الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الثالث والثلاثين من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد ولد آدم
محمد رسول الله وخاتم النبيين * المبعوث لإصلاح البشر أجمعين * الذي امتن
عليه ربه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وآله
وصحبه ومن اتبعهم في هدي ملته والتزام سنته إلى يوم الدين.
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *
يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 25-28) .
أما بعد، فإنني أذكر من يعقل من المسلمين في فاتحة هذا المجلد من المنار،
وهو الثالث والثلاثون الذي يصدر في السنة السادسة والثلاثين الهجرية من تاريخ
إنشائه بأهم ما يجب أن يفكروا فيه من حالهم ومآلهم على بصيرة من علم الحياة
الذي عرفه شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بقوله: (العلم ما يعرفك من أنت
ممن معك) فأقول:
إن الإسلام دين إيمان وعبادة، وعلم وحكمة، وسياسة ملك ودولة، وأساس
عمران وحضارة، خاطب الله تعالى به جميع البشر يدعوهم به إلى الإصلاح العام
بالمساواة بين جميع الأجناس، ونبذ التفرق بينهم بالأنساب والألوان، واللغات
والأوطان، بما شرعه في كتابه القرآن، من القواعد والأحكام والآداب.
بعث الله به نبيًّا أميًّا في أمة أمية غير مقيَّدة بسلطة روحية ولا سياسية تحول
دون فهمه، والنهوض به وتنفيذه، ففعل به هذا النبي وأصحابه في عصر واحد ما
لم يفعله نبي من الأنبياء بما أوحي إليه، ولا حكيم من الحكماء بفلسفته، ولا ملك
من الملوك بسياسته، ولا أديب من الأدباء برأيه وبلاغته، ولا جملة من ذكرنا من
رؤساء البشر وزعمائهم في جميع عصورهم.
ظهر في آسية مهد الأديان الكبرى السائدة في جميع العالم، والحكمة العليا
والحضارة الأولى اللتين استمد منهما سائر البشر حكمتهم وحضارتهم من قبله،
فاستعلى بدينه وحكمه وحكمته وسياسته وحضارته على كل ما كان لدى شعوب
البشر من ذلك كله فيهما، وتدفق سيله على أفريقية فغمرها من الرجا الشرقي إلى
الرجا الغربي منها، فأحيا الأرض بعد موتها، وفاض شؤبوب منه على أوربة،
فأنبت في الأندلس دولة راقية بالعلم والأدب والعمران اقتبست منها سائر شعوبها
العلم والحكمة والحضارة، ثم امتد فتحه إلى الجنوب منها بما أنذرها قرب الاستيلاء
عليها كلها.
ولكن الفاتحين من الصحابة والتابعين كانوا قد اختلطوا بغيرهم ممن كان
حظهم من الفتح ترجيح الغنائم والكسب، على الإصلاح والعدل، فنفخوا في
الإفرنج روح العصبية الدينية والقومية، حتى انتهى ذلك باتفاق شعوب أوربة كلها
على عداوة الإسلام فوجهت جميع قواها إلى محاربة المسلمين بقتالهم لإخراجهم من
بلادها التي فتحوها في فرنسة وأسبانية، ثم بمحاربته في غيرها من بلاد الشرق،
ثم بما هو أشد من ذلك خطرًا وأعمق أثرًا، وهو بث نفوذهم المعنوي في ملوكهم
وحكوماتهم ومدارسهم وكتبهم وصحفهم، حتى صار زعماء المسلمين من حكام
وكتاب ومعلمين ومؤلفين يخدمون أوربة ببث نفوذها المعنوي في شعوبهم وإضعاف
جميع مقوماتها ومشخصاتها الملية والقومية من حيث لا يشعرون، ولا أستثني منهم
الذين يدعون إلى مقاومة نفوذها باستقلال بلادهم وتقليص ظلها عنها إلا قليلاً منهم.
هذه قضايا أساسية في تاريخنا الحديث أثبتناها مرارًا كثيرة بأساليب مختلفة
يغنينا تفصيلها السابق عن الإطالة بها في هذا التذكير الإجمالي الوجيز الذي نرمي
فيه إلى بيان موقف العالم الإسلامي أمام أوربة في طورها الجديد، بعد الحرب
الكبرى التي كان الغبن الأكبر فيها على الشعوب الإسلامية العربية التي ساعدت
أعداءها من دول أوربة، والربح للشعوب الأعجمية التي عادتها وحاربتها وهم
الترك، والتي لزمت الحياد وهم الأفغانيون والإيرانيون، فأمامنا الآن خمس قضايا
جديدة: حالة أوربة، ودول الإسلام الأعجمية وشعوبها، وشعوبه الأعجمية
الخاضعة لغيرها، والعرب أرومة الإسلام الأولى شعوبها وحكوماتها، ومركز
الإسلام الذي يرجى تجديده فيه.
1-
حالة أوربة الحاضرة:
خرجت أوربة من الحرب العامة منهوكة القوى مثقلة بالديون، منحلة الروابط
الدينية والأدبية، مرتكسة في فوضى الإباحة، مهددة بالثورة البلشفية التي أسست
لها أقوى دولة خلفت القيصرية الروسية، وهي تبث دعايتها في العالم، وبالخطر
الأصفر الياباني، وبيقظة الشعوب الشرقية كلها حيث ينابيع ثروتها، بل مهددة بما
هو أشد خطرًا عليها من ذلك كله وهو استعار نيران البغضاء وغليان مراجل العداوة
في قلوب دولها وشعوبها بعضهم لبعض بعصبية الجنس والوطن وتباريها في الأثرة
المالية، وتنافسها في الاستعداد للحرب المبيدة الآتية، فهي الآن على فقرها وكساد
تجارتها وعجز ميزانياتها تنفق جل دخلها على إعداد ما تستطيع من قوة للحرب
البرية والبحرية والجوية، واختراع الغازات السامة التي تفني ألوف الألوف من
البشر في ساعة أو ساعات قليلة، مصداقًا؛ لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (المائدة: 64) .
ويخشى أن تكون الحرب المرتقبة كالريح العقيم التي وصفها الله تعالى بقوله:
{مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (الذاريات: 42) فيكونون كما
قال: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا
فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24-
25) فلا يطفئها الله تعالى حتى يهلك بها جميع الظالمين.
إن شعوب أوربة لفي أشد الخوف والرعب من عاقبة هذا الشقاق والعداء بين
دولها أن يُفْضِيَ إلى هذه الحرب وقد كثرت أسبابها، وهي في حَيْرَة من أمرها،
ودهاقين سياستها يعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات، ويحررون المعاهدات
وينقحون القديم منها لتلافي الخطر، ودرء الخطب المنتظر، ولكنهم فيها مضرب
المثل في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92) ، وكل فريق
منهم يضمر ويُسِرّ للآخر خلاف ما يُعْلِن، ويُظهِر للعالم غير ما يُبْطِن، وهذا عين
الدَّخَل الذي يُفسد المعاهدات، ويُلجئهم إلى نقضها نقض الأنكاث، الذي يضطرهم
إلى إعادة إبرامها لفسادها، فأنَّى يوفقون إلى الإصلاح وهم المفسدون؟
ألا إنه لا إصلاح بلا إخلاص، ولا إخلاص بلا إيمان، ولا يمكن الجمع بين
الإيمان والعلم والعمران، إلا بدين القرآن، وهم عنه معرضون، ولأهله مُحَادون:
] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ [1 {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ
بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف: 26) . فذرهم في طغيانهم يعمهون،
وفي ريبهم يترددون، بل هم أعداء أنفسهم فيما بينهم، لا يكادون يتفقون إلا على
الكيد للإسلام والعدوان عليه. وانظر في حاله في أهله، ومكانهم من هدايته، هل
هم حجة له على أعدائه وأعدائهم، أم هم فتنة لهم عنه وعون لهم على أنفسهم؟ هل
هم دعاة إليه بأخلاقهم وأحكامهم وعلومهم وأعمالهم وقوتهم وعمرانهم، أم هم
صادُّون عنه؟ وكيف يكون مستقبلهم معهم إذا وقعت الواقعة؟
(2)
دول الإسلام الأعجمية وشعوبها:
إن دول بلاد الإسلام كلها ضعيفة تجاه دول أوربة، ولكنَّ في شعوبه شيئًا من
اليقظة والتوجيه للاستقلال السياسي ولتقليد الإفرنج في الحضارة المادية والنظام
المالي والقوة العسكرية لحفظ هذا الاستقلال، وكل ذلك من الضروريات التي
يوجبها الإسلام وطالما دعونا المسلمين إليها، وصرفنا لهم الآيات فيها والحجج
عليها، ولكن هذا التقليد فيما ينفع مشوب بما يضر من الإسراف في الشهوات
ونزغات الإلحاد وفوضى الآداب وقد فازت الشعوب الأعجمية الثلاثة بهذا
الاستقلال، أعني الترك والفرس (الإيرانيين) والأفغان.
فأما الترك فقد كونوا من أنقاض الدولة العثمانية التي قوضتها الحرب العظمى
دولة جمهورية مستقلة تعنى أشد العناية بالقوة العسكرية وبالعمران المادي، ولكنها
إلحادية (لا دينية) تزهق روح الشعب الديني، ولا يحيا شعب بغير دين، وروح
الإسلام كامنة في الشعب التركي ستظهر بقوة عظيمة يفجرها الضغط عند انتهاء
حده.
وأما الأفغان فقد شرعوا في عهد الملك السابق أمان الله خان يقلدون الجمهورية
التركية في الإلحاد، وفي تقليد الإفرنج في الحضارة المادية وفوضى الآداب،
فكفاهم الله شره، وأدال لهم منه الملك نادر خان الجامع بين قوتي الحضارة والإسلام.
وأما الفرس (أو الإيرانيون) فهم وسط في هذه الأمر بين الأفغان والترك،
فالشاه الجديد عسكري بالطبع والتربية فهو خير منظم للقوة العسكرية من برية
وبحرية وجوية، وموجه كل همته معها إلى التنظيم المالي وتفجير ينابيع الثروة.
وجملة القول أن هذه الدول الثلاث قد استفادت من ضعف دول أوربة الذي
أشرنا إليه، وتم لها استقلالها بعد الحرب العظمى التي قلبت نظام العالم، وإنها
تعنى بالإصلاح العسكري والمالي الذي لا تحيا الدول بدونه عناية شديدة على
الطرق الغربية، وإن البلاد التركية وهي أقواهن ليهددها من الخطر المعنوي
ووقوعها بين أوربة الرأسمالية والروسية البلشفية ما لا يهدد أختيها، ولو عقل
زعماء سياستها وقادة قوتها ما عقله نابليون بونابرت الكبير من قوة الإسلام المعنوية
أو ما يعقله منها قيصر الألمان الأخير لأمكنهم في هذه الفترة التي شغلت دول أوربة
بأحقادها القومية والدولية ومشاكلها المالية وفوضى شعوبها الأدبية أن يؤسسوا
بالاتحاد مع العرب وإيران والأفغان قوة جديدة في الشرق الأدنى تسوده فتكون فيه
أعظم من اليابان في الشرق الأقصى، ثم تكون هي المنقذة لأوربة مما ينذرها من
خطر الفوضى التي أشرنا إليها، لا للإسلام والشرق فقط [2] .
ولو ظهر في الأفغان أو إيران مصلح حكيم آخر كالسيد جمال الدين لأمكنه في
هذه الفترة تنفيذ ما توجهت إليه همة السيد جمال الدين المصلح الأول من تأسيس
دولة عزيزة للإسلام تحيا بقوتها وعزتها الأمة الإسلامية كلها، وتستقل بها شعوب
الشرق الأدنى والأوسط كلها أيضًا، فتتجدد الإنسانية بأصول الإسلام تجديدًا تزول
به العصبيات الجنسية والقومية، وامتياز الألوان والطبقات في الإنسانية، ويكون
تأويلا لرؤيا بعض الحكماء المتقدمين ومحققًا لأمانيهم في الأخوة الإنسانية عامة،
التي أشار إليها السيد قدس الله روحه في آخر رسالته (الرد على الدهريين) .
وجملة القول في الدول الإسلامية الأعجمية أن الأفغان أرجاها لتجديد الإسلام
إن ظهر من يقوم به في هذه العصر، ولكن علماءهم أشد جمودًا على تقليد فقهاء
مذهبهم الحنفي، وإنما الفقه أحكامٌ للعبادات ونُظُمُ الحكومة، فليس من موضوعه
إحداث انقلاب إصلاحي ولا تجديد سياسي ولا اجتماعي ولا أدبي ولا روحي، وإنما
روح الإصلاح والتجديد تفيض من القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
وسيرته وتاريخ النهضة الإسلامية الأولى، وكانت الشعوب الإسلامية كلها غافلة
عن هذا فنبهها له سيد أفغاني.
(3)
شعوب الإسلام الأعجمية الخاضعة لغيرها:
وأما شعوب المسلمين الأعجمية الكبرى التي ليس لها دول إسلامية ففيها يقظة
ونهضة علمية ومدنية أقواها في الهند ومسلموها زهاء ثمانين مليونًا، ولكن الوثنيين
في جملتهم أكثر منهم عددًا وثروة وعلمًا، وأوسطها في جاوه وما حولها من الجزائر
الإندونيسية، والمسلمون فيهم هم الأكثرية الساحقة (كما يقال في عُرف العصر)
ويبلغون ستين مليونًا، ولكنهم أقل من أهل الهند الإنكليزية حرية وعلمًا وثروة
بضغط هولندة عليهم، وأدناها في الصين ومسلموها يزيدون على مسلمي جاوه عددًا،
ويفضلونهم حرية وثروة وأدبًا، ولكنهم قليل في الوثنيين الذين يزيدون على
أربعمائة مليون، بيد أنهم متفقون معهم على خلاف ما عليه مسلمو الهند مع الوثنيين،
والعلم الديني والدنيوي فيهم أضعف؛ لضعف اتصالهم بالعالم الإسلامي والعالم
المدني معًا، وبُعْدِ لغتهم عن علومهما، على أن الوثنيين سبقوهم إلى العلوم والفنون
الأوربية؛ لأن الدولة بيدهم، ولو ظهر فيهم مصلحون لما كانت دولتهم عائقة لهم
عن التجديد الإسلامي، بل لأمكنهم حينئذ أن ينشروا الإسلام في بلادهم بسرعة
عظيمة ولأوشك أن تكون لهم فيها دولة ولكن زعامته العامة لا تكون فيها وهي
خاضعة لسلطان غيرها، وبعيدة عن مهد الإسلام وعن الاتصال بأقرب شعوبه
منها، لبعد المسافات وفقد أسباب المواصلات بينها.
(4)
العرب أرومة الإسلام الأولى:
(أعني بالعرب: الناطقين بالضاد من عاربة ومستعربة على قاعدة الحديث
النبوي الشريف: (كل من تكلم بالعربية فهو عربي)[3] وهم يملكون شطر قارة
إفريقية الشمالي كله من مراكش إلى مصر، وشطر آسية الغربي ما بين المحيط
الهندى وخليج فارس والبحر الأبيض المتوسط، ويبلغون زهاء مائة مليون) .
لقد كان هؤلاء العرب كلهم أشد شعوب الأرض خضوعًا وبذلا للملايين من
الرجال والأموال في سبيل الدفاع عن الدولتين الظالمتين الباغيتين القاهرتين
الكنودين الكفورين اللتين ربحتا الحرب، واستأثرتا بجُلِّ مغانمها، وليس من
موضوعنا هنا أن نبين ما جازتا به هذه الشعوب التي جاهدت معها بأنفسها وأموالها
من الخسف والقهر والضغط الاستعماري، فإنما كلامنا في المسلمين أنفسهم وجنايتهم
عليها التي مكنت الطامعين فيهم من مقاتلهم.
احتلت جيوش إنكلترة وفرنسة بلاد العرب الخصبة التي ذاقت وبال الحرب
ونكالها، ولو أمكنها أن تحتل الحجاز ونجدًا واليمن وعسيرًا لما عفَّت عنها،
ولكنها باحتلالها للعراق وسورية الجنوبية (فلسطين وشرق الأردن) والشمالية
(سورية ولبنان) قد أحاطت بجزيرة العرب وجعلتها تحت نفوذها، وتمكنت من
حرمان الأمة والملة من تنظيم القوى الكامنة فيها وتوحيدها وتجديد مجد العرب بها.
وأما عرب البلاد الأفريقية الذين بذلوا الملايين من أموالهم ورجالهم في
مساعدة إنكلترة وفرنسة فقد جزتاهم بشدة الضغط والحرمان من حرية الدين والدنيا
بقدر جهل شعوبهم واستكانتها، فأيقظها الضغط في كل قطر بقدره، بما يتوقع
انفجاره حيث يكون على أشده، وسبقت مصر بالثورة لرفض الحماية التي ضربت
عليها فاضطرت إنكلترة للاعتراف باستقلالها، ولكنها قيدته بتحفظات اقتضت بقاء
الاحتلال العسكري فيها، والضغط السياسي عليها، وإيقاع الشقاق بين زعمائها،
ومكنهم من ذلك فساد الأخلاق، وانفصام عروة الدين والإسراف في الشهوات، ولا
غرو فهي قد بدأت بعلوم الدنيا منذ قرن ونَيِّف فقضى عليها التفرنج والتقليد أن
تكون أكلة سائغة للإفرنج، وعلى العلم الديني وأهله فيها بالانحطاط، حتى زال
التشريع الإسلامي العام منها بذلك، وما تجدد فيها من الجمعيات الإسلامية، فكلها
فقيرة ضعيفة لا تساوي قوتها كلها عشر قوة جمعية نصرانية، وأما المجلات
الإصلاحية فلا يبلغ جميع قرائها عشر قراء مجلة واحدة من مجلات المجون
والفجور، ومجلة مشيخة الأزهر تفسد وحدها أضعاف ما يصلح غيرها من
المجلات، بتأييدها وتأويلها للبدع والخرافات، حتى كان هذا سبب ما علم القراء
من حملتنا على مشيخة الأزهر الحاضرة التي لم يُصَب الأزهر بمثلها من قبل،
وعسى أن تكون آخر محنه فينتهي بها ما مُنِيَ به من الفتون والصهر! ومدافعة
الإصلاح من أول هذا العصر، فهو في طور انقلاب يتنازعه فيه جمود التقاليد
الخرافية السابق، وجمود التقاليد المادية اللاحق، فهو إما أن يحل به ما حل
بمدرسة دار العلوم من التفرنج، وإما أن يقتحم العقبتين، وينهض بالإصلاح
الإسلامي من الناحيتين، فيقف على سَواء الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله
عليهم من سلف الإسلام الصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين (وسنبسط
هذه المسائل في هذا العام إن شاء الله تعالى) .
وقد اقترح المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في بيت المقدس في العام الماضي
إنشاء جامعة إسلامية هنالك، ورأينا المجلس الإسلامي الأعلى فيه قد خصص لهذه
الجامعة مبلغًا صالحًا من ريع الأوقاف الإسلامية وفندقًا عظيمًا من مبانيه الجديدة
تقدر قيمته بمبلغ مائة ألف جنيه، فإن وفق كل قطر إسلامي لمساعدته كان مبدأ
رجاء عظيم في النهضة الإسلامية العلمية تفوق ما في سائر الأقطار، ولكن فلسطين
لا تصلح مركزًا للنهضة الإسلامية العامة في العلم والعمل والتشريع والسياسة.
المركز الطبيعي لتجديد الإسلام:
قد علم مما تقدم أن الإسلام الذي عرفته لكم في أول هذه الذكرى لا يوجد له
في هذا العصر دولة تقيمه وتكلفه وتجدد قوته وعدله، ولا شعب يهتدي به وينشره
وينهض بحضارته، ولا مدرسة تربي النشء عليه وتعلمه وتناضل عنه، وجمعيات
غنية تجدده وتظهر للأمم الحية علويته، وما فيه العلاج لأدواء البشر في حضارتهم
المادية الحاضرة من دينية واجتماعية ومالية وحربية بحيث تقوم حجته ناهضة ماثلة
للأبصار.
وأما المركز الطبيعي الحقيق بالتجديد الإسلامي من جميع أنحائه فهو هو
المركز الذي أشرق منه نور الإسلام، فكان من تأثير نوره في العالم ما أشرنا إليه
في أول هذه الفاتحة، وهو الحجاز وسياجه من جزيرة العرب، هذا المركز الأول
للإسلام هو المركز الأخير له، الذي حَرَّمَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم على غير
أهله، وأوصى بذلك قبيل موته، ليكون هو المأرز والمعقل لهم عندما تتداعى عليهم
الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّنا ذلك
بالتفصيل مرارًا، ولكن هذا الاستعداد المركزي لتجديد الإسلام في جزيرة العرب
يجهله أهلها كما يجهلون ما في باطن أرضها من المعادن، بل هم يجهلون استعدادهم
أنفسهم ومبلغ قوتهم وما يجب عليهم وما يمكنهم فعله كما يجهلون وسائل استخراج
معادنهم والانتفاع بها.
في جزيرة العرب مئات الألوف من المسلحين المستعدين للحرب بنفقة قليلة لا
يزال يقاتل بعضهم بعضًا، أفلا يمكن وضع نظام عسكري لهم يحفظون به استقلالهم
ويكونون به إلبًا واحدًا على العدو المعتدي على جزيرتهم عند الحاجة؟
إن بلاد اليمن ونجد وداخل عمان يمكنها الاستغناء عن جلب القوت من
الخارج في أثناء الحرب العامة أو الخاصة، ويمكن الاستعداد لتموين الحجاز منها
ومن سورية والعراق، وإغناؤه عن البحر في تلك الأثناء، ولكن الخطر على
سائر البلاد العربية من قِبَل الحرب المتوقعة أشد؛ لتغلغل النفوذ الأجنبي فيها
وخلوها من قوة الدفاع عن نفسها، بيد أن أكثر أهلها غافلون عن أنفسهم، وآخرون
مشغولون بشهواتهم وتنازعهم الداخلي عن التفكر في مستقبلهم الخاص، فأنَّى
يستعدون لحفظ معقلهم ومأرزهم، ومستقبل دينهم وملتهم، الذي يجب على جميع
مسلمي الأرض مساعدة العرب على تجديد روح الإسلام وتشريعه وملكه فيه.
ألا إنه ليوجد في أهل البصيرة وعلم الحياة وحالة العصر من المسلمين مَنْ
يعرف كُنْه هذا الاستعداد كما يعرفه ساسة الإفرنج، ولا سيما الطامعين منهم الذين
يتخذون الوسائل لقطع الطريق عليهم دون الانتفاع، فعلى هؤلاء العارفين أن
يتعاونوا على وضع مشروع له بالمفاوضات السرية يتضمن بيان مسائله وإقناع
أولي الأمر بتنفيذه أو إلزامهم إياه بما لا يجدون عنه محيصًا، عليهم أن يعملوا بذلك
قبل أن يتعذر عليهم بتمكن خصومهم مما يحاولونه من تطويق قوة العرب في
جزيرتهم بالالتفاف عليها كما تلتف أفعى (البواء) على بطن الأسد فتزهق روحه
ثم تبتلعه.
هذا هو العلاج الوحيد القريب للخطر على الإسلام، الذي لا تستطيع دول
أوربة الآن أن تمنعه بقوة السلاح، لما هي عليه من الاشتغال بنفسها، وما هي
مستهدَفة له من الخطر الأكبر، والبلاء الأصفر، والموت الأحمر.
هذا ما أراه أهم الذكرى لعقلاء المسلمين في فاتحة المنار {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ
الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ
لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} (الأعلى: 9-13) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ
خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 24-25)
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
(1)
أي جعلناهم متمكنين فيما لهم نمكنكم فيه من أسباب القوة وغيرها.
(2)
قد شرحنا هذه الفكرة في كتابنا (الخلافة العظمى) شرحًا كافيًا وافيًا.
(3)
رواه ابن عساكر من طريق الإمام مالك من حديث طويل له قصة تراجع في بحث الوحدات الإسلامية الثمان من الجزء 9 مجلد 32.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحج نفقاته وشُقَّته ومَشَقَّاته
وحال المسلمين الأولين والمعاصرين فيها [1]
كان الناس من المسلمين يحجون بيت الله عز وجل مشاة احتسابًا لزيادة الأجر
لا للعجز عن الراحلة، حتى إن هارون الرشيد أعظم ملوك الأرض في عصره
ثروة وترفًا وعظمة حج ماشيًا، ولكن كان يفرش له اللباد مرحلة بعد مرحلة فيطأ
عليه.
وكان الناس يحجون من أبعد أقطار الأرض عن الحجاز كالمغرب الأقصى
والأندلس من جهة الغرب، والهند والصين من جهة الشرق إما برًّا فقط وإما برًّا
وبحرًا فيقطع أحدهم المسافة في سنة أو سنتين أو أكثر وينفق الألوف الكثيرة من
الدراهم والدنانير مما يعده لهذا النسك من أطيب كسبه، ويعد إنفاقه أفضل ما يدخره
لمثوبة ربه، فإذا هو عاد إلى وطنه حيًّا سالمًا أقيمت له الاحتفالات في أهله،
ووجهت إليه التهاني من صحبه، ومن الأدباء والشعراء في وطنه إن كان من أهل
العلم والأدب أو الوجاهة والثروة. وإننا لا نزال نرى بقية لهذه الاحتفالات والتهاني
للحجاج في هذه البلاد القريبة من الحرمين الشريفين في هذه العصر الذي قربت فيه
المسافة وسهلت فيه المواصلة، وصار من الممكن للمصري أن يسافر من مصر في
أوائل ذي الحجة الحرام إلى مكة المكرمة فيحج ويتم المناسك في منتصفه، ولا
يلبث أن يعود إلى وطنه في الأسبوع الثالث منه إذا لم يزر الحرم النبوي الشريف،
والقبر المكرم، ولولا الحجر الصحي الاحتياطي لما استغرق سفر الحج شهر ذي
الحجة كله ذهابًا وإيابًا بمنتهى الراحة والرفاهة التي كان يعجز عنها الملوك في
القرون الماضية.
وأما نفقة الحج الرسمية فقد وضعت حكومة الحجاز لها تعريفة في هذا العام
علم منها أنه يمكن للرجل أن ينفق على حجه هنالك بضعة جنيهات فقط بدون
الزيارة وبضعة عشر جنيهًا مع الزيارة، وقلما تصل نفقة ركاب السيارات في الحج
والزيارة التي لا بد منها إلى عشرين جنيهًا، وأحدثت للحجاج المترفين فنادق
يجدون فيها أحسن الطعام وأنقى الماء وجميع أسباب الراحة والصحة. ولقد كنت
أعددت لحجتي الأولى مع الوالدة رحمها الله تعالى مائة جنيه ذهبية، وإنما لم أنفقها
كلها لأنني كنت ضيفًا للملك حسين رحمه الله تعالى مدة وجودي في الحجاز، كما
كنت في الحجة الثانية ضيفًا للملك عبد العزيز أطال الله بقاءه موفقًا للإصلاح.
ومن أغرب أمر المسلمين في هذه الزمان أننا نسمع من بعض حجاجنا ونقرأ
لبعضهم من المقالات في الجرائد من التبرم والشكوى من نفقات الحج ومتاعبه ما
يدل أصح الدلالة على ضعف دينهم وعدهم الإنفاق في سبيل الله ونيل القربات عنده
من المغارم، وإن كانت واجبة، لا صدقات مندوبة. ويستبيحون لأنفسهم الطعن في
الذين يخدمون الحجاج في حِلِّهِم وترحالهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم وتعليمهم
المناسك وصحبتهم في أثناء أدائها، وفي غير ذلك من الزيارات، والطعن في
حكومتهم أيضًا مما يخشى أن يكون آية على أن حجهم غير مبرور ولا مقبول عند
الله تعالى.
