس الوزراء الفرنسوية في مجلس النواب - بعد اتفاقه مع الحكومات
المتحالفة -: إنه لا يمكن أن تكون لنا خطة سرية غير الخطة الصريحة التي
يعرفها العالم كله وإن في التلاعب بالوجدان الوطني خطرًا عظيمًا يؤدي إلى أعظم
النكبات، فالمسيو ريبو أنس من نفسه هذه الجرأة الأدبية التي حملته على هذا
التصريح الخطير الشأن بعد ما أبدت الديمقراطيتان الأميركية والروسية آراءهما في
الأمر وأعربتا عن عدم رضائهما عن السياسة السرية.
وهذا، وإننا نرى من جهة أخرى أن الجنود الفرنسويين الذين يقاسون
ضروب الشقاء ويريقون دماءهم الزكية في الخنادق دفاعًا عن الوطن العزيز -
يريدون أن يعلموا الغاية الحقيقية التي يقاسون الشقاء ويقتحمون الأخطار للوصول
إليها. لا مشاحة في أنهم يعلمون أن غرضهم الوحيد من الحرب الحاضرة طرد
العدو من البلاد التي اجتاحها، وتحرير العناصر من ربقة الاستعباد، ولكنهم
يخشون أن تكون هنالك سياسة سرية وراءها مقاصد فتح ومطامع استعمار تحت
ستار العدل والحق، وأن يتخذ ذلك حجة لتحقيق الأحلام القديمة التي منشأها الغرور
وغاياتها استعباد الأمم.
إن الفرنسويين قاطبة يحاربون إلى النهاية من أجل فرنسا والإلزاس
واللورين ويريقون آخر نقطة من دمهم لإنقاذ البلجيك التاعسة من مخالب العدو،
ولكنهم لا يقبلون بوجه من الوجوه أن تكون غايتهم من الحرب فتح آسيا الصغرى
وتحقيق مشروع استعماري بعيد تخفيه الحكومات. اهـ.
* * *
(المنار)
إن الذكي الفطِن يفهم من هذا التلخيص ما وراءه، فعسى أن تنتهي هذه
الحرب بما يحبه - مثلنا - هذا الكاتب الحر بتحقيق آمال المستضعفين وتحرير
الشعوب أجمعين.
* * *
الترك والعرب.. وهل يكونان كالنمسة والمجر؟
نشر (المقطم) في 5 شوال مقالة أرسلها إليه إبراهيم أفندي النجار من
باريس شرح فيها ما أحدثته الثورة الروسية ودخول الولايات المتحدة في الحرب -
من الروح الجديدة في سياسة العالم وأشار فيها إلى ما بين قاعدة أحرار الروس
ومرامي الرئيس ولسون وبين تنفيذ فكرتهما من العقبات وذكر تأثير ذلك في الدولة
العثمانية، فقال ما نصه:
(وقد اتصل بي هذين اليومين خبر كبير الأهمية إذا صدقت الرواية وصدق
راويها وهو أن هذه الفكرة التي سبقت الإشارة إليها مشت شرقًا ووقفت في فروق
الآستانة) ، ففكر أصحاب الحل والعقد فيها في إنشاء السلطنة العثمانية على
الأساس الثنائي من الترك والعرب، كما قامت إمبراطورية النمسا على أساس سلطة
النمسويين والمجريين. وإن الحكومة شارعة في تعديل القانون الأساسي على هذا
المبدأ. قرأت هذا الخبر الذي رواه لي مخبري في سويسرا ووقفت عنده وقفة
الحائر في نقضه وتصديقه.الأول لأنه لا ينطبق على سياسة غلاة الترك
العنصرية، والله أعلم بما أعرف من خبايا نياتهم وبما يضمرون. والثاني لأن
القوم ضاقوا ذرعًا في هذه الحرب وعلموا أن عاقبتها ستكون وبالاً عليهم وأن
نهايتها ستكون على حسابهم وعرفوا مبادئ الثورة الروسية والرئيس ولسن كما
عرفنا الخاص والعام، وسمعوا آراء رجال الحل والعقد في برلين وفَّينا في
النصح لهم بالتخفيف من غلوائهم، فرأوا من الحكمة أن يفعلوا مختارين ما تحملهم
القوة القاهرة على قبوله وإقراره، والذي يعلم كيف أعلن مدحت باشا القانون
الأساسي الأول يوم كان سفراء الدول المجتمعين في الطوبخانة في الآستانة
لتبادل الرأي في كيفية حمل الدولة على الإصلاح - يعرف مسالك الترك في هذه
المآزق، ويتبين له وجه الشبه التام بين اليوم والبارحة؛ لهذا السبب ملت إلى
تصديق الرواية، وإن كنت لا أجزم بصحتها. اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المجمع اللغوي المصري [*]
لقد تم تأليف هذا المجمع في دار الكتب السلطانية، وهذا هو القانون الذي
وضعه لبيان أعماله اللغوية وأنظمته الداخلية.
عملاً بالمادة الثانية من القانون المتضمنة تأليف لجان لوضع مصطلح كل
علم أو فن - قد قرر المجمع في جلسته المنعقدة يوم أول يونيو سنة 1917 تأليف
اللجان الآتية، وألفت فعلاً، وهذه هي أسماؤها:
1-
لجنة الجغرافيا والتاريخ والآثار والملابس والأواني والملاحة والتجارة.
2-
لجنة الطب والعلوم الطبيعية عدا علم النبات.
3-
لجنة المنطق والفلسفة والعلوم الاجتماعية.
4-
لجنة الفقه والقانون.
5-
لجنة العلوم الرياضية والفنون الجميلة والصناعة والزراعة وعلم النبات.
6-
لجنة اصطلاحات الدواوين.
أما أعضاء المجمع فهم الآتية أسماؤهم، وقد رُتِّبت بحسب الترتيب الأبجدي
بالحروف الأولى فيها:
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رئيس
المجمع وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وكيل
وحضرات أحمد لطفي السيد بك مدير دار الكتب السلطانية كاتب السر، والسيد
محمد الببلاوي وكيل دار الكتب مساعد كاتب السر، وحضرات الشيخ أحمد إبراهيم
والشيخ أحمد الإسكندري وأحمد برادة بك وأحمد تيمور بك وصاحب السعادة أحمد
زكي باشا وأحمد سليمان بك والدكتور أحمد عيسى بك وأحمد كمال بك وإسماعيل
رأفت بك وحفني ناصف بك وعبد الحميد فتحي بك وعبد الحميد مصطفى بك
وصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة وعثمان فهمي بك والدكتور فارس نمر
ومحمد أمين واصف بك والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محمد شريف سليم ومحمد
عاطف بركات بك والشيخ مصطفى العناني والدكتور يعقوب صروف، وهذه
صورة قانون المجمع:
الفصل الأول
في غرض المجمع
المادة الأولى: غرض هذا المجمع خدمة اللغة العربية وخصوصًا وضع معجم
وافٍ بحاجة الزمن، شامل اصطلاحات العلوم والفنون والصناعات.
المادة الثانية: يكلف المجمع لجانًا أو أفرادًا جمع مصطلح كل علم أو فن
وإعداده ولكل لجنة أو فرد أن يطلب من المجمع أن يدعو إلى الانضمام إليه من
يرى دعوته من الاختصاصيين ويعرض ما تم من ذلك على المجمع لبحثه وتقرير
ما يراه وإذا تم جزء صالح للنشر جاز نشره على حدة قبل إتمام المعجم.
المادة الثالثة: للمجمع أن يزيد في اللغة للضرورة ويراعي في الزيادة دفع
الحرج.
المادة الرابعة: يستبدل بالكلمة العامية أو الأعجمية التي لم تُعرَّب من قبلُ
غيرها من الألفاظ العربية الموضوعة للدلالة على معناها فإذا لم يهتدِ المجمع إلى
كلمة عربية وضع كلمة عربية للدلالة عليها أو أقر الكلمة العامية أو عرَّب الكلمة
الأعجمية مع مراعاة المادة الثالثة.
المادة الخامسة: يكون وضع الكلمات بطريق المجاز والاشتقاق أو النحت أو
غير ذلك مما يقع إجماع على منعه ويفضل الأخذ من الكلمات المهجورة تقليلاً
لاشتراك المستعمل.
المادة السادسة: تُذكر الكلمات من المعجم بمعانيها القديمة ويضاف إليها
استعمالها في المعاني الجديدة التي يقرها المجمع، وينبّه على ما كان من وضع
المجمع.
* * *
الفصل الثاني
في أعضاء المجمع
المادة السابعة: يؤلف المجمع من ثمانية وعشرين عضوًا، منهم ثلاثة
يعرف أحدهم اللغة العبرية، والثاني الفارسية، والثالث السريانية زيادة على معرفة
كل منهم للغة العربية.
المادة الثامنة: متى خلا مركز أحد الأعضاء فلكل عضوين أن يرشحا خلفًا
وتعرض أسماء المرشحين ثم يدور عليهم الانتخاب على حسب المادة الثالثة عشرة
ويشترط في قبول المرشح أن ينال انتخاب ثلثي الأعضاء الحاضرين على الأقل.
المادة التاسعة: للمجمع أن ينتخب أعضاء مراسلين بالطريقة التي ينتخب بها
الأعضاء ويكون لهم حضور الجلسات وليس لهم أصوات في القرارات.
المادة العاشرة: مَن أعان المجمع من أعضائه المراسلين أو غيرهم إعانة
لغوية يُعتدّ بها ذُكر اسمه في ثبت واضعي المعجم.
* * *
الفصل الثالث
في إدارة أعمال المجمع
المادة الحادية عشرة: تقوم بالأعمال الإدارية للمجمع لجنة مؤلفة من الرئيس
والوكيل وكاتب السر ومساعده.
المادة الثانية عشرة: يُنتخب أعضاء اللجنة من بين أعضاء المجمع لمدة
سنة، ويجوز إعادة انتخابهم.
المادة الثالثة عشرة: يكون الانتخاب بالاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة
للأعضاء الحاضرين في جمعية عمومية، يحضرها ثلثا الأعضاء على الأقل، فإن
لم يحضر ثلثا الأعضاء تم الانتخاب في الجلسة التالية مهما كان عدد الأعضاء فيها.
المادة الرابعة عشرة: يدير الرئيس أعمال المجمع ويدعو لجانه ويقدم إليها
موضوعات البحث ويهيمن على تنفيذ قرارات المجمع. وهو عضو بالقانون في كل
لجنة من لجان المجمع يشترك مع أيها شاء.
المادة الخامسة عشرة: يقوم الوكيل مقام الرئيس عند غيابه في كل ما له من
الحقوق وما عليه من الواجبات.
المادة السادسة عشرة: على كاتب السر ومساعده تحرير محاضر الجلسات
وتسجيلها في سجل خاص بعد التصديق عليها، وهما مكلفان بمراسلات المجمع
وحفظ أوراقه ونشر أعماله التي يتقرر نشرها.
* * *
الفصل الرابع
في نظام الجلسات
المادة السابعة عشرة: ينعقد المجمع مرتين في كل شهر على الأقل ويجتمع
فوق العادة بناءً على طلب يكتبه خمسة من أعضائه أو بناءً على طلب الرئيس.
المادة الثامنة عشرة: يعين المجمع في شهر أكتوبر من كل سنة الأيام التي
ينعقد فيها كل شهر إلى نهاية شهر مايو.
المادة التاسعة عشرة: إذا لم يستطع أحد الأعضاء حضور جلسة وجب أن
يعتذر وتتلى الاعتذارات عند افتتاح الجلسة.
المادة العشرون: كل عضو غاب أكثر من ست جلسات متواليات من غير
عذر يقبله المجمع يعتبر مستقيلاً ويستبدل به غيره بالانتخاب.
المادة الواحد والعشرون: في غير الأحوال المنصوص عليها يكون الاجتماع
صحيحًا متى حضره ربع الأعضاء.
المادة الثانية والعشرون: للمجمع أن يستعين باختصاصين يدعوهم لحضور
جلساته عند النظر في البحوث المتعلقة بمعارفهم الخاصة
المادة الثالثة والعشرون: تعقد الجلسات برئاسة الرئيس أو الوكيل عند غيابه
وإذا غاب كلاهما انعقدت الجلسة برئاسة أكبر الحاضرين سنًا.
المادة الرابعة والعشرون: في غير الأحوال المنصوصة في القانون تكون
قرارات المجمع بالأغلبية النسبية.
المادة الخامسة والعشرون: للمجمع أن يعيد المناقشة في قرار سابق إذا طلب
ذلك ثمانية من الأعضاء.
المادة السادسة والعشرون: لا يجوز تغيير مادة من هذا القانون إلا بطلب
مكتوب يقدمه خمسة من الأعضاء، مبينة فيه أسباب التغيير يُقرأ في المجمع، ثم
ينظر في جلسة تالية ولا يكون التغيير صحيحًا إلا إذا اتفق عليه سبعة عشر عضوًا.
المادة السابعة والعشرون: كل خلاف يقع في تفسير مادة من مواد القانون
يعرض على المجمع لتقرير ما يُتَّبع في ذلك.
* * *
(تنبيه)
مقالة المسألة العربية كُتبت في العام الماضي، وأشير إليها في تقريظ
جريدة (القبلة) ، ج6، 190، الذي صدر في 30 المحرم سنة 1335 ثم
حذف منها، وزدنا في آخرها ذكر (استقلال الشعوب) .
_________
(*) هذا ما نشره كاتب سر المجمع في الصحف، وقد بيَّن المنار سبب تأليف هذا المجمع في المجلد 19.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
فسخ عقد النكاح بالعيب في أحد الزوجين
(س3) من صاحب الإمضاء في العلاقمة بالشرقية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
إلى القائم بأمر ربه المعتضد بحجة الله البالغة صاحب مجلة المنار أرفعه
مستفتيًا فضيلتكم بعد حمد الله حق حمده والصلاة والسلام على خير عباده سيدنا
محمد وعلى آله ومَن تبعه وتحية الله وسلامه عليكم.
أيها الأستاذ النبيل السيد السند:
يا صاحب الفضيلة بينما نقرأ ما يتعلق بالمرء وزوجه من بقاء النكاح وفسخه
في الكتب التي للأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم؛ إذ
رأينا فيها أنه ليس لأحد الزوجين أن يفسخ النكاح لعيب بالآخر إلا بالجنون
والجذام والبرص، ويسميها الأئمة - ومن تبعهم - العيوب المشتركة فتوقفنا في
حصر العيوب المشتركة التي يفسخ بها النكاح في الثلاثة الآنفة الذكر، مع وجود ما
يماثلها في الضرر، بل ربما كان أشد وأولى مما ذكروا بالفسخ كالسل والزهري
وغيرهما من الأدواء المستحدثة، وبعد البحث والتنقيب لم نعثر على قول لا في
الكتب التي بأيدينا ولا ممن سألناهم ممن يظن فيهم أنهم لا يتقيدون بما تقع عليه
أبصارهم من المنصوص، فبعثنا إليكم بتلك الرسالة مستفتين: هل تجري
الأدواء المستحدثة مجرى ما نصوا عليه لمشاركتها له في علة الحكم، فتكون مقيسة
عليه، فيفسخ بها النكاح أو يقف الأمر عند حد المنصوص، وهنا تساؤل: أيّ
فرق بينها وبينه؟ وإذا كان ما نص عليه الفقهاء مأخوذًا من دليل فما هو؟ هذا ما
نرجو أن تجيبوا عنه بفصل القول الذي نعهده فيكم ويعهده العقلاء أجمع، أمدكم
الله بالعلم النافع وهدانا الله وإياكم إلى ما يوصلنا إلى مرضاته وسلوك سبيله القويم،
إنه سميع قريب عليم.
…
...
…
...
…
...
…
أحمد عطية قوره من العلاقمة
(ج) ليس في هذه المسألة نص صريح في الكتاب ولا في السنة
الصحيحة وحديث زيد بن كعب بن عجرة الآتي فيه مقال، وليس فيه تصريح
بالفسخ لأجل البرص. ولكن فيها آثارًا عن بعض الصحابة والتابعين مستندة إلى
أصول الشريعة الثابتة من منع الغش ونفي الضرر والضرار، وحينئذ لا وجه
لحصر العيوب فيما ورد في تلك الآثار؛ إذ لا دليل على الحصر وإن ورد عن
بعضهم عبارة فيه فتلك العبارة ليست مما يحتج به مَن ذكرتم من الفقهاء كما يُعلم
من أصولهم، ومذاهبهم ليست متفقة كما ادَّعيتم. وقد حرر المسألة العلامة المحقق
ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) في فصل مستقل قال:
(فصل)
في حكمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد
بصاحبه برصًا أو جنونًا أو جذامًا أو يكون الزوج عِنِّينًا
في مسند أحمد من حديث يزيد بن كعب بن عجرة [1] رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها فوضع [2] ثوبه
وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضًا فانحاز [3] عن الفراش، ثم قال: (خذي
عليك ثيابك) ولم يأخذ مما آتاها شيئًا. وفي الموطأ عن عمر رضي الله عنه، أنه
قال: أيما امرأة غُرّ بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها المهر بما أصاب
منها وصداق الرجل على مَن غره [4] وفي لفظ آخر: قضى عمر رضي الله عنه
في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فُرق بينهما والصداق لها بمسيسه
إياها وهو له على وليها.
وفي سنن أبي داود من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: طلق
عبد يزيد أبو ركانة [5] زوجته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها
من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية، فذكر
الحديث
…
، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له: طلِّقْها، ففعل، قال: راجع
امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله قال: قد علمت،
راجعها، وتلا:] ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ [ (الطلاق: 1) ،
ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج له عن بعض بني أبي رافع وهو مجهول
ولكن هو تابعي وابن جريج من الأئمة الثقات العدول، ورواية العدل عن غيره
تعديل له ما لم يعلم فيه جرح، ولم يكن الكذب ظاهرًا في التابعين ولا سيما التابعين
من أهل المدينة ولا سيما موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما مثل هذه
السُّنة التي اشتدت حاجة الناس إليها، لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا
عن غير ثقة عنده ولم يبين حاله.
وجاء التفريق بالعنّة عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود
وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان والحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة
والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، لكن عمر وابن مسعود والمغيرة - رضي الله
عنهم - أجلوه سنة، وعثمان ومعاوية وسمرة رضي الله عنهم لم يؤجلوه،
والحرث بن عبد الله رضي الله عنه أجله عشرة أشهر. وذكر سعيد بن
منصور: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الله بن عوف عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيمًا، فقال له
عمر رضي الله عنه: أعلمتَها أنك عقيم؟ ، قال: لا. قال: فانطلقْ فأعلمْها، ثم
خَيِّرْها، وأجَّل مجنونًا سنة، فإن أفاق، وإلا فرق بينه وبين امرأته. فاختلف
الفقهاء في ذلك، فقال داود وابن حزم ومَن وافقهما: لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة،
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يفسخ إلا بالجب والعنة خاصة. وقال الشافعي
ومالك يفسخ بالجنون والبرص والجذام والقرن والجب والعنة خاصة. وزاد الإمام
أحمد عليهما: أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين، ولأصحابه في نتن
الفرج والفم وانخراق مجرى البول والمني في الفرج والقروح السيالة فيه والبواسير
والناصور والاستحاضة واستطلاق البول والنجو والخصي وهو قطع البيضتين
والسل وهو سل البيضتين والوجء وهو رضهما وكون أحدهما خنثى مشكلاً، والعيب
الذي بصاحبه مثله من العيوب السبعة والعيب الحادث بعد العقد وجهان.
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في
البيع، وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه ولا مظنته ولا مَن قاله، وممن حكاه أبو
عاصم العباداني في كتاب طبقات أصحاب الشافعي، وهذا القول هو القياس أو قول
ابن حزم ومَن وافقه. وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو
أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة
اليدين أو الرجلين أو إحداهما أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات والسكوت عنه
من أقبح التدليس والغش وهو منافٍ للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو
كالمشروط عرفًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمَن تزوج
امرأة، وهو لا يولد له: أخبرْها أنك عقيم وخيِّرْها، فماذا يقول رضي الله
عنه في العيوب التي هذا عندها كمال بلا نقص.
والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح
من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط
المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورًا
قط ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغُبِنَ به. ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده
وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول،
وقُربه من قواعد الشريعة.
وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب رضي الله عنه قال:
قال عمر رضي الله عنه: أيما امرأة تزوجت وبها جنون أو جذام أو برص فدخل
بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها وعلى الولي الصداق بما دلس كما
غره. وَرَدُّ هذا بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر رضي الله عنه من باب الهذيان
البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة، قال الإمام أحمد: إذا لم يقبل سعيد بن
المسيب عن عمر رضي الله عنه فمَن يُقبل؟ ، وأئمة الإسلام جمهورهم يحتجون
بقول سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بروايته عن
عمر رضي الله عنه؟ وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يرسل إلى سعيد يسأله
عن قضايا عمر رضي الله عنه، فيفتي بها، ولم يطعن أحد قط من أهل عصره -
ولا مَن بعده ممن له في الإسلام قول معتبر - في رواية سعيد بن المسيب عن عمر
رضي الله عنه ولا عبرة بغيرهم.
وروى الشعبي عن علي كرم الله وجهه: أيما امرأة نُكحت وبها برص أو
جنون أو جذام أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك وإن شاء طلق،
وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها. وقال وكيع عن سفيان الثوري عن
يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنهم قال: إذا تزوجها
برصاء أو عمياء فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على مَن غره. وهذا يدل على
أن عمر رضي الله عنه لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص
والحصر دون ما عداها، وكذلك حكم قاضي الإسلام حقًّا، الذي يُضرب المثل
بعلمه ودينه وحكمه - شريح رضي الله عنه، قال عبد الرزاق عن معمر عن أيوب
عن ابن سيرين رضي الله عنه: خاصم رجل إلى شريح، فقال: إن هؤلاء قالوا
لي: إنا نزوجك أحسن الناس فجاؤوني بامرأة عمياء، فقال شريح: إن كان دلس
لك بعيب لم يجُز. فتأمل هذا القضاء وقوله: إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي
أن كل عيب دُلِّسَتْ به المرأة فللزوج الرد به.
وقال الزهري رضي الله عنه: يرد النكاح من كل داء عضال. ومَن تأمل
فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب إلا رواية رُويت
عن عمر رضي الله عنه: لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة الجنون والجذام
والبرص والداء في الفرج، وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادًا أكثر من أصبغ وابن
وهب عن عمر وعلي رضي الله عنهما وقد رُوي عن ابن عباس ذلك بإسناد متصل
ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عنه.
هذا كله إذا أطلق الزوج، وأما إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت
شوهاء، أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزًا شمطاء، أو شرطها بيضاء
فبانت سوداء، أو بكرًا فبانت ثيبًا. فله الفسخ في ذلك كله، فإن كان قبل الدخول
فلا مهر، وإن كان بعده فلها المهر، وهو غرم على وليها إن كان غرَّه، وإن كانت
هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد
في إحدى الروايتين عنه، وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما (إذا) كان الزوج
هو المشترط. وقال أصحابه: إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها إلا
في شرط الحرية إذا بان عبدًا فلها الخيار، وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان.
والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل
إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى؛ لأنه لا تتمكن من المفارقة بالطلاق،
فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى، وإذا جاز لها أن تفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به فإذا شرطته شابًّا جميلاً صحيحًا
فبان شيخًا مشوهًا أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به وتمنع من
الفسخ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع
وبالله التوفيق. وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا
يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن، وهو أشد إعداءً من ذلك البرص اليسير،
وكذلك غيره من أنواع الداء العُضَال [6] وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته وحرم على مَن علمه أن يكتمه من المشتري، فكيف
بالعيوب في النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس - حين
استشارته في نكاح معاوية رضي الله عنه أو أبي جهم رضي الله عنه: (أما
معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) ، فعلم أن
بيان العيب في النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به
سببًا للزومه، وجعل ذا العيب غلاً لازمًا في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه، ولا
سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه؟ ، وهذا مما يعلم يقينًا أن التصرفات
(في) الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه، والله أعلم.
وقد ذهب أبو محمد بن حزم إلى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد
أي عيب كان فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه ولا إجازة ولا
نفقة ولا ميراث، قال: إن التي أدخلت عليه غير التي تزوج؛ إذ السالمة غير
المعيبة بلا شك؛ فإذًا لم يتزوجها، فلا زوجية بينهما. اهـ.
***
الإصرار على البدع
وما يُشترط في مكان الجمعة وزمانها وعدد جماعتها
(4-7) من الشيخ يوسف أحمد سليمان، الطالب بمشيخة الإسكندرية
من (طملاي) بمركز منوف.
فضيلة الأستاذ مفتي المنار
سأل عبد الرحمن أحمد الصعيدي من طملاي عن حكم فعل البدع التي كثيرًا
ما نهينا أئمة البلد عنها ولله الحمد، فأجبتم إجابة كافية شافية في الجزء التاسع الذي
صدر في 30 ربيع سنة 1335 (صحيفة 538) ، وعرضنا الجواب على علماء
الناحية، لا فرق بين مدرس في الأزهر وغير مدرس فقرؤوه وفهموه، والتمسنا
العمل بما علموه فامتنعوا، وقالوا: إن تَرْكُ العمل غير جائز والعمل بالبدع جائز
وهو أحسن! ولذا لم يتركوا حتى ولا واحدة، بل زادوا الطبل والرايات أمام
الجنازة إذا شخص منهم مات، وعضوا عليها بالنواجذ. وقد رأينا في كتاب فتاوى
أئمة المسلمين للشيخ محمود (صحيفة 56) : سئل الشيخ أحمد الرفاعي عن الذي
لم يرضَ بسنة النبي في الصلاة أو الدفن، فهل تصح الصلاة خلفه، ويصح أن
يجعل من عدد الجمعة؟ ، فأجاب بأن الصلاة خلفه باطلة وإذا جعل من عدد الجمعة
بطلت صلاة الجمعة على جميع المسلمين. وسئل الشيخ سليم البشري عن رجل
يقول بعدم جواز ترك البدع المجمع على بدعيتها كالترقية
…
إلخ، وإذا قيل له سُنَّةُ
النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمور لا يقبل النصيحة، وهذا الرجل إمام
راتب في مسجد، فهل يصلون جماعة في المسجد قبله أو معه أو بعده؟ ، فأجاب
بأن هذا الإمام مبتدع فلا يكون إمامًا للمسلمين، وعليهم أن يجتهدوا في منعه من
الإمامة ولو بواسطة الأفراد.
فعلى هذا؛ هل الشرع الذي شرعه لنا رسول الله يرى لنا رخصة في كوننا
نصلي الجمعة في الغيط أو في البيت أو في المسجد بعدد أقله ثلاثة غير الإمام
الخاطب من وقت صلاة العيد إلى الاصفرار، هل ذلك يجزئ أم لا، وما هي التي
تجزئ؟ اشفنا بالجواب، رفعك الملك الوهاب.
* * *
الجواب في مسألة البدع:
البدع منها ما يكون كفرًا أو وسيلة إلى الكفر ومنها ما هو حرام وما هو
مكروه، وليس في البدع الشرعية شيء جائز كأن يكون مباحًا؛ لأنها لا تكون إلا
ضلالة كما ورد في الحديث، وقد صرح بهذا الفقيه ابن حجر المكي في الفتاوى
الحديثية (ص306) وأما البدعة غير الشرعية فهي التي قالوا: إنها تنقسم إلى
الأحكام الخمسة كما بيّنه ابن حجر في ص112 من الفتاوى الحديثية أيضًا، ولكنه
أخطأ في بعض الأمثلة، وعبّر عن بعض هذه البدعة بالبدعة اللغوية وقد فصَّل
العلامة الشاطبي هذا البحث تفصيلاً تامًّا في كتابه (الاعتصام) ، وسبق لنا نقل
كثير من فصوله. ولم يبلغنا قبل اليوم أن الجهل بلغ من أحد ينسب إلى الإسلام
مبلغًا حمله على القول بأن العمل بالبدعة الشرعية جائز وأنه خير من تركها! . وما
نقله السائل عن الشيخ أحمد الرفاعي فيه مبالغة لا نعرف لها وجهًا بذلك الإطلاق،
وما أفتى به الشيخ سليم البشري حق ظاهر، والشيخ أقدر من كل أحد في مصر
على مقاومة البدع وإبطال كثير منها؛ وذلك لا يكون بفتوى منه؛ فإنه يَقِلُّ في هذا
القطر مَن يترك شيئًا تعوَّده لفتوى عالم، ولكن لدى الشيخ وسائل أخرى، كل منها
يؤثر ما لا تؤثر الفتاوى الفردية.
يسهل على الشيخ - وهو رئيس العلماء - أن يؤلف لجنة من كبار علماء
المذاهب الأربعة في الأزهر ويأمرها بإحصاء البدع الفاشية في المساجد والأضرحة
والموالد وغيرها وتأليف رسائل في التغير عنها، تطبع ويذكر فيها أسماء عشرات
من العلماء الذين ألفوها وأقروها، وأن يعهد إلى علماء جميع المعاهد الدينية
وطلابها بنشرها وقراءتها على الناس في المساجد بنظام متبع، وكذا في غير
المساجد بشرط أن يكونوا أول العاملين بها والمنكرين على كل من يخالفها، ويمكن
طبع الألوف من هذه الرسائل على نفقة الأوقاف الخيرية المطلقة وتوزيعها بغير
ثمن، وأن يعهد إلى بعض المنشئين المجيدين بإنشاء خطب في ذلك، توزعها
وزارة الأوقاف على خطباء جميع المساجد ليخطبوا بها، وأن يقترح على الشعراء
المجيدين أن ينظموا ذلك في قصائد وموشحات تزجر الناس عن تلك البدع. ويسهل
عليه أيضًا أن يتوسل بالحكومة إلى إبطال كثير من تلك البدع، ولا سيما بدع
المواسم والاحتفالات التي للحكومة يد فيها. فعسى الله أن يوفق الشيخ إلى هذا
العمل الذي لا يقدر عليه غيره، فيكون ذخرًا له عند الله تعالى، وموجبًا لثناء
الناس كلهم بحق.
***
الجواب عن مسألة العدد في الجمعة:
اختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على خمسة عشر قولاً، نقلها
الشوكاني عن الحافظ ابن حجر، أضعفها القول بأنها تصح من الواحد، فلا يشترط
فيها عدد - وقد نقل الإجماع على خلافه - ثم القول بأنها لا تنعقد بأقل من ثمانين،
وهو أكثر ما قيل فيها. وأوسطها القول بأنها تصح من اثني عشر غير الإمام،
وهو العدد الذي بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجمَّع بهم حين انفض الناس
إلى التجارة، وهم الذين نزل في شأنهم آخر سورة الجمعة، فظاهر حديث جابر في
المسألة عند أحمد والشيخين أنه صلى بهم، وإن لم يصرح بذلك وصح عند
الطبراني وابن أبي حاتم أنه صلى الله عليه وسلم سألهم عن عددهم فكانوا 12
رجلاً وامرأة، فلولا اعتبار العدد الذي لا يعرف إلا بالعد - دون مجرد النظر - لم
يسألهم، وفيه أن ذلك لا ينفي صحتها بأقل من هذا العدد؛ لأن هذه واقعة عين لا
تدل على العموم، وإنما وجه الاستدلال به أنه يقال فيه ما قيل في خبر انعقادها
بالأربعين، وهو أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد في الجمعة، وقد ثبت جوازها
بهذا العدد، فلا يجوز بأقل منه، ولا سيما في الابتداء إلا بدليل، ولم نَرَ دليلاً
صحيحًا لأحد ممن قالوا بانعقادها بأقل من ذلك، فأقل ما يقال فيه: إن انعقادها بما
دون هذا العدد مشكوك في صحته، ولا يزيل هذا الشك قياسها على الجماعة الذي
استدل به مَن قال بانعقادها باثنين أو ثلاثة مع الإمام أو بدونه؛ لأنه معارض لما دل
عليه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد مَن بقي يوم انفض الناس من حوله؛
ولأن مخالفة الجمعة لغيرها من الصلوات الخمس في بعض الأحكام فارق يبطل
صحة القياس، ولو كان صحيحًا لما خفي على الصدر الأول، ولم ينقل عنهم
التجميع بثلاثة أو أربعة، ولكنَّ في الأربعة حديثًا لا يصح. هذا ما أراه أقوى
الأقوال في المسألة. وقال الحافظ - عند ذكر القول الخامس عشر - وهو اشتراط
جمع كثير بغير قيد: ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. اهـ، وفيه أن
الاثني عشر إذا لم يكونوا جمعًا كثيرًا فما حد الكثرة عنده، وهي من الأمور
النسبية، وما الدليل عليها؟
* * *
الجواب عن مسألة مكان الجمعة:
اشترط بعض الفقهاء أن تقام الجمعة في مصر جامع؛ أي: مدينة، ولم يجيزوا
إقامتها في القرى بمعناها العرفي أي الضياع أي البُليدات القليلة السكان. وروي
ذلك عن علي كرم الله وجهه مرفوعًا، وقد ضعَّف أحمد رفعه وصحَّح ابن حزم وقفه
وعليه زيد بن علي والباقر والمؤيد بالله من أئمة العِتْرة وأبو حنيفة وأصحابه.
والجمهور يجيزون التجميع في القرى بالمعنى العرفي المذكور، ومن حججهم ما
رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: أول جمعة جُمعت بعد
جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بجُواثي من
البحرين هذا لفظ البخاري ولفظ أبي داود: بجواثي قرية من قرى البحرين. وزاد
أيضًا: (في الإسلام) بعد قوله: أول جمعة جمعت. قالوا: وصلاة الجمعة في
ذلك الوقت مما لا يفعله الصحابة باجتهادهم بل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي
وإن فُرض فعلها باجتهادهم فلا يعقل أن يخفى عليه فإذًا لا يكون إلا بأمره، وهو
الراجح أو بإقراره؛ إذ لو أنكره عليهم لتوفرت الدواعي على نقله. وكتب عمر إلى
أهل البحرين: أن جَمِّعُوا حيثما كنتم، وصححه ابن خزيمة عنه. وروى عبد الرزاق
عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يُجَمِّعُونَ فلا
يعتب عليهم. أقول: ولا حجة فيما هو آثار عن الصحابة مختلفة والقرية في حديث
ابن عباس الذي في معنى المرفوع هو المصر. ويمكن الجمع بأنها تصح من أهل
الضياع والمزارع ولا تجب عليهم، بل على أهل المدن. ونص حديث علي المشار
إليه آنفًا: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع) .
والقرية والمدينة والمصر والبلد تتوارد على معنى واحد في اللغة، وإن كان
بينها فروق دقيقة في موادها، فقد أطلق في القرآن اسم القرية والبلد على مكة،
وهي أيضًا مدينة ومصر بلا خلاف، وأطلق اسم القرية في سورة يوسف على
مصر (82: 12) وقال علماء اللغة: القَِرية - بالفتح والكسر - المصر الجامع،
ولا ندري متى جعل المولدون لفظ القرية اسمًا للبُليدة الصغيرة، وفسر أهل اللغة
المصر بالكورة والصقع، والكورة بالمدينة، وقالوا: إن الكورة والخلاف والرستاق
والجند واحد، وهو مجموع القرى والمزارع، فكأن المصر البلد الذي يتبعه عدة
مزارع وضياع وهو كالبندر في عُرف مصر، وقال الراغب: المصر اسم لكل بلد
ممصور أي محدود، يقال: مصرت مصرًا: أي بنيته. والمصر: الحد. اهـ،
وقول الليث إنه عندهم الكورة التي تقام فيها الحدود، ويقسم الفيء والصدقات من
غير مؤامرة الخليفة - اصطلاح إسلامي.
واشترط بعض العلماء إقامة الجمعة في مسجد مستدلاً بعمل الناس في الصدر
الأول وما بعده، والعمل وحده لا يعدونه دليلاً، وروى أهل السير أنه صلى الله
عليه وسلم صلى الجمعة بالناس في بطن الوادي قبل وصوله إلى المدينة، وصرح
ابن القيم بأنه صلاها هنالك في مسجد، والجمهور لا يشترطون المسجد، وثبت
عن الصحابة إقامة الجمعة في مصلى العيد خارج البلد.
***
الجواب عن مسألة وقت الجمعة:
ورد في الأحاديث الصحيحة التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يصلي الجمعة حين تميل الشمس أي عند الزوال، بأنهم كانوا يصلون معه، ثم
يرجعون إلى القائلة فيقيلون، روى المعنيين أحمد والبخاري من حديث أنس،
والقائلة:الظهيرة أي منتصف النهار والقيلولة:وهي النوم في الظهيرة أو الاستراحة
فيها، وإن لم ينمْ، وفي حديث سهل بن سعد الذي اتفق عليه الجماعة: ما
كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. أي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما
صرح به في رواية مسلم والترمذي. وعن ابن قتيبة: (لا يسمى غداء ولا قائلة
بعد الزوال) ، وهنالك أحاديث أخرى بهذا المعنى أخذ بها الإمام أحمد، فقال
بصحة الجمعة قبل الزوال، وتكلف الجمهور تأويلها، وذهب بعض أصحاب أحمد
إلى أن وقتها وقت العيد، وبعضهم إلى أنها لا تقدم على الساعة السادسة، أي التي
تنتهي بالزوال، والجمهور منهم كغيرهم، فالمعروف في فقههم أن وقتها وقت
الظهر، ولا دليل على صحتها في وقت العصر، والتجميع قبل الزوال مختلف فيه،
وموجب للافتراق والقيل والقال بلا فائدة، فلا ينبغي الإقدام عليه.
_________
(1)
كذا في نسخة الكتاب المطبوعة بمصر الكثيرة الغلط، وهو غلط صوابه زيد بن كعب بن عجرة، كما في سنن سعيد بن منصور، وقد شك في المسند، فقال عن جميل بن زيد قال: حدثني رجل من الأنصار ذكر أنه كان له صحبة يقال له كعب بن زيد أو زيد بن كعب ومثله عند ابن عدي والبيهقي ورواه الحاكم في المستدرك من حديث كعب بن عجرة ولم يشك وجميل بن زيد ضعيف، وقد اضطرب في هذا الحديث، وقال الحافظ ابن حجر: مجهول.
(2)
في النسخة المذكورة: وضع.
(3)
وفيها: فأماز.
(4)
عزاه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام إلى سعيد بن منصور ومالك وابن أبي شيبة، ثم قال: ورجاله ثقات، وروى سعيد أيضًا عن علي نحوه، وزاد: وبها قرن فزوجها بالخيار، فإن مسها فله المهر بما استحل من فرجها (وسيأتي) .
(5)
في السنن زيادة: وإخوته أي: وأبو إخوة ركانة.
(6)
ومنه داء السل وداء الزهري.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة الحجاز [1]
(4)
السفر إلى مكة المكرمة
في صبيحة يوم السبت سافر ركب المحمل المصري من جدة قبل شروق
الشمس، وفي ضحوته سافرت الوالدة والشقيقة ومعهما الصديق الكريم الشيخ خالد
النقشبندي والصهر الحميم محمد نجيب أفندي وقد استأجرنا لهم أربعة جِمال
بجنيهين، اثنان للركوب واثنان لحمل المتاع (العفش) وأرسلت حكومة جدة معهم
جنديين عربيين من جنود الشريف الهجانة للخفارة وزوَّدهم صديقنا ومضيفنا الشيخ
محمد نصيف بأنفس الزاد الكافي. وتأخرت عنهم لإتمام ما كنت بدأت به من كتابة
نبذة من التفسير للمنار لإرسالها مع البريد من جدة مع كتابة ما لا بد من كتابته
إلى مصر. ثم سافرت بعد صلاة العصر من هذا اليوم على حمار استأجرته بمائة
قرش عثماني ولم أكد أظفر به لولا مساعدة الأصدقاء؛ لأن المغاربة والمصريين قد
سبقوا إلى استئجار جميع حمير البلد أو أكثرها! وسافر معي جنديان من هجانة
العرب بأمر الحكومة لأجل التكريم لا الحفظ؛ فإنها واثقة بأمن الطريق، وركب
معي الشيخ محمد نصيف والشيخ مساعد اليافي مدير الشرطة في جدة وبعض
الأصدقاء مشيعين مودعين ثم عادوا عند غروب الشمس إلى جدة، وقد زودني
الصديق المضيف بالزاد النفيس الكافي كما زود الآل والصحب واختار لي شابًّا
نشيطًا من أهل جدة للخدمة في الطريق وأخذ الحمار في مكة وأدركنا في الطريق
أحد الحجاج المصريين على حمار، فرافقنا.
* * *
(العناية بأمر الماء في السفر)
ولم أهتم لنفسي إلا بملء إبريقي المعدني الذي يحفظ ما يودع فيه من بارد
وحار زمنًا طويلاً بقطع الثلج وملء قربة من الماء النقي. ذلك بأني أعنى بأمر
الماء ما لا أعنى بأمر الطعام ولا سيما في السفر، ولا يشق عليّ فقْد شيء من
طيبات الدنيا التي اعتدتها إلا الماء البارد النقي. وهذا الإبريق من نوع الرَّوَّايات
الوارد (أوعية الماء للسفر) الإفرنجية التي يسمون واحدها (ترموس) وأكثر هذا
النوع عمودي الشكل، وهو يحفظ ما يودع فيه من بارد وحار يومًا وليلة بالتقريب،
وإبريقي الذي ذكرت يخالفها في الشكل والجودة؛ فهو نوع جيد يحفظ الثلج أو
الجليد عدة أيام لا يذوب منه إلا القليل، وقد ملأته بالثلج مرة في طرابلس الشام
وسافرت قاصدًا مصر، فبِتّ في بيروت ليلتين وفي البحر ليلتين، بعدها لم أحتجْ
فيها إليه؛ لأنني أعده لشرب الليل والماء المثلوج متيسر في الباخرة عامة النهار
وناشئة الليل. وقد اتفق أن كان منزلي (القمرة) من الدرجة الأولى بجانب
مستودع الماء المثلوج للباخرة، وفي ضحوة اليوم الخامس نزلنا في محجر
الإسكندرية الصحي فتعاهدت الإبريق فإذا بالثلج فيه لم يذُب إلا بعضه. وقد كان
هذا الإبريق هدية من سلطان مسقط السابق السيد فيصل رحمه الله تعالى - ولم أَرَ
هذا النوع إلا عنده - أهداه إليَّ عند سفري من مسقط سنة 1330؛ إذ رأى أنني
حين كنت في ضيافته لم أسأل عن شيء إلا عن الماء المثلوج. وكان عنده آلة
لصنع الثلج، ولكنها كانت معطلة في فصل الشتاء، وكان وصولي إلى مسقط في
أول فصل الربيع والشمس في برج الحَمَل (شهر أبريل - نيسان) ، فأمر بإصلاح
الآلة واستعمالها قبل الموعد المعتاد عندهم لأجلي. ووضع عندي في دار الضيافة
إبريقًا من هذا النوع الذي نتكلم عنه ليتيسر وجود الثلج عندي في كل ساعة من
الليل والنهار، ولما سافرت وجدت مع متاعي في الباخرة إبريقًا آخر منه جديدًا لم
يُستعمل من قبل، فاستفدت منه في سفري ذاك، وكان أكبر نفعه في السفر من
البصرة إلى بغداد في شط العرب ودجلة؛ إذ قلّ الثلج في الباخرة بين العمارة
وبغداد، ثم نفد، ثم في السفر من بغداد إلى حلب ولا يوجد الثلج بينهما إلا في
مدينة دير الزور وهي بين العراق وسورية، وكان شأننا في تدبير ماء الشرب في
ذلك الطريق - التي قطعناه في 18 ليلة في مركبات (عربات) سفرية تسير على
ضفاف الفرات لا تبعد عنه في بعض الأحيان إلا قليلاً- أننا كنا كلما نزلنا منزلاً في
المساء نبادر إلى تقطير الماء في قدور من الفخار، ثم نبرده بهواء الليل الجاف
البارد في أكواز (قلل) الماء البغدادية وفي قلة معدنية مغشَّاة بقِماش يبلل بالماء،
فيبرد المعدن بضرب الهواء له، ويبرد الماء ببرده - وهذه القلة أهداها إليّ الطبيب
النطاسي محمد عبد الولي في مدينة لكنهو بالهند - وكنت قبل الإدلاج في آخر الليل
أملأ الإبريق المعهود من هذا الماء وترمسًا آخر عموديًّا من النوع المعروف لكثرته
في هذه البلاد، كان أهداه إليَّ صديقي السيد يوسف الزواوي أكبر سروات مسقط
بعد بيت السلطان فيها، فكنت أشرب في بكرة النهار من هذا وأدخر ذاك إلى العشي؛
لأنه أحفظ، والتغير فيه أبطأ. وقد انكسر العمودي معي في حماه، ولا أسف
عليه؛ لأن مثله كثير، إلا أنه أثر من صديق، ثم انكسر الأول في مصر فآلمني
كسره لطرافته وفائدته ولكونه أثرًا من ذلك السلطان الكريم - سقى الله لحده - ولكن
نجله البر الوفي صديقي السيد نادر قائد الجيش الأول لسلطنة مسقط أهداه إليّ إبريقًا
آخر عوضًا عنه، وهو الذي كان معي في الحجاز وكان ما حملت فيه من الثلج
كافيًا لي بين جدة ومكة، إلا أن ماء قربة الجلد تغير في الطريق؛ لأنها كانت بعيدة
العهد بالاستعمال.
وسبب حفظ الترمس لما يودع فيه مدة طويلة هو أنه مؤلف من إناءين،
أحدهما وهو الظاهر معدني وثانيهما زجاجي، باطنه كالمرآة وظاهره مُغشّى بمادة
من المواد البطيئة التوصيل للحرارة والبرودة، ويوضع الزجاجي في باطن المعدني
منفصلاً عنه، ويكون الاتصال بينهما من أعلى الفوهة ولهذه الفوهة صمام (سداد)
من الفلين على رأسه قطعة من معدنه الأبيض ويكون فوقها غطاؤه المعدني المتصل
به، فإذا رفع الصمام قليلاً أمكن صب الماء من بلبل الإبريق.
أطلت في مسألة الماء ليستفيد مما كتبت مَن يعنون بأمر صحتهم ورفاهيتهم
في السفر. والعناية بأمر الماء محمودة، بل ضرورية، فالماء الرديء يكون سببًا
لأمراض كثيرة؛ إذ الماء يحمل من جراثيم الأمراض والأوبئة ما لا يحمل غيره،
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل ما وجد ولا يذم طعامًا ولكنه لم يكن
يشرب من كل ماء يوجد، بل كان يستعذب له الماء من آبار السقيا وهي على
مسافة يوم من المدينة أو أكثر، وكان أحب الشراب إليه العذب البارد. والماء الذي
يوجد بين جدة ومكة في القهاوي - أي الأكواخ التي يأوي إليها المسافرون
للاستراحة وشرب القهوة والشاي - كله قذر، فلا أصله جيد ولا أوانيه نظيفة،
وماء بحرة - التي ينزل فيها جميع الحجاج للاستراحة - رديء غير عذب. ويقال
إن بالقرب منها بئرًا لا بأس بمائها، ولكن لا يسهل إلا على الأقلين الوصول إلى
شيء منها. فمن الضروري للمسافر الذي يُعنَى بصحته أن يحمل ما يكفيه من الماء
بين جدة ومكة في سفره من كل منهما إلى الأخرى، وللشقادف قلل من الفخار
يربطونها في مؤخرتها، فيكون ماؤها مقبولاً ولا سيما في الليل.
* * *
(القهوات في طريق مكة والدكرور)
نزلنا بعد المغرب في أول قهوة من القهوات التي أشرنا إليها آنفًا، فأذنت
وصليت المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، وصلى معي الرفاق، وشربت الماء
المثلوج وشرب الرفاق القهوة وبعد أن استرحنا قليلاً أعطيت صاحب القهوة عنهم
أضعاف المعتاد، فدعا لنا، وركبنا حُمُرنا وركب الجنديان هجانهما، وسرينا لا
نرى من الحجاج في الطريق إلا سودان الدكرور مشاة على أرجلهم رجالاً ونساءً
وأطفالاً، يحمل الرجال حرابهم والنساء أطفالهن على ظهورهن وما لديهن من
المتاع والزاد على رءوسهن، وكنا نرى بعضهم نيامًا على جانبي الطريق، فهم
ينامون إذا تعبوا، فإذا استيقظوا في أي ساعة في ليل أو نهار مشوا، لا يخافون
اللصوص ولا قُطاع الطريق، وقد قيل لنا: إنه لا يتعرض لهم أحد بسوء؛ لأنه لا
يكاد يوجد معهم شيء له قيمة ينتفع به اللصوص من الأعراب هنالك؛ فأكثرهم
عراة لا يملكون من اللباس ما يزيد على ستر العورة ولباس جميع رجالهم ونسائهم
الأبيض وهم مع ذلك يدافعون عن أنفسهم دفاع الأبطال بحرابهم السودانية، فلا
يُستهان بهم مع كثرتهم؛ فإنهم منتشرون طول الطريق، لا تبعد ثلة منهم عن أخرى
إلا قليلاً، واللصوص قلما يكونون كثيرين إلا إذا كانوا يقصدون سلب القوافل
الكبيرة.
* * *
(أمن الطريق وحادثة اعتداء)
وقد كان الطريق في هذا الموسم آمنًا مطمئنًّا، لم يبلغنا أنه وقع فيه اعتداء
على أحد إلا ما حدث بالقرب منا، فإننا سمعنا قبل انتهاء الثلث الأول من الليل
صوت طلق رَصاص استفز الحارسين اللذين معنا، فسألتهما: ما هذا؟ قالا: قوم.
وهم يعنون بكلمة القوم اللصوص وقطاع الطريق، وأشارا علينا بأن نسرع في
السير ما استطعنا، ونقصد قهوة كنا نرى ضوءها فننزل فيها، وتركانا مسرعين
بهجانهما إلى الجهة التي سمع منها صوت الرصاص، وطفقنا نحن نلكز حمرنا
مسرعين بها إلى تلك القهوة، فبلغناها بعد جهد وعناء فاسترحنا فيها ساعة، وشرب
رفيقاي الجندي والمصري الذي ألفَيْناه في الطريق الشاي، ورأينا هناك أناسًا من
الفقراء يطلبون من القهوة طعامًا. ثم جاء الجنديان مع رجل آخر، فأخبرا أن القوم
- قطاع الطريق - الذين سمعنا صوت رصاصهم قد شرّدوا بعيرين للرجل الذي
عاد معهما ولرفيق له، وكانا عائدين من جدة بعد بيع ما كانا حملاه إليها، وأن
خفراء الطريق ما زالوا يقتفون أثرهم، وقال الرجل: إنه لم يَرَ هو ورفيقه إلا لصًّا
واحدًا، ولكنه مسلح وهما أعزلان.
* * *
(النزول ببحرة)
وبعد استراحة الجنديين وشربهما الشاي أكرمت صاحب القهوة واستأنفنا
السرى، فبلغنا (بحرة) في منتصف الليل تقريبًا ورأينا أنوار ركب المحمل
المصري بالقرب من الخصاص التي يأوي إليها الحجاج وغيرهم من المسافرين،
والخصاص جمع خص، وهي البيوت من عيدان الأشجار أو القصب أو غيره من
النبات وهي هنالك كثيرة تسع الألوف الكثيرة من الناس، وعلى جانبي الطريق
سوق منها، فيه الحوانيت والقهوات وإن شئت قلت: الخانات أو الفنادق لإيواء
المسافرين، فيجد المسافرون فيها الماء والخبز واللحم والبيض وأنواعًا أخرى من
الأغذية وقهوة البن والشاي، والموسرون من المسافرين قلما يحتاجون إلى شيء
منها؛ لأنهم يحملون زادهم من جدة أو مكة لعلمهم بأن ما يوجد هنالك غير نظيف
ولا جيد. والخصاص التي وراء هذه السوق التي في الطريق العام عبارة عن دور
يتألف كل منها من عدة بيوت، يمكن أن يجعل بعضها للنساء وبعضها للرجال ولها
مراحيض وراء المساكن. وقد نزلنا في قهوة كبيرة كنا أُوصِينا بالنزول فيها،
فاسترحنا فيها ساعتين كاملتين وكنا قد جُعنا فأكلنا مما نحمل من لحوم الضأن
والدجاج والسمك والخضر والحلوى والفاكهة وشربت الماء المثلوج وحمدت الله
تعالى حمدًا كثيرًا. وأحببت أن أعرف أين نزل جماعتنا فتعذر عليّ ذلك.
* * *
(السُّرَى من بحرة ومسألة أمن الطريق)
ولما أردنا استئناف السرى استأذنني الجنديان في البقاء ببحرة؛ لأنهما
يريدان العودة صباحًا إلى جدة، وجاءاني بجنديين عربيين من المشاة، فقالا: هذان
من جنود سيدنا الموكلين بحراسة الطريق وهما يقومان مقامنا، فسرينا ومشيا أمامنا،
يحمل كل منهما بندقية من الماوزر على كتفه شادًّا مِنطقة من رصاصها المنضود
في وسطه، وهو حافي القدمين، ليس عليه إلا قميص قصير، فسألت أحدهما عن
أمن الطريق، فقال: إن الأمن تام ولا خوف عليكم في الطريق، قلت: أرأيت إذا
هجم علينا قوم كثيرون فماذا تغني عني أنت وصاحبك؟ قال: إن القوم الكثيرين
لا يعتدون على الأفراد أو الجماعة القليلة من المسافرين وإنما يقصدون القوافل
الكبيرة التي تحمل ما يحتاجون إليه من الطعام ونحوه، والقوم القليلون لا يتجرؤون
على جنود سيدنا، وإن كانوا أقل منهم، وفي الطريق على طوله مخافر متقاربة
يمكن إيصال أنباء الاعتداء من بعضها إلى بعض بسهولة. وحقًّا ما قال؛ فإنَّا كنا
بعد مفارقة جدة بقليل نرى تلك المخافر على جانبي الطريق، وكثير منها في
الروابي والهضاب، وهي كثيرة متقاربة، وكان هذان الجنديان كلما أبصرا أحداً في
الطريق على مقربة منا أسرعا إليه قبل وصوله إلينا وعرفا حاله. وقد رأينا في
طريقنا قبل بحرة وبعدها كثيرًا من القوافل قاصدة جدة إما من مكة وإما من الطائف،
وهي التي تحمل الفاكهة كالرمان والعنب والسفرجل، ورأينا أيضًا كثيرًا من
الأفراد والجماعات يقصدون جدة. وفي أثناء الساعة الثانية وصلنا إلى قهوة
استرحنا فيها قليلاً واستأذنني الجنديان بالتخلف وأوصيا جنديًّا كان هنالك بأن
يصحبني إلى مكة، وكانت المسافة قد قربت وعلمت منهما أنهما جائعان، وليس
معهما شيء، فأعطيتهما ما تيسر من الدراهم.
ثم أدلجنا وسألت الجندي عن حال الأمن في تلك البقعة فقال: إن هذه الأرض
أرض هذيل الذين أنا منهم، وهم لا يسرقون ولا يعتدون على أحد وإن ماتوا جوعًا
بل يعيشون بمواشيهم وإنما اللصوص وقطاع الطريق هم عرب الشمال. وبعد أن
أصبحنا وصلنا إلى مكان، فذكر لي حادثة من الحوادث المثبتة لأمانتهم، قال:
مات في هذا المكان رجل من حجاج المغاربة، يظهر أنه كان مريضًا، فتعب في
الطريق فتحول عنه إلى هذا المكان للاستراحة فمات فيه وكان له ولد منفرد عنه
وصل مكة، فلم يجد والده فعاد ينشده في الطريق وكان بعض عربنا قد رأوا الميت
ووجدوا معه كيسًا كبيرًا فيه نقود كثيرة فحفظوه ولما رأوا الولد دلوه على والده
وأعطوه نقوده وأعانوه على دفنه ولم يأخذوا من الكيس شيئًا ولو شاؤوا لأخذوه كله.
وجملة القول إن العناية بحفظ الأمن في هذا الموسم كانت كبيرة، وإنني لم
أسمع من أحد من الحجاج شكوى اعتداء على نفس ولا مال، ولكن حدثتني الوالدة
- بعد الوصول إلى مكة المكرمة - أنه عرض لهم في الليل رجل ادعى أنه من
الحجاج المصريين من المنصورة، وأنه فقير لم يجد ما يركبه، وكان يحاول أن
يركب البعير الذي عليه أسفاطنا وصناديقنا، فينهره أحد الجنديين اللذين معهم
بالكلام فيتحول قليلاً، ثم يعود، ولم ينصرف حتى هدده بالضرب، واتهمه بأنه
يريد أن يركب البعير ليشرده ويذهب به، وأنه لا بد أن يكون له رفاق ينتظرونه.
ويجوز أن يكون الرجل صادقًا، ولكن إساءة الظن في هذا المقام من الفِطنة.
والفضل الأول في هذا الأمن الذي لم يُسمع بمثله منذ قرون لشخص الشريف
الحسين بن علي [2]، وقد كان السيد الزواوي قال لي -منذ بضع سنين -: إنه لم
يَرَ أقدر من هذا الأمير على حفظ الأمن في الحجاز كله، وسياسة العرب فيه.
* * *
(بحث لغوي في الحجر والفِهْر والصخر)
لم أستفد من حديث هذا الأعرابي الجندي ولا من حديث مَن قبله فائدة لغوية
تُذكر، على أني أكثرت من الكلام مع هذا ما لم أكثر مع الآخرين ورأيته أفصح
منهم وذكرت له أبياتًا من الشعر العربي، فرأيته لا يفهم جميع مفرداتها، ولكنه
امتحنني بالسؤال عن شيء أبيض في الجبل - ولون الجبل أسود بل أصهب - قلت:
أي شيء هو؟ ، قال: ما هو مثل الشاة؟ والغنم هناك أبيض اللون، قلت: نعم.
قال: هذا فِهر. وأقول: إن المشهور في كتب اللغة أن الفِهر الحَجر الصغير
الذي يؤخذ باليد، ويدق به الجوز ونحوه، وقال بعضهم: الذي يملأ الكف. وذلك
الحجر كبير لا يمكن رفعه بيد واحدة؛ ولذلك رجعت إلى معاجم اللغة، فرأيت في
لسان العرب - بعد تعريفه بما ذكرت آنفًا -: (وقيل هو الحجر مطلقًا) ، ومن
العجيب أنه قد فسر هو والفيروزآبادي الحجر بالصخرة، والصخرة بالحجر
العظيم الصلب. وهو تساهل أو تقصير في تحديد المعاني، والصواب أن الحجر
اسم جنس لهذه الأجسام المعروفة يُطلَق على صغيرها وكبيرها وعلى الصلب الشديد
اليبوسة منها وغيره. وقالت العرب: استحجر الطين أي يبس فصار حجرًا.
والصخر ما عظم من الحجارة، واحدته صخرة، والحصى صغار الحجر، واحدتها
حصاة، وجمعها حصيات وحُصيّ. قالهما ابن سيده في المخصص، وهذا ما يفهمه
جميع الناطقين بالضاد من معنى الحجر والصخر والحصى. وقول اللسان في الفهر:
(وقيل هو الحجر مطلقًا) على ضعفه - لا يؤخذ على إطلاقه والذي ظهر لي من
نُقول أهل اللغة ومن كلمة الأعرابي الهذيلي أن أكثر العرب كانت تطلق الفهر على
الحجر الذي يؤخذ باليد الواحدة للدق به والكسر أو الحذف والرجم، وقليل منهم
أطلقه على ما يؤخذ بكلتا اليدين لدقّ شيء أو ضربه، وأكثر العرب تؤنث الفِهر،
وورد تذكيره في حديث حمالة الحطب؛ فإنها أخذت فهرًا وجاءت لتضرب به النبي
صلى الله عليه وسلم، فلم تره فقالت لأبي بكر رضي الله عنه وهو معه -: لو
وجدت صاحبك لشدخت رأسه بهذا الفهر. نقله شارح القاموس بهذا اللفظ عن
الروض. قال صاحب الهمزية:
وأعدّت حمالة الحطب الفهـ
…
ـر وجاءت كأنها الورقاء
يوم جاءت غضبى تقول في مثـ
…
ـلي من أحمد يقال الهجاء
وتولت وما رأته ومن أيـ
…
ـن ترى الشمس مقلة عمياء
(قهوة سالم)
وقد بلغنا قهوة سالم مصبحين، وهي في حدود الحرم على مقربة من مكة،
وكنا مررنا ليلاً بالعلمين المنصوبين لحدوده. فصيلنا فيها صلاة الفجر ثم لم أملك
نفسي من التعب والنعاس أن اضطجعت، فنمت حتى طلعت الشمس. وكنت عازمًا
على الاغتسال في هذه القهوة لدخول مكة عملاً بالسنة، وسألت في جدة وفي
الطريق عن مكان يمكنني أن أغتسل فيه فقيل لي قهوة سالم، ولكنني خشيت على
نفسي المرض من الاغتسال وقتئذ بالمال البارد مع شدة الإعياء، فاكتفيت بالوضوء،
ورأيت أن أمشي ميلاً أو ميلين لتلين عروق رجلي ووركي وأعصابها المتيبِّسة
من طول الركوب الذي طال عليَّ عهده، ففعلت وضايقني دخول الرمل في نعلي
فمشيت حافيًا ضاحيًا (أي بارزًا للشمس) كسودان الدكرور، الذين كنت أراهم
أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي منذ خرجت من جدة إلى أن دخلت مكة.
* * *
(أسرى الترك)
ولما قربنا من مكة وظهرت لنا ضواحيها - رأينا أسرى الترك الذين أسرهم
العرب في الطائف خارجين منها مشاة في الطريق اليسرى مرسَلين إلى جدة،
يخفرهم قليل من الجنود الأعراب، وفي اليوم الثاني من دخولنا مكة رأينا فيها
ضباطهم ركوبًا على الإبل متلفِّعين، لا ترى إلا أعينهم وأنوفهم، وهم مرسَلون إلى
جدة يخفرهم قليل من جنود الأعراب الهجانة، وكان قد بلغنا في جدة خبر فتح
الشريف الأمير عبد الله الطائف بعد أن حاصرها عدة أشهر، وتسليم قائد الحامية
التركية غالب باشا الذي كان والي الحجاز له.
* * *
(وفد الأمير لاستقبال العبد الفقير)
ولما بلغنا قهوة المعلم وهي آخر قهوة بين جدة ومكة - رأيت صديقنا الأستاذ
الكبير السيد عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة مع بعض ولده وبعض
المكيين، فأقبل لاستقبالي ونزلت عن دابتي فتعانقنا وتصافحنا وجلسنا للاستراحة
وبعد السلام قال لي: إن هذا الوقت هو وقت دخول سيدنا الشريف عبد الله نجل
سيدنا الأمير مكة قادمًا من الطائف، بعد أن تم فتحها على يديه، وقد أُعِدَّ له احتفال
كبير، وخرج سيدنا بجميع الشرفاء والوجهاء ورجال الحكومة إلى خارج البلد
لاستقباله، ولما علم بأن قدومك يتفق في هذا الوقت أوفدني من قِبَله لأجل استقبالك،
وأرسل إليك بغلته هذه مع مَن ترى من حُجّاب سيادته لتدخل عليها مكة - وأشار
إلى بغلة دهماء مشدودة مع حاجبين أبيضَيْ اللون بثياب حمر كالثياب التي يلبَسها
قواسة وكلاء الدول - ولو جئت قبل هذا الموعد لرأيت من العناية باستقبالك ما
يسرك، ولكنت معنا الآن في استقبال صديقك سيدنا الشريف عبد الله، ولدخلت بك
مكة من الطريق التي دخل منها سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فقابلت هذه
العناية الهاشمية بالشكر والثناء وخالص الدعاء.
هذا، وإنني كنت عازمًا عند الوصول إلى جدة أن أكتب إلى هذا الصديق
الوفي أكلفه أن يستأجر لي ولمَن معي دارًا ننزل فيها، ولكنه كلمني بالمسرة
(التلفون) من مكة، فقال: إن سيدنا الأمير - أعزه الله - قد أمر بإعداد منزل لك
مؤلَّف من دائرتين، إحداهما للرجال والأخرى للنساء، وفيه جميع ما يُحتاج إليه
من الأثاث والماعون والخدم وهو بقرب الحرم الشريف. وعلمت من هذا الصديق
أنه كان يتمنى أن ننزل في داره ضيوفًا عليه، لو لم يتفضل (سيد الجميع)
بتشريفنا بضيافته السنية الهاشمية.