لهذا رأيت أن أنشر لهم في هذه الأيام من أشهر الحج أثارة تاريخية من حج
المسلمين في القرون الوسطى التي كان حال أهلها في الدين دون حال من قبلهم في
خير القرون، وما كانوا يقاسونه في هذه السبيل سبيل الله من الشدائد والمغارم
راضين من الله محتسبين الأجر عنده؛ لتكون عبرة لمن يتذكر ويخشى الله عز
وجل، ويشكر نعمه على أهل هذا العصر.
***
مشقات الحج ونفقاته
في القرن السادس الهجري
إن العالم الكاتب الشاعر الأديب أبا الحسين محمد بن أحمد بن جبير الغرناطي
الأندلسي قد حج البيت الحرام ثلاث مرات، خرج للأولى من غرناطة لثمان من
شهر شوال سنة 578 ثم ركب البحر من سبتة في مركب للروم الجُنْوَيين في 28
منه قاصدًا الإسكندرية، وبعد حجه وإلمامه بالعراق فسورية عاد إلى الأندلس في
البحر ولقي فيه أهوالاً عظيمة منها انكسار مركبهم. وما وصل إلى بلده غرناطة إلا
لثمان بقين من المحرم سنة 581 وكان في أثناء هذه الرحلة يقيد أهم ما رآه وما
سمعه وما ألم به هو من معه فكان ذلك كتابًا حافلاً سمِّيَ (تذكرة بالأخبار، عن
اتفاقات الأسفار) واشتهر برحلة ابن جبير.
وإنني أنقل منه هنا بعض ما كتبه من خبر إرهاق الحجاج في الإسكندرية ثم
في صعيد مصر وبعض ما كتبه عن جدة ثغر الحجاز الأعظم وأهلها وأمير مكة
وظلم الحاج وإرهاقهم؛ ليكون عبرة لإخواننا المصريين ولسائر المسلمين، فيشكروا
نعم الله تعالى عليهم بما مَنَّ على عباده من تيسير إقامة هذا الركن العظيم من أركان
الإسلام في هذا العصر وقلة نفقاته.
حال الحجاج في الإسكندرية والصعيد
في القرن السادس سنة 578 هـ
قال ابن جبير في حوادث شهر ذي الحجة سنة 578:
أوله يوم الأحد ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية، فمن أول ما شاهدنا فيها يوم
نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه
فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدًا واحدًا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم
وأسماء بلادهم، وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناضٍّ ليؤدي زكاة ذلك كله،
دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل، وكان أكثرهم
متشخصين لأداء الفريضة لم يصطحبوا سوى زاد لطريقهم، فلزموا أداء زكاة ذلك
دون أن يسأل هل حال عليه حول أو لا؟
واستنزل أحمد بن حسن منا ليسأل عن أبناء المغرب، وسلع المركب،
فطيف به مرقبًا على السلطان أولاً، ثم على القاضي ثم على أهل الديوان، ثم على
جماعة من حاشية السلطان، وفي كل يُسْتَفْهَمُ ثم يُقَيَّدُ قولُه، فخلي سبيله وأمر
المسلمين بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم، وعلى ساحل البحر أعوان
يتوكلون بهم ويحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان، فاستدعوا واحدًا واحدًا، وأحضر
ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالزحام، فوقع التفتيش لجميع
الأسباب ما دق منها وما جل واختلط بعضها ببعض، أدخلت الأيدي إلى أوساطهم
بحثًا عما عسي أن يكون فيها، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم
أم لا؟ وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس؛ لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام،
ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك،
وهذه لا محالة من الأمور المُلَبَّس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين،
ولو علم بذلك على ما يُؤْثَر عنه من العدل وإيثار الرفق لأزال ذلك وكفى الله
المؤمنين تلك الخطة الشاقة واسْتؤُدُوا الزكاة على أجمل الوجوه، وما لقينا ببلاد هذا
الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من تشدد الدواوين.
ثم قال في الكلام على قوص وغيرها من الصعيد ما نصه:
وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين كإخميم وقوص
ومنية ابن الخصيب من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها،
وإدخال الأيدي إلى أوساط التجار فحصًا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو
دنانير ما يقبح سماعه، وتستشنع الأحدوثة عنه، كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة
لمحلها أو ما يدرك النصاب منها حسبما ذكرته في ذكر الإسكندرية من هذا المكتوب،
وربما ألزموهم الأيمان على ما بأيديهم، وهل عندهم غير ذلك؟ ويحضرون
كتاب الله العزيز يقع اليمن عليه، فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها
مواقف خزي ومهانة تذكرهم أيام المكوس. وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح
الدين لا يعرفه، ولو عرفه لأمر بقطعه كما أمر بقطع ما هو أعظم منه، ولجاهد
المتناول له، فإن جهادهم من الواجبات؛ لما يصدر عنهم من التعسف وعسير
الإرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا إلى الله عز وجل وخرجوا مهاجرين إلى
حرمه الأمين. ولو شاء الله لكانت عن هذه الخطة مندوحة في اقتضاء الزكاة على
أجمل الوجوه من ذوي البضائع والتجارات مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل
الزكاة، ويتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه، وكان
يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد شمل البلاد عدله، وسار في الآفاق
ذكره، ولا يسعى فيما يسيء الذكر بمن قد حسن الله ذكره، ويقبح المقالة في جانب
من أجمل الله المقالة عنه.
ومن أشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة أعوان الزكاة في أيديهم
المسال الطوال ذوات الأنصبة فيصعدون إلى المراكب استكشافًا لما فيها فلا
يتركون عكمًا ولا غرارة إلا ويتخللونها بتلك المسال الملعونة، مخافة أن يكون في
تلك الغرارة أو العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غُيِّبَ عليه من بضاعة أو
مال. وهذا أقبح ما يؤثر في الأحاديث المُلَعَّنَة، وقد نهى الله عن التجسس فكيف
عن الكشف لما يرجى بستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها أن يطلع عليها،
إما استحقارًا أو استنفاسًا دون بخل بواجب يلزمه، والله الآخذ على أيدي هؤلاء
الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه إن شاء الله) .
ثم قال الكلام على جدة وأهلها والحجاج فيها:
وأكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء أو الجبال أشراف علويون
وحسنيون وحسينيون وجعفريون رضي الله عن سلفهم الكريم، وهم من شظف
العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقًا، ويستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن
من إكراء جمال إن كانت لهم، أو مبيع لبن أو ماء إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه
أو حطب يحتطبونه، وربما تناول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهن، فسبحان المقدِّر
لما يشاء، ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا،
جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.
(ثم قال) : وأكثر أهل هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم
قد تفرقوا على مذاهب شتى، وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة قد
صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها ينتهبونهم انتهابًا، ويسببون لاستجلاب ما
بأيديهم استجلابًا، فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسر الله رجوعه
إلى وطنه.
ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم
في أمر لا ينادى وليده، ولا يلين شديده، فقد رفع ضرائب المكوس عن الحاج
وجعل عوض ذلك مالاً وطعامًا يأمر بتوصيلهما إلى مكثر أمير مكة، فمتى أبطأت
عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج وإظهار تثقيفهم
بسبب المكوس.
واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير
المذكور فورد أمره (بأن يضمن الحاج بعضهم بعضًا ويدخلوا إلى حرم الله، فإن
ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين وإلا فهو لا يترك ماله قبل
الحاج) هذا لفظه كأن حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه من الحاج، فسبحان
مغير السنن ومبدلها.
والذي جعل له صلاح الدين بدلاً من مكس الحاج ألفا دينار اثنان، وألفا إردب
من القمح، وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشبيلي عندنا، حاشا إقطاعات أقطعها
بصعيد مصر، وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور، ولولا مغيب هذا السلطان
العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا
الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج، فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل
أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية؛ لما هم عليه
من حل عُرَى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم، فمن يعتقد من فقهاء أهل
الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب، وبما يُصْنَع بالحاج
مما لا يرتضيه الله عز وجل، فراكب هذا راكب خطر، ومعتسف غرر، والله قد
أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال، فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد
اتخذوه معيشة حرام، وجعلوه سببًا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حِلٍّ
ومصادرة الحجاج عليها؟ وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم، تلافاها الله عن
قريب بتطهير يرفع هذه البدع المُجْحِفَة عن المسلمين، بسيوف الموحدين [2] أنصار
الدين، وحزب الله أولي الحق والصدق، والذَّابين عن حرم الله عز وجل والغائرين
على محارمه، والجادين في إعلاء كلمته، وإظهار دعوته، ونصر ملته، إنه على
ما يشاء قدير، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب؛
لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية
فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه
لا عدل ولا حق ولا دين على وجهها إلا عند الموحدين أعزهم الله، فهم آخر أئمة
العدل في الزمان، وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة:
يُعَشِّرُونَ تجار المسلمين، كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة
وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يُسْمَع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل
صلاح الدين قد ذكرنا سيرته ومناقبه لو كان له أعوان على الحق مما أريد والله عز
وجل يتلافى المسلمين بجميل نظره ولطيف صنعه) اهـ. المراد نقله من هذه
الرحلة، وإنني أقفي عليه بكلمة وجيزة فأقول:
لئن كان فضل الله تعالى على الحجاز في القرن السادس عظيمًا بجعله تحت
حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله؛ إذ أزال منه جُلَّ تلك المظالم المرهقة
لأهله حتى الشرفاء منهم وللحجاج، فإن فضل الله تعالى على الحجاز وحجاج
الأقطار في هذا العصر بالملك عبد العزيز آل سعود أعظم، فإنه لم يعرف المسلمون
عصرًا بعد صدر الإسلام كان الحاج فيه آمَنَ على نفسه وماله من الظلم والتعدي
مثل هذا العصر، دع تعبيد الطرقات وكثرة المياه والإسعافات الطبية فيها، وقطع
المسافات بالسيارات لمن شاء ولو قيض الله لهذا الملك من الرجال المصلحين ما
طالما تمنيناه له كما تمناه ابن جبير لصلاح الدين، لكان هذا الإصلاح المادي
والمعنوي في الحجاز أكبر وأعم مما هو الآن، ولا نيأس من روح الله، والحمد الله
على آلاء الله.
* * *
الدعوة إلى انتقاد المنار
نجدد دعوة أهل العلم والرأي من قراء المنار إلى بيان ما يرونه فيه من خطأ في
الشرع أو الرأي بما أوجبه الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدون زيادة
على القدر الواجب. ونعدهم بنشر ما يخاطبوننا به بشرطه مع بيان رأينا فيه، كدأبنا
في كل عام.
_________
(1)
وضعنا هذه المقالة موضع باب الفتاوى لما نُرَجِّي من فائدتها في موسم الحج.
(2)
يعني دولة الموحدين التي ظهرت بالمغرب، ووصلت دعوتها إلى الحجاز فكبر بها أمل المسلمين كما يذكره ابن جبير في مكان آخر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المقال العاشر
من مقالاتنا في الرد على مجلة مشيخة الأزهر
(تابع لما نشر في المجلد الثاني والثلاثين)
البُهَيْتَة الرابعة من بهائت مجلة الأزهر:
رد أحاديث البخاري في آية رجم الشيخ والشيخة
تقدم في الكلام على البُهَيْتَة الثالثة ذكر ما عزاه محرر مجلة مشيخة الأزهر
إلينا في هذه المسألة بما علم به أنه افتراء منه يوهم قراءها أنه نقله من المنار بنصه،
وإننا نعيده هنا لأجل أن نتكلم في المسألة ببعض التفصيل، وهذا نص عبارته:
عبارة الدجوي في نسخ آية الشيخ والشيخة المفتراة على صاحب المنار:
قال في مناره الصادر في آخر رمضان سنة 1327 صفحة 697 من مجلد
السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه، وليتضح به الموضوع الذي
نحن فيه، فإنه كالمقدمة له: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية:
(الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة) كانت قرأنًا يُتْلَى، وإن عمر قال ذلك
بمجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وهو معروف لا مِرَاء فيه، ويستند
حضرته في ذلك الرد على ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره. يقول: (إن
ذلك لو تَمَّ لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء
منه. ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قبل الشارع ولا يعرف إلا من جهته
ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه، وبين التفريط في القرآن وضياع شيء منه)
انتهى قول الدجوي بحروفه.
أقول: إن من قرءوا هذه العبارة في مجلة مشيخة الأزهر يظنون أن محرريها
إذا جاز أن يخطئوا في فهم بعض ما ينقلون فإنه لا يعقل أن يفتروا (أي يتعمدوا
الكذب) فيما ينقلونه عن غيرهم، ولا سيما إذا عينوا المكان الذي نقلوه عنه من
كتاب أو مجلة بعدد مجلداته وصفحاته، وإذًا يكون ما نقله هذا المحرر، وهو من
هيئة كبار العلماء المدرسين في الأزهر عن ص 697 من مجلد المنار الذي صدر
في سنة 1327 هو كما نقله لا ريب فيه. وهو أن صاحب المنار صرح في تلك
الصفحة برد ما رواه البخاري في المسألة باللفظ الذي ذكره الناقل، وأنه استدل على
رده بما ذكره عنه بقوله: يقول: إن ذلك لو تم لكان كذا وكذا إلخ ما تقدم آنفًا.
لا أقول هذا من باب الاستنباط العقلي فقط، بل أخبرني الثقة أنه وقع بالفعل
قال قائل: إن الشيخ يوسف الدجوي قد افترى الكذب فيما عزاه إلى السيد رشيد،
وزعم أنه نقله من كلامه. فقال له أحد المشايخ - وكانوا بجوار الأزهر -: إنه ليس
من المعقول أن يكون مثل الشيخ يوسف الدجوي في مكانه من كبار علماء الأزهر
ومدرسيه مفتريًا فيما نقله في مجلة المشيخة وعزاه إلى موضعه من مجلة المنار
بالصفحة المعينة من المجلد المعين؟
ولكن غير المعقول عند أكثر الناس ممن يتحرون الصدق، هو واقع بالفعل
ممن يتحرى الكذب، فإن الصفحة 697 من مجلد المنار المذكور ليس فيها ما عزاه
إليها هذا المدرس في الأزهر والمحرر في مجلة مشيخته من مسألة الشيخ والشيخة،
وإنما فيها إشارة إلى ما أنكره الدكتور محمد توفيق صدقي وغيره من نسخ التلاوة
لبعض آيات القرآن في مناظرته مع الأستاذ الشيخ صالح اليافعي، ذكرتها في سياق
الحكم في تلك المناظرة.
ذلك بأنني أشرت إلى بعض ما رده جمهور العلماء من روايات الصحيحين
لمخالفته للعمل أو لرواية أخرى أصح منها ثم قلت: فأولى وأظهر أن يجوز رد
الروايات التي تتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء
منه، ومثلت لذلك بكلمة وضعتها بين هلالين وهي (كالروايات في نسخ التلاوة)
وقلت بعدها: ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق
صدقي وأمثاله كثيرون اهـ فقولي هذا حكاية لاشتباه ترتب عليه إنكار وقع، لا
رد للحديث لاشتباه يتوقع، وهو مطلق في نسخ التلاوة، لا خاص بنسخ آية الرجم
باللفظ الذي ذكره ولا بغيره.
ومعلوم عند أهل النقل أنه ورد في نسخ التلاوة عدة روايات حتى قيل: إن
سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة أو أطول، ومنها هذه الآية، وزعم غلاة
الروافض أن مما حذفه الصحابة رضي الله عنهم منها وادعوا أنه نسخت تلاوته
آيات كثيرة في ولاية علي أمير المؤمنين عليه السلام إلخ؛ بل أقول: إن حديث
عمر الذي رواه البخاري في مسألة رجم الزاني المحصن قد ذكر فيه شيء آخر مما
نسخت تلاوته ولكن لم يذكر فيه الشيخ والشيخة إلخ.
فأنا لم أزد في التمثيل لنسخ التلاوة الذي كان أهم موضوع المناظرة المذكورة
بأكثر من كلمة (كالروايات في نسخ التلاوة) ولم أقل روايات البخاري ولا
الصحيحين ولا غيرهما. وهذه الروايات من أعظم الشبهات حتى الرواية التي
خصها محرر مجلة مشيخة الأزهر بالذكر، وزعم أنها في البخاري وليست فيه،
والشبهات فيها متعدِّدة بعضها في سندها، وبعضها في موضوعها، فمنها اختلاف
ألفاظها، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الأذن لعمر بكتابتها، ومنها
أن عمر أنكر على أبي بن كعب إرادة كتابتها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم
ومنها أن عمر يخاف قول الناس في إظهار شيء يعتقده، ولا سيما كلام الله تعالى؟
وبعضها في حكمها وهو رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا مطلقا، وإنما الرجم على
المحصن شيخًا أو شابًا. فهذا الإطلاق يخالف ما عليه العمل بالإجماع، وفي حديث
عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الزاني غير المحصن
الذي زنى بالمحصنة: إنه يحكم بينهما بكتاب الله تعالى، ثم حكم عليه بجلد مائة
وتغريب عام وعليها بالرجم، والتغريب ليس في كتاب الله عز وجل، فكل هذا من
مشكلات الرواية، وتأول بعضهم الإشكال الأخير بأن المراد به حكمه تعالى فيما
أوحاه إلى نبيه غير القرآن، وروي عن ابن عباس أن آية الرجم في القرآن لا
يغوص عليها إلا غواص. وإنني أذكر أهم ما قاله الحفاظ في زيادة (الشيخ
والشيخة) في حديث عمر.
إن البخاري لما روى حديث عمر في الرجم من طريق سفيان بن عيينة عن
الزهري ذكر أن سفيان قال: (كذا حفظت) وذكر الحافظ ابن حجر في شرح هذه
الكلمة: أن الإسماعيلي أخرج هذا الحديث من رواية جعفر الفريابي عن علي بن
عبد الله شيخ البخاري، وزاد فيه أن عمر قال عند ذكر آية الرجم: (وقد قرأناها:
(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وقد رجم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورجمنا بعده. فسقط من وراية البخاري هذه الزيادة.
(ثم قال الحافظ ما نصه) : ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا فقد
أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان كرواية جعفر ثم قال: لا أعلم
أحدًا ذكر في هذا الحديث (الشيخ والشيخة) غير سفيان وينبغي أن يكون وَهِمَ في
ذلك. (قلت) : وقد أخرج الأئمة هذه الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر
وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفاظ عن الزهري فلم يذكروها اهـ.
المراد من كلام الحافظ.
وأقول: إن قول البخاري: (قال سفيان كذا حفظت) يدل على أن رواية
جعفر الفريابي عنه هذه الزيادة (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة) غير
صحيحة؛ إذ لو كان سمعها من الزهري لما قال: كذا حفظت - ولهذا قال الحافظ
لعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا. وأما النسائي فإنه لما ذكر رواية جعفر
الفريابي عن سفيان أنكر هذه الزيادة التي انفرد بها قال: وينبغي أن يكون وهم في
ذلك - فالبخاري ينفيها عن سفيان، والنسائي يخطئه بها، وسفيان من أئمة رواة
الحديث والفقه فيه، ولكنه تغير في آخر عمره، وكان يدلس أيضًا.
وإنني لأعجب أن أرى محرر مجلة المشيخة من هيئة كبار علماء الأزهر
يتصدى للطعن علينا برد شيء من أحاديث البخاري من غير أن يكلف نفسه مراجعة
البخاري فيما يعزوه إليه منها، على علمه بضعف إلمامه بالسنة وقلة اطلاعه على
ما في الصحيحين منها فضلا عما دونهما، فيا ليت شعري ألا يشعر بضعفه؟ أم
يظن أن النقل عن صحيح البخاري كالنقل عن المنار؟ إذا قلنا للناس في الجرائد:
إن هذا النقل غير صحيح يقل فيهم من يملك مجلدات المنار القديمة ليراجع
الصفحات التي يعزو إليها ما ليس فيها فيعلم كذبه في النقل عنها؟ ولكن صحيح
البخاري يوجد في كل مكتبة إسلامية عامة أو خاصة إلا ما ندر فمن شاء، فليراجع
الحديث في كتاب الحدود منه، وشرح الحافظ ابن حجر له في الجزء الثاني عشر
منه؛ ليعلموا جهل الدجوي وكذبه فيما عزاه إليه.
* * *
استطراد في فضحية مجلة الأزهر لعلمائه
في الجهل بعلوم الحديث
ونصيحة المنار لها
إنني نصحت لمجلة مشيخة الأزهر في تقريظي لها عقب ظهورها بأن تعنى
بما قصر فيه الأزهريون في هذا العصر من علم الحديث؛ إذ رأيت فيها إنكارًا
لوجود حديث نبوي بمعنى تأييد الله لهذا الدين بمن ليس من أهله، وذكرت لها
حديث الصحيحين وغيرهما في ذلك، واقترحت عليها أن لا تذكر حديثًا إلا مقرونًا
بتخريجه ودرجته، وهي على قبولها للنصيحة في الجملة سمحت للشيخ يوسف
الدجوي بأن يخبط فيما يكتبه خبط عشواء بل عمياء، فيكذب في النقل حتى العزو
إلى صحيح البخاري، ويصحح الموضوعات والواهيات، ولما أنكرت عليه بعض
هذا الخبط انتقم مني بما علمه القراء.
وكان سبب هذا أن أحد طلاب العلم النجديين آلمه إسراف هذا الشيخ في
الطعن على قومه وأهل مذهبه بالباطل في مجلة المشيخة فألف كتابًا في الرد عليه
سماه (البروق النجدية، في اكتساح الظلمات الدجوية) وكان مما أنكره عليه أنه
أورد في باب تجهيله إياه في علم الحديث أنه استشهد بحديث توسل آدم أو سؤاله
ربه بحق محمد صلى الله عليه وسلم أن يغفر له، وزعم أن الحافظ الذهبي أقر
الحاكم راويه على تصحيحه، والحال أن الحافظ الذهبي أنكر تصحيحه بل قال:
إنه موضوع، ففضحه المجاور النجدي في زعمه هذا، بل هدم بكتابه ما كان له من
صيت في الأزهر انتقل إلى غير الأزهر.
كبر على الشيخ الدجوي أن يرد عليه ويجهله طالب نجدي (وهابي) وكبر
ذلك على الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر أيضًا فقطع رزق الطالب النجدي من الأزهر
وأمر بقطع انتسابه فيه، وحاول الدجوي الرد على النجدي من غير ذكر اسمه في
مجلة الأزهر حتى في مسألة وضع هذا الحديث، فأخذ يماري فيه بما اعتاده في
دروسه، بل ادعى أنه صحيح. وأفضى ذلك إلى سؤال بعض مجاوري الأزهر
إياي عن ذلك فبينت له خطأ الدجوي في مرائه هذا من بضعة وجوه بالإجمال ثم
فصلتها ونشرتها في الجزء الرابع من مجلد المنار (32) واعتذرت عن ذلك بقولي:
(أصر الأستاذ الدجوي على القول بتصحيح هذا الحديث والتفصي من قول
الحافظ الذهبي: إنه موضوع بالمغالطة والتأويل، وقد سألني بعض مجاوري
الأزهر عن رأيي في رده فقرأته على تحامي قراءة هذا المجلة لئلا أراني مضطرًّا
إلى ما لا أحبه من الرد على ما أنكره فيها، فبينت للسائل خطأه فيه إجمالاً وإنني
أذكره هنا استطرادًا) .
ثم بينت خطأه في عدة صفحات فكان هذا هو الذي هاجه عليَّ هذه الهيجة
الشؤمى عليه؛ لأنها أظهرت من حقيقته للناس ما لم يظهره كتاب الطالب النجدي،
بل جرأه هذا على الطعن في الحافظ الذهبي وجماعته من أهل الحديث في رسالته
البذيئة، ووضعهم مع شيخ الإسلام ابن تيمية، واتهمهم فيها كما اتهمني بعداوة
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء في حاشية صفحة 23 منها أنه يعجبه قول
بعض الأفاضل: لو كان قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) حديثًا لقال الذهبي وجماعته: إنه موضوع (!) فمن هذا الفاضل
الذي يقول في أعلم حفاظ السنة في عصره بنقد الحديث وتمحيص أسانيده هذا القول؟
إلا أنه ينبغي أن يكون الشيخ الدجوي هو القائل لتلميذه ناشر الرسالة ذلك التقول
أو يكون تلميذه هو القائل له، وهل يتجرأ على هذا الجهل إلا مثلهما؟
فإن كان شمس الإسلام الذهبي حافظ الأمة وفخرها قد بلغ من عداوته وبغضه
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخون علم سنته ويكذب كل بيان لمناقبه
وفضائله من الأحاديث فيجعله موضوعًا، وإن كان سنده صحيحًا كما يزعم هذا
المغرور باسم الأزهر - أفلا يكون لي سلوى عما افتراه عليَّ من هذا القبيل؟ كلا
بل لي الشرف بأن أكون معهم فإنهم ممن أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم من
أعداء السنة وحملتها ولا الضالين الجاهلين بها.
على أنه لم يطعن في ابن تيمية والحافظ الذهبي وحدها بل ضم إلى الثاني
جماعته وقال: إن لابن السبكي كلامًا كثيرًا عنهما. وإنما ابن السبكي تلميذ الذهبي
يفتخر به ويقول في ترجمته من طبقاته: إن حفاظ عصره أربعة المزي والبرزالي
والذهبي ووالده (تقي الدين السبكي) ثم يقول: وأما أستاذنا أبو عبد الله (الذهبي)
فنظير لا نظير له، وكبير هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود في كل سبيل،
كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها،
وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت، تعمل المطي إلى رحاله،
وتضرب اليزل المهارى أكبادها فلا تبرح أو تقبل نحو داره، وهو الذي خرجنا في
هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة، جزاه الله عنا أفضل الجزاء إلخ.
فالتاج السبكي هذا يفتخر بأنه من جماعة الحافظ الذهبي، فهو من أعداء
رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدجوي وتلاميذه أعداء السنة وأنصار البدعة؟
وحسبي هذا الذي كتبته في الموضوع؛ إذ لا فائدة للأمة في تمحيص هذه
الروايات وبسطها في الجرائد التي يقرؤها العوام والخواص، وفيها ما فيها من
الشبهات والمشكلات، وحسبي من الرد على محرر مجلة الأزهر أن يعلم الناس أنه
بهتني بما افتره عليَّ على علم، وما كذبه على صحيح البخاري بغير علم.
فإن عاد إلى القيل والقال في أمثال هذه المسائل التي لا يفقهها فإنني أتحدى
مشيخة الأزهر من دونه تحديًا ثانيًا في علم الحديث والقرآن وخاصة هذه المسألة.
* * *
المقال الحادي عشر
(البهيتة الخامسة ما سماه سحر النبي صلى الله عليه وسلم
قال محرر مجلة مشيخة الأزهر بعد ما تقدم في مسألة الشيخ والشيخة:
(ثم رد الحديث الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله عليه وسلم رد
ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها) اهـ لفظه، وفي إضافة السحر إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ما فيها من سوء التعبير وسوء الأدب.
وأما عبارة المنار فهذا نصها: ومثل الرواية في سحر بعض اليهود للنبي
صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها، فإن
نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها؛
ولأنها مؤيدة لقول الكفار: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) هو ما كذبهم الله تعالى فيه بقوله بعده: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: 9) ا. هـ.
فعلم من هذا أنني ناقل لهذه المسألة عن الأستاذ الإمام: ولست أنا الذي رددت
الحديث فإسناد الرد إليَّ بَهْتٌ لِيَ وافتراء عليَّ، ولما قلت في مقال سابق: إنني
ناقل لهذه المسألة ومسألة الملائكة عن الأستاذ الإمام طفق المفتري يهجوني في
رسالته ومقالاته بأنه لا يليق بي أن أتنصل من ذلك وألقي تبعته على أستاذي، بل
يجب أن أترك الأستاذ الإمام بمعزل من موجبات الطعن والتكفير الموجهين إليَّ،
وأحمل تبعة ذلك بنفسي) كأن الحق وأمانة النقل والصدق في القول من المنكرات
المذمومة عند الأستاذ الدجوي، أو مما يبيح فن المناظرة عنده أن تحل محلها
أضدادها وهي اتباع الباطل والخيانة في النقل والكذب في القول، وقد بلغ به
الهرب والهزيمة من توجيه الطعن إلى الأستاذ الإمام لاتفاق الأمة على إجلاله أن
جعل نقلي عنه التفسير في حياته موضع التهمة! ! !
لعله يندر أن يوجد في الدنيا خيال كخيال الدجوي سابح في دُجَى الأوهام
يتصور أن ينقل صاحب المنار عن الأستاذ الإمام في حياته أنه قال في درسه في
الأزهر كذا، وأن بعض الناس اشتبهوا في هذا القول فرد عليهم بكذا، أو أن يقول:
إنني أنقل من خطه كذا، ويكون نقله هذا غير صحيح، مع العلم بأن المنقول عنه
كان يقرأ ذلك كما يقرؤه كثير ممن حضروا دروسه في الأزهر، بل مع العلم بما
كان من قوة الصلة والثقة بين صاحب المنار والأستاذ الإمام حتى إن أمير البلاد بذل
جهده في التفريق بينهما فلم يستطع إلى ذلك سبيلا مع أحد منهما. ولا يزال في
الأحياء من يعلم دخائل هذه المسألة كفضيلة الأستاذ الشيخ محمد شاكر الذي كلفه
الخديو أن يكلم الأستاذ الإمام بأن يترك صحبة صاحب المنار ليرضى عنه سموه
ويساعده على ما يشاء من إصلاح الأزهر، فقال رحمه الله للشيخ شاكر: وكيف
أترك صحبة السيد رشيد رضا وهو ترجمان أفكاري؟ وتفصيل هذه المسألة وأمثالها
في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام - بيد أن الشيخ الدجوي يريد أن يقنع قراء
كلامه أن نقل صاحب المنار عن الشيخ محمد عبده قد يكون غير صحيح ليحصر
طعنه فيه ويسلم من سخط الجمهور. ولكن القراء قد علموا أن نقل الدجوي عن
المنار غير صحيح، بل كذب صريح، وكذا نقله عن البخاري. فكيف يعبئون
بتشكيكه فيما ينقله عن أستاذه حتى في حياته؟ ثم ماذا يقولون في مسألة السحر
وهي مدونة في تفسيره رحمه الله لجزء عم الذي طبعته الجمعية الخيرية في أيام
حياته بعد وفاته؟
قد علم القراء أنني ذكرت هذه المسألة وغيرها في مقالة المنار المشار إليها من
باب التمثل لما أنكره العلماء الباحثون من الروايات حتى التي صحَّحها الشيخان أو
أحدهما لا من باب ما أنكره أنا من ذلك. وإنني أذكر لهم هنا نص ما كتبه الأستاذ
في المسألة من تفسيره لسورة الفلق من ذلك الجزء لا من المنار ولا من تفسيره:
عبارة الأستاذ الإمام في مسألة السحر:
(وقد رووا ههنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد
بن الأعصم وأثر سحره فيه حتى كان يخيل له أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو
يأتي شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي
صلى الله عليه وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة) .
(ولا يخفى أن تأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى
أن يظن أنه فعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان،
ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل،
آخِذٌ بالروح، وهو مما يصدق قول المشركين فيه: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً
مَّسْحُوراً} (الإسراء: 47) وليس المسحور عندهم إلا من خُولِطَ في عقله،
وخُيِّلَ له أن شيئًا يقع وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه. وقد
قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير
السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع
المبتدعين؛ لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر. فانظر
كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح في نظر المقلد بدعة؟ نعوذ بالله، يحتج
بالقرآن على ثبوت السحر ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه
وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك! ! مع
أن الذي قصده المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه
السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه
أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم.
والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن
المعصوم صلى الله عليه وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته وعدم الاعتقاد بما
ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصول
السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور
قطعًا، وأما الحديث فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب
العقائد وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها
عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون، على أن الحديث الذي
يصل إليها من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من قامت له
الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا بل علينا أن
نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل،
فإنه إذا خولط النبي في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم
يبلغه، أو أن شيئًا نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
ثم إن نفي السحر عنه لا يستلزم نفي السحر مطلقًا فربما جاز أن يصيب
السحر غيره بالجنون نفسه، ولكن من المحال أن يصيبه؛ لأن الله عصمه منه، ما
أضر المحب الجاهل، وما أشد خطره على من يظن أنه يحبه، نعوذ بالله من
الخذلان.
على أن نافي السحر بالمرة لا يجوز أن يُعَدَّ مبتدعًا؛ لأن الله تعالى ذكر ما
يعتقد به المؤمنون في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة: 285) الآية، وفي غيرها من الآيات، ووردت الأوامر بما يجب على
المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلمًا، ولم يأت في شيء من ذلك ذكر السحر على
أنه مما يجب الإيمان بثبوته أو وقعه على الوجه الذي يعتقد به الوثنيون في كل ملة،
بل الذي ورد في الصحيح هو أن تعلم السحر كفر، فقد طلب منا أن لا ننظر
بالمرة فيما يعرف عن الناس بالسحر ويسمى باسمه، وجاء ذكر السحر في القرآن
في مواضع مختلفة، وليس من الواجب أن نفهم منه ما يفهم هؤلاء العُمْيَان، فإن
السحر في اللغة معناه صرف الشيء عن حقيقته. قال الفراء في قوله تعالى:
{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 89) أي أنى تؤفكون وتصرفون، سحره وإفكه
بمعنًى واحد.
وماذا علينا لو فهمنا من السحر الذي يُفَرِّقُ بين المرء وزوجه تلك الطرق
الخبيثة الدقيقة التي تصرف الزوج عن زوجته، والزوجة عن زوجها؟ وهل يبعد
أن يكون مثل هذه الطرق مما يتعلم وتطلب له الأساتذة، ونحن نرى أن كتبًا ألفت
ودروسا تلقى لتعليم أساليب التفريق بين الناس لمن يريد أن يكون من عمال السياسة
في بعض الحكومات؟ وقد يكون ذكر المرء وزوجه من قبيل التمثيل وإظهار الأمر
في أقبح صورة، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن
يتمكنوا به من التفريق بين المرء وزوجه؟ وسياق الآية لا يأباه.
(وذكر الشياطين لا يمنعنا من ذلك بعد أن سمى الله خبثاء الإنس المنافقين
بالشياطين قال: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} (البقرة: 14) وقال: {شَيَاطِينَ
الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} (الأنعام: 112) وسحر سحرة فرعون
كان ضربًا من الحيلة، ولذلك قال:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه:
66) وما قال: إنها تسعى بسحرهم. قال يونس: تقول العرب ما سحرك عن
وجه كذا أي ما صرفك عنه.
ولو كان هؤلاء يقدرون الكتاب قدره ويعرفون من اللغة ما يكفي لعاقل أن
يتكلم، ما هذروا هذا الهذر، ولا وصموا الإسلام بهذه الوصمة، وكيف يصح أن
تكون هذه السورة نزلت في سحر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنها مكية في قول
عطاء والحسن وجابر، وفي رواية ابن كريب عن ابن عباس، وما يزعمون من
السحر إنما وقع في المدينة؟ لكن من تعود القول بالمُحَال، لا يمكن الكلام معه
بحال، نعوذ بالله من الخبال) اهـ بحروفه.
هذه حجة الأستاذ الإمام على إنكاره لوقوع السحر على تلك النفس القدسية
العليا التي كانت تتصل بروح الله الأمين، وتتلقى منه كلام رب العالمين، فهو
يُجِلُّهَا أن يؤثر فيها سحر ذلك اليهودي الرجيم، الذي كان يستعين كغيره على سحره
بأرواح الشياطين، ولم يقبل في ذلك رواية الراوين، وإننا لم نر من علماء الملة
متقدميهم ومتأخريهم من بيَّن لنا من فضل تلك النفس الزكية العلوية، والشخصية
الشريفة المحمدية ما بيَّنه لنا هذا الإمام الجليل في رسالة التوحيد، وفي دروسه
ومجالسه العلمية كما شرحناه في الجزء الأول من تاريخه.
* * *
بحث في أقوال من أنكر
حديث السحر ومن أثبته
هذا وإن علماء المعقول وجهابذة الأصول قد أنكروا وقوع السحر عليه صلى
الله عليه وسلم من قبل الأستاذ الإمام، وأنكره من علماء التفسير والفقه مثل أبي بكر
الجصاص من أئمة الحنفية، وقد قال العلامة ابن القيم بعد الجزم بصحة سند
الحديث ما نصه: وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد
الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنَّف بعضهم فيه مصنفًا مفردًا حمل فيه على هشام (أي
راويه عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة) وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال:
غلط واشتبه عليه الأمر، ولم يكن من هذا شيء - قال: لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لا يجوز أن يسحر.... إلخ.
أقول: أما علماء الروايات فليسوا ممن يطلب منهم معرفة هذه الحقائق في نقد
المتون، وأما علماء المناقشات اللفظية التي غلبت على الأزهر في القرون الأخيرة
فقد أجاب بعضهم عن استدلال المنكرين بقوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ
إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وتفنيده تعالى لقولهم بالآية التي بعدها بما
خلاصته أن المراد بالمسحور فيها ذا السَّحَر (بفتح السين) أي الرئة، والمعنى ما
تتبعون إلا بشرًا له رئة قال ابن القيم: (وهذا الجواب غير مرضي، وهو في
غاية البعد، فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور، ولا يُعْرَف هذا في
لغة من اللغات) وأطال في بيان هذا، واستدل عليه بقول فرعون لموسى: {إِنِّي
لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} (الإسراء: 101) قال: أفتراه ما علم أن له سَحَرًا
وأنه بشر؟ (أي إلا في تلك الساعة) ثم كيف يقول له موسى: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا
فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (الإسراء: 102) ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصَدَّقَه موسى،
وقال: نعم أنا بشر، ولكن الله أرسلني إليك كما قالت الرسل لأقوامهم.
(ثم قال) : وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو
معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره، فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر
. وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة، وهو أن من علم السحر يقال له مسحور، ولا
يكاد يُعْرَف هذا في الاستعمال ولا في اللغة، وإنما المسحور من سحره غيره
كالمطبوب والمضروب والمقتول.
(ثم قال) : فالصواب هو الجواب الثالث، وهو جواب صاحب الكشاف
وغيره أن المسحور على بابه وهو من سحر حتى فقالوا مسحور مثل مجنون، زائل
العقل لا يعقل ما يقول، فإن المسحور الذي لا يُتَّبَعُ هو الذي فسد عقله بحيث لا
يدري ما يقول إلخ.
وأقول: إنه لولا إرادة قبول رواية السحر، والجمع بينها وبين براءة النبي
صلى الله عليه وسلم مما لا يليق به من كونه مسحورًا بشهادة الله وشهادة العقل وعلم
النفس، لما تكلف الزمخشري عَلَاّمة اللغة أن يحمل معنى السحر هنا على غاية
درجاته التي قلَّمَا تقع وهي الجنون، ولما قبل ذلك ابن القيم علَاّمة المنقول
والمعقول - فإن رمي الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم بلقب مجنون، هو غير
نبزه بلقب مسحور، وقد ذكر في مواضع من القرآن، فدل ذلك على أنهم يعنون
بالمسحور ما دون المجنون من المخبولين، بل نقل البخاري عن سفيان بن عيينة
أحد رواة هذا الحديث أنه قال في وصف عائشة لذلك السحر بما سنذكره: وهذا أشد
ما يكون من السحر.
ونرى أكثر العلماء قد استقر جوابهم على أن السحر الذي وقع هو عبارة عن
التأثير في جسمه صلى الله عليه وسلم دون نفسه الشريفة الزكية العلوية، فهو
كجرحه يوم أحد، وقالوا كلهم كغيرهم: إن الأنبياء تجوز عليهم جميع الأمراض
البدنية، وقد قتل بعضهم. وهذا صحيح ولكن الروايات كلها مصرِّحَة بأن تأثير
السحر المزعوم كان في نفسه وإدراكه وتصوره صلوات الله وسلامه عليه لا في
جسده - من وجع رأس أو بطن أو يد أو رجل - بل فيها أنه كان يخيل إليه أن يفعل
الشيء ولم يكن فعله حتى إتيان أهله الذي يترتب عليه أحكام شرعية - فهل هذا من
الأمراض الجسمية؟
وليعلم القراء أن أمثال هذه المشكلات في الروايات لا يهتدي إلى تحقيق الحق
فيها إلا الذي يعطي لعقله حرية الاستقلال فيما قاله أصناف العلماء. فعلماء الرواية
هم أعلم من علماء الأصول الاعتقادية والفقهية بنقد رجال الأحاديث، وهؤلاء أعلم
من المحدثين بنقد المتون، وما يوافق المعقول وأصول العقائد منها وما لا يوافقها،
وقد اتفق الفريقان على أن ليس كل ما صح سنده من الأحاديث المرفوعة يصح متنه
؛ لجواز أن يكون في بعض الرواة من أخطأ في الرواية عمدًا أو سهوًا، وما كل ما
لم يصح سنده يكون متنه باطلاً، بل قالوا: إن الموضوع من حيث الرواية قد يكون
صحيحًا في الواقع، وإن الصحيح السند قد يكون موضوعًا في الواقع. وإنما علينا
أن نأخذ بالظواهر مع مُرَاعاة القواعد، فما صح سنده قبلنا روايته وحكمنا قواعد
الاعتقاد ودلائل العقل والعلم في متنه إن كان مشكلاً، وما كان غير صحيح السند لا
يجوز لنا أن نسميه حديثًا نبويًّا، وإن كان معناه صحيحًا.
ونحن قد اتبعنا في المنار هذه القواعد كلها في حل مشكلات الأحاديث كما
صرحنا به في مواضع من المنار والتفسير، ولعلنا نكتب فيه مقالاً خاصًّا.
وإن لنا في هذا الحديث كلمتين: (إحداهما) في سنده، وهي أن الذين أَعَلُّوا
الحديث بهشام بن عروة ورد عليهم العلامة ابن القيم باتفاق الجماعة على تعديله -
لهم وجه وجيه، ومستند من أقوال أئمة الجرح والتعديل، فقد قال بعضهم: إن
هشامًا كان في العراق يرسل عن أبيه عروة ما سمعه من غيره، وقال ابن خراش:
كان مالك لا يرضاه وقد نقم منه حديثه لأهل العراق، وقال ابن القطان: تغير قبل
موته ا. هـ فالقول بوقوع خطأ منه أهون من قبول روايته هذه، وهو أوثق مَن
روى هذا الحديث.
(الثانية) في متنه، وهو أن الروايات عن عائشة تدور على أمر واحد وهو
ما يتعلق بالنساء فقولها كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله، كناية عن
ذلك الأمر، حياء من التصريح به على أنها صرحت في رواية أخرى فظن بعض
الرواة أنه عام في كل فعل فعَظُمَتِ الشبهة فيه على علماء الأصول والعقائد، ويؤيد
حصر التأثير فيما ذكر في طبقات ابن سعد عن ابن عباس: مرض النبي صلى الله
عليه وسلم وأُخِذَ عن النساء والطعام والشراب، وفي مرسل يحيى بن يعمر عن عبد
الرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. فجملة
القول أنه مرض مرضًا أثر في الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي فقط، وما زالت
الناس تعد هذا من أنواع السحر، ويعبر عنه العوام في زماننا بالعقد، ويسمون
الواقع عليه (معقودًا) وكانت العرب تسميه مَطْبُوبًا، وهو من نوع تأثير الأنفس
بعضها في بعض كالتنويم المغناطيسي أو الاستهواء في عصرنا، وقد بيَّنا هذا النوع
وسائر أنواع السحر في تفسير سورة الأعراف.
وكان قد سبق لي في عهد اشتغالي بالروحانيات أن كنت أكتب نشرة للمصابين
بهذا السحر فتنفعهم، وربما كان جُلُّ هذا النفع من تأثير الاعتقاد الحسن، وكان هذا
الاعتقاد وحسن الظن فينا عامًّا في بلادنا حتى في النصارى الذين يعرفوننا.
ومن المقرَّر عند العلماء المتقدمين والمتأخرين أن هذا التأثير لا يكون إلا من
نفس ذات إرادة قوية في نفس ذات إرادة ضعيفة، وأن الأنفس الخبيثة الضارة لا
يمكن أن تؤثر في الأنفس الزكية العالية، وهذا ما اعتمد عليه شيخنا في إنكار سحر
اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم من الوجهة العقلية مهما يكن نوع السحر.
وقد كان العلامة ابن القيم يعلم هذا، وقد بيَّنه في مواضع من الكلام في
الأمراض البدنية والنفسية وعلاج كل منهما في كتابه (زاد المعاد، في هدي خير
العباد) فننقل عنه الفصل الآتي بنصه، قال:
(فصل)
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة
بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها
ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت
أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما
عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من
الله مغمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات وِرْدٌ لا يُخِلُّ
به يطابق فيه قلبُه لسانَه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له،
ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه، وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في
القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا
غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي، ومَن ضعف حظه من
الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات
والتعوذات النبوية، وبالجملة فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون
ميلها إلى السفليات. قالوا والمسحور هو الذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقًا
بشيء كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح
الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك
الأرواح الخبيثة وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعُدَّةِ التي تحاربها بها،
فتجدها فارغة لا عُدَّةَ معها وفيها ميل إلى ما يناسبها فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها
فيها بالسحر وغيره والله أعلم اهـ.
وقد لخص الحافظ ابن حجر هذا الفصل في الكلام على حديث السحر من
الفتح، وتعقبه بقوله: ويعكر عليه حديث الباب وجواز السحر على النبي صلى الله
عليه وسلم مع عظيم مقامه وصدق توجهه وملازمته ورده، ولكن يمكن الانفصال
عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم
لبيان تجويز ذلك، والله أعلم اهـ. أقول: فأنت ترى أن الحافظ يرى أن القاعدة
التي بَيَّنَهَا ابن القيم صحيحة في نفسها وأن الأنفس الشيطانية لا سلطان لها على
الأنفس العالية القدسية، ويُنْقَضُ اطرادُها بإثبات الرواية لتأثير السحر في أشرف
النفوس وأعلاها فيجعلها أغلبية، وإنما يتصور نقض القاعدة فيما دون هذه النفس
العليا من الأنفس الشريفة، ولكن الحافظ عفا الله عنه من الرجال التي انحصرت
قوة تحقيقهم في الروايات وحفظ ما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها وسائر
العلماء في متونها، والترجيح بينها بمقتضى قواعدهم التي هي آراء لهم. فبضاعته
ضعيفة في تحقيق مسائل المتون، وبنائها على قواعد المنقول والمعقول، حتى إنه
رجح أن لرواية الغرانيق أصلاً بما حفظه من تعدُّد طرقها، وبقاعدتهم في تقوية
الروايات الضعيفة والمُنْكَرَة بتعدد الطرق مع تصريحه بأن جميع تلك الطرق
ضعيفة، وغير متصلة، فإذا كان لا يحتج بشيء منها في أحكام النجاسة والطهارة،
أفيعتد بها في أصل أصول العقيدة؟ ورواية الغرانيق أفظع ما رواه الرواة في
الطعن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وبرأه مما قالوا في تبليغ الرسالة الذي
أجمعوا على عصمته فيه، فترى فيما اعتمده الجلال المحلي منها واقتصر عليه في
تفسيره أن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر اللات
والعزى ومناة الثالثة الأخرى من أصنام العرب في قراءته لسورة النجم جملة:
(تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) وهو عين ما يعتقده المشركون والعياذ
بالله تعالى، وقد فنَّد هذه الرواية المحققون من ناحيتي الرواية والدراية، وبيَّن ذلك
شيخنا الأستاذ الإمام أحسن بيان، بما نشرناه في المنار، ونعيد طبعه كل مرة مع
تفسير سورة الفاتحة.
ومن عجائب جهل المتأخرين المقلدين لأمثالهم من المقلدين لأنهم أوسع منهم
اطلاعًا أو جدلاً أن القاعدة عندهم تقديم ما اعتمده المتأخرون على غيره، وإن
خالف كلام الأئمة المتقدمين، وتقليد الميتين، وإن كان مخالفًا لأصول الدين،
وماسًّا بكرامة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم كما أنهم يقبلون في باب مناقبه
صلى الله عليه وسلم ومناقب من دونه من الصالحين ما يخل بتنزيه رب العالمين،
ويخالف المُجْمَع عليه من توحيده عز وجل ودعائه والاستغاثة به عند الشدائد،
يبيحون هذه العبادة لغير الله تعالى، ويتأولون لها آيات القرآن الصريحة، فخرافات
العوام، ولا سيما القبوريين عندهم مقبولة، وبدع المؤلفين المقلدين حجج متبعة،
وكلام المحققين في عصمة الرسول وتنزيهه عن الروايات المنافية لعصمته وغير
اللائقة بكماله أوهام مردودة، وآيات القرآن المحكمة في صفات الله وعالم الغيب
حتى آيات التوحيد مؤولة، وهذا ما جرت عليه مجلة مشيخة الأزهر التي سمتها
(نور الإسلام) والذي تولى كبره من علمائها ومحرريها هو الشيخ يوسف الدجوي
الذي يصحح بدع العوام، ويتأول لتصحيحها نصوص القرآن، كما سنبينه بعدُ، إن
شاء الله تعالى.
وجملة القول في مسألة السحر أن هذه المحرر الثقة عند المشيخة رغم أن
صاحب المنار رد حديث السحر المذكور بتمويهات وخيالات لا يطيل هو بها،
وإنما بهته لنا إيهامه قراء كلامه أن صاحب المنار قد انفرد بهذه الجرأة على رد
حديث البخاري! وقد علم القراء أن كثيرًا من العلماء المتقدمين قد ردوه قبل الأستاذ
الإمام، ولكن بدون أدلته - وأنه يعني بالتمويهات والخيالات ما أشرنا إليه من
الحقائق العالية التي عزوناها إلى الأستاذ الإمام، في إعظام شأن المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام.
وإننا على هذا قد مَحَّصْنَا أقوال علماء المعقول والمنقول في الرواية متنًا
وسندًا بما يهون فيها أمر منكري الرواية بما قيل في هشام، وبما يرجع أجوبة
مثبتيها إلى كون التأثير الذي وقع على قولهم هو خاص بمباشرة الراوية له (عائشة)
على أن أستاذنا (رحمه الله تعالى) فوض الأمر في تأويل الحديث لأهله، ولم
يرد روايته كغيره.
* * *
المقال الثاني عشر
البُهَيْتَة السادسة ما سماه إفتاء التلاميذ المسلمين بالصلاة مع النصارى
في الكنائس
وتعليله بقوله: (ليغرس في قلوبهم النقية تلك الطقوس النصرانية وينقش في
نفوسهم الساذجة ما يسمعونه من القسوس والمبشرين هناك) اهـ. بحروفه.
كل بُهَيْتَة من المفتريات التي بهتنا به الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر
كان لها شبهة منتزعة من المنار أو تفسيره بضرب من التحريف بالزيادة أو
النقصان، وجعل المنقول مقولا للناقل ومذهبًا له، وتفسيره بغير معناه، وإضافة
شيء من الكذب أو اللوازم الباطلة إليه. وأما هذه البهيتة فهي الفرية المفضوحة
التي لا تستند إلى أدنى شبهة، بل هي قذف لنا بضد ما كنا عليه في موضوعها،
وخلاف ما قررناه وما كررناه فيه وفي وقائعه.
ومن غرائب الجرأة على الكذب الصريح، والبهتان المفضوح أن يعزوه إلى
منار شعبان من المجلد 12 (سنة 1327) ليصدقه قراء مجلة الأزهر كما تقدم،
وإنني أنقل من ذلك المجلد بعض ما نشرته فيه خاصًّا بهذا الموضوع بعد مقدمة
وجيزة.
إنني زرت سورية في سنة 1326 هـ (الموافقة سنة 1908م) بعد إقامة
12 سنة في مصر لم أزرها فيها، وكان ذلك عقب إعلان الدستور في البلاد
العثمانية الذي نفخ شيئًا من روح الحرية فيها فحمل طلاب العلم من المسلمين في
المدرسة الكلية الأميركانية ببيروت على الثورة على نظام المدرسة الذي يُكْرِههم
على دخول كنيسة المدرسة وسماع المواعظ النصرانية فيها وحضور صلاتهم فيها،
وهي عبارة عن أدعية مأثورة عندهم، وكنت وقتئذ في بيروت فدافعت عن هؤلاء
الطلبة وقويت عزائمهم على الامتناع من حضور صلاة النصارى، والاعتصام
بعروة الإسلام الوثقى، فمن ذلك أنني جمعت هؤلاء الطلبة في مسجد رأس بيروت
وخطبت فيهم خطابًا نشرته في الجزء الأول من المجلد الذي صدر في المحرم سنة
1327 قلت في آخره ما نصه:
(إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم
وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب، وإني أُجِلُّكم عن قصد
العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته) .
(وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم
وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة
فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت ليَ الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا)[1]
(إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة لسماع تعاليم دين
غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين: {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) اهـ.
ثم أنشأت في هذا مقالة عنوانها: (المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية)
بينت فيها آراء المسلمين في تعليم أولادهم فيها، فقلت ما ملخصه:
(وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة إلى هذه المدارس التي أسست
على دعوة النصرانية لما فيها من العلم، ويعلمون بما فيها من الضرر لأولادهم في
الدين، فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على عقائد النشء الجديد يمنع من
الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع والمقتضي) وبينت رأي
المرجحين للمقتضي وحجتهم عليه أن المسلم لا يخشى عليه أن يصير نصرانيًّا.
ثم قلت: هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه
المدارس الدينية (ومنهم من يرجح المانع على المتقضي كما هو المعتمد في المسألة
عند أهل الأصول كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
قالوا فلان عالم فاضل
…
فأكرموه مثل ما يرتضي
فقلت: لما لم يكن عاملا
…
تعارض المانع والمقتضي
(ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في
دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم
بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يُظَنُّ أنه
منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا إلا إذا
قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مُجْمَع عليه معلوم من الدين بالضرورة.
ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم كالأولاد الذين يوضعون
في هذه المدارس أن يُسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون عندنا كفرًا وردة،
وأهونها أن تكون معصية، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ منا، ومات قبل
أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء الراسخين، مات
مرتدًّا لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا مات أبوه أو أمه
أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون أيضًا: إن
بعض فقهائنا صرح بأن الرضى بالكفر كفر فإذا رضينا بشيء من ذلك نكون نحن
مرتدين أيضًا) اهـ. ص 20 منه.
ثم ذكرت في هذه المقالة حديثًا دار بيني وبين أحد أساتذة هذه المدرسة قال فيه:
(إن المدرسة لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال الدينية التي يقررها بعض مذاهب
النصرانية ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق
مع كل دين وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في قلوبهم تقوى الله
وحب الفضيلة وتبعدهم من الإلحاد والتعطيل) وذكر أن المكان الذي تلقى فيه ليس
كنيسة بل مكانًا لأجل الخطب، وسألني: (هل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين
دخول هذا المكان ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟) هذا نص سؤاله فأجبته
بما نصه:
(قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل ومنهم من يتبع فقهاء
مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى
معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم في أمور الدين فيها وكذا
في خارجها إما محرم وإما كفر في تفصيل لهم في ذلك، فلعل تلاميذكم يعتقدون أن
دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن كان
لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت ليس معبدًا دينيًّا
ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام) ا. هـ صفحة 22 منه.
ثم شرحت له هذا القول بالتفصيل، وذكرت له أيضًا في المحافظة على النظام
قولاً معقولاً، وكان مدار كلامي على أن إكراه التلاميذ على نظام يخالف عقائدهم
ووجدانهم هو تربية لهم على النفاق الذي يُفْسِد كل دين وأطلت في ذلك وبينت له
سوء عاقبة هذه الخطة) .
هذا بعض ما قلته في ذلك الوقت وكتبته في منار سنة 1327، وأنا أتحدى
الشيخ يوسف الدجوي الذي افترى عليَّ بأنني أفتيت التلاميذ المسلمين بالصلاة مع
النصارى في كنيستهم ليتربوا على دين النصارى بأن يدلني على عالم مسلم كتب
مثل هذا التشديد في الصد عن تلك المدارس أو مثله! ! !
وفي إثر هذا أعفت المدرسة الأميركانية التلاميذ المسلمين من حضور الكنيسة
في تلك السنة، ثم جاءني من أحد وجهاء بيروت الكتاب الآتي في الموضوع:
كتاب في مسألة إكراه التلاميذ المسلمين على دخول الكنيسة في الكلية
الأميركانية
سيدي رجل الإسلام والمسلمين السيد رشيد أفندي رضا حفظه الله:
عرفتم بالتفصيل ما صار إليه أمر الاعتصاب الإسلامي في الكلية، وكيف أن
العمدة تلافت الخطر المحدق بها بإعفائها التلامذة من حضور الكنيسة مؤقتًا، والآن
وقد أوشكت السنة المدرسية أن تنتهي لم نشعر إلا والرئيس يستقدم التلامذة من
مسلمين ويهود لغرفته، طالبًا منهم التوقيع على صَكٍّ؛ تعهدًا منهم بالقيام بالواجبات
الدينية في السنة المقبلة: من دخول كنيسة ودرس توراة وإنجيل حسب الشروح
والتعاليق البروتستانتية التي ينفر منها المسلم، ويشك في صحتها كل من له مسكة
من العقل، وإذا آنس من أحدهم رفضًا أو ترددًا ينبئه بعدم قبوله في السنة الثانية،
حتى ولو لم يبق له إلا سنة أو سنتان لنيل الشهادة، وقد وقع هذا فعلا مع أحد
العثمانيين الإسرائيليين.
فيا ركن الإسلام المتين، أطلب منك أن تحمل بقلمك وعملك وفتاويك الحملة
الشعواء على خطة الكلية، وتظهر للملأ سوء نيتها، وتعدد لهم الأضرار الناتجة
عن تساهل المسلمين في أمور دنيهم حتى لا يبقى عذر للآباء، ولا حجة للأبناء،
وإن الكلية لفي خوف من المسلمين، ولا سيما إذا وجد من يحركهم تحريكًا لا تعمله
القوة الكهربائية؛ ليفسد ما بنوه من الأوهام منذ اثنتين وأربعين سنة.
عرفتك فيما مضى تَحُضُّ المسلمين على إيجاد مدرسة للاستعاضة عن الكلية
قبل مناقشتها الحساب، أو قبل الرغبة إليها بإصلاح نظاماتها، فنعم الرأي رأيك،
والنصيحة نصيحتك، وقد عرف كل مسلم ما لك من القدم الراسخة، وبُعْد النظر
في الأمور العقلية والنقلية، ولكن يا سيدي ما عسانا نفعل وقد دفع المسلمون إلى
الاعتصاب بتأثير من القوى الطبيعية وقوانينها التي سنها الله، وأهم تلك القواعد
هي أن كثرة الضغط توجب الانفجار.
فيا من اتخذك الكبير أخًا، والصغير أبًا، مُدَّ يد المساعدة إلى مسلمي الكلية
وحَرِّضِ المصريين بجرائدهم اليومية ومجلاتهم للاعتراض على الكلية، فلقد عرفنا
أن ليس للمدرسة من حجة تستند عليها، ولقد أقر كاتب العمدة أمامي بأن المدرسة
عثمانية تتبع كل أمر مصدره الآستانة، وذَكِّرْهم أن ما علينا إلا أن نصب الشكوى
من جميع الجهات، واعلم أن كل ما تفعله الكلية لتأكيد مركزها هو من باب السياسة،
وليس له ظل من الحقيقة، واعلم أن ليس كل كلام يصدر عن كاتب له تأثير
ككلامك.
فكأني بالأسد الآن وقد ثار من مربضه مدافعًا عن الأشبال، خيفة أن يصيبهم
أذًى من الأغرار، فيظهر أن للإسلام صوًى و (منارًا) يُسْتَضَاء بنوره إذا اشتد
حالك الظلام، فلا زلت للإسلام عضدًا، وللمسلمين مرشدًا.
…
...
…
...
…
...
…
... مُقِرّ بفضلك
بيروت
…
...
…
...
…
...
…
عبد القادر الغندور
أقول: لولا تلك العناية التي عرفها أهل بيروت مني في هذه المسألة بالقول
والفعل والسعي لَمَّا كنت بينهم لما لجئوا إِلَيَّ دون غيري من علماء الأزهر أو
غيرهم بمثل هذا الكتاب، وقد أجبت صاحب الكتاب يومئذ بما يأتي:
(المنار) هذا الذي عملته المدرسة الآن هو الذي كنا نحسبه فإن هؤلاء
الإفرنج أشد خلق الله تعصبًا للدين، وهم الذين نفخوا روح التعصب الذميم في
الشرق كما بيَّنا ذلك مرارًا، ولكنهم هم ومن ربوه على تعصبهم يشيعون في بلادنا
أن الشرق هو مهد التعصب (رمتْنِي بدائها وانْسَلَّتْ) حتى راج تزييفهم هذا على
الجمهور زمنًا. ولا يبعد أن يعدوا كراهتنا لإكراههم إيانا على دينهم تعصبًا منا
وتساهلاً منهم! ! !
إنهم علموا أن الحكومة العثمانية الآن تمنعهم من إكراه غير النصارى على
التعاليم والأعمال النصرانية، ولا يمكنهم أن يعبثوا بها كما كانوا يعبثون في زمن
عبد الحميد، فلجئوا إلى هذه الحيلة التي ليس أمامهم سواها ولا يرجعون عنها بحملة
الجرائد عليهم؛ لأن بث دينهم هو الغرض الأول لهم من مدارسهم لا سيما في
الشرق، فلا يثنيهم عنه شيء إلا أن يكون قوة الحكومة، والحكومة لا تمنع إلا
الإكراه. فالرأي إما ترك التلاميذ المسلمين لهذه المدرسة إن كانوا يستغنون عنها
بغيرها، وإما البقاء فيها مع تلافي ضرر التعاليم المخالفة لدينهم وجعل ذلك ذريعة
إلى منافع أخرى دينية ودنيوية.
أما الاستغناء عن المدرسة بمثلها أو خير منها فلا سبيل إليه؛ إذ لا يوجد في
بلادنا مثلها في تعليمها وتربيتها، وأما الثاني فهو ميسور والذي ننبه إليه منه أمور:
(1)
مطالعة الكتب الإسلامية التي تبين حقيقة الإسلام ككتب الأستاذ الإمام
وأقواله في التوحيد والتفسير والنسبة بين الإسلام والنصرانية وكتاب روح الإسلام
للقاضي أمير علي.
(2)
مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم التعليمية الدينية ككتاب أضرار تعليم
التوراة والإنجيل لأحد علماء الإنكليز وهو يوجد بالعربية والإنكليزية وغيره من
الكتب الإنكليزية التي يمكن أن يرشدهم إليها سليم أفندي.
(3)
المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة إذا أمكن وغير
ذلك من الأعمال الإسلامية كالصيام في هذه الأيام.
(4)
ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومنه التواصي
بإعداد النفوس لمسابقة القوم إلى مثل عملهم في الجمع بين العلم والدين، وإنشاء
مثل هذه المدرسة في بيروت وغيرها من البلاد فإن عملهم هذا مما يُحْمَد.
قد بيَّنا فيما كتبناه عن مسألة هذه المدرسة في (هذا العام وفي العام الماضي)
أن المسلم لا يكون نصرانيًّا كما قال السيد جمال الدين وغيره من العارفين، وقلنا
هناك أيضًا: إن هذا التعصب من هؤلاء الإفرنج لا سيما القائمين بأمر هذه المدرسة
هو الذي يحيي الشعور الديني في نفوس غير النصارى من التلاميذ في هذه المدرسة،
فعمل رجال المدرسة يأتي بنقيض ما يريدون منه ويصدق فيه على المسلمين قوله
تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) .
إن المسلم البصير بدينه لا يمنع من النظر في كتب أي دين من الأديان ولا
من سماعها، ولكن علماء الإسلام متفقون على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلبس بعبادة
أهل دين آخر، ويعدون تلبُّسَه بها الذي يكون به كأهلها لا يميزه الرائي عنهم من
الردة. فإذا ثبت عند القاضي ذلك في دعوى إرث مثلا فإنه يحكم بأن من هذا شأنه
لا يرث من أبيه المسلم. وما أظن أن تعصب عمدة المدرسة يصل إلى هذا الحد،
فإن هم وصلوا إليه ورفع الأمر إلى الحكومة فإنها تمنعهم منه بلا شك، سواء تعهد
التلميذ به أم لا، نعم ما كل ما يُحْكَم به في الظاهر يوافق الباطن، وما كل ما يسميه
النصارى صلاة دعاء ممنوع عندنا، ولكن التشبه بهم فيما هو خاص بهم من أمر
الدين ممنوع قطعًا. اهـ. من آخر جزء شعبان من منار سنة 1327.
وملخص هذا الجواب أن مسألة دخول الكنيسة تمنع الحكومة العثمانية المدرسة
منه، وإن أخذت من الطلبة عهودًا به فيجب أن يرفعوا أمرهم إليها إن عادت إليه
المدرسة، وإن ما يخص الأهالي من هذه المعاملة فهو أن يتحروا مقاومة ما تريد
المدرسة منها بضده أعني شدة الاعتصام بالدين والنفور من المخالفين إلخ.
فهذا ما عبَّر عنه الدجوي بافتائنا التلاميذ المسلمين بحِلِّ الصلاة مع النصارى
في كنائسهم مع علمه بكل الجهاد الذي جاهدناه في صدهم عنه، وإرشادهم إلى
الاعتصام بالإسلام بأنفع العلم والعمل.
ومنه أنني سعيت في بيروت لإقناع المسلمين بإخراج أولادهم من المدرسة
الكلية الأميركانية وغيرها من مدارس النصارى، وجمع المال لإنشاء مدرسة كلية
إسلامية تغنيهم عنها أو مساعدة المرحوم الشيخ أحمد عباس بما يتمكن به من إيجاد
جميع العلوم والفنون في مدرسته؛ فعجزوا عن ذلك وعلمت منهم أنه لا يمكنهم
الاستغناء عن تعليم أولادهم في تلك المدراس، وكان منتهى ما أنذرتهم إياه الخوف
على أولادهم من الردة، وأما الجزم بها فغير جائز ويترتب عليه فساد كبير.
فلتخبرنا مشيخة الأزهر هل كان يمكن يومئذ أن نكتب في الموضوع خيرًا مما
كتبناه، أو يمكن اليوم تخويف المسلمين وصدهم عن هذه المدارس بأشد مما كتبناه
في ذلك المنار التي عزا إليه محرر مجلتها فريته، أو في الجزء الثالث من منار
هذه السنة (1351) في فتوى طويلة، وقد ذكرت للشيخ الدجوي فقال: إن هذا
من تخبط صاحب المنار وتناقضه فيما يكتبه (! ! !) ولا خلاف ولا تناقض إلا في
مزاعمه وبهائته المفتريات، وقد فضحه الله تعالى بها حتى عرفت حقيقته عند من
كانوا يظنون أنه على شيء من العلم والفهم، أو الصدق في النقل والعزو.
وليس العجب أن يشتهر مدرس أزهري كالدجوي بالعلم والفهم ويظن فيه
الصدق وتحري الحق، ثم تظهر الحوادث للناس فيه خلاف ما كانوا يظنون فيه،
وإنما عجب العجب أن يُقِرَّ شيخ الأزهر هذا الرجل -بعد ظهور أمره- على
التدريس في الأزهر والتحرير في مجلته ويأتمنه على العلم والدين، والواجب عليه
أن يكلفه تبرئة نفسه مما أثبتناه من افترائه وجهله بما يقنع الناس الذين يقرءون
مقالاتنا وهم يعدون بمئات الألوف أو يعاقبه بمنعه من التدريس والتحرير، وأنَّى
يفعل هذا من يُخْرِج من الأزهر أفضل المدرسين وأنفعهم بحجة الاستغناء عنهم،
ومنهم خير من نعلم من مدرسي الأزهر عناية بعلم السنة التي كادت تنسخ وتزول
من الأزهر، ولعل هذا أكبر ذنبهم، والله أعلم، وله الأمر وهو العلي الكبير.
* * *
المقال الثالث عشر
البهيتة السابعة ما سماه تطبيق القرآن على مذهب داروين
قال بعد مسألة الجن: (ومثل ذلك ما قاله في مذهب داروين في أول تفسيره
لسورة النساء: وأنه يجوز تطبيق القرآن عليه، وما أدري كيف يفعل في قوله
تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59)
إلى آخر ما جاء في الكتاب والسنة، مع أن كثيرًا من الأوربيين يأبون هذا المذهب
كل الإباء، وهل يبقى مع مثل تلك التأويلات وثوق بكتاب الله الذي أصبح قابلاً لكل
تأويل، وأصبح المراد منه غير معروف حتى في أصول الدين كالإيمان بملائكة الله
تعالى.
هذا نص عبارته في البهت، ويليه عبارة أخرى في التهكم والسَّبّ، ومن
عجائب جرأة هؤلاء الجامدين المقلدين لأمثالهم من الخلف، والمعادين لمذهب
السلف، أنهم يؤولون أكثر صفات الله تعالى وأفعاله بزعمهم أن نص كتاب الله
تعالى ونصوص الأحاديث النبوية فيها تستلزم الجسمية أو الجهة في عقولهم، وهي
مُحَال ويجهلون متبعي مذهب السلف الذين يوجبون وصف الله تعالى بما وصف به
نفسه من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل، حتى إن الرجل يقول: إنه لا يؤمن
بإله في السماء؛ لأن قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) يجب
تأويله بأنه ليس في السماء ولا على العرش، وأنه لا يجوز إطلاقه كما أطلقه الله
تعالى، بل ابتدع هذا الدجوي في مجلة الأزهر تأويل أحكم المحكمات من آيات
توحيد الله وعبادته لأجل أن يصحح بدع العوام والجاهلين ويبيح لهم دعاء غير الله
من الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد، وهو ما لم يبلغه شرك العرب في جاهليتها،
فإن الله تعالى قال فيهم: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان:
32) فهو يستبيح لنفسه تأويل أصول عقيدة الإسلام لتصحيح البدع الوثنية، ثم
يزعم أننا إذا أولنا النفس الواحدة بغير آدم فماذا يبقى لنا من القرآن؟ وإنما هذا
تفسير بظاهر اللفظ لا تأويل، والمراد منه تنزيه القرآن عن نقض شيء فيه، وكان
قد بسط هذا الاعتراض من قبل في جريدة الأفكار كما بيَّناه من قبل في المقالين
الأول والرابع من هذا الرد، وقلنا في الرابع: إن الشيخ الدجوي قد اعتذر عنه
عقب نشره في جريدة الأفكار سنة 1335 إذ خاف أن نقاضيه إلى محكمة العقوبات،
فيضطر إلى الاعتذار فيها كما اعتذر زميله في ذلك العام، وكان مما بَهَتَ به
صاحب المنار افتراؤه عليه أنه قال: إن آدم عليه السلام من سلالة القرود، وأنه
ليس أبًا الجميع البشر، وكانت حجته في اعتذاره أن الذي قرأ له غَشَّه وهو أعمى
لا يُبْصِر، ولكنه عاد في هذه السنة إلى الطعن علينا بما كتبه واعتذر عنه.
وكان الذي أثار هذه الفرية في نفسه وحمله عليها ما نقلته عن الأستاذ الإمام
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) من أن كلمة النفس
الواحدة ليست نصًّا أصوليًّا ولا ظاهرًا في آدم عليه السلام، وأنها مع ذلك لا يمكن
أن يعترض عليها أحد لا الذين يقولون: إن آدم هو الأب لجميع البشر ولا غيرهم
حتى الذين يقولون: إن للبشر عدة أصول، وبيَّن ذلك بما يراجع في أول تفسير
سورة النساء من جزء التفسير الرابع أو مجلد المنار الثاني عشر.
وقد وضحت كلامه (رحمه الله تعالى) فيما علقته عليه بأن المفسرين كالإمام
الرازي وغيره ذكروا في تفسير هذه الجملة {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف:
189) من آية سورة الأعراف: ثلاثة أقوال: أحدها قول القفال إن هذه القصة
وردت على سبيل ضرب المثل، والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة،
وجعل من جنسها زوجها إنسانًا يساويه في الإنسانية، والثاني أن الخطاب لقريش،
والمراد بالنفس الواحدة جدهم قُصَيّ، والثالث أن النفس الواحدة آدم، وتأول ما يرد
عليه من الإشكال في قوله تعالى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف:
190) مع عصمة آدم من البشر بما تراه فيه. فلو كان لفظ {نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) نصًّا في آدم عليه السلام لما كان هناك وجه للقولين الآخرين. وكيف
يكون نصًّا أو ظاهرًا فيه ولفظ (نفس) اسم جنس نكرة، وآدم علم شخص معرفة؟
فتفسير هذه النفس بآدم تفسير بالمراد لا بمعنى اللفظ.
وذكرت أيضًا ما نقله المفسرون وغيرهم عن الإمامية والصوفية من أنه كان
في الأرض قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب وعندنا آدمون كثيرون، فراجع ذلك
في روح المعاني للآلوسي وراجع ما قالوه أيضًا في تفسير: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) من قول بعضهم: إنه كان فيها بشر قبل آدم هم
الذين أشار إليهم الملائكة بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة: 30) ثم قلت بعد بيان استدلال شيخنا وما وضحته به ما نصه (صفحة
326 من جزء التفسير الرابع) .
(ثم إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام يرد الشبهات التي ترد في هذا المقام،
ولكنه لا يمنع المعتقدين أن آدم هو أبو البشر كلهم من اعتقادهم هذا؛ لأنه لا يقول:
إن القرآن ينفي هذا الاعتقاد، وإنما يقول: إنه لا يثبته إثباتًا قطعيًّا لا يحتمل
التأويل. وقد صرحنا بهذا لأن بعض الناس كان فهم من درسه أنه يقول: إن
القرآن ينافي هذا الاعتقاد أي اعتقاد أن آدم أبو البشر كلهم، وهو لم يقل هذا
تصريحًا ولا تلويحًا، وإنما بيَّن أن ثبوت ما يقوله الباحثون في العلوم وآثار البشر
وعادياتهم والحيوانات من أن للبشر عدة أصول، ومن كون آدم ليس أبًا لهم كلهم
في جميع الأرض قديمًا وحديثًا - كل هذا لا ينافي القرآن ولا يناقضه ويمكن لمن
ثبت عنده أن يكون مسلمًا مؤمنًا بالقرآن، بل له حينئذ أن يقول: لو كان القرآن من
عند محمد صلى الله عليه وسلم لما خلا من نص قاطع يؤيد الاعتقاد الشائع عن أهل
الكتاب في ذلك بما لم تستطع اليهود أن تعارضه من قبل بدعوى مخالفته لكتبهم،
ولم يستطع الباحثون أن يعارضوه من بعد لمخالفته ما ثبت عندهم، وليت شعري
ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت
عنده بأن البشر من عدة أصول؟ هل يقولون: إذا أراد أن يكون مسلمًا وتعذر عليه
ترك يقينه في المسألة أنه لا يصح إيمانه، ولا يقبل إسلامه، وإن أيقن بأن القرآن
كلام الله، وأنه لا نص فيه يعارض يقينه؟ ؟ اهـ.
وإنما بيَّن الأستاذ الإمام في تنزيه القرآن ما ذكر ووضحته بما ذكرت؛ لأننا
نعلم أن كثيرًا من المسلمين يعتقدون صحة نظرية داروين في جملتها، وطالما
حاججناهم فيها كما سيأتي، ولكن لا نقول بكفر مَن يؤمن بالله وكتابه ورسوله منهم،
ولا أن هذا الرأي مانع من صحة إسلام من يهديه الله إلى الإسلام ممن يرون
صحة هذه النظرية أو نظرية تعدد أصول البشر، ولكننا لم نؤول نصًّا من القرآن
ولا ظاهرًا من ظواهره؛ لأجل تطبيقه على هذه النظرية التي لا نعتقد صحتها من
كل وجه.
وقد ذكرت في المقال الأول أن عالمًا من علماء تونس الأذكياء لا يبلغ الدجوي
مُدَّهُ في العلم ولا نصيفه قد انتقد عبارة الأستاذ الإمام وإقرارنا لها، وكتب إلينا بذلك
ما نشرناه له ورددنا عليه من بضعة عشر وجهًا فاقتنع بما كتبناه.
وخلاصة الكلام في المسألة أن مراد الأستاذ الإمام مما قرره أن من معجزات
القرآن في تعبيره عن أمور الخلق أن يذكر المسائل بما لا تستنكره معلومات العرب
الأميين في عصر التنزيل ولا معلومات غيرهم ممن خوطبوا به في العصر الأول،
ثم ترتقي معارف البشر في هذه المخلوقات ارتقاء عظيمًا حتى تصل إلى ما نعلم
ونسمع ونبصر في هذا العصر، ويبقى تعبير القرآن فوق كل علم وكل ارتقاء لا
يمكن أن ينهار، ولا أن ينقض من بنائه العظيم جدار، ولا أن يسقط منه حجر من
الأحجار، مع أننا نرى فحول علماء كل عصر كلما ألفوا كتابًا فيما وصلت إليه
معارفهم الواسعة من أمور العالم يجدون من الباحثين من ينقض كثيرًا من مسائله،
بل نرى العالم الواحد منهم إذا أعاد طبع كتابه بعد سنين قليلة من تأليفه يصحح
كثيرًا من مباحثه. فهل يعقل أن يكون في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن
يأتي بمثل هذه التعبيرات التي يستفيد البشر منها العبرة المرادة في كل زمن بما
يناسب معارف أهله من غير أن يمسها ما ينقض شيئًا منها، أو يصدّ الناس عن
الاهتداء بها؟
ولكن أمثال الشيخ يوسف الدجوي من علماء المناقشات في عبارات الأشموني
والصبان وحواشي مختصر السعد التفتازاني وجمع الجوامع، وإيراد الاحتمالات
الكثيرة فيها لا يعقلون مثل هذا الإعجاز في القرآن، ولا يفقهون فيها مراد عليم
كبير كالأستاذ الإمام، كما أنهم لا يفقهون كلامه في عظمة نفس المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام، وأنه لا يمكن أن يؤثر فيها سحر السحرة أولي الأوهام، بل
ينكرون تحقيقاته التي لا تصل إليها أفهامهم المحصورة في مناقشات كتب المتأخرين،
ويجبنون عن توجيه الاعتراض عليها؛ لئلا تلعنهم الأمة بعد إجماعها على أن
مصر لم تنجب عالمًا ربانيًّا وحكيمًا تفتخر به مثله، فيوجه أجرؤهم على التحريف
وقول الزور كالشيخ يوسف الدجوي اعتراضه على ناقل علمه وحكمته وناشر فضله
ومزاياه وما هو إلا صاحب المنار، ويظاهره على ذلك ضريبه في علمه واعتقاده
الشيخ الأحمدى الظواهري فيما يظهر؛ إذ يستعمله في نشره في مجلة الأزهر، ولا
يأذن بأن ينكر عليه فيها منكر.
أما قول الشيخ يوسف الدجوي: وما أدري كيف يفعل في قوله تعالى: {إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59) إلخ، فجوابه
أولا: أنه لا يعقل أنه لا يدري ذلك؛ إذ لا بد أن يكون راجع تفسيرنا لهذه الآية
وأمثالها لأجل تأييد طعنه علينا أن وجد فيها ما يؤيد رأيه، وثانيا أنه إن كان صادقًا
في قوله: إنه لا يدري، فهو أنه لا يحب أن يدري؛ لأنه لو كان يحب أن يدري
لراجع تفسيرنا لهذه الآية ولغيرها في معناها، ولا سيما الآيات التي انفردنا
بتفسيرها بعد وفاة شيخنا رحمه الله كقوله تعالى في سورة الأنعام: {هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام: 2) الآية، فقد قلت في تفسيرها من صفحة 296 من
جزء التفسير السابع ما نصه:
هذا كلام مستأنف جاء على الالتفات عن وصف الخالق تعالى بما دل على
حمده وتوحيده إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، يذكرهم به
بما هو ألصق بهم من دلائل التوحيد والبعث، وهو خلقهم من الطين وهو التراب
الذي يخالطه الماء فيكون كالعجين، وقد خلق الله آدم أبا البشر من الطين كما خلق
أصول سائر الأحياء في هذه الأرض؛ إذ كانت حالتها مناسبة لحدوث التولد الذاتي،
بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فبنية الإنسان مكونة من
الغذاء ومنه ما في رحم الأنثى من جراثيم النسل وما يلقحه من ماء الذكر، فهو
متولد من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان
المتولد من الأرض، فمرجع كل إلى النبات، وإنما النبات من الطين، ومن تفكر
في هذه ظهر له ظهورًا جليًّا أن القادر عليه لا يعجزه أن يعيد الخلق كما بدأه إذا هو
أمات هذه الأحياء بعد انقضاء آجالها التي قضاها لها في أجل آخر يضربه لهذه
الإعادة بحسب علمه وحكمته اهـ.