وقد تذكرت الآن - والشيء بالشيء يُذكر - أن صديقي السيد يوسف
الزواوي كبير تجار مسقط وسرواتها، الذي مرّ ذكره في هذه الرحلة - وهو من آل
هذا البيت - كان قد كتب إليَّ وأنا في بمباي ثغر الهند الأول سنة 1330 يقول إنه
بلغه أنني عازم على زيارة مسقط ويدعوني إلى النزول في داره، ولم يكن يعلم أن
سمو سلطانها السيد فيصل رحمه الله وطيب ثراه - قد أمر مندوبه في بمباي
بدعوتي إلى ضيافته وبأن يخبره عن يوم سفري بالبرق (التلغراف) ، فلما جئت
مسقط ونزل السيد إلى الباخرة مع مَن نزل من ولد السلطان وحاشيته في زورقه
البخاري لاستقبالي فيها - أخبرني بما كان تمناه واستعد له من حسن الضيافة، لولا
أن سمو السلطان نفس عليه بذلك وقال له: أنت تنتظر مثلي قدوم فلان على بلدنا
وتريد أن تستأثر بضيافته من دوننا؟ ! ولكن السيد يوسف - أحسن الله إليه -
أدب لي مأدبة عظيمة في نفس مسقط، ودعا إليها جميع كبرائها ووجهائها ومأدبة
أعظم وأفخم منها في دار له بمزرعة في ضواحي مسقط، دعا إليها كبراء مسقط
ووجهاء البلاد المجاورة لها، حضرها عشرات منهم، فقضينا معهم يومًا كاملاً من
أطيب أيام الحياة، ذكَّرناهم فيه بآيات الله، فألفينا آذانًا صاغية وقلوبًا واعية،
وكذلك الأستاذ السيد عبد الله - حيّاه الله تعالى - فإنه أدّب لنا عدة مآدب فخمة،
حضر بعضها أهل العلم والوجاهة من حجاج المغاربة، وسيجيء ذكر هؤلاء
المغاربة في هذه الرحلة.
* * *
(دخول مكة المكرمة والطواف والسعي)
بعد أن استرحنا قليلاً ركبت البغلة التي تفضل بإرسالها إليَّ سيدنا الأمير،
ومشى أمامي حاجباه، وركب السيد الزواوي فرسه اللينة السير ونجله السيد عبد
الرحمن دابته، وسارا إلى جانبي، وركب مطوّف بلدنا (طرابلس الشام) الشيخ
محمد الحريري ونجله دوابهما وسارا وراءنا، فلما دخلنا مكة ومررنا في أسواقها
جعل الناس يقومون على الجانبين تكريمًا لمَن كرَّم أميرُهم ومنقذُهم من الهلكة، وإن
كانوا لا يعرفون شخصه ولا صفته، حتى إذا ما بلغ السير بنا بيت الله الحرام،
دخلناه ومررنا فيه من باب بني شيبة [3] حيث دخله سيد الرسل عليه أفضل الصلاة
والسلام، فلما وقعت العين على الكعبة المعظمة، التي كساها الله تعالى حُلل المهابة
والعظمة، قلت كما كان يقول عمر بن الخطاب عليه الرضوان: اللهم أنت السلام
ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام. وقفَّيت على ذلك بالدعاء الذي ورد، وإن لم
يصح به السند: (اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًّا) .
وطفت طواف القدوم والعمرة سبعة أشواط، وطاف معي مطوفنا رافعًا
صوتًا بما يحفظه من الثناء والدعاء - وهو ما اعتاد المطوفون تلقينه للحجاج - وأنا
أدعو وأثني بما أعلم وما أُلهم. وقد ذكَّرني المطوف بما كدت أذهل عنه من الرَّمَل
في هذا الطواف، وما يُسَنُّ فيه من كشف المنكب الذي يكون بالاضطباع، وبعد
الطواف صليت ركعتين، وشربت من ماء زمزم، ثم خرجت من باب الصفا لأجل
السعي بين الصفا والمروة.
كنت أحب أن أطَّوَّف بالصفا والمروة ماشيًا ولكن السعي بينهما سبع مرات
عبارة عن قطع ثلاثة كيلو مترات مشيًا، وذلك ما كنت أعجز عنه في ذلك الوقت
لما عرض لوركي من التعب والألم من الركوب عامة الليل على حمار غير فاره
لولا الإشناق له طول الطريق لخرَّ بي مرارًا، وكم ثنى ركبتيه للركوع، ومنعه
جذبي الرسن من السجود، فسعيت راكبًا على البلغة وهو جائز، ورملت بها في
موضع الرمل وهو ما بين الميلين (العمودين) الأخضرين الناتئين من جدار الحرم،
وقد بينت في المناسك أن جميع مناسك الحج قد شرعها الله تعالى على لسان
إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام إلا الرمل في الطواف والسعي، فإنه من
آثار نبينا صلى الله عليه وسلم، فعله مع الاضطباع وهو عبارة عن كشف المنكب
الأيمن وإظهاره ليظهر قوة المسلمين للمشركين في عمرة القضاء؛ إذ كان بلغه أنهم
قالوا: إن محمدًا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهُزَال، وكان بلغه
عنهم في الحديبية أنهم قالوا في المؤمنين: أوهنتهم حمى يثرب.
وبعد السعي عدت إلى دار السيد الزواوي إجابة لدعوته، فمروا بي من
طريق آخر وحُجاب الأمير أمامي والكثيرون من الناس يقفون في دكاكينهم، وفي
الطريق من الجانبين، فأحييهم بالسلام وبالإشارة حتى إذا ما جئت الدار أعد لي ماءً
للاستحمام فاغتسلت وتغديت مع السيد وولده ونمت، وكان الحر قد اشتد، فلم أنم
إلا قليلاً. وقد سألني السيد: متى تحب أن أذهب بك لزيارة سيدنا الأمير؟ قلت
له: إنني كنت محرمًا بالعمرة وقد أديت طوافها وسعيها وسأقصر شعري وأتحلل
منها، ولكن ثيابي مع الوالدة والرفاق، فمتى وصلوا ألبَس ونذهب، ورغبت إليه
في الذهاب إلى الدار المعدة لنا لأجل انتظارهم فيها، ولما جئت الدار وجدتها على
الشارع العام بجوار باب الحرم الغربي الكبير المسمى بباب إبراهيم، وقد تأخر
وصول الجماعة إلى قرب المغرب، فلم نتشرف بتلك الزيارة إلا ليلاً، وسأذكر لقاء
الأمير وشمائله في فصل آخر.
* * *
الحالة الروحية عند أداء المناسك
وحُكم التلبية والطواف والسعي
الحج عبادة روحية جسدية اجتماعية، فهو تربية عالية للإنسان منفردًا
ومجتمعًا، أي تربية كاملة له، فإن الإنسان مركَّب من جسد وروح، وقد خُلق
ليعيش مجتمعًا، وفي الحج تقوية لجسده ولروحه ولروابطه الاجتماعية.
أما كونه رياضة بدنية مقوية للجسد فظاهر في جميع المناسك؛ فالإحرام
ضرب من الرياضة والسفر كذلك، قد وصفت لك - أيها القارئ - سفري من جدة
إلى مكة، وعلمت بالإجمال ما قاسيت فيه من المشقة، مع استكمال أسباب الراحة
وقرب الشقة. وفي الطواف والسعي رياضة المشي التي يصف الأطباء نفعها
ويوصون بها، فدائرة المطاف حول الكعبة المعظمة لا يقل متوسطها عن مائة متر
وأقل الطواف سبعة أشواط (مرات) ومن الناس من يطوف في اليوم والليلة أسابيع
كثيرة متصلة ومنفصلة، أما أنا فلم أستطع أن أزيد على سبعة أسابيع في أمثل
الأوقات وأعدلها وهو وقت السحر؛ لما كنت عليه من ضعف البدن، وكان رفيقي
وأخي في الله الشيخ خالد يطوف ضِعفي ذلك أو يزيد. وإذا كان أقل الطواف -
وهو أسبوع - عبارة عن مشي ثلاثة أرباع الكيلو فإن السعي بين الصفا والمروة
سبع مرات يقرب من مشي 3 كيلو.
وأما كونه مقويًا للروابط الاجتماعية فلما فيه من التعارف والتآلف بين
الشعوب المختلفة في أفضل بقاع الأرض، وفي أحسن الأحوال التي يكون عليها
الإنسان في هذه الحياة، وهي التجرد من شواغل الدنيا والتوبة إلى الله تعالى من
جميع المعاصي والآثام.
وأما كونه عبادة روحية مهذبة للنفس بتقوية شعور الإيمان، فهو المقصود
بالذات الذي يجب أن يُتَحَرَّى وينوى، ويلاحظ عند كل عمل من أعمال المناسك،
وهاك خلاصة وجيزة من العلم والاختبار في ذلك:
(الحالة الروحية في طريق مكة وتأثير التلبية)
كنت قبل عودة المشيعين لي من جدة ألبي في السير قليلاً، وأتكلم معهم
كثيرًا، فلما عادوا وولى النهار بأنسه وبهائه، وأقبل الليل بوحشته وظلماته -
هدأت المشاعر، وقرت النواظر، وخشعت السرائر، وتزاحمت الخواطر - فكان
الغالب منها على الفكر والقلب ما يثيره تأثير الزمان والمكان وزي الإحرام في
النفس.
فأما الزمان فهو شهر ذي الحجة الحرام، وأما المكان فهو الطريق إلى بيت
الله الحرام، وأما زي الإحرام فهو الذي كان يتزيَّا به إبراهيم خليل الله،
وإسماعيل ذبيح الله، ومحمد خاتم رسل الله، وغيرهم من رسل الله الكرام، عليهم
الصلاة والسلام، وكل مَن حج البيت أو اعتمر من أصحابهم وأتباعهم هداة البشر،
فيا لها من ذكرى لذي اللب، يخشع لها القلب، ويُرجى بها رضوان الرب، بما
تثمره من قوة الإيمان، وطهارة الوجدان، وخلوص السر والإعلان، ولو لم يقترن
بها ذكر لسان، ولا عمل أركان، فكيف إذا صحبها تكرار التلبية، التي تزيد
حرارتها تذكية؛ وإخلاصها تزكية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن
الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
تأملت نفسي في تلك الليلة الليلاء، والطريق الجرداء، فرأيتني حاسرًا حافيًا
في إزار ورداء، غير مُبالٍ بما يكون من تأثير الهواء، وهي حال لم أعهدها في
سالف الأيام، إلا بين جُدُر الحمام، وقد كان الهواء عند خروجنا من جدة حارًّا
رطبًا، وكانت الدابة وهي في أول السير تنهب الأرض نهبًا. وهذه ثلاثة أسباب
يتفصَّد بها العرق من الإهاب، ثم كنا كلما أوغلنا في السرى، وتغلغلنا في البيداء،
نشعر بجفاف الجو، وبرد الهواء، حتى اضطررت إلى إخراج سجادة صلاة كانت
تحتي، فوضعتها على عاتقي فلم تغنِ عني، فأخرجت العباءة فتلفعت بها، جاعلاً
لأجل الإحرام أعلاها أسفلها، ولم أخف من أذى يصيبني من برد الليل ولا ضرر،
ولم يعرض لي سأم من طول السرى ولا ضجر، فإن مسني طائف من شيطان
الوسوسة - ذكرت الله تعالى، فطردته بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك
لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ويالله ما أحلى التلبية في تلك الفلوات، وما أعظم الأُنس بها في حنادس
الظلمات، إذا خشعت بها الأصوات، واستمطرت بها العَبَرات، ومن دقائق حكم
الشرع استحبابه رفع الصوت بها للرجال، وتجديدها بتجدد المناظر واختلاف
الأحوال، فرفْع الصوت بها ينفي الوسواس، وإذا كان في الليل يطرد النعاس،
وهو أجلب للخشوع، وأذرف للدموع، واستئنافها عند اختلاف الأحوال وتجدد
المناظر أدعى إلى دوام الذكر وعدم تفرق الخواطر، فكنت كلما علونا نجْدًا، أو
هبطنا غورًا، أو نزلنا مكانًا، أو استأنفنا سُرَانا، أو لقينا مشاة أو ركبانًا - جأرتُ
إلى الله تعالى: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك
والملك، لا شريك لك.
* * *
(تأثير رؤية الكعبة والطواف بها)
تلك التلبية تملأ قلب متدبرها إيمانًا وتوحيدًا، وتجرده من الحظوظ والأهواء
تجريدًا، وتعده لزيارة بيت الله والطواف، وهو في أحسن حال وأتم استعداد، حتى
إذا اكتحلت عينه برؤية الكعبة المعظمة، وراع القلب ما جللها من المهابة والعظمة
- تذكَّر أنها أول بيت وُضع للناس مباركًا وهدى للعالمين، وخصه الله بالآيات
البينات الباقية على بقاء الأيام والسنين، ورأى أمامها مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا
وآلهما الصلاة والسلام، ووجد نفسه حيث كان بدء دين الله الإسلام، وحيث الختام،
فإذا دنا من مهبط الروح الأمين، ومطاف الملائكة والنبيين، والصديقين والشهداء
والصالحين فلا تسلْ ثَمَّ عن الدموع كيف تنسكب، وعن الضلوع كيف تضطرب،
وعن الأعناق كيف تخضع، وعن القلوب كيف تخشع، ولا عن وجدان الإيمان،
كيف يتألق نوره في الجَنان، ويفيض بيانه على اللسان، فيحركه بما يُلهم من الثناء،
وما يشعر بالحاجة إليه من الدعاء، وما يذكره أو يُذكّر به من المأثور، من
مرفوع أو موقوف، لا تسلْ - أيها القارئ - عن شيء من ذلك، ولا عن غيره مما
يكون عند أداء المناسك، فمَن ذاق عرف، ومَن حُرم انحرف.
على هذه الحال تدخل الحرم المقدس، طاهر القلب والبدن من الحدث
والدنس، فتأتي الركن الأسود، حيث العظمة والسؤدد، فتقول: بسم الله، الله أكبر،
فيصغر في قلبك كل شئون البشر، ثم تبدأ الطواف، مع النية والإخلاص، بلمس
الحجر وتقبيله إن قدرت، وبالإشارة إليه إن أنت عجزت، ولا بأس بأن تتذكر ما
رُوي من أنه رمز إلى يمين الله التي لا تشبه الأيمان، وأن استلامه وتقبيله في
معنى تحية رب البيت ومبايعته على الإيمان والإسلام والإحسان، ومن أنه يشهد
لمستلمه يوم القيامة كما تشهد الأعضاء، وبأن تقول بلسانك أو قلبك، كما قال أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب من قبلك: (إنني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع،
ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبَّلك [4] لما قبَّلْتك) ، فتقبيلك ليس
لذاتك الحجرية، ولا لمنفعة فيك مرجوة أو مضرة مخشية، ولا هذا الطواف الذي
بك يبتدأ وعندك يختتم، في معنى عبادة الوثن وتعظيم الصنم، وإنما هو خضوع
لأمر الله، واقتداء برسل الله، وتعظيم لما عظم الله، وأنس بالقرب مما نُسب إلى
الله، يكمل به توحيد الله، وتنمي به محبة الله، فمن شأن المحبين الأُنس بكل ما
يُنسب إلى المحبوب، ولا سيما إذا تعذر اللقاء وعز الوصول، وكم نظموا من
الأشعار، في الوقوف بالأطلال والطواف بالآثار:
أمر على الديار ديارِ ليلى
…
أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
…
ولكن حب مَن سكن الديارا
ولما كان الرب العلي العظيم، الجدير بأعلى مراتب الحب والتعظيم، لا
تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، ولا يراه عباده في هذه الدار - كان من
رحمته بالمؤمنين المحبين أن وضع هذا البيت للطائفين منهم والعاكفين، ونسبه إليه؛
ليكون تعظيمه تعظيمًا له.
فإذا مضيت في الطواف يمينًا مصاحبًا لهذه الذكرى، جاعلاً البيت من الجهة
اليسرى، فاشغلْه بالثناء على الله، والدعاء لنفسك، ولآلك وصحبك، ولأمتك
وأولي أمرك، فإذا بلغت الركن اليماني - وهو الجنوبي الغربي - فاستلمه إن سهل
عليك؛ فإنه على قواعد إبراهيم، التي ذكرها الله تعالى في القرآن العظيم، ومتى
انتهيت إلى مقابله - وهو الركن الأسود - فقد أتممت من طوافك الشوط الأول،
وبقية الأشواط مثله في الشروط والآداب، كالخشوع والتذكر وترك غير الضروري
من الكلام، وعدم التهافت على استلام الركن والحجر عند الزحام، فإذا أتممت
السبعة الأشواط فاختم دعاءك بين الركعتين بقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201) ، ثم صَلِّ ركعتين
سنة الطواف، والأفضل أن تصليهما وراء المقام.
* * *
(تأثير السعي وحكمته)
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، وليس له نفل فلا
يفعل في كل منهما أكثر من مرة، ويجب أن يكون بعد الطواف، ولا يشترط فيه
شروط الصلاة. فإذا جئت الصفا فاقرأ كما قرأ الرسول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن
شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158)، وقُل كما قال:(نبدأ بما بدأ الله) ، ثم اصعد
درجة أو أكثر، واستقبل البيت الحرام، فإذا رأيته فقل كما كان يقول عليه الصلاة
والسلام: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل
شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب
وحده) ، وادعُ الله تعالى مكررًا ذلك ثلاث مرات.
وتذكر عند السعي أنه ذكرى سعي جدَّتنا السيدة هاجر عليها الرضوان، أم
أبينا إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وعلى أبيه، وصفوة بنيه، ويا لها من ذكرى
لمجد العرب الكرام، ومعجزات الإسلام، مثبتة لحفظ الله تعالى لهذه الملة، وعنايته
بهذه الأمة، حفظتها العرب بالعمل المتواتر، وكم حفظت ما هو دونها من المآثر.
وما يحفظ بالتمثيل والمحاكاة يكون أثبت مما يحفظ بالتلقين والروايات، ولكنهم
مزجوا مناسك الحنيفية، بخرافات الوثنية، فإن كانوا قد وضعوا صنمين على
الصفا والمروة فقد وضعوا 360 صنمًا على الكعبة، ثم طهر الله تعالى هذه البقاع
بالإسلام، وأعادها إلى ما كانت عليه في عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما وآلهما
الصلاة والسلام، روى البخاري وغيره من طريقين عن ابن عباس رضي الله
عنهما، قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان [5] خرج بإسماعيل وأم
إسماعيل ومعهم شنة [6] فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة، فيدر لبنها
على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة - زاد في الرواية الأخرى فوق
زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد ولا بها ماء ووضع عندهما جرابًا فيه
تمر، وسقاءً فيه ماء - ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا
كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى مَن تتركنا؟ ، قال: إلى الله، قالت:
رضيت بالله، وفي الرواية الأخرى أنها قالت: إذًا لا يضيعنا، وفيها أنه لما كان
عند الثنية، أي ثنية كداء حيث لا يرونه - استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء
الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ
بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37)، قال: فرجعت فجعلت تشرب من
الشنّة ويدرّ لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبتُ فنظرت لعلِّي
أُحسّ أحدًا - زاد في الرواية الأخرى: حتى إذا نفد ما في السقاء (أي الشنة)
عطشت وعطش ابنها، فجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية
أن تنظر إليه - (قال) : فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت هل تُحسّ أحدًا،
فلم تُحسّ أحدًا، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة، ففعلت ذلك أشواطًا ثم قالت:
لو ذهبت فنظرت ما فعل، تعني الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه
ينشغ [7] للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أُحسّ أحدًا،
فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدًا حتى أتمت سبعًا - زاد في
الرواية الأخرى: قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك سعي
الناس بينهما) - ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل فإذا هي بصوت، فقالت:
أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل - وفي الرواية الأخرى فقالت: قد أسمعت
إن كان عندك غَواث، فإذا هي بالمَلَك عند زمزم - قال: فقال بعَقِبه هكذا وغمز
عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل [8] ، فجعلت تحفر
(قال) : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (لو تركته كان الماء ظاهرًا) -
ولفظ الرواية الأخرى: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركت - أو قال - لو لم تغرف
من زمزم لكانت زمزم عينًا معينًا) ، أي جاريًا على وجه الأرض - (قال) :
فجعلت تشرب من الماء ويدرّ لبنها على صبيها، قال: فمر ناس من جرهم ببطن
الوادي، فإذا هم بطير - وفي الرواية الأخرى: فرأوا طائرًا عائفًا أي يحوّم على
الماء - كأنهم أنكروا ذاك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم،
فنظر فإذا هم بالماء، فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا: يا أم إسماعيل، أتأذنين لنا أن
نكون معك أو نسكن معك - وزاد في الرواية الأخرى فقالت: نعم ولكن لا حق لكم
في الماء، قالوا: نعم - ثم قال مصرحًا بالرفع: (فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم
فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم
وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم) . اهـ المراد منه،
ويليه ذكر عودة إبراهيم إلى مكة لتفقد تركته، أي ما تركه فيها وخبر بنائه البيت.
وجرهم كقُنفذ هو ابن قحطان ولكن رجح الحافظ أن قحطان نفسه من ذرية إسماعيل.
فهذا حديث صرح فيه ابن عباس بما يدل على رفعه كله، وإن لم يسنده إلى
النبي صلى الله عليه وسلم في أوله. وفيه نص صريح في بيان حكمة جعْل الصفا
والمروة من شعائر الله، التي يحيا شعور الإيمان بها، ووجوب التطوف بهما
والسعي بينهما. فإنه تمثيل يذكِّر بتلك الواقعة التي هي من أكبر آيات الله ومظاهر
قدرته، وعنايته بتلك السيدة العظيمة القوية الإيمان به والاتكال عليه والثقة به،
وبولدها الذي أراد سبحانه أن يباركه ويجعله أمة عظيمة، كما هو منصوص في
سفر التكوين من أسفار التوراة القديمة، وأي شيء أجدر بأن نتذكره هنالك، ونمثله
كما وقع لأجل الاعتبار به، وإحياء شعور الإيمان بتصوره، من رضاء أم مُرضع
بأن تقيم مع طفلها منفردين بعيدين عن العمران، في وادٍ غير ذي زرع ولا ماء؛
لأن الله تعالى قد أمر بذلك أبَا ولدها الذي لقنها الإيمان، ورأت ما أيده الله به من
الآيات البينات، وكيف نصره وحده على قومه المشركين الظالمين الأقوياء؟
أليس تمثيل حال تلك الأم جائعة ظامئة، والهة حائرة، تشاهد طفلها يتلوَّى
ويتمرغ، من شدة الجوع والظمأ، ويضرب بنفسه الأرض كالمصاب بالصَّرع،
وينشغ - أي يشهق من صدره - للموت في ذلك القفر، فيسوقها ذلك الألم إلى
الفرار من رؤيته بتلك الحال، والسعي بين ذينك الجبلين القريبين من ذلك المكان،
تصعد هذا مرة وذلك أخرى، ضارعة إلى الله، راجية أن تجد من عنده غوثًا،
حتى إذا ما انتهت من الشوط السابع أرسل الله تعالى روحه الأمين الذي يؤيد به
الأنبياء، فأنبع لها ذلك الماء، وجعل فيه الري والغذاء، ثم ساق ذلك الركب من
جرهم إليها، وسخرهم للإقامة عندها، ليتربى فيهم، ويتذرّاهم ولدها، ثم يجعله
أصلاً لهذه الأمة الكريمة، ويجعل ذلك الوادي القاحل صدفة لدرة الكعبة اليتيمة، إذ
جعله بلدًا يحفظ بيته الذي جعله مثابة للناس وأمنًا، وجعل قلوب الناس تهوي إليه
من جميع الأقطار إيمانًا ونسكًا، ورزق أهله من الثمرات، وسخر لهم البشر في
كل زمان، ألسنا نرى في هذا العام معجزة من معجزات هذا التسخير؟ بلى، وقد
ابتلى في هذا العام وما قبله الأمم الغنية القوية، المتصرفة في البلاد العامرة
الخصبة الغنية، بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات،
بهذه الحرب الأوربية التي تقطعت بها الروابط، وقلَّت المواصلات، واقتضى
دخول الدولة العثمانية في غمراتها، أن تضرب الدول المحاربة لها حَجْرًا بحريًّا
على جميع سواحلها، فكان الضيق على سكان حرم الله تعالى أليمًا شديدًا، حتى إذا
ما أوشك أن يفتك بهم الموت جوعًا - سخر الله تعالى لهم تلك الدول تحمل إليهم
الأقوات والأموال، وتنقل إليهم وفود الحجاج، وأراهم بهذه الإغاثة العامة مثالاً
لتلك الإغاثة الخاصة، أعني إغاثة هاجر وإسماعيل، استجابة لدعاء الخليل:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} (إبراهيم: 37) ،
وكثيرًا ما ذكَّرت الناس بذلك في أثناء أداء المناسك.
فمن سعى بين الصفا والمروة عالمًا بما ذُكر، متذكرًا له، معتبرًا به - فإنه
يشعر في قلبه بنماء الإيمان بالله وبرسل الله، ويفهم سر قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة: 158) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تأخر نشرُه بغير تعمُّد.
(2)
نبهنا قبلُ على أن حوادث الرحلة حدثت قبل المبايعة بالمُلْك، فبقي التعبير فيها على ما كان عند وقوعها.
(3)
هو الآن في صحن الحرم كأنه قوس منصوب، ويقابله في جار الحرم الشرقي بابان يسمى أحدهما باب العباس والثاني باب علي، وفي وسط هذا الجدار الباب الذي يسمونه باب النبي صلى الله عليه وسلم، يليه في الجانب الشمالي باب السلام الذي يدخل منه أكثر الحجاج.
(4)
عبارة عمر: ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك إلخ، رواه الجماعة كلهم.
(5)
أهله: امرأته سارة، غارت من هاجر لما ولدت، وحملته على طردها مع طفلها إسماعيل وفي الفصل 21 من سفر التكوين (التوراة) أن إبراهيم استاء من كلامها، فأمره الله تعالى بإخراجهما، ووعده بأن يجعل إسماعيل ابنه أُمة، وفيه أنه زود هاجر بخبز وقربة ماء، وأعطاها ابنها، فتاهت في بَرِّية بئر سبع، وأنه لما نفد ماؤها، وتوهمت أن يموت ولدها - ناداها ملاك الرب وأراها الماء، ووعدها بجعْل ابنها أمة عظيمة وأن الله كان مع الغلام، وأنه سكن برية فاران أقول: وفاران من أسماء مكة كما في معجم البلدان، وما يخالف هذه الرواية مما هنالك نعده تحريفًا وقالوا: إن إبراهيم جاء مكة على البراق.
(6)
بفتح الشين والنون والمشددة: القربة اليابسة.
(7)
بوزن يفتح معناه: يشهق من صدره.
(8)
قوله: فقال بعقبه هكذا: أي فعل وقوله: ودهشت بفتح الدال والهاء ولأبي ذر بكسر الهاء.
الكاتب: محمد رشيد رضا
اقتراح عظيم في الإصلاح الإسلامي
يود بعض الموسرين من المستمسكين بعروة الكتاب والسنة لو يعرفون
أمثالهم من الفقراء والمساكين المتجنبين للمعاصي والبدع، المحافظين على
الفرائض والسنن؛ ليؤدوا إليهم ما يجب من زكاة المال وزكاة الفطر وغيرهما من
الصدقات؛ إذ لا تطيب أنفسهم لصرفها إلى فاسق ولا مبتدع ولا مجهول الحال؛ لما
يعلمون من فشوّ البدع والضلال، وكثرة المعاصي والنفاق، دعْ المجاهرة بالكفر
والإلحاد، فالصدقات المفروضة التي يُتقرَّب بها إلى الله تعالى لإقامة دينه، يتحرى
صرفها إلى من ينفقها في طاعته، أو فيما أباحه لعباده من الطيبات، لا في
المعاصي والمحرمات، ولا في البدع والخرافات، فإذا كانت صدقة التطوع يجوز
بذلها لكل مؤمن وكافر - من ذمي أو مستأمن أو معاهد - فصدقة الفرض ليست
كذلك؛ لذلك اقترح علينا بعض هؤلاء الموسرين أن نحصي مَن نعرف، ومن
يتيسر لنا أن نعرفهم من المؤمنين المذعنين المعتصمين، من فريق الموسرين
وفريق المستحقين للزكاة من الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم والغارمين، ومن
يلم بإدارة المنار من أبناء السبيل، وأن نكون واسطة التعارف والتعاون بين
الفريقين؛ لأن وقوف كل فرد من الموسرين على هؤلاء المستحقين متعذر، وأن
منهم من تعدد تأخيرهم الزكاة عن وقتها زمنًا طويلاً أو قصيرًا لأجل ذلك.
ولعمري إن هذا اقتراح جليل، ولكن القيام به على حقه عسير غير يسير،
وإذا علم الناس أن بعض الناس يعطون صدقاتهم لمجتنب كبائر المعاصي والبدع
والمحافظين على الفرائض والسنن - يكثر المدّعون لذلك وحاملو الشهادات من
العلماء والوجهاء على صحة دعواهم، وأخذ الشهادات على هذا سهل على أكثر
الناس في هذا العصر، فإن كثيرًا من محبي الصدق يستحلون أن يشهدوا لمن يدعي
مثل هذه الدعوى إذا كانوا لم يروا منه ما يصدقها ولا ما يكذبها، وأما غيرهم فلا
يتحامى شهادة الزور وقول الباطل في ذلك، ومنهم من يرى أنه يتقرب به إلى الله
تعالى بمساعدة الفقير على تحصيل قوته. وإننا على ما نعلم من العسر في ذلك
سننظر فيه ونجتهد في القيام به بقدر الطاقة، ونرجو من إخواننا الصادقين إعانتنا
على ذلك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السنة الرابعة للحرب
دخلت الحرب في السنة الرابعة من عمرها، فشاب لأهوالها الوِلدان،
وهي لم تزدد إلا شبابًا! وخمدت بها نار حياة الأمم، ولم تزدد نيرانها إلا
شبوبًا، وكان أهم أحداث عامها الثالث في الميادين الشرقية ثورة الروس
على حكومتهم القيصرية، وإسقاط القيصر نقولا عن عرشه، واعتقاله مع
زوجه وولده، ثم نفيهم إلى سيبرية؛ حيث كانت حكومته المستبدة تنفي
الألوف من أحرار السياسيين، والعلماء والكتاب النابغين!
وأكبر العبر في هذا الانقلاب العظيم أن طلاب حكومة الشعب الشورية من
الروس عجزوا عن جمع كلمة أحزابهم على شكل آخر لحكومتهم، فانشقت العصا،
وتفرقت الشيع، وتعددت الثورات والفتن الداخلية حتى في الجند، وقد كانت الحكومة
الجديدة المؤقتة أمسكت عن الحرب عقب الثورة، وأمسك عنها أعداؤها، حتى ظن أن
هنالك هدنة، ثم هجمت في هذا الصيف على النمسة، فشدد الألمان الهجوم عليها،
واستولوا على كثير من ولاياتها، وأعظم ما استولوا عليه قيمة عندهم (ريغا) .
يلي هذا ما حدث قبله من دخول دولة رومانية في الحرب واستيلاء الجرمان
على عاصمتها، وقسم كبير من بلادها وخروج الملك والحكومة منها، وإقامتهم في
روسية، ويليه استيلاء الإنكليز في الربيع الماضي على مدينة بغداد عاصمة المدنية
العربية في الشرق، وتهنئة الملوك ورؤساء حكومات الأحلاف لملكهم بهذا الظفر.
وأما الميدان الغربي الأعظم فأهم أحداثه أن الإنكليز والفرنسيس ما زالوا
يكاثرون الألمان في المدافع والذخيرة وغيرهما، حتى كثروهم فيها كما كثروهم في
عدد الجيوش، وأن الألمان قد جلوا عن قسم عظيم من أرض فرنسة وامتنعوا وراءه
في خط أقصر من الخط الأول سموه خط هندنبرج نسبة إلى قائدهم العام، وقد استولى
الحلفاء على ذلك القسم، بعد أن صار معظمه خرابًا يبابًا كما توقعنا من قبل، وحاربوا
الألمان عند انسحابهم منه حربًا عوانًا، ربحوا فيها كثيرًا من الأسرى
والمدافع، ولا تزال الحرب في هذا الميدان سجالاً.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تاريخ هذا الجزء
صدر الجزء الأول من هذ المجلد في شوال؛ فوجب أن يكون الثاني جزءَ ذي
القعدة، وكان جَعْل تاريخه سلخ شوال خطأً.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
حكمة تحريم الدم المسفوح
(س8) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا
ما قولكم دام فضلكم في الدم المنصوص على تحريمه في القرآن الشريف
مقيدًا بالمسفوح مرة، وغير مقيد مرارًا، وما الحكمة في تحريمه؟ أفيدونا
الجواب ولكم الثواب.
…
...
…
...
…
...
…
... طبيب جمعية الرفق بالحيوان
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... حسن ذهني
(ج) الدم المسفوح هو الذي حرم الله شربه وأكله، وهو الذي يراق من
الحيوان بذبح أو جرح أو غيرهما، وتقييده بالمسفوح هو الذي نزل أولاً في سورة
الأنعام، وما نزل بعده مطلقًا فهو محمول على ذلك المقيد بقيده. واحترز بالقيد عن
الجامد كالطحال، وعما يخالط اللحم من المائع القليل فإنه لا يسفح. وقد بينا في
تفسير آية محرمات الطعام من سورة المائدة أن حكمة تحريمه أمران:
أحدهما: أنه خبث تستقذره الطباع السليمة، فوجب التنزه عن جعْله غذاءً
للمؤمنين الطيبين الذين لا يليق بهم إلا الطيبات.
وثانيهما: أنه ضار؛ لأنه عسر الهضم، ويشتمل على كثير من الفضلات
العفنة، وكثيرًا ما يشتمل على جراثيم الأمراض والأدواء الخطرة. فإن سهل على
بعض البارعين في العلوم الطبية معرفة مثل هذا واتقاء ضرره فهو لا يسهل على
جميع البشر من البدو والحضر المخاطَبين بهذا الدين العام. وتتمة الكلام على ذلك
في (ص 134 و 135 من جزء التفسير السادس) .
* * *
الكتابة
وطريق تحصيلها ومكان القرآن والحديث منها
(س9) من صاحب الإمضاء بمصر
أستاذي الفاضل الشيخ رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله؛
وبعد؛ فإنا نعلم مكانتكم من العلم في هذا البلد؛ لذلك نرجو الإجابة على ما
يأتي:
إن فن الكتابة والتحرير الذي أحياه فينا الأستاذ الإمام ما زال يتصعد درجات
الكمال، حتى إنه ليخيل للناظر في كتابات هذا العصر أنه بين أولئكم الأعراب
البائدين أو العباسيين المتحضرين حسب اختلاف درجات الكتّاب. وقد توافقت آراء
الكاتبين على أن أقوم طريق إلى الكتابة النظر في كلام العرب وحفظ الجيد منه
والنسج على منواله. وإنا نجد أحسن كلام في جزالة الألفاظ ومتانة الأسلوب وعلو
المعنى كتاب الله تعالى وحديث رسوله، وإنا نحفظ الكتاب وكثيرًا من السنة، ومع
ذلك أرانا لا نجيد شيئًا من الكتابة، بل لم نصل فيها إلى الدرجة الوسطى من ذلك.
وقد بلغنا أن بعض النصارى كان يحفظ القرآن لهذا الغرض، وينتفع به، فبأي
عين نظر إليه ذلك النصراني حتى انتفع به وما بالنا ضللنا هذا الطريق في حين
أننا أولى به؟ ! وكم من رجل ما حفظ شيئًا من القرآن ولا عرف شيئًا من السنة
غير أنه زاول كثيرًا من اللغة العربية هو قليل بالنسبة لكتاب الله وسنة رسوله،
وبهذا طال باعه فيها، وذهب فيها مذاهب آبائها الأولين. فاللهم هيئ لنا ما يرشدنا
إلى الصواب. وإنا نرجو الاهتداء بهديك والاستنارة بمنارك إن شاء الله، فأجبنا
عن ذلك، وما السبب فيه على صفحات المجلة لفائدة القراء، ولكم الشكر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد أحمد عليوة
(ج) كان الناس في أول العهد بالنهضة العلمية والأدبية التي جددها الإسلام
للعرب يطلبون اللغة العربية من أهلها بالتلقي والمشافهة، ولما سرت العُجمة إلى
الأمصار العربية بكثرة مخالطة العرب للعجم فيها - صار أبناء العرب ومواليهم من
العجم يرحلون إلى الأعراب في البوادي، فيقيمون عندهم زمنًا طويلاً يتلقون عنهم
العربية الخالصة من شوائب العجمة، ويحفظون أشعارهم ويروونها، كما يحفظون
ويروون الكتاب والسنة، فيتلقاها عنهم طلاب العلم والآداب في الأمصار، بالرواية
والدراية والاستظهار، ولما استنبطوا منها الفنون لأجل ضبطها وفهمها، وبيان
أسرارها وفلسفتها - وصاروا يتدارسون هذه الفنون في المساجد والدُّور والقصور،
مع تطبيق قواعدها على الشواهد من الكتاب العزيز والسنة، وأقوال العرب
وأشعارهم المحفوظة، فيجمعون بين مَلَكَة اللغة وذوقها، وبين فنونها وفلسفتها،
ومنهم من كان يضم إلى ذلك العلوم الشرعية والعلوم العقلية والكونية، ولا يَحُول
رسوخ ملكاتهم في العلوم والفنون دون رسوخ ملكة اللغة في منثور ولا منظوم، وقد
انسلخ القرن الخامس للهجرة والعلماء البلغاء كثيرون، حتى إذا ما تغير منهج
التعليم، وأسلوب التأليف، وقل الحفظ والحفاظ، وكثر الاختصار في الكتب وما
اقتضاه من البحث في الألفاظ - ضعفت ملكة اللسان، وسقطت مكانة البيان،
وصار جهابذة علماء الشرع واللغة، والمصنفون في فنون الفصاحة والبلاغة - لا
يستطيعون التفلت من عقل اصطلاحات علومهم وفنونهم البعيدة عن الأسلوب
العربي، إلا إلى أسجاع متكلفة أو عجمة أو عجرفة، ومَن شاء قايس بين عبارة
الزمخشري في الكشاف وعبارة الفخر الرازي في التفسير الكبير، وبين عبارة عبد
القاهر في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وعبارة السعد التفتازاني في المطول
والمختصر، فإذا كانت عبارة العلامة التفتازاني في دقتها وتحريرها نائية عن
براعة عبارة الإمام الجرجاني في فصاحتها ورشاقة أسلوبها، وإذا كانت عبارة
الإمام الرازي - على بسطها وإيضاحها - تكاد تعد ركاكة عامية في جنب عبارة
العلامة الزمخشري في متانتها وعلو أسلوبها، فما القول في المتأخرين الذين يعدون
منتهى العلم الاستعداد لفهم كلام مثل الرازي والتفتازاني، بل القدرة على المناقشة
فيه، وإيراد الاحتمالات والأجوبة في معانيه؟ !
أتى على الأمة العربية بضعة قرون وهي في تدلٍّ وضعف في اللغة، لا
يمضي عليهم قرن ولا عام إلا والذي بعده شر منه، وما سببه إلا تنكُّب سبيل
الأولين في حفظ الكثير من الكلام العربي الحر الفصيح وفهمه، ومعارضة أسلوبه
في نثره ونظمه، فكان إذا اتفق لأحد منهم ذلك بإلهام الفطرة، أو إرشاد أحد من
بقية أهل المعرفة، فصار كاتبًا بليغًا، أو خطيبًا مفوهًا، أو شاعرًا مجيدًا - أحال
الباحثون ذلك على ندور في الاستعداد، يكاد ينتظم في سلك خوارق العادات، حتى
إن ذلك النابغ نفسه يظل غافلاً عن السبب، دعْ مَن كان بعيدًا عنه أو كان منه على
كثب.
بلغ الجهل من أكثر أهل هذه القرون بهذه المسألة كل هذا ولم تكشفه عنهم
سيرة سلفهم، ولا ما يؤثر من العلم وطريقة التعليم عنهم، ولا ما شرحه الحكيم عبد
الرحمن بن خلدون في القرن الثامن في ذلك وفي هذه المسألة بخصوصها عند الكلام
على اللغة العربية وفنونها وآدابها، وتحصيل ملكة البيان فيها، فقد وَفَّاهَا حقها في
اثني عشر فصلاً من مقدمته المشهورة وهي الفصل السابع والثلاثون وما بعده إلى
الخمسين، ذلك بأنه كتب ما كتب والأمة في طور يقل فيها من يقرأ مقدمته، فيفقه
ويعتبر، ولم يكن كل من يفقه بالذي يقدر على تلافي الخطْب، والسير بالأمة في
الطريق القصد، وقد استبد بأمر الأمة الأعاجم الجاهلون، وقل العلماء المستقلون
وساد المقلدون.
أما هذه النهضة الأخيرة فقد كان حكيمنا السيد جمال الدين مقتدح زنادها،
وشيخنا الأستاذ الإمام قائد جيادها، ولكن السائل بالغ في إطراء المعاصرين من
كتابها، فنظمهم في سلك الأولين، من الفحول المقرمين، وما هم إلا عيال على بعض
المولدين، على قلة ما يحفظون من المفردات، وكثرة ما يخطئون في المركبات.
وأما سؤاله عمن حفظ القرآن من النصارى استعانة به على تحصيل ملكة
البلاغة - وهم ثلة من المتقدمين، وأفراد من المتأخرين - بأي عين نظروا إليه
وكيف صار بعضهم بليغًا دون كثير ممن حفظه من المسلمين وأضاف إليه شيئًا من
الأحاديث؟ ، فجوابه أنهم نظروا إليه بعين طالب الفصاحة والبلاغة، لا بعين
طالب الدين والهداية، والأمور بمقاصدها، وإنما يستفيد كل امرئ من كل شيء
مفيد بقدر ما تتوجه إليه إرادته من فوائده، وتحصيل ملكة البيان في العربية لا
تتوقف على حفظ القرآن الكريم، ولكن حفظه يكون مزيد كمال فيها لمَن حفظه
وقصد منه ذلك؛ لأنه أبلغ الكلام العربي وأعلاه أسلوبًا، وإن كان أسلوبه معجزًا لا
يمكن أن يُحتذَى مثاله، ومن حفظه لا يقصد ذلك منه لا يستفيد شيئًا من بلاغته،
كما أنه إذا لم يقصد الاهتداء به لا يستفيد من هدايته، ومن هنا تعلم أن حفظه وحده
لا يكفي في تحصيل ملكة البيان في اللغة العربية، بل يتوقف ذلك على ممارسة
الكثير من كلام بلغاء العرب في العهدين الجاهلي والإسلامي أو العهد الثاني فقط،
وإن هذه الممارسة هي الأصل في تحصيل ملكة البيان؛ لأنها هي التي تُحتذَى وقدر
القرآن الكريم أو ضعفه لا يكفي خلافًا لما تُظهره عبارة السائل وما قيل في القرآن
يقال مثله في الأحاديث النبوية وإن كان أسلوبها غير معجز؛ وذلك أن المحفوظ
منها قليل، وأكثرها جمل مختصرة، فلا تنطبع في نفس حافظها ملكة التصرف في
جميع الأغراض والمعاني. ومن لم يقصد استفادة البلاغة منهما لم يستفد منها شيئًا.
وإن من حفاظ القرآن عندنا مَن لا قصد لهم من حفظه إلا تجويد ألفاظه وتوقيع
آياته على الأنغام الموسيقية؛ ليُعجبوا أو يُطربوا مَن يستأجرونهم لقراءته في المآتم
أو ليالي رمضان، ومن الناس من لا ينظر فيه إلا بقصد البحث عن آية يمكن
التشكيك فيها، بحملها على غير ما أريد منها، ولا يعجزه أن يجد ذلك، وقد ذم
بعض الشعراء وجهًا أبيض أزهر فشبَّهه برئة الحيوان، وذم ابن الرومي الورد
فشبّهه بما ننزه عنه هذا الكلام. (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة الحجاز
(5)
مقامنا بمكة قبل الحج
تقدم أنني دخلت مكة ضحوة يوم الأحد (وهو الثالث من أيام ذي الحجة
بحسب تقاويم مصر وهو ما ثبت لدى حكومة مكة بعد وكانوا يعدونه الرابع في
تقاويمها) وإنني كنت متمتعًا بالعمرة إلى الحج، وإنني لم أتجاوز يوم الأحد دار
السيد الزواوي التي جئتها بعد الطواف والسعي إلا مساءً؛ إذ جئت المنزل الذي أُعد
لي من قِبَل الأمير - أحسن الله كرامته - وإنني لم أخرج منه إلا ليلاً بعد وصول
السيدة الوالدة والرفاق إلى قصر الأمير للتشريف بزيارته. ولقيت في القصر نجله
النجيب صديقي الشريف عبد الله، وليس في مكة من أنجاله النجباء سواه؛ إذ كان
قد وجَّه الأمراء الثلاثة عليًّا وفيصلاً وزيدًا إلى فتح المدينة المنورة والأمير عبد
الله إلى فتح الطائف، وتقدم أن فتح الطائف قد تم على يديه قبيل قدومنا، وأنه دخل
مكة منصرفًا عنها في وقت دخولنا.
وفي اليوم الثاني - وهو يوم الاثنين رابع ذي الحجة - علم الناس بوصولي
إلى مكة مع الحجاج المصريين، وذكرته جريدة القبلة في عددها الخامس عشر
الذي صدر فيه، فأقبل الكثيرون من الشرفاء والعلماء والوجهاء بزيارتنا وفي
مقدمتهم الأمير الشريف عبد الله وبعض مَن يشار إليهم بعد، وبقينا إلى يوم التروية
- وهو يوم الجمعة ثامن ذي الحجة - لا عمل لنا إلا عبادة الله تعالى، وأخصها
التطوف ببيته، وإلا لقاء الناس في الدار وفي الحرم والاستفادة من مذاكراتهم.
وقد كنت مدة إقامتي بمكة ضعيف البدن بنزف دم كان قد عرض لي، لم
يسبق لي مثله، فكنت لا أستطيع الطواف إلا في وقت الأصيل ووقت السحر،
وثقل عليَّ الحر، على أنه لم يكد يتجاوز الدرجة 35 من ميزان سنتكراد إلا قليلاً،
ولم أكن أجد راحة في جسمي إلا حيث كانت راحة روحي، وما ذاك إلا في الحرم
الشريف. ولا يوجد في بطن مكة مكان كالحرم يتخلله الهواء لسعته وكثرة الفجاج
الموصلة إليه من الجهات الأربع، ولولا أن وصفه مبين بالتفصيل - في كتب
المتقدمين والمتأخرين من المؤرخين والرحالين - لوصفته في هذه الرحلة الوجيزة.
وكنت أصلي الفجر كل يوم بجانب مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى
آله الكرام، وأصلي المغرب والعشاء في الجانب الشرقي من الحرم مع صديقنا
الشريف أبي نمي الذي يعشق فضله وأخلاقه كثير من فضلاء المصريين؛ إذ
عرفوه بإقامته في القاهرة عدة سنين، وكانت داره في مصر بجوار دارنا من شارع
درب الجماميز، واتفق أن زاويته في جدار الحرم الشريف بالقرب من باب إبراهيم
- وكذا داره - فهي بجوار المنزل الذي أُنزلنا فيه كما علم مما تقدم. وكان خدمه
يفرشون له في كل أصيل سجادة أو سجادتين تجاه زاويته، حيث يصلي مع بعض
أصحابه، وكنت أنا والسيد الزواوي منهم، وكنا نجيئه في الأصيل، ونخرج بعد
صلاة العشاء.
لم أجد قوة على رد كل مَن زارني ولم أتمكن من إحصائهم، فنويت أن أرجئ
النظر في ذلك إلى ما بعد الانتهاء من أعمال النسك، ولكنني زرت فوزي بك
البكري من سروات دمشق الشام في داره وعبد العزيز بك المصري في منزله وكلاً
من الشيخ كامل قصاب أحد علماء الشام ومحب الدين أفندي الخطيب وفؤاد أفندي
الخطيب في إدارة جريدة القبلة، وكلهم يعملون فيها، وكثر التلاقي بيني وبين
هؤلاء، والحديث معهم في الشؤون السياسية الحاضرة، ونعرف أخبار الحجاز
منهم.
ولم أدخل دار أحد من المكيين زائرًا إلا زاوية الشريف أبي نمي ودار الشيخ
محمد صالح الشيبي فاتح بيت الله الحرام (ورئيس مجلس الشيوخ في الحكومة
الجديدة كما يأتي) ، ثم لم يتيسر لي بعد الحج زيارة أحد ممن زارني، كما يعلم مما
يأتي إلا نائب الشرع الشريف الشيخ يونس أفندي، فإنني زُرته في المحكمة
الشرعية، وكنت عرفته مجاورًا في رواق الشوام بالأزهر، إذ كان يحضر دروس
الأستاذ الإمام، وزرت الشيخ عبد الملك الخطيب من أدباء مكة قبل السفر منها بيوم
واحد. وكنت أود أن أزور الشيخ عبد الله سراج قاضي القضاة ووكيل رئيس
النظار في الحكومة الجديدة، وأخلو به في داره ساعة للمذاكرة في الشئون الحجازية،
فلم أجد فرصة لذلك، وكان قد تفضَّل بزيارتي في دار الضيافة الهاشمية، وأثنى
لي على تفسير المنار، وطلب مني جميع ما طُبع منه. وقد رأيت أنه في أقرب
منزلة من ثقة الأمير، وقلما جئت قصر الإمارة إلا ورأيته معه، أو منتظرًا لقاءه.
وأما الشيخ الشيبي فهو كبير بني شيبة حَجَبَة الكعبة المعظمة، ووارثي
مفتاحها في الجاهلية والإسلام، وبيتهم من أكبر بيوت قريش بعد بيوتات الهاشميين
عامة والعلويين منهم خاصة، وهم يُنسبون إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة،
وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة الصحابي الذي فتح باب الكعبة للنبي
صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ودخلها معه كما في الصحيحين وغيرهما من كتب
السنة والسير والتاريخ. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: (أقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة،
ثم دعا عثمان بن طلحة، فقال:(ائتني بالمفتاح) ، فذهب إلى أمه، فأبت أن
تعطيه، فقال: والله لتعطينَّه، أو ليخرجنَّ هذا السيف من صلبي (يعني أنه يقتل
نفسه بطعن بطنه به، حتى ينفد من ظهره) ، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه، ففتح الباب. وظاهر هذه الرواية أن
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح الباب، وورد التصريح بذلك في رواية
عنه أيضًا، سندها ضعيف في تاريخ مكة للفاكهي قال:(أي ابن عمر) كان بنو
أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم المفتاح، ففتحها بيده. ولكن روى عنه البخاري من طريق فليح أنه
قال: وقال لعثمان: (ائتنا بالمفتاح) ، فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل.
وفي هذه الرواية أيضًا أنه كان مردفًا لأسامة على القصواء، وهي ناقته صلى الله
عليه وسلم، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم
الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد الحديث.
وقال الحافظ في الفتح: روى عبد الرزاق والطبراني من جهته من مرسل
الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوم الفتح: (ائتني بمفتاح
الكعبة) فأبطأ عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، حتى إنه ليتحدَّر منه
مثل الجمان من العرق، ويقول:(ما يحبسه؟ !) فسعى إليه رجل وجعلت المرأة
التي عندها المفتاح وهي أم عثمان واسمها سلافة بنت سعيد تقول: إن أخذه
منكم لا يعطيكموه أبدًا، فلم يزل بها، حتى أعطت المفتاح، فجاء به، ففتح، ثم
دخل البيت، ثم خرج منه، فجلس عند السقاية. فقال علي: (إِنَّا - يعني بني
هاشم - أُعطينا النبوة والسقاية والحجابة، ما قوم بأعظم نصيبًا منا) . فكره النبي
صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه. ثم قال
الحافظ: وروى ابن عائذ من مرسل عبد الرحمن بن سابط (وهو ثقة) أن النبي
صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان، فقال: (خذها خالدة مخلدة،
إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم، لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، ومن طريق
ابن جريج أن عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية،
فنزلت {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) ، فدعا
عثمان، فقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ومن
طريق علي بن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني شيبة كلوا
مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف) . اهـ.
والظاهر أن ذكر بني شيبة ههنا غلط من النُّسَّاخ، صوابه: يا بني أبي طلحة؛
فإن عثمان بن طلحة هذا هو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة كما تقدم،
وكانوا كلهم يدعون بني أبي طلحة نسبة إلى جدهم أبي طلحة عبد الله بن عبد
العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وقد ذكر الحافظ في ترجمة كل من
عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان من (تهذيب التهذيب) من عبارة
الأصل عن مصعب الزبيري أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إليهما معًا،
وقال: (خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلا ظالم) وذكر
عن ابن سعد عن هوذة بن خليفة عن عوف عن رجل من أهل المدينة: دعا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح شيبة بن عثمان، فأعطاه المفتاح، وقال:
(دونك هذا، فأنت أمين الله على بيته) وذكر الحافظ هذين الحديثين في ترجمة
شيبة من الإصابة أيضًا، ثم قال: وذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم
أعطاها يوم الفتح لعثمان، وأن عثمان ولي الحجابة إلى أن مات، فوليها شيبة،
واستمرت في ولده. اهـ. وهذا هو الصواب، وقد استمرت في ولده إلى اليوم،
وبهذا حفظ نسبهم، وعظم حسبهم، وقد نزعها منهم بعض أمراء مكة، ثم عادت
إليهم كما يؤخذ من بعض كتب التاريخ.
أقول: ولأهل هذا البيت أن يفخروا على جميع الناس بهذه الوظيفة القديمة
الثابتة من قبل الإسلام، التي أقرها الله تعالى ورسوله لهم في محكم القرآن، وبأن
إقرارها لهم كان سبب نزول الآية العظيمة التي هي قاعدة أصول الأحكام، عليها
مدار إصلاح الأنام، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) كما تقدم آنفًا.
وذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور من تخريج ابن جرير وابن المنذر عن
ابن جريج، بمعنى ما تقدم، وفيه أنه قال: وقال عمر بن الخطاب: لما خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية -فداؤه أبي وأمي -
ما سمعته يتلوها قبل ذلك. وذكر هو والحافظ ابن كثير رواية طويلة في هذا المعنى
عن ابن عباس أخرجها ابن مردويه عنه من طريق الكلبي عن أبي صالح، وفيها
أن العباس رضي الله عنه حاول أخذ المفتاح، وطلب من النبي صلى الله عليه
وسلم أن يجعل له الحجابة مع السقاية، فأنزل الله الآية في ذلك. قال الحافظ ابن
كثير - بعد ذكر هذه الرواية -: وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك،
وسواء كانت في ذلك أو لا فحكمها عام. اهـ. وذكر علماء الحديث والسير أن
عثمان بن طلحة أسلم في هدنة الحديبية هو وخالد بن الوليد وهاجرا، وأن شيبة
أسلم عام الفتح.
الشيخ محمد صالح الشيبي:
هذا، وإنني لم أَرَ فيمن رأيت رجلاً تمثل رؤيته فصلاً من تاريخ قريش في
الجاهلية والإسلام وتاريخ بيت الله الحرام إلا كبير الشيبيين الشيخ محمد صالح،
وهو رجل جليل المنظر، لطيف المعاشرة، حسن المفاكهة، له مشاركة في العلوم
الإسلامية، والآداب العربية، وحظ من المدنية العصرية، ورأيته على مشربي في
العناية بأمر الماء النقي البارد، فهو لا يشرب من ماء عين زبيدة التي يشرب منها
أهل مكة، بل يستعذب له الماء من بئر في ضواحيها - كما كان يستعذب الماء من
آبار السقيا للرسول الأعظم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ويثلج له الماء في
داره، وعنده روايا إفرنجية من نوع الترمس الأسطواني المشهور، يحمل له فيها
الماء المثلوج مع قطع من الجليد المصنوع، إذا خرج هو منها إلى سفر قريب
كعرفة أو جدة. وقد أقام في الآستانة زمنًا وهو يعرف اللغة التركية.
رخاء المعيشة بمكة:
وعلى ذكر الثلج أذكر من خبر رخاء المعيشة في مكة المكرمة أن أهل هذا
البلد الأمين يتمتعون أبدًا بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي حكاه الله
عنه في قوله: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) ،
ودعائه أن يبارك الله لهم في اللحم، عندما زار بيت إسماعيل بمكة بعد زواجه
الثاني، كما ثبت في حديث ابن عباس عند البخاري، الذي ذكرنا القسم الأول منه
في بيان حكمة السعي بين الصفا والمروة من هذه الرحلة. فاللحم في مكة كثير
رخيص، وهو جيد شديد السمن، والثمرات والخضر فيها كثيرة رخيصة أيضًا،
على أنهم يرفعون أثمان كل شيء في موسم الحج. وقد كنا في دار الضيافة
الهاشمية تُستطاب لنا ألوان اللحم والخضر في كل غداء وعشاء، ولكن كان يغلب
عليَّ وعلى الوالدة والشقيقة الإقهاء [1] ؛ فرغبتنا في الطعام كانت ضعيفة، ولولا
عنب الطائف ورمانها الجيدان لما طابت لنا المعيشة، وكان لدينا طاهٍ يحسن الطبخ
على الطريقتين المكية والتركية، ثم استحسنت الوالدة أن تتولى الطبخ لنا إحدى
الجاريتين اللتين خُصصتا للخدمة المنزلية، وأما الثلج أو الجليد فقد قيل لنا إنه كان
له معمل في مكة وقد كُسر وتعطل. ووجدنا بعض الهنود هنالك يعملون قطعًا
صغيرة من الجليد يجمدونها في قوالب من الزنك، ويبيعونها بأثمان غالية جدًّا
لمعتادي شرب الماء المثلوج كالشيخ الشيبي، فكنت أشتري منهم كل يوم؛ إذ لم
أجد ماء كيزان الفخار مقبولاً، وإن كنا في شهر الميزان، خلافًا للمثل الحجازي
القائل: إذا دخلت الشمس في الميزان يبرد الماء في الكيزان.
وقد ذكر الرحالة محمد بن جبير الأندلسي في رحلته ما وجد في مكة من
الثمرات والبقول، كما ذكر غير ذلك من خيراتها وتحفها، قال: وأما الأرزاق
والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ له المَزِيَّة على
سائر حظوظ البلاد، حتى حللنا هذه البلاد المباركة، فألفيناها تغصّ بالنعم والفواكه
كالتين والعنب والرمان والسفرجل، والخوخ والأُتْرُجّ والجوز والمقل
…
إلخ،
ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البِطِّيخ والسفرجل وكل فواكهها عجب، لكن
للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة؛ وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح
وأطيبها، يدخل به الداخل عليك، فتجد رائحته العبقة قد سبقت إليك، فيكاد يشغلك
الاستمتاع بطيب رياه، عن أكلك إياه، حتى إذا ذقته خُيِّلَ إليك أنه شبيه بسكر
مُذاب، أو بجنى النحل اللباب
…
إلخ، وأطنب في وصف جودة اللحم وسمنه
ولينه وسهولة هضمه، وهو كما قال، نحن لم ندرك كل ما أدرك من الثمرات،
فإنه جاء مكة في قلب الصيف من سنة 579، وبقي فيها إلى أواخر الشتاء.
والبطيخ الأصفر - الذي أدركناه - دون النوع الجيد منه في مصر المعروف
بالشمام.
* * *
(الإحرام بالحج وشدّ الرحال إلى عرفات)
صلينا الجمعة يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة [2] في الحرم الشريف، وفي
ليلة السبت شددنا الرحال إلى عرفات محرمين بالحج، وقد قال لي صديقنا السيد
الزواوي في صبيحة ذلك اليوم: إن سيدنا الأمير - أيده الله تعالى - قد كان
استحسن أن نخرج معه إلى عرفة، ونكون في صحبته هنالك وفي منى إلى أن
تعودوا إلى مكة، ولما ذكر لي ذلك مستشيرًا فيه ذكَّرته بوجود والدتكم معكم، وقلت
لعل الأوْلى أن يخرج في خدمتها؛ لأن ذلك آنس لها وأقر لعينها ومزيد ثواب له،
فاستحسن ذلك، وأمرني بتجهيز الرواحل والمؤنة وسائر ما يلزم وأمر بصرف
عشرين جنيهًا لنفقة عرفة خاصة، وقد عهد إلى إبراهيم (وهو وكيل الخرج
والمتولي أمر خدمتنا) باختيار جمال قوية جيدة لكم، والجمال في هذا العام قليلة جدًّا
لكثرة ما مات منها قبل الثورة لقلة العلف، ولو كان الحاج كثيرًا كالعادة لما وجد من
الجمال ما يكفيه، وقد وصلت أجرة الجمل الواحد إلى عرفة ذهابًا وإيابًا إلى
عشرين ريالاً مجيديًا، ولولا أن سيدنا الأمير - حفظه الله - أمر عسكر البيشة
بجلب الجمال من الأعراب ولو بالقوة لتعذر على بعض الحجاج أن يجدوها إلا
بأجرة فاحشة.
هذا ملخص ما قاله السيد الزواوي، فشكرت لسيدنا الأمير كرمه وفضله
ودعوت له بالتوفيق والتأييد، ثم للسيد عنايته بنا هو ونجله السيد عبد الرحمن،
وتعاهدهما إيانا بكل ما نحتاج إليه في كل يوم، بل في كل آن، وكانت هذه العناية
على أتمها عند الحل والترحال، ففي أصيل هذا اليوم - يوم التروية- جِئَ
بالرواحل إلى حوش الدار، وتولى وكيل الخرج ووالده شد الشقادف وفرشها بنظر
السيد عبد الرحمن وإرشاده، ثم ركبنا في وقت العشاء، فكانت السيدتان الوالدة
والشقيقة في أحسن الهوادج ومعهما غزلان الجارية جلست بينهما لخدمتهما،
وركبت أنا ومحمد نجيب أفندي في شقدف، وركب وكيل الخرج مع الأستاذ الشيخ
خالد في شقدف، وركب والد وكيل الخرج الجمل الذي يحمل الخيام والأثاث
والماعون والمؤنة، وركب السيد عبد الرحمن دابة فارهة، وسرنا الهُوَينا في
أسواق مكة قاصدين عرفة، بعد أن أحرمنا جميعًا، وأهللنا بالحج من منزلنا، إلا
الذي ذهب بالخيام والماعون فإنه سبقنا، وتأخر عنا السيد الزواوي الكبير، ثم
أدركنا، وبعد سرى نحو من ست ساعات، وصلنا إلى حيث ضربت خيامنا من
عرفات، وذلك بالقرب من موقف النبي صلى الله عليه وسلم حيث مسجد
الصخرات، (وسيأتي قريبًا بيان هذا الموقف) ، ولم يكن في استطاعتنا أن نتبع
سُنته صلى الله عليه وسلم في السير بأصحابه إلى عرفة.
كان مَن لم يَسُقْ الهدي من الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع، قد قلبوا حجهم إلى عمرة بأمره صلى الله عليه وسلم وبعد طواف
العمرة وسعيها قصروا شعورهم، وتمتعوا إلى يوم التروية، وكانوا نازلين في
خارج مكة، فلما خرجوا معه صلى الله عليه وسلم فيه إلى منى أهلّوا بالحج من
الأبطح - وهو ما انبطح من الأرض في أول طريق منى ما بين الجبلين إلى مقبرة
مكة (المعلى) ويسمى البطحاء والمحصب - وقد صلى النبي صلى الله عليه
وسلم الظهر والعصر يوم التروية بمنى، وبات في ليلة عرفة وإنما رحل منها بعد
طلوع الشمس، ففي ذلك عدة سنن لم تتيسر لنا. والخروج في كل وقت من يوم
الترويه مباح، وكره مالك التقدم إليها قبله، والتأخر عنه إلا إن أدركه وقت الجمعة
بمكة، فيصليها فيها كما فعلنا. وروى ابن المنذر أن عائشة لم تخرج من مكة يوم
التروية حتى دخل الليل، وذهب ثلثه. اهـ من نيل الأوطار.