وفي معناه ما كتبته في تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ
ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (الأعراف: 11) الآية وهذا نصه من (ص328 من جزء
التفسير الثامن) :
(الخطاب لبني آدم، والمعنى خلقنا جنسكم أي مادته من الصلصال والحمأ
المسنون، وهو الماء والطين اللازب المتغير الذي خلق منه الإنسان الأول، ثم
صورناكم بأن جعلنا من تلك المادة صورة بشر سَوِي قابل للحياة، أو قدرنا إيجادكم
تقديرًا ثم صورنا مادتكم تصويرًا إلخ؛ ثم ذكرت الأقوال المروية عن ابن عباس
وغيره من مفسري السلف وقلت في آخرها: والتقدير الذي ذكرناه أولا هو الموافق
لما عليه الجمهور، والإنسان الأول آدم) اهـ. فهذان نصان صريحان في
اعتقادنا أن آدم هو الإنسان الأول، وأنه أبو البشر ناقضًا لما افتراه علينا الشيخ
الدجوي ومُكَذِّبًا له.
وأما آية خلق عيسى كخلق آدم فقد كتبت في تفسيرها (ص 319 ج3) ما
نصه:
(أقول بعد أن بيَّن سبحانه خلق عيسى ومجيئه بالآيات، وما كان من أمر
قومه في الإيمان والكفر به، كشف شبهة المفتونين بخلقه على غير السنة المعتادة
والمُحَّاجين فيه بغير علم، وردَّ على المنكرين لذلك فقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آل عمران: 59) أي أن شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه
على غير مثال سبق كشأن آدم في ذلك ثم فسر هذا المثل بقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
} (آل عمران: 59) أي قدَّر أوضاعه وكوَّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء
فكان طينًا لازبًا ذا لُزُوجَةٍ: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 59) أي ثم
كوَّنه تكوينًا آخر بنفح الروح فيه اهـ.
مذهب داروين والإسلام:
وجملة القول: أن ما بهتنا به الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر من أننا
نقول بتطبيق القرآن على مذهب داروين فهو كذب مفترى كغيره من مفترياته، وإن
في مجلد المنار الثاني عشر الذي استنبط منه سائر هذه المفتريات رسالة لشيخ
الصحافة في سورية عبد القادر أفندي القباني جعل فيها مذهب داروين دينًا مناقضًا
للأديان المعروفة في البلاد العثمانية وناقضًا لها وقد نشرتُها له وعلَّقْتُ عليها تعليقًا
قلت فيه (ص635 منه) : (أؤكد لصديقي الكاتب أن مذهب داروين لا ينقض -
إن صح وصار يقينًا - قاعدة من قواعد الإسلام، وأعرف من الأطباء وغيرهم من
يقول بقول داروين وهم مؤمنون إيمانًا صحيحًا، ومسلمون إسلامًا صادقًا، يحافظون
على صلواتهم وسائر فرائضهم، ويتركون الفواحش والإثم والبغي التي حرم الله على
عِبَادِهِ عملا بدينهم، على أن هذا المذهب علمي ليس من موضوع الدين في
شيء) .
فقولي: (إن صح وصار يقينًا) صريح في أنه لم يصح وأنه لا يرجح أن
يصح، وكان هذا هو المستقر في رأيي مما بسطه أستاذنا الشيخ حسين الجسر
العلامة الشهير في كتاب (الرسالة الحميدية) وأقره عليه علماء سورية وعلماء
الترك وغيرهم من العلماء كما صرَّحت به في المقال الأول من هذه الردود.
وأما رأيي التفصيلي في مذهب داروين الذي كنت أرد به على القائلين به قولاً
وكتابة ففيه أجوبة على أشهر أدلتهم عليه وقد ابتليت بدفع شبهاتهم كغيرها من
الشبهات على الدين. وأوسع هذه المباحث ما نشر في الجزء الثامن من مجلد المنار
الثلاثين (ص 593) وهي شبهات ألقاها إليَّ بعض الشبان كتابة في أثناء
محاضرة لي على منبر جمعية الشبان المسلمين فيعلم منها مبلغ بهتان الشيخ يوسف
الدجوي عليَّ، وقلبه للحقائق وإسناده إليَّ ضد ما هو ثابت عني في مواضع من
مجلة المنار وتفسيره، وذلك برهان قاطع على تعمده افتراء الكذب وسوء نيته فيه.
وهذه البُهْيَتة آخر البهائت التي نشرتها له مجلة الأزهر في الجزء الخامس من
هذه السنة (1351) ووعدت بتفنيدها وسأنشر بعدها مقالة الرد على احتجاجه
لبدعة الزيادة في الأذان أو عليه إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كذا قلت في الخطاب، والحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما وهو فيهما من حديث جابر:(وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) وفي مسلم من حديث حذيفة: (وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا وجعلت تربتها لنا طهورًا) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من كتاب الإنجيل والصليب
(تابع لما نشر في الجزء العاشر م 32)
الباب الثالث
(أيادوكيا) بمعنى (أحمد)
الكلمة الأصلية التي ترجمت عنها كلمة (أيادوكيا)
نقول: إذا لم يكن الإنجيل الأصلي قد رفع من الميدان منذ زمن لوقا،
أو نقول: لكي لا نعرض أنفسنا للتهمة بجرم الافتراء؛ إذ ربما كانت أنشودة
الملائكة موجودة بنصها الأصلي؛ ثم أعدمت في عهد تصرفات مجمع نيقية
التطهيرية: لماذا لا يوجد النص الأصلي لهذه الآية؟ لماذا يحاولون أن نقتنع
ونخضع لدعوى القائل: إن (أيادوكيا) ترجمة مطابقة للكلمة التي كانت في
المتن الأصلي، وبصورة موافقة للقاعدة اللسانية الحقيقية؟ فلو قام أحد البَابِيِّينَ
فرضًا وترجم هذه الآية بقوله: (الحمد لله في الأعالي وعلى الأرض لوح.
وللناس باب! !) فبأي حق وصلاحية يمكن أن يرد ويرفض؟ والمتن الأصلي
غير موجود؛ ليكون للكنيسة حق الاعتراض والمؤاخذة! إلا أن البابي مجسم أو أنه
يعتقد بإنسان قد تأله، وهو أيضًا يدعي الألوهية، وأنه يعطي ألواحًا وآيات
كحضرة (يهوه) معبود اليهود.
وها أنذا أسأل: ماذا كان أصل الكلمة المرادفة لكلمة (أيودوكيا) ؟ فعوضًا
عن (بروباجندا فيده) التي للكاثوليك، وجمعية ترجمة الكتب المقدسة إلى كل
اللغات التي للبروتستانت، أرجو أن يتلطفوا بالإجابة على هذه الأسئلة: -
ماذا كان نص العبارة التي كان التهليل والترنيم بها، والمترجمة بكلمة
(أيودوكيا) ؟ هيهات، لا شيء، عدم، كله ضاع وانمحى، وإن ما يضحكني
بزيادة هو قولهم: (بما أن لوقا ملهم من قِبَل الروح القدس، قد حافظ على الترجمة
من غير أن تَبْقَى حاجة إلى المتن) ولكن المترجمين في المخابرات الدولية دائمًا
يذهبون بمتن اللغة الأصلية مع الترجمة إلى الرئيس ويعرضونهما عليه معًا، فأين
متن اللغة السماوية؟ وسنبرهن في الفصل الثاني بصورة قطعية ومقنعة على أن
لوقا لم يكتب موعظته بالوحي والإلهام ولا بإلقاء الروح القدس. فالمتن الأصلي
مفقود، والترجمة مشكوك في صحتها!
المعنى اللغوي المستعمل لكلمة (أيودوكيا)
يجب أن تكون كلمة (أيودوكيا) ترجمة حرفية لكلمة سريانية مثل (إيرايتي)
أو لكلمة عبرانية. ولكن كتاب لوقا لم يترجم عن لسان آخر، فإن قال قائل: (كان
هناك مأخذ، وإن لوقا كتب كتابه مترجمًا عن ذلك المأخذ) فإن المعنى يزداد
غموضًا؛ لأن ذلك المأخذ في اللسان الأصلي مفقود.
ولا بد أن يرد على بال كل مسيحي وجود نسخة مكتوبة بالسريانية، وهي:
بشيطتا
سبرا طابا
ولكن تلك أيضًا مترجمة عن اليونانية، فعلينا إذًا أن نفهم معنى (أيودوكيا)
من اللغة اليونانية ومن قاموسها فقط، وذلك لا يكفي لحل المسألة، ولا بد أن تكون
الملائكة قد استعملت كلمة عبرانية أو بابلية أو كلمة أخرى من إحدى اللغات السامية
وإن لوقا ترجمها بـ (أيودوكيا) وههنا السر والظلمة.
وفي النسخة المسماة (بشيطتا) التي برزت إلى الوجود بعد مجمع نيقية
(أزنيك) مثل (الصبر جميل) بالعربية تمامًا. ولا شك أن الذين ترجموها بعبارة
(سورا طاوا) قد كتبوها متخذين بنظر اعتبارهم أن (إنجيل) عبارة عن بشارة أمل.
إن المقصود من الاشتغال بالألفاظ ليس إلا التمكن من إظهار حقيقة لم تزل
مكتومة أو خافية على كل الموسوية والمسيحية والإسلامية حتى الآن، فأرجو أن
يتعقبني القراء بصبرٍ وتأنٍّ.
لا يمكن أن تكون (أمل صالح) ترجمة حرفية مطابقة لأصل كلمة (أيودوكيا)
بل يجب أن تكون إحدى العبارتين مردودة، ولكن أيتهما؟
الآثوريون النسطوريون يقرءون الآية التي هي موضوع بحثنا عند شروعهم
بالصلاة، ولهؤلاء كتاب عبادة يسمى (قود شاد شليحي)
وهو أقدم من مجمع نيقيه بكثير. وبما أن ليس بين مندرجات هذا الكتاب المهم
الآيات العائدة إلى (قربان القديس) الموجودة في أناجيل مَتَّى ومرقس ولوقا
نستدل على أن الكتاب المذكور أقدم من الأناجيل الأربعة، ومهما يكن هذا الكتاب
فهو أيضًا قد أصيب بالتغييرات والتحريفات على مرور الزمان لكنه قد تمكن من أن
تبقى صحائفه مصونة عن إضافة الآيات المذكورة إليه المسماة (الكلمات الأصلية)
وفي هذا الكتاب (سبرا طابا) أي (أمل صالح) أو (بشارة جيدة أو سنة) وذلك
عوض عن (أيودوكيا) فلدينا وثيقتان فقط في أصل أنشودة الملائكة وهما كتاب
(لوقا) وكتاب (قودشا) .
ليت شعري أي واحدة من هاتين الوثيقتين المستقلة إحداهما عن الأخرى هي
أكثر اعتبارًا وأحرى بالاعتماد عليها؟
لو كانت الملائكة في الحقيقة قد أنشدت (أمل صالح) لكان الواجب على لوقا
أن يكتب عوضًا عن (أيودوكيا)(----)(أيوه لبيس) وعلى الأصح
(----)(إيلبيدا آغسى) كما كتب بولس وبما أننا وقعنا بين وثيقتين متضادتين
تناقض إحداهما الأخرى، لا يمكننا أن نرجح إحداهما بغير مرجح.
لم يكن في الكنائس القديمة كتاب باسم إنجيل باللغة العبرانية، أما الكلمة
(أيودوكيا) فهي بالعبرانية (----) راضون وهي تشمل على معان مثل (رضا،
لطف، انبساط ميسرة، حظ، رغبة) وهي اسم لفعل (---- رضا) المشابهة
لكلمة (رضا) العربية فتكون النتيجة أن (أيودوكيا) المترجمة مرة إلى اليونانية
Volantas bona (حسن الرضا) قد تحولت وتأولت بعد ذلك إلى كافة الألسنة
بالعبارات التي تفيد المعنى المذكور. أنا أدعي أولا أن تأويل (أيودوكيا) على هذا
الطراز لا يؤدي المعنى الحقيقي، وثانيًا أنه من الجهل والمفتريات الكفرية بمكان.
أولاً: لا يقال في اليونانية لحسن الرضا (أيودوكيا) بل يقال (---- ثليما)
وكان يجب لمن يكتب (----) أو (----) المطابقة تمامًا لحسن الرضا. ففي هذا
يكون تفسير أيودوكيا غلطًا وخطأً، ولعل الكنائس ولا سيما الأساتذة الذين يعرفون
اليونانية من أهلها وغيرها يعارضوني في ذلك فأقول: إن هذه الكلمة مركبة من
كلمتين (أيو) بمعنى (حسن، جيد، صالح، مرحى، حقيقي، حسن ملاحة)
وأما كلمة (دوكيا) وحدها فلا أعرف لها استعمالاً في شيء من كتب اللغة، وإنما
توجد كلمة (---- أو ---- دوكوثه) وهي بمعنى (الحمد، الاشتهاء، الشوق،
الرغبة، بيان الفكر) وها هي ذي الصفات المشتقة من هذا الفعل (دوكسا) وهي
حمد، محمود، ممدوح، نفيس، مشتهى، مرغوب، مجيد، والآن لننظر ماذا
بين أنبياء بني إسرائيل من الأفكار والمعاني في الألفاظ ---- محمود [*]
أنا لا أعلم بوجود رجل تاريخي يحمل اسم أحمد ومحمد قبل ظهور النبي
(الأخير الأعظم) صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فإن اختصاص حضرة
النبي الأكرم بهذا الاسم الجليل (محمد) لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة
والاتفاق، ولو قال قائل: إن أبوي النبي سمياه محمدًا قصدًا لأنهما قرآ كتب
الإنجيل، ومن هناك علما أنه سيأتي نبي باسم محمد، لكان من المحال أن يصغي
لقوله أحد.
وهنا أريد أن أفتش في كتب العهد القديم العبرانية المكتوبة قبل ظهور الإسلام
بألفين أو ثلاثة آلاف سنة عن المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ العربية (حمد، أحمد،
محمد) وعما تشتمل عليه كلمة (إسلام) في اللغة الرسمية السماوية من المعاني
الواسعة، فإن كلمتي (أحمد، ومحمد) أيضًا تحتويان على ذلك المقدار من المعاني.
---- لا تحمد ---- لا تطمع في بيت جارك (خروج 17: 20) إن ترجمتهم
التركية تنهى عن النظر بالشهوة والحسد، وذلك غلط؛ لأن نص الآية ---- لا
تشته زوجة جارك.
---- تحت ظله باشتياق جلست (نشيد الإنشاد 2: 3) حمدة (----
الحمد، الاشتهاء، الاشتياق، التعشق، التلذذ، الانشراح) .
---- الله اشتهى هذا الجيل أو الجبل الذي اشتهاه الله (مزامير 16: 68) .
---- أحمد الإعجاب، الاشتهاء، الانبساط، الانشراح، الرضا، حمد،
محمد، مليح، جميل المنظر، حميد المنظر (تكوين: 9: 2) .
(حمد وشمن) مرغوب، ---- مشتهى، مرضي، مطلوب،
مرغوب (أمثال 20: 21) والحال أنهم قد ترجموا الكلمتين (هتاوا، هاوا) من
هذا الباب نفسه بكلمة (أيبيشوميا) اليونانية التي هي أيضًا بمعنى الشهوة والاشتهاء.
إذن فإن (الإصحاح السبعين) يترجم الكلمتين (حمد) و (أهوى) كلتيهما
بالكلمة (أيبيثوميا)----(----) وباليونانية (أيبيثوميا) أحمد من الذهب أي
أشهى من الذهب.
---- كل (محمدتنا) خربت. وفي اليونانية ----(أشعيا 11: 64)
نحب الدقة في أنهم يترجمون كلمة (محمد يتو) التي في الآية المذكورة أعلاه ب
(أندوكساهيمون) .
إذن فمحمد ---- بمعنى Fameux Illustre، Glorieux، الفرنسية.
أي أن علماء اليهود الذين ترجموا كلمة (محمد) العبرانية مرة بمشتهى ومرة
بمرغوب وأخرى براض ومرضي، يعبرون عنها الآن بلفظ (أيندكسوس)
فالصفة (أيند وكسوس) المذكورة تحتوي على الصفات الجميلة كالاسم (محمد،
أحمد، أمجد، ممدوح، محتشم، ذو الشوكة) ، والبروتستانت ترجموا هذه الصفة
الجميلة بجملة (كل نفائسنا صارت خربًا) .
إذن فإن الكلمات (----) أو (----)(المحمدة الأحمدية) أو
(----) الحمدة التي ذكرها لوقا بمقابلة (أحمد، محمد) كلها الاسم المبارك
الذي ترنمت به الملائكة إشارة وإخبارًا بنبي آخر الزمان.
إن عبارة (حسن الرضا) لها كل المناسبة إلى (محمد وأحمد) فقط؛ لأنه إذ
كان قد وجد في جماعة الأنبياء من ظهرت فيه هذه المعاني: طيب ومقدس حري
بتوجه العالمين وجدير بحسن رضائهم وحائز على المحمدة، وكل الصفات الجميلة
بحيث يفيدهم ويرضيهم ويسرهم بكل ما يشتاقون إليه، فهو محمد صلى الله عليه
وسلم. فإن كان الذين لم يؤمنوا به ولم يطيعوه بحسن رضائهم، فمن ذا الذي
يرضون من بعده، وأما الذين يذهبون إلى الفكرة السقيمة، إلى أن المقصود من
(حسن الرضا) هو أن واجب الوجود كان سيئ النية، سيئ الرضا، حاملاً للبغض
والعداوة والغضب على نوع الإنسان إلى حين ولادة المسيح، وأنه بعد ولادة المسيح
غير هذه الصفات إلى ضدها وتصالح مع الناس، فليتفكروا جيدًا أن الجنود
السماوية (ملائكة الله) يعلمون أن خالقهم مُنَزَّه وبرئ من سوء النية والجهل وأنهم
يسبحونه ويقدسونه إلى أبد الآبدين.
إن أملي الوحيد هو الكشف عن حقيقة الموضوع والغرض الذي يجب أن
ترمي إليه هذه الكتب (العهد الجديد) أي أني أشعر بأن لا بد في هذه الكتب من
حقيقة. وأدرك أن الحقيقة المذكورة سعادة وخير لكافة البشر، وأني قد شرعت في
مطالعة الكتب المقدسة باللسان الأصلي التي كتبت بالدقة والإمعان لإظهار هذه
الحقيقة بكل وضوح (----) مترجمة عن كلمة (----) راصون العبرانية.
ليثق قرائي المحترمون؛ بأن الاختلاف المستحكم بين العيسوية والإسلامية
سينحل، ويفصل فيه حالا عند انكشاف المعنى الحقيقي الذي تحتويه هذه الكلمات
بعونه تعالى، فمن الضروري أن يتتبعوا المباحث في شأن الكلمات المذكورة
بالصبر والدقة.
يوجد في اللغتين العبرانية والبابلية القديمة فعل ثلاثي مجرد (---- رصه)
(---- رضا) بمعنى (رضي) العربية. وهذا الفعل مستعمل كثيرًا في كتب
التوراة وسنحقق هذه الكلمات الأجنبية المهمة في النسخة المسماة (سبتو اغتبتا)
وهي الكتب العبرانية المقدسة التي ترجمها سبعون عالمًا يهوديًّا من اللسان الأصلي
إلى اليونانية في مدة قرنين أو ثلاثة قبل الميلاد في إسكندرية مصر.
ومن المعلوم لدى علماء اللغات أن الأسماء والصفات والأفعال على قسمين،
أي أن كل اسم أو صفة إما مذكر وإما مؤنث على الإطلاق، مثلا محمد مذكر
ومحمدة مؤنث، وبالعبرانية (----) محمد مذكر (----) مؤنث. وفي
الأثورية (----) محمد مذكر، و (----) محمدة مؤنث. وأما اللغات
الغربية القديمة، فلا تتبع هذه القاعدة، وهي تطلق على الكلمة التي لا تذكير ولا
تأنيث فيها (غير جنسي) وفي اليونانية يستعملون التعبيرات (----)
بمقابلة محمد، وللمؤنث (----) أيند وكسي، ولعديم الجنس (----)
أيند وكسون. فاليونانيون يطلقون لفظ (أيندوكسون) على ما يصفه العبرانيون
بالصفة (----) محمد لذلك جاء التعبير في (إشعيا 11: 64)(----)
محمديتو، و (----) أيندو كساهيمون بمعنى أشياؤنا الحميدية النفسية (أندوكسا
وهو جمع أيندوكسون (---- محمديهم محمديها) نفائسهم نفائسه (مراثي أرميا: 1: 7: و11) وقد ترجمت في النسخة السبعينية ----) بمشتهيات
(---- كرم حمد) كرم الحمد الحديقة اللذيذة، مبتغى اللذة والشوق (إشيعا 2: 27 و 12: 32) ---- من أجل الحقول المقبولة (---- أو يحمدوت)
(---- دوكساسي) النفائس (دانيال 11: 38 و43)(---- حمدة النسوان)
شهوة النساء (دنيال 11: 27 و 38 و 43) .
(---- هحمدوت ثياب فاخرة)---- جميل، فاخر، مرغوب
(تكوين 15: 27) فالمعاني التي تحتوي عليها الكلمات (حمد، حميد، محمد) في اللغة العبرانية القديمة على الوجه الآتي:
1-
فعل: النظر بعين الطمع والشهوة، الغبطة، الاشتياق، الاشتهاء
صيرورة الشيء مرغوبًا ولذيذًا، الرغبة والإرادة، المدح والثناء، الحمد.
2-
صفة: مشتهى، شهي، معشوق، مقبول، فاخر، نفيس، ذو قيمة،
حميد، جليل، ممدوح، حبيب، لطيف، لذيذ، مكيف (أو مطرب) راض،
مسرور، مليح، جميل، شهير، ذو اسم (نامدار) ، صديق.
3-
اسم: أحمد، محمد، عشق، عال، علاء، محمدة، نفاسة، لذة ملاحة،
حسن، جمال، كيف، غلاء، انبساط، شهرة، صداقة.
ولكي لا أتعب القراء المحترمين أتيت على نماذج الألفاظ الأجنبية أعلاه على
وجه الاختصار، وإن صحائف كتب التوراة مملوءة بالألفاظ المذكورة، وكل
المعاني والتأويلات التي أعطيتها صحيحة حقيقية، وأنا مستعد كل وقت لإثباتها
واحدة فواحدة.
يقف المطالع مندهشًا عندما يحصي بحسن نية ما اشتملت عليه هاتان الكلمتان
(----. ----. حمد) من المعاني الكثيرة بهذا المقدار. ويجد أن
ألفاظ (حميد وأحمد ومحمد) تحتوي اسمًا وصفة، على معاني التفضيل: أحب،
وألذ، وأقوم، وأعلى، وأغلى، وأطيب، وأجمل، وأرغب، وأقبل، وأشرف،
وأحشم وأشهر شيء وشخص وجنس بعد الخالق تعالى.
(----) عاد يرضى حتى يرضى (إلى أن يرضى)---- أيودوكيص
(أيوب 6: 14)(---- أورصيتم)---- إذا ترضيهم (أيام ثاني 7: 10)
(---- رصي) كن راضيًا (ارض)----. أيودوكيصون.
(---- أيودوكياص) رضا، راضون، عناية (مزامير 12: 5)
(---- رصون ----. تيليما) مرضاة رغبة (دانيال 4: 8)
إن البروتستانت ترجموا (أيودكيا)---- راصون طوب (رضاء طيب)
لا نظن أن أحدًا يجترئ على إنكار القرابة والاقتران المعنوي وبين الكلمتين
(رضا، رضوان) المذكورتين أعلاه الواردتين في كتب التوراة والاسمين (حمد،
محمد) لأننا أوضحنا أن كلمة حمد العبرانية تشتمل على معان مثل (رضا، رغبة،
شهوة، عشق، طلب، إرادة، شوق) .
على أن في العبرانية كلمة أخرى (---- حفص) وفي العربية حفص
بمعنى (ميل، اشتهاء، رغبة، طلب، اشتياق) وبما أن كلمة راحون التي
ترجمت بها الأفعال والأسماء (حمد ومحمد) تستعمل أغلبيًّا في ترجمة وتفسير
حفص ثبت أن مدلول (حمد ومحمد) أوسع وأشمل.
وهنا أكرر قولي: إن (أيودكيا) لا يكون عبارة عن (حسن الرضا) الخيالي
المبهم وعديم المعنى، بل إنها بمعنى plaisir bon consentement
Bienvillance الفرنسية بمعنى (الرضا السرور وإرادة الخير) مثلا: أيودكيا في
اليونانية (---- إنشاء الله، بتوفيق الله، بعناية الباري) وكل ما يرغب فيه
الإنسان من مال وروح ونفس، وكل ما كان لديه محبوبًا ولذيذًا ومشهورًا ومحترمًا،
فهو موجود في معنى الكلمتين أحمد ومحمد.
_________
(*) يقول مصححه: إن اسم أحمد هو صيغة تفضيل من الحمد، واسم محمد صيغة مبالغة من التحميد ومعناه الذي يحمده غيره كثيرًا، وقد كان خاتم النبيين أحمد خلق الله لله، وهو الذي حمده الله أكثر مما حمد غيره من رسله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشقاق بين العرب الحضارمة
ودعوتهم إلى الصلح
للأمة العربية مزايا وفضائل كثيرة، ومنها كغيرها من الأمم عيوب كبيرة،
وشر عيوبها وأضرها عليهم: التفرق والشقاق الذي يثيره التحاسد والتنازع في الجاه
وحب التعالي، ومنه التنازع في الإمارة والملك. فلولا هذا التنازع الذي شجر بينهم
منذ العصر الأول لملكوا الشرق والغرب، ولكان أكثر البشر عربًا مسلمين بتأثير
عقائد الإسلام وقواعده الإصلاحية العامة المرشدة إلى رفع الإنسانية إلى الوحدة
والأخوة والكمال الممكن في الهدى والعلم والحضارة. وإنهم - وقد ضاعت خلافتهم،
وزالت حضارتهم، وثُلَّتْ عروش ممالكهم - لو اتحدوا اليوم وجمعوا شملهم كما
فعلت الأمم التي تفرقت شعوبها قبلهم كالجرمان والطليان لأمكنهم أن يجددوا للعالم
الإنساني هداية وحضارة ودولة تنقذ شعوب البشر التي تفوقهم علمًا وقوة وسيادة في
الأرض مما هي مستهدفة له من خطر وفساد، كما أنقذ سلفهم البشر مما كان قد
أفسدهم من مدينة الروم والفرس وغيرهم من الأقوام.
لقد كان أفضل مأثرة لعرب حضرموت أن ضرب تجار منهم في الأرض
يبتغون التجارة فبلغوا جزائر الهند الشرقية - جاوه وما جاورها - وأهلها وثنيون
فنشروا فيها الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ إلا للعرب أجدادهم، ونالوا الحظوة
عند أمرائها وحكامها الذين اهتدوا بهم، وأثروا وتأثلوا وكثروا ولو كانوا على
معارف واسعة لعمموا اللغة العربية فيها كما فعل سلفهم في غيرها، ثم كان أقبح
مساوئهم تجاه تلك المأثرة الفضلى أن دب إليهم داء الشقاق والبغضاء في الوقت
الذي تنبه فيه الشعب الوطني الأصلي للعلم والعمل وجمع الكلمة ومباراة الشعب
الهولندي السائد من جانب ومقاومة تيارات الإلحاد والدعايات الكفرية والبدعية من
جانب آخر.
انشقت عصاهم القوية فكانت شظيتين سميت إحداهما العلوية، والثانية
الإرشادية، كل منهما تحاول كسر الأخرى، ويخشى أن تفوز كل منهما بما تحاول
فيُقضى على هذه الجالية العربية العريقة المجد، العظيمة القدر في قلوب هذا
الشعب، فتصبح حصيدًا كأن لم تغن بالأمس.