صفة الطريق من مكة إلى عرفات:
خرجنا من الدار وهي غربي الحرم بقرب بابه المعروف بباب إبراهيم [3] ،
فسرنا في الشارع الكبير، مائلين يمينًا إلى جهة الجنوب الشرقي، حيث يكون
الحرم الشريف عن يسارنا، ويسمى ذلك الموقع بالسوق الصغير، ويليه من
الشارع جياد وفيه معاهدة الحكومة والمطبعة والتكية المصرية، ويليه شارع المسعى
حيث يكون السعي بين الصفا والمروة، فالقشيشية فسوق الليل الذي كان فيه ميلاد
النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، وهنالك يتحول السائر في الطريق إلى
جهة الشمال، فيمر بالغزة، وفيها قصر الإمارة عن يمينه، فالنقا فالسليمانية عن
يساره، وهذا القسم الشمالي من مكة واقع بين جبل أبي قبيس من جهة الشرق وجبل
قيعقعان وجبل الهندي من جهة الغرب، ودونهما جبل لعلع الصغير عند النقا.
ومتى جاوز الخارج من مكة عمرانها من هذا القسم - يرى عن يساره مقبرتها
المعلاة أو المعلى، وفيها قبر السيدة خديجة أم المؤمنين، وجدة آل البيت الطاهرين،
عليها وعليهم السلام، وهذه الجهة هي أعلى مكة، وتسمى الحَجُون (بفتح الحاء
المهملة) التي قال فيها الحارث بن مضاض الجرهمي:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بل نحن كنا أهلها فأبادنا
…
صروف الليالي والجدود العواثر
ويدخل فيها من ثنية كداء [4] التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكة عام الفتح وفي حجة الوداع وهي في أعلى الجبل الذي على يسار المار إلى
المقبرة، ويقال لثنية كداء الثنية العليا، وللثنية الأخرى التي دخلنا منها الثنية
السفلى، وتسمى كُدَى (بالضم والقصر) ومنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم
من مكة، وهي بقرب شعب الشاميين من ناحية جبل قيعقعان. وهناك باب الشبيكة
المشهور بعد جرول.
ووراء المعلى في طريق منى مكان يسمى البياضية مطلق الهواء، فيه قصور
لبعض الشرفاء. ومن هناك يتحول طريق منى إلى الشرق، وهو وادٍ يختلف
عرضه من مئتي ذراع بذراع الآدمي إلى ألف ذراع بالتقريب، وتختلف أسماؤه
باختلاف المواقع، وأشهرها وادي المنحنى الذي قال فيه ابن الفارض:
ما بين ضال المنحنى وظلاله
…
ضل المُتَيَّم واهتدى بضلاله
ويليه وادي السَّلَم بفتح السين واللام، ويذكر كثيرًا في أشعارهم. والضال هو
البري من شجر السدر وهو ذو شوك ونبقه صغير، والسلم الشجر الذي يسمى ورقه
القرظ، ويُدبغ به، وهما من أشجار تلك البلاد.
وأول منى العقبة التي فيها الجمرة المنسوبة إليها وسيأتي ذكرها. والمسافة
بين مكة ومنى فرسخ واحد أي ثلاثة أميال كما قالوا، ففي معجم البلدان لياقوت:
مِنًى بالكسر والتنوين في درج الوادي الذي ينزله الحاج ويرمي فيه الجمار، يسمى
بذلك لما يمنى فيه، أي يُراق من الدماء - أي دماء الأنعام للنسك - إلى أن قال:
وهي بُلَيْدة على فرسخ من مكة، طولها ميلان، تعمّر أيام الموسم، وتخلو بقية
السنة إلا ممن يحفظها، وقلّ أن يكون للإسلام بلد مذكور إلا ولأهله بمنى مضرب.
اهـ.، والمراد بالمضرب: المكان الذي تُضرب فيه خيام الحاج. وهذه الطريق
يقطعها راكبو الخيل - وكذا الحمير - في ساعة واحدة وراكبو الإبل في ساعتين،
وحدّ منى من العقبة التي فيها جمرة العقبة إلى بطن مُحَسِّر (بكسر السين المشددة)
كما سيأتي، والغالب فيه التذكير والصرف، وقد تؤنث على الأصل في أسماء
البقاع، وتمنع من الصرف.
والوادي بين منى والمزدلفة يسمى وادي المنار، وتسمى المزدلفة جمعًا أيضًا،
ويكثر هذا الاسم في الأخبار والآثار والأشعار، وهي المشعر الحرام عند الجمهور،
أو هو جبل قزح فيها، قال تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} (البقرة:
198) ، أي في المزدلفة، فهي عند الجبل. والمسافة بينها وبين منى من نهاية
حدها الشرقي نصف ساعة لركاب الخيل أو الحمير الفارهة وساعة أو ساعة وربع
لراكبي الإبل. وسميت جمعًا لجمعها الناس في ليلة النحر، والمزدلفة من الازدلاف
وهو الاقتراب، إما للتقرب إلى الله بذكره فيها، أو للازدلاف إليها من منى بعد
الإفاضة من عرفات، وقيل: إن آدم وحواء تعارفا في عرفة، واجتمعا في
المزدلفة، وسيأتي الكلام على المبيت فيها للنسك.
والمسافة بين المزدلفة وعرفات ساعة ونصف على الدواب، ويمكن قطعها
بأقل من ذلك، وثلاث ساعات للإبل. وبين المزدلفة وعرفة مضيق الأخشبين
ووادي نمرة وبطن عرنة، وقال العلماء: إن المسافة بين مكة وعرفة تسعة أميال
تقريبًا، نقله الزَّبِيدي شارح القاموس والإحياء، ولكنه ذكر - عند الكلام على نمرة
- أنها على مسافة أحد عشر ميلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الإقهاء: فقد شهوة الطعام.
(2)
سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يروون فيه إبلهم، ويحملونها الماء الكثير لعدم وجوده في عرفة.
(3)
إبراهيم الذي أُضيف إليه هذا الباب مزيّن كان هناك، ويظن بعض الناس أن المراد إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وممن اغتر بظاهر التسمية الرحالة ابن جبير، فظن ذلك.
(4)
الثنية: بوزن قضية: الطريق في العقبة أو العقبة المسلوكة وقال الراغب: الثنية من الجبل ما يحتاج في قطْعه إلى صعود وحدور، والعقبة: الطريق الوعر في الجبل وكداء: بفتح الكاف والمد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفاة الشيخ سليم البشري
شيخ الأزهر
في الضحوة الكبرى من يوم الجمعة لأربع خلون من شهر ذي الحجة الحرام
تُوفي الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر عن عمر ناهز المائة
سنة وقيل جاوزها، وكان قبل يومين من وفاته سليمًا معافى، وقد نعته إدارة
المعاهد العلمية في الأزهر إلى رؤساء الحكومة والجرائد اليومية، بما نصه:
أصيب المسلمون في مصر بفقد شيخ المسلمين وكبير علماء الدين حضرة
صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر ورئيس
المجلس الأعلى للمعاهد العلمية والدينية الإسلامية.
توفي إلى رحمة الله قبيل ظهر اليوم (الجمعة 21 سبتمبر 1917) بعد ما
لزم الفراش يومين، كان من قبلهما ينهض بأعباء المعاهد الدينية ويلقي دروسه
العالية في الأزهر بعزم فتيّ، لا تنال منه الشيخوخة، ولا يدركه هرم.
وستشيع جنازة الفقيد غدًا السبت 22 سبتمبر 1917، الساعة 11 صباحًا
من محطة كُبري الليمون مارة بشارع كامل، فشارع الموسكي إلى الجامع الأزهر،
حيث يجتمع وفود المشيعين من العلماء والطلاب وغيرهم للصلاة عليه. ثم تسير
الجنازة إلى مدافن السادات المالكية بقرافة الإمام مارة بشارع الغورية فشارع
المغربلين فشارع محمد علي ويلقي صاحب العزة حافظ إبراهيم بك على قبر الفقيد
مرثاة من نظمه. أحسن الله عزاء المسلمين في فقيدهم الجليل وتولاه برضوانه
ورحمته.
كانت وفاته في داره بالحلمية من ضواحي مصر وبدئ الاحتفال بتشييع
جنازته في الوقت الذي ذُكر في النعي، وقد وصفت ذلك جريدتا الأهرام والمقطم
بالتفصيل، قالت الأهرام:
فجيء بالجثة من الحلمية إلى كبري الليمون بقطار خاص يصحبها أنجال
الفقيد وأحفاده وآله وجمهور من العلماء والأعيان. وكان في انتظارها في محطة
كبري الليمون نفسها من الداخل جمهور عظيم من كبار العلماء والموظفين الملكيين
والعسكريين والأعيان والتجار والمحامين، يتقدمهم حضرة صاحب السعادة حسن
عبد الرازق باشا وكيل الديوان العالي السلطاني بالنيابة عن صاحب العظمة
السلطانية، والكولونِل ر. ف. هربرت بالنيابة عن القومسير العالي البريطاني،
وحضرة صاحب المعالي إبراهيم فتحي باشا وزير الأوقاف العمومية بالنيابة عن
رئيس الوزراء والميجر هـ. م. جريفس أحد أركان الحرب في الجيش البريطاني
بالنيابة عن القائد العام، فاللواء السيد علي باشا مساعد الأدجونانت الجنرال بالنيابة
عن وزير الحربية، فالقائم مقام إدواردس بك بالنيابة عن سردار الجيش، فحضرة
صاحب المعالي محمود شكري باشا رئيس الديوان العالي السلطاني، فحضرة
صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية.
(ثم ذكرت وكلات الوزارات بأسمائهم وكبار الموظفين الوجهاء بالإجمال
وخيَّالة البوليس، فجمهور الطلاب الأزهريين وطلبة مدرسة القضاء الشرعي
ومدرسة ماهر باشا) .
ثم وصفت الجريدة السير بالجنازة إلى الأزهر والصلاة عليها فيه وتأبين الفقيد
كما بلغت، ومنه أن المؤذنين كانوا يرتلون في المآذن التي مرت فيها الجنازة -
وكذا في صحن الأزهر - آيات الأبرار، أي الآيات التي وردت في وصفهم من
سورة الإنسان، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا
كَافُوراً} (الإِنسان: 5)
…
إلخ.
وأقول: إن هذا من البدع الخاصة بكبار رجال العلم الديني، ومَن يُنزلونه
منزلتهم؛ ولذلك يظن الكثير من غير المسلمين ومن المسلمين الجاهلين الذين لا
يعرفون السنن والبدع أنه من شعائر الدين. وللمؤذنين في قراءة هذه الآيات طريقة
رديئة، لو لم تكن قراءتها والاجتماع لها في المآذن والمساجد بدعًا لكانت هذه
الطريقة في التلاوة كافية في وجوب الإنكار عليهم ووجوب منعهم من ذلك على
القادر؛ ذلك أنهم يقطعون الآيات قطعًا، يقرأ بعضهم كَلِمًا منها، يسكت في غير
مواضع الوقف منها، فيتم بعض آخر ما بدأ كما يفعل الممثلون للقصص في
الملاهي، فيفصلون بين الصفة والموصوف، والعامل والمعمول، يقول بعضهم:
{إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: 5)، فيقول آخرون: {كَانَ
مِزَاجُهَا كَافُوراً} (الإِنسان: 5)، ثم يقول بعضهم:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإِنسان: 6)، فيقول آخرون:{يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} (الإِنسان: 6) ،
وهكذا يفرقون في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (الإِنسان: 7) بين (يومًا) وما وصف به، ولو تدبروا الآية لخافوا أن يعذبهم
الله تعالى في ذلك اليوم على هذا التمزيق في قراءة كتابه. ومن غريب الاتفاق أننا
اقترحنا في جزء المنار الماضي على شيخ الأزهر أن يسعى لإبطال البدع من
المساجد، ولم يكد نوزع الجزء إلا وقد قضى الشيخ نحبه، فعسى أن يقوم بذلك
خلفه.
ثم قالت الأهرام: وكان الناس من وطنيين وأجانب وقوفًا بالعشرات والمئات
على جانبي الطريق، يحيون الفقيد في مشهده، ويترحَّمون عليه. ثم ذكرت
وصول الجنازة إلى الجامع الأزهر في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر والصلاة
عليه وقراءة الشيخ محمد الحملاوي قصيدة من نظمه في رثاء الفقيد. وتلاه الشيخ
محمد أبو العيون بتأبين منثور، أشير إليه بأن يختصره لأجل التعجيل بالدفن
المطلوب شرعًا، ففعل.
ثم حملت الجنازة من الأزهر، والمؤذنون يكررون الآيات التي تقدم الكلام
عليها إلى مقابر المالكية من قرافة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبعد مواراتها
التراب أنشد محمد حافظ بك إبراهيم مرثيته، وتلاه الشيخ محمد فراج المنياوي
بتأبين نثري، أساء فيه الإطراء، فجعل فيه الفقيد من الخلفاء الراشدين، بل فضَّله
عليهم في التعبير. ثم عزى جمهور المشيعين أبناء الفقيد، وانصرفوا.
***
(مرثية محمد حافظ بك إبراهيم)
أيدري المسلمون بمن أُصيبوا
…
وقد واروا سليمًا في التراب
هوى ركن الحديث فأي خطب
…
لطلاب الحقيقة والصواب
موطأ مالك عزى البخاري
…
ودع لله تعزية الكتاب
فما في الناطقين فم يوفي
…
عزاء الدين في هذا المصاب
قضى الشيخ المحدث وهو يملي
…
على طلابه فصل الخطاب
ولم تنقص له التسعون عزمًا
…
ولا صدته عن درك الطلاب
وما غالت قريحته الليالي
…
ولا خانته ذاكرة الشباب
أشيخ المسلمين نأيت عنا
…
عظيم الأجر موفور الثواب
لقد سبقت لك الحسنى فطوبى
…
لموقف شيخنا يوم الحساب
إذا ألقى السؤال عليك ملقٍ
…
تصدى عنك برك للجواب
ونادى العدل والإحسان أَنَّا
…
نزكي ما يقول ولا نحابي
قفوا يا أيها العلماء وابكوا
…
ورووا لحده قبل الحساب
فهذا يومنا ولنحن أولى
…
ببذل الدمع من ذات الخضاب
عليك تحية الإسلام وقفًا
…
وأهليه إلى يوم المآب
***
التعازي:
ونشرت جريدتا الأهرام والمقطم تعزية برقية من نائب الملك لمدير المعاهد
الدينية، وأخرى للشيخ طه البشري أكبر أبناء الفقيد، صرح فيهما بأن نعي الفقيد
قد شق عليه كثيرًا، ودعا له بالرحمة والرضوان، وبرقيتان أُخريان بمعناهما من
كبير الوزراء، صرح فيهما بأنه أسف جدًا لعدم إمكان تشييعه الجنازة بشخصه.
وقد تألف وفد من أنجال الفقيد ومراقب الأزهر رأسه المدير العام للمعاهد
الدينية الشيخ عبد الرحمن قراعة لأداء الشكر لرؤساء الحكومة وكبراء البريطانيين
الذين اشتركوا في تشييع الجنازة بالذات، أو بإنابة الوكلاء عنهم والمعزين، فبدءوا
بقصر عابدين، وسجلوا أسماءهم في (دفتر التشريفات) ، ثم نائب وزير الحربية،
وإدواردس بك لشكر السردار، ثم الجنرال كليتون لشكر القائد العام للقوات
البريطانية بمصر على إرساله مندوبًا لتشييع الجنازة، ثم وكيل الأوقاف لشكره
وشكر الوزير، وأرسلوا برقيات شكر إلى نائب الملك ورئيس الوزراء وقومندان
المحروسة ومحافظ العاصمة وحكمدارها.
***
(ترجمة الفقيد)
نشرت جريدة الأهرام ترجمة وجيزة للفقيد، قيل إنها مستمدة من أهل بيته
ملخصها:
أنه (وُلِدَ حوالي سنة 1243 أو 1244 في محلة بشر بمركز شبراخيت،
ولما شبَّ حضر إلى مصر لتلقي العلم، وأقام تحت رعاية شيخه الشيخ بسيوني
البشري من شيوخ المسجد الزينبي، وأنه تعب في طلب العلم تعبًا شديدًا، ولقي من
الدهر مقاومات عظيمة، وأنه كان يتعبد في المسجد الزينبي ليلاً، ويذهب إلى
الأزهر نهارًا لتلقي الدروس، وأن خاله عُين أمينًا لكساوي المحمل في أول ولاية
سعيد باشا، فخرج معه إلى الحجاز حاجًّا، وبعد أن أدى فريضة الحج عاد إلى
مصر، وبقي يشتغل بالتدريس حتى سنة 1273 تقريبًا) .
وإن أول عهده بالوظائف أن (عُين إمامًا لمسجد إينال بمرتب 90 فضة في
الشهر) ، وفي سنة 1291 مات الشيخ علي العدوي فنِيط به التدريس في المسجد
الزينبي بدلاً منه بمرتب مئة قرش في الشهر، وعين وكيلاً عن شيخ المسجد
الزينبي لحداثة سنه، وهو الشيخ أحمد الصفتي الشيخ الحالي، وبقي كذلك إلى آخر
ولاية إسماعيل باشا، ثم عين إمامًا وخطيبًا لمسجد زين العابدين، ثم شيخًا للمالكية
بعد وفاة الشيخ عليش، ثم شيخًا للأزهر لأول مرة في سنة 1901، وكانت مدتها
أربع سنين. وذكر من حبه للعلم وإيثاره له أن تلميذه قدري باشا عرض عليه
وظيفة بثلاثين جنيهًا، فأبى مفضلاً الانقطاع إلى تعليم العلم. ولم يذكر تلك الوظيفة،
فالظاهر أنه لم يكن يمكن الجمع بينها وبين التعليم.
وذكر مسألتين من خلائقه: إحداهما أنه كان اختار الشيخ أحمد المنصوري
شيخًا لرواق الصعايدة، فأبى قاضي مصر إقامته ناظرًا على أوقاف الرواق، فأصر
صاحب الترجمة على تعيينه دون غيره (ورأى في العدول إهدارًا لرأيه، وبالغ في
التشبث برأيه حتى فضَّل ترك المشيخة على التجاوز عن حقه المفروض بحكم
القانون) ، والثانية أنه لما جدد المسجد الزينبي رأى رئيس مهندسي الأوقاف أن
ينقل القبر المنسوب إلى السيدة زينب بما فيه، فعارضه الشيخ، وأعلمه أن ذلك
مخالف للشرع من وجوه عديدة، وانتهى الخبر إلى الخديو محمد توفيق باشا، فأمر
بإبقاء القبر في مكانه، وترضَّى الشيخ، فتم له ما أراد، ولما كانت نشأة الشيخ
الدينية قد كانت في جوار ذلك الضريح وصار قيِّمًا له عدة سنين ظل محافظًا على
تكريمه طول عمره، ولا ندري أكان يعتقد أن السيدة زينب مدفونة في هذا المكان
كما يظن عامة المصريين أم كان يرى أن نسبة القبر إليها كدفنها فيه؟
وفي هذه الترجمة أغلاط وقصور. وقد علمنا من عالم من أكبر تلاميذ الفقيد
وأعلمهم بترجمته أنه سمع منه أنه وُلد في سنة 1237، وأنه جاء مصر في سنة
1245 أو 1247، وأقام عند خاله الشيخ بسيوني شلتوت المؤذن في مسجد السيدة
زينب. ثم قضت الحال أن أرسله الخال إلى الأزهر.
وقد رأينا في جريدة وادي النيل التي تصدر في الإسكندرية - وهي أرقى
جريدة للمسلمين في هذا القطر - نعيًا للفقيد، وشيئًا من حاله، يبلغ زهاء نصف
عمود، بدأه بقوله: (نعت العاصمة الأستاذ الشيخ سليمًا البشري شيخ الجامع
الأزهر عن عمر طويل، قضى شطره الأكبر في خدمة العلم، وقضى أواخره في
ولاية المشيخة الأزهرية غير مرة. وكان رحمه الله في ولاية المشيخة ذا أنصار
يحفون من حوله، وخصوم كثيرين يأخذونه بأمور ليس من المناسب ذكرها
…
) ،
ثم ذكر أن علماء الأزهر متفقون على أنه أعلمهم بالحديث وأن طريقته في قراءته
أنه كان يقرأ الحديث أولاً على سبيل التبرك، ثم يقرؤه أحد الطلبة بصوت جهوري،
ثم يشرحه الشيخ بما شاء الله من علمه.
أقول: وهذه المزيَّة له مشهورة سمعتها من كثيرين، وعليها بنى حافظ مرثيته،
وهي أعظم مزية تُذكر له في هذا العصر، الذي أهمل الأزهريون فيه العناية بعلم
السنة روايةً ودرايةً؛ حتى صار طلبة العلوم الدينية في ديوبند وغيرها من بلاد
الهند يفضلون أكبر شيوخ الأزهر في علوم الحديث. وإنما كان الشيخ سليم البشري
على حظ من علم الحديث؛ لأنه طلب العلم قبل هذا الجيل بجيلين، وكانت كتب
السنة لا تزال تدرس في الأزهر.
وقد أدركنا من أقران الشيخ في الطلب شيخ شيوخنا الشيخ محمود نشابه
فألفيناه منفردًا بعلوم الحديث، وقد كنت أقرأ عليه صحيح مسلم، فيصحح لي أسماء
الرواة وغريب الحديث، ويجيبني عن كل ما أسأله عنه من المشكلات على البداهة
من غير مراجعة شرح ولا كتاب آخر، فإذا رجعت إلى تلك الكتب رأيت ما قاله
هو الصواب. ولكن صاحب الترجمة لم يعمل شيئًا لإحياء ما اندرس من علوم
الحديث في الأزهر في أيام رياسته ومشيخته.
وعندنا أن أعظم ما يُذكر في تاريخ مشيخته للأزهر قبوله للقانون الذي
وضعته الحكومة له ولمعاهد التعليم الديني التابعة له وتنفيذه إياه، وقد بيَّنَّا رأينا فيه
في المجلد الرابع عشر من المنار، ولا مجال لبيان ذلك، ولا لما كان بين المترجم
وبين الأستاذ الإمام من الوفاق والخلاف في إدارة الأزهر، وإنما أقول: إن المترجم
كان حريصًا على نيل رضاء السلطة العليا في كل وقت، وقد فصَّلنا ذلك بعض
التفصيل في تاريخ الأستاذ الإمام.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شيخ الأزهر الجديد
لما تُوُفِّيَ الشيخ البشري كثر القيل والقال في الأزهر في ترشيح خلف له،
وسرى ذلك إلى سائر معاهد العلم الديني للأزهر وإلى غيرها، واشتهر أن
الأزهريين رشحوا أربعة أشياخ: كل منهم له حزب رَشَّحَه، وسعى له سعيه، وقد
كتب بعضهم مقالات إلى الجرائد يطعن فيها ببعض، منها ما نُشر، ومنها ما لم
يُنشر، واتسع الوقت للخوض في ذلك بأن البشري توفي قُبيل عطلة عيد الأضحى،
ولم يتعين الخلف له إلا بعد انتهائها، فقد صدرت الإرادة بتعيين الشيخ محمد أبي
الفضل الجيزاوي شيخ معهد الإسكندرية شيخًا للأزهر ورئيسًا لمجلس المعاهد
الدينية الأعلى في يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من شهر ذي الحجة الحرام، وهو
أكبر علماء المالكية بعد البشري سنًا، ومن أشهر علماء الأزهر في العلم والمحافظة
على آداب الشيوخ وشمائلهم، ويقال إنه في العقد الثامن من العمر، وقد سبق له
الاشتغال بإدارة الأزهر؛ إذ كان أحد أعضاء مجلس إدارته في مشيخة الشيخ
حسونة النواوي، ثم عين وكيلاً للأزهر، وبعد قليل من الزمن عيّن شيخًا لمعاهد
الإسكندرية.
فنهنئه بأكبر منصب يرتقي إليه شيوخ العلم الديني بمصر، ونسأل الله تعالى
أن يوفقه، ويسدده فيه، ويجعل لإحياء علم السنة، ومقاومة البدع أفضل حظ من
عنايته.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عبر التاريخ
ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد
قالت جريدة (المقطم) في فاتحة مقالة طويلة نُشرت في صدر العدد الذي
صدر في 19 جمادى الأولى سنة 1335 - 13 مارس سنة 1917:
قُضي الأمر في العراق، وسقطت بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين، ومباءة
مجدهم، وعُنوان فخرهم، واستولى البريطانيون على منبت أثلة المنصور
والمهدي وهارون الرشيد والمأمون، وموئل العلماء والشعراء والأدباء في عصر
الشرق الذهبي الحديث، أي ذكرى تهيج في خاطر العربي إذا ذكر اسم بغداد
والزوراء ودار السلام؟ بل أي مجد يتحلى لعينيه عند سماع اسمها من دولة
عظيمة الأركان، متينة البنيان، قامت على العدل والنظام والعلم والأمان، وشعب
ناهض ناشط لطلب العلم وإتقان الصناعة وترويج التجارة، وتوسيع نطاق الزراعة
وبسط السيادة، وإضاءة مصباح العلم لتمزيق دياجير الظلام، بغداد دار العلم
والمجد، وبغداد مقر العظمة والثروة وبغداد عاصمة العرب وقاعدة الشرق.
هذا إرث مجيد ظل بيد الشرقيين اثني عشر قرنًا شاهدًا ناطقًا بعظمة أسلافهم
يناوح خرائب بابل وآثار نينوى، حتى صار أمره إلى الاتحاديين، فضاع منهم،
كما ضاع سواه، وصارت بغداد في يد مَن يعرف قيمتها، ويقدرها حق قدرها.
هذا ميراث العرب الكرام أخذه الاتحاديون، كما يأخذ الصبي الكرة، وقذفوا
به، كما يقذف بها، فأفلت من يدهم، وهم يسيرون الجيوش إلى بلدان أوربة
فاتحين، وثغور تركيا وكبار مدنها تسقط الواحدة بعد الأخرى، هذه سُنَّة الله في
خلقه، وقد سخر الاتحاديين لإنفاذ مشيئته وإنزال قضائه ".
ثم قال في فاتحة العدد الذي صدر في 22 جُمادى الأولى بعد كلام، علل فيه
تسمية الجرائد الإنكليزية بغداد مدينة الشعر والخيال بأنهم أخذوا ذلك من كتاب ألف
ليلة وليلة، الذي هو أشهر كتاب عند الإنكليز بعد التوراة والإنجيل:
أما العرب فينظرون إلى بغداد من وجهة أخرى، وإن لم يغفلوا وجهة
الشعر والخيال، فالعرب في مقدمة الأمم التي تجلّ الشعر والشعراء، ولكن العرب
يرون في بغداد القديمة عنوان مجد جنسهم، ورمزًا إلى أكبر شأو بلغته حضارتهم،
ويذكرون أن عصرها الأول كان عصرهم الذهبي؛ إذ منها انبلج صُبح العلم في
العصور الحديثة، فأضاء الشرق والغرب.
إن العرب يرون في بغداد الأولى مقر العلم والحكمة، وخزانة معارف الشرق،
ومدرسته التي نبغ فيها العلماء والأطباء والفلاسفة والفلكيون والكيماويون
والشعراء والكُتاب واللغويون والمهندسون برعاية العباسيين، وعناية أفاضل
خلفائهم، ولا سيما المأمون الذي كان عضد العلم وسند العلماء.
قال السر هنري رولنصن المؤرخ الشهير كلامه عن بغداد ما نصه: وقد
نافست بغداد قرطبة في الآداب والعلم والصناعة والفنون، فكان لهاتين المدينتين
سيادة العالم من هذا القبيل. أما في التجارة والثروة فإن قرطبة لم تبلغ شأو بغداد.
وكانت بغداد عاصمة الإسلام الدينية والعاصمة السياسية لمعظم بلدانه، لما كان
الإسلام ركن حضارة الدنيا.
هذه هي بغداد كما يراها العرب الذين يعرفون تاريخ قومهم، ويحفظون ذكر
عظمة جنسهم، ويتحسرون على أيام الرشيد والمأمون، ويتمنون لو أتيح للعرب أن
ينهضوا مثل نهضتهم في ذلك العصر السعيد، ويتعاونوا على رفع شأنهم بإتقان
العلم وتنشيط الصناعة والتفاني في تأييد المجموع.
كانت بغداد لسلطنة العرب كلندن اليوم لسلطنة البريطانيين، فكانت مركز
قوتهم، ومجمع علمهم، وركن صناعتهم، وسوق تجارتهم، ومجلس حكومتهم،
وكان خلفاؤها ينظرون في الجهات الأربع ويعلمون أن الرياح كيفما هبت فإنها تهب
عليهم من ولاياتهم وممالكهم، حتى لقد قال الرشيد - يخاطب السحابة -: (أمطري
حيث شئت فإن خيركِ يأتيني) .
إن بغداد صارت الآن للعرب مدينة الشعر والخيال؛ إذ لا سبيل إلا بهما إلى
تمثُّل عظمتها الماضية، أما في عصر العرب الذهبي فقد كانت بغداد جامعة لأبهة
الملك وشرف العلم ومجد الصناعة وعظمة التجارة وإتقان الفنون وبراعة النظام،
فكان الخيال والشعر فيها تفكهة يلطفان من أخلاق أهلها، وهم في طلب العلى
جادون، وإلى التقدم والارتقاء والنجاح ناشطون، وفي ذلك يقول أحد شعرائهم:
بغداد أيتها الجياد فإنها
…
أنجى وأقرب للشؤون وأنجح
ولله در ذلك المستشرق القائل [1] :
في بلاد سكانها من صميم العرب الذين عُرفوا بالعزة والأَنَفَة والشمم، ودانت
لهم الأقطار، ففتحوا الممالك، ودوخوا الأمصار في غابر الأعصار، وأنشؤوا لهم
في التاريخ مجدًا خالدًا، وذكرًا باقيًا، فذاع فضلهم، وطارت شهرتهم، وتناقلت
الركبان أخبارهم، هناك جنة عدن، وهناك جنات النعيم، كانت رافلة في حُلل
الهناء والرخاء أيام كانت إنكلترة وألمانية فيافي وقِفَارًا، وكان أهلهما غارقين في
بحار الجهل، يتخبطون في دياجي الظلام، بلادكم - أيها العرب - هي التي
أزهرت فيها الحضارة، وأينعت الفنون، وأثمر الأدب، وعمرت دور العلم
والفلسفة، وهي البلاد التي انبعث منها نور الدين، وألبَست العالم ثوب الرفاهية
والسعادة.
ترى هل يكون للعرب نصيب من يقظة العالم بعد الحرب، ويد في نهضته
القادمة، فيحل الجد محل الخيال، وتطلق العقول والقلوب مما أصابها من الفتور،
وتنزل هذه الأمة المنزلة التي تجدر بها في مجالس الشعوب؟ ، أو تظل تعود
ببصرها القهقرى إلى عصور مضت، وأيام انقضت، تتغذى بالذكرى، وتصعد
الأنفاس الحرّى. اهـ.
_________
(1)
أي في مقالة نُشرت مترجمة في (المقطم) بتاريخ 27 سبتمبر سنة 1916.
الكاتب: محمد رشيد رضا
حجم المنار
اضطرنا انقطاع ورود الورق وغلاؤه المضاعف الفاحش إلى تصغير حجمه
رجاء الزيادة في أجزائه، وهو ضرورة تقدر بقدرها، وعسى أن لا يطول أجلها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
حكم تارك الصلاة
(س8) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا المحترم؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأرجوكم تعريفنا على صفحات المنار الأغر عن حكم تارك الصلاة
بغير عذر في نظر الشرع، وهل الأحاديث التي وردت بخصوص ترك الصلاة
تؤخذ على ظاهرها، أو فيها ما يحتمل التأويل كما يقال؟ أما ما أعلم من
الأحاديث الواردة في تارك الصلاة أو المتخلف عنها، فهو الموضح بعدُ، فإن كان
هناك أخرى أرجو التفصيل بإيضاحها في الإجابة. قال صلى الله عليه وسلم:
1-
(بين العبد والكفر - وفي رواية الشرك - ترك الصلاة، فإذا تركها فقد
أشرك. وحوضي كما بين أيلة إلى مكة أباريقه كعدد نجوم السماء له ميزابان من
الجنة كلما نضب أمداه، مَن شرب منه شربة، لم يظمأ بعدها أبدًا، وسيرده أقوام
ذابلة شفاههم، فلا يطعمون منه قطرة واحدة، مَن كذب به اليوم لم يصب منه
الشراب يومئذٍ) .
2-
(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمَن تركها فقد كفر) (يريد طبعًا العهد
الذي بيننا وبين الكفار) .
3-
(مَن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) .
4-
(الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) .
5-
(والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة،
فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم
بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين
لشهد العشاء) .
فأرجو بعد النظر في هذه الأحاديث التكرم بتفهيمنا درجة صحتها، وعما إذا
كان في ظاهرها شيء يحتمل التأويل، خصوصًا في لفظة الكفر أو الشرك.
هذا، والسبب الذي ألجأني إلى عرض سؤالي هذا على فضيلتكم هو ذلك
التهاون الغريب في أمر الصلاة بين مَن يسمون أنفسهم مسلمين الآن، وظنهم أن
تاركها لا يخرج عن كونه عاصيًا بسيطًا مثل باقي العصاة، مفتوحة له أبواب
التوبة في أي وقت شاء فيه الصلاة، وذلك بالرغم مما ورد في أمرها في القرآن
الكريم والأحاديث الشريفة من التشديد والوعيد؛ لذلك أرجو أن تكون الإجابة مفصلة
الشرح، لعلها تكون فصل الخطاب فيما عليه شبابنا المسلمون المتفرنجون من
الحيرة في حكم تارك الصلاة بغير عذر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
…
...
…
...
…
...
…
... الداعي علي مهيب
…
...
…
...
…
...
…
... بتفتيش عموم التلغرافات
(ج) يجد السائل في المجلد الثامن عشر من المنار ما يغنيه عن تفصيل
القول في هذه المسألة، وهو رسالة للشيخ محمد أبي زيد من طلبة دار الدعوة
والإرشاد، اسمها (البرهان على خروج الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان) ،
نُشرت في ص 505، 562، 586 وما بعدها، أورد فيها كثيرًا من الآيات التي
استدل به على كفر مَن ذكر، وبعض الأحاديث المؤيدة لدلالتها على ذلك، وذكرنا
فيما علقناه في حواشيها وما ذيلناها خلاف العلماء في المسألة والجمع بين الأقوال.
وإن أدري أيريد السائل الآن أن أتوسع في شرح المسألة، واستيفاء ما ورد فيها
من النصوص لزيادة الإيضاح، وتكرار تذكير التاركين لهذه الفريضة التي هي عماد
الإسلام؟ أم لم يقرأ تلك الرسالة، وما علقناه عليها؟ وقد يستدل بما أورده من
الأحاديث - وسؤاله عن غيرها - أنه لم يقرأ الرسالة، على أنه من أشد قراء
المنار عناية بهذه المسائل كما نظن، فنحثّه أولاً على مراجعتها وقراءتها، ونرشده
إلى كتابين جليلين في المسألة أحدهما (كتاب الصلاة) لإمام السنة أحمد بن حنبل
رضي الله عنه، و (كتاب الصلاة وأحكام تاركها) لناصر السنة ابن القيم رحمه
الله تعالى، والكتابان مطبوعان معًا. فإذا أشكل عليه - بعد الاطلاع على ما ذُكر -
أمر فليسأل عنه.
وأما الحديث الأول مما أورده في السؤال فصدره الخاص بالصلاة في صحيح
مسلم وأكثر كتب السنن، والثاني رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي
والنسائي والثالث والرابع والخامس في الصحيحين وغيرهما إلا الثالث، فقد رواه
البخاري دون مسلم، ومما قيل في الخامس إنه في تهديد جماعة من المنافقين، وإنه
في صلاة الجمعة خاصة أو الجماعة مطلقًا، فالأحاديث التي أوردها في الموضوع
كلها صحيحة. وقد ورد في معناها أحاديث أخرى.
وإنني أذكر كلمة وجيزة في المسألة تفيد السائل فضل فائدة في المسألة، وإن
كان يمكنه مراجعة المجلد الثامن عشر من المنار والاكتفاء بما فيه؛ لأنه من قدماء
المشتركين الذين يحفظون المنار، وقد تكون ضرورية للذين اشتركوا في المجلد
التاسع عشر والمجلد العشرين ومَن يتعذر عليه مراجعة ما أحلنا السائل على
مراجعته.
إن الكفر والظلم والفسق وما اشتق منها قد استعملت في لغة الكتاب والسنة
استعمالاً أعم وأوسع من الاستعمال الاصطلاحي الذي جرى عليه المتكلمون والفقهاء
فهؤلاء قد جعلوا الكفر مقابلاً للإيمان والإسلام، فالمسلم الصحيح الإيمان قد يكون
عندهم فاسقًا وظالمًا، ويطلق عليه هذان اللقبان، ولكن لا يطلق عليه لقب كافر،
وفي لغة الكتاب والسنة تطلق هذه الألفاظ على ما يقابل الإيمان والإسلام، وعلى
بعض كبائر المعاصي التي اختلف أئمة الفقهاء والمتكلمين في كفر مرتكبها بمعنى
خروجه من ملة الإسلام كالصلاة، وكذا على ما أجمعوا على أنه غير كفر بهذا
المعنى كالنياحة من الميت، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
(اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) ، وأهل
الأثر يتبعون النصوص في ذلك ويقولون بكفر كل من أسند إليه الكفر أو وصف به
في الكتاب والسنة، وما كل كفر عندهم خروج من الملة، بل هنالك كفر دون كفر،
وهم ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين. وأهل المذاهب يتبعون مذاهبهم في كل
مسألة، فيفرقون بين النصوص يؤلون بعضها، ويأخذون ببعض اتباعًا؛ لمَن قلدوهم
لا للنصوص.
والتحقيق الجامع بين النصوص أن مَن كان مؤمنًا صحيح الإيمان مسلمًا
صادق الإسلام لا يُخرجه عن ملة الإسلام تركه لصلاة كسلاً أو ارتكابه لكبيرة من
المنهيات بجهالة يتوب منها، ولكن الإيمان الصحيح هو إيمان الإذعان والخضوع
الفعلي لأوامر الله ونواهيه، الذي به يكون المؤمن مسلمًا. وقد يكون المرء مؤمنًا
غير مذعن كإبليس، ومَن قال الله تعالى فيهم من أئمة الكفر: {وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} (النمل: 14)، ومَن قال فيهم: {فَإِنَّهُمْ لَا
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) ، وغير هؤلاء.
وهل يعقل أحد ينصف من نفسه أن يكون من أولئك المؤمنين المذعنين مَن
يترك عماد الدين وأعظم أركان الإسلام بغير مبالاة، ويصر على ذلك غير مكترث
للآيات والأحاديث الكثيرة في الأمر بها والترغيب فيها، والبيان لفوائدها ومكانتها
العليا من الدين والترهيب والزجر عن تركها والوعيد الشديد عليه، وتسميته كفرًا
في أحاديث صحيحة، ظاهرها أن المراد به كفر الاعتقاد، لا كفر النعمة أو كفر
العمل، كما قيل.
وممن قال بكفر تارك الصلاة من أئمة السلف إمام الأئمة علي كرم الله وجهه،
وقد أوَّل الجمهور الأحاديث الواردة في ذلك بما أشرنا إلى بعضه آنفًا. وحملها
بعضهم على الاستحلال ولا خلاف في كفر من استحل حرامًا مجمعًا على تحريمه
معلومًا من الدين بالضرورة كترك الصلاة والزكاة من الفرائض وكفعل الزنا وشرب
الخمر من المحظورات.
واستحلال الشيء هو عدُّه حلالاً كما قال ابن منظور في لسان العرب. فإذا
كان المراد به الاستحلال بالفعل وهو أن يكون المحرم عند مرتكبه كالحلال في عدم
تحرجه من فعله ولا احترامه لأمر الله ونهيه، حتى كأنه لم يفعل شيئًا - فهذا هو
الذي لا يعقل أن يصدر من مؤمن. وإن كان المراد اعتقاد أن الشرع أحله فهذا
مُحال على نشء بين المسلمين. ولا أعرف لإمكان الجمع بين الإيمان بما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم وبين ترك فريضة منه أو ارتكاب محرم إلا صورة
واحدة، وهي الغرور بالأماني كالمغفرة والشفاعة وجعل الفاسق ذلك كالمقطوع به،
وقد كشفنا الشبهة عن وجه هذا الغرور مرارًا في التفسير، والله أعلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة الحجاز
(5)
عرفات وحدودها:
كل من عرفة وعرفات (بفتح العين والراء فيها) اسم لتلك البقعة الشريفة من
الأرض، التي هي أشهر البقاع عند ألوف الألوف من البشر. وعرفات اسم مفرد
يُنَوَّن كأذرعات وليس جمعًا لعرفة، وجُوِّز أن يكون أشير بصيغة الجمع إلى كون
كل مكان أو قسم من تلك البقعة يتحقق فيه معنى التعارف أو التعرف الذي عُللت به
التسمية كما يأتي قريبًا. ويحتمل أن يكون بعض قدماء العرب مد فتحة الفاء
وأشبعها في الشعر، ثم كثر فصار اسما مستقلاًّ، ونظيره قول الشاعر في عُرَنَة
(بضم العين وفتح الراء والنون) :
أبكاك دون الشعب من عرفات
…
بمدفع آيات إلى عرنات
وقول عمر بن أبي الكنات الحكمي المغني:
عفت الدار بالهضاب اللواتي
…
بين توز فملتقى عرنات
وظاهر عبارة لسان العرب أنهما موضعان، قال: وعرونة وعرنة موضعان،
وعرنات موضع دون عرفات إلى أنصاب الحرم، قال لبيد:
والفيل يوم عرنات كعكعا
…
إذ أزمع العجم به ما أزمعا اهـ
وأقول: ليس دون عرفة موضع يسمى عرنات غير بطن عرنة الذي يذكره
جميع العلماء. وأخطأ مَن قال: إن عرفة مولَّد ليس بعربي صحيح. ومَن قال:
إنه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة، وإنما يقال: إنه يوم عرفة بمعنى أنه يوم
الوقوف بها، كما يقال: يوم التروية، وليس كيوم عاشوراء. وقد ورد اسم عرفة
في الأحاديث الصحيحة علمًا للبقعة وكذا في كلام الصحابة، وسيأتي شيء منها،
وعليه جرى العلماء والفقهاء، فكلهم يطلقون اسم عرفة على تلك البقعة الشريفة،
فلا يغترنَّ أحد بعبارة القاموس المُوهِمة، ولا بقول مَن توهم ذلك من المتأخرين،
وزعم أنه مقتضى كلام الراغب، وإنما قال الراغب: (ويوم عرفة يوم الوقوف
بها) ، أي بالبقعة المخصوصة التي اسمها عرفة وعرفات. قيل إنها سميت بذلك؛
لأن آدم وحواء تعارفا بها بعد هبوطهما من الجنة، وقيل لقول جبريل لإبراهيم
عليهما السلام، لما علمه المناسك، وأراه المشاهد: أعرفت أعرفت؟ قال:
عرفت عرفت. وقيل: لأنها مقدسة معظمة، كأنها عرّفت، أي طيبت بالعطر.
وقيل: لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل: لتعرُّف العباد فيها إلى الله تعالى بالعبادة
والدعاء. والقولان الأولان يتوقفان على نقل صحيح، والأخيران أظهرُ معنىً،
ويعدون تعارف الناس هنالك من حِكَم الحج التي شُرع لأجلها، والواقع أن التعارف
بين الحجاج لا يتيسر في عرفة، كما يتيسر في منى؛ لأن وقت عرفة قصير،
فإن المجمع عليه منه يمتد من وقت الظهر إلى وقت المغرب، ولا يجزئ الوقوف
قبل الزوال عند أحد من العلماء إلا ما رُوي عن الإمام أحمد من أن وقت عرفة من
فجر يومها. ويجوز الوقوف في ليلة العاشر عند غير الشافعية، فأنَّى يتيسر
التعارف بين أفراد ذلك الجمع الكبير في ذلك الوقت القصير، مع ما يشرع فيه من
ذكر الله تعالى ودعائه، المقصود في هذه المعاهد لذاته. وستأتي للبحث تتمة.
وحدود عرفة معروفة للناس بما يتناقلوه بالتواتر عن المواضع التي يحصل
الفرض بالوقوف فيها. وذكر العلماء المتقدمون لها حدودًا، منها قول بعضهم: الحد
الأول ينتهي إلى جادة الطريق المشرق، والثاني ينتهي إلى حافات الجبل الذي
وراء أرضها، والثالث ينتهي إلى الحوائط (أي البساتين) ، التي تلي قرية عرنة،
وهذه القرية على يسار مستقبل القبلة في عرفة، والرابع إلى وادي عرنة بضم
العين وفتح الراء والنون، وعرنة ونمرة (بفتح فكسر) ليستا من عرفة، ولا من
أرض الحرم والمالكية يجيزون الوقوف بعرنة، ويحتج عليهم الجمهور بحديث:
(عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن
بطن محسر، ومنى كلها منحر) ، رواه مسلم وغيره. ومُحَسِّر (بكسر السين
المهملة مشددة) ، وبطن محسر وعرنة، كل منهما وادٍ فاصل بين المزدلفة ومنى.
وقالوا: حد الحرم من المأزمين (بكسر الزاي) وهو مضيق بين عرفة
ومزدلفة، وهناك علمان مبنيان في أول حدود عرفة، جُعلا علامة على حد الحرم،
فما كان شرقيهما من عرفة وما وراءها فهو من الحل، وما كان قبلهما من جهة
الغرب من بطن عرنة ومزدلفة ومنى فهو من الحرم، ويوجد ميلان آخران في أول
حد مزدلفة من جهة الغرب، فما بين العلمين والميلين هو وادي عرنة.
وفي الجانب الجنوبي من العلمين مسجد نمرة المعروف بمسجد إبراهيم بقرب
الطريق الممتد من منى إلى الطائف ويسمى أيضًا مسجد نمرة ومسجد عرنة. قال
الغزالي: ونمرة هي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة. اهـ. وظاهر حديث
نزول النبي صلى الله عليه وسلم بنمرة أنها أدنى عرنة لا كلها. وفي كتب اللغة أن
نمرة هي الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من المأزمين تريد
الموقف. قال شارح القاموس: كذا في التكملة. وقيل: الحرم من طريق الطائف
على طرف عرفة من نمرة على أحد عشر ميلاً. اهـ. وقد نقل هذا في معجم
البلدان وفيه بعده: وقيل نمرة على أحد عشر ميلاً. اهـ أي من مكة. فالتحقيق
الذي عليه الجمهور أن المسجد لم يكن من عرفة، وقول بعض الناس فيه (مسجد
عرفة) بالفاء من باب ما جاور الشيء أُعطي حكمه أو نُسِبَ إليه، ولذلك نسب
بعضهم عرفة إلى مكة وبعضهم إلى منى. وقال بعضهم: إن بعضه من عرفة
وبعضه من عرنة، وذلك بعد أن زِيد فيه كما سيأتي.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في مناسك الحج - بعد ذكر استحباب المبيت
بمنى ليلة عرفة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه: ويسيرون منها إلى
نمرة عن طريق ضب من يمين الطريق. ونمرة كانت قرية خارجة عن عرفات
(أي فخربت كما صرح غيره) من جهة اليمين فيقيمون بها إلى الزوال كما فعل
النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي وهو موضع النبي
صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه الظهر والعصر وخطب، وهو في حدود عرفة
ببطن عرنة. وهناك مسجد يقال له مسجد إبراهيم، وإنما بُني في أول دولة بني
العباس. اهـ. المراد منه هنا.
وقال الغزالي في (الإحياء) : وأما مسجد إبراهيم عليه السلام فصدره في
الوادي وأخرياته من عرفة، فمَن وقف في صدر المسجد لم يحصل له الوقوف
بعرفة. ويتميز مكان عرفة من المسجد بصخرات كبار فُرشت هناك. اهـ.
قال الزبيدي عند شرح أول هذه العبارة من شرح الإحياء: وجدت بخط الإمام
الفقيه الشيخ شمس الدين بن الحريري ما نصه: وقد وقع للفقهاء في نسبة هذا
المسجد لإبراهيم الخليل عليه السلام كلام، وقد نسبه إليه جماعة منهم ابن كج وابن
سراقة والبغوي والقاضي حسين والأزرقي وتبعهم الشيخ النووي وجماعة من
المتأخرين، وادعى الإسنوي أنه خطأ، وإنما هو شخص اسمه إبراهيم من رءوس
الدولة المتقدمة، كما قاله غير الإسنوي، فالتبس بالخليل عليه السلام. وردَّ
الأذرعي هذا بأن الأزرقي من أعلم الناس بهذا، وقد نسبه إلى الخليل عليه السلام،
قال: (وعلى تسليم أن يكون قد بناه مَن ذُكر فلا يمتنع أن يكون منسوبًا من أصله
إلى الخليل عليه السلام، إما لأنه صلى هناك، أو اتخذ مصلى للناس، فنُسب إليه)
اهـ، وأقول: نعم، لا يمتنع ذلك عقلاً، ولكننا لا نثبته إلا بنقل صحيح، فأين
هو؟ !
وقال الزبيدي - عند شرح آخر تلك العبارة -: قال النووي في زوائد
الروضة: الصواب أن نمرة ليست من عرفات، وأما مسجد إبراهيم عليه السلام
فقد قال الشافعي رحمه الله إنه ليس من عرفة، فلعله زِيد بعده في آخره، وبين
هذا المسجد وبين موقف النبي صلى الله عليه وسلم بالصخرات نحو ميل. قال إمام
الحرمين: وتطيف بمنعرجات عرفات جبال وجوهها المقبلة من عرفة. اهـ.
وقال صديقنا محمد لبيب بك البتانوني في الرحلة الحجازية التي ألفها في سنة
1328 -
بعد وصفه لمنى وانتقاله إلى وصف الطريق منها لمزدلفة فعرفة - ما
نصه: ومن ثَمَّ يضيق الوادي، ويسمى بوادي محسر، حتى إذا وصل إلى المزدلفة،
وهي على مسافة ساعتين من منى (؟) أخذ في الاتساع مرة أخرى. وهناك
ترى على يمينك المشعر الحرام الذي يجب الوقوف عنده في النزول من عرفة.
وفي هذه الجهة مسجد على جبل قزح عمَّره السلطان قايتباي، ومن هناك يضيق
الوادي ثانيًا ويسمى بوادي عُرَنة (بضم العين وفتح الراء والنون) حتى إذا قرب
من مسجد نمرة (ويسمى مسجد عرفة أو مسجد إبراهيم) انفتحت أرجاؤه إلى
الشمال والجنوب. وهذا المسجد كبير قد أحاطت به البواكي (يعني الأروقة) في
جهاته الأربع من داخله. وعمّره قايتباي عمارة تُشكر. ونصفه الغربي (الذي إلى
مكة) في الحرم والنصف الآخر في الحل وبواسطة مجرى ماء يسير إليه زمن
الحج من مجرى عين زبيدة. وفي شمال هذا المسجد بقليل إلى الشرق ترى العلمين
وهما عمودان من البناء بعيدان عن بعضهما (أي أحدهما بعيد عن الآخر) بارتفاع
خمسة أمتار في عرض نحو ثلاثة، قد أقيما في فضاء الوادي للدلالة على حدود
عرفة من الغرب وهنالك نجد الجبل قد حلق على الوادي وقفله أمامك من الشرق
(أقفله أي سده) بشكل قوس كبير وهو ما يسمونه جبل عرفة. وعلى طرف القوس
من جهة الجنوب الطريق إلى الطائف على كرا، وفي طرفه من جهة الشمال لسان
يبرز إلى الغرب يسمونه جبل الرحمة، وسفحه الجنوبي هو حد عرفة من الشمال.
اهـ.
صفة جبل الرحمة بعرفات:
قال ابن جبير الأندلسي في رحلته: (وعرفات بسيط من الأرض مد البصر،
لو كان محشر الخلائق لوسعهم، يحدق بذلك البسيط الأفيح جبال كثيرة. وفي آخر
ذلك البسيط جبل الرحمة، وفيه وحوله موقف الناس، والعلمان قبله بنحو الميلين،
فما أمام العلمين إلى عرفات حل وما دونهما حرم، وبمقربة منهما مما يلي عرفات
بطن عُرنة، الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه) - ثم قال -:
(وجبل الرحمة المذكور منقطع عن الجبال، قائم وسط البسيط، وهو كله حجارة
منقطعة بعضها عن بعض. وكان صعب المرتقى فأحدث فيه جمال الدين [1]
المذكورة مآثره في هذا التقييد - أدراجًا وطيّة من أربع جهاته، يصعد فيها بالدواب
الموقورة وأنفق فيها مالاً عظيمًا. وفي أعلى الجبل قبة تُنسب إلى أم سلمة رضي
الله عنها، ولا يعرف صحة ذلك، وفي وسط القبة مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه.
وحول ذلك المسجد المكرم سطح محدق به فسيح الساحة جميل المنظر، يشرف
منه على بسيط عرفات، وفي جهة القبلة منه جدار، وقد نُصبت فيه محاريب
يصلي الناس فيها. وفي أسفل هذا الجبل المقدس عن يسار المستقبل للقبلة دار
عتيقة البنيان في أعلاها غرف (وفي نسخة غرفة) ، لها طيقان تُنسب إلى آدم
صلى الله عليه وسلم وعن يسار هذه الدار في استقبال القبلة الصخرة التي كان
عندها موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في جبل متطأمن) .
أقول: هذا الجبل هو جبل إلال (بوزن هلال) قال ابن دريد في وصف
الحاج:
ينوي التي فضلها رب العلى
…
لما دحا تربتها على البنى [2]
حتى إذا قابلها استعبر لا
…
يملك دمع العين من حيث جرى [3]
ثمت طاف وانثنى مستلمًا
…
ثمت جاء المروتين فسعى [4]
ثمت راح في الملبين إلى
…
حيث تحجى المأزمين ومنى [5]
ثم أتى التعريف يقرو مخبتًا
…
منازلاً بين إلال فالنقا [6]
موقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة:
اتفق الرواة على أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة بمنى
ورحل منها بعد طلوع الشمس، حتى جاء نمرة، فأقام بها إلى وقت الزوال، ثم
جاء بطن الوادي، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح، فوقف
على الموقف من عرفة، وعلى أن المكان الذي وقف فيه، وأشار إليه في الحديث
هو المكان المعروف عند الصخرات. وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف) ،
والمراد أنه لم يقف هنالك لمزية لذلك المكان على غيره في أداء النسك، بل يصح
الوقوف في كل موضع من عرفة. ولكن صار لذلك المكان مزية بوقوفه فيه،
فصار موقف الأئمة ونوابهم الذين يحجون بالناس. وقد نقل الزبيدي في شرح
الإحياء كلامًا مفصلاً للمحب الطبري في ذلك المكان وفي جبل الرحمة، قال:
(وقد روى أبو الوليد الأزرقي بإسناده عن ابن عباس أن موقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان بين الأجبل الثلاثة النبعة والنبيعة والنابت، وموقفه
صلى الله عليه وسلم منها على النابت، قال: والنابت على النشزة التي خلف
موقف الإمام، وموقفه صلى الله عليه وسلم على ضرس من الجبل النابت مضرس
بين أحجار هناك نابتة من الجبل الذي يقال له إلال ككتاب.
(قال المحب الطبري) : وعلى هذا يكون موقفه صلى الله عليه وسلم على
الصخرات الكبار المفترشة في طرف الجبلات الصغار التي كأنها الروابي عند
الجبل الذي يعتني الناس بصعوده ويسمونه جبل الرحمة واسمه عند العرب إلال
بالكسر، وذكر الجوهري فيه الفتح والمحفوظ خلافه، وهذا يرجح ضبط مَن ضبط
قول جابر في حديثه الطويل: (وجعل جبل المشاة بين يديه) بالجيم؛ فإن الواقف
كما وصفناه يكون هذا الجبل أعني إلالاً بين يديه وهو جبل المشاة، وذكر ابن
حبيب أن إلالاً جبل من الرمل يقف الناس به بعرفات عن يمين الإمام، حكاه عنه
أبو عمرو عثمان بن علي الأنصاري في تعاليقه على الجوهري، وذكر ابن أبي
الصيف في بعض تعاليقه على الجوهري أن اسم جبل الرحمة الذي يقال له جبل
المشاة كبكب.
(قال المحب الطبري) : والمشهور في كبكب أنه اسم جبل بأعلى نعمان
بقرب الثنايا عنده قوم يُدعون الكباكبة نسبة إليه، والمشهور في جبل الرحمة ما
ذكرناه. إذا تقرر هذا فمن كان راكبًا ينبغي أن يلابس بدايته الصخرات المذكورة
كما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم، ومن كان راجلاً وقف عليها أو عندها بحسب
ما يتمكن من غير إيذاء أحد، ولا يثبت في الجبل الذي يعتني الناس بصعوده خبر
ولا أثر، (قال) : وذكر شيخنا أبو عمرو بن الصلاح في منسكه عن صاحب
الحاوي أنه يقصد الجبل الذي يقال له (جبل الدعاء) ، وهو موقف الأنبياء عليهم
السلام، وعن محمد بن جرير الطبري أنه يستحب الوقوف على الجبل الذي عن
يمين الإمام يعني جبل الرحمة، والذي ذكره صاحب الحاوي لا دلالة فيه على
إثبات فضل لهذا الجبل؛ فإنه قال: والذي نختار في الموقف أن يقصد نحو الجبل
الذي عند الصخرات السود وهو الجبل الذي يقال له جبل الدعاء وهو موقف الأنبياء
عليهم السلام، والموقف الذي وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من
الأجبل الثلاثة على النابت، ثم ساق ما أوردناه سابقًا، ثم قال: وهذا أحب المواقف
إلينا للإمام والناس.
(قال المحب الطبري) : وهذا صريح في أنه أراد بجبل الدعاء النابت الذي
وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعرض في كلامه لجبل الرحمة
بنفي ولا إثبات. وما فهمه رحمه الله أنه جبل الرحمة غير مطابق، وقوله:
وهو الجبل أراد سهله، وهو من الأضداد يطلق على المكان المرتفع والمنخفض،
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف عليه لكونه موقف الأنبياء عليهم السلام،
وكلام ابن جرير ظاهر الدلالة أنه أراد بالجبل - الذي عن يمين الإمام - الجبل
الذي وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النابت كما تقدم بيانه، والظاهر
أنهما أراداه بقولهما، فيكونان قد أثبتا له شيئًا من الفضل، ولا نعلم من أين أخذا
ذلك؛ إذ لم يثبت في فضله خبر، ولو ثبت له فضل فموقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم أفضل منه وهو الذي خصَّه العلماء بالذكر والفضل.
ثم قال الطبري - نقلاً عن صاحب النهاية -: في وسط عرفة جبل يقال له
جبل الرحمة، ولا نُسُكَ في الرقي عليه، وإن كان يعتاده الناس. وقال غيره: قد
افتتنت العامة بهذا الجبل في زماننا، وأخطأوا في أشياء منها (أنهم) جعلوا الجبل
هو الأصل في الوقوف، فهم بذكره لَهِجُون، وعليه دون غيره معرجون، حتى
ربما اعتقد بعض العامة أن الوقوف لا يصح بدون الرقي (فيه) ، ومنها احتفالهم
بالوقوف عليه قبل وقت الوقوف، ومنها إيقادهم النيران عليه ليلة عرفة،
واهتمامهم لذلك باستصحاب الشموع من بلادهم، واختلاط النساء بالرجال هنالك
صعودًا وهبوطًا بالشمع الكثير الموقد، وإنما حدث ذلك بعد انقراض السلف الصالح،
ومَن كان متبعًا آثار النبوة فلا يحصل بعرفة قبل دخول وقت الوقوف يأمر ذلك،
ويعين عليه، وينهى عن مخالفته. اهـ. ما نقله الزبيدي.
5
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هو جمال الدين محمد الجواد الموصلي كان وزير صاحب الموصل، وله في الحرمين والمشاعر عمارات عظيمة.
(2)
البنى جمع بنية يشير إلى أثر: (دحا الله الأرض دحوًا من تحت الكعبة) ، وهو مروي عن عطاء، وليس حديثًا كما توهم، ودحا الشيء رماه وكشفه ونحاه قيل: وبسطه.
(3)
استعبر: جرت عَبرته أي دمعته.
(4)
المروتان الصفا والمروة تغليب.
(5)
تحجى: قصد وتعمد.
(6)
التعريف: الوقوف بعرفة، أي أتى مكان التعريف، ويقر ويستقري ويتتبع منزلاً بعد منزل، ومخبتًا خاضعًا خاشعًا، وإلال: الجبل، والنقا: تلال الرمل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحرب والصلح
كثر الخوض في حديث الصلح في السنة الماضية، وقد كانت دول التحالف
الجرماني هي التي بدأت بطلب فتح باب المفاوضة في الصلح وكلفت ألمانية
الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية قبل انضمامه إلى
محاربيها أن يتوسط بين المتقاتلين في الصلح، فكتب مذكرة في ذلك ردت عليها
إنكلترة أشد الرد، ورفضتها كل الرفض، وتبعها حلفاؤها بالطبع. ثم إن البابا
أرسل رسالة إلى جميع الدول المتقاتلة من الفريقين، دعاهم فيها إلى المبادرة إلى
حقن الدماء وعقد الصلح على قاعدة جعْل قوة الحق الأدبية بدلاً من قوة الجيش
المادية، وتحديد التسليح البري والبحري والجوي، وحرية البحار وحقوق الشعوب
وعدم ضم شيء من أملاك بعضها إلى بعض، وعدم أخذ غرامة حربية وجعل
التعويض عن الخراب بالتعاون، وقاعدة التحكيم الإجباري فيما يقع بين الدول من
المسائل الخلافية. فلم يستحسن هذه المذكرة من دول التحالف البريطاني إلا حكومة
روسية المؤقتة التي سبقت إلى اقتراح قاعدة (لا ضم ولا غرامة) وقد رد الدكتور
ولسن على المذكرة ردًّا طويلاً، وافقه عليه سائر الحلفاء، أهم ما فيه أن حكومة
ألمانية الحاضرة حكومة أتقراطية لا تثق الحلفاء بعهودها، فيعقدوا معها صلحًا،
فالأساس الأول لقواعد الصلح عندهم تحويل هذه الحكومة إلى ديمقراطية تنطق باسم
الشعب، فإن لم يبادر الألمان أنفسهم إلى قلب حكومتهم وثل عرش آل هوهنزلرن
المؤيد بالقوة العسكرية والاستعاضة عنها بحكومة ديمقراطية فإن الحلفاء هم الذين
يفعلون ذلك بالقوة القاهرة، وحينئذ يتم الصلح الحقيقي الذي يستريح به البشر من
مصائب الحرب، وقد أيدت الحلفاء الرئيس في رده، وأثنت جرائدها عليه [1] إلا
أن بعض الجرائد الإنكليزية كالتيمس - أنكرت منها تفرقة الرئيس بين الحكومة
الألمانية والشعب الألماني؛ إذ جعل وزر الحرب على الحكومة وحدها، قالت:
(ولكن الشعب الألماني قابل الحرب بحماسة عظيمة، وإن لم يكن هو الذي أعلنها
وقد وافق نوابه على جميع الاعتمادات الحربية، وقابلت صحافته الفظائع الجرمانية
بهُتاف شديد) .
ونقول: إن الظاهر لنا أن الرئيس ولسن يرمي بتبرئة الشعب الألماني من
تبعة الحرب وإظهاره الاكتفاء بإسقاط حكومته الإمبراطورية - إلى إغرائه بثورة
داخلية على حكومته الممتازة بكونها جهة الوحدة لقوتها وقوة أحلافها، فإن تم هذا
تنتهي الحرب في أقرب زمن بأقل خسارة.
أما دول التحالف الجرماني فقد قابلت مذكرة البابا بالابتهاج، فأما ألمانية فقد
أرسل وزير إمبراطوريتها ردًّا جميلاً إلى وزير خارجية الفاتيكان بأمر مولاه
الإمبراطور، بدأه بقوله: (إن جلالته ينظر بعين الاحترام والشكر والسرور إلى
المساعي التي يبذلها قداسة البابا لتقصير أجل الحرب وتخفيف وطأتها
…
) إلخ،
وتبجح بأن مولاه مازال نصير السلم منذ تبوأ العرش، وبأنه يوافق على أن
الشروط التي قالها قداسته من الأمور التي يجب أن تظهر في المفاوضات المقبلة،
وبأنه: (ليس في العالم شعب يتمنى الصلح على أساس إصلاح ذات البين بين
الأمم وإحلال الإخاء والمساواة محل البغض أكثر من الشعب الألماني) . (وقال) :
(فإذا أدركت الأمم المشربة بهذه المبادئ أن الاتفاق خير من الشقاق فإنها تستطيع
أن تسوي جميع المشاكل الحاضرة وتمنع وقوع الحروب في المستقبل بإنالة جميع
الشعوب ما يلزم لحياتها وسعادتها، فعلى هذا الأساس وحده يحتمل أن يبرم الصلح
الدائم الذي يقرب بين الأمم وينهض بالبشرية نهضة كبيرة من الوجهتين المعنوية
والاقتصادية. وهذه الثقة هي تحملنا على الاعتقاد أن أعداءنا يجدون في المبادئ
التي أعرب عنها قداسة البابا أساسًا تمهيديًّا للصلح المقبل بشروط تلائم روح العدل
وموقف أوربا الحالي) . اهـ بنص ترجمة المقطم (في 19 ذي الحجة الماضي) .
ورد إمبراطور النمسة الجديد (كرلوس) بنفسه ردًا مشربًا بمنتهى التعظيم
والاحترام والقبول؛ لأنه هو الإمبراطور الكاثوليكي الوحيد، ولكنه لم يَفُهْ بكلمة ما
تدل على اعترافه بحقوق الأمم والشعوب.
وكذلك كان رد الدولة العثمانية على المذكرة بإمضاء السلطان محمد رشاد ردًّا
مشربًا بالتعظيم والاحترام، وصرح فيه بالموافقة على القواعد الأساسية التي اقترح
أن يبنى عليها الصلح والاستعداد لدرس الطرق التي تؤدي إلى تسوية المشاكل
الدولية في إبان مفاوضات الصلح، (قال) : (وإننا نصرح بذلك، وأمام أنظارنا
الضمان الكافي على استقلال الأمم وحريتها وارتقائها؛ لأننا رأينا في اقتراح
قداستكم أساسًا متينًا للصلح العمومي الدائم وطريقة حسنة لحقن الدماء) .
وقال - قبل ذلك -: (لقد أُكرهنا على خوض غمار الحرب دفاعًا عن حريتنا
وارتقاء بلادنا. وهذه الغاية الشريفة هي الغاية الوحيدة التي نحارب الآن من أجلها،
والتي تكفل لنا المحافظة على حقوقنا واستقلالنا التام في بلادنا وعلى حدودنا
القومية) . اهـ من ترجمة المقطم التي نُشرت في عدد 8 المحرم - 25 أكتوبر
الماضي.
وقد جزم ساسة الحلفاء بأن البابا لم يسعَ هذا السعي إلى الصلح إلا بتوسل
ألمانية والنمسة إليه، وأن سبب ذلك الشعور بالضعف والعجز عن الاستمرار على
القتال، وأن الغرض منه إغراء الميَّالين إلى الصلح في بلاد أعدائهم من
الاشتراكيين وغيرهم بحمل حكوماتهم على عقد الصلح، فما من أمة محاربة إلا
وفيها كثير من محبي السلم ودعاته. أما رأي هؤلاء الأحلاف في مسألة الأمم
والشعوب فقد بيناه في الجزء الأول، وأما مسألة الغرامة فقد صرحت جرائدهم -
ناقلة عن أقطاب ساستهم - أن من أهم شروط الصلح عندهم أن يؤخذ من الجرمان
عوض عن البلاد التي خربوها في بلجيكة وفرنسة والبلقان، بعد جلائهم عن هذه
البلاد كلها، ومنها رد الإلزاس واللورين إلى فرنسة.
وقد جاءت برقيات روتر في 5 المحرم (22 أكتوبر) بنص خطبة طويلة
بليغة من خطب لويد جورج رئيس الوزراء البريطانية ألقاها على ملأ عظيم في
لندن، كان غرضه الأول منها الحث على الاقتصاد في جميع النفقات واستطرد فيها
إلى الكلام في مسألة الصلح، فقال - بعد التصريح بأنه لا يرى في جو السياسة
شروطًا تؤدي إلى صلح وطيد الأركان -: (ولكن الشروط الوحيدة المحتملة الآن
تؤدي إلى هدنة مسلحة تفضي إلى حرب أشد هولاً من هذه. إن هذه الحرب مخيفة،
ولكن ما كشفته من الرزايا التي يحتمل وقوعها في البر والبحر والجو أشد هولاً
وأعظم رعبًا؛ فلهذا طلب من الذين يلحون في عقد صلح مبتسر - إذا صح أن
هنالك مَن يلح فيه-أن يمعنوا النظر فيما يحتمل وقوعه إذا وقع صلح غير مُرضٍ) ،
ثم قال: (يجب علينا في أثناء البحث في شروط الصلح أن نضع نصب عيوننا
الغرض العظيم من هذه الحرب، فإن المسألة ليست مسألة تعديل حدود أملاك إلا حيث تقتضي حقوق القوميات هذا التعديل، ولا هي مسألة غرامات إلا حيث تكون الغرامات للتعويض من ضرر، ولكنه في الدرجة الأولى مسألة القضاء على مبدأ فاسد
باطل استعبد أوروبة، وأوقع الخوف في قلوب أهلها، أو كاد لو أُتيح له الفوز)
(هُتاف) .
إن العدو الحقيقي هو روح الحرب الذي نشأ وترعرع في بروسيا، هذا
الروح الذي يرمي إلى جعْل العالم مكانًا تتسلط فيه القوة البهيمية تسلطًا لا ينازع فيه
أحد، بدلاً من عالم تسكنه ديمقراطيات حرة مرتبطة معًا بعرى السلم الشريفة، وقد
أقيم لهذا الروح هيكل يُعبد فيه في بتسدام [2] ، فلا سلم في العالم، ولا حرية إلا إذا
دكّ هذا الهيكل، وشتت شمل كهنته، وألبسوا ثوب العار إلى الأبد (هتاف) .
وعلقت الرجاء بأننا نتمكن في السنة الحالية من القضاء على هذه القوة
الهائلة، وكنا جميعًا ننتظر حركة حربية عظيمة من جميع الجهات تتجه إلى العدو،
وتنيلنا هذه الأمنية، ولكن تضعضع قوة روسيا الحربية الموقت، لا أقول إنه خيّب
الآمال، ولكنه أجل تحقق الرجاء على أن الزمان في جانبنا.ا. هـ المراد منه.
(المنار)
إن الحرب السياسية من قولية وعملية أعظم من الحرب الآلية من برية
وبحرية، وقد ظهر من براعة البشر في الحرب القلمية، ما هو أدل على الحذق
والذكاء من براعتهم في اختراع الآلات والأساليب الحربية، ومن براعة الإنكليز
المعهودة في السياسة أن قذفوا الألمان بالدول والأمم، بإزاء قذف غواصات الألمان
لبواخرهم بالحمم، حتى صار أعظم دول أمريكة الشمالية وأمريكة الجنوبية حربًا
لهم، بل آذنتهم دولة الصين بالحرب أيضًا، فصار عدد نفوس الأمم المحاربة لهم
بالذات، وبالتبع زُهاء ألف وخمسمائة مليون، وهم لا يزيدون مع أحلافهم على مئة
وخمسين مليونًا، وقد صرحت الجرائد بأن الجيش البريطاني المقاتل في الميدان
الغربي وحده لا يقل عن ثلاثة ملايين، وأن الجيش الألماني المقاتل بالفعل لا يكاد
يتجاوز أربعة ملايين.
وصرحت مرارًا بأن الإنكليز وأحلافهم متفوِّقون على الجرمان في السلاح
والذخائر وجميع مواد الحرب أضعافًا كثيرة، بل جاء في برقية لمكاتب المقطم
بباريس في 30 مايو الماضي أن الجنرال ز. لندن قال في مقالة له: (يظهر أن
النمسة وبلغارية وتركية استنفدت جميع قواتها، وصارت على آخر رمق، وأن
هذه الدول الثلاث ما كانت لتثبت لولا همة ألمانية ونشاطها، ولكنها ستتلاشى بنفاد
قوتها، وتطرد الوهن إليها) ، وقال عن الجيش الألماني: (إن عدد فرقه كان في
شهر إبريل الماضي مئتين وتسع فرق من المشاة، وهذا العدد يساوي عدد المشاة
من البريطانيين في ميدان فرنسة، فللفرنسويين والإنكليز التفوق على ألمانية) .ا. هـ
نعم، إنهم خسروا قوة روسية، ولكن يقابلها انضمام الولايات المتحدة إليهم،
وهذه الدولة أغنى دول الأرض الآن، وهي تقرض الحلفاء المال بمئات الملايين
في كل شهر، وتقدم لهم من الذخائر والأغذية والمواد الضرورية للحرب ما خفّ به
الحمل الثقيل عن عاتق الإنكليز. ففي مقطم 21 المحرم (7 نوفمبر) مقالة
افتتاحية، قال فيها: إن الحكومة البريطانية أقرضت حلفاءها ألفًا ومئتي مليون من
الجنيهات، وهي تجود عليهم بالبواخر والفحم والصوف والقطن والزيت والفولاذ،
وغير ذلك من المواد الخام التي تكثر في بلادها وفي مستعمراتها. ثم ذكر أن لها
في الميدان الغربي نحوًا من ثلاثة ملايين مقاتل.
هذا، وإن الأخلاق ركن من أعظم أركان الحرب؛ لأن جميع أعمال البشر
من آثار أخلاقهم، فالصبر والثبات في الحرب واجتماع الكلمة خير من كثرة
الجيوش، فتأمل تعليل النصر في النص الكريم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249)، وقوله تعالى: {إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا
…
} (الأنفال: 45) إلى قوله {
…
وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) ، ومعنى كونه
تعالى مع الصابرين أن سُنته في خلقه قد جرت بجعْل الصبر من أعظم أسباب
الغلب والنصر، ولا سيما إذا صحبه الإيمان بالله عز وجل والثقة به والتوكل عليه،
وبمجموع ذلك فاز المسلمون من قبل، فغلبوا الأمم الكثيرة بالفئات القليلة.
والصبر والثبات والتعاون من الأخلاق التي امتازت بها الأمم الإنكليزية على
كثير من الأمم منذ أجيال؛ لذلك كانت أخلاقهم أنفع لأحلافهم من أموالهم ومتاعهم،
فولاهم لم يثبت على حرب الألمان أحد، وهؤلاء الألمان أقران لهم، وأقتال في
ذلك، فحرب الأخلاق بينهما هي الجهاد الأكبر، وعليه المعوّل الأخير في النصر
والظفر.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
نُشر رد الرئيس ولسن في مقطم 3 من ذي الحجة الماضي (21 سبتمبر) ، ونُشرت نبذ من الجرائد الأمريكية والإنكليزية والفرنسية والطليانية في تأييد في 4 ذي الحجة.
(2)
المنار: يعني الوزير بهذا الهيكل عرش ملك بروسية إمبراطور الألمان.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مختارات من الجرائد
(الطعن في رئيس وزراء الإنكليز)
الطعن في العظماء والمصلحين في الأمم سُنة من سنن الاجتماع، حوادثها
كثيرة في التاريخ، وقد اتهمت جريدتان من الجرائد الإنكليزية مستر لويد جورج
رئيس وزرائهم - الذي أظهرت الحرب كفاءته وتفوقه على الأقران - فزعمت أنه
فَرَّ من لندن إلى فرنسة عند علمه بإحدى غارات الطيارات الألمانية على العاصمة،
وقد كذَّبت الحكومة الجريدتين، فلم تعتذرا عن كذبهما، فرفع الوزير عليهما دعوى
لسوء تأثير طعنهما في العامة. وقد عجبنا مما أظهرته الدعوى من كثرة ما سبق من
الطعن في الوزير، وهو موضع العبرة التي أردنا ضمها إلى أمثالها من حوادث
التاريخ. فقد جاء في مقطم 24 المحرم - 10 نوفمبر، من مقالة في شرح هذه
القضية ما نصه:
ولما عرضت القضية قال المحامي عن المستر لويد جورج إن موكله يقول:
إنه لو كان ما عَزَتْه الجريدتان والشركة عليه طعنًا شخصيًّا في شخصه فقط لرأى
أن كرامته ومقامه كرئيس وزراء بريطانيا العظمى يقضيان عليه بأن يتغاضى عنه،
ويكتفي بتكذيبه في الصحف التي نشرته، فإن المستر لويد جورج استهدف في
حياته السياسية لما لم يستهدف له سياسي آخر من الحملات والمطاعن الشخصية
والسياسية، فقابلها كما يجب على الساسة أن يقابلوها، أي أنه عدَّها من الأمور
التي لا مناص للسياسي من الاستهداف لها في حياته السياسية.
قال المحامي: والمستر لويد جورج يعذرني إذا قلت: إن خصومه ما كانوا
يخرجون من مناضلته فائزين. على أن الذي يهم رئيس الوزارة في قضيتنا هذه هو
سوء الوقع الذي يقع في نفوس الجمهور من اتهامه كذبًا بالجبن، فقد بلغه أن الناس
- ولا سيما في القسم الشرقي من لندن - ساءهم خبر مغادرة كبير وزرائهم للندن
للتخلص مما تعرضوا له، ولما كانت هذه التهمة كاذبة لجأ الرئيس إلى المحاكم
لينفي فيها على رءوس الأشهاد هذه التهمة الباطلة، ويُطْلع مواطنيه على الحقيقة.
ثم ذكر المقطم أن الوزير لما حضر المحكمة وحلف اليمين ألقى عليه المحامي
أسئلة أجاب عنها، منها السؤال الآتي مع جوابه:
س: ألم أفهم منك أنه لو كان الطعن شخصيًّا موجهًا إلى شخصك فقط لما
رفعت هذه القضية؟ .
ج: كنت أكتفي بنفي الخبر الذي روته الجريدتان؛ لأني لو سِرت على قاعدة
رفع القضايا على كل مَن يطعن فيَّ لما أتيح لي أن أفعل شيئًا آخر.
* * *
(الإسرائيليون وفلسطين)
ترجمة برقية خصوصية للمقطم من مكاتبه بلندن أيدتها برقيات روتر.
لندن؛ الجمعة في 9 نوفمبر الساعة 3 بعد الظهر.
ذكرت جريدة (جويش كرونكل) أن المستر بلفور وزير الخارجية البريطانية
كتب إلى اللورد روتشلد يقول ما نصه:
" يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك أنها تنظر بعين الرضى
والارتياح إلى المشروع الذي يراد به أن ينشأ في فلسطين وطن قومي لشعب اليهود،
وتفرغ خير مساعيها لتسهيل إدراك هذا الغرض. ولكن ليكن معلومًا أنه لا يُسمح
بإجراء شيء يُلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي للطوائف غير اليهودية
الموجودة في فلسطين الآن، أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى
وبمركزهم السياسي فيها ". مكاتبكم بلندن.
* * *
(مظاهرة الصهيونيين لتحقيق أمانيّهم في فلسطين)
جاء في مقطم 16 المحرم - 13 نوفمبر ما نصه:
قال وكيلنا الإسكندري أمس: أقام الإسرائيليون - ولا سيما الصهيونيين منهم
- احتفالاً كبيرًا أمس في حديقة رشيد بالإسكندرية على إِثْر البيان الذي أبلغه المستر
بلفور إلى اللورد روتشلد في شأن تحقيق أماني الإسرائيليين بجعْل فلسطين وطنًا
قوميًّا لهم. وقد ألقى بعض خطبائهم في هذا الاحتفال خطبًا تناسب المقام، فشكروا
للحلفاء عامة، ولبريطانيا خاصة هذا الوعد الشريف، آملين تحقيقه في القريب
العاجل.
ثم طاف المحتفلون - وهم في أحسن نظام في شوارع المدينة الكبرى -
تتقدمهم الموسيقى وفرقة الكشافة الإسرائيلية، وهم فرحون جذلون بتلك البشرى
السارة هاتفون للحلفاء، ولبريطانية العظمى بدوام النصر والظفر. اهـ.
* * *
(معركة غزة ونتائجها)
نشر المقطم تحت هذا العنوان البرقية الآتية: باريس في 8 نوفمبر:
إن سقوط غزة من الحوادث التي يمكن أن تنشأ عنها نتائج عظيمة جدًّا،
والتي تعد مقدمة لأفول نجم تركيا في الأماكن المقدسة، وتحرير البلاد التي هي مهد
الديانة المسيحية. وقد قطعت المواصلات التركية تمامًا مع القوات التي تحارب في
بلاد العرب، وصار مصير (المدينة) معروفًا من الآن، وقد احتلت إنكلترا -
حليفة ملك الحجاز - كل العراق تقريبًا، وجنوبي بلاد فلسطين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (هافاس)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ما قيل في سقوط بغداد
(2)
نشر المقطم في عدد 28 جُمَادَى الأولى سنة 1335-22 مارس 1917
ترجمة منشور الجنرال مود الذي خاطب به أهل بغداد عقب دخولها فاتحًا باسم ملكه
واسم الشعوب التي يحكمها، وقد بدأه ببيان أن غرضهم من الحرب كسر العدو،
وإخراجه من البلاد، فمجيء جيوشهم العراق؛ لذلك لا (كما يأتي الغازي الفاتح
والعدو الطامع) ، ثم ثنى بذكر تخريب الأجانب للبلاد من عهد هولاكو واستبدادهم
فيها، ثم قال:
إن جلالة ملكي وشعوبه والأمم العظيمة المحالفة له يرومون لكم السعادة
والرخاء وإحياء العصر القديم، لما كان الخصب منتشرًا في دياركم، تضيء العالم
بنبراس الآداب والعلم والفنون، ولما كانت بغداد إحدى عجائب الدنيا.
إن بين شعبكم وأملاك ملكي علاقات مصلحية وثيقة؛ فقد تعامل تجار بغداد
وتجار بريطانيا العظمى منذ مائتي سنة بتمام المودة والصداقة، وجنى الفريقان
الربح، أما الألمان والترك الذين نهبوكم فقد اتخذوا بغداد منذ 20 سنة مقرًّا لمهاجمة
قوة بريطانيا العظمى وحلفائها في إيران وجزيرة العرب، فلم يسع الحكومة
البريطانية إلا أن تكترث لما يقع في بلادكم الآن وفي مستقبل الأيام، فإن الواجب
والمصلحة للشعب البريطاني وحلفائه يقضيان على الحكومة أن لا تسمح بأن يتكرر
في بغداد ما فعله الترك والألمان في إبان الحرب.
ثم خاطب أهل بغداد خاصة، فذكر لهم أن حكومته يهمها يسرهم التجاري
وسلامتهم من الظلم والجور مؤمّنًا إياهم من إرهاقها لهم بأحكام أجنبية عنهم، قال:
بل هي ترجو أن تحقق آمال فلاسفتكم وحكمائكم وكُتابكم؛ فتزهو بغداد وتزهر
وينشط أهلها ويتمتعون بثروتهم ومقتنياتهم في ظل النظام الذي يطابق شرائعكم
المقدسة وأمانيكم القومية، وذكَّرهم ثانية بظلم الأجانب واستقلال الحجاز. وختم
المنشور بدعوتهم إلى الاشتراك في إدارة شئونهم الملكية مع مندوبي بريطانيا
العظمى، الذين يصحبون الجيش البريطاني (قال) : فتتحدوا مع بني جنسكم في
الشمال الشرقي والجنوب والغرب على تحقيق آمال العرب.
ثم نشر المقطم مقالة في عدد 29 جمادى افتتحه بعبارة طويلة من مقالة
لمستشرق بريطاني، دعا العرب فيها إلى اليقظة وطلب الحرية والاستقلال (هي
المقالة التي نشرها المقطم في شهر سبتمبر من العام الماضي، وأشار إليها في
المقالة التي نقلنا عنه معظمها في آخر الجزء الماضي) ، هذا نصها:
هل انحط العرب اليوم أو فسدت أحسابهم وضعفت همتهم؟ ، كلا، لا هذا
ولا ذاك؛ فهمتهم لا تزال كبيرة، وأحسابهم لا تزال صحيحة، وهم حافظون
لأنسابهم وقد صانوا ما زانهم به الله من قوة وبأس وهمة ونشاط ومضاء عقل
وأصالة رأي وشجاعة وإقدام وأخلاق كريمة وسماحة وجود وإحسان، ولكني رأيتهم
غارقين في بحور الفاقة، وقد تولاهم التفرق واشتد بهم الانقسام؛ فدانوا لسواهم
وخضعوا. وبعد ما كانوا سادة صاروا مسودين، فهل يبقون - بعد أن تضع
الحرب أوزارها - كما كانوا لما أضرم أوارها.
تشتت شمل العرب ودالت دولتهم منذ عصفت في بلادهم عاصفة هولاكو
المغولي واجتاحها السلجوقيون رعاة طوران، فضاع استقلال العرب وباتوا رعية
لسواهم، فذلوا بعد العز، وافتقروا بعد الغنى وخيم الجهل على بلادهم بعد ما كانت
مطلع الشمس العلم والعرفان، حتى طلع صبح اليوم الذي تفك فيه قيود الأمم
المقهورة، فهل يعتبر العرب بما يقع الآن في أنحاء الدنيا، ويجمعون كلمتهم
ويبتغون الوحدة القومية لهم ولأبنائهم بعدهم.
لقد كان العرب أعداء أنفسهم، فأوسعوا مجال الانقسام بينهم، ولولا ذلك لما
تسلط عليهم شعب أدنى منهم وأحط، فالعرب لا تعوزهم الشجاعة، ولا تنقصهم
الأخلاق الكريمة، وقد امتد ملكهم من بحر الروم إلى سور الصين، فضُربت
الأمثال بنجدتهم، وتحدثت الأمم ببأسهم وشدتهم، ولا يزالون - كما كانوا - من
أشد الناس نخوة وأعظمهم حمية، وهم كرمل البحر في الكثرة، فكيف يرضون
بالذل، ولا يطمعون بالاستقلال ومساواة الشعوب العظيمة والتمتع بأطايب الحياة
ورغد العيش والهناء؟ !
لست أدعو العرب لأن يكونوا سفاحين كالألمان ولا ظالمين كالترك، ولكنني
أتمنى لهم أن يكونوا أحرارًا في بلادهم، وأن يطيبوا نفسًا وعيشًا، ويعودوا إلى
سابق عهدهم، فينيروا العالم بأنوار حكمتهم وعلمهم، وفلسفتهم وصناعتهم، كما
فعل أسلافهم الكرام من قبلهم.
إني أسمع صوتًا ينادي من السماء، ويقول: انهضوا يا أبناء عدنان، ويا
سلالة قحطان، وأفيقوا من سنة النوم فقد غلبت عليكم ألف عام!
ثم قفَّى المقطم على هذه النبذة بالتنويه بمنشور الجنرال مود والثناء عليه،
ولكنه هفا هفوة كبيرة في المقابلة بينه وبين ما خاطب به الحجاج أهل العراق؛ إذ
وصفهم بالنفاق والشقاق، والفرق بين الحالين عظيم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المطبوعات الجديدة
لدينا كثير من مطبوعات السنتين الماضيتين - على قلة المطبوعات في هذا
الزمن - لم نفرغ للنظر في شيء منها لنبين مزيَّته، أما وقد طال الأمد فسنذكرها
بالاختصار، وأقل حقوق أصحابها الإعلان، ونبدأ بذكر صحيفتين مصريتين:
(المجلة السلفية)
علمية أدبية أخلاقية تاريخية اجتماعية، تصدر مرة في كل شهر، صاحبها
ومديرها عبد الفتاح أفندي قتلان، سنتها عشرة أشهر، وقيمة الاشتراك فيها 20
قرشًا في القطر المصري، و8 فرنكات في الخارج تُدفع مقدمًا، وقد تمَّت سنتها
الأولى، فكانت 216 صفحة، وأكثر ما نُشر فيها مختارات من الكتب العربية
للشيخ طاهر الجزائري. وهذا وجه تسميتها بالمجلة السلفية.
(الحال)
جريدة إخبارية اقتصادية قضائية تاريخية، تصدر ثلاث مرات في الأسبوع،
صاحبها ومديرها خليل بك صادق، وقيمة الاشتراك فيها مائة قرش في السنة.
وَفاتَهُ أن يذكر في صفتها أنها فكاهية؛ فروح فكاهة صاحبها تتجلى في كل ما يُنشر
فيها.
***
ترجمة الشيخ سليم البشري
أرجأنا بقية هذه الترجمة إلى جزء آخر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
حكم التصوير
وصنع الصور والتماثيل واتخاذها
(س9) من صاحب الإمضاء الرمزي في سنغافوره.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله.
ما قول الأستاذ المرشد مولانا السيد محمد رشيد رضا -أرشده الله ورضي عنه
- في حكم عمل الصور من الجص والأحجار والمعادن مجسمة، وفي حكم عملها
بالحفر أو القلم أو بآلة حبس الظل (الفوتغراف) غير مجسمة، هل هو جائز مطلقًا،
أو في بعض الصور، وما الدليل على ذلك؟
وهل تقولون بحرمة ما صُنع للعبادة والتعظيم فقط، أم تذهبون إلى كون
التحريم خاصًّا بالزمن المتقدم خوفًا من أن يكون ذريعة إلى عبادة الصور، أما الآن
فلا يحرم لانسداد الذريعة؟ وهل يدل على ذلك ترْك الصحابة ما وجدوه في إيوان
كسرى من الصور مع صلاتهم فيه؛ لأنها لمحض الزينة أم لا؟ وما حكم
الاقتناء لها ولو لحاجة، والنظر ولو لضرورة عسر الاحتراز، أو لكونها عند
مَن لا يحرمها؟
أفتونا على صفحات مناركم مأجورين، ولا زلتم قبلة الإفادة، وللصواب
موفَّقين، وبإمداد الله مُعانين. حرره في سنقفوره - د. هـ. ن.
(ج) سبق لنا قول وجيز في هذه المسألة واقتضت الحال الآن بسط
المسألة بالتفصيل، وهو يتوقف على إيراد الأحاديث الصحيحة الواردة فيها،
وملخص ما فهمه العلماء المشهورون منها ، وقد استوفى الإمام البخاري جُل ذلك
في كتاب اللباس من صحيحه، فنعتمد في النقل على ما ورد فيه، فنذكره بغير
عزو إليه غالبًا، ونعزو ما ننقله عن غيره لزيادة فائدة فيه، ونعتمد في تلخيص
أقوال العلماء على ما أورده الحافظ ابن حجر في الفتح؛ فإنه أجمع الكتب التي
نعرفها لذلك ولأمثاله، وإن نقلنا شيئًا عن كتاب آخر نعزوه إليه.
* * *
الأحاديث الصحيحة في التصاوير والمصوِّرين
1-
عن مسلم (هو ابن صبيح أبو الضحى واشتهر بكنيته)، قال: كنا مع
مسروق في دار يسار بن نمير (هو مولى عمر بن الخطاب وروى عنه) ، فرأى
في صُفَّته [1] تماثيل، فقال: سمعت عبد الله (هو ابن مسعود)، قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: إن أشد الناس عذابًا عند الله المصوِّرون) ،
وفي رواية مسلم: (كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال مسروق: هذه
تماثيل كسرى؟ ، فقلت: لا، هذا تماثيل مريم) ، ثم ذكر الحديث.
2-
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما
خلقتم) .
3-
عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: (إني أصور هذه الصور، فأفتني
فيها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصوّر في النار،
يجعل له بكل صورة نفسًا فتعذبه في جهنم) .
وقال: فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر، وما لا نفس له.
ورواه مسلم وأحمد وفي بعض الروايات أن السائل رجل من أهل العراق
أراه نجَّارًا، وفي بعضها أنه قال له: إنما معيشتي من صنعة يدي، وأنه عندما
ذكر له الحديث انتفخ غيظًا، فرخص له بما ذُكر، ونص المرفوع في رواية أخرى:
(مَن صوَّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ،
قال الحافظ ابن حجر وفي رواية أبي سعيد بن أبي الحسن: (فإن الله يعذبه حتى
ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا) ، واستعمال حتى هنا نظير استعمالها في
قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف: 40)، وكذا قولهم:
لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، ثم ذكر أن هذا أمر تعجيز لا من تكليف ما لا
يُطاق، وأنه استشكل في حق المسلم؛ لأنه يدل على الخلود، وأنه يتعيّن تأويله
بإرادة الزجر الشديد، وأن ظاهره غير مراد. اهـ ما ذكره الحافظ ملخصًا، وأقول:
الأوْلى أن يُحمل على المشركين الذين يصنعون ما يُعبد لعبادته كما يُعلم مما يأتي.
4-
عن عمران بن حطان عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه.
التصاليب جمع تصليب وهو مصدر سمي به ما كان فيه صورة الصليب من
ثوب أو غيره، ونقضه أزاله، والإزالة تكون بنحو الطمس والحك واللطخ والقطع،
وقد ذكر البخاري هذا الحديث في (باب نقض الصور) وذكر الحافظ في وجه
مطابقة الحديث للترجمة أنه استنبط من نقض الصليب نقض الصورة التي تشترك
مع الصليب في المعنى، الذي هو سبب التحريم، وهو عبادتهما من دون الله.
5-
عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة فرأى في أعلاها
مصورًا يصور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (
…
ومن
أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة) .
في هذه الرواية حذفٌ عُلم من رواية أخرى، وهو: (قال الله عزوجل:
ومن أظلم ممن ذهب يخلق...... إلخ) ، رواها مسلم، وفيها أن الدار دار مروان،
وفي رواية له: تُبنى لسعيد أو لمروان، قال ابن بطال: فهم أبو هريرة أن
التصوير يتناول ما له ظل، وما ليس له ظل؛ فلهذا أنكر ما يُنقش على الحيطان،
يعني ابن بطال أن هذا الفهم غير صحيح، من حيث إن التشبيه في الحديث القدسي
لا ينطبق عليه، فإن الله تعالى خلق ذوات ماثلة لا نقوشًا في الحيطان ونحوها،
ويمكن أن يقال أيضًا: إن صنع التماثيل ذات الظل - التي شددوا فيها - لا تعد من
هذا الظلم إلا إذا قصد صانعها أن يخلق كخلق الله، وقد فسروا (ذهب يخلق)
بقصد، وهو رواية حديث ابن فضيل، ويؤيده حديث عائشة الآتي (وهو التاسع) ،
إذ قال: (يضاهون بخلق الله)، وفي رواية مسلم: (
…
يشبهون بخلق الله) ،
وإنما يكون هذا بالقصد.
6-
عن ابن عباس عن أبي طلحة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير) .
7-
عن عبد الله بن عمر قال: وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم،
فراث (أي أبطأ) عليه، حتى اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج،
فلقيه، فشكا إليه ما وجد، فقال:(إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب) هكذا
أخرجه البخاري مختصرًا، وهو عند مسلم من حديثي عائشة وميمونة أوضح،
وفي الأول: (ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال: يا عائشة، متى دخل
هذا الكلب ههنا؟ فقالت: والله ما دريت به. فأمر به، فأخرج، فجاء جبريل
…
)
…
إلخ، وفي الثاني: (ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر
به، فأخرج، ثم أخذ بيده ماءً، فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل
…
إلخ) ،
وظاهر الحديثين أن امتناع جبريل كان بسبب وجود الكلب؛ إذ ليس فيهما ذكر
للصور، وفي الأول أنه رأى الكلب عَرَضًا، ولم يكن عالمًا بوجوده، وفي الثاني
أنه كان عالمًا به، وتذكره بعده إبطاء جبريل، وفيهما الخلاف بين السرير
والفسطاط، والأول معروف، والثاني بيت من شعر دون السرادق، وقال النووي:
أصله عمود الأخبية، والمراد به في الحديث بعض حجال البيت، فيطابق حديث
عائشة. اهـ بالمعنى.
وفي القصة حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي
وصححه كابن حبان والحاكم وهو: (أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة، فلم
يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر
فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع،
فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر، فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان
توطآن، ومر بالكلب فليخرج) ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا
الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضد لهم، وفي رواية النسائي: (إما أن
تقطع رءوسها، وإما أن تجعل بسطًا توطَّأ) والنَّضَد بفتحتين: ما ينضد من متاع
البيت، يجعل بعضه فوق بعض، وما ينضد عليه ذلك المتاع من سرير وغيره،
فهو يطابق حديث عائشة من هذا الوجه.
ظاهر هذا الحديث أن الواقعة كانت في بيت علي وفاطمة، وظاهرُ حديثِ
كُلٍّ من عائشة وحفصة أنها كانت في بيتها.
ومن الاضطراب في هذه الروايات أن حديث ابن عمر صريح في أن النبي
صلى الله عليه وسلم خرج، فلقى جبريل خارج البيت، وظاهر حديث عائشة أن
جبريل دخل البيت بعد إخراج الكلب، وصرحت عائشة وحفصة بأنه صلى الله
عليه وسلم أمر بإخراج الكلب قبل لقاء جبريل بعد رؤيته، أو تذكره، وصرح أبو
هريرة بأن جبريل هو الذي أخبره به، واقترح عليه إخراجه، وعادة العلماء أن
يجمعوا بين أمثال هذه الروايات المتعارضة بتعدد الوقائع، وعليه يترجَّح أن يكون
ما رواه أبو هريرة وقع أولاً، فعلم منه النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل لا
يدخل مكانًا فيه كلب؛ ولذلك أمر بإخراج الكلب بعد ذلك لما رآه أو تذكره، لعلمه
مما سبق أنه هو سبب تأخر جبريل، ولكن في حديثي عائشة وحفصة عند مسلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم سبب تأخُّر جبريل عليه السلام؛ لأنه سأله
عنه، فقال - في حديث عائشة -: (منعني الكلب الذي كان في بيتك
…
إنا لا
ندخل
…
)
…
إلخ.
وذكر النووي في سبب الامتناع أربع علل:
1-
كثرة أكل الكلاب للنجاسات.
2-
قبح رائحتها، أي رائحة بعضها.
3-
أن بعضها يسمى شيطانًا، وهو الأسود القبيح المنظر.
4-
النهي عن اتخاذها، ولهذا الأخير قال الخطابي: إن الامتناع خاص بما
نُهي عنه، دون المأذون فيه ككلب الماشية والزرع والصيد، وخالفه النووي، فقال
بالتعميم في الكلاب، ولكنه خص الملائكة بملائكة الرحمة.
8-
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها،
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عني؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض
لي في صلاتي) ، أميطي: أي نحِّي وأزيلي، وفيه حذف المفعول، ورواية مسلم:
(أزيليه) .
9-
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله
صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون
بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو سادتين) .
وفي رواية للبخاري في المظالم، (
…
قالت: فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا
في البيت يجلس عليهما) ، وفي رواية لمسلم: (
…
فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق
بهما في البيت) ، وفي لفظ أحمد: فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئًا على إحداهما،
وفيها صورة، والنمرقة والمرفقة: الوسادة كما سيأتي.
10-
وعنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلى الله عليه وسلم
بالباب فلم يدخل، (قالت) : فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت. قال: ما هذه
النمرقة؟ ! قلت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون
يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصور)
وفي رواية مسلم: (اشتريتها لك؛ تقعد عليها، وتوسّدها) . والفقرة المرفوعة منه:
(إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) .
11-
وعنها قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، وعلقت دُرْنُوكًا
فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه، فنزعته، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: (
…
وقد
سترت على بابي درنوكًا، وفيه الخيل ذات الأجنحة) ، وفي لفظ آخر عنده:
(دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي، وقد سترت نمطًا فيه تصاوير، فنحاه،
فاتخذت منه وسادتين) وستور الدرنوك، والنمط جنس واحد كما سيأتي.
12-
عن بشر بن سعيد عن زيد بن خالد (الجُهني الصحابي) عن أبي
طلحة (زيد بن سهل الأنصاري) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة)
(وفي نسخة (الصور) وفي أخرى (صور) قال بشر: ثم اشتكى زيد (أي
ابن خالد) فعُدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة (وفي نسخة صور) ، فقلت
لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان مع
بشر -: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ ! (وفي نسخة (يوم أول)
فقال عبيد الله: ألم تسمعه حيث قال: (إلا رقْمًا في ثوب) ، قال الحافظ في
رواية عمرو بن الحارث: فقال إنه قال: (إلا رقمًا في ثوب) ألا سمعتَه؟
قلت: لا. قال: بلى قد ذكره. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
13-
وروى مسلم وأبو داود عن زيد بن خالد عن أبي طلحة الأنصاري قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا
تماثيل، قال: فأتيت عائشة، فقلت: إن هذا يخبرني أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لا تدخل الملائكة
…
إلخ، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر ذلك؟ ، فقالت: لا، ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل، رأيته خرج في غزاة،
فأخذت نمطًا، فسترته على الباب، فلما قدم، فرأى النمط عرفت الكراهية في
وجهه، فجذبه حتى هتكه، أو قطعه، وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة
والطين، قالت: فقطعنا منه وسادتين، وحشوتهما ليفًا، فلم يعب ذلك عليَّ) .
قالوا: إن هذا النمط هو الذي فيه الخيل ذات الأجنحة كما تقدم آنفًا من رواية
أخرى عند مسلم، وذكر النووي أن العلماء استدلوا به على منع ستر الحيطان
وتنجيد البيوت بالثياب، وهو منع كراهة تنزيه لا تحريم، هذا هو الصحيح، ثم
رد على مَن حرمه.
وأقول: الظاهر أن هذا الحديث معارض لتلك الأحاديث؛ إذ ليس فيه أنه
أنكر الصور التي في النمط، ويمكن أن يقال إن: هذا وقع قبل امتناع جبريل من
دخول البيت لوجود التماثيل والكلب فيه، إلا أن عائشة حدثت بهذا وبغيره بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسألة مشكلة من هذا الوجه، ومثله حديث أنس
عند البخاري (وهو الثامن مما أوردنا) ففيه: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها
بإماطة القرام؛ لأن تصاويره تعرض له في صلاته، فَعِلَّة الأمر بإزالته أنه يشغل
نظر المصلي إليه، وجماهير الفقهاء متفقون على كراهة الصلاة إلى ما يشغل
المصلي، ولا دليل فيه على إنكار الصور، أو تحريم اتخاذها، ومثله حديثها في
الدرنوك (وهو الحادي عشر) ، ولكن ليس فيه تصريح بالعلة، ومثله حديثها عند
مسلم في الثوب الممدود إلى السهوة، وأما حديثها في القرام (وهو التاسع) ،
وحديثها في النمرقة (وهو العاشر) - فهما صريحان في إنكار اتخاذ الصور بتلك
الهيئة، وقد استشكل ذلك العلماء، وأجاب بعضهم عنه بتعدد الوقائع، وبأن الصور
في بعضها من غير ذوات الأرواح، وهي التي لم ينكرها، وفي بعضها من ذوات
الأرواح كالطير والخيل، وهي التي أنكرها، ويقال هنا أيضًا ما قلناه في حديث
زيد بن خالد عن أبي طلحة، وهو أن عائشة كانت تحدث بذلك بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فلماذا كانت تذكر كل واقعة وحدها، ولم تبين لكل سائل أو
محدَّث كل ما علمته في المسألة؟ ، وهل يعقل أن ينكر النبي صلى الله عليه وسلم
على عائشة عملاً عملته في بيته، فتزيله بأمره، ثم تعود إلى فعله؟ ، كلا، إن
الروايات في هذه المسألة مضطربة، ولم نَرَ لأحد من العلماء قولاً شافيًا فيها.
والذي نراه أقرب إلى الوقوع أن عائشة كانت علقت على الجدار سترًا فيه
تصاوير للزينة، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب الإرشاد إلى ما
يُستحسن في تدبير المنزل، وهو عدم إضاعة الثوب بوضعه على الجدار وضعًا لا
فائدة فيه؛ لأن الثياب لستر الأبدان وزينتها، لا لستر الحجر والطين، ويحتمل أن
يكون هذا هو الذي وقع أمامه في صلاته، وأنه علل أمره بإزالته بكونه يشغل
النظر في وقت الصلاة، وبكونه إسرافًا وإضاعة للثوب، وأن عائشة ذكرت كل
تعليل مرة في سياق كلام اقتضاه، أو ذكرتهما معًا، وذكر الرواة كلاً منهما في
سياق اقتضاه، ويحتمل أن يكون الحديثان في واقعتين، عُلل الإنكار في الأولى
منهما بشغل النظر في الصلاة، وأن الستر كان في الثانية، بحيث لا يراه في
الصلاة، وكل حديث في هذا الباب لم تنكر أو لم تذكر فيه التصاوير فهو محمول
على تلك الواقعة أو الواقعتين، وأما الروايات - التي فيها التصريح بإنكار اتخاذ
التصاوير بتلك الصفة - فالأقرب أنها في واقعة واحدة كانت بعد ما تقدم، وأنها
علقت النمرقة في غيبته؛ إذ كان مسافرًا، فلما عاد، ورآها أنكر عليها، وامتنع
من دخول البيت حتى تنزعها، فلما تابت دخل، وهتكها بيده، أي أزالها، إلا أن
الإخبار بها كان في أوقات مختلفة، فاختلف التعبير باللفظ والمعنى، ومن الأول
القرام والنمط والدرنوك والنمرقة والوسادة والمرفقة [2] ، ويدل على هذا الجمع
قولها: (أتوب إلى الله مما أذنبت؟ !) فلولا النهي السابق لم يكن تعليقها النمرقة
ذنبًا تتوب منه، ولكن في بعض روايات الصحيح أنها قالت: فما أذنبت، ولعل
هذا غلط من بعض الرواة.
14-
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت ألعب بالبنات عند النبي
صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن منه (أي يستترن) ، فيُسَرِّبُهُنَّ (أي يرسلهن) إليّ،
فيلعبن معي) ، أخرجه البخاري في كتاب الأدب من الصحيح.
وقد حرّف بعض المشددين في مسألة الصور هذا الحديث، فزعم أن معنى
قولها كنت (ألعب بالبنات) كنت ألعب مع البنات، قال الحافظ في شرح الحديث:
حكاه ابن التين عن الداودي وردَّه، (قلت) : ويرده ما أخرجه ابن عيينة في
الجامع من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن هشام بن عروة في هذا
الحديث: (وكن جواري يأتين فيلعبن معي)، وفي رواية جرير عن هشام:
(كنت ألعب بالبنات وهن اللعب) ، أخرجه أبو عوانة وغيره، وأخرج أبو داود
والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من
غزوة تبوك أو خيبر
…
فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها،
قالت: فكشف ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟
قالت: بناتي، ورأى فيها فرسًا مربوطًا له جناحان، فقال: ما هذا؟ قلت:
فرس، قال: فرس له جناحان! قلت: ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها
أجنحة؟ ! فضحك) . فهذا صريح في أن المراد باللعب غير الآدميات. اهـ.
15-
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اشتكى النبي صلى الله عليه
وسلم - أي مرض مرض الموت - ذكر بعض نسائه كنيسة يقال لها مارية،
وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتيا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها،
فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم
صوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) ، أخرجه البخاري في
أبواب المساجد وفي الجنائز، وأخرجه مسلم في المساجد.
* * *
أقوال العلماء في فقه هذه الأحاديث
(1)
قال الحافظ - عقب ذكر حديث أبي هريرة المتقدم عن أحمد
وأصحاب السنن ما نصه -: وفي هذا الحديث ترجيح قول مَن ذهب إلى أن
الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه - هي ما تكون على
هيئتها مرتفعة غير ممتهنة. فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة لكنها غيرت عن
هيئتها، إما بقطعها من نصفها، أو بقطع رأسها فلا امتناع.
(2)
ثم قال الحافظ - في إثْر ما تقدَّم -: وقال القرطبي: ظاهر حديث
زيد بن خالد عن أبي طلحة الماضي قبلُ (وهو التاسع مما نقلناه عن البخاري) أن
الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة إن كانت رقمًا في الثوب، وظاهر
حديث عائشة المنع، ويجمع بينهما بأن يُحمل حديث عائشة على الكراهة، وحديث
أبي طلحة على مطلق الجواز، وهو لا ينافي الكراهة. (قال الحافظ:) قلت
وهو جمع حسن، لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه، والله
أعلم.
(3)
قال الحافظ - عند الكلام على حديث النمرقة -: قال الرافعي: وفي
دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان، قال الأكثر: يكره وقال أبو محمد: يحرم،
فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار، كما في ظاهر الحمام أو دهليزها
لا يمتنع الدخول، قال: وكأن السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة، وفي
المجلس مكرمة، (قلت) وقضية إطلاق نص المختصر، وكلام الماوردي وابن
الصباغ وغيرهما لا فرق اهـ.
(4)
اختلفوا في الملائكة التي لا تدخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، فقيل هو
على العموم، وقيل هو خاص بملائكة الرحمة، وتقدم عن النووي، وصرح هؤلاء
بأنه يُستثنَى منه الحَفَظَة، وقيل مَن نزل بالوحي خاصة كجبريل (قال الحافظ:)
وهذا نقل عن ابن وضاح والداودي وغيرهما، وهو يستلزم اختصاص النهي بعهد
النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوحي انقطع بعده، وبانقطاعه انقطع نزولهم،
وقيل التخصيص في الصفة، أي لا تدخله الملائكة دخولَهم بيتَ مَن لا كلب
فيه.
(5)
قال الحافظ: وأغرب ابن حبان فادَّعى أن هذا الحكم خاص بالنبي
صلى الله عليه وسلم، قال: وهو نظير الحديث الآخر: (لا تصحب الملائكة
رفقة فيها جرس) (قال:) فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ إذ مُحال أن يخرج الحاج والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل على رواحل لا
تصحبها الملائكة، وهم وفد الله. انتهى، وقد استبعد الحافظ هذا التأويل، وقال إنه
لم يره لغيره.
(6)
قال: وقد استشكل كوْن الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير مع
قوله سبحانه وتعالى عند ذكر سليمان عليه السلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ
مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيل
…
} (سبأ: 13)، وقد قال مجاهد: كانت صورًا من
نُحَاس. أخرجه الطبري. وقال قتادة: كانت من خشب ومن زجاج، أخرجه عبد
الرزاق.
والجواب أن ذلك كان جائزًا في تلك الشريعة، وكانوا يعملون أشكال الأنبياء
والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة؛ ليتعبدوا كعبادتهم. وقد قال أبو العالية:
لم يكن ذلك في شريعتهم حرامًا، ثم جاء شرعنا بالنهي عنه، ويُحتمل أن يقال: إن
التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملاً لم
يتعين الحمل على المعنى المشكل، وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة
الكنيسة، التي كانت بأرض الحبشة، وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه
وسلم قال: (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا
فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) ، فإن ذلك يُشعر بأنه لو كان جائزًا في
ذلك الشرع ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق، فدل على
أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عُبَّاد الصور، والله أعلم. اهـ.
أقول: لم يأتِ الحافظ رحمه الله بشيء يشفي في هذه المسألة، والذي يظهر
في حل الإشكال أن وجود التصاوير في مكان ليس مانعًا ذاتيًّا لدخول الملائكة فيه؛
إذ لو كان كذلك لم يختلف فيه حكم شرائع الأنبياء عليهم السلام، وأصل دين الله
فيهم واحد، وإنما اختلفت فيه شرائعهم بما يختلف ضره ونفعه وفساده وصلاحه
باختلاف الزمان والمكان، وما ذكره الله تعالى من منَّته على نبيه سليمان عليه
السلام في هذه المسألة - دليل على أن عمل التماثيل له، واتخاذه إياها في مبانيه،
لم يكن فيه مظنة عبادة، ولا تشبه بالمشركين مذكِّر بعبادتهم مؤنس للمؤمن بها.
ومن العجيب أن يذكر الحافظ في تعليل ما كان يعمل لسليمان أنه كان يعمل له
صور الأنبياء والصالحين
…
إلخ، وهذا هو أصل البلاء في عبادة الصور
والتماثيل، فقد روى البخاري وغيره أن أصنام قوم نوح وأوثانهم المذكورة في
سورة نوح صارت إلى العرب، وأن أسماءها كانت أسماء رجال صالحين، فلما
ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها
أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسخ العلم
عُبدت. ويؤيد هذا حديث عائشة في قصة الكنيسة وقد تقدم، فالنصارى قد اتبعوا
سنن سلفهم من الروم واليونان في اتخاذ الصور والتماثيل، فكانوا يجعلون صور
الأنبياء والصالحين في المعابد وغيرها، وهي التي ذمَّهم الرسول صلى الله عليه
وسلم بها، ولم يذمهم على اتخاذ صور الملوك والقواد والوالدين والأولاد وغيرهم
مما لا شبهة فيه على العبادة، ولا دخل له في الدين، فمن العجيب أن يغفل
المستنبط عن علة الشيء الصريحة، ويتخذ له علة أخرى يفسر بها النصوص؛
ليجمع بينها، فيحمل الشيء على ضد المراد، على أن الحافظ ذكر حديث الكنيسة
المصرح بالعلة الصحيحة، ولكنه لم يرد به ما ذكره قبله.
وقد وقع مثل هذا لبعض المؤلفين المقلدين في تشريف القبور بالبناء، ووضع
الستور عليها، فحمل النهي عن ذلك في الأحاديث على ما لم يقصد به تعظيم الميت
الصالح، أي لأنه إضاعة للمال، وأباح ما اتبع به الخلف الصالح سنن مَن قبلهم
من بناء القبور الصالحين، ووضع الستور عليها إذا كان المراد به تعظيمها قياسًا
على أستار الكعبة! ، وهو قياس مصادم للنص، مبطل له، ناقض لعلته، ذاهب
بحكمته، فإن الخطر على أصل الدين - وهو التوحيد - إنما هو تعظيم قبور
الصالحين؛ لأنه أدى عبادتها بالتعظيم والطواف والتمسح ودعاء الموتى،
(والدعاء هو العبادة) ، كما ثبت في الحديث عند أحمد وأصحاب السنن
وغيرهم. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة مِرَارًا.
(7)
نقل الحافظ في شرح حديث عبد الله بن مسعود - وهو الأول مما
أوردنا - عن الخطابي أقدم شُراح البخاري أنه قال فيه: إنما عظمت عقوبة
المصور؛ لأن الصور كانت تُعبد من دون الله؛ ولأن النظر إليها يفتن، وبعض
النفوس إليها تميل، قال: والمراد بالصور هنا: التماثيل التي لها روح. اهـ.
أقول: التعليل الأول هو الصحيح الذي يؤخذ من مجموع النصوص،
واقتصر عليه المحققون، وأما دعوى الافتتان بجمالها، وهذا لا يقع إلا نادرًا فلا
يُبنى عليه مثل هذا الوعيد الشديد، وإنما يظهر وجهه إذا أُريد به الافتتان الديني،
الذي كان عليه الكفار، وهو يرجع إلى التعليل الأول. ومن العجيب أن يجعل
الميل والاستحسان لبعض خلق الله والسرور به مذمومًا شرعًا ومقتضيًا لتحريم
الاستمتاع به، وإن لم يترتب عليه ترك فريضة، ولا ارتكاب معصية. فليحرموا
إذًا النظر والتأمل في زينة الكواكب النيِّرات، والجنات معروشات وغير معروشات،
وجمال رياض الأزهار، ومحاسن حدائق الأشجار، وسماع خرير المياه،
ونغمات الأطيار، وغير ذلك من صنع الله {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل:
88) ، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه} (السجدة: 7) ، وماذا يفعلون بقول
الرسول عليه الصلاة والسلام لمَن سأله عن الزينة في اللباس: (إن الله جميل
يحب الجمال) ؟ رواه مسلم والترمذي من حديث ابن مسعود وغيرهما عن غيره
أيضًا.
(8)
ثم قال - بعد نقل ما تقدم عن الخطابي -: وقيل يفرق بين العذاب
والعقاب، فالعذاب: يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والإنكار، والعقاب:
يختص بالفعل. فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابًا أن يكون أشد الناس
عقوبة، هكذا ذكر الشريف المرتضى في الآية المشار إليها، وعليها انبنى الإشكال،
ولم يكن هو عرج عليها؛ فلهذا ارتضى التفرقة، والله أعلم.
(قال:) واستدل به أبو علي الفارسي في التذكرة على تكفير المشبِّهة،
فحمل الحديث عليهم، وأنهم المراد بقوله:(المصوِّرون) ، أي الذين يعتقدون أن
لله صورة، وتُعُقِّبَ بالحديث الذي بعده في الباب بلفظ: (إن الذين يصنعون هذه
الصور يعذَّبون) ، وبحديث عائشة الآتي بعد بابين بلفظ: (إن أصحاب هذه
الصور يعذَّبون) وغير ذلك، ولو سلم له استدلاله لم يرد عليه الإشكال المقدم ذكره
- أي معارضة الآية للحديث - اهـ، وحديث الباب الذي أشار إليه هو الثاني مما
أوردنا.
وأقول: كان يمكن لأبي علي أن يجيب عن هذا لو أورد عليه بجعْل حديث:
(إن أشد الناس عذابًا عند الله المصورون) - في الذين يجعلون لله تعالى صورة
مماثلة لصور بعض المخلوقات، ويجيب عن معارضة الآية بتقدير (من أشد)
ويتفصى بذلك من جعْل التصوير ككفر آل فرعون مشاركًا له في مثل عقابه،
ومعلوم من أصول الشريعة المجمع عليها أن ما ورد النص بتسميته أكبر الكبائر هو
دون أشد الكفر بالشرك بالله، ومعاندة رسله ككفر آل فرعون؛ إذ كل كبيرة من هذه
الكبائر - التي هي أعظم جرمًا من التصوير المحرم - يجوز أن تُغفر، ولا يعذب
صاحبها أصلاً، فكيف يجرم بأن المصورين أشد الناس أو من أشدهم عذابًا كآل
فرعون. وأما كونهم يعذبون فالأمر فيه دون ذلك، ولا سيما على قول مَن فرق بين
العذاب والعقاب، فلم يجعل كل عذاب عقابًا.
(9)
من أشد الفقهاء تشديدًا في التصوير واتخاذ الصور أبو بكر بن العربي
من المالكية والنووي من الشافعية. وقد جزما بتحريم التصوير مطلقًا، لخص الأول
الأقوال في اتخاذ الصور فقال: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات
أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقًا على
ظاهر قوله في الحديث: (إلا رقمًا في ثوب)، الثاني: المنع مطلقًا حتى الرقم،
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قُطعت الرأس أو
تفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح، الرابع إن كان مما يمتهن جاز وإن
كان معلقًا لم يجز. اهـ. ونُوزِعَ في دعوى الإجماع فيما له ظل، واستثنى
الجمهور لعب البنات كما تقدم، وفيه بحث سيأتي قريبًا.
(10)
قال الحافظ - في شرح حديث الدرنوك -: واستدل بهذا الحديث
على جواز اتخاذ الصور إذا كانت مما لا ظل له، وهي مع ذلك مما يوطأ ويُداس،
أو يمتهن بالاستعمال كالمخادّ والوسائد، قال النووي: وهو قول جمهور العلماء من
الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي، ولا فرق
في ذلك بين ما له ظل، وما لا ظل له، فإن كان معلقًا على حائط أو ملبوسًا أو
عمامة، أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنًا فهو حرام، ثم ذكر الحافظ مؤاخذات فيما
نقله النووي: (منها) حكاية ابن العربي تحريم ما له ظل بالإجماع، وقال: إن
محله في غير لعب البنات، وإن القرطبي حكى - فيما لا يتخذ للإبقاء كالفخار -
قولين: أظهرهما المنع، وجعل إلحاق ما يصنع من الحلوى بالفخار، وبلعب
البنات محل تأمل، (ومنها) أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو
كان معلقًا إلا أن يكون على جدار فيمنع، أي عملاً بحديث: (إن الله لم يأمرنا أن
نكسو الحجارة والطين) .
(11)
قال النووي: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل،
وأما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقًا، وهو مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكره
النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك، ومع ذلك فأمر
بنزعه (قال الحافظ متعقبًا للنووي) قلت: المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن
القاسم بن محمد بسند صحيح، ولفظه عن ابن عون قال: دخلت على القاسم، وهو
بأعلى مكة في بيته، فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء. ففي
إطلاق كونه مذهبًا باطلاً نظر؛ إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله: (إلا
رقمًا في ثوب) ؛ فإنه أعم من أن يكون معلقًا أو مفروشًا، وكأنه جعل إنكار النبي
صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبًا من كونه مصورًا،
ومن كونه ساترًا للجدار. ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم - وذكر تعليل
الحديث المتقدم في ذلك، وقال - فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب
المصور، فلا يساويه الثوب الممتهن، ولو كانت فيه صورة، وكذلك الثوب الذي
لا يستر به الجدار، والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل
زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما
استجاز استعمالها.
ثم رجح الحافظ أن الرخصة فيما يمتهن لا فيما كان منصوبًا، ونقل عن
جماعة من علماء السلف القول بذلك، منها ما روي عن عكرمة: كانوا يكرهون ما
نصب من التماثيل نصبًا، ولا يرون بأسًا بما وطئته الأقدام، وما روي من طريق
عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها تماثيل الطير والرجال. اهـ.
* * *
(المنار)
القاسم بن محمد هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أحد أئمة
التابعين، تربى في حجر عمته عائشة، وتفقه بها، وروى عن غيرها من الصحابة
أيضًا وممن أخذ عنه الزهري وربيعة شيخ الإمام مالك وكثيرون. قال يحيى بن
سعيد الأنصاري: (ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم) ، وعن أبي الزناد
قال: (ما رأيت فقيهًا أعلم من القاسم، وما رأيت أحدًا أعلم بالسنة منه) ، وقال
سفيان بن عيينة: (كان القاسم أعلم أهل زمانه)، وقال ابن سعيد: (كان إمامًا
فقيهًا ثقةً رفيعًا ورعًا كثير الحديث) ، قال أيوب السختياني: (ما رأيت أحدًا
أفضل من القاسم) . انتهى ملخصًا من تذكرة الحفاظ.
(12)
قال الخطابي في شرح حديث اللعب: إن اللعب بالبنات ليس
كالتلهِّي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما أرخص لعائشة فيها؛ لأنها إذ
ذاك كانت غير بالغ. قال الحافظ - عقب نقله -: وفي الجزم به نظر، لكنه
محتمل؛ لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتها، أو
جاوزتها، أو قاربتها. وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعًا فيترجح رواية مَن
قال في خيبر، ويجمع بما قال الخطابي؛ لأن ذلك أولى من التعارض. اهـ.
وأقول: إن هذا ليس بجمع؛ إذ لو كانت لعب البنات محرمة لما أقر النبي
صلى الله عليه وسلم عائشة وصواحبها على اللعب بها، وإن كن غير بالغات، ولما
تركها في بيته. والصواب أن هذه اللعب لا تدخل في عموم ما أنكره من الصور
المعلقة، بل هي أشبه بما أقره من الصور في الوسائد والمرافق في أن كلاًّ منهما لا
يشبه ما كان يُعبد من الصور والتماثيل.
(13)
بعد كتابة ما تقدم كله راجعت ما كتبه الحافظ في شرح حديث كنيسة
مارية في الحبشة المقارن في البخاري لحديث لعن أهل الكتاب لاتخاذهم قبورَ
أنبيائهم مساجدَ، فإذا هو يقول - في شرح الأول في باب: هل تُنبش قبور
المشركين -: وإنما فعل ذلك أوائلهم؛ ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم
الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم،
ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها فاعبدوها.
فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وفي
الحديث دليل على تحريم التصوير، وحمل بعضهم الوعيد على مَن كان في ذلك
الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا، وقد أطنب ابن دقيق
العيد في رد ذلك، كما سيأتي في كتاب اللباس. اهـ.
ثم قال - في شرح الحديث الثاني في باب بناء المسجد على القبر -: وقد
تقدَّم أن المنع من ذلك إنما هو في حال خشية أن يصنع بالقبر ما صنع أولئك الذين
لُعنوا، وأما إذا أمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول بالمنع مطلقًا مَن يرى سد الذريعة،
وهو هنا متجه قوي. اهـ.
ويعني بما تقدم قوله في الكلام على ترجمة الباب السابق:
إن الوعيد على ذلك يتناول مَن اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ومغالاةً، كما
صنع أهل الجاهلية وجرهم ذلك إلى عبادتهم. اهـ.
(للفتوى بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الصُّفَّة بضم الصاد وتشديد الفاء كالظلة وزنًا ومعنى: وتُطلَق على المكان المظلل بفناء الدار أو المسجد، وعن الليث أنها مكان كالبهو مظلَّل مستطيل.
(2)
القِرَام بالكسر: ستر فيه نقوش وتصاوير، وقيل: ثوب من صوف ملون يُفرش في الهودج، أو يُغطَى به، والنمط قال النووي في شرح مسلم: المراد به هنا بساط ليف له خمل، والدرنوك - بالضم كعصفور -: ثوب غليظ له خمل، إذا فُرش فهو بساط، وإذا عُلق فهو ستر، والنمرقة - بضم النون والراء - وكسرهما لغة كلب -: الوسادة يُجلس عليها، وتوضع على الرحل تحت الراكب للينها، وتُتَوَسَّد أيضًا فتسمى وسادة، والوسادة - بتثليث الواو - المخدة التي تتوسد في النوم، أي يوضع عليها الرأس، وتسمى مِخدة بكسر الميم؛ لأنها يوضع عليها الخد عند النوم، وتسمى مرفقة ومرفقًا بكسر الميم وفتح الفاء؛ لأنها يوضع عليها المرفق عند الاتكاء عليها، فاختلاف الأسماء لاختلاف الاستعمال، وقد كان يختلف المسمى بالكبر والصغر كما يختلف الآن، وهو جنس واحد تحديد معناه أنه شبه كيس من نسيج يوضع فيه نحو قطن أو صوف أو ليف، ويُخاط عليه، ومنه ما يُصنع أولاً، وبالذات للنوم، ومنه ما يُصنع للاتكاء أو الجلوس، ثم يُستعمل لغير ذلك عند الحاجة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة الحجاز
(6)
صفة الوقوف بعرفات:
بلغنا عرفات في وقت السحر، فألفينا الخيام قد ضُربت لنا وفُرشت، فنزلنا
فيها، ولما طلع النهار وجدنا أنفسنا بالقرب من مسجد الصخرات، حيث كان
موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأينا أكثر الحجاج في هذا الجانب من
بسيط عرفات وسائر الجوانب والأجواز خالية، وفي بعضها قليل من الحجاج،
ولبعض حجاج الأقطار مواضع خاصة يقفون فيها كل عام، كما يرى القارئ في
صورة الموقف من الفصل السابق. ويقف كثير من عرب الجزيرة في جبل الرحمة
ويصعده كثير من حجاج الأقطار الأخرى كما علم مما تقدم. وكانت خيام الشريف
في موضعها المعتاد من وسط ذلك البسيط، وكان السبب في بُعدها عن مسجد
الصخرات وموقف الإمام أن يسهل على أي فريق من الحجاج الوصول إليه للزيارة
أو الشكوى في زمن قصير.
وإنني - بعد كتابة ما تقدم من وصف عرفات - اطَّلعت على كتاب دليل الحج
لمحمد باشا صادق المصري المهندس، أحد ضباط أركان الحرب، الذي طُبع سنة
1313، فإذا فيه: إن مساحة البقعة المستوية من عرفات (كيلو متر مربع) ، أي
نحو ألفي ذراع بذراع الآدمي - وهو من رؤوس الأصابع إلى المرفق - والذي
يتراءى للنظر أنه أوسع من ذلك، وهذا المكان لا يسع مئات الألوف من الحجاج،
ولكن كثيرًا منهم يقفون في جبل الرحمة وفي غيره مما إلى ذلك البسيط من الجبال،
وجبل الرحمة يرى في المساء مكتظًا بالحجاج من سفحه إلى قنته. وارتفاعه نحو
من ستين ذراعًا (30 مترًا) ، وطوله قريب من ستمائة ذراع (300 متر) ، كما
قال محمد صادق باشا، قال: وأعلى هذا الجبل سطح مستوٍ مبلط بالحجر، مربع
في نحو عشرين مترًا، وفي وسطه مصطبة، طولها سبعة أمتار في (عرض)
سبعة، وارتفاعها متر ونصف، وفي ركنها الغربي عمود، ارتفاعه أربعة أمتار
في عرض مترين، يُرى من أسفل الجبل كمنار للطريق. اهـ.