كل منهما يعيب الآخر بما إذا صح كله كان قبحه وضرره دون محاولة علاجه
بما يضاعف الداء، حتى يتعذر الشفاء، وهو الحسد والبغضاء، التي سماها النبي
صلى الله عليه وسلم الحالقة: حالقة الدين، وقد انتهت فيهم إلى سفك الدماء، بعد
الإسراف في الطعن والسباب، فكيف إذا كان مبالغًا فيه، على عادة الناس في مثله،
فإن كانوا قد صاروا همجًا لا زعماء لهم كما قال الشاعر العربي:
لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
فلا بد من انتقام العدل الإلهي منهم على سنته تعالى في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال:
25) وليتدبروها وما يليها من قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) مع تدبر قوله تبارك اسمه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) .
وإن كان لهم زعماء يطاعون فعليهم أن يتداركوا الأمر، ويرأبوا الصدع، وإلا
كان عليهم وزرهم وأوزار الذين يتبعونهم في الإثم.
إنني لفي أشد الألم والحزن على هذه الجالية الكريمة، وطالما فكرت في
السعي إلى إصلاح ذات بينها، فلم أجد له طريقًا لاحبًا يرجى بسلوكه الوصول إلى
ما يرضي الفريقين، حتى إذا ما ألم بنا أخونا السيد إبراهيم السقاف من كبار
سروات العلويين، وبسط لنا ما كان بلغ به السعي مع صديقه وصديقنا الشيخ أحمد
السوركتي الأستاذ الأكبر للإرشاديين، واطلعنا على ما اتفقا عليه من شروط الصلح،
وما عرض لها من الفشل بسوء الفهم، تجدد عندي الرجاء في نجاح السعي،
فكتبت الخطاب الآتي، ونقلت له صورة منه في اليوم الذي سافر فيه من مصر
فأمضيتها له ليحملها إلى الفريقين (فحملها ونشرتها جرائدهما) وبقيت عندي
المسودة وهذا نصها:
خطاب صاحب المنار
لزعماء العلويين والإرشاديين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) .
من محمد رشيد رضا ابن السيد علي آل رضا الحسيني الحسني صاحب مجلة
المنار الإسلامي بمصر إلى إخوانه في الإسلام من جماعة العلويين والإرشاديين
الحضرميين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد طال العهد على ما شجر بينكم
من الخلاف والشقاق، وما نجم عنه من الطعن في الأنساب، والنبز بالألقاب،
واللعن والسباب، وقطع الأرحام، المنافية لأخوة الإسلام، وقد آلم ذلك جميع
المسلمين، وسر أعداء الإسلام من ملحدين ومليين، وجعلوا هذا حجة لهم على
دينكم، وأنتم دعاته وحماته، وأجدادكم مهاجرته وأنصاره، ولعل أخاكم هذا من أشد
المسلمين حزنًا وأسفًا على ما حل بكم، وتمنيًا على الله تعالى أن يوفقه لإصلاح
ذات بينكم، وطالما فكر في ذلك فلم يهتد إليه سبيلا.
ثم إنني رأيت في العام الماضي ما وفقتم له من وضع شروط للصلح معقولة،
وسرني ما بشرتنا به الجرائد من اتفاق زعماء الفريقين عليها، ولكن لم ألبث أن
قرأت في جرائد مهاجركم أنكم نكصتم على أعقابكم، وحللتم ما عقدتم بأيديكم،
فكنتم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
أيها الإخوان المسلمون:
إن محمدًا رسول الله وخاتم النبيين، الذي فضلكم الله باتباعه على العالمين،
لم يكن شيء بعد الشرك بالله والكفر به أبغض إليه من التفرق والاختلاف بين أمته،
وإنه ما أفسد عليه دينها، وأضاع مجد دنياها من بعده، إلا هذا التفرق والاختلاف،
وإنه ليحزنني أن أقول: إن التحاسد والتعادي والشقاق بين قومه العرب أشد منه بين
غيرهم من الأقوام والأمم، ولولا ذلك لكانوا أعز الأمم وأسعدها وأقواها، ولما هدموا
-بتفرقهم واختلافهم- تلك الصروح الشامخة التي بناها سلفهم باتحادهم وائتلافهم.
وإننا أيها الإخوان قد دخلنا في طور جديد من الانقلاب البشري يهاجم ديننا
فيه جيوش من الملحدين ومن (المبشرين) ومن المبتدعين، ومن المسلمين
المفرقين لوحدة الإسلام بالعصبية الجنسية واللغوية والوطنية (أيضًا) فديننا على
خطر في كتابه وسنته وهدايته وتشريعه ولغته، وهي قوام وحدة أمته، وأنتم أيها
العرب الخُلَّص أحق الناس بتلافي هذا الخطر وحفظ وحدة الأمة على اختلاف
أجناسها ولغاتها وأوطانها، وأنى يتسنى لكم هذا وأنتم أشد من جميع الأجناس
الإسلامية تفرقًا وتمزقًا، تخربون بيوتكم بأيديكم وأيدي أعدائكم، فأي شعب
يرضاكم قادة له وهذه حالكم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1)
أيها الإخوان المسلمون:
إنني نظرت فيما وضع مندوباكم من شروط الصلح، وفيما اقترح بعضكم لها
من تفسير يقصد به إغلاق باب الاختلاف في فهمها، وسد ذرائع التأويل السيئ
لشيء منها، فنقحت عباراتها، وبينت مجملها، بما أرجو أن يكون مقبولاً عند كل
منكم؛ لظهور المصلحة فيه عند أهل العلم والرواية منكم، وكل منكم يعلم فيما أظن
أنني حسن النية بريء من المحاباة في ديني، وأزيد على هذا أنه يمكنني أن أؤيدها
بتوقيعات أشهر زعماء المسلمين من أهل العلم والرأي في مصر وغيرها، فعسى
أن يرتضيها كل منكم، وتقر أعين المسلمين باتفاقكم الدائم إن شاء الله تعالى.
شروط الصلح بين جماعتي
العلويين والإرشاديين
(1)
يراعي كل من الفريقين في معاملة الآخر معنى الإخاء الإسلامي
الثابت بقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) والفضائل الدينية
المستمدة من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ،
والمساواة الشرعية التفصيلية في سائر الحقوق الدينية والأدبية والاجتماعية العرفية
في حدود الشرع المبنية في مذاهب أهل السنة والجماعة التي ينتمي إليها الفريقان،
ويدخل في هذه الحقوق العرفية اختصاص العلويين بلقب (السيد) ككل من ثبت
نسبه للسبطين الشريفين بالتواتر أو بغيره مما ثبت به الأنساب في الشرع، ويدخل
فيها إفشاء السلام بدءًا وردًّا، وعيادة المرضى وتشييع الجنائز وتهاني الأعياد
والقدوم من السفر.
(2)
يُدفن كل من كان من ماضي العداء والخصومة المؤسف كأن لم يكن
فلا يعاد إلى شيء منه، ويعاهد الله كل من الفريقين على اجتناب كل دعاية إلى
سوء أو طعن على الآخر في الصحف أو المدارس أو المجالس وغيرها، وكل ما
يخالف الشرع من السباب، والتنابز بالألقاب، والطعن في الأنساب، وغير ذلك
مما يؤلم النفوس ويجرح القلوب ويجدد الشقاق، لقوله تعالى: {َ وَلَا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) وقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32) .
(3)
يتعاون الفريقان على خدمة الإسلام ولغته ومقاومة أعدائه الطاعنين
فيه من دعاة الإلحاد والأديان والنحل المحدثة المخالفة لإجماع المسلمين الذين يعتد
أهل السنة بإسلامهم، وعدم موالاة أحد منهم عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .
(4)
يتعهد كل من الفريقين بكف السفهاء الذين ينتمون إليه عن الطعن
المحظور في الآخر، فإن لم يتمكن الزعماء والوجهاء من كف بعض سفهائهم عن
ذلك يعلنون الإنكار عليه والبراءة من سفهه بالطريقة التي يقتنع بها الفريق الآخر
أن طعنه غير صادر عن إغراء ولا رضا.
(5)
كل من يطعن على العلويين أو الإرشاديين من غيرهم يتعين على
جمعية الرابطة العلوية وجمعية الإرشاد أن تستنكر طعنه بما يدل على عدم الموافقة
عليه فضلا عن تهمة الإغراء به، إلا إذا كان انتقادًا علميًّا أو أدبيًّا أو دينيًّا
موضوعُهُ الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة الذين ينتمي أهل السنة إلى مذاهبهم.
وفي هذه الحالة يذكر المخالف بحكم الشرع وأدلته بالحكمة والموعظة الحسنة.
(6)
يعذر كل من الفريقين الآخر جماعة وأفرادًا فيما يخالفه فيه من الرأي
في المسائل الدينية غير الخارجة عن أقوال المذاهب الأربعة؛ لأن الاختلاف في
المسائل الاجتهادية طبيعي في البشر والاتفاق عليها كلها متعذر. والمسائل التي
عرف رأي الفريقين فيها يجتنب إثارة الجدال غير الودي فيها ما دامت موافقة أحد
هذه المذاهب فلا ينكر الآخذ بمذهب الشافعي (مثلا) على الآخذ بمذهب أبي حنيفة
أو مالك أو أحمد بن حنبل رضي الله عنهم، ويراعى مع الاتفاق على هذا الأصل
قاعدة: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) فلا
نتخذه وهو اجتهادي ظنيّ سببًا للتفرق والشقاق المحرم بالإجماع.
(7)
تتألف لجنة من العلويين والإرشاديين متساوية الأعضاء لمراقبة تنفيذ
مواد الصلح وشروطه، وتدارك ما عساه يبدو من أي الفريقين من مخالفة لها قبل
انتشارها وشيوعها الذي يتعسر معه تلافيها، فإن ظهر من أحد منها مخالفة لشرط
منها في الصحف أو غيرها ولم يمكنها إزالته توجه اللجنة نظر الهيئة العليا للفريق
الذي ينتسب إليه ذلك المخالف لتوقفه عند حده، وتعلن في أثر ذلك أنه لا دخل لها
في ذلك مطلقًا، فإن لم تتمكن من إيقافه عند حده يجب أن تعلن براءتها منه اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مجلة المنار سنة 33
نشرنا هذا البيان في بعض الصحف في شهر شوال الموافق شهر فبراير
(شباط)
سيصدر الجزء الأول من مجلد المنار الثالث والثلاثين في أول مارس من سنة
1933 والجزء العاشر في نهاية هذه السنة الميلادية بجعل شهري التعطيل في أولها
بدلاً من أثنائها المعتاد أو آخرها. وتعوض المشتركين عن جزئي هذين الشهرين
فترسل إلى كل من أدى قيمة الاشتراك تامة كاملة قبل انتهاء السنة ما هو بقدر
قيمتهما أو يزيد عليها من الكتب أو الرسائل المفيدة.
وسيقرؤون في الأجزاء الأولى من هذه السنة تتمة بحث (إثبات الوحي
المحمدي) بالأدلة العلمية العقلية وبيان أنواع مقاصد القرآن وعلومه في إصلاح
البشر الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي مما لم يسبق له نظير قط في
بيان كون الإسلام هو الدين العام الأخير للبشر، وأنه لا منجاة لمدنية الغرب
الحاضرة من تعادي الشعوب والملل المنذر لهم بالهلاك بدون هدايته، وهو يتضمن
دحض شبهة الماديين القائلين بأن وحي الأنبياء نفسي أي فائض من استعدادهم
النفسي لا إلهي من عالم الغيب، وفيه بيان لما أخطأ به موسيو درمنغام في كتابه
(حياة محمد) من تصوير هذا الوحي ومقدماته.
ويلي هذا البحث في عظمة موضوعه وطرافته بحث إثبات قوله تعالى حكاية
عن المسيح عليه السلام: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف:
6) والشواهد عليه من كتب العهدين القديم والجديد المؤيدة باللغات الآرامية
والسريانية والعبرية واليونانية لقسيس من علماء الآشوريين هداه الله إلى الإسلام في
القرن الماضي، وكذا بحث الخطر على الإسلام من الداخل والخارج وأنواعه
والمخرج منه الذي شخصناه في خطابنا الأخير في المؤتمر الإسلامي العام في
القدس الشريف. إلى غير ذلك من الحقائق والفتاوى في المشكلات التي لا توجد في
غير المنار.
ونذكر قراء المنار والراغبين في قراءته في عامه الجديد أن خسارتنا المالية
في إصداره كانت عظيمة في السنة الماضية لقلة الذين أدوا إلينا حقه بعذر العسرة
المالية، عسى أن يتفكروا فيتذكروا أن اشتراك كل واحد منهم في هذه الخدمة للملة
والأمة بجنيه واحد في السنة أيسر من بذل القائم بها وحده مئات من الجنيهات مع
بذل علمه وعقله وعمره في تحريرها وتصحيحها.
شر المشتركين في الصحف من ينوي ألا يؤدي حقها وهو قليل، ويليه
المماطل بالوفاء. وفي الحديث النبوي المتفق عليه: (مطل الغني ظلم) والغني:
الذي يجد القيمة. وفي حديث صحيح آخر: (لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته)
أي أن مطله يبيح ذمه باللسان والقلم، وعقوبته لدى الحكام في الدنيا قبل عقاب الله
تعالى في الآخرة.
وليفرض الماطل الظالم أن كل المشتركين مثله؛ إذ لا يرضى أحد لنفسه أن
يكون أظلم الناس، فكيف يمكن لصاحب الصحيفة في هذه الحالة أن يصدرها؟
نذكرهم بذلك لقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
55) وقوله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) وقوله سبحانه: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب آخر لمشتركي المنار من الطبقات الثلاث
تعلمون أيها الإخوان أننا كنا أشد أصحاب الصحف تساهلاً في اقتضاء قيمة
الاشتراك فلا وكلاء للتحصيل يُلِحُّون في الطلب، ولا دعوى ترفع إلى المحاكم على
أحد، ولا تشهير بذم مماطل في المجلة ولا في غيرها، ولا منع لإرسال المنار إليه
لزوال الثقة بذمته ودينه.
ولكن اشتداد العسرة اضطرنا في العام الماضي إلى ما لم يكن من عادتنا
فمنعناه عن بعض الماطلين في كثير من الأقطار؛ إذ ضاعفت الحكومة المصرية
أجرة البريد الصادر حتى أجرة الصحف، ولنحن في هذه العام أعجز عن
الاستمرار على إرساله إلى المُصِرِّينَ على مطلهم، وإن أكثر أهل وطننا على قربهم
منا لأشد مطلاً من غيرهم، فكيف يحكمون؟ وكيف نعمل لإمكان الثبات على هذه
الخدمة الواجبة؟
إن الرأي المعقول السهل هو أن يرسل المشترك المعسر ما عليه للمنار أقساطًا
ولو شهرية، وأن يتفضل علينا المدينون لنا بإخبارهم إيانا كتابة عما عزموا عليه،
وإن الكتابة إلينا بالاعتراف بالحق، وبحسن النية في الوفاء الذي يتيسر لهم، لهي
آية طهارة الذمة واتصال المودة الأخوية، وحب التعاون المستطاع على خدمة الملة،
وسيروننا إن شاء الله تعالى كما يحبون من قبول عذر، وصبر وشكر، وإنظار
مُعْسِر يطلب النَّظِرَة، وصلح مقلّ يطلب إسقاط بعض الحق المتأخر، ونقبل منهم
شهادتهم لأنفسهم.
وليتدبروا قوله تعالى في طبقات أهل دينه ودرجاتهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) .
هذه الدرجات الثلاث تظهر في جميع الأعمال: فالظالم لنفسه في المعاملات
المالية مع أصحاب الصحف وغيرهم هو الذي يؤخر إيتاء ما عليه إلى ما بعد
الاستحقاق، ويمطل في الوفاء كما ثبت في الحديث الصحيح - والمقتصد من يؤدي
ما عليه في أثناء السنة. وأما السابق بالخيرات فهو من يعطي قيمة الاشتراك سلفًا،
وأسبق منه من يزيد على الواجب نفلاً، ومن هذا القسم الأعلى من قراء المنار من
رأى ما كتبناه في شأن المشتركين في الجزء الماضي فأرسل إلينا حوالة بستة
جنيهات منها جنيه قيمة اشتراكه في المجلد الثالث والثلاثين سلفًا، وخمسة جنيهات
تبرع بها لخمسة من فقراء القراء الذي يجري انتفاعهم ونفعهم بما يقرءون، ولم
يسمح لنا بذكر اسمه، وهو ممن يعيشون عيشة الكفاف، وحسبه علم الله عز وجل،
وما أعد للسابقين بالخيرات من مضاعفة الثواب. وأما من يستحل أكل الحق الذي
عليه كله، فلا يعد من الوارثين لكتاب الله ولا من أهله، برأ الله جميع مشتركي
المنار من ذلك بتوفيقه وفضله.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات حول الرسول والقرآن
سؤال
(ما الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعد الأربعين وما الذي فعله)
ولم يكن لشيء من ذلك ما يدل عليه قبل هذه السن [1] من قول ولا فعل ولا علم ولا
عمل.
الجواب
جاء بدين معقول موافق للفطرة عام دائم، وشرع عادل مساوٍ بين الناس،
وجمع شمل أمة متفرقة متعادية لم يعرف تاريخها لها وحدة، وكون أمة متحدة مدنية
مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل، وأسس دولة عزيزة قوية عادلة، وأصلح جميع
ما كان قد أفسده البشر من الأديان والآداب والحضارات، بالظلم والعصبيات
والخرافات [2] .
(الدعوة المحمدية موضوعها وكتابها)
(أ) ادَّعَى أن الله تعالى بعثه في قومه الأميين الجاهلين المشركين المفسدين
في الأرض؛ ليزكيهم ويُرَبِّيَهُمْ في الكبر ويعلمهم الكتاب والحكمة، فيبلغوا دعوته
للأمم فيكونوا من الأئمة المصلحين، ومن خلفاء الأرض الوارثين، وكذلك كان
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا} (النور: 55) .
(ب) ادَّعى أن جميع شعوب البشر على اختلاف مللها ونحلها ضالون
مضلون، وأن أتباع النبيين منهم قد فسقوا عن هدايتهم، أشركوا بعبادة ربهم،
وابتدعوا في الدين ما لم يشرعه الله لهم، وأنهم أضاعوا بعض كتبهم وحرَّفوا
بعضها، وأنه جاء من عند الله تعالى لهدايتهم كلهم أجمعين، وأن دينه سيظهر على
أديانهم بالحجة والبرهان، والعقل والوجدان، والسيادة والسلطان، وكذلك كان،
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) .
(ج) جاء بكتاب ادَّعى أنه كلام الله تعالى أوحاه إليه، وأنه ليس له منه إلا
تبليغه كما تَلَقَّاه، وقد ظهر أن هذا الكتاب لم يكن بينه وبين كلام محمد قبله ولا بعده
شبه في نظمه ولا أسلوبه ولا معانيه ولا بلاغته ولا تأثيره، ولا أخباره وعقائده،
ولا تشريعه وأحكامه، ولا معلوماته الكونية والاجتماعية ولا حكمه وآدابه.
(د) قد علم من هذا الكتاب ما يضاد كونه من علم محمد وهو أنه هو الذي
يربيه ويعلمه كما قال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113) ويصحح له خطأ اجتهاده في
التبليغ أو التنفيذ تارة باللين واللطف، كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) وتارة بالموعظة والشدة
كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ
ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 74-75)
وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 67-68) وقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37) قالت عائشة: لو كان
للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئًا من القرآن لكتم هذه الآية.
وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَاّ يَزَّكَّى *
وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَاّ} (عبس: 1-11)
وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا
تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28) الآية، وقوله تعالى في
معناها: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ
حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 52) نزلت هذه الآيات الأخيرة في إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى
العناية بفقراء المؤمنين وعدم المبالاة بأغنياء قريش وكبرائهم الذين كانوا يحتقرونهم،
وكان من اجتهاده صلى الله عليه وسلم أن يستميلهم لظنه أنهم إذا آمنوا لا يلبث
جمهور العرب أن يقتدي بهم.
(هـ) عُلِمَ من هذا القرآن أيضًا أنه كان حين يأتيه الوحي يخاف أن يتفلت
منه شيء فلا يحفظه فيعجل بتلاوته ليحفظه فخوطب حين عرض له هذا في أثناء
نزول سورة القيامة بقوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) فكفل
له ربه جمعه له بالحفظ، وأن يقرأه كما ألقي إليه لا يفوته منه شيء، كما ضمن له
عدم نسيان شيء منه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ
وَمَا يَخْفَى *} (الأعلى: 6-8) أي أنا قد عصمناك من نسيان شيء مما نُقْرِئك
إياه بتلقين الملك، لكن إن شاء الله أن تنسى شيئًا فإنك إنما تنساه؛ لأنه تعالى هو
الذي شاء ذلك لحكمة له فيه، لا لضعفك عن الحفظ وعروض النسيان الذي تخشاه،
وقد عصمك الله منه، وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على أنه تعالى شاء أن ينسى
شيئًا منه بل هو كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَلَا
أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} (الأنعام: 80) وقيل: إن
الاستثناء لتوكيد النفي، وقيل: إنه لما أراد نسخه.
(و) إنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ ما يُلْقَى إليه من القرآن بنصه
وعبارته كما أمر فيه لا بمعناه كوحي الإلهام وما يلقيه الملك في روعه، فيجمع بين
الأمر بالقول ومقوله المراد منه مثل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) ولكنه
عندما كان صلى الله عليه وسلم يريد تبليغ المعنى في أثناء كلامه الذي لم يقصد به
تلاوة القرآن يذكر مقول القول كالذي تراه في كتابه إلى هرقل قيصر الروم وغيره
وهو (ويا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً) إلخ، ونص الآية:{قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا} (آل عمران: 64) إلخ.
(ز) ليتأمل القارئ قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ
لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل
لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (يونس: 15-16) .
(ح) قد اشتمل هذا الكتاب على تحدي العرب وغيرهم به وصرَّح فيه بأن
جميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله في جملته، وبسورة من مثله، واستدل
النبي بذلك على كونه من عند الله تعالى لا من عنده، فظهر عجز العرب ثم عجز
غيرهم عن ذلك كما بيناه في الكلام على إعجازه بلغته وأسلوبه ونظمه [3] وأعجازه
بتأثيره، وما أحدثه من الثورة العربية والانقلاب العالمي [4] ولم يكن شيء من هذا
في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذاتية، ولا من استعداده الذي تدل عليه
سيرته في شبابه.
(ط) إنه قد نقل عنه صلى الله عليه وسلم بأصح الروايات التي تواتر خبر
بعضها أنه كان يبطئ عليه الوحي أحيانًا، فيضيق صدره ويشق عليه حتى قال
المشركون مرة: إن ربه (وقالت امرأة منهم: إن شيطانه) ودعه أي تركه وقلاه أي
أبغضه، فأنزل الله تعالى عليه:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 3)
وحتى كان يرجئ جواب السائلين والمستفتين انتظارًا له، وكان أكبر العبر وأوضح
الدلائل على ما نريد هنا من هذه المسألة ما كان في قصة الإفك؛ إذ أذاع زعيم
المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول قذف السيدة عائشة أم المؤمنين، وأحظى
الأزواج المطهرات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاحشة، وصدق خبره
بعض المؤمنين وتحدثوا به، وقد كان كل ما ابتلي به من إفك المنافقين والكافرين
دون هذه الحادثة إيلامًا له، حتى استشار من استشار في فراقها على علو مكانة
أبيها عنده، وسأل جاريتها بريرة هل رأت منها ما يريبها فحلفت إنها ما رأت ولا
علمت قط ما يريبها فيها، وكانت عائشة تبكي ليلاً ونهارًا ما يرقأ لها دمع وهي
موقنة أن الله سيبرئها قالت: ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيًا
يُتَْلَى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ كلامًا يُتْلَى. ومكث صلى
الله عليه وسلم شهرًا لا يوحى إليه حكمة منه تعالى، ثم نزلت آيات براءتها
المعروفة في سورة النور، فلو كان لاستعداده الشخصي صلى الله عليه وسلم تأثير
في نزول الوحي عليه، أو لو كان الوحي نابعًا من نفسه من اعتقاد أنه من الله
تعالى كما زعم الزاعمون لما أبطأ عليه في هذه الحادثة، بل الكارثة العظمى.
(ي) تقدم أصح الأحاديث المرفوعة في نزول الوحي عليه صلى الله عليه
وسلم ورعبه منه في أول الأمر وأنه كانت تتغير حاله حتى يتفصد عرقًا في اليوم
الشديد البرد، وأن وزنه كان يزيد في تلك الحال، وقد بيَّنا أن ذلك من تأثير غلبة
الروحانية عليه باتصاله بجبريل الروح الأمين. وكان أصحابه يعرفون حين ينزل
عليه الوحي وهو معهم. قال عبادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه
الوحي كرب لذلك وتربد وجهه. رواه مسلم. وفي حديث الصحيحين والنسائي أن
يعلى بن أمية كان يقول لعمر: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل
عليه الوحي فلما كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أُظِلَّ به عليه جاءه الوحي فأشار
عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو صلى الله عليه وسلم
مُحْمَر الوجه يغط لذلك ساعة (أي مدة قليلة) ثم سُرِّيَ عنه ا. هـ باختصار.
تأول هذا أعداؤه صلى الله عليه وسلم من الإفرنج وتلاميذهم بأنه كان يعرض
له نوبات عصبية وتشنجات (هستيرية) وما أبعد الفرق بين حاله تلك، وحالة
أولي الأمراض العصبية في المزاج فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً
ولعله إلى الدموي العضلي أقرب، وفي أعراضها وآثارها ونتائجها، فذو النوبة
العصبية يعرض له في أثرها من الضعف والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو
الشامت، وأما صاحب تلك الحالة الروحانية العليا، فكان يتلو عقب فصمها
وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه
إعجازه اللفظي والمعنوي، وما فيه من علم الغيب والحكمة والتشريع الذي لم
يعرف البشر له مثلا عن حكمائهم ولا عن أنبيائهم، ولا يُرْجَى أن يعرفوا له نظيرًا
في سائر أجيالهم؛ لأنه هو الذي ختم الله تعالى به النبوة وتعليم الوحي الأعلى،
ونحن لا نزال نتحدى به بقية البشر أن يأتوا بمثله، كما تحداهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم في عصره، وإنما المجنون بغروره وتعصبه يُسَمِّي هذا الكمال
العلمي الإصلاحي جنونًا، إلا أن يجعل الجنون من أسماء الأضداد، أو يجعل اسمًا
لما فوق الإنسانية ودون الربوبية من الكمال.
(ك) قد عُلِمَ مما ذكرنا من علوم القرآن، ومقاصده في ترقية نوع الإنسان،
أنه لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يدري شيئًا من مباديها، ولا من حاجة البشر
إليها، فضلا عن وسائلها وفروعها في العبادات الروحية الصحية الاجتماعية
والسياسية والإدارة، فمسألة الطهارة الإسلامية وحدها تدمغ أوربة في وثنيتها
ونصرانيتها وفلسفتها.
فنتيجة هذه المقدمات الإحدى عشرة أن القرآن وحيٌ من الله تعالى ليس
لاستعداد محمد النفسي ولا التاريخي ولا اللغوي فيه شيء ما، وما كان إلا مُبَلِّغًا له
كما تَلَقَّاه وليس معنى كونه كلام الله أن لله فمًا ولسانًا نطق به، ولا أنه تمثل رجلا
فتكلم كما في التوراة وإنما معناه عندنا أنه تعليم من الله بصفة خاصة كما قال:
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: 1-2) وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 193-195)
فكلام الله عندنا صفة من صفات كماله كعلمه إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات
للعالم ووظيفة الكلام كشفها لمن شاء بما شاء، فالبشر يبلغون كلامهم النفسي بنطق
اللسان وبالقلم وبالإشارات وبالآلات، والله تعالى يبلغه بالوحي الذي لا يعرفه إلا
الملائكة والأنبياء.