وأقول: إن هذا منار لا كالمنار، ولا يُشترط في مسمى المنار لغةً أن يُوضَع
في أعلاه أو أثنائه نور، وإنما هو العلم الذي يُهتدَى به، وهذا المنار يراه حجاج
الآفاق من الجهات المختلفة.
قد فاتنا لقلة الحجاج رؤية منظر من أعظم المناظر المؤثرة في النفس،
المحركة لشعور الخشوع والعبودية في القلب، وهو رؤية تلك البقعة الشريفة غاصَّة
بالشعوب الوافدة من جميع أقطار الأرض، ملبّين داعين، باكين خاشعين، يجأرون
إلى الله عز وجل على اختلاف لهجاتهم، الناشئة عن اختلاف لغاتهم، يرددون
الأذكار المأثورة بالعربية، ويدعون الله ما شاءوا بلغاتهم المختلفة.
قال صديقنا محمد لبيب بك في رحلته - بعد وصف عرفات والكلام على
الوقوف -: عند وصول الحجاج إلى هذا الوادي ينزل ركب المحملين (أي
المصري والشامي) بخيامهم قريبًا من جبل الرحمة، يليهما مضارب الحجاج على
اختلاف أجناسهم، وعلى سفح عرفة من عاليه إلى جبل الرحمة - ترى حجيج
الأعراب محتشدين إلى جوف الجبل، بعضهم فوق بعض كالبنيان المرصوص. أما
باقي الحجيج فإنه ينصب الخيام في بطن الوادي الذي يزدحم إليه الناس حتى لا تكاد
ترى فيه مكانًا خاليًا من واقف وقاعد، وجمالهم وحميرهم مربوطة بجوارهم،
وترى الكل في صعيد واحد؛ حتى يتعذر على الإنسان السير إلى جهة أراد، ولو
لضرورة في نفسه، ولو كان مولانا الشريف يأمر بتقسيم وادي عرفة إلى أحذية
أفقية (أي أمكنة متحاذية كالصفوف) ، يقسمها شارع رأسي، ويخصص كل حذاء
لسكنى جماعة من الحجيج وجمالهم من ورائهم. وتوضع لذلك علامات من البناء،
لا يتجاوزها الحجاج في وضع مضاربهم، ولا الجَمَّالة في ربط جمالهم، ويعين لهذا
النظام مَن يحفظه مع الدقة - لكان له شكر الله والملائكة والناس أجمعين.
وفي سعة الوادي ما يضمن لدولته إقامة الكل على الراحة التامة؛ لأن هذا
التزاحم إنما سببه التقرب من مجرى الماء ومن السوق الذي تراه بجوار مسجد
الصخرات (ويباع فيه بعض الأغذية الضرورية) ، وربما كان لتزاحمهم سبب آخر،
وهو خوفهم من الأعراب الذين يكون لهم من ذلك الرحاب عون على النهب والسلب،
وبسبب هذا التزاحم يضل الناس عن أمكنتهم إذا تركوها لأمر ما؛ ولذلك تراهم ينادون
بعضهم - أي أنفسهم - إما بأسمائهم أو بألفاظ اصطلح عليها أهل كل جهة،
حتى إذا سمعها واحد منهم أجابه بصوت عالٍ وقصد مصدر الصوت. وهذه الحركة لا
تكاد تنقطع مدة الإقامة بعرفة. اهـ. وأقول: إننا لم نشاهد شيئًا من ذلك لقلة
الحجاج، وهذا يؤيد ما قلنا من قبل إن التعارف بين الشعوب في عرفة لا يتيسر.
وذكر ابن جبير الأندلسي في رحلته أن الجمع الذي كان في عرفات في سنة
حجه - وهي سنة 579 - لا شبيه له إلا الحشر، وأن المحققين من الأشياخ
المجاورين زعموا (أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعًا أحفل منه، وأنه ما رؤي
- من عهد الرشيد الذي هو آخر مَن حج من الخلفاء - جمع في الإسلام مثله) . ثم
قال: (فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين
باكين وإلى الله عز وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس
بالدعاء قد ارتفع، فما رُؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوبًا خواشع، ولا أعناقًا لهيبة
الله خوانع خواضع، من ذلك اليوم. فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح
وجوههم إلى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب وقد وصل أمير الحاج مع جملة
من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور وأخذ
السَّر واليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جدّ
فجدّ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى، وكان
المُجتمِع منهم في هذا العام عددًا لم يجتمع قط مثله، وكذلك وصل الأمير العراقي
في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخُرَاسانيين، ومن
النساء العقائل المعروفات بالخواتين (واحدتهن خاتون) ومن السيدات بنات الأمراء
وكثير ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع، وقد جعلوا قدوتهم في النفر
الإمام المالكي؛ لأن مذهب مالك رضي الله عنه يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن
سقوط القرصة ويحين وقت المغرب، ومن السر واليمنيين مَن نفر قبل ذلك. فلما
أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعًا
ارتجت له الأرض، ورجفت الجبال، فيا له موقفًا ما أهول مرآه، وأرجى في
النفوس عقباه، وجعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كريم
حنان منان) . اهـ. المراد منه.
* * *
وقوفنا بعرفات وتأويل رؤيا صادقة:
زرت في أثناء النهار الأمير الشريف مع بعض الإخوان فجئت سرادقه راكبًا
فرسًا لبُعده عن موقفنا. ورأيت سوق عرفة وهي بقرب مجرى عين زبيدة كما يُعلم
من الصورة التي نشرناها. ولما رأيت مجرى عين زبيدة هنالك ووجدتها تنحدر
بقوة في مجاريها الواسعة المبنية، تذكرت رؤيا كنت رأيتها بمصر قبل ثورة
الحجاز، وكتبتها وذكرتها لكثير من الناس: رأيت في جمادى الأولى سنة 1334
أنني في مكة المكرمة ومعي رفيق لي، فدخلنا المسجد الحرام، ثم أردنا أن نخرج
لحاجة لنا فسمعنا أذان العصر، فقلت لرفيقي: لا ينبغي لنا أن نخرج، وقد أدركتنا
الصلاة إلا بعد أدائها في المسجد، وبينما أنا جالس في المصلى بالقرب من الكعبة
المعظمة رأيت الشريف حسينًا أمير مكة جالسًا أمامي من جهة يميني قريبًا مني
واعتقدت أنه جاء ليصلي بالناس إمامًا، فالتفت إليَّ من جهة يساره وقال لي:
أبطأت علينا، إننا منذ زمن ننتظر قدومك إلينا. وبعد أن خرجنا - ولم أره صلى
ولا أننا صلينا معه - رأيت معي بعض رجاله، وأننا ذاهبون بأمره إلى أحد دوره
- أي غير دار الإمارة - لأكون فيها ضيفًا عليه، وبَيْنَا نحن نسير غربًا جنوبيًّا
رأيت في شارع واسع ممتد من الجنوب إلى الشمال ماءً غزيرًا صافيًا مندفعًا بقوة
في مجرى واسع مبنِيٍّ بالحجارة، وله فرع إلى الغرب وفرع إلى الشرق، فوقفت
متعجبًا من قوة جريان ذلك الماء وقلت في نفسي: أهذا ماء عين زبيدة؟ ، ما سمعنا
أحدًا من الحجاج ذكره بهذا الوصف، وهذه القوة في الجريان لا تكون إلا بقوة دافعة
كالكهربائية أو البخارية. ورأيت في الطريق دارًا جديدة ممتازة بين دور مكة
ببياضها من الخارج، علمت أنها خاصة بنساء الشريف، وخطر في بالي أن دار
الضيافة التي خُصصت لي سأكون فيها قبل مع الشريف عبد الله أحد أنجال الأمير.
هذا ما رأيته في نومي قبل ثورة الحجاز بعدة أشهر، ولما حدثت الثورة
وأعلن الاستقلال خطر في بالي أنه ربما كان تأويل رؤياي إصلاحًا جديدًا تحيا به
مكة ويمتد إلى سائر الجهات كامتداد ذلك الماء الذي رأيته؛ فإن الله تعالى يقول:
{وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) ، ولما جئت مكة حاجًّا ظهر لي
من تأويل الرؤيا أنه كان معي رفيق، وأنني كنت ضيفًا للأمير، وأنه رحب بي
أحسن ترحيب، وكان ينتظر مجيئي، وأن دار الضيافة كانت في الجهة الغربية من
الحرم الشريف، وأن الشريف عبد الله زارني في هذه الدار، وأنني رأيت دارًا
بيضاء قيل لي: إنها دار حرم الأمير الخاص، وأن الناس تحدثوا بأنه سيبايَع
بالخلافة والإمامة الخاصة قد تؤول بالإمامة العامة، وكل منهما كان متوقعًا، ولم
يقع وأما مصدق الرؤيا في مسألة الماء فلم أشاهده في اليقظة على نحو ما رأيته في
النوم إلا في عرفات، فالمجرى المبني وطوله وامتداده يشبه الذي رأيت إلا أن
سرعة اندفاع الماء وقوته كانتا دون ما رأيت في النوم، والفرق يسير، فهذه الرؤيا
من أوضح الرؤى، وأجلاها تأويلاً، وهي حجة على الذين ينكرون الرؤى الصادقة.
* * *
الحالة الروحية في الوقوف والنفر:
إن الحالة الروحية لا تبلغ الكمال في عرفات ظاهرًا وباطنًا إلا في أصيل ذلك
اليوم العظيم، ففي أول النهار يعرض لأكثر الناس شواغل تشغل حواسهم
وجوارحهم وأفكارهم، منها ضروريات الأكل والشرب، ومنها رؤية المناظر
الجديدة من تلك البقعة الجامعة لشعوب كثيرة، وما يحيط بها من الخيال، فهذه
المناظر تشغل كثيرًا من الناس بصورتها، وشكا في أول العهد برؤيتها، عن
معناها وحكمة كوْن السير إليها والوقوف فيها عبادة لله تعالى، وفي أثناء النهار
يأكل الناس طعامهم، ويستريح أكثرهم في خيامهم ومضاربهم، أو في ظلال
الجبال، ولا سيما إذا كان الحر شديدًا، فإذا جاء وقت العصر جمعوا متاعهم وشدوا
رحالهم وفرغوا قلوبهم للذكر والدعاء، وازدحموا عند موقف الخطيب من جبل
الرحمة، حرصًا على سماع الخطبة، أو الاشتراك مع الألوف من إخوانهم في التكبير
والتلبية، وقد بينَّا في المناسك أن الشرع لم يجعل لعرفة ذكرًا ولا دعاءً خاصًّا،
بل ترك ذلك للأفراد. ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي بعرفة في
الخطبة ولا في غير الخطبة، ولكن صح أنه كان يلبي بين المشاعر ذهابًا وإيابًا،
وهي منى ومزدلفة وعرفة. ودعا على ناقته بعرفة رافعًا يديه، ولم يرد في الصحاح
نص ذكره ولا دعائه، واستحسن العلماء ذكر ما ورد في الضعاف كقول: (لا إله إلا
الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء
قدير) روي عن عدة من الصحابة مرفوعًا، وإنه خير ما يقال.
قضينا جل نهار عرفة بذكر الله والدعاء وتيسر لي - والحمد لله - الاغتسال
فيه، وصلينا الظهر والعصر جميعًا في مسجد الصخرات، ورأينا هنالك خطيب
عرفة وهو نائب الشرع بمكة وقد صعد بناقته، فاستوى على تلك الصخرة من جبل
الرحمة ذات التاريخ الإسلامي العظيم، وقد أحاط به الناس وازدحموا من حوله،
يسمعون منه أحكام المناسك، ومن دونه ومن فوقه في الجبل ألوف من الناس يشاهد
بعضهم بعضًا، ويراهم مَن في السفح ومن في بسيط عرفات كلها؛ لأن الجبل
مدرَّج يشبه ما يتخذ في بعض المدارس الكبرى من المقاعد ذات الدرج المقوسة التي
تسميها الفرنجة (نفيتاترو) وكلما لبى وكبر الخطيب لبى من حوله وكبروا وأشاروا
بأطراف أرديتهم البيضاء أو مناديلهم ويتبعهم في التلبية والإشارة كل من هنالك من
قمة الجبل إلى سفحه، فيلبي سائر الناس ويكبرون، فيتموج بأصواتهم الهواء،
وترتج الجواء، حتى تصل إلى عَنان السماء، بل تخترقها حاملة ذلك الذكر والثناء،
والضرعة والدعاء، إلى مَن استوى إلى عرشه المجيد، وهو أقرب إلى عبده من
حبل الوريد. فيا له من موقف ما أعظمه! ، وما أصدق مَن شبهه بيوم القيامة،
وقد يكون التشبيه على أكمله في ذلك المساء؛ فإنه وقت يكون فيه لكل مؤمن من
الشغل بنفسه والتوجه إلى ربه، ما لا يعهد مثله في وقت من أوقات حياته، يشعر
والناس محيطون به من كل جانب - بأنه في خلوة لا يشغله فيها عن ربه شاغل،
ولا يشوب خشوعه له وبكاءه من خشيته وسروره بمناجاته رياءٌ ولا سمعةٌ، بل لا
يكاد يخطر بباله أن أحدًا هنالك يرى أبدًا.
فما أعجب شأن هذا الاجتماع العظيم الذي يجمع كل مَن شهده بإيمان وعرفان،
بين مزايا عبادة الخلوة وعبادة شعائر الاجتماع، بل أقول: إن له مزية على سائر
الشعائر، لا يعرفها إلا مَن ذاقها.
وقبيل الغروب أقبل الشريف أمير مكة بموكبه الحافل، حتى صعد أدنى جبل
الرحمة، فكان قريبًا من موقف الخطيب وتلاه ركب المحمل المصري، وحينئذ
أطلقت المدافع، وعزفت المعازف (الموسيقى) واستعد الناس للدفع من عرفة،
لأجل مبيت تلك الليلة بمزدلفة، وبدأ الدفع بعد الغروب. فركبت السيدتان هودجهما،
وسار الرفيقان الكريمان والخدم معهما، وتفضل السيد الزواوي بإرسال نجله
السيد عبد الرحمن معهم وعهدنا إليه أن يذهب بهم إلى منى ليلاً بعد أداء أدنى ما
يجب من المقام بمزدلفة ويعبر عنه بالمبيت، ورافقني هو، فدفعنا معًا على دابتين،
فقطعنا ذلك الطريق، في ذلك الوقت المعتدل اللطيف. ونحن نجأر إلى الله تعالى
بالتلبية والتكبير، ولقد وصفنا تأثير التلبية في الطريق بين جدة ومكة، وأين تأثير
طريق مكة من تأثير عرفة؟ وما أبعد الفرق بين حال المبتدئ بهذه العبادة - عبادة
المناسك - الذي لم يذق منها إلا طعم الإحرام والتلبية، وبين من شاهد بيت الله عز
وجل وطاف به كثيرًا وسعى بين الصفا والمروة متذكرًا تلك الآيات البينات، ثم
أقام ركن الحج الأكبر وهو الوقوف بعرفة فامتلأ قلبه إيمانًا وعرفانًا وانثنى بين
الألوف من الموحدين، يكبر الله على هدايته تكبيرًا، ويكرر التلبية له تكريرًا؟ !
* * *
(المبيت بمزدلفة وقصر الصلاة وجمعها)
الإلمام بمزدلفة ليلة النحر وذكر الله عند المشعر الحرام (أي فيها) واجب
وجعله بعض علماء الأثر ركنًا، وقد ثبت في السنة التعجل بالضعفة كالنساء
والصبيان بالإفاضة من مزدلفة إلى منى بعد غياب القمر. وأدنى الواجب الوقوف
فيها ليلاً لذكر الله تعالى وأما المبيت إلى الصباح فهو سنة كما بينا في المناسك.
نزلت مع السيد الزواوي بفناء مسجد المزدلفة فصليت هنالك المغرب والعشاء
قصرًا وجمعًا. والسيد لا يقصر في عرفة ومزدلفة ولا يجمع؛ لأنه مكي شافعي،
والشافعية لا يجيزون القصر والجمع إلا في السفر الطويل، والحنفية يوجبون
الجمع في المزدلفة لأجل النسك، والتحقيق عند أهل الحديث أن القصر عزيمة
والجمع رخصة في كل سفر طويل أو قصير، وأن الجمع في المشاعر أفضل
للاتباع، وناهيك باتباعه صلى الله عليه وآله وسلم في أعمال حجة الوداع التي علَّم
فيها الألوف المناسك وغير المناسك، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب.
قال الحافظ ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر
والعصر بعرفة وكذلك مَن صلى مع الإمام، وذكر أصحاب الشافعي أنه لا يجوز
الجمع إلا لمَن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخًا إلحاقًا له بالقصر (قال) : وليس
بصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع، فجمع معه مَن حضره من المكيين
وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجمع.
كما أمرهم بترك القصر فقال: (أتموا؛ فإنا سَفْر)[1] ، ولو حرم الجمع
لبينه لهم؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قال: ولم يبلغنا عن أحد من
المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة والمزدلفة، بل وافق عليه مَن لا يرى الجمع في
غيره. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناسك الحج بعد أن ذكر صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم الظهر والعصر جمع تقديم ببطن عرنة في حدود عرفة وخطبته هناك
ما نصه: ويصلي بعرفة والمزدلفة ومنى قصرًا، ويقصر أهل مكة وغير أهل مكة
وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة والمزدلفة ومنى كما كان أهل مكة يفعلون خلف النبي
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يأمر النبي صلى الله
عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدًا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة
ومزدلفة ومنى: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ،
ولكن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في غزوة الفتح لما صلى
بهم بمكة. وأما في حجه فإنه لم ينزل بمكة ولكن كان نازلاً خارج مكة وهناك كان
يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما
رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه ولم يقل لهم أتموا
صلاتكم فإنا قوم سفر، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم السفر لا بمسافة ولا
بزمان، ولم يكن بمنى أحد ساكنًا في زمنه؛ ولهذا قال:(منى مناخ من سبق)
ولكن قيل: إنها سكنت في خلافة عثمان وإنه بسبب ذلك أتم عثمان الصلاة؛ لأنه كان
يرى أن المسافر يحمل الزاد والمزاد. اهـ.
وذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي ما تقدم عن المناسك مختصرًا وزاد
أنه ليس على المسافر جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم عرفة
ولا في سفر آخر. وأقول: إن عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة
بالإتمام في منى وما بعدها ينطبق على حديث أنس (كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين) رواه أحمد ومسلم
وأبو داود وصرحوا أن الشاك في الأميال والفراسخ شعبة لا أنس. وقال
الحافظ في الفتح: إن هذا أصح حديث وأصرحه في المسألة.
مكث السيد الزواوي معي قليلاً في المزدلفة ثم ذهب إلى منى وأوصى الخادم
بإحضار دابتي في الصباح، فنمت ساعات، واستيقظت في وقت السحر، وقد
سخر الله تعالى لي رفاقًا من خير الناس بتّ بجوارهم، وقد عرف الزواوي منهم
رجلاً مكيًّا، اسمه الشيخ علي مؤمنة، فلما استيقظت وجدتهم أيقاظًا، فطلبت منهم
ماءً، فتوضأت وصليت الوتر إحدى عشرة ركعة فلما أتممت صلاتي وجدتهم قد
أحضروا الشاي وخصني كبيرهم بإبريق نظيف من نوع جيد منه وقدم لي معه
صحنًا فيه لوز مقشور وصحنًا فيه هشة من الكعك المعروف بالقراقيش فأصبت من
ذلك كله شاكرًا لهم. وطفق كبيرهم يسألني أسئلة في السنة والاتباع والابتداع
واختلاف العلماء والصوفية ويتلقى أجوبتي عنها بالقبول مسرورًا بما جليتها به
الشرح والتفصيل. وهذا الرجل بخاري الأصل يعرف العربية، وكنت توهمت أنه
داغستاني وقد ساح في كثير من البلاد، وقد فهمت أنه جاور في مكة المكرمة وأنه
يخرج كل سنة منها إلى عرفة ببعض أصحابه في الموسم مشاة ويعودون مشاة. وقد
اختلف العلماء في أي الأمرين أفضل في المناسك في المشي أم الركوب؟ ، فقيل:
المشي؛ لأنه أقرب إلى التواضع وأعون على الدعاء، وقيل بل: الركوب تأسيًا
بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يفعل إلا الأفضل والأكمل ويمكن أن يقال: إن
الأفضل لأهل الآفاق وللضعفاء من أهل مكة الركوب وإن الأقوياء من المقيمين بمكة
قد يكون المشي أفضل لهم من عدة وجوه، منها مشاركة أهل الآفاق ببعض مشقة
السفر وإن ذلك لا ينافي الاتباع.
وقد سألت السيد الزواوي عن هذا الشيخ وعن رفيقه الخاص الشيخ علي
مؤمنة وكلفته بعد عودتي أن يسأل عنهما، فكتب إليَّ أن الثاني نشأ من صغره محبًّا
للعزلة والبعد عن كبراء الدنيا وهو على الدوام يخدم العلماء وأهل الطريق من
الغرباء ومنهم الشيخ حسام الدين البخاري صاحبكم في المزدلفة، ويقول تلميذه
الشيخ علي مؤمن إنه أقام في مصر مدة طويلة وخرج منها في العام الماضي مأمورًا
عليه (كذا) بالوصول إلى مكة والإقامة بها هذا العام وهو الآن موجود في أحد
أربطة البخارية بحارة جياد، لا يخالط أحدًا، لا يعرف ولا يُعرف، مواظبًا على
الجمعة والجماعة كتلميذه الشيخ علي. ولما طلع الفجر صلينا مع الجماعة ثم ذهبنا
حول المسجد نجمع الحصا لرمي الجمار فلما جمعناها ركبت دابتي وسرت وسار
أصحابي مشاة قاصدين منى.
* * *
الإفاضة إلى منى ورمي جمرة العقبة
أفضنا من مزدلفة ملبين مكبرين قبل طلوع الشمس عملاً بالسنة، ومخالفة لما
كان عليه عمل الجاهلية من تأخير الإفاضة منها إلى طلوعها، ومن السنة المبنية
على سبب تاريخي هنالك الإسراع المعتدل في السير في بطن محسر لا فرق في
ذلك من الماشي والراكب. وتقدم أن بطن مُحَسِّر - بتشديد السين المكسورة - هو
الوادي الفاصل بين منى ومزدلفة. قال بعض العلماء: إن حكمة الإيضاع فيه أن
أهل الجاهلية كانوا يقفون فيه ويذكرون مفاخر آبائهم، ففي الإسراع فيه إظهار
البراءة من ذلك. وقال بعضهم: إن هذا المكان هو الذي أهلك الله تعالى فيه
أصحاب الفيل، الذين جاءوا من طريق اليمن لهدم بيته المحرم؛ فاستحب الإسراع
في الخروج منه؛ لأنه كان موضع سخط الله تعالى وعذابه لأولئك الظالمين
المعتدين، ويستحب مثل ذلك في كل مكان مثله كديار ثمود.
ولما وصلنا إلى منى قصدنا الجمرة الكبرى جمرة العقبة وكانت الشمس قد
ارتفعت فرميناها بسبع حصيات، نكبر مع كل حصاة. وفي مثل هذا الوقت رماها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم راكبًا، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم جعل
البيت عن يمينه ومنى عن يساره ورمى. وأنه كان يكبر مع كل حصاة، وأنه قال:
(اللهم اجعله حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا) .
وبعد الرمي جئت الدار المعدة لنزولنا فيها، فإذا هي من أعظم دور منى حُسنًا
وسعة وهي لصديقنا الشيخ محمد نصيف، فرأيت السيدتين في قسم النساء منها،
والرفيقين في قسم الرجال، والجميع كما أحب، وأعطيت لوكيل الخرج دراهم
ووكلته بشراء النسك والذبح عني. وقد قصصت قليلاً من شعر رأسي بيدي، ولم
يتيسر لي الإتيان بحلاق إلى الدار؛ لأنني أريد الإفاضة إلى مكة لأجل طواف
الركن. وفي حديث أنس عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة
فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن،
ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس.
ومتى شرع الحاج في رمي جمرة العقبة مكبرًا تنقطع التلبية التي شعار الحج،
ويستبدل بها التكبير الذي هو ذكر الله في العيد، ومتى رماها وحلق شعر رأسه
أو قصره حل له كل ما كان محرمًا في النسك إلا ملامسة النساء؛ فإنها لا تحل إلا
بالتحلل الأخير بطواف الإفاضة.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
السفر بفتح السين وسكون الفاء: جماعة المسافرين كالشرب جماعة الشاربين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحرب والصلح
عقدت الهدنة بين الروس وأعدائهم وألف الفريقان لجنة من مندوبي كل دولة
منهما للبحث في شروط عقد الصلح، وفي عدد جريدة الأهرام - الذي صدر في
11 ربيع الأول - أن وزير خارجية الألمان الذي رأس الجلسة الأولى جعل
الغرض من الاجتماع إعادة الصلات الاقتصادية والأدبية إلى ما كانت عليه قبل
الحرب. وأن الوزير الروسي (كامنف) تلا برنامج حكومة الروس المعروف الذي
تقترح جعْله أساسًا للصلح العام، وخلاصته أن يكون الصلح بلا ضم ولا غرامة.
وأن يُعطى كل شعب تحكمه أمة أخرى الحرية والاستقلال، إما بالاعتماد على رأيه
بعد سحب القوة الغاصبة من بلاده، وإما بالاعتماد على الرأي الذي أظهرته صحافة
ذلك الشعب وجمعياته. وتعد حكومة روسية مواصلة القتال لتقتسم الشعوب الغنية
الشعوب الصغيرة الفقيرة جريمة لا تُغتفر!
ثم قالت الأهرام: وقد جاءنا اليوم بيان أتم عن مطالب الروس: (1)
العدول عن كل ضم وفتح بالقوة. (2) إعادة استقلال البلاد التي اجْتِيحت. (3)
منح كل عنصر الحق بأن يختار الحكم الذي يريده. (4) التفادي عن ضرب
الغرامة الحربية وتقرير التعويض على الأفراد. (5) إنشاء صندوق دولي من
أموال الجميع لدفع التعويضات.
ثم ذكرَتْ أمرًا ثالثًا أُعلن في الجلسة وهو (رغبة الألمان بأن يشترك جميع
المتحاربين بمفاوضات الصلح حتى تقررت دعوة مندوبي فرنسا وإنكلترة وإيطالية
والولايات المتحدة إلى المفاوضات) .
ومن الناس من يرتاب في إخلاص الدولة الألمانية في إظهار ارتياحها إلى
دخول جميع الحلفاء في مؤتمر الصلح ولا يرتابون في إخلاص النمسة، ويرى
هؤلاء أن إيعاز الأولى إلى حكومة (البولشفيك) الروسية التي لم يعترف بها
الحلفاء بأن تدعوهم إلى الاشتراك معها في مفاوضات هذا الصلح في بلادها يراد به
اضطرار الحلفاء إلى الإباء والرفض، ويؤيد ذلك ما قاله السنيور (أورلندو) رئيس
وزارة إيطالية في خطابه بمجلس الشيوخ وهو: إنه قد حان الوقت لكشف الغطاء
عن ألاعيب دولتي الوسط اللتين تبذلان كل وسيلة لشد عزائم شعوبهما ولتسويد
صفحة خصومهما بادعائهما أنهما تريدان الصلح وأن الحلفاء يرفضونه. فالحلفاء
هم الذين يريدون الصلح وهم وحدهم يريدونه ولكنهم يريدونه على شكله الممكن أن
يجعله صلحًا عادلاً شريفًا دائمًا باتفاقات جلية صادقة. أما إمبراطوريتا الوسط فإنهما
تتبعان خطة غريبة، تطلبان بها من الحلفاء أن يعودوا إلى مواصلتهما على يد
حكومة لم يعترف بها الحلفاء؛ لأنهما حكومة وقتية إلى أن تجتمع الجمعية
الدستورية؛ ولأن شطرًا كبيرًا من روسيا لم يعترف بها.
هذا من حيث الشكل، وأما من وجهة الجوهر في مقترح الصلح فإن مندوب
البولشفيك يظن أن باستطاعته أن يقول إن الشطرين الأولين من مقترحات الصلح
مقبولان، وهما أولاً إعادة الممالك التي فقدت استقلالها من جراء الحرب، وثانيًا
الجلاء عن الأراضي التي احتلت مع العدول عن الضم، وإنكم لترون أن في هذا
القول ضلالاً، ففي الحقيقة أن الشطر الثالث المتعلق بالشعوب الخاضعة لأمم
ليست منها - لم يقبله الألمان والنمسويون. (وضرب لذلك مثل أمانيهم القومية
والإلزاس واللورين) .
ثم رغب الخطيب في بيان ضرر العودة إلى الحالة القديمة؛ لأنه ليس في هذا
القول ضمانة إذا ما قبل الشرطان اللذان قال بهما البولشفيك أولاً؛ لأن
إمبراطوريتي الوسط أعلنتا أنهما لا تنويان إزالة الاستقلال السياسي من البلاد التي
احتلتاها فلفظة (الاستقلال السياسي) لا تنفي الاعتداء على الاستقلال الآخر
كالاستقلال الاقتصادي مثلاً؛ ولأنها لا تتضمن أيضًا عودة المملكة المستقلة إلى
جميع أراضيها كاملة. أضف إلى ما تقدم أن لفظة (استقلال الشعوب) هي لفظة
مبهمة لا تزيل الشكوك وما تضمره دولتا الوسط من المطامع فإنهما تقولان: إنهما لا
تريدان ضمًا بالقوة، ومعنى ذلك أنهما تنويان ضمًّا بغير قوة. فمتى إذن يمكن أن
يوصف الضم بالقوة؟ ، فالجواب على ذلك أن الأمر معلق على وجود القوة وعلى
شكل الخيار الذي يعرض على الشعوب الموجودة تحت نير الغازي، أضف
إلى هذا هل يعتبر الضم ضمًّا عند ما لا يمكن ذكر الضم بالقوة في المعاهدات
الدولية.
فبالصيغة التي تعرضها دولتا الوسط صيغة مبهمة تتحمل الريب والشكوك،
وتدلنا على أننا لا نزال بعيدين جدًّا عن المبدأ الأول الذي يمنع كل الضم) اهـ
المراد منه نقلاً عن عدد 4 يناير من الأهرام.
وقد أفادت البرقيات المنشورة بهذا التاريخ أن مفاوضات الصلح أوقفت؛ لأن
ألمانية تزعم أن شعوب الولايات أو الممالك الأربع التي انتزعتها من الروسية -
وهي البولندية والكورلندية واللتوانية والأستونية - قد جهرت برغبتها في الانضمام
إلى ألمانية فيجب أن تكون ألمانية، وإن الروس ينكرون عليها ذلك، وإن وزير
خارجيتهم تروتسكي خطب في اللجنة المركزية لحزب العمال والمجندين فأنكر ذلك
أشد الإنكار؛ لأن إظهار الشعب الرغبة في مسألة الحكم لا يكون صحيحًا مع وجود
الاحتلال الأجنبي والقوة العسكرية. وفي برقية لروتر من لندن وردت في 2 يناير
أن اللجنة أقرت الوزير الخطيب على خطابه، ووضعت قرارًا بفحواه، قالت في
آخره:
فنحن ندافع عما لبولندا ولتوانيا وكورلندا من الحق في بت مصيرها،
والحكم في مستقبلها بتمام الحرية، ونقول لشعوب النمسا وألمانيا وبلغاريا وتركيا
اذكروا أن التعجيل في عقد صلح ديمقراطي يتوقف عليكم، فقد سالت دماؤكم
وأصابكم الإعياء والجهد في حرب عديمة المثيل، فلا تسمحوا لدعاة السلطة والفتح
من النمسويين والألمان أن يحاربوا روسية الثورية لإخضاع بولندا ولتوانيا وكورلندا
وأرمينية.
(المنار)
قد سبقنا فبيَّنَّا في الجزء الأول من هذا المجلد ما قررته الروسية ورئيس
الوزارة الإيطالية اليوم في مسألة حرية الشعوب واختيارها لكل الحكومة الذي
ترضاه لنفسها، وبينا في الجزء الرابع - الذي قبل هذا - أهم ما يشترط الحلفاء
للصلح. وبعد كتابة ما تقدم وإعداده للطبع جاءنا البرق بخطبة رئيس الوزارة
البريطانية، ثم بخطبة رئيس الولايات المتحدة، وهما أصرح ما قاله الحلفاء في
أسباب الحرب وشروط الصلح، ويعد ناسخًا لكل ما يخالفه * سيد القول ما يقول
الرئيس * وسيعلم منهما حقيقة غرض الحكومة الألمانية، وهل هي تريد الصلح
حقيقة فيما تتخذه من الوسائل الصورية له كما يقال، أم تريد به إيقاع الشقاق بين
أعدائها كما قال رئيس الحكومة الإيطالية، أو إقامة الحجة عليهم بأنهم هم طلاب
الحرب والفتح كما يظن كثير من الناس. ولعل هذه الصراحة من الحلفاء تضطرها
إلى التصريح بشروط الصلح التي ترضاها، فإنها لما تصرح بشيء إلا طلب حرية
البحار.
ونسأل الله تعالى أن ينصر الحق والعدل وحرية الشعوب المستضعفة على
الباطل والظلم وقوة الاستبداد والاستعباد، ويكشف عنها حجب الخداع والرياء. إن
ربي سميع الدعاء.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تنبيه
اضطررنا إلى تأخير تتمة الشيخ سليم البشري.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل واتخاذها
(تابع لما في الجزء الخامس)
(ملخص ما تقدم من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء في شرحها وفقهها)
أما الأحاديث فتلخص في سبع مسائل:
(1)
أن المصورين يعذبون يوم القيامة ويكلفون إحياء ما صنعوا تعجيزًا،
ووصفهم بالظلم الشديد لقصدهم مضاهاة خلق الله.
(2)
لعن المصور كما لُعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال فيهم: إنهم
كانوا يصورون الصالحين منهم، ويضعونها في معابدهم، ووصفهم بأنهم شر الخلق.
(3)
إنكار نصب الستور التي فيها الصور والتماثيل وهتكها أي إزالتها.
(4)
تعليل الإنكار تارة بأننا لم نؤمر بكسوة الحجر والطين، وتارة بكونها
في المصلى تعرض للمصلي في صلاته، وتارة بعدم دخول الملائكة بيتًا فيه صورة
أو كلب.
(5)
اتخاذ الثياب التي فيها الصور وسائد ومرافق واستعمال النبي صلى
الله عليه وسلم لها مع بقاء الصورة فيها، كما صرح به في رواية الإمام أحمد.
(6)
أن تغيير الصورة الحيوانية بما تصير به أشبه بالشجر - كقطع رأسها
- يبيح اتخاذها. وفي معناه فتوى ابن عباس للمصور العراقي.
(7)
نقض التصاليب وإزالتها.
وأما الآثار عن الصحابة والتابعين في المسألة:
(فمنها) استعمال زيد بن خالد الصحابي للستر الذي فيه الصور، وهو أحد
رواة حديث: (إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة إلا رقْمًا في ثوب) ، فهو لم
يشترط أن يكون الثوب الذي فيه الصورة مهانًا.
(ومنها) اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعين القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي
الله عنه الحجلة التي فيها تصاوير القندس والعنقاء، وهو ربيب عمته عائشة
الصديقة، وأعلم الناس بحديثها وفقهها، وقد روى عنها حديث النمرقة.
(ومنها) استعمال يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وخازنه - الصور في داره. وقد روى عن عمر وغيره، وهو من الثقات كما قال
ابن سعد وابن حبان.
(ومنها) صنع الصور في دار مروان بن الحكم أو سعيد بن العاص وكل
منهما ولي إمارة المدينة، وكانا من التابعين، روى الشيخان عن الأول ومسلم عن
الثاني، وهو خير من الأول. وقد انتقد على البخاري روايته عن مروان، وأجابوا
عنه بأنه ثقة في الحديث وإنما ذنوبه عملية سببها السياسة، أعاذنا الله من شرها
وشر أهلها. وعمل مروان لا قيمة له في الاحتجاج إلا أنه يدل على أن التصوير
كان مستعملاً في عصر الصحابة، ولكن أبا هريرة أنكر ما رآه في داره، وكان من
أعلم الصحابة بأحداث بني أمية، وأخبر بعضها قبل وقوعها. وكذلك أنكر ابن
عباس على المصور العراقي تصويره للحيوان، وأفتاه بتصوير النبات.
وأما أقوال العلماء في شرحها وفقهها، فمنهم مَن شدد فيه ومَن خفف، وأشهر
المشددين من محققي الفقهاء من القرون الوسطى أبو بكر ابن العربي والنووي فقد
جزما بتحريم التصوير مطلقًا، وإن كان الأصل أن ما حلّ اتخاذه واستعماله حل
صنعه.
وقال الأول: إن ما له ظل كالتماثيل ذات الأجسام يحرم اتخاذه بالإجماع،
وبين الحافظ ابن حجر أن حكاية الإجماع غير صحيحة؛ لتصريح الجمهور بحل
لعب البنات لصحة الحديث بذلك، ونقل عن القرطبي حكاية قولين فيما لا يتخذ
للإبقاء كتماثيل الفخار، وجعل إلحاق ما يصنع من الحلوى بالفخار وبلعب البنات
محل تأمل. وأقول: إن تماثيل الحلوى التي تصنع بمصر في أيام الموالد أقل بقاءً
مما يصنع من الفخار؛ لأنها لا تلبث أن تؤكل، وهي تؤخذ للأطفال كلعب البنات،
فالقول بحلها أظهر من القول بحل ما يتخذ من الفخار، وأما ما لا ظل له من
الصور فحكيا في اتخاذه أربعة أقوال: (1) الجواز مطلقًا، (2) المنع مطلقًا،
(3)
تحريم ما كانت الصورة فيه تامة، وجواز ما قطع رأسها أو تفرقت أجزاؤها،
(4)
جواز ما يُمتهن دون ما كان معظمًا كالمعلق. وقد رجَّحا الثالث ورجَّح
الحافظ ابن حجر الرابع.
وقد علم من هذا التفصيل كلام المحققين بالإجمال. ومن التفصيل فيه قول
الحافظ: مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو كان معلقًا إلا أن يكون على
جدار، ومذهب القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أن ما لا ظل له لا بأس
باتخاذه مطلقًا، فقد صح أنه كان في بيته بمكة حجلة فيها تصاوير كما تقدم، ومنه
حمل أبي علي الفارسي الوعيد بعذاب المصورين على المشبهة الذين يعتقدون أن لله
تعالى صورة كصور خلقه، تعالى عن ذلك، وجعل الحافظ ابن حبان حديث امتناع
الملائكة من دخول بيت فيه صورة خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل
بعضهم إياه خاصًّا بملائكة الوحي ومقتضاهما أنه انقطع، وجعله الكثيرون خاصًّا
بملائكة الرحمة، وخصَّصه بعضهم بالصفة، كما تقدم في (ص 229) ، ومنتهى
التخفيف قول بعضهم: إن الوعيد على تحريم التصوير خاص بمن كان في ذلك
الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا. وردّه ابن دقيق العيد كما قال
الحافظ في الفتح.
والتحقيق أن الأصل في الوعيد على التصوير قسمان: أحدهما: لا يتحقق إلا
بالقصد، وهو مضاهاة خلق الله كما تقدم في الكلام على الحديث. وثانيهما: لا
يُشترط فيه قصد علة الحصر، وهو كما يؤخذ من حديث كنيسة الحبشة، ومما
صرح به المحققون من المتقدمين والمتأخرين في شرحه وشرح غيره، وهو سد
ذريعة عبادة صور الأنبياء والصالحين وغيرهم، ومثله الوعيد على بناء المساجد
على القبور، لا فرق بينهما ألبتَّة. فيأتي فيه ما قاله الحافظ في شرح الحديث من
(باب بناء المسجد على القبر) من صحيح البخاري، وهو كما في آخر (ص
235) من جزء المنار الماضي. وقد تقدم أن المنع من ذلك إنما هو في حال خشية
أن يضع بالقبر ما صنع أولئك الذين لُعنوا. وأما إذا آمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول
بالمنع مطلقًا مَن يرى سد الذريعة، وهو هنا متجه قوي. اهـ.
ويمكن أن يقال: إن سد الذرائع يختلف باختلاف الأزمنة وباختلاف أنواع
الصور ولما كانت التماثيل والصور المعظمة في الجاهلية تعظيم العبادة هي صور
ذات الأنفس أذن ابن عباس رضي الله عنه للمصور الذي استفتاه بتصوير الشجر
وما لا نفس له. ولما صارت صور ذات الأنفس لمجرد الزينة، وزالت مظنة العبادة
- اتخذ بعض أئمة السلف بعض الصور في بيوتهم، كما ترك الصحابة الصور في
إيوان كسرى. ولا نقول: إن ذريعة تعظيم الصور -تعظيم ديانة وعبادة - قد زال
في هذا الزمن، وإن علة التحريم انتفت، كما قال مَن جعل التحريم كالمنسوخ
لجعْله خاصًّا بالعصر الأول؛ إذ لا شك في أن تصوير الأنبياء والأولياء، وكل مَن
يغلو في تعظيمه العوام، أو اتخاذ تماثيل لهم قد يفضي إلى العبادة. كما رأينا نظير
ذلك في تعظيم قبور الصالحين الذي جاء مصداقًا لحديث الصحيحين: (لتتبعن سَنَن
مَن قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع
…
) إلخ، ولكن الناس شددوا في سد ذريعة
عبادة الصالحين بتعظيم صورهم، وتساهلوا في سد ذريعة عبادتهم بتعظيم قبورهم
ببناء المساجد عليها، والطواف بها، والتماس جلب النفع ودفع الضر بالتمسح بها
ودعاء مَن دُفن فيها.
ومَن تأمل الأحاديث وآثار السلف في مسألة تشييد القبور وتجصيصها،
وحظر اتخاذها مساجد ووضع السرج والستور عليها، ومسألة التصوير واتخاذ
الصور بجعلها في البيوت والستور ونحوها - يتجلى له أن علة النهي عن الأمرين
واحدة، ألا إنها في القبور أشد وأعم، وقد جمع الأمر بإزالتهما في الحديث
الصحيح الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي الهياج الأسدي
قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويتَه) وفي رواية: (أن لا
أدع قبرًا مشرفًا إلا سويتُه ولا تمثالاً إلا طمستُه) بإسناد الأفعال إلى ضمير المتكلم،
أي بعثني على أن لا أدع
…
إلخ. وطمْس التمثال محو صورته التي يُشْبه بها
الحي ويحصل بتشويهه أو قطع رأسه دون إزالة عينه؛ لأن ذلك كافٍ في إخراجه
عن صفة المعظم عبادةً. وأما تسوية القبر فإزالة لعينه؛ لأن المراد بها تسويته
بالأرض، أي جعله مساويًا لها. ولكن أجاز الفقهاء رفع القبور قدر شبر، كما رفع
الصحابة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. وقدر بعض
مَن رأى القبر الشريف من السلف ارتفاعه بأربعة أصابع، نقله الحافظ في الفتح،
والظاهر أنه اعتمده، وقال الشافعي في الأم: (ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما
يُبنَى) . قال النووي - عند نقله في شرح مسلم: ويؤيد الهدم - قوله: (ولا قبرًا
مشرفًا إلا سويته) . اهـ.
وأما الخلف من العوام والحكام فخالفوا جميع الأحاديث والآثار في المسألة
الأولى، ولكنهم ظلوا يشددون المسألة الثانية إلى أن عمت البلوى بها في هذا
العصر، فصاروا يتساهلون في أمر اتخاذ التصاوير للزينة وللأنس بصور الأقربين
والمحبين، وصار العلماء يسمحون للمصورين بتصويرهم، حتى أكابر شيوخ
الأزهر وقضاة الشرع والمفتين، ولكنهم لا يزالون يشددون في صناعة التصوير
نفسها على كثرة منافعها، وشدة الحاجة إليها في غير ما تساهل الجمهور في اتخاذه
من أعمالها.
سألني بعض العلماء البصراء في طرابلس الشام مرة عن التصوير؛ إذ قلت:
إنه يعد الآن من أركان العمران والحضارة، هل له فائدة يُعتدّ بها شرعًا؟ فإن ما
فتن به الناس من زينة التصاوير ليس بالأمر النافع الذي يرخص في هذه الصناعة
لأجله، ولو في غير ما تُخشى عبادته أو تعظيمه تعظيمًا دينيًّا، فقلت له -
على البداهة، ولم يكن قد سبق لي تفكّر في حصر فوائد التصوير -: إن له أنواعًا
من الفوائد في حفظ اللغة، وإيضاح كثيرمن العلوم والفنون وفي الأعمال العسكرية
والإدارية والسياسية، وذكرت له من الأمثلة على ذلك ما يأتي:
(1)
إننا نرى في كتب اللغة أسماء كثير من الأشياء كالنبات والحيوان
وغيرهما غير مفسرة بما يعرف به المسمى مَن لم يكن يعرفه باسمه ذاك، بل
يقولون حيوان معروف أو طائر معروف وصاحب القاموس المحيط يكتفي بحرف
(م) المختزل من كلمة معروف، وهذا تقصير كبير في حفظ اللغة، ولو وضعت
صورة الشيء عند اسمه كما كان يفعل قدماء المصريين وكما تفعل أمم الحضارة
الآن - لكان ذلك أحسن حفظ للغة، ولا يغني عنه الوصف بالكلام؛ لأن بعض
الأجناس تتشابه فلا يسهل التمييز بينها بالقول، بل يتعسر أو يتعذر وصف أي
جنس من أجناس المخلوقات وصفًا يمكن أن يعرفه به كل مَن سمعه.
(2)
يترتب على الجهل بأجناس بعض الحيوان جهل ما يتعلق بها من
الأحكام الشرعية كأحكام ما يحل أكله منها، وما لا يحل، وأحكام جزاء الصيد على
المحرم وغير ذلك.
(3)
إن للتصوير فوائد عظيمة في علوم التاريخ الطبيعي والطب
والتشريح الإنساني والحيواني وفروع هذه العلوم قد صارت كثيرة في هذا العصر،
ويتوقف إيضاح الحقائق فيها - تأليفًا وتعليمًا - على الصور التي تظهر بها جميع
الأعضاء الظاهرة والباطنة، صحيحة ومريضة، فإتقان هذه العلوم يتوقف عليها.
(4)
للتصوير فوائد عظيمة في الأعمال الحربية، فلا يمكن لمَن يتركه أو
يقصر فيه أن يقاتل أعداءه بمثل ما يقاتلونه به، ولا أن يعد لهم ما استطاع من قوة،
فمنها تصوير المواقع والطرق والبلاد والجيوش، وما لديها من السلاح والذخيرة،
ومنها تصوير مَن يشتبه في أمرهم أن يكونوا عيونًا وجواسيس، وتقتضي الحكمة
أن يُجعلوا تحت المراقبة، ومنها تصوير مَن يحتاج إلى تحقيق شخصيتهم؛
لئلا يشتبهوا بغيرهم.
(5)
للتصوير فوائد عند حكومات هذا العصر في الأعمال السياسية والإدارية
كأعمال الجواسيس وحفظ الأمن وغير ذلك وتفصيل ذلك يطول.
لا يقال: إن المسلمين يمكن أن يستغنوا عن صناعة التصوير في التعليم
والتأليف والأعمال الحربية وغيرها كما استغنى سلفهم؛ فإن هذا بمثابة القول
باستغنائهم عن سلاح هذا العصر ومراكبه البحرية والهوائية كما استغنى عنها سلفهم،
وإنما كان يصح هذا التشبيه لو كان ما ذُكر من المستحدثات موجودًا في عصر
السلف، يستعمله خصومهم، وهم يتركونه، ولا يضرهم تركه. وهذا باطل لا
يقول به أحد.
ولا يترتب على نوع ما من أنواع هذه التصاوير تذرع إلى عبادة غير
مشروعة، ولا إلى تعظيم ديني، ولا يقصد بشيء منها مضاهاة خلق الله، فإما أن
يؤخذ فيها بقول مَن يجعل الوعيد على التصوير خاصًّا بما ذُكر من أول الأمر
كتصوير الصالحين، ومَن يخشى أن يفتتن الناس بصورهم وتماثيلهم، وبما يقصد
به مفسدة أخرى كالتحريض على المعاصي وهتك العورات، وأما أن يخص
عمومها بأحكام الضرورة في بعضها، وأحكام الحاجة التي تعد من المصلحة
الراجحة في بعض آخر؛ فإن القاعدة في المحرم لذاته أن يباح للضرورة كأكل
الميتة ولحم الخنزير، وفي المحرم لسد الذريعة أن يباح للمصلحة الراجحة كرؤية
الطبيب للعورات، وأبدان النساء الأجنبيات عملاً بقاعدة ارتكاب أخف الضررين.
فمَن عرض مسألة التصوير واتخاذ الصور على هذه القواعد الشرعية علم
منها أن دين الفطرة - الذي قرن كتابه ووصف بالحكمة، ورفع منه الحرج والعسر
عن الأمة - لم يكن ليحرم صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال، ويحتاج
إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وإنما يحرم ما فيه مفسدة، أو ما كان ذريعة إلى
مفسدة، ولا يبعد أن يقال: إن أعمال المصورين في هذا العصر تعتريها الأحكام
الخمسة، فإذا سألنا رؤساء الحكام وكبار القواد وأركان الحرب والأطباء وغيرهم
من علماء الفنون - التي هي من فروض الكفايات - عن صناعة التصوير الشمسي
واليدوي، فقالوا: إن منها ما هو ضروري يترتب على تركه ضرر عظيم، ومنها ما
فيه مصلحة راجحة، ومنفعة مجرَّبة، فمقتضى الأصول والقواعد تكون واجبة في
بعض تلك الضرورات والمصالح. ومستحبة أو مندوبة فيما دونها من المنافع،
ومباحة فيما لا ضرر فيه ولا نفع، ومكروهة فيما كان مظنة الضر، وقد بينا قريبًا
ما تكون فيه محرمة، وهو ما حمل عليه النص، فهذا ما أعلمه وأفهمه من نصوص
الشرع وقواعده في هذه المسألة، وهو يؤيد ما نقلته عن بعض علماء السلف
والخلف في التساهل فيها قولاً وعملاً، والله أعلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة الحجاز
(7)
طواف الإفاضة:
بعد ذلك ركبت دابتي وقصدت مكة المكرمة فطفت طواف الإفاضة وهو
طواف الركن الذي لا يتم الحج بدونه، وفي أثناء طوافنا شرع أهل مكة في صلاة
العيد ورأيت الأمير يصلي معهم مأمومًا. وكان الرجال يصلون في الجهة الغربية
من الكعبة المعظمة والنساء في الجهة الجنوبية وهن كثيرات جدًّا، ثم سعينا بين
الصفا والمروة وهو من أركان الحج وقد سعيت في هذه المرة ماشيًا. وقد اختلفت
الروايات: هل طاف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة في
حجة الوداع مرة أو مرتين؟ ففي حديث جابر عند مسلم أنهم طافوا بينهما مرة
واحدة قبل عرفة، وفي حديث عائشة أنهم طافوا مرتين أي عند القدوم وبعد طواف
الإفاضة، ورجح المحققون من علماء الحديث رواية جابر، وقالوا: إن ما ذكر في
حديث عائشة مُدْرَج من كلام الزهري لا من كلامها، فمذهب المحدثين أن السعي لا
يتكرر، ويقول كثير من الفقهاء: إن لكل نسك سعيًا لا يُسقطه السعي بعد طواف
القدوم، وإن السعي للعمرة لا يغني عن السعي بعد طواف الإفاضة للحج، ولم
يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم العيد يوم النحر بمكة ولا بمنى، كما أنه لم يصلِّ
الجمعة بعرفة؛ لأنه مسافر، ولم يكن يصليهما في السفر، وقال بعض العلماء: إن
رمي جمرة العقبة للحاج كصلاة العيد لغيره فصلاة العيد لا تُطلب منه، وإن كان
مكيًّا. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإقامة السنة على الوجه الأكمل في حجة أخرى أو
حجات كثيرة.
هذا، وإنني بعد الطواف والسعي جئت منزلنا بمكة واستحضرت حلاقًا فأخذ
شعر رأسي كله بالآلة المعروفة بالمكنة أخذًا أقرب إلى الحلق منه إلى التقصير ثم
عدت إلى منى وقد تحللت من الحج تحللاً كاملاً، ولله الحمد أولاً وآخرًا، وإياه
نسأل أن يجعله حجًّا مقبولاً وسعيًا مشكورًا. وقد بقي من أعمال الحج التي لا
يُشترط فيها الإحرام.
رمي بقية الجمار وذبائح النسك:
الجمار بالكسر والجمرات بالتحريك: جمع جمرة وهي في أصل اللغة:
واحدة الجمر من النار، والحصاة، والقبيلة التي تصبر لقراع القبائل، وكل قوم
يصبرون لقتال مَن قاتلهم لا يحالفون أحدًا، ولا ينضمون إلى أحد. قيل سميت
جمرات المناسك بمنى بهذا الاسم؛ لأنها تُرمَى بالجمار أي الحصى، وقيل لأنها
مجمع الحصى التي ترمى شبهت باجتماع القبيلة على مَن ناوأها. وقال أبو العباس:
أصلها من جمرته ودهرته إذا نحيته، والتجمير: رمي الجمار، والمجمر
(كالمعظم) : موضع رمي الجمار. فأما جمرة العقبة فهي في عقبة منى التي ينحدر
منها السائر إلى مكة على جانب الطريق، وأما الجمرة الوسطى والصغرى فهما في
وسط الطريق الذي يشق منى نصفين، وتعرف مواقعهما من صورة منى
(خريطتها) وفي موضع كل من الوسطى والصغرى بناء يقرب من شكل المنارة
أو المسلة، قليل الارتفاع، حوله حظيرة مستديرة، وكانت دارنا عند الجمرة
الوسطى من جهة الشمال، وهي أفسح دار هنالك.
وقد بينا كيفية رمي الجمار وحكمته في مناسك الحج، كما بينا حكمة ذبائح
النسك. وكنا نذبح كل يوم من أيام منى فنأخذ حاجتنا ليومنا، ونتصدق بالباقي،
وقد كانت الذبائح في السنين الخالية تزيد على حاجة أهل البلاد ومَن حولهم من
الأعراب لكثرتها، وأما في هذا العام فهي لا تكاد تكفي فقراء الحرم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحالة السياسية في الحجاز
في أواخر سنة 1334
أتممنا بفضل الله مناسكنا، فنحمد الله تعالى، ونسأله أن يتقبل منا، وإذ فرغنا
من حديث المناسك فيحسن أن نتم فوائد هذه الرحلة بما يمكن بيانه الآن من أخبار
الحجاز الاجتماعية والسياسية، التي تعد من أعظم الأحداث التاريخية، ثم ببعض
الطُرَف الأدبية من المختارات الشعرية، ونبدأ بذكر إنشاء الحكومة الجديدة في مكة
المكرمة، فنقول:
لما شعر بالاستعداد لتأليف هذه الحكومة أصحابنا اللاجئون إليها، الذين يعدون
من أصحاب الشأن أو العمل فيها - اختلفت آراؤهم فيما يُنتظر أن تكون عليه، وما
ينبغي أن يكون مسلكهم في هذه الحال على كل تقدير يتصوره الذهن، وقد
استحسنوا أن يجتمعوا ليلاً، ويكاشفوني بآرائهم، ويتعرفوا رأيي (والمستشار
مؤتمن) ، ففعلوا. ومما يعد من الغريب عند كثير من الناس - أن ما كان يجول
في أذهان أهل البلاد المختلفة بمكة في هذه المسألة هو عين ما كان يجول في أذهان
أهل مصر من الآراء والظنون. ثم ماذا كان؟
علمنا يوم الخميس سابع ذي الحجة أنه قد تألفت فيها حكومة جديدة، على
الوجه الذي نُشر بعد الحج في العدد السابع عشر من جريدة (القبلة) بتاريخ 15 ذي
الحجة سنة 1334، وهذا نصه:
الحكومة العربية الجديدة
ما أزِفت الساعة السادسة من نهار الخميس الماضي سابع ذي الحجة حتى
اكتظت دار الحكومة بأكابر العرب وعِليتهم انتظارًا لتشريف رجال الحكومة العربية
الجديدة، ولما كانت الساعة السابعة وصل صاحب السمو الأمير عبد الله ومعه سائر
الوكلاء، فصدحت الموسيقى بالسلام الشريف، وأخذت الجنود النظامية
المرصوصة على جانبي الطريق السلام العسكري. ولما استقر بحضراتهم المكان
في ندوة الحكومة - قرئ المرسوم الشريف الصادر من جلالة سيدنا المليك المعظم
إلى حضرة العلامة المِفضال الشيخ عبد الله سراج بتعيينه قاضيًا للقضاة ووكيلاً
لرئاسة الوكلاء، وتعيين زملائه حضرات الوكلاء العظام. وهذه صورة المرسوم
الشريف:
(المرسوم الشريف بتأليف هيئة الوكلاء)
حضرة العالم الكامل الشيخ عبد الله سراج
إنه لما كانت مصالح الرعايا وانتظام شؤون المجتمع وتوفر أسباب العمران
لا بد لها من دواوين يتوزع عليها النظر في الحكومة، وما هو في معنى ذلك من
المصالح العامة والخاصة، ويتعين بها أساس الوظائف الذي تُبنى عليه المسؤولية
وتكوين حكومة لبلادنا المحروسة. وبالنظر إلى ما تحققناه فيكم من الكفاءة
والاستقامة - عزمنا بعد الاستعانة بالله عز وجل على توجيه منصب قاضي القضاة
لعهدتكم، وتعيينكم وكيلاً عن رئيس الوكلاء العظام، وقد اخترنا لبقية الوكالات
حضرات الذوات الآتية أسماؤهم، وهم: ولدنا عبد الله بن الحسين لوكالة الخارجية،
ويكون وكيلاً عن وكيل الداخلية، وعبد العزيز بن علي رئيس أركان حرب
ووكيلاً عن وكيل رياسة الجند مع ترفيع درجته عن رتبته الحاضرة، والشيخ علي
مالكي وكيلاً للمعارف، والشيخ يوسف بن سالم رئيس البلدية سابقًا وكيلاً للمنافع
العمومية، والشيخ محمد أمين مدير الحرم الشريف سابقًا وكيلاً للأوقاف، مع بقائه
في نظارة أمور الحرم، وكلما يتعلق بوظيفته الشريفة، والشيخ أحمد بن عبد
الرحمن باناجه وكيلاً للمالية. وذلك لما توسمناه من درايتهم واستعدادهم للسهر على
مصالح البلاد وأهلها على ما يُرضي الله، وإننا ننتظر منكم المبادرة إلى تأسيس
الدوائر والدواوين الرسمية، وتعيين العمال والموظفين لها، وأرجو الله سبحانه أن
يجعلنا مظهر توفيقه وهداه، في كل ما يحبه ويرضاه.
في 7 ذي الحجة الحرام سنة 1334 هـ.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
شريف مكة وأميرها
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... حسين
***
ثم تُلي مرسوم شريف آخر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، وهذا نصه:
(المرسوم الشريف بتأسيس مجلس الشيوخ الأعلى)
وكيل رئيس الوكلاء وقاضي القضاة مولانا وفقه الله؛
بما أننا قد استنسبنا تعيين هيئة أطلقنا عليها اسم (مجلس الشيوخ) ، وجعلنا
وظيفة هذا المجلس النظر في كل ما يتعلق بمنافع البلاد، والمراقبة على أعمال
الدواوين والدوائر الرسمية، وإبداء الرأي فيما تعرضه الدوائر على مقام وكيل
رئيس الوكلاء، وسيقرر فيما بعد صلاحية هذا المجلس العالي، فقد جعلنا رئيسًا له
جناب الفاضل الأجلّ فاتح بيت الله الحرام الشيخ محمد صالح الشيبي. وأعضاءه
حضرات الأفاضل الأجلاء: مفتي الشافعية السيد عبد الله بن محمد صالح الزواوي ،
ومفتي المالكية الشيخ عابد بن حسين، والشيخ عبد القادر بن علي الشيبي، ونائب
الحرم السيد إبراهيم بن علي، ووكيل شيخ السادة السيد محمد بن علوي السقاف
والشيخ عبد الله علي رضا، والشيخ علي بن عبد الله الشرباصي والشيخ أبو بكر بن
محمد خوقير وذوي السيادة والشرف حمزة بن عبد الله الفعر وفنن بن محسن
وسليمان بن أحمد بن سعيد وناصر بن شكر ولتبليغهم ما ذُكر اقتضى تحريره.
في 7 ذي الحجة سنة 1334.
اهـ ما نُقل عن جريدة القبلة.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
شريف مكة وأميرها
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... حسين
***
ولما علم الناس بتأليف الحكومة الجديدة كان حديثها شغلهم الشاغل، وكانوا
ينتظرون أن يسمعوا يوم الجمعة ثامن الشهر شيئًا جديدًا في تعيين شكلها، واستحسن
بعض الإخوان الذين رأوا من إكرام الأمير مثواي أن أطلب التشرف بمقابلة خاصة؛
أتوسل بها إلى عرض ما عرفوا وحمدوا من رأيي في شكل هذه الحكومة،
ففعلت، نلت الحظوة في أول الليل على سطح في أحد جوانب قصر الإمارة،
وتوسلت بذكر ما تم من تأليف مجلس الوكلاء إلى السؤال عن شكل الحكومة،
كيف يكون؟ ، فتفضَّل الأمير - بتواضعه المعهود - قائلاً: هذا ما نحب أن
نأخذ رأيكم فيه، فذكرت رأيي مفصلاً تفصيلاً، ولكنني لم أسمع كلمة ولا رأيت
إشارة تدل على استحسان ولا على إنكار، ثم استأذنت، وانصرفت.
قلت: إن جمهور الناس من المكيين والحجاج كانوا ينتظرون أن يسمعوا يوم
الجمعة شيئًا جديدًا، فلم يسمعوا، وكان مَن صلى الجمعة في المسجد الحرام من
المصريين على مقربة من المنبر، يلقون السمع إلى الخطيب عند الدعاء، فسمعوه
بآذانهم يدعو للسلطان محمد رشاد، وخرج الناس من المسجد الحرام، ولم يقع ما
كانوا يتوقعون من المبايعة بالخلافة بين الركن والمقام، فزال بذلك ما زال من
الظنون والأوهام.
ثم عاد الناس إلى الحديث في هذه المسألة في مساء يوم العيد بمنى، وأُشيع
أن المبايعة يحتمل أن تكون ضحوة غد في أثناء الاحتفال المعتاد في سرادق الأمير؛
ذلك بأن العادة قد مضت بأن تكون ضحوة اليوم الأول من أيام منى موعد تهنئة
الأمير الشريف بالعيد، وإتمام المناسك، فكان يحضر لديه والي الحجاز وقائد الجند
فيه، وأمير الحج الشامي والمصري، وكبار الشرفاء والعلماء وكبراء رجال
الحكومة ووجهاء مكة المكرمة والحجاج، ويُتلى الفرمان السلطاني الذي يعهد فيه
إلى الشريف بالنظر في شؤون الحج وحفظه في الحجاز
…
، ويخلع الوالي على
الأمير الخلعة السلطانية.
ولما أشيع ما أشيع جاءني أولئك الأصحاب ليلاً للمذاكرة في الأمر، وبعد
طول التشاور فيه اقترحوا عليَّ أن أذهب إلى مخيم الإمارة لاكتشاف الحقيقة؛ إذ
قيل إن جمهور رجال الحكومة الجديدة وشرفاء مكة ووجهاءها يرون وجوب المبايعة
بالخلافة، وإن سيدنا الأمير مخالف لهم في ذلك، ويرى ترك ذلك إلى جماعة
المسلمين في سائر الأقطار، وقد بيّن هذا المعنى بعد ذلك في بعض المنشورات
الهاشمية. ولما كان منزلنا بعيدًا عن مخيم الإمارة، وكان الإخوان يعلمون أن
الأمير لا يسهر كثيرًا - جاؤوني بجواد كريم، فركبته، وأسرعت إلى السرادق
الخاص، فقيل لي: إن سيدنا قد نام، وسألت عن نجله الأمير عبد الله، فقيل إنه قد
نام أيضًا، فعدت أدراجي إلى إخواني، فأخبرتهم بذلك، وانصرفنا إلى مضاجعنا.
بِتُّ ليلتي أفكر في هذه المسألة، ولم يبقَ لي من أعمال النسك ما يشغل قلبي
عنها، وكان رأيي في مسألة الخلافة هو ما قيل لي في هذه الليلة عن رأي الأمير
دون من حوله، وقد أكبرته لذلك، وكان أعجبني من منشوريه الأولين جعْل عداوته
لفئة الاتحاديين المتغلبة لا للشعب التركي ولا للدولة العثمانية أيضًا - وكذلك كانت
الثورة في أول عهدها - وكنت أرى أن مبارزته العداوة للفئة المتغلبة قد يقف بغي
زعمائها على العرب عند حد ما اجترح جمال باشا من الموبقات التي هي شر لدولته،
وكذا لجمعيته، لا خير لهما كما توهم، وأن نفع الحركة الحجازية محصور في
هذه الفائدة المرجوة، وفي إغاثة جيران بيت الله من المجاعة والهَلَكَة المخيفة، وفي
الاحتياط لما يجب إذا سقطت الدولة، وأرى أنه يجب السعي لتحقيق ذلك بدون
ارتكاب إثم يُرْبِي شرُّه على خيره، وكنت أشرت إلى رأيي هذا، وإلى حسن ظني
في الأمير الشريف في مقال المحاورة الذي نُشر في المنار قبل الحج، وقبل العزم
عليه، ذلك ما بت أفكر فيه، ولما أصبحنا أسرع الناس إلى مكان الاحتفال مشرقين،
وتأخرت إلى الضحوة الكبرى، فألفيت سرادق الإمارة غاصًّا بالناس، وكذا
الفجوة التي أمامه، ولو لم يرني بعض مَن يعرفنني هنالك لما تيسر لي اختراق ذلك
الجمع الكثيف، والنفوذ إلى المجلس الهاشمي الشريف، ولكن رآني مَن فرَّج لي
فرجة بين الناس، دخلت منها إلى أن بلغت الحلْقة الكبيرة، وجلست على كرسي
أُخلي لي فيها، وكان الناس من مصريين ومكيين قد شرعوا في إلقاء الخطب
والقصائد في التهاني والأدعية، فرأيت أن ألقي خطبة في بيان الحقيقة التي عرفتها
بالبحث والاختبار، والآراء التي أنتجتها تلك الأفكار، أشير فيها إلى آراء الناس
من الحجازيين والآفاقيين، وكنت قد بلوت أخبارهم، واكتنهت معرفتهم وأفكارهم،
وأذكر ما لديَّ من الرأي في المسألة الحجازية، وما يشترط في ذلك بقدر ما يسعه
المقام، فلما فرغ مَن كان يتكلم قبل مجيئي استأذنت، فأذن لي، فقمت، وقلت -
ما ملخصه كما نُشر في جريدة القبلة -:
وكل ما يوضع فيها بين الأهلَّة هكذا () فهو من قبل جريدة القبلة - كما هو ظاهر
- إلا الآيتين الكريمتين في أولها - فهما من أصل الخطبة.
***
خطبتنا السياسية في منى
أيها المسلمون الكرام، من سكان حرم الله وحجاج بيته الحرام، إنكم تعلمون
أن الإسلام دين سيادة وسلطة، وأن شريعته أُنزلت ليقيم أحكامَها أهلُه؛ لقوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) على التأويل
المشهور للآية، وتعلمون أن الله تعالى قد جعل هذا الدين عربيًّا؛ إذ أنزل القرآن -
الذي هو أصله وأساسه - باللغة العربية على لسان النبي الأمي العربي محمد صلى
الله عليه وآله وسلم.
وقد بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا} (الرعد:
37) ، فهذه الآية أخص من الآيات الناطقة بإنزال القرآن عربيًّا؛ لأنها مصرحة
بأن حكم هذا الدين عربي، مع العلم بأن كتابه المتعبَّد به عربي، وهذه البلاد
العربية هي مهد هذا الدين، ومهبط وحيه، ومشرق نوره، وكان أهلها هم السابقين
إلى تلقيه، والاهتداء به، ثم تبعهم فيه غيرهم من عرب الحجاز، فسائر هذه
الجزيرة العربية. ثم حمله العرب إلى سائر الأقطار، ونشروه فيها، فامتد في
الجيل الأول منهم، حتى عَمَّ نوره الشرق والغرب، وأروا الأمم بإقامة أحكامه من
العدل والرحمة ما لم يعرفوا، ولم يسمعوا له نظيرًا، كما اعترف بذلك المنصفون
من الإفرنج وغيرهم.
ثم طرأ الضعف على السلطة الإسلامية بتفرُّق الوحدة العربية الكافلة لها،
وتغلغل الأعاجم في الدول الإسلامية التي تعددت بسبب ضعف سلطة الخلافة، فبعد
أن كانت الفتوحات الإسلامية في مد، لا جزر معه - صارت دول الطوائف
الإسلامية بين مد وجزر، وقوة وضعف، حتى وصلت الدولة العثمانية منها إلى
درجة عالية، ومكانة سامية، من القوة الحربية، وسعة الفتح والتغلب، فسُرَّ بها
المسلمون، ورضي بعض حكامهم المستقلين بسيادتها طوعًا واختيارًا، كما دخل
بعضهم تحتها اضطرارًا، وقد كان أمراء مكة العظام أهل بيت سيدنا هذا (وأشار
الخطيب إلى جلالة مولانا الأمير) في مقدمة مَن أيد هذه الدولة، واعترفوا بسلطتها
وسيادتها؛ لأجل جمع كلمة المسلمين بها، وإعلاء شأن الشريعة الإسلامية بنفوذها
(ههنا قال جلالة سيدنا للخطيب: صدقت) .
ثم إن هذه الدولة قد سرى إليها الضعف، ودبَّ إليها الوهن من زهاء ثلاثة
قرون، وإنني أذكر لكم بعض الشواهد على ذلك من تاريخها الرسمي منذ مئة سنة
ونَيِّف:
إن محمد علي باشا - الذي كان واليًا للدولة على مصر -قد زحف على
سورية، ففتحها، ثم على الأناضول، فتوغَّل فيها، ولولا أن الدولة الإنكليزية
أكرهته على الرجوع إلى مصر لاستولى على بلاد الدولة كلها. وكان ذلك على
عهد السلطان محمود الذي كان يعد مصلحًا في الدولة، ومجددًا لها بقضائه على
عسكر الإنكشارية المختل، وإدخاله نظام الجندية الأوروبي في الدولة.
تولى السلطان محمود السلطنة في سنة 1223، وتوفي سنة 1255، فخلفه
السلطان عبد المجيد، الذي صرح في خطابه - عند إعلان (التنظيمات الخيرية)
في كلخانة - بأن الضعف والخلل قد طرأ على الدولة منذ 150 سنة، وأنه لا بد
من تلافي خطر ذلك بالنظام الذي أعلنه بتدبير أساطين الدولة في عهده. ولكن ذلك
النظام لم يُعِدْ إلى الدولة قوتها، ولا أنقذها من الخطر الذي كان يُخشى عليها.
ودليل ذلك أن أركان الدولة قد خلعوا أخاه السلطان عبد العزيز الذي خلفه سنة
1277، وقتلوه، أو ألجأوه إلى بخع نفسه بيده سنة 1293؛ بحجة أن استبداده
كان حائلاً دون إصلاح الدولة، وتجديد شبابها، وولوا بعده السلطان مرادًا، ولم
يلبثوا أن خلعوه في تلك السنة، وولوا بعده السلطان عبد الحميد الذي كان عاهدهم
على العمل بالقانون الأساسي الذي قلدوا فيه الدول الأوروبية؛ ظنًّا منهم بأنهم لا
يعتزون إلا بما اعتزت به من الحكم النيابي.
وأما سيرة السلطان عبد الحميد فهي معروفة عندكم؛ لأن العهد بها قريب،
وقد خلعته جمعية الاتحاد والترقي بقوة جند الدولة، واعتقلته، وتولت الجمعية
السيطرة على الدولة بعده، فماذا كان من أمرها؟ هل كانت خيرًا من أولئك
السلاطين العظام، الذين لم يقدروا أن يصلحوا مُلكهم الذي ورثوه عن آبائهم
وأجدادهم؟ كلا، إن زعماء هذه الجمعية - الذين غلبوا الدولة على أمرها - هم
أوشاب من الملاحدة المارقين، قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بكيد يهود سلانيك،
وشركاؤهم في النمسة، وألمانية أقوى أنصارهم؛ ولذلك نرى أكبر همّهم جمع المال.
فلا هم على دين هذه الدولة؛ فيغاروا عليه، بل هم يقاومونه، ويهدمونه، ولا
هم من أصل راسخ فيها؛ فيكونوا أحرص على حياتها من أبناء سلاطينها
وأساطينها.
وإذا نظرنا إلى أعمالهم دون عقيدتهم وآرائهم نرى أنهم قد فعلوا في الدولة من
الإفساد والتخريب ما لم يفعله غيرهم فيها، منذ أصيبت بالضعف إلى أن أصيبت
بهم.
ثبت أنهم أخذوا من مال الدولة لنظارة الحربية خمسين مليون جنيه؛ ليجددوا
قوتها العسكرية، ثم رأينا دولة البلغار - التي كانت ولاية من ولايات الدولة ولم يتم
لها الاستقلال إلا في عهدهم - قد كسرت جيوش الدولة، وكادت مدافعها في شطلجه
تمزق مسامع أهل الآستانة. وكان السبب الحسي لذلك قلة ما عند الجيش العثماني
من المؤنة والذخيرة والدواب وسائر أسباب الحرب.
وقد خسرت الدولة في عهدهم المشؤوم من الممالك ما لم تخسر مثله في عدة
أجيال: خسرت البوسنة والهرسك ببيع الجمعية إياهما للنمسة، وطرابلس الغرب
وبرقة ببيعها إياهما لإيطالية، ومكدونية وألبانية وكريت وجزائر الأرخبيل،
ونسكت عما خسرته في هذه الحرب من الولايات، فقد أضاعوا نصف الدولة في
بضع سنين، وحمَّلوها فيها من أثقال الديون ما لم تحمل مثله قبلهم في بضعة قرون.
ثم عمدوا إلى الأمة، فأفقروها كما أفقروا الدولة. فهذا هو الإصلاح الذي خلعوا
- لأجل القيام به - سلطان الدولة وخليفتها عبد الحميد، وحجروا على خَلَفه من
بعده.
فيا أيها المسلمون المبصرون! ، إذا كان قد ثبت من تاريخ الدولة الرسمي بما
ذكرته لكم من شواهده، أنها كانت ضعيفة يُخشى عليها الزوال قبل هذه الأرزاء
والمصائب التي منيت بها - بشؤم هذه الجمعية، فكيف يكون حالها الآن،
وقد اصطلت بنار هذه الحرب، وتعرضت لعداوة أكبر دول الأرض؟ !
إن سواد المسلمين الأعظم يغارون على هذه الدولة، ويتمنون لها دوام
الاستقلال، وكمال القوة؛ للسبب الذي بيناه في فاتحة الكلام، ولكن يقل في
المسلمين مَن يعرف حقيقة حالها، وكُنه الخطر الحائق بها. ويقل فيمن يعرف ذلك
مَن يسعى لتدارك ما يترتب على هذا الخطر إذا وقع من فقد الإسلام لما بقي من
أحكام شريعته، وحرمان المسلمين من آخر ما كان لهم من الاستقلال السياسي على
عِلَاّته.
لم نَرَ أحدًا من زعماء المسلمين وكبرائهم قدر الحال الخطرة التي وصل إليها
الإسلام قدرها، وانبرى لتداركها إلا هذا الرجل العظيم - أمير مكة وشريفها - فإنه
(؟) ، أي أن الدولة - وهو من أعلم أهلها بحالها - قد أمست على شفا جُرُف،
وأن ملاحدة الاتحاديين قد اتخذوا الأحكام العرفية والقوة العسكرية ذريعة للتنكيل
بالأمة العربية بتقتيل رجال الفكر والعمل ومصادرة أموال أهل الثروة منها؛ حتى
لا يبقى فيها رجاء في عامل ولا في عمل، فانتدب لتدارك الخطب ومصارعة
الخطر بنفسه الكريمة وأنفس أنجاله النجباء، ولو استطاع أن ينقذ الدولة نفسها من
الخطر لفعل، ولو بذل في ذلك دمه ودم هؤلاء الأنجال الكرام (هنا قال الأمير -
حفظه الله تعالى - للخطيب: صدقت) .
لكن العمل - لإنقاذ الدولة نفسها من الخطر - قد أصبح فوق طاقته وطاقة
غيره (
…
: صدقت) ، فرأى أن يبدأ بالمستطاع، وهو إنقاذ الحجاز - مهد
الإسلام ومشرق نوره - مما نزل به من البلاء والشقاء، ثم إنقاذ غيره مما يمكن
إنقاذه من البلاد العربية؛ ليكون ذلك بيئة الحفظ الاستقلال الإسلامي، وعدم زواله
بما يُخشى ويُتوقع أن يحل بالدولة العثمانية والعياذ بالله تعالى (
…
: صدقت) .
لا يخفى على ذِي بصيرة أن الاتحاديين ما حشروا الألوف من جيوشهم في
الحجاز إلا بنية سيئة؛ لأنهم يعلمون - كما نعلم - أن أعداءهم الحلفاء لا يحاولون
الاستيلاء على الحجاز، ولا يحاربون أهله، فكان من المعقول أن يرسلوا تلك
الجيوش إلى قتال أعدائهم الروس، وإنقاذ ما فتحوه من الولايات التركية، ولكن
التنكيل بالعرب أهم عندهم من دفع الروس عن عقر دارهم. ولو تم لهم ما أرادوا
لرأينا من فظائعهم في الحجاز ما هو أشد من فظائعهم في الشام (
…
: صدقت) .
نعم، إن الحلفاء لا يحاربون الحجاز، ولكن وجود الجيوش الاتحادية فيه
ألجأهم إلى ضرب الحصر البحري على ثغوره؛ فضاقت المعيشة على أهله، حتى
باعوا حُليهم وأثاثهم وأبواب بيوتهم وخشب سقفها، ولو طال عليهم أمد ذلك سنة
أخرى لأكلتهم المجاعة، وما يتبعها عادة من الأوبئة (
…
: صدقت) .
أعلن سيدنا هذا استقلال العرب في الحجاز - والحاجة قد اشتدت إليه حتى
وصلت إلى حد الضرورة - وما كان ليوجد في الأمة العربية ولا الأمة الإسلامية
كلها مَن آتاه الله من البصيرة والشجاعة والثقة بالله والتوكل عليه ما ينهض به للقيام
بهذا العبء العظيم، ولولا ثقته بالله وتوكله عليه لما تجرأ على ذلك؛ لأننا كلنا نعلم
أنه لا يوجد في الحجاز قوة عسكرية ولا ثروة مالية يُعتمد عليها في مثل هذا العمل
(تصديق
…
) .
كلنا نعلم أنه لا يوجد في الدنيا كلها مكان يصلح لتأسيس دولة إسلامية تخلف
الدولة العثمانية إذا وقع بها ما نخشاه عليها إلا جزيرة العرب، وما يتصل بها من
البلاد العربية؛ لما خص الله تعالى به هذه البقعة وأهلها من الخصائص، ولا يعقل
أن يحفظ استقلال الإسلام في مثل بلاد الأفغان؛ إن هو زال من مهده وموطن نشأته
ومحل إقامة شعائره. انفردت هذه البقاع الطاهرة المقدسة بأنها أجدر بقاع العالم
الإسلامي لإقامة استقلاله. وكذلك انفرد سيدها وأميرها في هذا العصر بالنهوض
بما يجب من العمل والاستعداد لتجديد هذا الاستقلال. فكان له بعمله أكبر مِنَّة في
أعناق أهل هذه البلاد، وفي أعناق جميع المسلمين الذين يشعرون بأن أمر هذا
الاستقلال هو أهم المصالح العامة الدينية والاجتماعية. ولكن منهم مَن فقد هذا
الشعور!
أيها الحجازيون، مَن يكفر منكم لهذا الرجل المصلح المنقذ هذه النعمة فهو
أكفر الناس للنعم. أيها المسلمون، يجب أن تعلموا أن هذا العمل أعظم خدمة
للإسلام في هذا الزمن؛ فإن الدولة العثمانية إن سَلِمت من السقوط وحُفظ استقلالها
لم يكن استقلال العرب في الحجاز وغيره مانعًا من ذلك، ولا من تعاضد العرب
والترك مع حفظ حقوق كل منهم. وإن سقطت وفقدت استقلالها لم يكن هذا
الاستقلال هو السبب فيه، ولكنه يكون سببًا لحفظ استقلال الحكم الإسلامي في
أشرف بقاع الإسلام، بل لا يغيب عن أذهانكم أنه لولا إعلان هذا الاستقلال لترتب
على سقوط الدولة العثمانية وقوع حرم الله تعالى وحرم رسول الله صلى الله عليه
وسلم غنيمة في أيدي الدول الفاتحة. فإن تركوهما بعد ذلك لنا كان لهم منَّة التصدُّق
بهما علينا. وإلا كانا تحت سيادتهم والعياذ بالله تعالى. وبهذا يتبين لكم أن هذا
العمل العظيم - الذي قام به هذا الزعيم العظيم - قد أنقذ الحرمين الشريفين، وما
حولهما من هذا الخطر الجسيم. ووضع أقوى أساس لحفظ الاستقلال الإسلامي
بإنشاء دولة جديدة له، فله بهذا أكبر منَّة على جميع المسلمين. وما أقول هذا تملقًا
له ولا مدحًا شعريًّا، وإنما هو الحقيقة البيضاء الناصعة، بيَّنتها لكم بالإيجاز الذي
يحتمله المقام والسلام. اهـ الخطبة.
قالت جريدة القبلة - مقفية على هذه الخطبة -: وبعد أن جلس (أي
الخطيب) أثنى عليه جلالة سيدنا - أيَّده الله بروح من عنده - وقال للناس إنه لم
يَرَهُ إلا منذ أيام قليلة، ونزيد عليها أنه قد صرح بأنني عبرت في المسألة عن
فكره ورأيه، ولم يسبق له مكاشفتي به، وأنه لم يرني إلا منذ أيام قليلة، وهو
صادق فيما قال، وأنني ما كنت أرجو أن يرضيه خطابي إلا من باب حسن الظن
فيه، الذي استنبطته مما كنت أعلم من سوء نية جمال باشا وأعوانه، ومن منشورَيْه
الدالين على قيامه بما قام به في الحجاز لأجل الداعية التي وصلت إلى حد الاضطرار،
وإنها ضرورة تُقدَّر بقدرها، وهذا هو الحكم الشرعي في مثلها، وقد جعلتها مقدمة
للسعي إلى ذلك.
وأقول: إن وقْع الخطبة قد كان حسنًا في سمع الجمهور، وكانت موضع حديث
الناس وثنائهم، حدثني بذلك الكثيرون في منى، ثم في مكة، وقد علمت أنها
جمعت بين إرضاء الفريقين المتعارضين في الرأي: فريق المتشائمين من ثورة
الحجاز، الخائفين أن تكون سببًا لضعف الدولة العثمانية، على حين لا استعداد
لإنشاء دولة إسلامية تحل محلها، وفريق المتفائلين الذين يرجون أن تكون مبدأ
دولة عربية مستقلة، تحيا بها حضارة العرب الزاهية الزاهرة، حتى أن أصحاب
فكرة المبايعة كانوا يرجون - عند سماع الخطبة - أن تكون مقدمة للمبايعة.
زارني بعد نزولنا من منى إلى مكة الشيخ عبد الملك الخطيب أحد أدباء مكة
المقربين من الحضرة الهاشمية - وقد تقدم ذكره في هذه الرحلة - فكان جُل حديثه
الثناء على الخطبة، وقال: إنني كنت في الحضرة الهاشمية أذكر محاسنها، وأنوه
بها، وإن سيدنا وافقني على ذلك، وساهمني فيه، ثم ذكر أنه كان ينقصها شيء
واحد، قلت: بل ينقصها عندي أشياء، ولكن الوقت لم يكن يتسع لأكثر مما قيل،
قال: لم أعنِ أن في الخطبة نفسها نقصًا، بل هي كاملة، وإنما كان ينقصها أن
تكون مقدمة للمبايعة، فلو أنك بعد إتمامها مددت يدك، وبايعت سيدنا لاتبعك الناس،
وكان أمرًا مفعولاً، قلت: إن هذا ليس من رأيي، ولا من حقي، وما يؤمنني أن
يقال لي ما قيل لذلك الشاعر، الذي قال:
وخذا النوم من عيوني فإني
…
قد خلعت الكرى على العشاق
فقيل له: خلعتَ ما لا تملك مَن لا يقبل؟ ! وبهذا حولت المباحثة السياسية
إلى مفاكهة أدبية.
هذا، وإنني قد تشرفت بعد ذلك بحديث مع الحضرة الهاشمية في موضوع
الخطبة، فكان مما قال الأمير: إن المسألة الجوهرية في الخطبة هي أن الدولة
العثمانية على خطر، وأنا موافق لك على هذا الرأي من قبل الحركة، ولكن أكثر
الناس أو المسلمين لا يعقلون ذلك. وقد عرضت عليه في هذه الجلسة شيئًا من
خلاصة رأيي في المسألة العربية، وما يجب اتخاذه من الاحتياط في مسألة الدولة،
على الوجه الذي أشرت إليه في خاتمة الخطبة، فأظهر لي الاستحسان، وأحال
على الزمان، وقراء المنار يعرفون رأيي مما بسطته في المقالة التاريخية (المسألة
العربية) ، التي نشرتها في الجزء الأول من المجلد العشرين، ومنه أن الثورة
الحجازية قد أدت وظيفتها، وأفادت ما رجوناه منها. فأنقذ الحجاز، وأوقفت بغي
البغاة، وأحمد الله أنني كنت أسعى إلى تنفيذ هذه المقاصد على تلك القواعد، وأنني
الآن معتزل لأعمال السياسة وأهلها، منتظر حكم العزيز الحكيم في أمر أمتي
والشعوب كلها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ترجمة الشيخ سليم البشري
بقي مما ينبغي أن يُذكر في ترجمته، ما انفرد به دون أمثاله من شيوخ الأزهر
كإنكاره كتابةً على الدولة العثمانية الفتك بالأرمن في أطنة، وكرئاسته لاحتفال اللجنة
السورية التي عُقدت في دار التمثيل الأميرية لإعانة طلبة العلم السوريين في الأزهر،
تلك اللجنة التي قال - في حمدها بحق -: إنها مسيحية، ليس فيها إلا مسلم واحد
تسعى لإعانة مسلمين ليس فيهم نصراني واحد! وغير ذلك من الأمور المدنية
العصرية، ولم يتيسر لنا جمع ما كتب في ذلك بوقته من الجرائد، ولم يذكره أحد
في ترجمته.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
التمثيل العربي
اشتغال المرأة المسلمة به وتمثيل قصص الأنبياء
(س10) من صاحب الإمضاء بمصر
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا
جمعتني النوادي بطائفة من المتعلمين الذين قلما يخلو مجلسهم من البحث
وبأية مناسبة دار بيننا ذكر التمثيل العربي وبسطنا على بساط بحثنا:
(1)
المرأة المسلمة والتمثيل، (2) تمثيل روايات الأنبياء عليهم السلام
عمومًا وخاتمهم خصوصًا، فقرَّ رأي فريق منا على جواز ذلك كله؛ إذ لا
تتم أدوار التمثيل وفصوله إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور
المرأة المسلمة على مراسح التمثيل. وأي مانع يمنع تمثيل روايات
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عمومًا وخاتمهم خصوصًا، وهو لم يخرج عن كونه
درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل مَن
يصادفه أو يجد له أثرًا، ومنع فريق آخر كل ذلك، وعدَّه نوعًا من التقليد الإفرنجي،
الذي يستحوذ على بعض البسطاء، فيعدونه مفتاح تمدن الأمة، في حين أنه شر
عليها وعلى أخلاقها الذاتية. فهذا ما كان من الفريقين، أما أنا - كاتب هذه السطور-
فقد أعلنت الحيدة حتى أسترشد برشدكم، أو أستنير بفُتيا مناركم والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
... كاتبه محمد محمد سعفان
…
...
…
...
…
...
…
طالب بمدرسة القضاء الشرعي
(ج) قلت: هدانا الله وإياك محجة الصواب في الحكم، وعصمنا
أن نقْفو ما ليس لنا به علم -إن بعض الأندية جمعك بطائفة من المتعلمين البحَّاثين،
وإنهم ذكروا (التمثيل العربي) فاختلفوا في جواز اشتغال المرأة المسلمة به،
وفي جواز تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة وخاتمهم خاصة، فقالت
طائفة منهم بجواز الأمرين، وعللوا الأول (بأن أدوار التمثيل وفصوله لا تتم إلا
بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مراسح التمثيل) وعللوا
الثاني بأنه (درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير
الوعاظ، وقل من يصادفه أو يجد له أثرًا) وقالت طائفة أخرى بمنع الأمرين
وعدّوه من التقليد الإفرنجي الضار، الذي يغتر به الأغرار، وقلت إنك وقفت حتى
تستفتي المنار، فهاك ما أفهمه في المسألتين بالاختصار:
لم يأتِ فريق المجيزين بشيء من العلم، يدل على ما جزموا به من الحكم،
فإن سلمنا لهم أن التمثيل لا يتم إلا بالمرأة - لا نسلم لهم أن جوازه يستلزم جواز
اشتغال المرأة المسلمة به، بل نسألهم ماذا يعنون بهذا التمام؟ وهل يعتد به شرعًا؟
ولماذا لا يُستغنى فيه بالمرأة غير المسلمة التي تستبيح من أعماله ما لا يباح
للمسلمة؟ وبأي حجة جعلوا القول بجواز التمثيل الذي ينقصه وجود المرأة المسلمة
أصلاً بنوا عليه القول بجواز اشتغالها بالتمثيل؟ وهل يعدوا التمثيل المطلق أن يكون
مباحًا أو مستحبًّا بشرط خلوِّه من فعل الحرام وذرائع الفساد، واشتماله على الوعظ
النافع والإرشاد؟ أَوَليس الصواب أن يقال - والأمر كذلك - إن التمثيل الذي
يتوقف على قيام المرأة المسلمة ببعض أعماله على الوجه المعروف في دور
التمثيل بمصر غير جائز؛ لأن ما توقف على غير الجائز فهو غير جائز، أو لأن
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟
إن اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل المعروف يشتمل على منكرات محرمة،
(منها) : ظهورها على أعين الرجال متبرجة كاشفة ما لا يحل كشفه لهم من
أعضائها كالرأس والنحر وأعالي الصدر والذراعين والعضدين، وتحريم هذا
مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فلا حاجة إلى ذكر النصوص
فيه. (ومنها) الاشتراك مع الرجال الممثلين في أعمال تكثر في التمثيل -
وإن لم تكن من لوازمه في كل قصة - كالمعانقة والمخاصرة والملامسة
بغير حائل. (ومنها) غير ذلك من المنكرات التي تشتمل عليها بعض
القصص دون بعض كالتشبه بالرجال، وتمثيل وقائع العشق والغرام
المحرم بما فيه من الأعمال المحرمة لذاتها، أو لكونها ذريعة إلى المحرم لذاته،
ولا أنكر أنه يمكن للكاتب العالم بأحكام الشرع وآدابه أن يكتب قصة تمثيلية
يودع بعض فصولها أعمالاً شريفة وأقوالاً نافعة إذا مثَّلتها امرأة مسلمة
تبرز في دار التمثيل غير متبرجة بزينة، ولا مبدية لشيء مما حرم الله
إبداءه من بدنها، ولا آتية بشيء من أعمال الفساد ولا من ذرائعه؛ فإن تمثيلها
يكون بهذه الشروط مباحًا أو مستحبًا. مثال ذلك أن تؤلف قصة في الترغيب
في الحرب للدفاع عن الحقيقة وحماية البلاد عند وجوبها باعتداء الأعداء عليها،
ويذكر فيها ما رُوي عن الخنساء رضي الله عنها في حثّ أبنائها على القتال بالنظم
والنثر. فمَن ذا الذي يتجرأ على القول بتحريم ظهور امرأة تمثل الخنساء في
مثل تلك الحال، التي هي مثال الفضيلة والكمال؟ ! ولكن إمكان وضع مثل هذه
القصة - وهو من الممكنات التي لم تقع - لا يُبنى عليه القول بإطلاق جواز ما هو
واقع من التمثيل المشتمل على ما ذكرنا، وما لم نذكر من المنكرات المحرمة
والمكروهة شرعًا.
وأما تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد عللوه بأنه
درس وعظ مؤثر، يعنون أن كل ما كان كذلك فهو جائز، وهذه الكلية
المطوية ممنوعة، وتلك المقدمة الصريحة غير متعينة؛ فإن هذه
القصص قد توضع وضعًا منفرًا، فلا تكون وعظًا مؤثرًا، وإن من
الوعظ المؤثر في النفوس ما يكون كله أو بعضه باطلاً، وكذبًا وبدعًا،
أو مشتملاً على مفسدة أو ذريعة إليها، ويُشترط في جواز الوعظ أن
يكون حقًّا لا مفسدة فيه، ولا ذريعة إلى مفسدة. وبناءً على هذا الأصل
ننظر في هذه المسألة من وجوه:
(أحدها) أن العُرف الإسلامي العام يعد تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
إهانة لهم، أو مزريًا بقدرهم، ومما أعهد من الوقائع في ذلك أن بعض
النصارى كانوا أرادوا أن يمثلوا قصة يوسف عليه السلام في بعض المدن
السورية، فهاج المسلمون لذلك، وحاولوا منعهم بالقوة، ورُفع الأمر إلى
الآستانة فصدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل تلك القصة وأمثالها، فإن
قيل: إن بعض مسلمي مصر - كأولئك المتعلمين القائلين بالجواز - لا
يعدون ذلك إهانة ولا إزراءً؛ إذ لا يخفى على مسلم أن إهانة الانبياء أو
الإزراء بهم أقل ما يقال فيه: إنه من كبائر المعاصي، وقد يكون كفرًا
صريحًا وردَّة عن الإسلام، نقول: إنما العبرة في العرف بالجمهور الذي
تربَّى على آداب الإسلام وأحكامه، لا بالأفراد القلائل ومَن غلبت عليهم التقاليد
الإفرنجية حتى صاروا يفضلونها على الآداب الإسلامية، كذلك القاضي الأهلي
الذي حكم ببراءة أستاذ مدرسة أميرية غازل امرأة محصنة وتصبَّاها، وكاشفها
بافتتانه بجمالها، حتى هجره الرُّقاد، وواصله السهاد، فشكت المحصنة هذه
الوقاحة إلى زوجها، فرفع الزوج الأمر إلى قاضي العقوبات طالبًا تعزير ذلك
العادي المفتات، فكان رأي القاضي أن مغازلة المحصنات الحسان
وتصبيهن، يحتمل ذلك الكلام الذي يفسدهن على أزواجهن، ولا يقتضي
سجنًا ولا غرامة، ولا تأنيبًا ولا مَلامةً؛ لأنه إظهار لحب الحسن والجمال، وهو
من ترقّي الذوق وآيات الكمال، ولكن ما رآه هذا القاضي المتفرنج حُسنًا وكمالاً
رآه السواد الأعظم من المسلمين نقصًا قبيحًا، وأنكروه عليه في الجرائد، حتى
منعتها مراقبة المطبوعات من التمادي في الإنكار، واستأنف الزوج الحكم، فنقضه
الاستئناف، وحكم بأن كلام ذلك الأستاذ جريمة منافية للآداب، ولو حاول بعض
أجواق التمثيل تمثيل قصة أحد الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام - لرأوا من
إنكار العلماء والجرائد ما لا يخطر ببال أولئك الأفراد الذي يرون جوازه، ولو وقع
مثل ذلك في بلد لم تذلل أهله سيطرة الحكام لما كان مثارًا للفتنة، ولتصدي الناس
لصد الممثلين بالقوة، بل يغلب على ظني أن أكثر الناس يعدون تمثيل الأمراء
والسلاطين، وكبار رجال العلم والدين، مما يُزري بمقامهم، ويضع من قدرهم،
وأن أحدًا من هؤلاء الكبراء لا يرضَى لنفسه ذلك.
(الوجه الثاني) أن أكثر الممثلين لهذه القصص من سواد العامة،
وأرقاهم في الصناعة لا يرتقي إلى مقام الخاصة، فإن فرضنا أن جمهور
أهل العرف لا يرون تمثيل الأنبياء إزراءً بهم على إطلاقه، أفلا يعدون
من الإزراء والإخلال بما يجب لهم من التعظيم أن يسمى (السي فلان)
أو (الخواجة فلان) إبراهيم خليل الله أو موسى كليم الله أو عيسى روح
الله أو محمدًا خاتم رسل الله؟ فيقال له في دار التمثيل: يا رسول الله ما
قولك في كذا، فيقول: كذا
…
، ولا يبعد - بعد ذلك - أن يخاطبه بعض
الخلعاء بهذا اللقب في غير وقت التمثيل على سبيل الحكاية، أو من باب
التهكم والزراية، كأن يراه بعضهم يرتكب إثمًا، فيقول له: مدد يا
رسول الله! ألا إن إباحة تمثيل هؤلاء الناس للأنبياء قد تؤدي إلى مثل
هذا، وكفى به مانعًا لو لم يكن ثَمَّ غيره.
(الوجه الثالث) تمثيل الرسول في حالة أو هيئة تزري بمقامه ولو
في أنفس العوام، وذلك محظور وإن كان تمثيلاً لشيء وقع. مثال ذلك
أن يمثل بعض هؤلاء الممثلين المعروفين يوسف الصديق عليه السلام بهيئة بدوي
مملوك تراوده سيدته عن نفسه، وتقدّ قميصه من دبر، ثم يمثله مسجونًا مع
المجرمين. ويتجلى النظر في هذا الوجه ببيان مسألة من أعظم المسائل التي يغفل
عنها أمثال أولئك الباحثين الذين ذكرهم المستفتي، وهي أن الرسل عليهم الصلاة
والسلام بشر ميَّزهم الله تعالى بما خصَّهم به من الوحي، وهداية الخلق إلى الحق،
وقد كانت بشريتهم حجابًا على أعين الكافرين حال دون إدراك خصوصيتهم،
فأنكروا أن يكون الرسول بشرًا مثلهم، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق.
وروي عن المسيح عليه السلام أن النبي لا يُهان إلا في وطنه وقومه، وقال
بعض العلماء في هذا المعنى: أزهد الناس في الولي أهله وجيرانه. أي لأنهم قلما
يرون منه إلا ما هو مشارك لهم فيه من الصفات والعادات، وأما ما يمتاز به من دقائق
الورع والتقوى والمعرفة بالله تعالى، فمنه ما هو سلبي لا يفطنون له، ومنه ما هو
خفي لا يدركونه؛ ولذلك احتِيجَ في إيمان أكثر الناس بالرسل قبل الارتقاء العقلي إلى
الآيات الكونية، وبعده إلى الآيات العلمية (كالقرآن الحكيم من الأمي) ، والذين
يؤمنون بالرسل من بعدهم يسمعون من أخبار آياتهم وخصائصهم وفضائلهم أكثر مما
يسمعون من أخبار عاداتهم وصفاتهم البشرية؛ وبذلك يكون تعظيمهم وإجلالهم لهم غير مشوب بما يضعف الإيمان بهم من تصور شؤونهم البشرية.
على أن الواجب أن يعرفوا منها ما يحُول دون الغلو في التعظيم
والإطراء الذي يرفع به الغلاة الأنبياء إلى مقام الربوبية والإلهية والتفريط
في ذلك كالإفراط، فتمثيل أحوال الأنبياء وشؤونهم البشرية بصفة تعد
زراية عليهم وإزدراء بهم، أو مفضية إلى ضعف الإيمان والإخلال
بالتعظيم المشروع - مفسدة من المفاسد التي يحظرها الشرع، فكيف إذا
أضيف إليها كوْن التمثيل في حد ذاته يعد في العرف العام تنقيصًا أو
إخلالاً ما بما يجب من التكريم، وكوْن الممثلين من عوام الناس، وقد
علمت ما في هذا وذاك.
(الوجه الرابع) أن من خصائص القصص التمثيلية الكذب، وأن
الكذب على الأنبياء ليس كالكذب على غيرهم، فإذا جاز أن يسند إلى
أسماء لا مسميات لها كلام تُقصد به العظة والفائدة، كما يحكون مثل ذلك
عن ألسنة الطير والوحش، وهو ما احتج به الحريري في فاتحة مقاماته
على جواز وضعه لها، وإذا صح أن يقاس على ذلك إسناد مثل ذلك الكلام إلى
أناس معروفين من الملوك وغيرهم فيما لا ضرر فيه، ولا إفساد في التاريخ،
ولا غيره من الحقائق - إذا جاز ما ذُكر، وصح القياس فلا يظهر جواز مثله في
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، على أن في المسألة نصًا خاصًا لا محل
للقياس مع مورده، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كذبًا عليَّ ليس ككذب
على أحد، فمَن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار) رواه الشيخان في
الصحيحين وغيرهما من حديث سعيد بن زيد، ورُوي عجُزه - وهو: مَن
كذب عليَّ
…
إلخ - متواترًا، وروى أحمد من حديث عمر مرفوعًا: (من كذب
عليَّ فهو في النار) وهو مطلق لم يقيد بالتعمد، وإسناده صحيح. وقياس الكذب
على غيره من إخوانه الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام - جلي، فهو
أقرب من قياس الكذب على الرسل على الكذب على العجماوات، الذي
احتج به الحريري، وأشار إلى اتفاق العلماء على جوازه. والكذب عليهم
يشمل ما يُحكى عنهم من أقوال لم يقولوها، وما يُسند إليهم من أعمال
لم يعملوها.
فإن قيل: إنه يمكن وضع قصة لبعض الرسل يلتزم فيها الصدق في كل ما
يُحكى عنه، أو يسند إليه - قلنا: إن النقل الذي يعتد به عند المسلمين هو نقل
الكتاب والسنة، ولا يوجد قصة من قصص الأنبياء في القرآن يمكن فيها ذلك إلا
قصة يوسف، وكذا قصة موسى وقصة سليمان مع ملكة سبأ، إذا جعل التطويل فيهن
في غير الحكاية عنهم. والأولى هي التي يرغب فيها الممثلون.ويرجى أن يقبل على
حضور تمثيلها الكثيرون، وفيها من النظر الخاص ما بيناه في الوجه الثالث. وأما
السنة فليس في أخبارها المرفوعة ولا الموقوفة ما يبلغ أن يكون قصة تصلح للتمثيل
إلا وقائع السيرة المحمدية الشريفة، والعلماء بها لا يكاد أحد منهم يقدم على جمع
طائفة منها، وجعْلها قصة تمثيلية.
وإذا فُتح هذا الباب، ووجد منهم مَن يدخله على سبيل الندور لا يلبث أن
يسبقه إليه كثير من الجاهلين بالسنة، المتقنين لوضع هذه القصص بالأسلوب الذي
يرغب فيه الجمهور، فيضعون من قصص الأنبياء - المشتملة على الكذب - ما
يكون أروج عند طلاب الكسب بالتمثيل، فيكون وضع الصحيح ذريعة إلى هذه
المفسدة.
فعُلم من هذه الوجوه أن جواز تمثيل قصة رسول من رسل الله
عليهم السلام يتوقف على اجتناب جميع ما ذُكر من المفاسد وذرائعها، بحيث يرى
مَن يعتد بمعرفتهم وعُرفهم من المسلمين أنه لا يعد إزراءً بهم، ولا منافيًا
لما يجب من تعظيم قدرهم، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى مَن اهتدى بهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة الحجاز
(8)
أيام منى ولياليها وأقوال الشعراء فيها
نصوص الشرع في أيام منى:
قال عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) .
أجمع العلماء على أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى التي تسمى
أيام التشريق. قيل: إن سبب تسميتها بذلك أنهم يشرّقون فيها لحوم الأضاحي؛ أي:
يقددونها ويبرزونها للشمس. وقيل: لأن الهدايا والضحايا لم تكن تنحر فيها إلا بعد
شروق الشمس، وقيل: هو مأخوذ من قول الجاهلية: أشرق ثبير، كيما نُغير.
أي ادخلْ يا ثبير في الشروق؛ لكي نسرع في الدفع إلى منى للنحر، ذلك بأنهم
كانوا لا يفيضون من المزدلفة إلا بعد شروق الشمس ووقوعها على جبل ثيبر أعظم
تلك الجبال، فأُمرنا بمخالفتهم بالإفاضة قبل الشروق. وقيل: لأنها أيام تشريق
لصلاة يوم النحر، فصارت تبعًا له، وأطلقوا التشريق على صلاة العيد، وسموا
مصلى العيد مشرّقًا. والجمهور على أن هذه الأيام هي الثلاثة التي تلي يوم عيد
النحر وأدخله بعضهم فيها، ولكن تخيير المتقي بين التعجيل في يومين أو التأخر
إنما هو في أيام منى الثلاثة التي بعد يوم العيد.
ووصفت أيام منى الثلاثة أو الأربعة بالمعلومات في قوله عز وجل في
الحجاج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم
مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 28) وتطلق الأيام
المعلومات على أيام عشر ذي الحجة الأوائل أو التسع التي آخرها يوم عرفة.
روى أحمد ومسلم والنسائي عن أبي نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل ، وفي
رواية ضعيفة عند غيرهم زيادة: (وبعال) بعد شرب. والبعال والمُباعلة:
الملاعبة بين البعلين (الزوجين) ، ومعناها صحيح؛ فإنه يحل في أيام منى كل ما
كان محرمًا بالإحرام حتى التغشِّي، وإنما يحل بعد طواف الإفاضة الذي تتم به
أركان النسك كلها. والمراد بالأكل: الأكل من لحوم الأضاحي المطلوب بقوله
تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} (البقرة: 58) وغيرها من الطيبات؛ فإن هذه الأيام أيام
عيد وسرور، شُرع فيها الجمع بين التمتع باللذات المباحة، حتى اللهو بالحراب
وسماع الغناء، وبين ذكر الله تعالى وشكره على إنعامه بها وبالتوفيق لإقامة النسك.
وشعار هذه الأيام من الذكر التكبير ويستحب رفع الصوت به والاشتراك فيه
عقب الصلوات وفي عامة الأوقات والأمكنة؛ فقد روى سعيد بن منصور وأبو
عبيد (أن عمر رضي الله عنه كان يكبر في قبّته بمنى، فيسمعه أهل المسجد
فيكبرون ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيرًا) وذكره البخاري في
الصحيح تعليقًا.
وأصح ما ورد في صيغته ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان،
قال: (كبروا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا) وروي عن الصحابة والتابعين
التكبير ثلاثًا ومرتين وزيادة التهليل. والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يأمر الناس بصيغة مخصوصة في التكبير والذكر في العيدين وأيام منى، كما أنه لم
يأمرهم بأذكار وأدعية معينة في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ليأتي كل فرد أو
جماعة بما شاؤوا، فلا بأس إذًا بما استحدث الناس من الذكر وصيغ التكبير مما لم
يرد عن السلف، وإن أشار بعض العلماء إلى استنكاره لذلك كأنه يراه من البدع
باستحداث صفة لعبادة تعد من الشعائر، وهو ما سماه بعضهم بالبدعة الإضافية.
وإنما يتجه هذا إذا التزموه جهرًا بغير زيادة ولا نقصان، ويتأكد إنكاره إذا صار
بحيث تظن العامة أنه واجب أو مندوب بهذا الوصف. وقد ذكر الإمام الشافعي في
الأم أن التكبير المشروع في العيدين هو كلمة (الله أكبر) ، وأن التثليث في بدئه
مستحب وأن لكل أحد أن يزيد من الذكر ما شاء.
وكذلك التكبير والدعاء والتضرع عند رمي الجمار، يرمي كل جمرة بسبع
حصيات مكبرًا مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والوسطى فيطيل القيام، يدعو
ويتضرع ولا يطيل عند جمرة العقبة. هكذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم
وروي تقدير قيامه صلى الله عليه وسلم عند الجمرتين بقدر سورة البقرة.
وكانت ذبائح النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة من الإبل، جاء
بثلاث وستين منها معه من المدينة وجاء علي كرم الله وجهه بالباقي من اليمن، وقد
نحر النبي صلى الله عليه وسلم 63 بيده الكريمة فكانت إشارة إلى سِنِي حياته
الشريفة، وأمر عليًّا فنحر الباقي. وأمر صلى الله عليه وسلم بأخذ بَضعة (بفتح
الباء: قطعة) من كل بدنة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكل هو وعلي منها،
وشَرِبَا من مرقها.
كلمة تاريخية أدبية في أيام منى:
سمعنا من الشريف في منى كلمة جديرة بالحفظ والتدوين، قال: كانت أيام
منى أول الإسلام من أطيب أيام الحياة - أي لما تقدم بيانه من الجمع بين اللذات
الروحية والبدنية والاجتماعية - فلما قربت المواصلات بين الأقطار الإسلامية
البعيدة صار ينتقل الوباء إلى الحجاز مع الحجاج الموبوئين، فيكون أشد فتكه عند
اجتماع الناس في منى، فصارت أيام منى أيام غم وكدر، يتعثر الناس فيها بالموتى
في كل مكان، وتعد الحكومة لها الألوف الكثيرة من الأكفان، ونحمد الله أنه لم يمُت
فيها أحد في هذا العام، لا بمرض وبائي ولا بمرض عادي. اهـ بالمعنى.
أقول: من الشواهد المؤيدة لهذه الكلمة التاريخية كثرة ذكر منى في أشعار
المتقدمين الغزلية والتغزُّل بالنساء عند رمي الجمار فيها، وندرة مثل ذلك في
غيرها من المشاعر، وعند غير رمي الجمار من الشعائر؛ ذلك بأن ما تقدم لنا
شرحه من تأثير الإحرام ولباسه في القلب وتأثير رؤية المشاعر العظام والطواف
بها والوقوف فيها أيضًا - كل ذلك مما يصرف الحاج عن كل ما عداه، ولا يدع في
قلبه فراغًا واسعًا لغير ذكر الله، لا ذكر الحسان، ولا ذكر الأهل والولد والإخوان،
فالتجلي الإلهي في جميع المشاعر - أثناء أداء جميع المناسك - تجلِّي هيبة وجلال،
إلا منى؛ فإن التجلي فيها تجلي أُنس وجمال، ولا تنسَ ما ذكرناه آنفًا من تحلل
الحاج فيها من الإحرام، واستباحته ما كان محرمًا من الأعمال، وكونها أيام عيد
يستحب فيها التمتع بالطيبات، وزدْ على ذلك أن لياليها هي الليالي التي يكمل فيها
نور القمر، وأن هواءها اللطيف يحبب إليك السمر.
رفقًا بها أيها الزاجر
…
قد لاح سلع وبدا حاجر
وخلها تسحب أرسانها
…
على الرُّبا لا راعها ذاعر
واذكر أحاديث ليالي منى
…
لا عدم المذكور والذاكر
* * *
لهف نفسي لليالٍ سلفت
…
آه لو ترجع هاتيك الليالي
لا تقل لي بمنى تُعْطَى المُنَى
…
بمنى كان من القوم انفصالي
* * *
صحبي مَضَوْا فمدامعي
…
منهلة في إثر صحبي
ما فَوّق الهجران سهـ
…
ـمًا فانثنى عن قصد قلبي
كلا ولا نادى الجوى
…
إلا وكنت أنا الملبي
ولقد وقفت على منى
…
لولا المنى لقضيت نحبي
وأشعار الشعراء بالتغزل بالنساء في منى ورميهن الجمار كثيرة، من أحسنها
قول الشريف الرضي - وهو من التغزل الخيالي النزيه -:
من معيد لِيَ أيا
…
مي بجزع السمُرات [1]
ولياليَّ بجَمْع
…
ومِنىً والجمرات [2]
وظباء حاليات
…
كظباء عاطلات [3]
رائحات في جلابيـ
…
ـب الدجا مخمرات [4]
راميات بالعيون الـ
…
ـنجل قبل الحصيات
أَلِعَقْر القلب راحوا
…
أم لعقر البدنات [5]
كيف أودعت فؤادي
…
أعينًا غير ثقات
أيها القانص ما أحـ
…
ـسنت صيد الظبيات
فإنك السِّربُ وما
…
زُوِّدت غير الحسرات
يا وقوفًا ما وقفن
…
في ظلال السلمات [6]
موقفًا يجمع فتيا
…
ن الهوى والفتيات
تشاكى ما عنانا
…
بكلام العَبَرات
نظرٌ يشغَل منا
…
كل عين بقَذاة [7]
كم نأى بالنفر عنا
…
من غزال ومهاة [8]
آه من جيدٍ إلى الدا
…
ر كثير اللفتات [9]
وغرامٍ غير ماض
…
بلقاء غير آت
فسقى بطن منى والـ
…
ـخَيْف صوب الغاديات [10]
وزمانًا نائمَ العذَّ
…
ال مأمون الوُشاة
في ليالٍ كاللآلي
…
بالغواني مُقمرات
غرست عندي غرسَ الـ
…
شوق ممرورَ الجناة [11]
أين راقٍ لغرامي
…
وطبيب لشَكاتي [12]
ومن التغزُّل الخيالي في منى وغيرها من معاهد النسك وأعماله ما قاله أبو
محمد عبد الله بن محمد التنوخي في قصيدته التي مدح بها ثقة الدولة يوسف بن
محمد بن الحسين القضاعي صاحب صقلية الروم وهو:
ولما التقينا محرمين وسيرُنا
…
بلبيك ربًّا والركائبُ تعسِف [13]
نظرت إليها والمطيُّ كأنما
…
غوار بها منها معاطسُ رعَّف [14]
فقالت أما منكنّ مَن يعرف الفتى
…
فقد رابني من طول ما يتشوَّف [15]
أراه إذا سرنا يسير حذاءنا
…
ونوقف أخفاف المطيّ فيوقف
فقلت لتِربيها ابلغاها بأنني
…
بها مستهام قالتا نتلطف [16]
وقولا لها يا أم عمرو أليس ذا
…
مِنًى والمُنى في خَيْفه ليس يُخلف [17]
تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا
…
بأن عنّ لي منك البنانُ المطرَّف [18]
وفي عرفات ما يخبر أنني
…
بعارفة من عطف قلبك أسعف [19]
وأما دماء الهَدي فهي هُدى لنا
…
يدوم ورأي في الهوى يتألّف [20]
وتقبيلُ ركنِ البيت إقبالُ دولة
…
لنا وزمانٍ بالمودة يعطف
فأوصلتا ما قلته فتبسَّمت
…
وقالت أحاديثُ العِيافة زُخرف [21]
بعيشي ألم أخبركما أنه فتى
…
على لفظه بُرْد الكلام المفوّف [22]
فلا تأمنا ما استطعتما كيد نطقه
…
وقولا ستدري أينا اليوم أَعْيَف [23]
إذا كنت ترجو في مِنى الفوز بالمُنى
…
ففي الخيف من إعراضنا نتخوَّف
وقد أنذر الإحرام أن وصالنا
…
حرام وأنَّا عن مزارك نصدف [24]
وهذا وقذفي بالحصى لك مخبر
…
بأن النوى بي عن ديارك تقذف [25]
وحاذر نِفاري ليلة النفر إنه
…
سريع، فقل مَن بالعيافة أعرف [26]
فلم أر مثلينا خليلي مودة
…
لكل لسان ذو غِرارين مُرهف [27]
ومما قيل في أيام منى ولياليها ما رواه صاحب الأغاني عن معبد المغني الذي
يُضرب به المثل، قال: أتيت أبا السائب المخزومي - وكان يصلي في كل يوم
وليلة ألف ركعة - فلما رآني تجوَّز أي خفف الصلاة، وقال: ما معك من مبكيات
ابن سريح؟ قلت له:
ولهنَّ بالبيت العتيق لُبانة
…
والبيت يعرفهن لو يتكلم
لو كان حيَّا قبلهن ظعائنا
…
حيا الحطيمُ وجوههن وزمزم
لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة
…
وهمو على سفر لعمرك ما همو
متجاورين لغير دار إقامة
…
لو قد أجدّ تفرّق لم يندموا
فقال لي: غنِّه فغنيته، ثم قام يصلي فأطال، ثم تجوز إليَّ، فقال: ما معك
من مطرباته ومشجياته؟ ، فقلت: قوله:
لسنا نبالي حين ندرك حاجة
…
ما بات أو ظل المطي معقلا
فقال لي: غنه فغنيته، ثم صلى وتجوز إلي، وقال: ما معك من مرقصاته؟
فقلت:
فلم أَرَ كالتجمير منظر ناظر
…
ولا كليالي الحج أفتنَّ ذا هوى [28]
فقال: كما أنت حتى أثمر لهذا بركعتين.
وأما التغزُّل في نساء معروفات في وقائع ومشاهد كانت هنالك فكثيرة ولزير
النساء الشهير عمر بن أبي ربيعة الشاعر القرشي كثير - منها قوله في أيام منى:
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها
…
وموقفي وكلانا ثَم ذو شجن
وقولها للثريا وهي باكية
…
والدمع منها على الخدين ذو سَنن [29]
بالله قولي له في غير معتبة
…
ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت تطلب دينًا أو رضيت بها
…
فما أخذت بترك الحج من ثمن
قال ابن سريج المغني: ما ظننت أن الله عز وجل ينفع أحدًا بشعر عمر بن
أبي ربيعة، حتى سمعت وأنا باليمن منشدًا ينشد قوله: بالله قولي له - البيتين -
فحركني ذلك على الرجوع إلى مكة، فخرجت مع الحجاج وحججت.
وقد كان عمر مفتونًا بالنساء وحديثهن، ولم تكن هيبة بيت الله وسائر
المشاعر الشريفة لتصرفه عن مغازلتهن، حتى في أثناء أداء المناسك؛ لأنه - وهو
مكي - قد ألفها واعتادها والآفاقيون أشد هيبةً وخشوعًا هنالك من الحرميين في
الغالب، ومما رُوي عنه في كتاب الأغاني أنه بينما كان يطوف رأى امرأة من
أجمل النساء، فوقعت في قلبه، فدنا منها، فكلمها، فلم تلتفت إليه، فعاودها في
الليلة الثانية، فقالت: إليك عني يا هذا؛ فإنك في حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة،
فألح عليها يكلمها، حتى خافت أن يشهرها. فلما كان في الليلة الثالثة جاءت
بأخيها معها إلى الطواف، فلما رأى عمر أخاها معها عدل عنها! فتمثَّلت بقول
جرير:
تعدو الذئابُ على مَن لا كلابَ له
…
وتتقي صولةَ المستأسدِ الضاري
وروي أن المنصور حدث بهذا الخبر فقال: وددت أنه لم تبق فتاة في خدرها
إلا سمعت بهذا الحديث. أقول: وهو شاهد على حكمة الشرع في حظر السفر على
المرأة إلا مع ذي مَحرم. هذا، وإن شعر عمر يوهم أنه كان من أفسق الفساق،
ولكن روى صاحب الأغاني عنه أنه حلف - في مرض موته -بالله أنه ما ركب
فاحشة قط، ولا كشف ثوبًا عن حرام قط، وحلف مرة بعتق كل مملوك له على
ذلك، وكان له في الحوك وحده سبعون عبدًا.
ومما روي عن غير عمر في هذا الباب تشبيب النميري بزينب الثقفية. ذلك
أن يوسف بن الحكم الثقفي والد الحجاج المشهور كان قد اعتل في بلده (الطائف) ،
فنذرت بنته زينب لتحجنَّ ماشية إن عُوفي، فعوفي، فخرجت في نسوة، فقطعن
بطن وَجّ (أي بطن وادي وج) ، وهو ثلاث مائة ذراع في يوم جعلته مرحلة لثقل
بدنها، ولم تقطع ما بين مكة والطائف إلا في شهر، وكان محمد بن عبد الله
النميري الطائفي يهواها، فقال - في حجها - أبياتًا منها:
تضوع مسكًا بطنُ نعمان إذ مشت
…
به زينب في نسوة عطرات [30]
تهادَين ما بين المحصب من منى
…
وأقبلن لا شعثًا ولا غبرات [31]
أعان الذي فوق السموات عرشه
…
مواشي بالبطحاء مؤتجرات [32]
مررن بوجّ ثم رحن عشية
…
يلبين للرحمن معتمرات
يخبئن أطراف البنان من التقى
…
ويقتلن بالألحاظ مقتدرات [33]
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها
…
وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلت بِنان المسك وحفا مُرَجّلاً
…
على مثل بدر لاح في الظلمات [34]
وقامت تراءى يوم جَمْع فأفتنت
…
برؤيتها مَن راح من عرفات
وقد أراد الحجاج أن يفتك بالنميري لتشبيبه بأخته لولا أن منعه منه عبد الملك
وكتب إليه أن لا سبيل له عليه على أنه ما وصفها هي وصواحبها إلا بالتقى.
وعلى ذكر أبيات النميري فيمن توسَّع جيب درعها، وترفع يدها عند رمي
الجمار ليرى ساعدها، وتتراءى يوم جَمْع أي عند انصراف الناس منها صباحًا إلى
منى لتفتن مَن أفاض إليها من عرفات على ذِكرها نقول لا عجب إذا وجد في النساء
المفتونات بجمالهن مَن تحب أن تظهر جمالها في تلك المعاهد الشريفة، كما وجد
في الرجال مثل عمر بن أبي ربيعة الذي يخرج إلى الحج ليغازل النساء، ولكن هذا
نادر، وأكثر الشعر فيه تخيّل، ومنه قول العرجي الشاعر من أبيات كانوا يتغنون
بها:
أماطت كساء الخز عن حُرّ وجهها
…
وأدنت على الخدين بُردًا مهلهلا [35]
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
…
ولكن ليقتلن البريء المغفلا [36]
روى أبو الفرج عن عبد الله بن عمر العمري قال: خرجت حاجًّا فرأيت
امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة الله
ألستِ حاجّةً؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنًا، ثم قالت:
تأمل - يا عمي - فإنني ممن عنى العرجي بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
…
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
قال: فقلت لها: فإني أسأل الله أن لا يعذب هذا الوجه بالنار. قال: وبلغ
ذلك سعيد بن المسيب، فقال: أما والله لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال
لها: (اعزبي) قبحك الله، ولكنه ظُرف عُبَّاد الحجاز (قال أبو الفرج:)
ورويت هذه الحكاية عن أبي حازم بن دينار - وذكر حكاية أخرى في معناها، فيها
أن أبا حازم قال لأصحابه: ادعوا الله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها بالنار.
وأبو حازم من كبار عباد التابعين. وكان عُبَّاد العراق - ولا سيما أهل البصرة منهم-
مشهورين بالشدة في العبادة والزهد، ومنهم خرج أكابر الصوفية.
وإننا نختم هذا السياق بخبر أبي نواس فاسق الشعراء، فقد روي أنه كان
يهوى جارية لأحد الثقفيين بالبصرة اسمها جنان وكانت حسناء أديبة عاقلة ظريفة،
تروي الأشعار وتعرف الأخبار، فقيل له يومًا إنها عزمت على الحج، فقال: أما
والله لا يفوتني المسير معها، والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها، ثم سبقها
إلى الخروج، وقال - بعد عودته -:
ألم تر أنني أفنيت عمري
…
بمطلبها ومطلبُها عسيرُ
فلما لم أجد سببًا إليها
…
يقربني وأعيتني الأمورُ
حججتُ وقلت قد حجَّت جنان
…
فيجمعني وإياها المسيرُ
وروى صاحب الأغاني من خبر حجه عمن شهده، وقد أحرم، أنه لما جنَّه
الليل جعل يلبي بشعر، ويحدو به، ويطرب، فغنى به كل مَن سمعه، وهو قوله:
إلهنا ما أعدلك
…
مليك كل مَن ملك
لبيك قد لبيتُ لك
…
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
…
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
…
على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أَمَّلَك
…
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
…
كل نبي وملَك
وكل مَن أهلّ لك
…
سبّح أو لبّى فلك
يا مخطئًا ما أغفلك
…
عجّل وبادر أجَلَك
واختم بخير عملك
…
لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك
…
والعز لا شريك لك
والعبرة في هذه الوقائع والأشعار من وجوه:
(منها) أنه يدل على أنه لا يمكن أن يجتمع النساء والرجال الكثيرون في
مكان ينظر بعضهم إلى بعض إلا ويكون لمغازلة النساء بالكلام أو بالنظر نصيب
فيه، كما قال عمر بن أبي ربيعة في أبيات مقصورة:
ومَن مالئ عينيه من شيء غيره
…
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وإذا كانت معاهد الحج لم تخلُ من المغازلة والتغزُّل في أول عصر الحضارة
الإسلامية وأول العهد بتحجُّب النساء والدين لم يزل في قوة سلطانه على
الأرواح، حتى إن أشد المترفين إسرافًا في الخلاعة ومغازلة النساء لم يرتكب في
عمره فاحشة، فما ظنك في غير هؤلاء وأمثالهم وفي أهل هذا الزمان في غير تلك
المعاهدة؟ قال لي بعض القسيسين قد مات الدين، ولا يقصد الناس المعبد
إلا لمغازلة النساء.
(ومنها) أن أقوال الشعراء في معاهد الحج وأيامه وأعماله مما يشوق
القلوب إلى تلك البلاد كما وقع لابن سريج في اليمن، ولأجله كتبت هذا الفصل
من الرحلة، وإنني وجدت نفسي في أيام كتابتي لهذا الشعر فيه شديدة الشوق إلى
الحجاز ومشاهده، وليالي عرفة والمزدلفة ومِنى، على أنني لست من المغازلة
والغزل في شيء، ولم أَرَ هنالك، ولم أسمع عن أحد شيئًا من ذلك، ولله الحمد.
ولكنني أذكر في الكلام على هذه العبرة كلمتين لفاضلين مصريين كانا معنا في
الحجاز: (أحدهما) قول أتقى الرجلين وأحسنها تدينًا - وهو محصن - إنه رأى
في منى امرأة في نافذة دار مقابلة للدار التي كان فيها تحمل منظارًا، تنظر
فيه، فتوَهَّم أنها تنظر إليه، فاشتغل قلبه بذلك مدة وجوده في منى. (والثانية)
قول الآخر، وهو أعزب: إنني لم أَرَ في الحجاز امرأة وسيمة، يشتهي المرء أن
يعيد إليها طرفه، فهل هؤلاء هن نساء العرب اللواتي شبَّب بهن الشعراء ذلك
التشبيب الفاتن، الذي يُخَّيل لقارئه أنهن أجمل نساء الأرض؟ ! ويا ليت شعري
كيف كان يكون غزلهم وتشبيههم، لو كان في نسائهم من الجمال ما نعهد في
الآستانة وغيرها؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الجِزع بكسر الميم وسكون الزاي: منعطف الوادي ومُنحناه، والسمرات جمع سمرة: وهي شجرة السمر بفتح السين وضم الميم: وهي من شجر العضاه أي ذي الشوك، وشوكها قصير، وورقها صغير، ولها برم، أي ثمر أصفر، ويُؤكل.
(2)
جمع اسم المزدلفة، وذكر في هذه الرحلة.
(3)
حاليات: متزيّنات بالحلي، وهن الظبيات بالمجاز، وعاطلات غير متحليات، وهن الظبيات بالحقيقة.
(4)
الدجا: سواد الليل مع غيم يمنع رؤية القمر والنجوم يعني يخرجن ليلاً لرمي الجمار ولغير الرمي من حاجتهن، فيكون الدجا ساترًا لهن كالجلابيب حالة كونهن مختمرات بخُمُرهن مبالغة في الستر.
(5)
ذكر ضمير (راحوا) ، وقلما يأتي في الفصيح إلا لنكتة كتذكيره في السلام على امرأة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في سورة هود، وإرادة إذهاب الرجس عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب لشمول الخطاب للخليلين في الخطابين، ولعل الشاعر هنا يعني أنهن يخرجن مع رجالهن.
(6)
السلمات جمع سلمة بفتحتين: وهو من شجر العضاه كالسمر، ويكثر في جزيرة العرب، والخطاب للرجال الذين يقفون في ظلال شجر السلم مدة وقوف أولئك النساء يتشاكون معهن الجوى بكلام العَبرات - أي الدموع - الدال على ما في القلوب.