_________
(1)
كداروين الذي استغرق جمعه لمواد كتابه: أصل الأنواع ثلاثين سنة، ودانتي شاعر إيطالية وقد ظهر نبوغه بعد اشتغال طويل في الشعر ومادته، وآينشتين العالم الألماني المعاصر، وقد تقرر مذهبه في النسبية بعد اشتغاله في العلوم الرياضية والفلك من سن الصبا.
(2)
راجع ص 332 من مجلد المنار 32.
(3)
راجع (آية الله الكبرى) في ص 481 من المجلد 32.
(4)
راجع ص 484 - 490 منه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أصول الدعوة المحمدية ومقاصدها العامة
(التي أجملناها من قبل في إحدى عشرة مقدمة
نلخصها للتذكير وبيان نتيجتها)
(1)
إصلاح ما أفسده أهل الكتاب المعروف تاريخهم في الجملة ومن سبقهم
من أتباع الأنبياء الأقدمين بالأولى من أركان الإصلاح الديني الإلهي الثلاثة، وهي
الإيمان بالله، والإيمان بالبعث والجزاء، والعلم الصالح الذي تتزكى به الأنفس
البشرية، فأنَّى لرجل أمي أن يعلم هذه الأصول وما أفسد أتباع الأنبياء منها ويستقل
عقله بما أشرنا إليه من إصلاحه المعقول الموافق للفطرة البشرية؟ بل كان يعجز
عن ذلك جميع المتكلين والحكماء الراسخين من تلك الأمم.
(2)
بيان ما كان يجهله البشر من حقيقة النبوة والرسالة ووظائف الرسل
عليهم الصلاة والسلام، وفيه بحث مستفيض في حقيقة الآيات الكونية التي أيدهم
الله بها وما يشبهها من خارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها.
(3)
بيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة، والعقل والفكر، والعلم والحكمة
والبرهان والحجة، والضمير والوجدان، والحرية والاستقلال، والشواهد على هذه
الأصول لترقية نوع الإنسان وبلوغه بها سن الرشد من آيات القرآن، ولا تزال
فلسفة جميع البشر القديمة والحديثة قاصرة عن تشريع يحتوي هذه الأصول كلها،
وما جاء في القرآن من فروعها أو شروط التحقق بها.
(4)
الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي وتحقيقه بالوحدات الثماني:
وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع بالمساواة في
العدل، وحدة الأخوة والمساواة في التعبد، وحدة الجنسية السياسية الدولية، وحدة
القضاء، وحدة اللغة، ولم يأت بهذه الوحدات البشرية في ذلك كله ولا في أكثره
دين ولا تشريع إلا دين القرآن وهدي محمد عليه الصلاة والسلام.
(5)
المزايا العشر للتكاليف الشخصية في الإسلام وهي الجمع فيها بين
حقوق الروح والجسد وكون الغاية منها سعادة الدنيا والآخرة معًا، وكونها يسرًا لا
حرج فيها ولا عسر ولا إرهاق، وكونها قصدًا واعتدالاً في كل أمر، لا غلو بها
ولا إسراف، ولا سيما الزينة والطيبات، وكونها معقولة سهلة الفهم، واشتمالها
على العزيمة والرخصة، وكونها مراعًى فيها درجات البشر في العقل والفهم وعلو
الهمة وضعفها، وبناء المعاملات فيها على الظواهر دون البواطن، وبناء العبادات
فيها على الاتِّباع دون الابتداع، حتى لا يكون فيها تحكم للآراء والرياسات.
(6)
بيان أن حكم الإسلام السياسي الدولي قائم على أساس سلطة الأمة
واجتهاد أولي الأمر على أساس درء المفاسد ومراعاة المصالح والشورى، والعدل
المطلق والمساواة فيه، وحصر الظلم، ومراعاة الفضائل في الأحكام، ولم يوجد
في الدنيا دولة ولا حكومة تساوي الإسلام في ذلك، وفي هذا البحث عدة أصول
وقواعد.
(7)
الإصلاح المالي من جميع النواحي التعبدية والأدبية والخلقية
والاجتماعية والدولية بما لو اتبعته الدول والأمم لما وجد في الدنيا فَقْر مُدْقِع، ولا
غُرْم مُفْجِع، ولا بَلْشَفِيَّة باغية، ولا رأسمالية طاغية، ولا طمع يهودي، ولا زهد
مسيحي، ولا تقشف هندي ولا بغي إفرنجي، ولا تعطيل مصلحة عامة، ولا
إرهاق منفعة خاصة، وإذًا لاستغنى البشر به عن الاشتراكية المعتدلة؛ لأنه
الاشتراكية المثلى.
(8)
إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر،
وفيه قواعد مؤيدة بشواهد الآيات البينات المثبتة أن دين الإسلام هو وحده دين
السلام، وأن شرور الحروب وطغيانها وتأريثها للعداوات بين البشر لا يمكن
درؤها إلا باتباع قواعده في قصر الحرب على الدفاع ومنع الاعتداء، وإيثار السلم
على القتال، والصلح على الخصام، ومراعاة الحق والعدل في المعاهدات،
وخلوها من الدخَل الذي يفسدها بجعلها حجة لغلب أمة على أمة، وإرهاق دولة
لدولة، وقد أوردنا فيه بضع قواعد، مؤيدة بالنصوص والشواهد.
(9)
إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية من زوجية
ومالية وغيرها وتكريمهن واحترامهن، وهو ما لم يوجد في دين، ولا قانون سابق
ولا لاحق.
(10)
تحرير الرقيق ورفع الظلم والإهانة عنه وتشريع الوسائل لمنع
تجديده، وإيجاب الإحسان إليه، إلى أن يتم تحريره وإبطاله.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي
تلك عقائد دين محمد، وقواعد تشريعه، وأصول إصلاحه الاجتماعي
والسياسي، مسرودة بالإجمال، مُؤَيَّدَة بشواهدها من آيات القرآن، مجردة من حلل
المبالغات الخطابية، وعاطلة من حلي الخلابة الشعرية، ونحن المسلمين نتحدى
الفلاسفة والمؤرخين من جميع الأمم، ولا سيما أحرار الإفرنج، بأن يأتونا بمثلها أو
بما يقرب منها من تاريخ أعظم الأنبياء، وأشهر الحكماء، وأبلغ الأدباء، وأنبغ
ساسة الأولين والآخرين، مع صرف النظر عن كونه كان كما شرحنا أميًّا نشأ في
الأميين، وجاء بذلك كله بعد استكمال سن الأربعين، وقد بيَّنا الفرق العظيم بينه
وبين موسى وعيسى أعظم أنبياء بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(التنفيذ العملي)
وأما تنفيذه صلى الله عليه وسلم لهذه التعاليم فقد تم في عشر سنين من تاريخ
الهجرة الذي كان بدء حياة الحرية، وقد ظل يدعو إلى أصولها المجملة عشر سنين
أولا بالسر، ثم بالجهر، مع احتمال الاضطهاد والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل
والنفي، الذي اضطر المؤمنين إلى هجرة بعد هجرة، وبعد الهجرة العامة بالتبع له،
كانوا في حالة حرب وقتال مع المشركين كافة، وكذا أهل الكتاب وكان صلى الله
عليه وسلم عقد معهم معاهدة بتأمينهم على دينهم وأنفسهم وأموالهم بشرط ألا
يظاهروا المشركين عليه، فنقضوا عهده، وظل المسلمون مدة ست سنين مدافعين
عن أنفسهم في كل قتال دفاع الضعيف المؤيد من الله للأقوياء المخذولين، وفي
أواخر السادسة عقد معاهدة الحديبية مع المشركين على وضع القتال عشر سنين،
ثم غدر المشركون ونقضوا العهد، فعادت حالة الحرب، وفتح المسلمون مكة
عاصمة قريش الدينية والدنيوية، ومثابة جميع الأمة العربية في سنة ثمان من
الهجرة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في آخر سنة عشر، وأنزل
الله تعالى عليه فيها: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
ففي عشر سنين وقع توحيد الأمة العربية التي كانت أعرق أمم الأرض في
الشقاق والتفرق والعداء، وإنما كان ذلك بتأثير كتاب الله وتأييده عز وجل لرسوله
كما قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:
62-
63) وبما أعده تعالى له من مكارم الأخلاق وما وفقه وأرشده إليه من حسن
السياسة المبينة في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: 159) الآية. وذلك أن العرب كانت أعصى خلق الله على الخضوع
والطاعة والانقياد لعراقتهم في الحرية، وشدة بأسهم، وعدم وجود الملوك المستبدين
القاهرين والرؤساء الروحيين المسيطرين فيهم.
فليدلنا علماء التاريخ العام على نبي من الأنبياء، أو حكيم من الحكماء، أو
ملك من الملوك الفاتحين والمشترعين، رَبَّى أمة من الأمم في عشر سنين، فجعلهم
أهلا لفتح الأمصار، والسيادة على الأمم الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة،
وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة
التي علَّمَها وهذَّبَها ووحَّدها رجل واحد كالأمة الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة،
وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة
التي علَّمها وهذبها ووحَّدها رجل واحد كالأمة العربية في أميتها وجاهليتها وتفرقها
وتعاديها ومرور القرون عليها وهي تتوارث هذه الصفات، فأين الوحدة الجرمانية
والوحدة الطليانية في عصر العلوم والفنون والفلسفة والقوانين ونظم الاجتماع
والحرب، من الوحدة العربية المحمدية في عهد الأمية والجاهلية؟ بل أين الوحدة
الإسرائيلية في عهد الآيات والعجائب الكونية من الوحدة العربية الخاصة، ثم
الوحدة الإسلامية العامة في عهد آيات القرآن وعلومه الإلهية وبيان السنة المحمدية
لها؟
ثم نفذ ذلك التشريع الأعلى، والهداية المثلى، خلفاء محمد الراشدون، وكثير
من ملوك المسلمين الصالحين، بما شهد لهم به تاريخهم، واعترف لهم به
المؤرخون المنصفون من الإفرنج وغيرهم، بأنهم جدَّدوا بهما الحضارة الإنسانية
ورقوها، وأحيوا العلوم والفنون الميتة وهذبوها واستثمروها، وكانوا أساتذة جميع
من جاء بعدهم فيها.
ثم كان من قوة هذا الدين ومتانته أَنْ عَادَتْهُ جميع أمم الإفرنج وحاربته بجميع
قواتها الصليبية، الهمجية منها والمدنية، ثم بعلومها وفنونها ونظمها المدهشة، ولا
تزال تحاربه وتبذل الملايين لتحويل أهله عنه، بعد زوال قوة دوله، وغلبة الجهل
على شعوبه، ولم تستطع أن ترد رجلاً واحدًا عنه قد كان عرفه. أفما آن لها أن
تعقل أنها لو اعترفت له بحقه، لأمكنها أن تصلح العالم كله به؟ ؟
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النتيجة
المقصود بالذات
قيام الحجة البالغة على ثبوت نبوة محمد العامة
إذا عجز حكماء هذا العصر وعلماء الحياة والاجتماع والأخلاق والمؤرخون
من أحرار الإفرنج وغيرهم عن إخبارنا بوجود رجل مثل محمد فيما علم من تاريخه
المعروف المشهور جاء بمثل هذا القرآن في خصائصه ولا سيما التعاليم التي
لخصنا كلياتها في هذا البحث، وقدر أن ينفذها ويربي بها أمة كالأمة العربية يكون
لها بها من الأثر الديني والمدني في العالم مثل أثرها وإنهم لعاجزون عن ذلك قطعًا -
أفلا يكون عجزهم هذا برهانًا على أن دين محمد وكتاب محمد وهدي محمد وتربية
محمد للأمة العربية من خوارق العادات.
وإذا كان هذا حقًّا واقعًا ما له من دافع، فما المانع من عد هذه التعاليم وحيًا
من رب العالمين، العليم الحكيم؟ وما معنى كونها وحيًا إلا أنها علم أفاضه الله
تعالى على روح محمد وقلبه، بطريقة خفية غير طرق العلم الكسبية المعروفة
للبشر عامة، وفوق الإلهامات القليلة التي تؤثر عن بعض الخاصة؟ وما معنى
كونها معجزة إلا أنها جاءت على غير المعهود في علم البشر الكسبي، وخلاف
المقرر في علم النفس والفلسفة العقلية وسنن الاجتماع، وتواريخ الأمم، وسير
الحكماء والعلماء والملوك، وفوق المعروف عن الأنبياء أيضًا، وإن كانت من
جنسها، فالأنبياء قد أنبئوا ببعض الغيوب الحاضرة في عصرهم والتي تأتي بعدهم
وأنبأ محمد (صلوات الله عليه وعليهم) بمثلها وبغيوب سابقة كانت قبل نبوته
بقرون، ولكن لم يجئ أحد منهم بمثل ما تقدم إجماله في المقاصد العشرة العالية من
العلم والحكمة والتشريع.
قد بيَّنا لكم أيها العقلاء الأحرار بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم من العلل والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي
الأعلى، والتشريع المدني الأسمى، والحكمة الأدبية المثلى من استعداده الشخصي،
وما اقتبسه من بيئته ومن أسفاره، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً،
وعلمتم أن بعض ما قالوه افتراء على التاريخ، وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما
ادعوه، وعلمتم أنه في جملته مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر وسنن الاجتماع
ووقائع التاريخ.
ونحن نتحداكم الآن بالإتيان بعِلَل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي
الله تعالى وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه علل يقبلها
ميزان العقل المسمى بعلم المنطق، وما ثبت عندكم في هذا العهد من علم النفس
وعلم الاجتماع وحوادث التاريخ وفلسفته.
فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول، وتؤيدها النقول،
فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وبكتابه
المنزل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر، وأن تتولوا الدعوة إلى هذا الإيمان،
ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به، بعد أن عجزت علومكم الواسعة، وفلسفتكم
الدقيقة عن وقف سريان عدوى فساد الإباحة وعبادة الشهوات وفوضى الأفكار في
الأمم، وعجزت عن منع دول حضارتكم أن تنفق معظم أموالها المنتزعة من
شعوبها ومستعمراتها في الاستعداد لحرب البغي والعدوان المدمرة، وتأريث
العداوات بين شعوب الأرض كافة، فقد كان غاية شوط هذه العلوم الواسعة عند هذه
الدول أعظم نكبة على البشر، وأنتم أيها العلماء لم تقصدوا إلا أن تكون نعمة تتم
بها سعادة البشر.
ألا أنه قد ثبت بالحس والعيان أن العلم البشري وحده لا يُصْلِح أنفس البشر؛
لأنهم لا يخالفون أهواءهم وشهواتهم الشخصية والقومية باتِّباع آراء أفراد منهم،
وإنما يدينون بوازع الفطرة، لما هو فوق معارفهم البشرية وهو ما يأتيهم من ربهم،
ولا يوجد في الأرض دين عام كامل صحيح ثابت إلا دين الإسلام، وقد بيَّنا لكم
أصول تشريعه الروحي والسياسي والاجتماعي الصالح لكل زمان ومكان، وأنه دين
السلام والحق والعدل والمساواة التي تعطي كل شعب وكل فرد حقه، وبها وحدها
يمكن البرء من الأدواء المالية والسياسية والحربية والاجتماعية كلها.
قد دعا بعض العلماء منكم إلى عقد مؤتمر من كبار علماء الشعوب كلها للبحث
في الوسائل التي يمكن أن تقي حضارة العصر من الدمار، ولئن عقد هذا المؤتمر
فلن يكون أمثل ولا أرجى من هذه المؤتمرات التي تعقدها الدول في جامعة الأمم
وعواصم السياسة وهي لما تزد الأدواء إلا إعضالا، والأخطار إلا تفاقمًا، وإنما
الدواء الواقي المضمون بين أيديهم وهم لا يبصرون، وحجته البينة تناديهم ولكنهم
لا يسمعون: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 23) .
* * *
سؤال علماء الإفرنج
عن شبهاتهم على الدعوة المحمدية
(بعد تبليغهم لحقيقتها، ومكان أخبار القرآن منها)
وأما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار، فالمرجو منكم أن تسمعوا
وتبصروا، وأن تعلموا فتعملوا، ولكن دعوة القرآن لم تبلغكم حقيقتها على الوجه
الصحيح الذي يحرك إلى النظر؛ لأن الإسلام ليس له زعامة ولا جمعيات تبث
دعوته، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ حضارته، بل صار المسلمون في جملتهم حجة
على الإسلام وحجابًا دون حقيقته، وأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في بلوغ
الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا العصر، فإن ظهر لكم بها الحق فذلك ما
نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها، وإن عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم
للعلم، وحرصكم على استبانة الحق، أن تشرحوها لنا لنعرض عليكم جوابنا عنها،
والحقيقة بنت البحث كما تعلمون.
ولا أراكم تعدون من الشبهات الصادَّة عنه (بعد أن ثبتت أصوله بما ذكرنا،
أن فيه أخبارًا عن عالم الغيب لا دليل عليها عندكم، فإنما مصدر الدين عالم الغيب)
ولو كان مما يعلمه البشر بكسبهم لما كانوا في حاجة إلى تلقيه من الوحي، وقد
بيَّنا أن تعاليم الإسلام قد أثبتت أنها وحي من عالم الغيب وقامت برهانًا على وجود
الله وعلمه وحكمته، فوجب أن تؤخذ أخباره بالتسليم، وحسبكم أنه ليس في القرآن
منها ما يقوم البرهان على استحالته.
وأما أخبار القرآن عن عالم الغيب والشهادة من تكوين وتاريخ فمن معجزاته
الإيجابية أنه جاء فيه كثير من التعبيرات التي كشف العلم والتاريخ في القرون
الأخيرة من معانيها ما لم يكن يخطر في بال أحد من أهل العصر الذي نزل فيه كما
أنه لم يثبت على توالي القرون بعد نزوله شيء قطعي ينقض شيئًا من أخباره
القطعية، على أن أخباره هذه إنما جاءت لأجل الموعظة والعبرة والتهذيب، ويكفي
في هذا أن تكون الأخبار على المألوف عند الناس، ولا ينتقد عليها إذا لم تشرح
الحقائق الفنية والوقائع؛ لأنها ليست مما يبعث الرسل لبيانه، ولا يمكن الوقوف
عليها إلا بالتعمق في العلم أو الاستعانة بالآلات التي لم تكن معروفة عند المخاطبين
الأولين بالكتاب، بل لا يصح أن يأتي فيها ما يجزمون بإنكاره بحسب حالتهم
العلمية لئلا يكون فتنة لهم، وقد قال نبي الإنسانية العام:(أنتم أعلم بأمور دنياكم)
رواه مسلم في صحيحه.
ومن دقائق تعبير القرآن في النوع الأول أن مادة الخلق (دخان) وهو عين
ما يسمى السديم، وأن السموات والأرض كانتا رتقًا، أي مادة واحدة متصلة ففتقهما
الله وجعل كلا منهما خلقًا مستقلا، وأنه جعل من الماء كل شيء حي، وأنه خلق
جميع الأحياء النباتية والحيوانية أزواجًا فجعل في كل منها ذكرًا وأنثى، وأنه جعل
كل نبات موزونًا، وأنه أرسل الرياح لواقح وأمثال ذلك كثير.
وأعجب منه بيان كثير من سنن الاجتماع البشري التي لم يهتد البشر إليها
بالبحث العلمي التدريجي إلا عدة قرون فمن المناسب لهذا وما سبقه من عجائب
القرآن أن أختم هذا البحث كله بقوله عز وجل:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ} (فصلت: 52) * {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ
رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) (صدق الله العظيم، وبلَّغ
رسوله الكريم، والحمد لله رب العالمين)
* * *
الشبهات على القرآن
ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام
كنت عازمًا على إتباع هذا البحث ببيان ما لعلماء هذا العصر من الشبهات
على القرآن العظيم ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأجوبة عنها، وكتبت من
ذلك شبهة موسيو درمنغام صاحب كتاب (حياة محمد) على مسألة الصلب والفداء.
ثم بدا لي أن أكتب في هذا رسالة مستقلة ألخص فيها ما سبق لي نشره في مجلة
المنار وتفسيرها، ومنه ما طبع مستقلا كرسالة (عقيدة الصلب والفداء) وأزيد
عليه ما أقف عليه بعد نشر هذا البحث، والله الموفق وهو المستعان.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطبة الملك السعودي في حجاج هذا العام
(في 5 ذي الحجة سنة 1351 وحضرها ألف أو يزيدون)
الملك عبد العزيز آل سعود خطيب مُفَوَّهٌ، واعظ ديني مُكْثِر، وقد خلت
القرون ولم ير المسلمون ملكًا ولا أميرًا خطيبًا واعظًا، وهو في كل موسم من
مواسم الحج يدعو كل من يزور جلالته بمكة المكرمة من حجاج الأقطار الممتازين
بالعلم والأدب والوجاهة الرسمية وغير الرسمية إلى مأدبة كبيرة في قصره فيلقي
عليهم في أثنائها خطابًا حافلاً بالوصايا الدينية والسياسية، ويسمح لمن يشاء منهم
بالكلام والخطابة في المصالح الإسلامية العامة، فيكون هذا الاجتماع بما يكون فيه
من التعارف بين كبراء المسلمين من أهم فوائد موسم الحج التي كان يتمناها
عقلاؤهم منذ بدء اليقظة الحديثة، وكانت متعذرة قبل عهد الدولة العربية السعودية.
وقد كانت خطبة هذا الموسم ممتازة بأنه صرح فيها بما يدل على توجه عزمه
إلى النهوض بخدمة جديدة للإسلام، وخدمة أخرى مثلها للأمة العربية.
لهذا رأيت أن أنشر جُلَّها في المنار؛ لأجل تعميم فائدتها ومطالبة جلالته
بتنفيذها (قال الملك بعد مقدمة في فضل الإسلام، وسوء حال المسلمين عامة
والعرب خاصة)
(فإذا أراد العرب إعادة مجدهم القديم فما عليهم إلا أن يعتصموا بحبل الله،
وأن يتمسكوا بما أمر الله به، أما الإدعاء بأن الأغيار هم سبب هذه الفُرْقَة، وهذا
التخاذل فما هو بصحيح؛ لأن المسلمين والعرب إذا كانوا في منعة من التعاضُد
والتكاتف فليس هناك من قوة في مقدورها مهاجمتهم وإذلالهم. يقول المسلمون
والعرب: إن أسباب ضعفنا هو عدم سيرنا في الطريق التي سار عليها الغربيون
في تمدينهم وحضارتهم، وأن دساتيرهم أي الغربيين وأنظمتهم هي الكفيلة بتمديننا
وتقويتنا، وهذا من أسخف الأقوال التي لا يزال يثيرها بعض الكُتَّاب والخطباء
ويلوكونها بألسنتهم، يظن هؤلاء الناس أن حرية الغربيين ودساتيرهم كفيلة
بإسعاد الناس أكثر مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، وهذا خطأ فاضح، فإن
الدين الإسلامي قد كفل المساواة بين كافة المسلمين وآخى بينهم أكثر مما جاء في
الدساتير الغربية، وأية مساواة أعظم من تلك المساواة التي جاء بها الإسلام فلم
يجعل فوارق في الحقوق بين الملك والصعلوك، ولم يفضل أحدهم على الآخر إلا
بالتقوى، فالمسلمون لا ينقصهم إلا الرجوع إلى عبادة الله وحده، عبادة خالصة
لوجه الله، فإذا عبدنا الله جل وعلا حق عبادته زالت الضغائن من قلوبنا فتوحدت
نفوسنا، وسرت روح التآخي والتحابب بيننا.
(إن مصائبنا من أنفسنا؛ لأننا نحن أعداء أنفسنا، والأغيار لم يقدروا على
إذلالنا إلا بعد أن رأوا منا العداوة لبعضنا، فاللوم واقع - والحالة هذه - علينا لا
عليهم، لذلك يجب أن نصلح أنفسنا، وأن نطهرها من الأضغان العالقة بها، وأن
نكون مسلمين حقًّا، إذا كنا نريد النهوض والخلاص، وأن نعتصم بحبل الله جميعًا
فنترك كل المنهيات والمنكرات، إذا رغبنا في النجاح والفلاح) .
(يجب أن يُعْنَى كل واحد منا بأمره أولاً وبأمر إخوانه ثانيًا، وأن يبذل جهده
في إصلاح نفسه، وإصلاح إخوانه، وأن نُقَوِّمَ المُعْوَجَّ من أعمالنا وأخلاقنا، وأن
يوجه كل منا مجهوداته نحو هذه الخطة المثلى.
أما أنا فإني أعمل جهد الطاقة في سبيل إعلاء كلمة الدين وإحلال عقيدة السلف
الصالح في نفوس المسلمين والعرب، لذلك:
1-
أنا مبشر أدعو لدين الإسلام ولنشره بين الأقوام.
2-
أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف هي: التمسك بكتاب الله
وسنة رسوله وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها فأرجع
بشأنها لأقوال الأئمة الأربعة فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين.
3-
أنا مسلم وأحب جمع كلمة الإسلام وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة
المسلمين ولو على يد عبد حبشي، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي ضحية
في سبيل ذلك.
4-
أنا عربي وأحب عز قومي، والتآلف بينهم، وتوحيد كلمتهم، وأبذل في
ذلك مجهوداتي، ولا أتأخر عن القيام بكل ما فيه المصلحة للعرب وما يوحد أشتاتهم،
ويجمع كلمتهم.
5-
أنا مسالم ومدافع، أنا مسالم للناس وأحب النصيحة قبل كل شيء؛ لأن
الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأنا مدافع لأنني ما حاولت
في وقت من الأوقات أن أعتدي على إخواني وأبناء قومي وكنت في كل وقت أقابل
ما يصدر إليَّ منهم من إساءة أو خطيئة بصدر رحب على أمل أن يرجعوا إلى
الصواب، ولكنني إذا رأيت تماديًا في الغي والإساءة اضطر حينئذ للدفاع.
(إن السلف الصالح هم قدوة المسلمين، وخير قدوة، وما رفعهم إلى ذلك إلا
خصلتان: التمسك بكتاب الله وما جاء به رسول الله، والصدق والتضحية في
سبيل الله) .
2-
الصبر على القضاء والشكر على العطاء. وكلاهما من الله تعالى، ونحن
اليوم نحمد الله على أن كل ما نسمعه من المسلمين والعرب يشجع ونرجو أن ينبت
نباتًا حسنًا، والإنسان الطيب هو الذي يقتدي بالسلف الصالح في عبادة ربه،
وبالصدق والتضحية والصبر والشكر، والمسلمون ينقصهم معرفة الزعماء
والأشخاص ونفسياتهم، فإن هنالك أشخاصًا من المسلمين يتظاهرون بالغيرة
والتضحية، وهم في حقيقة الأمر على عكس ذلك يتظاهرون بالغيرة ويسعون في
الخفاء لتنفيذ مآربهم الشخصية والتجسس على أحوال إخوانهم، وهذا أمر يؤسف له؛
لأن الأضرار التي لحقت المسلمين والعرب جاءت عن هذه الطريقة) .