(7)
يعني أن كل عين من أعين فتيان الهوى والفتيات تذرف العبرات في موقفها ذاك، حتى كأن فيها قذاة تستنبط دموعها، وهي ما يقع في العين من عصفة تبن وغيرها.
(8)
المهاة: البقرة الوحشية تشبه بها المرأة النجلاء لسعة عينيها وحسنهما، وأشار بغزال ومهاة إلى فتيان الهوى والفيتات الذين وصف موقفهن عند الوداع، كما علم من ذكره النفر هنا، وهو الدفع من منى.
(9)
المراد بالدار: دار منى.
(10)
بطن منى واديها والخيف سفح جبالها أي سقاها كلها ما يصوب، وينسكب من المطر في الغداة، أي أول النهار فالغاديات جمع غادية: وهي السحابة التي تنشأ أول النهار أو المطرة فيه.
(11)
الجناة ما يجنى من الثمر، والظاهر أنه أراد بالممرور المرّ - ضد الحلو - وفعل المرارة لازم لا مفعول له، وإنما الممرور مَن غلبت عليه المِرة - وهي بالكسر - ما يسمى الصفراء أو السوداء من أخلاط البدن والشريف من أئمة اللغة فلا بد أن يكون لاستعماله مخرج إذا صحت الرواية عنه، وإن لم يكن استعماله حجة في اللغة.
(12)
الشكاة بالفتح: ما يُشكى من مرضٍ عَرَض، أو ألمٍ ألمّ سأل ما عزّ فلا يوجد، وهو الراقي لغرامه، والطبيب لسقامه، وإنما احتاج الغرام للراقي دون الطبيب؛ لأنه وجْد نفسي روحي يحتاج إلى المسكنات الروحية، وإن وهمية والاستفهام استفهام توجع ويأس.
(13)
قوله: وسيرنا بلبيك ربًا معناه أن سيرهم مُلابِس ومصحوب بالتلبية المعروفة، وعسف الركائب: خبطها في السير على غير هدى، لعله لشدة الزحام أو في السُّرَى، يقال بات فلان يعسف الليل إذا خبطه في ابتغاء طلبته.
(14)
الغوارب جمع غارب: وهو الكاهل أو ما بين السنام والعنق، والمعاطس: الأنوف، والرعف الرواعف: أي التي يسيل منها الدم، والمراد أن الغوارب جُرحت من طول السير والأقتاب عليها، حتى كان منها أنوفًا راعفة.
(15)
رابه: أوقعه في الريبة، وهي الشك والتهمة، والتشوُّف إلى الشيء: التطلع إليه، أي أن تطلُّعه وإدمانه النظر إليها جعلني اتهمه بأنه يتعمد ذلك لأمر ما في نفسه، ثم فسرت ذلك التشوف لصواحبها بسيره حذاءهم إذا سرن، ووقوفه إذا وقفن.
(16)
التِّرب بكسر التاء وسكون الراء: اللدة وهي بالكسر، مَن وُلد معك، فتِرباها رفيقتان لها من سنها، والمستهام مَن جعله الحب كالهائم في الفلوات، لا يهتدي سبيلاً إلى النجاة.
(17)
شرع يستمليها بالتفاؤل بنبيل مودتها مستنبطًا له من أسماء الأمكنة وغيرها على طريق العيافة التي ستُذكر في الأبيات، وبدأ بذكر منى، فجعلها فألاً بنيل المنى، وهو جمع مُنية (بوزن غرف وغرفة) ، ومعناه ما يتمنى، وقد تقدم أن خيف منى سفح جبلها.
(18)
طارف الوفاء: حديثه وجديده، والبنان: الأصابع، وقد يخص بالعُقد العليا منها، واحدتها: بنانة، والمطرَّف: المخضوب بالحناء.
(19)
العارفة: المعروف في المعاملة، المراد من حديث:(مَن أسدى إليكم معروفًا فكافئوه)، والإسعاف بالحاجة: قضاؤها.
(20)
الهَدْي بالفتح: ما يُهدى إلى الحرم من الأنعام، وهي ذبائح النسك، والهُدى بضم ففتح: الدلالة على المطلوب بلطف والإيصال إليه كذلك، وهو ضد الضلال، والمراد أن كلمة الهدي بالفتح فأل دال على تواصل دائم لنا.
(21)
العِيافة: التفاؤل أو التشاؤم بحركات الطير ومساقطها وأسمائها هذا هو الأصل، ثم توسعوا فيه بمثل ما ترى في هذه الأبيات، والزخرف: الزينة والتزويق، تعني أنها من زخرف الكلام لا من الحقائق، كقوله تعالى:(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً)(الأنعام: 112)، وفي حديث قبيصة عند أبي داود:(العيافة والطيرة والطرق من الجبت) ، أي من الخرافات كالكهانة والسحر، والحديث صحيح السند.
(22)
البُرد: الثوب المخطط، والمفوَّف: الرقيق، وتعني به لطافة كلامه وحسنه، وكونه ينمّ عما وراءه.
(23)
أعيف اسم تفضيل من العيافة يقال عاف الطير يعيفها: إذا زجرها وتطيَّر بها، وهو ما تقدم آنفًا.
(24)
نصدف: نعرض.
(25)
أي وقذفي بالحصا في رمي الجمار مخبر لك بأن النوى - أي البُعد أو وجهة السفر (وهي مؤنثة) - ترمي بي في مكان بعيد عن ديارك.
(26)
النفار والنفور مصدر نفر (من باب نصر وضرب) وهو: الشرود بسبب مزعج، ومنه نفار الظبي والدابة والنفر للقتال والنفر: التفرق ويوم النفر وليلة النفر هو: يوم ينفر الحاج من منى، وهو ثاني أيام التشريق لمن تعجل، ويسمى النفر الأول وثالثها لمَن تأخر، ويسمى النفر الثاني.
(27)
أي لكل منا لسان ذو حدين مرهف: من أرهف السيف: إذا رقق حده، ويعني بغراري اللسان: قدرته على جعْل الكلام الواحد على وجهين متقابلين متضادين كجعْل أعمال النسك ومواضعه للتفاؤل وللتشاؤم، فهو كالسيف ذي الحدين.
(28)
الشعر لعمر بن أبي ربيعة، وإنما لابن جريج الصوت والتجمير: رمي الجمار، وأفتن بالهمزة كفتن من الفتنة، وهو لغة نجد، وفي نسخة ديوان عمر المطبوعة: أفلتن.
(29)
السنن بالفتح: الطرق وهي مجاري الدمع.
(30)
تضوع: فاحت رائحته، وبطن نعمان أي وادي نعمان وهو بين الطائف ومكة، ويُروى حرف القافية: خفرات، والخفر: شدة الحياء.
(31)
المحصب موضع بين مكة ومنى.
(32)
مؤتجرات: طالبات للأجر.
(33)
ويُروى: يخمرهن يدل يخبئن، والمصراع الثاني: ويخرجن من جنح الليل معتجرات أي متلفعات بالمعاجر على رءوسهن.
(34)
البِنَان بكسر الباء جمع بَنَّة بالفتح، وهي: الرائحة الطيبة، والعل: متابعة الشيء، وأصله متابعة السقي، والوحف: الشعر الكثير الحسن، والمرجّل من الترجيل، وهو: تسريح الشعر بالمرجل، أي المشط أي وعلت روائح المسك منها شعرًا أثيثًا حسنًا مرجلاً فوق وجه يلوح بينه كالبدر في الظلمات.
(35)
البُرد بالضم: ثوب مخطط، والمهلهل: الرقيق النسيج، والواهي أي برد لا يستر الوجه لرقته، ولعله من الهَلَل بالتحريك، وهو نسيج العنكبوت.
(36)
الحُسبة بالضم والاحتساب في العمل: اعتداده ذخرًا عند الله، والمغفل: مَن لا فطنة له، فيتقي فتنة النساء.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المتفرنجون والإصلاح الإسلامي
(1)
يكثر ذكر المتفرنجين في المنار وغيره، والتفرنج مشتق من اسم الإفرنج أو
الفرنجة، وهذه الصيغة تُبنى لمعانٍ:(منها) التكلف كتجلد فلان وتشجع وتخشع،
وتجرع الشراب إذا تكلف الجَلَد والشجاعة والخشوع وشرب ما يكره، و (منها)
تحصيل الشيء بالتدريج كتعلم الحساب. وكل من هذين المعنيين ظاهر في استعمال
كلمة التفرنج وما يُشتق منها، فالمتفرنجون هم الذين يقلدون الإفرنج فيما يستحسنونه
من العادات وغيرها بالتكلف أولاً، ثم يتوسعون في ذلك بالتدريج، حتى انتقل بعضهم
من التقليد في مشخصات الأمم التي تقوى بها روابطها كالعادات في الأزياء والأكل
والشرب وآداب المجلس، إلى ما هو من مقوماتها التي تبقى ببقائها وتفنى بفنائها
كاللغة والدين والشريعة وأصول الآداب والروابط الاجتماعية المنزلية والقومية.
وهؤلاء المتفرنجون فريقان:
(أحدهما) مَن كان تفرنُجهم أثر التعليم المصري والتربية الإفرنجية التي
حببت إليهم ما لقنوه وتربوا عليه من مقومات القوم ومشخصاتهم قبل أن يلقنوا ما
لأمتهم من ذلك، ويتربوا عليه كما يجب، فكانوا كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
(وثانيهما) مَن يتفرنجون تقليدًا للفريق الأول من قومهم الحكام والأغنياء
تقربًا إليهم، وانتظامًا في سلكهم، وتمتُّعًا بمثل زينتهم ولذتهم، فهم مقلِّدة المقلدين،
بغير شبهة ولا دليل، إنما كان سبب فشو هذا التفرنج في المسلمين المدارس
الإفرنجية والمدارس الوطنية الرسمية وغير الرسمية، التي أنشئت لتقليد الإفرنج
في تربيتهم وتعليمهم بغير بصيرة ولا علم بموضع الحاجة، على حين كان العلم
بمقومات الأمة الإسلامية ومشخصاتها قد قلّ وضعف بضعفها السياسي والاجتماعي،
وما بقي منه أمسى مشوبًا بما ليس منه من البدع والدخيل، وساءت طريقة تعليمه،
وأهملت فكرة التربية عليه بالتخلُّق والعمل، وقد قلت - في المنار - غير مرة:
إنني لا أعرف في الدنيا مدرسة تعلم فيها اللغة العربية التعليم الفطري، الذي به
تكون مَلَكَة في ألسنة المتعلمين، بحيث يفهمون كلامها الفصيح في كل كتاب،
ويقدرون على الإتيان به محاورة وخطابة وكتابة بغير تكلف، كما تعلَّم اللغات
الإفرنجية في بلاد أهلها، ولا على مقربة من ذلك كما تعلم في بلادنا، ولا أعرف
مدرسة يعلم فيها الإسلام تعليمًا يُفهم به كتابه وسُنته وما فيهما من العقائد والأحكام
والحِكَم والآداب فهمًا صحيحًا، يتمكن به المتعلمون من بيانه بالقول والكتابة،
وإثبات قضاياه والدفاع عنه بالدليل والحجة، ولا مكانًا يتربى فيه النشء على
أخلاقه وآدابه العالية، وإنما المدارس الإسلامية التي تدرس فيها العربية والدين
معاهد تعالج فيها كتب في فنون العربية والعلوم الشرعية مما صُنِّفَ بعد ضعف العلم
الاستقلالي أو موته قلما يوجد فيها من وضع الأئمة المجتهدين شيء، ولكن يقرأ في
بعضها قليل من كتب التفسير بقصد التبرك الذي لا يعقل معناه لا بقصد الاهتداء،
وكل ما يقرأ من الكتب في مدارس البلاد العربية يفسر باللغة العامية، وفي مدارس
البلاد الأعجمية (كالهند والفرس والترك) يترجم بلغاتها.
في أثناء هويّ الأمة الإسلامية في هذه الهاوية من الجهل من عدة قرون كان
الإفرنج يصعدون في مراقي العلم الاستقلالي والتربية الاجتماعية على علم ونظام،
يهتدون فيه بسنن الله في خلق الإنسان والأكوان، وقد جعلوا لكل علم وكل فن ولكل
صناعة وعمل جماعات تُعنى بترقيته وإتقانه، حتى إن الجمعيات الدينية فيهم تملك
ألوف الألوف من النقود الذهبية. ولكن كان جُلّ ارتقائهم في العلوم والفنون المادية
والمالية والحربية وطرق استعمار الممالك واستخدام الشعوب لمنافعهم، وأقله في
الفضائل الدينية والأدبية التي ترجح الحق على القوة، والعدل على الشهوة، حتى
خاف عاقبة ذلك عليهم حكماؤهم وعقلائهم، وقال أكبر وأشهر فيلسوف اجتماعي
فيهم، وهو هربرت سبنسر، لأكبر وأشهر حكيم فينا، وهو الأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده - ما معناه أن ضعف الفضيلة وتغلُّب الأفكار المادية على أوربة
سَتَدُعُّها (أي تدفعها بعنف) إلى حرب مجتاحة ليظهر أيّ أممها الأقوى، فيسود
العالم.
{إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وإنه ليبغي أن
رآه قوي واستعلى، وإن مظاهر الغنى والقوة لغَرَّارة خداعة، فالفقراء يعظمون
الأغنياء، وإن منعوهم رفدهم، وهضموهم حقهم، والضعفاء يخضعون للأقوياء،
وإن أرهقوهم عسرًا، واستذلوهم عدوانًا وظلمًا، ولا يزال بعض الشعوب على
إرث ما من سلفهم الذين عبدوا الملوك، واتخذوهم آلهًة وأربابًا، وإن زالت تلك
الدعوى وعفت مظاهرها الباطلة، فيظهر أثر هذا الإرث في كثير من أفرادها،
وإن تبوءوا مقاعد الرياسة فيها، وأما ولوع الأمم المغلوبة على أمرها بتقليد الغالبين
- في كل ما يسهل التقليد فيه من العادات وشئون الحياة - فهو سُنة من أظهر سنن
الاجتماع، وقد بسط الكلام فيها حكيمنا ابن خلدون في مقدمته، فهي لا تخفى على
قراء العربية، الذين يعنون بالأمور الاجتماعية، والتقليد في الأمم كالتقليد في
الأفراد، هو توطين لنفس المقلد على أن يكون تابعًا للمقلد في بعض ثمرات اجتهاده،
غير طامع في مساواته، فهو يستلزم تعظيمه له واحتقاره لنفسه وقومه.
إن المقلد لا ينفكّ مرتكسًا
…
في الضعف يخبط في ليل دجوجي
قد يشتبه أمر بعض المتفرنجين بما يدعو إليه المصلحون من الاعتبار بما
أوتي الإفرنج من العلوم والفنون، وما أتقنوا من الأعمال، والبحث في أسباب ذلك
وطرقه، والاستقلال في اقتباس ما تحتاج إليه أمتهم منه، لتقوى به، وتكون أمة
عزيزة قوية مثل أممهم، وإنما تقوى الأمة إذا حافظت على ما كانت به أمة كاللغة
والآداب والعادات والشرائع التي تمتاز بها، وإذا كان بعض العادات باطلاً ضارًّا،
فينبغي إزالته وتغييره بالحكمة والموعظة الحسنة، والتربية العملية النافعة، بشرط
أن لا يشوب ذلك شيء من تحقير الأمة في أنفس أهلها، ولا إذلالها بإشعارها
باستعلاء غيرها عليها، وأن لا تُحْمَلَ على تقليد أجنبي عنها، وإنما تلقَّن الحكمة
مع إقناعها بفضلها ونفعها، وبأنها يجب أن تكون أحق بها وأهلها، كما ورد في
حديث أبي هريرة عند الترمذي: (الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق
بها) ، ومن المتفرنجين مَن يدعي هذا الإصلاح، ويتوهم أنه صادق؛ لأنه لا يميز
بين الإصلاح والإفساد، ومنهم مَن يدعيه بمحض الكذب والرياء، {وَمِنَ النَّاسِ
مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا
تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 204-205) .
إن الفرق بين المتفرنج المقلد وبين المصلح المستقل مما يخفى على غير
العارفين بالحقائق، ومن هؤلاء العارفين لورد كرومر الذي كان عميد إنكلترة في
مصر، فقد بيَّن في كتابه (مصر الحديثة) من فضائح المتفرنجين المصريين ما
فيه أكبر عبرة لمَن يعتبر منا، وإن كان لم يكتبه لأجلنا، ولا نحن عرفنا كيف
نستفيد منه، وقد أشار إلى مذهب المصلحين الإسلاميين فيما يستحدثون لقومهم من
شئون الحضارة بما قاله في أحد تقاريره عن مصر عند ذكر وفاة الأستاذ الإمام،
وهو أن الشيخ وحزبه المعتدل يشترطون في ذلك المحافظة على أصول الإسلام،
خلافًا لمن لا يبالون في هذه السبيل بالدين ولا ما دونه من مقومات الأمة التي نشؤوا
فيها. ولا يرجى من أجنبي غير مسلم أن يقول في كلمة استطرادية أكثر من هذا،
في بلد له السيطرة على حكومته، وجل من تعتمد عليهم حكومته من رجالها هم
المتفرنجون، كما بيَّن ذلك اللورد نفسه في كتابه (عباس الثاني) .
المتفرنجون أصناف، فمنهم المعتدلون والغلاة، ومن الغلاة: المارقون من
الدين الذين يحاربون أصوله وفروعه، وينفثون سموم الكفر والفسق في أهله،
والمارقون الذين لا يحبون أن يعرف حالهم، فلا يتكلمون في أهل الدين ولا يحبون
أن يتكلم هؤلاء فيهم، إما لاعتقادهم أن فشوَّ الكفر مفسدة تزيد أمتهم ضعفًا وفسادًا،
وإما لكراهتهم للخوض في أمثال هذه المسائل وما تجرُّه من القيل والقال، ومن
المعتدلين: الثابتون على عقيدتهم التي نشأوا عليها، والذين لهم ضرب من الآراء
الجديدة فيها، وإنما تفرنج هؤلاء في أبدانهم، لا في عقلهم ووجدانهم، ولا نحاول
استقصاء ما يكون به التفرنج وأصناف أهله في أفراده، بل نقول بالإجمال: إنه
قسمان: صوري ومعنوي، ظاهري وباطني، والمعنوي الباطني، يستلزم
الصوري الظاهري، وأما هذا فلا يستلزم ذاك، ولكنه يؤثر فيه بعض التأثير، فكل
منهما يمد الآخر في ذلك وفي غيره ويستمد منه؛ لذلك ترى بين أصحاب كل قسم
من التعارف والتآلف ما لا نجده بينهم وبين المخالفين لكل منهم، فهو لذلك يسري
في الأمة سريانًا تدريجيًّا، لا يشعر به الجمهور، وإنما يفطن له الأفراد من
العارفين بشئون الاجتماع المراقبين لسير الأمم وتقلبها، وما يطرأ عليها من التغيير.
أما ما يشعر به الجمهور ويتألم له من بعض شذوذ الغلاة من هؤلاء
المتفرنجين وجهر بعضهم في إنكار ما عليه الأمة من العقائد أو العادات المحترمة
فمثله فيه كمثل العامي الجاهل الذي يُصاب بالداء الإفرنجي، يتألم لكل قرحة
تعرض له من أثر الداء ويطلب لها الدواء، ولكنه لا يعرف خطر الداء في عامة
بدنه، ولا فعله في تسميم دمه، ولا يطلب له العلاج في غير أوقات التألم من
الأعراض الحادثة، ولا يصبر على تناول الأدوية التي يرجى أن تنقي دمه من ذلك
السم في الزمن الطويل.
ترى هذا الجمهور الذي ضربنا له المثل يصيح ويشكو قولاً وكتابةً عند كل
صوت يجهر بمخالفة دينه وآدابه وعاداته: فلان كفر، فلان فجر، وأما العالم
بشئون الاجتماع فهو كالعالم بالطب أو بحفظ الصحة، كلاهما يهتم بالعلل العامة
وأسبابها والعلاج الذي يستأصلها لا بأعراضها التي تظهر تارة وتخفى أخرى. ويا
ليت الجمهور يتبع الطبيب الاجتماعي الذي يستصرخه عند كل صيحة تؤلمه من
مهاجميه في عقائده أو غيرها من مقوماته الملية، كما يتبع مريض البدن طبيب
الأبدان، إذًا لسهل التوقي من خطر هؤلاء الذين تقطعت الأسباب وانفصمت العرى
التي تربطهم بأمتهم، وتعذر عليهم الاتصال بأمة أخرى يكونون أعضاءً حية فيها،
ففقد جمهورهم الشعور بالحياة القومية والملية، فأمسى لا يهتم إلا بلذَّاته الشخصية،
ومنها أن يكون محترمًا مكرمًا بين مَن يعيش معهم، فهو يدعوهم إلى أن يكونوا
مثله مُدَّعِيًا أن ذلك خير لهم، كما أنه يكون عونًا لكل ذي سلطان عليهم، يساعده
على كل ما يريده منهم، ومن دون هذا الجمهور أفراد يعز عليهم أن لا يكون لهم
أمة، فهم لشدة حاجتهم إلى الأمة التي انفصلوا منها في الباطن يريدون أن يجذبوها
إليهم، ويجعلوها أمة أخرى بمقومات ومشخّصات مذبذبة، لا هي إسلامية صحيحة
ولا هي إفرنجية خالصة؛ ليكونوا أعضاءً رئيسة لها في هذا الخلق الجديد المتخيل،
بعد أن صاروا فيها كالأعضاء الأثرية وزوائد الأظفار والأشعار التي جرت العادة
بقصها وإلقائها، وهؤلاء الأفراد الذين يفكرون في تكوين الأمم قليلون، ولكن الذين
يلغطون بهذه الألفاظ كثيرون، ولم يظهر في متفرنجينا فرد صَلُحَ لتكوين أسرة
صالحة، أو تأسيس جمعية نافعة، فأين هم من إفناء أمة كبيرة وإعادتها خلقًا
جديدًا؟ إلا أنهم بضعف الأمة في نفسها، وبمساعدة القوى الغريبة لهم عليها.
ليستطيعون شيئًا من الهدم دون البناء، ومن الإماتة دون الإحياء.
قلنا: إن جمهور المسلمين يشكو ويتألم من كل صوت يسمعه من هؤلاء الذين
يدعون إرادة إصلاحه وإحيائه، وإنما يشكو من أعراض الداء لا من سمه وأسبابه،
ونقول أيضًا: إنه كلما سمع صوتًا منكرًا من تلك الأصوات يفزع إلى مَن يثق بهم
من العلماء والكُتَّاب: انصروا الدين، ردوا على الملحدين، ويقنعه كل ما يقال،
ويكتب بعنوان الرد، وإن كان من قبيل الطعن والسب.
وقد سمع في هذه الأيام صوت من هذه الأصوات، لولا حالة الحرب وما
اقتضته من المراقبة على المطبوعات لكان الجهر بالشكوى منه أضعاف ما عهد في
أمثاله، ذلك صوت رجل من أعضاء النيابة، ألقى على جمهور عظيم من رجال
القضاء بأسلوب الخطابة، ثم طبع في رسالة، ووزع على الناس كافة، موضوعه
وضع قاعدة لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، ولتغيير أصول الشريعة الإسلامية،
وقد رغب بعض الفضلاء في الرد عليه، ويكفي في وجوب ذلك مجرد اطلاعنا
عليه، وكنا سنتكلم في تلك القاعدة أو القواعد كلامًا علميًّا شرعيًّا، ولا نقول في
شخص وضعها شيئًا، وإن الغرض بيان الحق في نفسه، ومَن عرف الحق عرف
أهله، وموعدنا الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: ن. هـ. د.
نقد ذكرى المولد النبوي
لصاحب الإمضاء الرمزي
(الموضع الأول) في صفحة [1](ي) من المقدمة حققتم أن عمل المولد
بالشكل المعروف بدعة، وأنكم تتحامون عن عمل شيء باسم المولد، فأحسنتم،
وأجدتم. ثم ذكرتم أن البكري دعاكم، فتوسلتم بإجابة الدعوة إلى تنفيذ فكرة استبدال
الضار من الموالد بالنافع، فهل هذه الفكرة غيَّرت حكم هذه البدعة، وأخرجتكم من
المُحْدَثِينَ؟ ، لا أظن ذلك، بل لا أرى وضع المولد يليق بأمثالكم، القائمين
بالإصلاح ومحاربة البدع، وخصوصًا على الصورة التي طُبع عليها مختومًا كل
فصل منه بالصلاة البتراء، فلو اكتفيتم بنشره في المنار مع الإرشاد إلى جعْل
تلاوته بصورة الخطابة لربما كان أنسب، وعن الصورة المألوفة أبعد.
(الموضع الثاني) في أول الصفحة الرابعة من ذكرى المولد ذكرتم ما لفظه:
كيف كان اصطفاء الله تعالى لهذه الأصول من الأمة العربية، الذي ثبت في
صحيح مسلم وغيره من كتب السنة السنية، وبماذا امتاز قوم خاتم الرسل
…
إلخ.
العبارة في ذوقي السقيم غير مستقيمة، ولم يظهر لي صلاحية شيء مما بعدها
للجواب عن (كيف كان) ، وجميعه جواب عن (وبماذا امتاز) ، فحذف السؤال
الأول والاقتصار على الثاني لعله أظهر.
(الموضع الثالث) في الصفحة الخامسة قولكم: أيام كانت الأمم مرهقة
بالأثرة والأنانية والأنين من ثقل الضرائب
…
إلخ، لعل الأولى حذف لفظ
(والأنين) ، أو إبداله بلفظ (وتأن) ؛ ليصح العطف، أو ليكون أوضح.
(الموضع الرابع) في الصفحة السابعة قولكم: أما اصطفاء الله لكنانة
فيفسره
…
إلخ، وقولكم: وأما حج العرب إليه فهو دليل
…
إلخ، لعل الأولى:
اصطفاء الله لكنانة يعلم مما كانت تحفظه العرب من أخباره
…
إلخ، وحج العرب
إليه دليل
…
إلخ، بحذف لفظ (أما) ولفظ (فهو) .
(الموضع الخامس) في الصفحة الثامنة ذكرتم بالحواشي تفسير الندوة
بالشورى، وخصصتموها بإجالة الرأي بعد البعثة للائتمار به صلى الله عليه وآله
وسلم هكذا، والمعروف أن الندوة محل الشورى مطلقًا، وأن الذي بناه قصي وجعل
بابه للكعبة، كما نقلتموه في الصفحة نفسها عن ابن إسحاق، وكذلك فسرتم اللواء
براية قريش، وأنه كان يسمى العقاب، والمعروف أن العقاب اسم راية النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، كما في القاموس صفحة 107.
(الموضع السادس) قولكم في الصفحة التاسعة: (كان ذلك كله من ارتقاء
قريش، واستعداد العرب للإسلام، ولكن هذه القوى المعنوية كلها وجهت لمعاداته
عليه وآله أفضل الصلاة والسلام) ، لعل حذف هذه العبارة المشعرة بغاية الهجو
والموهمة أن جميع قريش وجهَّوا جميع قواهم لمقاومته أولى وأليق؛ لأن السياق في
مدح قريش، وشرح المزايا التي فضلوا واستعدوا بها للإصلاح الروحي والمدني؛
ولأن الواقع خلاف ذلك، فليس كل قريش وجهوا قواهم لمعاداته صلى الله عليه
وآله وسلم؛ إذ منهم السابقون للإسلام مع إخفائه لمصلحة الذبّ عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم كأبي طالب رضي الله عنه، ومنهم السابقون له المتحمّلون لمشاقّ
التعذيب كآل ياسر، ومنهم السابقون القائمون بنصرته صلى الله عليه وآله وسلم
ونشر دعوته، والذب عن حوزته، المؤثرون له صلى الله عليه وآله وسلم على
أنفسهم، القائمون بمساعدته بكل ما في وسعهم، كحمزة وعلي وخديجة وأبي
بكر وغيرهم من أجلاء الصحابة الذين هجروا وطنهم رغبة في صحبته، وملازمة
خدمته صلى الله عليه وآله وسلم، بل منهم - مع عدم إسلامه في أول البعثة - من
تحمل مشاق الحصر مع بني هاشم في الشعب إيثارًا لنصرته صلى الله عليه وآله
وسلم ومساعدته، على أن الإسلام ما اعتزَّ ودخل في طور القوة والمَنَعَة إلا بعد
إسلام مَن تأخر منهم، فكانوا القائمين بنصرته، ونشر دعوته صلى الله عليه وآله
وسلم، الباذلين أرواحهم في حماية بيضته في حياة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وبعد وفاته، وسيبقون - إن شاء الله - كذلك إلى قيام الساعة، ولعل الحكمة في
ذلك رفع التهمة عن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم، ولله در العلامة الشيخ عبد
العزيز الزمزمي، حيث أشار في همزيته لذلك، فقال:
خيرة الله من قريش وما أد
…
راك مَن هم مكانة وعَلاء
نسب بالعلا علا فتراءت
…
درر الأفق تحتها حصباء
شرف شامخ الذرى وفَخَار
…
ثابت صبر الجبال هباء
أنزل الله في قريش لإيلاف
…
قريش فزادهم آلاء
شرف الله قدرهم بنبي
…
خلقوا من نجاره شرفاء
واصطفاهم لأجله واجتباهم
…
فغدوا سادة به نجباء
ذبّ عنهم صونًا لهم ورعاهم
…
وحماهم ممن نوى الأسواء
أظهر الله فضلهم من قديم
…
بحديث في فضلهم عنه جاء
ثم لما جاء النبي إليهم
…
أبطئوا عنه لا قلى وجفاء
كيف يجفونه وقد ألف الله
…
عليها ضبابها والظباء
لكن الله وحده قد تولى
…
نصره حفلة به واعتناء
لو تولوه داخل الشك قومًا
…
عاينوا حزب نصره القرباء
فقضى الله ما قضاه إلى أن
…
شاد أركان دينه والبناء
دخلوا فيه مرعبين فصاروا
…
فيه للناس قادة رؤساء
جعل لمصطفى الإمامة فيهم
…
إذ رآهم لخودها أكفاء
ورثوا الأمر بعده فأقاموا
…
اعوجاجًا من العدا وانحناء
(الموضع السابع) في الصفحة العاشرة قولكم: فجملة ما امتاز به آله صلى
الله عليه وآله وسلم
…
إلخ. لعل ثبوت بعد الآل عن الأمور الحربية والرياسة لا
يصح قبل الإسلام ولا بعده. أما قبل الإسلام فلمنافاته ما قدمتموه من أن الندوة
واللواء والسفارة والأعنة والقبة من المناصب المختصة بهم، وكلها من الأمور
الحربية، ولمنافاته أيضًا ما قدمتموه من أن كنانة كان مثابة التعارف، وأن مالكًا
وقصيًّا ملكا العرب، فهل الرياسة غير هذا؟ وأما بعد الإسلام فلمنافاته ما هو
معلوم من حملهم لألوية القتال وقيادة الجيوش لمحاربة الأعداء في بدر وأحد
وخيبر وحنين، بل لم تَدُرْ رحى الحرب في المعارك المشهورة إلا على محور الآل،
فهم قطب رحاها بلا جدال، وهم الثابتون معه صلى الله عليه وآله وسلم في
المواضع التي فَرَّ فيها الأبطال. فهل الأمور الحربية التي بعدوا عنها غير هذا؟
ولله در أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، حيث يقول - كما نقله
في الاستيعاب -:
لقد علمت قريش غير فخر
…
بأنَّا نحن أجودهم حصانا
وأكثرهم دروعًا سابغات
…
وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
وأرفعهم لدى الضراء عنهم
…
وأبينهم إذا نطقوا لسانا
وقولكم في الصفحة المذكورة؛ ولذلك غُلِبُوا على الرياسة حتى بعد الإسلام
…
إلخ تغلب الغير عليهم في الرياسة بعد الإسلام لا يستلزم بُعْدَهُمْ عنها، وعدم
استحقاقها، وإلا لنا في ما تواتر عن علي وابنيه الحسن والحسين من قيامهم بطلب
الخلافة، واحتجاجهم على مَن قاومهم بالبراهين، ومحاربتهم للطاغية معاوية
وأذنابه، وانضمام الصحابة - إلا مَن شَذَّ - إلى علي وابنيه عليهم السلام.
ربما يقال: إن الدليل على ذلك كوْن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان
يولي غيرهم، ويتركهم، فالجواب عن ذلك أن التولية منه صلى الله عليه وآله
لأشخاص كعمرو بن العاص وعدم توليته لآخرين كأبي بكر وعمر لا يمكن أن
يكونا دليلاً على استحقاق الأول للخلافة وعدم استحقاق الآخرين؛ لأن ذلك من
وقائع الأحوال المطروقة باحتمال أن يكون كل من التولية وعدمها لمقاصد مهمة:
فمن مقاصد التولية تأليف قلب المولَّى أو استجلاب ود عشيرته، (ومنها) إزالة
نفور الناس عنه لاستقذارهم له، من حيث تلطخه بحمئة عداوة النبي والمسلمين،
(ومنها) قصد إبعاده للسلامة من دسائسه {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} (التوبة: 47) ، ومن مقاصد عدم التولية لأشخاص قيامهم بحراسة النبي والذب عن
حوزته ومساعدته، (ومنها) قيامهم بتلقي أحكام الشريعة ليبلغوها للأمة وخصوصًا
آل بيته، فهم هالة طلعته، وثقات أمته، وهم العدول المعصوم اتفاقهم، المشهود
بأنهم والقرآن في قَرَن إلى قيام الساعة، رضوان الله عليهم أجمعين.
وقولكم - في آخر الصفحة -: فهو أنفى للشبهة عن رسالته صلى الله عليه
وآله وسلم، قد يقال: إنه لو كان فيما ذكر محل شبهة لكان لتفضيلهم والأمر
بالصلاة عليهم وفرض مودتهم وموالاتهم وفرض الخمس لهم أكبر شبهة وأعظم
تهمة، وليس الأمر كذلك، والله أعلم.
(الموضع الثامن) في الصفحة الثالثة عشرة ذكرتم بعض أولاد عبد المطلب
والمقام يقتضي استيعابهم؛ لأن الاقتصار في محل البيان يوهم الحصر، وزيادة
سطر لا تطول به القصة.
(الموضع التاسع) في الصفحة الثلاثين ذكرتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم
لقي من قومه أشد الجحود والإيذاء
…
إلخ، لعل الأوْلى: من زعماء قومه الذين
أشقاهم الله؛ فصدوه عن تبليغ دعوة ربه، ومنهم عمه أبو لهب القائل
…
إلخ، لما
قدمناه من قيام كثير من قومه بمساعدته وإجابة دعوته.
(الموضع العاشر) في الصفحة الحادية والثلاثين ذكرتم أنه صلى الله عليه
وآله وسلم كان يدعو الناس أن يحموه للقيام بهذا الأمر، فلم يحمِهِ من قريش أحد
…
إلخ، لعل الأولى: كان يدعو الناس إلى أن يعضِّدوا مَن يحمونه؛ ليقوم بهذا
الأمر، فحال زعماء الشرك دون ذلك محاولة لإطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن
يتم نوره، فهدى الله للإيمان به ستة نفر من أهل يثرب
…
إلخ لما تقدم أيضًا.
(الموضع الحادي عشر) في الصفحة السابعة والثلاثين ذكرتم أنه صلى الله
عليه وآله وسلم ثبت وحده في يوم أحد
…
إلخ، والذي أذكره أنه ثبت معه بضعة
نفر من قريش وبني هاشم وكذا في حُنين، وهذه منقبة لهم، يحسن ذكرها إشعارًا
بمزايا الاصطفاء التي ذكرتموها.
(الموضع الثاني عشر) في الصفحة الحادية والأربعين ذكرتم في الخاتمة
أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، والمشهور أنها
بضع عشرة سنة، ثم ذكرتم في الصفحة الثانية والأربعين حال الإسلام في تلك
المدة وما لاقاه صلى الله عليه وآله وسلم مع السابقين من المؤمنين وصبرهم على
الاضطهاد
…
إلخ، ثم دخول الإسلام في عهد الحرية
…
إلخ، ولم تذكروا دخوله
في عهد القوة والمنعة بعد فتح مكة بدخول قريش واتباع العرب لهم مع أن ذلك هو
مظهر مزايا الاصطفاء، فلعل إلحاقها يكون في المستقبل إن شاء الله تعالى.
(الموضع الثالث عشر) في الصفحة الثالثة والأربعين ذكرتم في الحواشي
حديث الثقلين ثم قلتم: وفسر زيد أهل بيته بمَن تحرم عليهم الصدقة
…
إلخ، ثم
قلتم - ويقول آخرون -: هم علي وذريته من فاطمة عليهم السلام
…
إلخ،
وظاهر تقديمكم تفسير زيد، والتعبير في مقابله بلفظ: يقول آخرون - يُشعر
باعتماد ما قاله زيد رضي الله عنه. ولعل الصواب ما يقوله الآخرون، كما حققه
شيخ مشايخنا العلامة مولانا السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي
في كتابه (رشفة الصادي) .
ولعل ملخص ما حققه العلامة ابن شهاب أن المراد بأهل البيت - في آية
التطهير -: علي وفاطمة والحسن والحسين عند جمهور العلماء وأكابر أئمة
الحديث المعتد بروايتهم ودرايتهم، وأن الأدلة تضافرت بذلك عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، والمصير إلى تفسير مَن أُنزلت عليه الآية متعين.
دعوا كل قول غير قول محمد
…
فعند بزوغ الشمس ينطمس النجم
فمن ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم
وصححه وابن مردويه والبيهقي من طرق عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
في بيتي نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33) وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجللهم بكساء،
ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) . وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتها على منامة، عليه
كساء خيبري، فجاءت فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: ادعي لي زوجك وابنيك حسنًا وحسينًا، فبينما هم
يأكلون، إذ نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
…
} (الأحزاب: 33) الآية، فأخذ النبي بفضلة كسائه فغشاهم إياها ثم أخرج يده من
الكساء، فألوى بها إلى السماء ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) قالها ثلاث مرات. قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي
في الستر فقلت يا رسول وأنا معكم فقال (إنكِ إلى خير) مرتين، وذكر ابن كثير
والسمهودي طرقًا كثيرة لحديث أم سلمة هذا.
وأخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن
عائشة ما يقاربه في المعنى، وكذلك روي عن واثلة بن الأسقع ما يقاربه، إلى غير
ذلك من الأحاديث الدالة على أن المراد بأهل البيت مَن ذكر، ولا التفات لمَن خالف
ذلك، ولا يمنع هذا الحصر دخول أولاد مَن ذكر وذرياتهم إلى آخر الأبد في هذا
المعنى المراد شمول لفظ أهل البيت لمَن سيوجد منهم، كشمول لفظ الأمة لمن
سيوجد منها؛ لا سيما والأحاديث مصرحة بذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي) إلى أن
قال: (وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوضَ) وكقوله عليه وآله الصلاة
والسلام: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض) إلى
غير ذلك من الأحاديث والأخبار الدالة قطعًا على أن هذه السلالة الطاهرة هم آل
البيت المطهرون، وأنهم المرادون بكل ما ورد في فضل أهل البيت من الآيات
والأحاديث، وأنهم عدول هذه الأمة، وأنهم لن يفارقوا الكتاب إلى يوم القيامة،
وأنهم أحد الثقلين المأمور بالتمسك بهما، وقد أجمعت الأمة على ذلك. اهـ
باختصاره، وبعد وجود النص بعدم إدخال أم سلمة بل وعائشة في رواية - هل
يمكن تفسيره بما يشمل آل العباس، وخصوصًا والحديث في الحضّ على التمسك
بأهل البيت، فهل يعقل أن نحض على التمسك ببني العباس، وسيرهم معلومة
لدى العام والخاص؟ !
(الموضع الرابع عشر) في الصفحة الثالثة والأربعين ذكرتم أنهم - أي
الآل - كانوا أحفظ الناس لهدْيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يخلو عصر من
طائفة أو أفراد من الهداة المصلحين منهم، وإن فتن الكثير منهم بغلاة المحبين
…
إلخ، ولعل المناسب وإن فتن بعضهم، واغترَّ بشرف نسبه، وترك العلم والأعمال
النافعة غافلاً عن قول جده علي
…
إلخ؛ لأن إثبات الفتنة للأكثرية ينافي آية
التطهير كما لا يخفى. ثم ذكرتم في حديث الثقلين رواية عن أبي هريرة وأن فيها
إبدال لفظ (العترة) بلفظ (السنة) ، وأن لا معارضة بينها
…
إلخ يظهر للعاجز
أن رواية الإبدال المذكورة على حذف مضاف، أي حَمَلة سنتي، فتكون مخصصة
للرواية الأولى، كما أن الأولى مخصصة للثانية، فالمعنى حملة سنتي الذين هم من
عترتي، أو عترتي حملة سنتي، وأيضًا يظهر أن المراد بالطائفة من أمته - التي
لا تزال ظاهرة على الحق، قَوَّامة على أمر الله إلى أن تقوم الساعة - هم عترته
الحاملون لسنته، والله أعلم.
…
...
…
...
…
من ملاكه سلخ جُمادى الأولى سنة 1336
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ن. هـ. د.
_________
(1)
في الأصل صافحة في كل موضع من الرسالة فأبدلت في المطبعة بصفحة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة الحجاز
(9)
النفر من منى إلى مكة:
لما كان يوم النفر رمينا الجمرات لآخر مرة، وفي الأصيل شددنا الرحال ونفرنا
من منى هابطين إلى مكة المكرمة حامدين لله شاكرين له ما وفقنا لإتمام مناسكنا،
راجين من فضله وإحسانه أن يكون حجنا مبرورًا، وسعينا مشكورًا، وعلمنا مُثابًا،
ودعاؤنا مُستجابًا، ويالله ما أحلى الشعور الذي يستولي على المرء في أثناء هذا
النفْر، فإنه على فراقه لذلك المعهد القدسي الذي وصفنا في الفصل السابق ما له في
النفس من عظيم الأنس - تراه يفارقه قرير العين مطمئن القلب جمّ السرور فرحًا
بفضل الله ورحمته، وذلك شأن الإنسان بعد إتمام كل عمل من الأعمال النافعة التي
يهتم بأمرها، يفرح في عاقبة إتمامه بقدر ما كان من عنايته به وتعبه فيه، وبقدر
مكانة العمل نفسه من نفسه، وما يرجو من فائدته ونفعه، سواء كان ذلك في دنياه
أو دينه، فمَن لم يألُ جهدًا في أداء المناسك أفاض من منى وهو بحيث وصفنا من
الغبطة الروحية، والسكينة والطمأنينة، التي يعبر عنها بعض الناس براحة
الضمير، ومن قصر في شيء من تلك الأعمال، ولو بترك العزيمة والأفضل خالج
غبطته وطمأنينته بعض التمني ولوم النفس: ليتني فعلت كذا، وسأفعل كذا في حج
آخر إن شاء الله تعالى كما تمنى بعض رفاقنا لو باتوا الليل كله في المزدلفة معي.
المقام بمكة بعد الحج:
قد كنت أرجأت أمورًا مما أنوي عمله في مكة إلى ما بعد الحج: (منها) ما
أشرت إليه قبلُ من زيارة جميع الذين تفضلوا بزيارتي ولم تتيسر لي زيارتهم قبل
الحج، (ومنها) زيارة كثير من المعاهد التاريخية والآثار النبوية في مكة
وضواحيها؛ إذ لم أشأ أن أخلط ذلك بأعمال النسك كما يفعل بعض العوام الذين يعدون
بعض ذلك من أعمال النسك أو من الأعمال المطلوبة شرعًا ولو لغير النسك، ولا
يطلب شيء من ذلك شرعًا، لا وجوبًا ولا ندبًا، إلا من كانت له نية صالحة في
شيء من ذلك وجاء به على وجه يعرفه الشرع ولا ينكره، (ومنها) شراء أشياء
كثيرة مما يباع في مكة وضواحيها بعضها لأنفسنا، وبعضها لأجل إهدائه لأصدقائنا،
(ومنها) وهو أهمها شرح ما عندنا من الحقائق في الحالة السياسية الحاضرة لمن
يجب شرحها له بعد أن كنا فتحنا أبواب بعض مسائلها، فكان الحديث في أكثرها
إجماليًّا ولا يغني فيها إلا البيان والتفصيل.
لم نلبث أن بدا لنا ما لم نكن نحتسب، وفاجأنا ركب المحمل المصري بسفره
يوم الخميس 14 ذي الحجة من مكة المكرمة إلى جدة، وعلمنا أنه قرر ركوب
البحر في ثاني يوم وصوله إليها، ولو سافرنا معه لما أمكننا أن ندرك شيئًا مما نريد
من مكة، فعزمنا على التخلف عنه يومًا واحدًا، وهو منتهى ما نملك من التأخير،
وماذا عسى يغني عنا اليوم الواحد مما كنا نقدر له أسبوعًا كاملاً لا نستكثره عليه؟ ،
على أننا أدركنا في ذلك اليوم - بتوفيق الله تعالى وعناية المحبين - ما لا يدرك
إلا في أيام، فابتعنا بعض ما نحب من الحُلي والحُلَل من منسوجات الهند الموضونة
وغير الموضونة وبعض منسوجات الشام وبلاد الترك والصين وغير ذلك مما
يشتري مثله الحجاج عادة، وكان الفضل في شراء ذلك في وقت قصير مع أمن
غبن التجار لنا فيه لصديقنا الشيخ حسين با سلامة، وهو من أشهر أدباء مكة
وتجارها، وقد تركنا ما كنا نبغي من الزيارات بأنواعها، ولكن الله تعالى منّ علينا
بما هو خير منها كلها، وهو التشرُّف بدخول بيته العتيق المعظم والصلاة والدعاء
فيه.
دخول الكعبة المعظمة:
دخلت المسجد الحرام في وقت الضحى من يوم الجمعة (15 ذي الحجة) ،
فوجدت باب البيت العتيق المعظَّم مفتوحًا، وفيه بعض شبان آل الشيبي الكرام،
فرأيت الفرصة سانحة للتشرف بالدخول فيه، والوقت هادئ لا يكدر صفوه احتفال
ولا ازدحام، وكان يرافقني الشيخ حسين با سلامة، فبلغ من هنالك من الشيبيين
رغبتي، فقابلوها بالقبول والارتياح، فتوضأت من بئر زمزم، وأدلى الشيبيون لي
السلم، فصعدت، فدخلت متذكِّرًا دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
متمثّلاً حاله في ذلك اليوم العظيم يوم الفتح، ففاجأني من الهيبة والخشوع والبكاء ما
لم يسبق له نظير، ووقفت زمنًا لا أستطيع فيه الإحرام بالصلاة ولا النطق بالتكبير،
وقد ذكر لي رفيقي با سلامة في هذه الحال المكان الذي صلى فيه صفوة الله من
خلقه وَعَيَّنَهُ بالإشارة على حسب ما بيَّنه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري،
فصليت فيه ركعتين هما أرجى ما أحتسبه عند الله تعالى من التطوع، ثم صليت في
كل جهة من الجهات الثلاث الأخرى ركعتين.
ودخول الكعبة ليس من مناسك الحج خلافًا لما حكاه القرطبي عن بعض
العلماء، واختلفت الرواية في دخول النبي صلى الله عليه وسلم البيت وصلاته فيه،
والتحقيق الذي جمع به بين الروايات الصحيحة المتعارضة أنه دخله في عام الفتح
لا في حجه ولا في عمرته، وأنه صلى فيه ركعتين بين العمودين المقدمين جاعلاً
الباب وراءه وبينه وبين الجدار الذي صلى إليه ثلاثة أذرع بذراع الآدمي تقريبًا لا
تحديدًا، وليس من السنة تتبع المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم
للصلاة فيها، ولا مواقفه في النسك كما تقدم في الكلام على موقفه في عرفات،
وكذا سائر عباداته، ولم يُرْوَ عن أحد من علماء الصحابة أنه فعل شيئًا من ذلك إلا
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، فهو فعل غير مشروع وغير ممنوع، إلا
أن يؤتَى به على وجه يكون به بدعة، وهو جعله كالمشروع بالتزامه أو بالاجتماع
عليه كالشعائر، فإذا خلا من شبهة البدعة كان كبير الفائدة لذي اللب؛ لما فيه من
حسن الذكر الذي يخشع له القلب، ولعله لم يشرع لئلا يترتب عليه الحرج الشديد
بالتزاحم؛ ولتعذر فعله على العدد الكثير، كما لو أراد كل حاج أن يقف حيث وقف
صلى الله عليه وسلم، ولسد ذريعة الشرك؛ إذ يُخشى على ضعيف العلم بالدين أن
يغلو فيه، فيجعل للرسول شركة في العبادة التي يتتبع آثاره فيها {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5) ، وإنما ذلك بتوجيه الوجه
وإسلامه إليه وحده في العبادة.
* * *
وداع الأمير وصفاته
علمت أن أمثل الأوقات لوداع الأمير ما بعد صلاة الجمعة، فقصدت عقب
الصلاة حجرته التي يصلي فيها، وهي في جدار الحرم الجنوبي، فألفيته جالسًا في
القسم الخارجي من الحجرة، وفي حضرته بعض الكبراء، وفي مقدمتهم رئيس
الوكلاء والشيخ محمد صالح الشيبي الكبير رئيس مجلس الشيوخ، وكان معي السيد
عبد الله الزواوي وكيل المجلس، وعلمنا أنه كان في القسم الداخلي، حيث صلّوا
الجمعة نجله الشريف عبد الله وكيل الخارجية مع بعض الناس. فلما دخلت على
الأمير تلقاني بالحفاوة والإكرام، فاستلمت يده لتقبيلها، فحاول تواضعه التمنع من
ذلك، ولما جلسنا تفضَّل بكلمات من المجاملة كادت تذيبني خجلاً، ونكتفي من
كلامه بما دون الإطراء الذي تقتضي الحال حذفه، وهو قوله موجهًا الخطاب
للحاضرين: هذا فلان
…
صاحب المنار، كلكم تعرفونه، وتعرفون ما له من
الغيرة والإخلاص والجهاد في خدمة الإسلام. وهو قد جاءنا في هذا العام حاجًّا.
وكنا نتمنى أن يبقى عندنا، ولكنه صاحب عمل كبير في مصر، وهو قد رأى
وعرف كل شيء عندنا، وظهر له أننا إلى الآن لم نقف أمام عتبة عمل من الأعمال
(وكان ذكر في سياق حديثه ما ينوي من ضروب الإصلاح العلمي والعملي) ،
التي لا بد لنا منها، وأن همنا محصور في إخراج المتغلِّبة من بلادنا، ولا يتم ذلك
إلا بفتح المدينة المنورة، فمتى تم لنا ذلك، وأردنا البدء بالإصلاح الذي نبغيه فإننا
نرجو من غيرته أن لا تمنعه أعماله في مصر من إجابتنا إلى ما نطلبه من معاونته
وإرشاده، وهو الآن يقدر أن يخدم حركتنا في مصر أكثر مما يخدمها هنا لو أقام
بيننا.
فلما أتم كلامه شكرت له ما أراه مبالغة في حسن الظن والمجاملة، وذكرت أن
هذا التواضع عن كمال الرفعة قد أخجلني، حتى عقد لساني، ولم يَبْقَ لي إلا أن
أقول: إنني أعد نفسي كجندي صغير مستعد في كل آن لخدمة دينه وأمته بالإخلاص،
وأعاهدكم أمام بيت الله تعالى، على أنني لا أُدعى إلى عمل أستطيعه في خدمتهما
إلا وأبذل فيه كل جهدي ما دمت معتقدًا أنه حق، وإنه لا يثنيني عن ذلك منفعة
شخصية ولا أهل ولا ولد، فإنني نشأت على العمل بما يوجبه عليَّ اعتقادي،
ويطمئن إليه قلبي، ثم قمنا، وتقدمت لوداعه، ومحاولة تقبيل يده، فأخذ بيدي،
وتوجه بي إلى بيت الله عز وجل من حيث يرى من نافذة المكان، وقال: أسأل
رب هذا البيت أن يجمعنا، ولا يجعل هذا آخر العهد بيننا، ثم ودعت الحاضرين،
وانصرفت حامدًا شاكرًا.
صفات الأمير وشمائله:
قد آن أن أذكر في هذه الرحلة بعض ما علمته واستنبطته من صفات هذا
الأمير الجليل، ومزاياه التي يوافق ذِكرها مقتضى الحال، فأقول: إنه حوى جل
أخلاق ملوك الشرق وأمرائه العظماء، وانفرد بصفات ورثها من أجداده الشرفاء،
فمن ذلك قِرى الضيوف وإجازة الوفود، وعزة النفس والثقة بها والاعتماد عليها،
والثبات والإصرار على ما يأخذ به، ويجري عليه، فقد تتزلزل الجبال دونه، ولا
يتزلزل، وشدة الحذر، وسوء الظن الذي عدّ من أزكى الفطن، حتى كان نصب
عينيه قول الشاعر:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
…
مَن لا يعول في الدنيا على رجل
ولذلك تراه ينظر في كل شيء من شؤونه الخاصة، وشئون البلاد العامة،
حتى أمور المنزل وشؤون الضيوف والوفود ونفقاتهم، ومصالح البدو وصلاتهم،
وقد أعطاه الله تعالى قوة غريبة، فهو يشتغل بالنظر في ذلك كله عامة النهار، ولا
يشكو مللاً ولا تعبًا، وقد كلمته في مسألة الاشتغال بالجزئيات، ووجوب نوطها
ببعض العمال، وجعل وقته الثمين خاصًّا بالمصالح العامة والأمور الكلية، ووضع
نظام لذلك، فقال: إن هذا ضروري لا مندوحة عنه، ونحن لا نزال نجري على
نظامنا القديم، والتحول عنه إلى غيره لا يتأتَّى إلا في زمن غير قصير، قلت:
نعم، وإنما الغرض وضع النظام له والبدء فيه.
ومن أخلاقه وشمائله توخِّي التواضع في القول والفعل، مع المحافظة على
الوقار وأبَّهة الملك، والأدب العالي في مخاطبة الجليس ومجاملته، مع الإشارة إلى
ما تقتضي الحال من معارضته، وهو على آدابه وتواضعه شديد الوطأة على
المجرمين والمخالفين السياسيين، يأخذهم بأشد العقاب الذي يرهب كل من تحدِّثه
نفسه بأن يعمل على شاكلتهم، لا يخاف في ذلك لومة لائم. (ومنها) العفة
والنزاهة فهو مقتصد في تمتُّعه بالطيبات، عزوف النفس عن الانهماك في الشهوات،
(ومنها) الشجاعة والإقدام على مكافحة الأخطار، لا يخاف الموت على نفسه
ولا على ولده؛ ولذلك جعل أنجاله الأربعة قوادًا لجيوشه، يكافحون المهالك بأيديهم،
ويناطحون الموت بنواصيهم.
وهو يحب وطنه (الحجاز) حبًّا عظيمًا، ويكرم الحفاة العراة من أعرابه
تكريمًا، وطالما نوهنا بما علمنا من براعته في سياستهم وحفظ الأمن بينهم، وقد
رأيناه يقضي في مقابلتهم عدة ساعات من كل نهار وهم يدمرون عليه بما اعتادوا
من الحرية والاستقلال.
أما معارفه وآراؤه في السياسة والأمور الاجتماعية فليس الخوض فيها من
مقتضى الحال في هذا الوقت، ولم يكن يسهل العلم بتفصيلها من المذاكرات القليلة
التي دارت بيني وبينه، وإن كنت كلمته فيها بحرية واستقلال قلما يكلمه بمثلهما
أحد؛ لأنه قليل الكلام، لا يطيل المراجعة والحوار في المسائل ليعلم كُنه غروره
فيها، ولكن الزمان سيبين كنه ذلك كله بما يظهر من تصرفه في شؤونها. وقد
وقفت منه على آراء سيكون لها أعظم شأن في سياسته:
(منها) يأسه من الدولة العثمانية ولولا هذا اليأس لما أقدم على ما أقدم عليه،
كما أشرت إلى ذلك في خطبتي السياسية بمنى بين يديه، ثم إنه كلمني في هذا
الموضوع بعد النزول من منى، وعدَّه من الأمور التي عبرت فيها بالخطبة عن
رأيه قبل الوقوف عليه. (ومنها) أنه له ثقة بالدولة البريطانية، وتقديرًا لقوتها
وعظمتها لا حد لهما، ولا سلطان لشيء عليهما. (ومنها) أن ما شاهده من
التطور والتحول في سياسة الدولة العثمانية، وإفضاء ذلك إلى جعْلها كالكرة في
أيدي جمعية الاتحاد والترقي قد ضاعف ما في فطرته وتربيته من كراهة الآراء
والأفكار التي نشأ عنها ذلك الفساد، وشدة الحذر من أصحاب أمثال هذه الآراء
والأفكار، وقد ذكرت في هذه الرحلة ما كان أعجبني ووافق رأيي من خطته
السياسية التي أفصح عنها في منشوراته، وأشرت إلى ما طرأ بعد ذلك من التحول
فيها فلا أعيده، وإنما أقول: إنه جاء موافقًا لما ذكرته هنا من آرائه الراسخة،
فظهر أن التجارب لا تزيدها إلا رسوخًا وثباتًا.
وإنني أختم الكلام بتكرار الشكر والثناء على حسن ضيافته لي وإكرامه إياي،
فقد غمرني بكرمه وجوده، وكان من دقة لطفه وكمال ذوقه في ذلك أن جعله
بطريقة لا مجال للاعتذار عن قبول شيء منه، وقد كنت قلت أول مقدمي لبعض
المقربين منه كلامًا عن عادتي التي شرحتها في المنار عند رحلتي إلى الهند، وهي
أنني لا أقبل أن تشاب خدمتي للعلم وللملة والأمة بشيء من شوائب المنافع الشخصية،
حتى إنني كنت أعلن في تلك الرحلة أنني لا أقبل الهدية، ورجوت أن يتلطف في
تبليغ ذلك، وإن أدري أفعل أم لا، ولكنني بعد شد الرحال وعند إرادة الركوب
وصلت إلى جائزة سنية، أو هدية هاشمية، أردت أن أكلم مَن جاء بها في شأنها،
فقال: هكذا أُمرت، وأنا لا أعلم شيئًا إلا أنني عبد مأمور أمرني سيدنا، فنفذت
أمره، وانصرف، فعجبت من هذا اللطف الدقيق، والذوق السليم.
طواف الوداع وتوديع الإخوان:
في أثناء اشتغال وكيل الخرج وأعوانه بشدّ الرحال، طفت أنا ومَن معي من
الآل والصحب طواف الوداع، وكان ذلك بعد العصر، وكنا قصدنا أن نركب في
ذلك الوقت، ولكن لم يتيسر لنا الركوب إلا عند قرب غروب الشمس، وودعنا قبل
الخروج كثير من الإخوان والمحبّين، وركبنا، وركب معنا بعض الأصدقاء
مشيّعين، وفي مقدمتهم السيد الزواوي الكبير، ونجله السيد عبد الرحمن والشيخ
حسين با سلامة، ومطوفنا ونجله، وخرج معهم الأخ الرفيق الشيخ خالد، أما سائر
الرفاق والأهل فقد ركبوا في الشقادف من أول الأمر، وأما أنا فركبت البغلة التي
أُرسلت إليَّ من الإصطبل الهاشمي مع اثنين من حُجاب الأمير مشيا أمامي
بملابسهما الرسمية، حتى إذا ما خرجنا من مكة المكرمة، وبلغنا المكان المعروف
بقهوة المعلم - وقد ذكرناه في الكلام على دخولنا مكة حرسها الله تعالى - ألفينا
هنالك صاحب السيادة الشريف شرف حاكم مكة (القائم مقام الأمير فيها) بالانتظار
مع بعض رجاله، وقد أنفذ للتوديع من قِبَل الحضرة الهاشمية نائبًا عنها، وعلمنا
أنه خرج منذ وقت العصر؛ لأنه هو الوقت الذي عيّن لخروجنا، ولم يتيسر لنا
الخروج فيه، فنزلنا، وجلسنا معه قليلاً، واعتذرنا له عن تأخيرنا، وشكرنا له هذا
الانتظار الطويل، ثم صلينا المغرب مع المودعين جماعة، وأتبعتُها أنا والرفيقان
بالعشاء مجموعة معها جمع تقديم، ثم ودعنا السادة المشيعين، وركبنا الرواحل،
وسِرنا باسم الله قافلين، والحمد لله رب العالمين.
ذيل لمباحث الحج في الصدقات وفقراء الحرم:
إنني عند توديع السيد الزواوي قلت له: قد بقي معي في الكيس خمسة عشر
جنيهًا إنكليزيًّا من النقود المخصصة للصدقة في الحرم، لم يتيسر لي إنفاقها، فأنا
أوكلك في توزيعها على المستحقين من أهل الصلاح والمروءة المتعففين، وأعطيته
إياها، فأرسل إليَّ بعد عودتي إلى مصر ورقة فيها أسماء مَن صرفها لهم، ومقدار
ما أعطى كُلاًّ منهم، وعليها أختامهم، وبهذه المناسبة نقول في فقراء الحرم
والصدقة فيه وفي غيره، وما يتعلق بذلك كبحث السؤال:
إن الفقراء المتسوّلين أول مَن يستقبل الحجاج قبل دخول مكة، وآخر من
يشيعهم عند الخروج منها عائدين إلى بلادهم، وكذلك شأنهم عند الخروج من مكة
إلى منى فعرفات، وعند العودة من منى بعد انقضاء أيامها. وأكثر هؤلاء
المتسولين من صغار الصبيان والبنات، يقل فيهم المراهقون والمراهقات، فتراهم
يحيطون بالحجاج من كل جانب، رافعين أيديهم إلى مقدم الهوادج، وألسنتهم تكرر
الأدعية المناسبة للأوقات، فيذكرون في أدعيتهم قبل دخول مكة، وعند الخروج
إلى عرفة، أداء الحاج وقبوله والعودة بالسلامة، وبعد الحج زيارة النبي صلى الله
عليه وسلم والوقوف بشباك حجرته الطاهرة، ومنهم مَن يربط كوزًا من الزنك
ونحوه بطرف خشبة كالعصا، ويرفعها حتى تكون بين يدي الراكب، فيكون ما
يوضع في كل كوز خالصًا لحامله، وأما الصغار الذين لا يحملون هذه الكيزان فما
يرضخ لهم يُرمَى على الأرض، فيستبقون لالتقاطه، فيكون حظ النشيط والقوي
منهم أضعاف حظ الخامل والضعيف.
السؤال محرم في الإسلام لا تبيحه إلا الحاجة الشديدة، أو الضرورة التي
تبيح كثيرًا من المحظورات كأكل الميتة ولحم الخنزير؛ لأنه ذل يدعو إليه الكسل
وحب البطالة والاتكال على أوساخ الناس، والضرورات عوارض تعرض لبعض
الناس أحيانًا وهي تقدر بقدرها شرعًا، وليس من شأنها أن تكون ملازمة للكثيرين
من الأصحاء القادرين على الكسب، بحيث تبيح لهم أن يجعلوا السؤال حرفة يكون
عليها مدار رزقهم، كما هو شأن أكثر السائلين في كل البلاد، بل يكون بعض
هؤلاء غنيًّا شرعًا تجب عليه الزكاة، وقد يتأثل السائمة والعقار، وإذا كان السؤال
لغير ضرورة معصية محرمة - وكانت الإعانة على المعصية معصية - فعلى
المسلم العارف بأحكام الإسلام أن لا يرضخ بشيء لمَن يعلم من حاله أنه قد اتخذ
السؤال حرفة له، ولا لمَن يعلم أيضًا أنه غير مضطر إلى ما يسأله، بأن كان
يمكنه أن يستغني عنه، والمجهول حاله في ذلك موضع تردد ونظر، وأما من يعلم
الإنسان أو يظن من حاله أنه يسأل عن ضرورة ولا غنى له عما يسأله ولا وصول
له إليه بغير السؤال - فلا مندوحة للواجد على مواساته والرضوخ له من مال الله
تعالى وقد يصل ذلك إلى درجة الوجوب، كأن تعلم أن فلانًا مضطر ولا يعلم بحاله
أحد يرجى أن يزيل اضطراره سواك وأنت قادر على ذلك، ومثل هذه الصورة تقع
للأفراد القليلين، وقلما تقع للكثير من الناس إلا في أزمة المجاعات العامة.
إنني قلما أعطي أحدًا من السائلين الكثيرين في الشوارع بمصر ولما رأيت
هؤلاء السائلين خارج مكة عند قدومي إليها - وأنا لم أنسَ ما كان بلغنا ونحن في
مصر من خبر العسرة والضيق في الحجاز وما سمعته مؤكدًا لذلك في جدة -
وجدتني مندفعًا لإعطاء كل مَن سألني، ولما نفد ما كان في كيسي من الدراهم المعدة
لنفقة الطريق في جدة إلى مكة - أذنت الرفيق الذي صحبني من جدة بأن يعطي مَن
يعلم أنه لم يأخذ مني ويحصي ما ينفقه كي أرده له بعد الاجتماع بالآل الذين كانوا
يحملون نفقتنا في رحالهم. وكنت أردت أن أجري على هذه الطريقة مع السائلين
في الحرم الشريف. ثم صدني عن ذلك أنهم صاروا يجتمعون عليَّ بكثرة عند
الدخول ويحيطون بي، بحيث يتعذر توزيع ما في اليد أو الجيب عليهم فكنت أنثره
على بُعد، فيتركونني، ويتهافتون عليه، ثم تركت ذلك لما فيه من المشقة والشهرة،
ورأيت الراحة في الإخفاء، ولكن رفيقي محمد نجيب أفندي ظل يتحمل التعب
والعناء في توزيع الصدقة على هؤلاء المتسولين في داخل الحرم وخارجه وله صبر
طويل على ذلك.
ومن غريب ما رأينا من دلائل البؤس والجوع في الفقراء الملازمين للحرم أن
بعض الناس جاء بشيء من الحبوب لحمام الحرم فاختطفوه، وصار بعض
السودانيين من الدكرور يأخذون منه ويضعونه في أفواههم ويمضغونه متغذّين به
كالدواب. وقد جرينا نحن على عادة الناس بالرضخ بالقليل للواحد من هؤلاء
المتسولين، بحيث كان صرف الجنيه الواحد يوزَّع على المائة أو المئات منهم،
وإنما تطيب النفس بما هو أكثر من ذلك للذين يتعرضون ولا يسألون، والذين إذا
سألوا يتجملون ولا يلحفون، وإنما ذكرنا هذا البحث وما وقع لنا من التجربة فيه
ليستفيد منه غير العالم بما ذكرنا من الأحكام، وغير الواقف على ما وقفنا عليه من
التجارب، ونسأل الله أن لا يجعل فيه شيئًا من الرياء وشهوة الشهرة، على أن
صدقتنا مما ينبغي أن يستحيا من ذِكْره، فهي - والحق يقال - دون ما أنعم الله به
علينا، وما من أحد يحج إيمانًا واحتسابًا إلا ويتصدق في الحج بحسب سعته؛ لأن
الأعمال الصالحة يضاعَف أجرها في ذلك الزمان وذلك المكان، ومنهم مَن ينفقون
هنالك فوق جميع ما نملك من المال، ولكن المتصدق العالم المخلص يجد عناءً
عظيمًا في تحرِّي المستحقين الصادقين، من أهل الإيمان واليقين، والصلاح في
الدين، يجد هذا العناء في وطنه الذي يقيم فيه، فكيف حاله في بلد يجهل حال أهليه،
وقد كثر الكفر والابتداع في الأرض، وظهر الفساد في البر والبحر؟ وليس
هذا محل شرح هذه المسألة بالإسهاب، وقد ألممنا بها من قبل في المنار.
القفول من مكة إلى جدة:
إننا لما ودعنا المشيعين الكرام وامتطينا الرواحل اخترت أن يكون محمد
أفندي هو الصاحب بالجنب لي، وأن يركب وكيل الخرج مع الأستاذ الشيخ خالد،
وكان المناسب أن يركب الأستاذ معي لما بيننا من التعادل والتوازن في الجسم،
وطول الصحبة مع التوافق في التربية والرأي، فإننا تعارفنا من أوائل العهد بمَقدمي
إلى مصر، ولا أزال أهدي إليه المنار من ذلك العهد إلى اليوم، ولا أرى منه إلا
الوفاق والثناء والشكر. وإنما اخترت التفرق في الرواحل لثلاثة أسباب ترجح ما
ذكرت من الجامعتين الجسمية والروحية بيننا: (أحدها) أن في تفرُّقنا عدلاً بين
الراحلتين في التخفيف عليهما؛ لأن تعادلنا في الجسامة، يقابله تعادل صاحبينا في
النحافة، (ثانيها) أن كلاً منا يحتاج إلى خدمة رفيقه في الراحلة، ومحمد أفندي
يرغب في خدمتي؛ لأنني أستاذه في الدين، فلا يبقى لخدمة الأستاذ إلا وكيل
الخرج، (ثالثهما) أن صاحبي أجدر بالاستفادة مني؛ لأنه اعتاد منذ كان تلميذًا
الرجوع إليّ في أمور دينه، فصرت لعلمي بشؤونه أقدر على إفادته وإفتائه في أمره،
وصاحب الأستاذ أجدر بالاستفادة منه؛ لأنه ما فتئ مشتغلاً بوعظ العوام
وإرشادهم، وقد حِيلَ بيني وبين ذلك في مصر، فلم يقع لي فيها إلا مِرارًا قليلة في
السنين الأولى من هجرتي، وأما في هذه السنين الأخيرة فلم يأخذ عني فيها إلا
بعض المدرسين وأذكياء طلاب العلم، وكان من لوازم هذه القسمة بيني وبين
صديقي أنني كنت أحسن حظًّا منه؛ إذ كان صاحبي من الأتقياء المتعلمين في
مدارس الحكومة حتى العالية فيها، العارفين بأخلاق الناس وشؤونهم بطول اختباره
وتجاربه في خدمة الحكومة المصرية، وصاحبه من العوام، على أنه كان يمكنه أن
يستفيد من اختباره لشؤون الحجاز - وأصناف الحجاج - ما لا يعرف إلا من أمثاله
المتوسِّمين بهذا الأمر.
سرينا منفردين ليس معنا رفاق من المصريين ولا غيرهم ممن نعرف، ولكنَّا
وجدنا في الطريق عددًا ليس بقليل من حجاج المغاربة منهم المشاة والركبان، وقد
بلغنا بحرة في وقت السحر، فعرَّسنا فيها [1] ، وكان الجوع قد بلغ منا؛ لأننا لم
نتعشَّ قبل خروجنا من مكة، فأكلنا مما حملنا من الزاد، وكان جُله من لحم خروف
أهداه إليَّ بعض المحبين، لم نَرَ مثله في طراوة لحمه ولينه ودسمه، لا في الحجاز
ولا في غيره، وهو ليس من ضأن الحجاز. ثم نمنا قليلاً؛ إذ استيقظنا بعد طلوع
الفجر، فأدركنا صلاته بفضل الله تعالى.
لم أَرَ من بحرة في إلمامي بها ليلاً قادمًا من جدة إلى مكة إلا ما على جانبي
الطريق العام من المنازل التي يسمونها القهاوي، وهي خاصة بالرجال، وأكثر مَن
ينزل فيها الرجال الذين لا يستغنون عما فيها من الطعام وشراب الشاي والقهوة،
وما يحتاجون إليه من الخدمة، أو الذين يريدون الاستراحة قليلاً، وإن كان معهم
كل ما يحتاجون إليه، وكنت حينئذ من هذا الفريق كما تقدم، وفي هذه المرة نزلنا
في المنازل التي يسمونها العشش، وهي وراء تلك القهوات، وقد رأيتها فوق ما
كنت أحسب رأيتها دورًا في كل دار بيوت من العيدان، وبيت خلاء لها حائط منها
يفصلها عن غيرها من الدور، بحيث يكون النساء في كل منها في ستر تام غير
معرضات لأعين أهل الدور المجاورة لها، نزلت مع الوالدة والشقيقة في دار،
ونزل رفاقنا في دار بجانبها، ومكثنا هنالك إلى ضحوة النهار، وقد نفد ما حملنا
من مكة من الماء، فجاءنا وكيل الخرج بماء كدر غير عذب، فسألناه: ألا يوجد
ماء نقي عذب في هذه الأرض؟ ، قال: بلى، ولكنه غالٍ لا يكفينا لملء ما معنا
من أواني الشرب أقل من ريال، فأمرناه بأن يأتينا بقدر الكفاية منه، فجاءنا بماء لا
يفضل الأول إلا بمضاعفة ثمنه، فكانت هذه كبرى سيئاته، جعلها خاتمة لخدمته،
فكانت سبب حرمانه مما كنت أنوي أن أجعله علاوة له على الأجرة الوافية التي
خصصها له الأمير، وما كان يصيبه كل يوم بعد كفايته وكفاية أهله من فضل النفقة
المعينة، وما أخذه من ذبائح نُسكنا التي وكلته بالتصرف فيها، وقد سبق له مثل
هذه السيئة معنا بمنى، جاءنا بماء كدر لولا أن تداركنا أنفسنا بالبحث عن ماء نقي
وفقنا له لما سلم أحد منا من مرض النزلة الشعبية التي ظهرت أعراضها في بعضنا،
ولكننا غفرنا له تلك. وأما هذه فلم نستطع تداركها وسوء الخاتمة لا يُغفر، فنسأله
تعالى أن يحسن خاتمتنا.
هذا، وإننا قد قاسينا من الظمأ في بقية يومنا وعامة ليلتنا بين بحرة وجدة ما
لم نعرف له نظيرًا في تاريخ حياتنا، فكنا نبل أفواهنا من ذلك الماء عند الضرورة،
وحاولت الاستغناء عنه بمصّ رب السوس فلم يغنِ شيئًا. وفي هذه الحالة تذكرت
ما كنت عازمًا على استصحابه من مصر، فأنسانيه الشيطان، وهو السكر الليموني،
أي الممزوج بحامض الليمون، فأوصي كل مسافر إلى تلك البلاد وأمثالها أن
يحمل معه شيئًا منه.
وصلنا إلى جدة قبيل الفجر، فنزلنا في دار صديقنا الشيخ محمد أفندي نصيف
وكيل الإمارة الجليلة، وقد نمنا بعد صلاة الفجر ساعات قليلة، وبعد الاستيقاظ
طلبت ماءً سخنًا للاستحمام، فاغتسلت، وغيرت ثياب الطريق، وعلمنا أن أكثر
الحجاج المصريين نزلوا إلى السفينتين اللتين جاؤوا فيهما، فتبعناهم، وزودنا
صديقنا بأحسن الزاد، ونزل معنا هو وبعض الأصدقاء في زورق البلدية البخاري
إلى سفينتنا التي جئنا فيها (النجيلة) مشيعين، وكان هذا آخر عهدنا بأرض
الحجاز، فنسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بالعودة إليها مرارًا كثيرة حاجّين ومعتمرين،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
(1)
التعريس: نزول المسافرين في آخر الليل للاستراحة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مصائب الحرب
] وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [[1]
يشتغل بأعمال هذه الحرب - حرب المدنية - عشرات ألوف الألوف من
الرجال ومئات الألوف من النساء كان أكثرهم يشتغل بأعمال الزراعة والصناعة
والتجارة، فيكثرون من نتاج الأرض، ومن إيصال حاج بعض الناس إلى بعض،
فيعم به الرخاء وغضارة العيش، ويزداد المال في أيدي الناس، وقد قدر عدد قتلى
المعارك في أربع سنين بعشرات آلاف ألف، وعدد المشوّهين من الجِراح بخمسة
وعشرين، أو 30 ألف ألف، وحل محلهم مثلهم أو أكثر منهم، فتضاعفت خسارة
البشر بالحرمان من فوائد أعمالهم، فنقصت الأموال والثمرات بنقص الأنفس، ثم
بهلاك الكثير منهما، ومن الأنفس بحرب الغوَّاصات التي ابتدعتها مبتدعة أكثر
رزايا التدمير والتقتيل - ألمانية - فقد رقت صناعة هذه السفن الغواصة، حتى
صارت تحمل المدافع، وتقطع تحت الماء ألوفًا من الأميال والفراسخ، وحيثما
التقت بسفينة تحمل عروض التجارة، أو تنقل الناس من بلد إلى آخر، أرسلت
عليها وابلاً من قذائف المدافع أو سهامًا الطوربيل، فجعلتها كعصف مأكول، لا
تفرق بين سفن المحاربين وسفن الأمم التي على الحياد، ولا بين حاملة الجنود
وعدد الحرب وحاملة العروض وأهل السلم من الرجال والنساء والأولاد، أرادت
بذلك أن تحرم إنكلترة وأحلافها من ثمرات سيادة البحار، بعد أن شدد هؤلاء عليها
خناق الحصار، فآذت الأمم كلها، وأكثرت من عدد أعدائها.
كانت جوائح الغواصات سببًا في اشتداد الضيق، وامتداد الغلاء الفاحش إلى
جميع أقطار الأرض، وقد كان هذا القطر المصري في السنتين الأولى والثانية من
سِنِي الحرب أقل الأقطار غلاءً، وأكثرها رخاءً؛ لأن أرضه زراعية خصبة يمكنها
أن تنتج من الأقوات ما يزيد عن حاجة أهلها، وكان المخزون فيه مما يرد إليه من
الخارج كالفحم الحجري والأنسجة والمواد والأدوات اللازمة للزراعة والصناعة
كثيرًا، وثمنه معتدلاً، وقد غلا ثمن القطن منذ السنة الثانية، فربحت البلاد
عشرات من الملايين، قضت منها كثيرًا من ديونها، فلما اشتد حرب الغواصات
قلّ كل ما يرد من الخارج، وتضاعفت أثمانه أضعافًا، وتبع ذلك غلاء غلاّت
البلاد ومواردها، حتى بلغ ثمن إردب القمح في الشتاء الماضي خمسة جنيهات،
ويباع الآن الرِّطْل المصري من السمن بأربعة عشر قرشًا وخمسة عشر، وبلغ ثمن
أقة زيت الزيتون أربعين قرشًا، فصار مساويًا للسمن بعد اشتداد غلاء السمن،
وكان قد زاد عنه، إلا أنه قد ورد منه أخيرًا على الإسكندرية عدة قناطير من كريت،
فنزل الثمن قليلاً. ورطل اللحم البحري يباع في القاهرة بثمانية أو تسعة قروش،
وأقة العنب بِيعت بأربعة قروش فخمسة فستَّة، وقِسْ عليه سائر الفاكهة.
وقد سَعَّرَتْ الحكومة المصرية أكثر مواد الغذاء، فكان تسعيرها إياها سببًا
لزيادة الغلاء، ولم نر أهل هذه البلاد اتفقوا على مخالفة الحكومة وعدم الاكتراث
لها بشيء كما فعلوا في تسعير الأقوات. فمن الثابت أنها لم تنقص من ثمن شيء
إلا وزادوا فيه عما كانوا يبيعونه به قبل تسعيرها إياه، اللهم إلا زيت البترول فهو
الذي استطاعت الحكومة أن تنفذ أمرها فيه تنفيذًا مطردًا. وقد كان ثمن رطل اللحم
قبل تسعيره 6 قروش أو 6 ونصف قرش، فلما رفعته الحكومة إلى هذا القدر
ارتقى سعره كما علمت. وكان ثمن رطل السمن 9، فصار بعد جعلها إياه نحوًا من
ذلك بزهاء ضعفيه. وكان ثمن أقة زيت القطن المكرر كثمن رطل السمن، فصار
شأنه شأن السمن في التسعير والغلاء، وقس على ذلك سائر الأشياء.
وأما ما يرد إلى القطر من الخارج فقد تضاعفت أثمانه إلى ما شاءت أطماع
تُجاره التي لا حد لها، فتضاعف ربحهم، وعظمت ثروتهم، وكلما غلوا في الغلاء
غلا أهل الفَنَع والثراء في الشراء، وقد بلغنا أن أغنى أمم الأرض من الأوربيين
والأمريكيين ترك موسروها في أثناء هذه الحرب جميع ما يعد في العرف من
الكماليات، واكتفى الأغنياء منهم بالحاجيات، ومن دونهم بالضروريات، حتى
ترك أكثرهم شرب الخمور التي كان بعضهم يعدها ضرورية، وكسدت عندهم
تجارة الترف والزينة، وشذَّ أغنياء هذا القطر، فاشتد تباريهم في اتخاذ الحلي
والحلل، وتنافسهم في الأثاث والرياش، وأرهق مَن دونهم من أهل الطبقة الوسطى
عسرًا، فنسأله تعالى أن يجعل لهم مع هذا العسر يسرًا.
_________
(1)
البقرة: 155.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
إن الاضطرار إلى تقليل صحائف المنار على كثرة مواده حال دون
تقريظ المطبوعات الجديدة في هذه السنة وما قبلها، أو التنويه بذكرها للإعلام بها،
وذلك حق لأصحابه على مَن يهدونها إليهم من أصحاب الصحف الدورية حَقَّهُ العُرْفُ،
وأوجبه التعاون على نشر العلم، ولقراء هذه الصحف من الحق على أصحابها أن
يعلموهم بما يتجدد في صناعة المطبوعات من الصحف والمصنفات، ويبيّنوا لهم
قيمتها المعنوية قبل بيان قيمتها المالية، بالتقريظ الصحيح، والنقد النزيه، وإننا
نحب أن نؤدي الحقين، ونقوم بواجب النصح للفريقين، ولكن يتعذَّر علينا تارة
ويتعسر تارة قراءة ما يُهدَى إلينا من هذه المطبوعات، أو قراءة طائفة من كل منها،
تكفي لصحة الحكم في أمرها، ولا نحب أن نكون كمَن ينظر في فهرس الكتاب،
فيختار منه ما يظن أن فيه تقصيرًا أو خطأً، فيراجعه، وينتقد منه ما يراه محلاً
للانتقاد، أو يختار موضعًا يوافق رأيه فينقله، ويخصه بالثناء، ولا كمَن يثني على
كل كتاب يُهدى إليه ثناءً مجملاً، أو ينشر ما يرسله إليه صاحب الكتاب إطراء
مفصلاً، وخير من هذا وذاك أن يعرِّف صاحب الصحيفة بالكتاب تعريفًا تاريخيًّا،
بذكره وذكر اسمه واسم مؤلفه وموضوعه ووصف حجمه وورقه وطبعه، وهو ما
نجري عليه أحيانًا، وقد نزيد عليه بيان قيمته المعنوية أحيانًا، وإن من الكتب ما
يعرف الجمهور قدره في الجملة بمجرد ذكره أو وصفه، وإننا نراجع الآن ما أُهدي
إلينا في هذه المدة، ونذكر ما يقع في يدنا منه فيما بقي من أجزاء منار هذا
المجلد.
***
(جرجي زيدان "1861-1914 ")
(ترجمة حياته. مراثي الشعراء والكُتاب. حفلات التأبين. أقوال الجرائد
والمجلات في الرجل وآثاره) .
نشر هذا الكتاب إميل أفندي زيدان نجل جرجي بك زيدان ووارث الهلال من
بعده، مؤلَّفًا من ص 147 بحجم الهلال، مطبوعًا بمطبعة الهلال في سنة 1915،
وهذا الكتاب مستغنٍ عن الوصف والتقريظ.
***
(مبادئ علم السياسة)
كتاب لخصه سليم أفندي عبد الأحد الكاتب المشهور من بعض الكتب
الإنكليزية لمجلة الهلال، فطبعته في سنة 1915، وجعلته ملحقًا للسنة الثالثة
والعشرين من مجلة الهلال. وهو ثلاثة أقسام: (أولها) في الدولة: حقيقتها
ونشوؤها وسلطتها وصلتها بغيرها وأنواع الدول في القديم والحديث. (ثانيها)
نظام الحكومة: سلطتها بأنواعها وأنظمتها وسياستها وإدارتها وأحزابها وغير ذلك.
(ثالثها) الحكومة والاجتماع: وفيه ذكر المذاهب الفردية والاشتراكية والأنظمة
الحاضرة.
أما حاجة اللغة العربية إلى مثل هذا الكتاب فشديدة لكثرة القراء الذين يهتمون
بالأمور السياسية، وقلة ما في اللغة من موادها. وأما طبع الكتاب فنظيف وورقه
جيد، وصفحاته 130 بشكل المنار والهلال.
***
(خلق المرأة)
كتاب ألفه بالفرنسية هنري ماريون الذي كان أستاذًا في كلية الآداب بباريس
وترجمه بالعربية إميل أفندي زيدان صاحب الهلال، وجعله ملحقًا للسنة السادسة
والعشرين. وقد طالعته كله، فألفيت كاتبه من أعدل الكتاب الأوربيين في هذا
الموضوع، وأرجو أن أكتب شيئًا في بيان ما استفدته منه، وقد طبع بمطبعة
الهلال طبعًا حسنًا، ولكن على ورق غير جيد، والعذر قلة الورق، وكثرة الثمن،
وصفحاته 119.
***
(الصبي: بحث في الأخلاق والتربية في قالب روائي)
كتاب ألفته إنكليزية اسمها (ماري كورلي) وعني بترجمته بالعربية عبد
العزيز أفندي صدقي من موظفي وزارة المعارف والتزم طبعه نجيب أفندي متري
صاحب مطبعة المعارف، وقد طبع الجزء الأول منه في العام الماضي في 128
صفحة.
أما المترجم فشاب نبيه يتوخى أن ينفع بلاده بما يترجم، وليس ممن لا هَمَّ
لهم من الترجمة أو التأليف إلا الكسب، فيختارون ما يلذ للجمهور، لا ما ينفعه،
وعبارته حسنة، ولكن فيها ما فيها من ضعف أساليب الجرائد وغلطها، وذلك ما
يعز أن يسلم منه كاتب عصري، وهو - على ما أظن - غير مغرور بها على
علمه بأنها تفضل عبارات أكثر مترجمي القصص التي تُنشر في هذه الأيام، بل
يحب الترقي والكمال في الترجمة والإنشاء، ولا طريق لذلك إلا عرض ما يترجم
وينشئ لنقد بعض علماء اللغة والأدب ومتأنقي الكتاب قبل نشره أو بعده ولو بالجعل
والجزاء.
وأما غرضه من ترجمة هذه القصة فقد بيّنه في مقدمتها وهو إكمال ما ينقص
البلاد من القصص الجدية الجامعة بين لذة المطالعة والفائدة النافعة في تربية الأسرة،
وقد شرح ذلك شرحًا جميلاً في صفحتين ونصف صفحة.
تصفحت هذا الجزء فألفيته مفيدًا كما قال المترجم ولكن البلاد ليست فارغة
خالية من مثله كما ادعى، كيف وقد طبع فيها كتاب (التربية الاستقلالية) مرتين
وأوشكت نسخ الطبعة الأخيرة أن تنفد، وهو إذا قوبل بما ظهر من كتاب (الصبي)
يظهر أنه أعم فائدة وأفضل، وأسلم من لغو القصص وأبعد، ومما أعجبني من
الفوائد التي انفرد بها كتاب الصبي أو خالفه فيها غيره - بيان كراهة الشعب
الإنكليزي لتعليم أولاده وتربيتهم في مدارس أجنبية، فإن مؤلف كتاب التربية
الاستقلالية (إميل القرن التاسع عشر) - وهو فرنسي - قد استحسن أن يُربَّى
الطفل الفرنسي في البلاد الإنكليزية؛ لأن التربية فيها أفضل، وأن يعلم ويربى في
بلاده إذا صار يافعًا؛ لينشأ فرنسيًا وطنيًّا صادقًّا، ثم يكمل علومه في البلاد الألمانية؛
لأن العلوم العالية أرقى فيها وأكمل. وأما مؤلفة كتاب الصبي أو قصته فهي تقول
في التعليم في المدارس الأجنبية ما قال مالك في الخمر، وتجعلها أدهى من الساعة
وأمرّ؛ فقد ذكرت أن أم (الصبي) الجاهلة - التي جعلتها مثلاً للتربية الفاسدة - قد
اختارت له مدرسة أجنبية، يتعلم فيها من اللغات والعلوم العقلية والجسمية، وما
يؤهله لكل عمل في الحياة، على قلة الأجر والنفقات، ثم ذكرت أن الصبي ارتاع
لهذا الاختيار الذي يُخرجه عن كونه إنكليزيًّا: (إذ كان وجدانه يحدثه أن المدارس
الأجنبية تبدل جنسيته وأخلاقه) ، ثم قالت: (إن الصبي ذكر ذلك لشيخ كبير
مختبر، يعرف البلاد الأجنبية، فحذره من ذلك، وأنذره سوء عاقبته بقوله: إن
المدارس الأجنبية لا تخرّج إنكليزيًّا مطلقًا، إنك تذهب إلى الخارج شابًا ظريفًا
مؤدبًا كما أنت الآن، ولكنك لا تعود بتلك الصفات، ستعود وقد تعلمت الكذب
والنفاق والمخادعة، فعندما تتحدث تنهق كالحمير، وعندما تسير تقفز كالضفادع،
وسوف تخاف من الماء البارد، ولا يمكن للناظر إلى وجهك أن يقول: إنك إنسان
حي، إنك أجنبي متَّسخ حقير، هذا ما ستكونه) اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [*]
لما وصل إلينا هذا النقد في بريد الشرق الأقصى كان أول ما خطر في بالنا
قبل أن نقرأه أنه يجب علينا إذا وجدناه كله أو جلَّه صحيحًا أن نشهد لصديقنا الناقد
بالتدقيق والتحقيق، وأنه بزَّ فيهما علماء مصر وغير مصر من البلاد الإسلامية
التي اطَّلع كثير من علمائها على كتاب (ذكرى المولد النبوي) ، فلم يروا فيه
بعض ما رآه هو من الخطأ، ثم قرأنا النقد، فرأينا أكثره خطأً محضًا، وأقله ما له
وجه أو شبهة، وها نحن أولاء نبين ذلك بما يحتمله المقام من التفصيل، مع اتقاء
ما يمل من التطويل.
***
(الموضع الأول)
تأليف الكتاب هل هو بدعة
قد غفل الناقد عما حررناه في المقدمة من كون البدعة في احتفال المولد إنما
هي مجموع ما يعمله الناس من خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو
…
إلخ ما ذكرنا في صفحة (ي) من المقدمة، وقد صرحنا فيها بأن قراءة قصة المولد
عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة النبوية، لا يُنكَر منها إلا جعْلها من
الشعائر الدينية الموهمة أنها مشروعة، أي بالتوقيت والاجتماع وغير ذلك. فغفل
عن ذلك وجعل هذا العمل العلمي المفرد عين ذلك المجموع المركب، ومن العجيب
أنه ادَّعى أننا ختمنا كل فصل من ذكرى المولد بما سماه (الصلاة البتراء) ، غافلاً
عن كون أهم فصوله - وهو فصل تبليغ الدعوة - لم يُختم بصلاة بتراء، ولا غير
بتراء، وكذلك فصل مناهضة الدعوة، وإلجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
الهجرة، ومثلهما الخاتمة.
أما قولي في آخر تلك الصفحة: إنني كنت أتحامى كتابة قصة المولد لما
ذكرت من الأسباب الثلاثة - فهو حكاية عن رأيي في هذه المسألة في السنين
الخالية، وأما ما أنفذته إثْر ما كان من المذاكرة بيني وبين البكري فهو ما ترجَّح
عندي بعد ذلك وهو كتابة مصنف وجيز في خلاصة تاريخ المصطفى صلى الله
عليه وسلم وسيرته، وحقيقة دعوته، وكليات دينه وشريعته - يكون دعوة إلى
الإسلام، وردًّا لما فشا في قصص الموالد من الأباطيل والأوهام، وأن أنشره مع
بيان ما به تكون قراءته فريضة أو فضيلة محمودة، وما يكون بدعة مذمومة،
فتكون بذلك فوائد نشره مضاعَفة، وإني أعتقد أن هذا العمل واجب شرعًا، ولو
فصَّلت أدلتي على ذلك لما خفيت على أحد، ولكن لا حاجة إلى هذا التفصيل.
على أن آخر عبارة الناقد لهذا الموضع تفيد إجازة هذا التأليف ونشره في
المنار؛ إذ حصرت النقد في طبعه منفردًا، وختم فصوله بالصلاة البتراء، ويعني
بها ما تُرك فيها الصلاة على الآل؛ لأنه - فيما يظهر - ينكر ذلك، ويراه بدعة
محظورة، ويلتزم قرن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على الآل،
ولو فيما ينقله عن غيره كما يراه قراء نقده فيما نقله عن ذكرى المولد، وهذا من
التحريف في النقل، ولا يخفى حكمه. ونحن لا ننكر أن الصلاة على الآل تبعًا
للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلاة وكذا في خارجها،
ونحن نفعلها في التشهد من الصلوات دائمًا، وفي غيره أحيانًا، ولم يقم عندنا دليل
على التزامها ولم يصح عندنا نقل عن السلف من الصحابة وعلماء التابعين ولا أئمة
آل البيت بذلك، وإنما تلتزمها فرقة الشيعة، وقليل من غيرها، والتزامها أقرب
إلى البدعة من تركه؛ لأن الأصل في البدعة مخالفة ما كان عليه أهل الصدر الأول
بشرطه، وأما طبع الكتاب وحده فهو كطبعه في المنار، والناقد نفسه يقترح أن
يطبع مرة أخرى يُراعَى فيها ما رأى تنقيحه في نقده كما تقدم آنفًا.
* * *
(الموضع الثاني)
الفرق بين الامتياز وما به الاصطفاء
سألنا في الكتاب: كيف كان اصطفاء الله تعالى لتلك البطون من العرب،
وبِمَ امتازوا على غيرهم، حتى كانت أمتهم بهم أفضل الأمم، وأشد استعدادًا لذلك
الإصلاح الكامل العام، الذي جاء به صفوة البشر منهم عليه أفضل الصلاة والسلام؟
وأجبنا عن ذلك بما شهدت به التواريخ العامة من امتياز الأمة العربية على
سائر الأمم من بدء التاريخ إلى عصر الإصلاح الأعظم بالبعثة المحمدية، وبما
عُرف في تاريخ العرب أنفسهم من امتياز كنانة فيهم وامتياز قريش في بني كنانة،
وامتياز بني هاشم في قريش، فعلم بهذا أن اصطفاء كل بطن منهم كان بما امتاز به
من المزايا والصفات والأحوال التي كان عليها، وأن ذلك كان إعدادًا لهم لجعْل
صفوة الأصفياء في خير بطن منهم، ولقيامهم بدعوته، ونشرهم لهدايته، ولم
يتأمل الناقد ذلك؛ فوقع فيما وقع فيه، مما لم يخطر لغيره من الكُتَّاب وعلماء اللغة
عندنا ببال؛ إذ لم يفطن لكون ما به الامتياز هو سبب الاصطفاء أو نفس الاصطفاء.
* * *
(الموضع الثالث)
إنكار عطف واقتراح آخر
أنكر الناقد علينا في جملة (كانت الأمم مرهقة بالأثرة والأنانية والأنين من
ثقل الضرائب) من الصفحة الخامسة أن عطف الأنين على الأثرة غير صحيح أو
غير واضح، واختار حذفه أو وضع فعل الأنين المضارع موضع المصدر، قال:
ليصح العطف أو ليكون أوضح، ونقول إن لإنكاره دون اقتراحه وجهًا وجيهًا،
ولكنه لم يبينه، وهو أن الباء في قولنا (بالأثرة) للسببية أو للآلة، وكل من الأثرة
والأنانية سبب للرهق الذي أُرِهقته تلك الأمم أو آلة له، وأما الأنين فهو أثر السبب
أو الآلة وليس منه، والوجه أن يقال (تأن) بغير عطف.
* * *
(الموضع الرابع - أما جوابها)
بيَّنَّا وجوه اصطفاء كنانة وقريش وبني هاشم على غيرهم من العرب بأسلوب
أما وأما، فأنكر الناقد ذلك في كنانة بجعله هنا خلاف الأولى، زاعمًا أن الأولى
حذف (أما وجوابها)، وبدء الكلام هكذا: اصطفاء الله لكنانة يعلم مما كانت
تحفظه العرب
…
إلخ، ولم يبين وجه هذه الأولوية، فندعها إلى القراء يحكمون
فيها بعلمهم وذوقهم.
* * *
(الموضع الخامس)
ندوة قريش ورايتها " العقاب "
زعم الناقد أننا في هامش الصفحة الثامنة فسَّرنا الندوة بالشورى،
وخصصناها بإجالة الرأي للائتمار بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، وأن
المعروف ما ذكرناه عنها في صلب الكتاب، وقد فهم ذلك من قولنا: (التي اجتمعوا
فيها بعد البعثة للائتمار به صلى الله عليه وسلم وبديهي أن وصفها بذلك لا يدل
على ما فهمه من التخصيص، وإنما تلك غفلة ظاهرة منه.
وأما إنكاره قولنا: إن العقاب راية قريش، وقوله: إن المعروف أنها راية
النبي صلى الله عليه وسلم كما في القاموس، فما كان له أن يرسله بدون مراجعة
لكتب التاريخ والحديث؛ إذ كلمة القاموس وحدها لا تكفي للفصل في مثل هذه
المسألة، وهو يعلم أن ما في القاموس مشهور لا يعرف عامة الناس غيره لذكره في
السيرة النبوية، وأشعار الشعراء كقول صاحب الهمزية:
فغدا ناظرًا بعيني عقاب
…
في غزاة لها العقاب لواء
فكان ينبغي له - والأمر ما ذكرنا - أن يقول: إن مجيء هذه العبارة من
صاحب المنار على خلاف المشهور لا بد له من أصل، ثم يراجع لعله يقف على
هذا الأصل، ويحكم فيه حكمه.
أشهر معاني العُقاب (بضم العين) أنه طائر من الجوارح التي تصيد، (ومنها)
الحرب نقله في اللسان عن كراع، (ومنها) العَلم الضخم نقله الجمهور، قال في
اللسان: والعقاب الذي يعقد للولاة شُبِّهَ بالعقاب الطائر وهي مؤنثة أيضًا. ونقل
صاحب العقد الفريد في كتاب النسب عن ابن المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي
أن الذين انتهى إليهم الشرف من قريش - فوصلهم بالإسلام - عشرة رهط من
عشرة أبطن، كان لكل منهم منصب ومكرمة من المكارم التي كانت لقريش -
وهي التي ذكرناها في الصفحة 8 - قال: فكان من هاشم العباس بن عبد المطلب
يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الإسلام، ومن بني أمية أبو سفيان
بن حرب، كانت عنده العقاب راية قريش، وإذا كانت عند أحد أخرجها إذا حميت
الحرب فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب، وإذا لم يجتمعوا على أحد
رَأَّسُوا صاحبَها، فَقَدَّمُوهُ. اهـ المراد منه.
ويؤخذ من كلام علماء التاريخ والعاديات أن طائر العقاب شعار قديم للعرب
وقد عبر بعضهم عنه بالصقر، وإنما الصقر في اللغة: اسم لكل ما يصيد من
جوارح الطير، فالظاهر أن قريشًا سمت راية الحرب الكبرى بالعقاب من ذلك،
وأما كون رايته صلى الله عليه وسلم تسمى العقاب فلم يثبت في حديث صحيح،
ويحتمل أن يكون سبب هذا القول أن بعضهم أطلق هذا اللفظ على رايته الكبرى
بمعناه اللغوي العام، الذي هو العلم الضخم، ففهم آخرون من الإطلاق أن العقاب
اسم علم لها. وقد لخص الحافظ ابن حجر في شرح: (باب ما قيل في لواء النبي
صلى الله عليه وسلم - من صحيح البخاري ما ورد في كتب السنة في ذلك،
وحكى هذا القول بصيغة التمريض والتضعيف، وقد رأينا أن نذكر عبارته برمتها؛
لأنها فصل الخطاب في مسألة هذا الباب، قال:
اللواء بكسر اللام والمد هي الراية ويسمى أيضًا العلم وكان الأصل أن يمسكها
رئيس الجيش ثم صارت تُحمل على رأسه. وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير
الراية، فاللواء ما يُعقد في طرف الرمح، ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك
حتى تصفقه الرياح. وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء العلم الضخم والعلم
علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، وجنح
الترمذي إلى التفرقة فترجم بالألوية وأورد حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض. ثم ترجم للرايات، وأورد حديث البراء أن راية
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء مربعة من نمرة، وحديث ابن عباس
كانت رايته سوداء ولواؤه أبيض أخرجه الترمذي وابن ماجه وأخرج الحديث أبو
داود والنسائي أيضًا ومثله لابن عدي من حديث أبي هريرة ولأبي يعلى من
حديث بريدة، وروى أبو داود من طريق سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم:
رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، ويجمع بينها باختلاف الأوقات.
وروى أبو يعلى عن أنس رفعه: (إن الله أكرم أمتي بالألوية) ، وإسناده ضعيف،
ولأبي الشيخ من حديث ابن عباس: (كان مكتوبًا على رايته لا إله إلا الله،
محمد رسول الله) وسنده واهٍ. وقيل كانت له راية تسمى العُقاب سوداء مربعة،
وراية تسمى الراية البيضاء، وربما جعل فيها شيء أسود اهـ.
* * *
(الموضع السادس)
توجيه قوى قريش لمعاداته صلى الله عليه وسلم
أنكر الناقد قولنا - في الصفحة التاسعة: إن قُوى قريش المعنوية وُجهت
كلها لمعاداته صلى الله عليه وسلم بأنها مُشعرة بغاية الهجو وموهمة أن جميع قريش
وجهوا جميع قواهم لمقاومته صلى الله عليه وسلم، وبأن هذا مخالف للسياق
وللواقع، ثم نَوَّهَ بفضل قريش بما نَوَّهَ به.
ونقول في الجواب:
(أولاً) إن ما يتضمنه الكلام من هجو فهو خاص بجاهلية قريش التي ذمها
الله ورسوله والمؤمنون، فقد فعلوا ما فعلوا وهم مشركون، وما زال أكثرهم
مشركين أكثر مدة البعثة، وما صاروا يدخلون في الإسلام أفواجًا إلا بعد فتح مكة،
ويأس مَن بقي من زعمائهم بعد الحرب من الرياسة، وأي جرم أجدر بالذم والهجو
مما فعله من إيذاء الله ورسوله وفتنة المؤمنين وإخراجهم من ديارهم، وقتالهم في
دار هجرتهم، وذلك لا يقتضي ذم المؤمنين منهم ولو بعد الإيذاء، فقد كان خالد بن
الوليد أشد كُماتهم نكايةً في قتال المسلمين، ثم صار أشدهم نكايةً وبلاءً في قتال
أعدائهم الكافرين.
و (ثانيًا) إن ما كان من كفر أكثرهم وإيذائهم لا ينافي ما ذكرنا من استعداد
جمهورهم للإسلام بما ذكرنا من مزاياهم؛ فإن سبب الكفر والإيذاء كبرياء الرؤساء
المعروفين وحيلولتهم بين الرسول وبين الجمهور وتقليد الدهْماء واتباعهم لهم؛
ولذلك كان صلح الحديبية فتحًا مبينًا بظهور ذلك الاستعداد فيهم، وفي غيرهم من
العرب عندما صاروا يجتمعون بالمسلمين، ويسمعون منهم القرآن وصفة الإسلام،
كما بينا ذلك في ص 39 و40 من ذكرى المولد، ومن الدلائل على هذا حديث
جابر مرفوعًا عند أحمد ومسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر) ، وحديث
أبي هريرة مرفوعًا عند البخاري: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا
فَقِهُوا) .
و (ثالثًا) إن العبارة لا تدل بطريق الحقيقة ولا المجاز ولا الكناية على أن
جميع أفراد قريش وجهوا جميع قواهم لمعاداته صلى الله عليه وسلم، وإنما هي
صريحة في توجيه قوى القوم المعنوية التي هي جاههم ومكانتهم الدينية والأدبية في
العرب إلى مقاومته صلى الله عليه وسلم، وإنما تكون هذه القوى للهيئة الاجتماعية
والجمهور الأعظم الذي يمثله الزعماء، وهذا هو الذي حصل، فلا مجال فيه
للجدال والمراء، ولم يكن الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم من قريش قبل
الهجرة بقادرين على حماية الدعوة، ولا حماية الرسول ولا ضعفاء المؤمنين من
الأذى والفتنة، بل كان أكثرهم محتاجًا إلى مَن يحميه ويجيره من جمهور قريش
أصحاب الجاه والثروة والعظمة.
وقد أراد الناقد أن يكثر عدد السابقين الأولين من قريش إلى الإسلام، ونصر
الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فجعلهم ثلاثة أزواج:(1) السابقون إلى
الإسلام مع إخفائه ومثَّل له بأبي طالب، وقد ثبت في حديث الصحيحين أن أبا
طالب مات على شركه، وأنه أدنى أهل النار عذابًا لدفاعه عن الرسول صلى الله
عليه وسلم وحياطته له وإن كان بباعث القرابة والعصبية، و (2) السابقون
المتحملون لمشاق التعذيب ومثَّل له بآل ياسر وليسوا من قريش، وإنما هم عنسيون
من اليمن، ولم يذكِّرْه ذكرُهم بما كانوا يقاسونه من تعذيب قريش لهم، وعجز جميع
المؤمنين عن إغاثتهم والدفع عنهم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمرّ
بهم، فيقول:(صبرًا آل ياسر؛ موعدكم الجنة) ، و (3) السابقون القائمون
بنصرته ونشر دعوته، (قال) : كحمزة وعلي وخديجة وأبي بكر وغيرهم،
وتمثيله بذكر هؤلاء صحيح، ولكنهم كانوا عددًا قليلاً، لم يقدروا على حماية أنفسهم
وحماية الدعوة، بل أخرجهم جمهور قريش القوي مع الرسول صلى الله عليه وسلم
وسائر المؤمنين من ديارهم بغير حق، كما شهد الله تعالى في سورة الأنفال والحج
والممتحنة.
وما ذكره من فضائل قريش في نقده لهذه العبارة من حق وباطل - هو دون ما
ذكرناه نحن في هذه الرسالة بحق، ولا نناقشه إلا في قوله: إن الإسلام ما اعتز
ودخل في طور القوة والمنعة إلا بعد إسلام مَن تأخر منهم، ففيه نظر، بل هو غلط؛
فإن الإسلام قد اعتز وقوي بدخول الأنصار فيه، وإن كان فضل السابقين الأولين
من المهاجرين على الأنصار معروفًا لا يُنكر؛ في كونهم الأساس الأول والركن
الأعظم، ولكن أخانا الناقد الفاضل أحد أفراد عصبية جديدة ذات نزعة عصبية
للعلويين من قريش، وبهذه النزعة استصغر ما استكبره واستعظمه جماهير
المطَّلعين على ذكرى المولد النبوي من فضائل قريش عامة، والعلويين منهم خاصة
بحق، ولنا في هذه العصبية كلام نقوله بعد.
ثم إننا نبرأ إلى الله مما نقله عن الزمزمي في همزيته، وهو زعمه أن قريشًا
لم تبطئ بالإيمان بغضًا وجفاءً، بل امتنعوا من تولّي الرسول صلى الله عليه وسلم؛
لئلا يشك فيه مَن يرى نصر القرباء له، بل أخّروا ذلك إلى أن تولى الله نصر
دينه، فلما كان ذلك دخلوا فيه، وصاروا رؤساء له، فهذا الزعم مخالف لما عُلم
بالضرورة من الكتاب والسنة وكتب السيرة النبوية كلها، فالظاهر منه أن الناظم
يريد أن السواد الأعظم من قريش آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم باطنًا، وكتموا
إسلامهم لعلمهم أن الله سينصر رسوله، ويعز دينه بغير سبب، ولا أحد من
المؤمنين من غيرهم، (إذ الظاهر أن هذا الرجل وأمثاله ينكرون فضل الأنصار
الثابت بشهادة الله ورسوله لهم بالإيواء والنصر أو يصغرونه أو يخفونه) ، فأحبوا
أن لا يكون إظهارهم للإسلام شبهة على نصره بالخوارق فأخروه لذلك؟ ! وماذا
يقول في الإيذاء والفتنة قبل الهجرة وفي سيرهم من مكة إلى المدينة لأجل قتال
النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعدها؟ ! .
هذا، وإننا ننوي تنقيح عبارات من كتاب (ذكرى المولد النبوي) عند إعادة
طبعه، منها الإشارة في هذه العبارة التي نرد نقد الناقد لها، نريد أن نحذفها،
ونقول: (ولكن قواها (أو قوى قريش) كلها وُجهت لمعاداته عليه أفضل الصلاة
والسلام) بدل: (ولكن هذه القوى كلها) ؛ فإن هذه الإشارة وقعت بعد كلام ليس
مرادًا منها، والناقد لم يلمح ذلك.
* * *
(الموضع السابع)
بُعد الآل عن الأمور الحربية والرياسة
قلنا في الصفحة العاشرة في بيان فذلكة ما امتاز به بنو هاشم آل الرسول
صلى الله عليه وسلم على سائر قومه من قريش: إن جملة ذلك الأخلاق العلية،
والفواضل العملية، والفضائل النفسية، والبُعد عن الأثرة والأمور الحربية؛ ولذلك
غلبوا على الرياسة حتى بعد الإسلام.. فرد علينا الناقد بقوله: لعل ثبوت بعد الآل
عن الأمور الحربية والرياسة لا يصح قبل الإسلام ولا بعده، واستدل على الأول
بما كان من المناصب الحربية لقريش قبل الإسلام، وبما ذكرنا من امتياز كنانة
ومالك وقصي في العرب، وعلى الثاني بحمل الآل لألوية القتال وقيادة الجيوش في
بدر وأحد وخيبر وحنين
…
إلخ.
وأقول في الجواب: إنني أجلّ الناقد الفاضل عن أن يكون سوء الفهم هو
الحامل له على هذا النقد، كما يتبادر إلى كل مَن قرأه، وقرأ الأصل، وأكاد أجزم
بأن سببه نزعة العصبية التي أشرت إليها آنفًا، فهي التي ألقت إلى وهمه أن
العبارة تدل بجملتها على عدم استعداد آل البيت النبوي عليهم السلام للرياسة والملك،
وما يلزمهما من أمور الحرب، فأراد أن يرد على ذلك، فغفل عن أصل العبارة
وعن معنى الآل، وأخذ يستدل على أصالتهم في الأمور الحربية وعنايتهم بأمرها،
بما كان لغيرهم من قريش من مناصبها، وبما كان من الرياسة والملك لبعض
أصول قريش وأجدادهم كمالك بن النضر وكنانة! ولم يكن لبني هاشم من تلك
المناصب والرياسات التي ذكرها شيء، إنما كانت لهم سقاية الحاج فحسب، وكان
يتولاها العباس، الذي لا يعده الناقد ولا ذريته من الآل، أعني الذين وردت
الأحاديث في فضلهم وتحريم الصدقة عليهم، فأما الندوة واللواء فكانت لبني عبد
الدار، وقيل: إن الندوة والمشورة كانت لبني أسد، وأما السفارة فكانت في بني
عدي وتولاها قبل الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتفسير هذه المناصب
يُعلم من هامش ص 10 من ذكرى المولد.
ثم إنه غفل عن جعْلنا امتياز بني هاشم بالأخلاق والفضائل دون الحرب،
وحب الأثرة والكبر - علة لغلبة غيرهم إياهم على الرياسة الدنيوية، حتى بعد
الإسلام، ولم يفهم نكتة هذه الغاية (حتى بعد الإسلام) ، والمراد منها ظاهر، وهو
أن الإسلام زاد في امتيازهم وتفضيلهم، فكان مقتضى ذلك أن يقدَّموا على غيرهم،
في كل ما يساوون غيرهم في الاستعداد له، ونبهنا إلى حكمة ذلك. وهذا الغلب
يصدق ولو لم يكن إلا لبني أمية؛ إذ العبارة لا تدل على أنهم يغلبون في كل زمان
وكل مكان، على أنهم غلبوا في أكثر الأزمنة والأمكنة، هذا هو الواقع الذي لا
مراء فيه.
على أنني أطلقت ضمير (الآل) في قولي (غلبوا) ، ولم يكن لأحد منهم
صورة في ذهني إلا العلويين، وما كان من زهد أئمتهم في الدنيا ورياستها، وما
قابل ذلك من أثرة غيرهم وتكالبهم عليها. وظلمهم إياهم؛ لتعلُّق القلوب بهم،
فأطلقت العام، وأنا أريد منه الخاص، والعبارة صادقة في كل حال، لا تنقضها
خلافة العباسيين من الهاشميين، الذين لا يعدهم الناقد من آل الرسول.
ثم إن نفينا لجعْل العناية بأمور الحرب من مزايا بني هاشم - التي فضلوا بها
سائر قريش - لا يقتضي أن يكونوا جبناء، يفرون منها، أو بُلداء لا يحسنون
التصرف فيها، إذا هم اضطروا إليها، فالحرب في نفسها شر، لا يبيحه إلا جعله
دافعًا لمفسدة هي شر منه، وإقامة مصلحة تصغر في جانبها هذه المفسدة، كما يعلم
من أول ما نزل في الإذن للمؤمنين في القتال، وذلك بقوله تعالى - في سورة الحج
-:] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [ (الحج:39-41) .
فبنو هاشم لم يكونوا يحبون الحرب للرياسة والكسب، كغيرهم من العرب
وغير العرب، ولم يوقدوا لذلك نار حرب قط، وقد كانت حرب الرسول صلى الله
عليه وسلم كلها دفاعًا عن الحق وأهله، وتأمينًا لحرية الدين ودعوته، ولكنه كان
أشجع الناس وأثبتهم في مواقف القتال، ويليه صلى الله عليه وسلم في ذلك عمه
حمزة وابن عمه علي المرتضى رضي الله عنهما ، والشجعان من بني هاشم لا
يحصون عددًا، ولكن الشجاعة شيء وحب الحرب للرياسة شيء آخر، وفي كلامه
هنا مآخذ أخرى سيعلم بعضها من الرد على بعض المواضع الآتية، على أنه لا
غرض لنا في مناقشته في كل ما أخطأ فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) يحسن أن يُراجع النقد في الجزء الثامن عند كل موضع من المواضع.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المتفرنجون والإصلاح الإسلامي
(2)
(قاعدة إصلاح قانون الأحوال الشخصية)
كان من أمر الحكومة المصرية بعد إعلان إنكلترة حمايتها عليها، وإلغائها
منصب القاضي الشرعي الأكبر الذي كان يعين من قِبَل الدولة العثمانية عليها - أنها
شرعت في أمر كان إنفاذه في أيام ذلك القاضي متعذرًا، وهو تأليف لجنة من علماء
الأزهر وبعض المدرسين في مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة الحقوق، يرأسها
وزير الحقانية لوضع قانون للأحوال الشخصية الخاصة بأحكام الزواج وما به
كالطلاق والفسخ والعدة والنفقة، تستمد مواده من فقه المذاهب الأربعة المشهورة،
ولا تتقيد بمذهب الحنفية وحده، بل يجعل القانون الذي كان وضعه قدري باشا
الحنفي هو الأصل، ويؤخذ من فقه المذاهب الأخرى ما تراه اللجنة أيسر وأكثر
انطباقًا على مصلحة الناس في هذا العصر. وطالما تمنى طلاب الإصلاح في هذا
القطر وغيره مثل هذا التيسير، ولكن ما جرت عليه الحكومة المصرية منتقَد من
وجوه أخرى بيناها في مقال لم يتيسر لنا نشره، وقد كاشفنا ببعضها بعض أُولِي
الشأن، وأهمها جعْل الأحكام الشرعية قانونًا، وما يترتب على ذلك؛ فالقانون إذا
أُطلق في هذا المقام ينصرف في العرف إلى ما يقابل الشرع من الأحكام، ويتوقف
الحكم به على إقرار مجلس الوزراء إياه، وصدور أمر الحاكم العام (الدكريتو أو
المرسوم السلطاني) به، ويلزم من ذلك جعْله تشريعًا جديدًا من هذه الحكومة،
يحكم به باسمها، على أنها هي الواضعة له، وينفذه وزير من وزرائها، لا يشترط
أن يكون مسلمًا، وكون القضاة يطبقون الحكم على ما يفهمون من نصوصه - وإن
كانت سقيمة - لا تدل على ما قصدته اللجنة دلالة واضحة (قد اطلعنا على بعض
ما وضع من هذا القانون، فوجدنا فيه عبارات كثيرة في غاية الضعف والركاكة) ،
وكونه سيُشرح كما شرح غيره من القوانين، فتُستنبط الأحكام من عبارته (النص
الحرفي) ، فيستعين بشرحه القضاة ووكلاء الدعاوي على فهم المراد منه، والعمل
بما يفهمون من ذلك، ولما كنت منتقدًا لهذا الوضع بهذه الصورة لم أبين رأيي في
مواده، عند ما أرسل إليَّ وزير الحقانية الجزء الأول الذي تم منه، كما أرسله إلى
كثير من علماء الشرع والقضاة والمحامين من شرعيين وأهليين؛ لأن إبداء الرأي
في ذلك يتضمن إقرار أصل العمل والموافقة عليه، ولست مقرًّا له ولا موافقًا.
وقد انتقد كثير من أهل العلم بعض مواد هذا القانون في الجرائد، واقترح
بعض مَن أُرسل إليهم ما تم منه اقتراحات، عُرضت على اللجنة العلمية المشتغلة
بوضعه، وعلمت أن بعض المحامين الأهليين اقترحوا على وزير الحقانية اغتنام
هذه الفرصة لإبطال تعدد الزوجات، وتقييد أحكام الطلاق! ، بنحو ما كان اقترحه
قاسم بك أمين فيما كتبه في المسألة التي يسمونها (تحرير المرأة) ، وإن أدري
أُعرضت أمثال هذه الاقتراحات على اللجنة، أم التزمت الوزارة عرض ما هو
منصوص في كتب المذاهب الأربعة؟
وقد كثر بحث المتفرنجين - وخاصة علماء الحقوق منهم - في مسألة قانون
الأحكام الشخصية، وحديثهم في وجوب جعْله مطابقًا لآراء الذين يسمونهم (الفئة
الراقية) - يعني المتفرنجة - وقد عني بهذه المسألة أحمد أفندي صفوت وكيل نيابة
(الدلنجات) ، فألف فيها رسالة، خرج فيها عن الموضوع إلى ما هو أعم منه
وأكبر، وأهم وأخطر، وهو نسخ نصوص الشريعة الإسلامية كلها، وإبطال
قواعدها وأصولها التي هي موضوع علم أصول الفقه، ووضع أصول أخرى لها
يراها الواضع مرقية لهذه الأمة الإسلامية من حضيض الهمجية القديمة التي كان
عليها سلف المسلمين وخلفهم بزعمه ووهمه - إلى قمة الترقي المدني الجديد الذي
صعدت إليه الأمة المصرية أو الفئة الراقية منها، التي يجب عنده أو ينتظر أن
يتبعها غيرها.
وقد ألقى هذه الرسالة بصفة خطبة - أو محاضرة كما سماها - على جمهور
كبير من هذه الفئة بقاعة المحامين بالإسكندرية (في 5 أكتوبر سنة 1917) تحت
رئاسة المحامي أنطون بك سلامة، ثم طُبعت ووزعت على الناس، وألقي إليَّ
نسخة منها، فوجب عليَّ الرد عليها شرعًا، وذلك ما رغب ويرغب فيه كثير من
محسني الظن بي، كما بينت ذلك في مقالة الجزء الذي قبل هذا.
إن مواضع النقد والبحث في هذه الرسالة (أو المحاضرة) ثلاثة أهمها:
القواعد الجديدة التي وضعها هذا الباحث لنسخ الشريعة الإسلامية بهدم أصولها
القديمة كلها. ويليه المسائل المراد إصلاحها من قانون الأحكام الشخصية، وهي
أربعة ذكرها مجملة في ص 5:
(1)
حرية المتعاقدين ولزومية العقد على الطرفين.
(2)
عدم التناقض مع قاعدة الحرية الشخصية المقررة في قانون العقوبات.
(3)
رسمية عقد الزواج والطلاق.
(4)
تسهيل إجراءات الدعوى.
ويلي هذين مسائل متفرقة في موضوع الترقي الذي يدعيه هو وأمثاله،
ويطلب تغيير أصول الشريعة وفروعها لأجله، ونبدأ بالأول الأهم، فنبين رأيه في
أصول الشريعة، وقواعده التي وضعها لنسخها، ونتبعها بنقدها العلمي الشرعي
فنقول:
أصول الشريعة ورأيه فيها:
قال في أول الصفحة 21 ما نصه (أصول الشريعة: الكتاب والسنة والإجماع
والقياس. أما القياس فنصرف النظر عنه؛ لأننا سنقيس بأنفسنا على أحكام
الأصول الأخرى) ، يعني أنهم سيقيسون على الأصول التي يشرعونها بأنفسهم؛
بناءً على أن لهم حق التشريع في الأحكام الشخصية كالأحكام المدنية والعقوبية التي
تشرع الحكومة فيها ما تشاء بإرشاد المسيطرين عليها، كما سيأتي بيانه، ومنها ما
يأخذونه عن قوانين الإفرنج كما هي. مثال ذلك قاعدة الحرية الشخصية المقررة في
قانون العقوبات، ومن أحكامها أن الأنثى متى تجاوزت السنة الرابعة عشرة يجوز
لها أن تعاشر مَن تشاء بلا قيد ولا شرط ولا رباط شرعي، وليس لوالدها حق
إرجاعها عن غيها لداره، كما صرح بهذا مؤلف الرسالة في الصفحة الثامنة
وغيرها. وكما أنه لا يجوز لوالد بنت الخامسة عشرة فما فوقها أن يردها ويمنعها
عن غيها إذا اختارت أن تكون خدنًا لأحد الفساق، أو بَغِيًّا تعرض نفسها للزنا في
المواخير والأسواق، كذلك لا يجوز لقاضي الشرع ولا للسلطان أو نائبه - أن
يردها عن هذا الحق الذي حقه لها القانون، ولماذا؟ ! لأن القانون أباحه. أما ما
أباحه الله في كتابه فلكل حاكم أن يحرمه عندهم، كما سيأتي قريبًا.
قال: (وأما الإجماع) وحجتهم فيه حديث: لا تجتمع أمتي على ضلال،
فنقسمه إلى قسمين: إما إجماع العلماء أو حكم ولي الأمر السابق (كذا) وعلى
حسب قواعد نظامنا القضائي لا نتقيد برأي مهما أجمع عليه الشُّراح إلا أن نوافق
على إجماعهم! وأما ما يقرره الحاكم بصفته صاحب السلطة التشريعية - فيمكن
لخلفه أن يلغيه طبقًا لقاعدة أن السلطة التشريعية تملك أن تلغي ما تقرره طبعًا لا
تأثير لشخصية الحاكم. (كذا) ، وقد استشهد لهذه القاعدة بأن لكل سلطان أن يلغي
ما وضعه من قبله، وجعله إلغاء الإجماع من هذا القبيل، ثم قال: إن المتأخرين
هم الذين جعلوا الإجماع حجةً؛ رضاءً منهم بتحكيم السابقين (قال) : " ونحن الآن
نرفض حكم المتأخرين والسابقين " أي أنه يرفض أحكام جميع المسلمين من السلف
والخلف، ولكنه ادعى أنه يتقيد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
فانظر كيف يتقيد بذلك! ، قال في ص 22:
(السنة) أريد أن أبحث القرآن من قبل؛ لأن حكم اتباع السنة ناتج من حكم
القرآن.
القرآن بصفته كتاب الله قد أودع فيه كل حكم شاء أن يفرض على كافة
المسلمين في جميع العالم اتباعه، فالذي تُرك ولم ينزل في القرآن تُرك ليكون للفرد
حرية التصرف فيه ولولي الأمر الرأي في تقييده بحسب ما يراه لازمًا لمصلحة
الجمهور. فالرسول بصفته ولي الأمر حاكم الأمة وقاضيها كان إذا سئل عن أمر
حكم فيه وهذه الأحكام إما صدرت في مسائل فردية خاصة فتقيدت بها وإما صدرت
من الرسول لتكون قاعدة وحكمًا عامًّا وفي هذه الحالة تكون بمثابة قانون صدر من
صاحب السلطة التشريعية ونفس هذه السلطة يملكها الحاكم في كل زمن بعده فيملك
إلغاء ما تقرر بمقتضاها.
وإذًا أستنتج أن السنة إما أنها تخصصت بحوادث فردية فصارت أحكامًا
قضائية في طبيعتها، وإما تعممت في شكل قواعد وقوانين فصارت تشريعًا صادرًا
من ولي الأمر لزمنه، وإذا ظهر من بعدُ للاحقين من أولياء الأمر مصلحة للناس
في تغييرها أو إلغائها كان ذلك ولا حرج. وهذا كله خاص بالأحكام المدنية فقط
دون الدينية. ولا يتناقض في شيء قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ} (النساء: 59)، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا} (الحشر: 7) ؛ إذ إننا إذا رأينا لزومًا للخروج عن السنة لمصلحة فلا
يكون ذلك غير طاعة، بل شيئًا آخر، وبديهي أن الرسول لو كان في هذا العصر
لاختلفت سنته فيه، ولو لم يُسأل ما أبدى حكمًا!
(الكتاب) قلت في الكلام عن السنة: إن الله أودع الكتاب كل حكم شاء أن
يفرض على كافة المسلمين في كل زمان اتباعه. فيكون الكتاب بذلك مقيدًا للمسلمين
فيما أمر. وبهذه المناسبة أعيد القول أنْ ليس لأي حكم لم يرد في الكتاب حكم
الفرض الواجب العمل به. وما زاد عن الكتاب من سنة أو إجماع حكمه الجواز،
إذا شاء قام به الفرد، وإن لم ير مصلحة في ذلك فله العدول عنه.
والأحكام الواردة في القرآن - عدا المبادئ الأصولية العامة - على ثلاثة
أقسام:
(1)
ما حرم عمله.
(2)
ما أوجب عمله.
(3)
ما أُجيز.
ثم بيَّن أن حكم القسم الأول أن لا يُتعرَّض له، ولا يحكم بشيء يخالفه في
مرماه، كتحريم الأم والأخت والجمع بين خمس أزواج. ومرمى الشيء غرضه،
والمراد أن يعتبر الغرض من الحكم لا الحكم نفسه، فهو إذًا كالقسم الثاني. وحكم
القسم الثاني أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه. ومثَّل له بإيفاء العدة
والإشهاد على عقد الزواج.
(قال) : (فلا حرج في أن نصل إلى الغرض المقصود من أفيد الطرق
وأخصرها) ، وعدَّ جعل العقد رسميًا مغنيًا عن الإشهاد، ومرور أكثر مدة الحمل
على الطلاق مغنيًا عن التقيد بالتربص ثلاثة قروء، أي ومثل ذلك ما إذا علم عدم
الحمل بالاطلاع على ما في الرحم بالأشعة التي تشفّ الجسم (أي تجعله شفافًا)
كالأشعة المعروفة بأشعة رونتجن؛ فبذلك يمكن إلغاء العدة على قاعدته!
ثم قال - بعد التمثيل الذي ذكرناه بالمعنى -: (وبذلك ينقض وجوب التقييد
بالمعاني الحرفية للألفاظ القانونية الواردة في القرآن) ، وأما حكم الثالث - وهو ما
جعله القرآن جائزًا كتعدد الزوجات - فهو أن الإنسان مخير فيه، ولكن لكل حكومة
أن تحرم منه بالقوانين الوضعية ما تشاء.
هذا رأي أحمد أفندي صفوت في أصول الشريعة الإسلامية ذكر أنه يقوله
ويقترحه بصفته مسلمًا! ، وهو هدم لأصول الشريعة كلها، لا يوافقه عليه مسلم في
الأرض، وهو مسلم، وسنبين ذلك بالدليل في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السيد الهمام - آل رضا
في آخر الساعة الثانية بعد النصف من ليلة الخميس لثمانٍ بقين من شهر ذي
القعدة الحرام الحالّ (الموافق لحلول الشمس في الدرجة الخامسة من برج السنبلة سنة
1296 هـ ش - 29 أغسطس) قد وهب الله جل ثناؤه لصاحب هذه المجلة غلامًا
سويًّا أزهر اللون جميل الخلق كأخيه (محمد شفيع) إلا أنه أوسع غُرة وأنحف بنية،
فسميناه الهُمَام (بضم الهاء وتخفيف الميم) ، فنحمد الله ونشكره على ما حبانا به من
مزيد نعمه، ونسأله تعالى أن يجعل له أوفر نصيب من اسمه، حتى يكون قرة عين
لنا ولأمته وقومه، ومثل ذلك لأخيه وأخته، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ
أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .
_________