(الإسلام عزيز علينا جميعًا ورهبته في قلوب أعدائه كبيرة، فواجب المسلم
اليوم في كل مكان أن يقوم بالدعوة إلى عبادة الله عبادة خالصة، وأن يسعى
لإصلاح شؤون المسلمين إصلاحًا حقيقيًّا لا نظريًّا، وأن يكون كل ذلك بالطرق
المفيدة المنتجة؛ لأن هنالك طرقًا أخرى تَضُرُّ بالمسلمين والعرب أكثر مما تنفعهم
إذا اتَّبَعْنَاهَا، وإنني لعلى يقين بأن فريقًا كبيرًا من الأغيار لا يريدون الضرر
بالإسلام والعرب، ولكن ويا للأسف إن فريقًا من المسلمين يشجعون أولئك على
إيذاء المسلمين، إذًا فالضرر منا وعلينا، ولا عتاب على الأغيار من ذلك.
(لقد تفشى الجهل، وساد التخاذل بين المسلمين، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه
من الحالة الراهنة التي تعرفونها، ولم يبق من الدين إلا اسمه، وتفرقنا أيدي سبا،
وأصبح المسلمون فِرَقًا وشِيَعًا. أما أولئك الذين يُطَبِّلون ويُزَمِّرُونَ لحضارة الغرب
ومدنيته ويريدون منا أن ننزل عندها فنتمثلها في بلادنا وبين أقوامنا فإننا نسوق
إليهم الحديث بتوجيه أنظارهم إلى هذه الأزمة الخانقة، وإلى هذا التبلبل السياسي،
وإلى هذه الفوضى الاجتماعية السائدة في تلك البلاد، فإن نظرة واحدة لمن يتدبر
هذه الأوضاع السائدة في هذه الأيام يلمس فساد تلك النظريات المتسلطة على عقول
السُّذَّج من المسلمين ومن العرب.
أما المسائل الصناعية والزراعية، فإن أوامر الله تعالى ونبيه بالأخذ بها
صريحة، وكذلك في أعمال رجال السلف الصالح أكبر دليل على العناية بها،
والأخذ بأسبابها ولذلك فالقول بأن الصناعة والزراعة من نتائج الحضارة الغربية
وحدها ليس بصحيح، وكذلك الطيارات والدبابات والمدافع، والأعتاد الحربية التي
تدافع بها الأمم عن نفسها وتذود بها عن حِيَاضها هي من الأعمال الصناعية أيضًا،
ومما أمر الله بها صراحة فقال في كتابه العزيز: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ
وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60) ولذلك يمكنني
أن أقول بأنه لا يوجد في الدنيا مدنية تسعد البشر وتكفل راحتهم أحسن من مدنية
الإسلام، ولا يوجد دستور يكفل حقوق الراعي والرعية وحقوق الناس كافة،
ويؤمن المساواة بين الصغير والكبير وبين الملك والصعلوك وينصف المظلوم من
الظالم كالقرآن الكريم، وما فيه من الآيات المحكمات، وما جاء عن نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم لذلك نحن ننصح المسلمين كافة، والعرب خاصة، وننصح
البشر على الإطلاق للعمل بما جاء في كتاب الله جل علا، وعلى لسان نبيه الكريم
فإن السعادة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا بذلك:
(فريق من المسلمين ينقمون عليَّ لأنني أدعو لعبادة الله عبادة خالصة؛
ولأنهم يريدون أن أرتكب المنهيات فآمر بإقامتها في البلاد، فأنا أبرأ إلى الله من
هذه الدعوة الباطلة، وأفخر بأنني سلفي محمدي على ملة إبراهيم الخليل) .
(دستوري ونظامي وقانوني وشعاري دين محمد صلى الله عليه وسلم، فأما
حياة سعيدة، وإما مِيتَة سعيدة) .
(وهنا نفى عن نفسه دعوى الرياسة على علو نسبه العربي الذي لا يعلوه إلا
نسب آل الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال:
(أنا عربي ومن خيار الأسرة العربية، ولست متطفلاً على الرئاسة والملك،
فإن آبائي وأجدادي معروفون منذ القدم بالرئاسة والملك، ولست ممن يتكئون على
سواعد الغير في النهوض والقيام، وإنما اتكالي على الله، ثم على سواعدنا يتكئ
الآخرون ويستندون) .
(أنا لا أفتش، ولا أسعى للرئاسة، ولا أريد علوًّا في الأرض ولا سعادة،
وإنما يهمني في الدرجة القصوى جعل كلمة الله هي العليا، ولا يهمني في هذا
الشأن ما يعترضني في الطريق من المصاعب والمتاعب) .
(لقد حاربتنا جيوش جرارة في أدوار مختلفة منذ أن قمنا بهذه الدعوة
المباركة، فكان نصيبها -رغم كثرة عديدها وعددها- الفشل والخسران ولله الحمد.
(ماذا يريدون من ابن سعود؟ ماذا عمل ابن سعود؟)
(هذه أعمالي واضحة بينة، أزلت كل شبهة، وأقمت كل معروف، ونهيت
عن كل منكر، وحجتي في ذلك كتاب الله وسنة رسوله) .
(إنني أبرأ إلى الله من كل محرم أن أبيحه، وأبرأ إلى الله من كل منكر أن
آمر به، وأنا على استعداد لمحاججة كل من يريد محاججتي بكتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم (وهاهنا تنصل من دعوى الخلافة وصرَّح بعدم إمكانها ثم قال:
(وإنني أتمنى أن يتم جمع المسلمين وتوحيد كلمتهم، وإنني لعلى استعداد
لأن أكون أنا وأسرتي كجندي بسيط أجاهد في هذا الشأن، ولن أدخر جهدًا في
سبيل توحيد بلادي، وتوحيد كلمة العرب وتأسيس الوحدة بين العرب، وإذا كنت
أنا أسعى في ذلك فلست أريد من وراء ذلك جزاءًا ولا شكورًا، وإنما يهمني وأتمنى
من صميم القلب أن يتم لَمُّ شعث المسلمين وأن يسالم بعضهم بعضًا فيكفون الأذى
عن أنفسهم.
(أنا مسلم عربي، رأست قومي بعد مصاعب طويلة ولا فخر في ذلك؛
الآن ورائي جيوش جرارة لا تقل عن أربعمائة ألف مقاتل، إن بكيت بكوا، وإن
فرحت فرحوا، وإن أمرت نزلوا على إرادتي وأمري، وإن نهيت انتهوا. وهؤلاء
هم جنود التوحيد إخوان من طاع الله، يقاتلون ويجاهدون في سبيل الله ولا يريدون
من وراء ذلك إلا رضاء الباري جل وعلا. وإن هذه القوى هي موقوفة لتأييد
الشريعة ونصرة الإسلام في الديار التي ولاني الله أمرها، أعادي من عادى الله
ورسوله، وأصالح فيها من لا يعادينا ولا يناوئنا بسوء، وإني وجندي جنود في
سبيل جعل كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر. نسأل الله أن يأخذ بيدنا ويوفقنا
لما يحبه ويرضاه. اهـ المراد من هذه الخطبة، وسنعلق عليها في الجزء الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
بدعة الزيادة في الأذان أو عليه
تاريخها ومبتدعها ومنكروها
وادعاء مجلة مشيخة الأزهر شرعيتها
(سئلنا عن هذه الزيادة، فأفتينا في مجلة المنار بأنها بدعة منكرة، وسئلت
عنها مجلة مشيخة الأزهر فأفتت بأنها بدعة حسنة، ورد علينا مفتيها الشيخ يوسف
الدجوي ردًّا ضمَّنَه تلك البهائت السبع المفتريات، التي فضحنا جهله وكذبه فيها بثلاثة
عشر مقالاً متتابعات، وهذا مقال خاص برد شبهاته على بدعة الأذان.
الأذان شعيرة من شعائر الإسلام التعبدية مروي بالتواتر والعلم من عهد
الرسول صلوات الله وسلامه عليه، منقول في جميع كتب السنة وفقه أئمة أهلها ،
معدود الكلمات ، موصوف الأداء ، وكل عبادة هذا شأنها في ثبوتها وصفاتها يجب
فيها الاتباع بلا زيادة ولا نقصان، ولا يقبل فيها رأي أحد بشبهة قياس أو استحسان،
بخلاف العبادات المطلقة من ذكر الله تعالى أو صلاة نافلة غير معينة أو صلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم فكل امرئ مخير في الإكثار منها ما شاء بشرط أن
تكون الصلاة على الصفة المأثورة، وأن لا يلتزم فاعل العبادة المطلقة قيودًا لها من
الزمان أو المكان أو الجهر أو الجماعة تخرجها من دائرة إطلاق الشرع لها وتدخلها
في أعداد ما سماه الإمام الشاطبي بالبدع الإضافية المخرجة لها عن إطلاقها، ولذلك
قال الفقهاء في صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة النصف من شبعان اللتين
اعتادهما بعض العباد: (إنهما بدعتان قبيحتان مذمومتان) كما في المنهاج للنووي
وغيره.
فالعبادات منها ما هو مقيد بعدد أو زمان أو مكان أو وصف فالواجب فيه
التزام القيد المأثور عن الشارع، ومنها ما ورد مطلقًا غير مقيد فيلتزم فيه الإطلاق
والأذان من النوع الأول، فلا يباح أن يزاد فيه ولا عليه ولا أن ينقص منه.
وقد ابتدع فيه الشيعة في مصر وغيرها ما بينه العلامة المقريزي في أوائل
الجزء الرابع من خططه المصرية المشهورة بعد بيان أصله ونصوص السنة فيه،
وقَفَّى على ذلك بإبطال السلطان صلاح الدين لما ابتدعه الفاطميون فيه وإعادته لما
كان عليه من مذهب أهل السنة وما حدث بعد ذلك من الابتداع فيه فقال ما نصه:
(وأما مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبد السلطان
صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر وأزال الدولة الفاطمية في سنة
سبع وستين وخمسمائة، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وعقيدة
الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله فأبطل من الأذان قول (حي على خير العمل)
وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة وفيه تربيع التكبير
وترجيع الشهادتين فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار
مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في مصر فصار يؤذن في بعض
المدارس التي للحنفية بأذان أهل الكوفة وتقام الصلاة أيضا على رأيهم، وما عدا
ذلك فعلى ما قلنا.
إلا أنه في ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو شيء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد
الله البرلسي بعد سنة ستين وسبعمائة، فاستمر إلى أن كان في شعبان سنة إحدى
وتسعين وسبعمائة ومتولي الأمر بديار مصر الأمير منطاش القائم بدولة الملك
الصالح المنصور أمير حاج المعروف بحاجي بن شعبان بن حسين بن محمد بن
قلاون، فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلى الله
عليه وسلم في ليلة جمعة، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه فقال لهم: أتحبون
أن يكون هذا السلام في كل أذان؟ قالوا نعم فبات تلك الليلة وأصبح متواجدًا يزعم
أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وأنه أمره أن يذهب إلى
المحتسب ويبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
في كل أذان، فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبدي
(وكان شيخًا جهولاً، وبلهانًا مهولاً، سَيِّئَ السيرة في الحسبة والقضاء، متهافتًا على
الدرهم ولو قاده إلى البلاء، لا يتحشم من أخذ البرطيل والرشوة. ولا يراعي في
مؤمن إلاًّ ولا ذمة. قد ضَرِيَ على الآثام، وتجسد من أكل الحرام، يرى أن العلم
إرخاء العذبة ولبس الجبة، ويحسب أن رضا الله سبحانه في ضرب العباد بالدرة
وولاية الحسبة. لم تحمد الناس قط أياديه، ولا شكرت أبدًا مساعيه، بل جهالته
شائعة، وقبائح أفعاله ذائعة، أشخص غير مرة إلى مجلس المظالم، وأوقف مع من
أوقف للمحاكمة بين يدي السلطان من أجل عيوب فوادح. حقق فيها شكاته عليه
القوادح، وما زال في السيرة مذمومًا، ومن العامة والخاصة ملومًا) وقال له
رسول الله يأمرك أن تتقدم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا في كل أذان قولهم: (الصلاة
والسلام عليك يا رسول الله) كما يفعل في ليالي الجمع، فأعجب الجاهل هذا القول،
وجهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بعد وفاته، إلا بما يوافق ما
شرعه الله على لسانه في حياته، وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن
الزيادة فيما شرعه حيث يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: 21) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات
الأمور) فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة، وتمت هذه البدعة، واستمرت
إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام، وصارت العامة وأهل الجهالة ترى
أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحل تركه، وأدى ذلك إلى أن زاد بعض أهل
الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين
ماتوا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون) اهـ ما قاله
المقريزي بنصه:
هذا أصل هذه البدعة وسببها، وهو افتراء بعض الدجالين الخرافيين من أهل
الطريق على رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا أمر بها ذلك المحتسب الظالم
الفاجر بتعميمها. وحسبك ما كتبه العلامة المقريزي في إنكارها وتسفيه مبتدعها،
ولعله يعني بما زاده عليها بعض أهل الإلحاد في بعض قرى مصر من السلام على
بعض المعتقدين الذين ماتوا سلامهم على السيد أحمد البدوي. وقد انتقل هذا من
بعض القرى إلى الأمصار حتى القاهرة نفسها، وزيد على السلام عليه نداء السيد
ودعاؤه متصلاً بالأذان أيضًا. فقد سمعت مؤذن الفجر في أول دار سكنتها بمصر
يصيح بعد الأذان: يا شيخ العرب! مع كلمات لم أتبينها. وما كنت أعلم أن هذا
لقب البدوي.
إن شر مفاسد البدعة أنها بطول الزمان تُعْطَى حكم السنة المشروعة، فيعد
فاعلها متبعًا، ومنكرها مبتدعًا، ويخترع أدعياء العلم العلل والشبهات لشرعيتها.
والقاعدة العامة عندهم لإثبات كل بدعة قولهم: (بدعة حسنة) وهو مصادم لنص
الحديث الصحيح الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله على المنبر: (وشر
الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم، وهو مُجْمَع
على معناه في البدع الدينية، وإنما قال من قال من العلماء: إن البدعة تنقسم إلى
حسنة وسيئة في البدعة اللغوية، وهي ما يخترعه الناس ويضعونه من العلوم والفنون
والصناعات والأعمال، والأذان من العبادات التي يلتزم فيها الاتباع بإجماع السلف
والأئمة المجتهدين.
وقد عرَّف العلامة الشاطبي البدعة الدينية في كتابه الاعتصام بأنها (طريقة
في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله
سبحانه) ثم نقل عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: من ابتدع في الإسلام
بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله
يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون
اليوم دينًا. اهـ.
وقد احتج نصير البدع الشيخ يوسف الدجوي على شرعيتها في مجلة مشيخة
الأزهر بما جاء في بعض الأحاديث الواردة في جواب المؤذن وهو (إذا سمعتم
المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ) الحديث هكذا ذكر منه ما وافقه وعزاه
إلى صحيح مسلم - ونزيد عليه أنه رواه أحمد وأصحاب السنن أيضًا إلا ابن ماجه
عن عبد الله بن عمرو - (ثم قال) : وإن المؤذن ممن سمع الأذان وكل من سمع
الأذان طُلِبَ منه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأقول: إن هذا قد ذكره
الفقهاء المتأخرون، وزاد هو عليهم أنه مخير في هذه الصلاة من وصلها بالأذان مع
رفع الصوت وعدمه، وهذه الشبهة مردودة من وجوه:
(أولها) أن من المعلوم بالاختبار أن المؤذنين يقلد بعضهم بعضًا في هذه
الزيادة ولا يقصدون بها اتباع هذا الحديث ولا غيره مما ورد في إجابة المؤذن ويقل
فيهم من يعرفها. وتتمة هذا الحديث: (.... ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في
الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة
حلت عليه الشفاعة) والمؤذنون لا يسألون له الوسيلة، ولم يذكر الشيخ الدجوي
هذه التتمة؛ لأنها تدحض شبهه.
(ثانيها) أن المؤذن لو كان يأتي بهذه الصلاة لإجابة نفسه عملاً بالسنة لأتى
بكل ما ورد في السنة من الأدعية في هذه الإجابة وأشهرها في هذه الإجابة الدعاء
المفسر لطلب الوسيلة في الحديث الذي احتج به، وهو كما في حديث آخر أصح
منه (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة،
آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم
القيامة) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله.
(ثالثها) أن وصلها بالأذن مع رفع الصوت يوهم من لا يعرف السنة فيه
أنها منه، أو أنها مشروعة. وقد قال المقريزي: إن العامة وأهل الجهالة يرون أن
هذه الزيادة من جملة الأذان الذي لا يحل تركه، وأكثر الناس في هذا العصر
يجهلون السنة؛ فلذلك ينكرون على من أذن الأذان الشرعي مقتصرًا عليه، ولم يزد
عليه هذه الصلوات والتسليمات، ويطعنون فيه وفيمن ينكر هذه الزيادة أو العلاوة
بأنه عدو للرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب الشرع، وانعكس الوضع، وصار
الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤذن كما كان يؤذن المؤذنون له ولخلفائه
الراشدين يُعَدُّ عدوًّا له، والمبتدع في ملته، المخالف لسنته، المتبع لذلك الفقير
الخلاط المفتري على النبي صلى الله عليه وسلم وللبرلسي المحتسب الفاسق هو
التقي المتبع له صلى الله عليه وسلم وهذا شر غوائل هذه البدع.
(رابعها) أن الذي فهمه الصحابة ومنهم مؤذنو المصطفى صلى الله عليه
وسلم أن إجابة المؤذن بقولهم مثل ما يقول إلا الحَيْعَلَتَيْنِ فيقول عندهما: (لا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة
له وسائر الأدعية هي من الأذكار التي يقولها كل سامع له منفردًا بخفض الصوت،
فلم يرو أحد من المحدثين عن مؤذنيه صلى الله عليه وسلم ولا مؤذني خلفائه
الراشدين ولا مؤذني خير القرون ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين أنه رفع
صوته بذلك كالأذان فضلا عن وصل المؤذنين له بالأذان ولا ما دون الأذان مما
ورد فيه رفع الصوت كإقامة الصلاة وهي الأذان الثاني فعلينا اتباعهم، ورفع
الصوت فيه خلاف الأصل فلا يتوقف إنكاره على نهي الشارع عنه، ولو كان
مشروعًا لجاز لأهل المسجد عند الأذان والإقامة أن يرفعوا أصواتهم بإجابتها بمثل
صوت المؤذن، ومن ذا الذي لا يقول: إن هذا عمل منكر؟ ومن ذا الذي ينكر
على المؤذن أن يأتي بالأذكار المأثورة في إجابته وهو منصرف من الأذان بصوت
خاشع كما يجيبه سائر من سمعه؟
(خامسها) أننا قد بينا أن ما أطلقه الشرع من العبادات فليس لنا أن نقيده
بصفة نلتزمها فيها لم ترد في الشرع كالأذكار المأثورة بعد الصلاة، وذلك مفصل
في كتاب الاعتصام للعلامة الشاطبي فقد عَدَّ من البدع الإضافية اجتماع المصلين
ورفع أصواتهم بالتسبيح والتحميد والتكبير 33 مرة وغير ذلك والتزامهم إياه في
المسجد؛ لأنه يوهم أنه مشروع بهذه الصفة، ووصل أذكار إجابة المؤذن بالأذان
برفع الصوت على المنار أولى بذلك. وإنني أؤذن لصلاة الفجر في روشن الدار
كل يوم تقريبًا ثم أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا منصرف من الأذان
وأسأل له صلى الله عليه وسلم الوسيلة باللفظ المروي عنه في الصحاح والسنن
وغير ذلك مما ورد.
(سادسها) ولو كان المؤذن يقصد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد
الأذان ما ورد عنه في جواب النداء لما تركه في صلاة المغرب، بل لأتى به بعدها
وزاد عليه الدعاء المأثور بعده وهو (اللهم هذا إدبار ليلك، وإقبال نهارك،
وأصوات دعائك، فاغفر لي) رواه أبو داود والترمذي من حديث أم سلمة رضي
الله عنها ولما زاد عليه بعضهم بعد أذان الفجر نداء شيخ العرب البدوي، فبذلك
دحضت شبهات مجلة الأزهر كلها، وثبت أن ما يزيده المؤذنون ليس إلا بدعة
يجب إنكارها.
(سابعها) من مفاسد هذه البدعة أنه لما كان الوهابية يتبعون السنة في أذانهم
ويمنعون الزيادة فيه أو عليه وهم مبتدعة في زعم الدجوي رماهم المبتدعون بأنهم لا
يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا حتى إن المرحوم التقي النقي محمد
أمين بك الرافعي لما حضر مجلس الملك عبد العزيز الفيصل بن السعود بمكة
المكرمة وسمعه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكره، وإن تكرر ذكره
في المجلس مرارًا كثيرة متوالية استغرب ذلك وكتبه في جريدته (الأخبار) وقال:
إنه ما رأى أحدًا مثله في ذلك أي لا في مصر ولا في غيرها.
وأغرب من هذا أن بعض حجاج بلدنا قال لي بمكة المكرمة: إن الناس قالوا
لنا: إن الوهابية منعوا من الأذانِ الشهادةَ لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وقد
سمعت جميع المؤذنين ينطقون بها. فقلت له: هذا من افتراء الناس عليهم وذكرت
له سببه.
وقال بعض الناس مثل هذا مرة لوكيل إدارة المنار فدله الوكيل على دار
الوكالة العربية للحكومة السعودية وقال له: اذهب إليها في هذا اليوم وكان يوم
الجمعة تر فوقها علمًا أخضر، فاقرأ ما فيه لتعلم كذب هذا القول بالمشاهدة - فإن
فيه (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وهذا شعار الوهابية، فبُهِتَ الرجل.
رد علينا الأستاذ الدجوي من وجوه غير ما تقدم نوجز الكلام في الجواب عنها
فنقول:
(1)
زعمه أنه خفي علينا الفرق بين الزيادة في الشيء والزيادة على
الشيء وهذا من الثاني - ونقول: لا فرق بينهما في المعنى المقصود، فهي على
كل حال زيادة متصلة بعبادة من شعائر الإسلام لم يأذن بها الله، وقد سماها
المقريزي قبلنا زيادة في الأذان.
(2)
قوله: إنه ليس أول من قال: إنها بدعة مستحسنة بل علماء المذاهب
الأربعة مُصَرِّحُونَ بذلك وجوابه - إن صح النقل - أن هؤلاء العلماء (المتأخرين
ليسوا من الأئمة المجتهدين بالاتفاق بيننا وبينه فقولهم كقوله لا يعتد به؛ إذ لا دليل
لهم عليه، ولا يجوز تقليدهم فيه باتفاق من يقول بجواز التقليد أو وجوبه على
العاجز عن الاستدلال لأنهم إنما يقولون بتقليد المجتهد وهؤلاء لا يدعون الاجتهاد،
بل يعيبون علينا الاستدلال بالكتاب والسنة لأنهم يعدونه من الاجتهاد المتعذر
ويتهكمون بنا ثم يفعلون مثل فعلنا، ولكنهم يستدلون بأقوال أمثالهم.
(3)
قوله: إنه (ليس كل ما لم يفعل في عهده صلى الله عليه وسلم يكون
بدعة سيئة، ومن فهم أن ذلك داخل في الحديث:(وكل بدعة ضلالة) فهو من
أقل الناس علمًا، وأضيقهم عقلاً) ونقول: إن كل ما لم يفعل في عصره صلى الله
عليه وسلم من العبادات ولا سيما شعائر الإسلام فهو البدعة السيئة بخلاف أعمال
الخير غير التعبدية كتأليف الكتب العلمية النافعة وبناء القناطر والمستشفيات مثلا،
وقد صرَّح بهذه التفرقة كبار العلماء، ومن لم يفهم هذا فلا فهم له ولا علم ولا عقل.
(4)
قوله: إن هذه البدعة تدخل في عموم حديث: (من سن سنة حسنة)
إلخ ونقول: إن هذا خطأ ظاهر، فعلماء المسلمين سلفهم وأئمة الخلف منهم
مُجْمِعُونَ على أنه ليس لأحد أن يسن في العبادات المشروعة سنة جديدة كما بيَّناه
آنفًا. ومقلدة الخلف يقولون هذا أيضًا ولكن منهم من يخالفه كما فعل هو ومن يحتج
بقولهم، وهو ليس بحجة بإجماع علماء الأصول.
(5)
قوله: (ليس هناك من يجعل الزيادة من الأذان بدليل أنها تترك في
أذان المغرب، وبدليل أنهم يطيلون تارة ويقصرون، وبدليل ما ذكره هو (يعنينا)
أنهم قد ينادون شيخ العرب (السيد البدوي) فهل يفهم أن ذلك كله من الأذان؟)
وجوابه أن الجاهلين يفهمون أنه من الأذان كما قال المقريزي، ومن لم يفهم
أنه منه يعتقد أنه مشروع في الإسلام، ولذلك ينكرون على من يتركه كما تقدم،
وإنما هذا حجة عليه، مبطل لزعمه أنهم يقصدون به اتباع السنة في جواب المؤذن
وتقدم تفصيله، على أن الكلام في هذا الفعل المبتدع لا في تسميته، فسواء عليهم
أَجَعَلُوه أو سموه من الأذان كما يفهم جماهير العوام أم جعلوه من إجابة المؤذن لنفسه
كما زعم هو (الدجوي) حتى قال: إنهم اقتتلوا في بعض القرى أو كادوا يقتتلون
في اختلافهم فيه، هو على كل حال ابتداع في الدين وشرع لم يأذن به الله، فجميع
هذه الأجوبة حجة على قائلها لا له، وإذا أمكن المِرَاء في بعضها فلا يمكن في
جملتها.
وخلاصة القول: أن هذه الزيادة في الأذان أو عليه أو العلاوة له بدعة أحدثها
بعض الفساق في آخر القرن الثامن، وزيد عليها فيما بعده ما لا شبهة في بطلانه
فيجب إنكارها والسعي لمنعها، وعدم إطالة الجدل لإثبات استحسانها.
وهذا هو الذي يصح أن يدخل فيما أمر الكتاب العزيز به من رد التنازع إلى
الله والرسول. وهو الذي يمكن أن تجتمع كلمة الأمة عليه إذا دعاها إليه علماؤها
بناء على أنه هو الذي كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله
عنهم، ومن يقول: إنها بدعة غير سيئة أو حسنة لا يقول: إنها خير مما كان عليه
المسلمون في ذلك العهد. وهذا معلوم بالضرورة لا يخالف فيه أحد.
وإن من شر مفاسد هذه البدع في الدين أن يتعصب لها أهلها مع تهاونهم في
السنن وفي الفرائض أيضًا، وأعجب من ذلك إقرار أدعياء العلم للمبتدعين على
بدعهم، وأعجب من هذا الأعجب تأولها لهم، والرد على منكريها عليهم {وَمَن
يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} (المائدة: 41) ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
جمال الإسلام المهجور أو المجهول
(مسامرة فيه)
(ذكرني اهتمام الصحف بعزم جلالة الملك المعظم على زيارة كليات الأزهر
في هذا الشهر، وانتقادها لإدارة المشيخة الحاضرة لهذه الجامعة، وسيرة رئيسها
فيها بمسامرة في هذا الموضوع قامت بها الحجة على هذا الرئيس بأن تعليم التوحيد
وغيره في الأزهر والمعاهد التابعة له غير مفيد للخواص ولا للعوام، فرأيت أن
أنشرها كما وقعت وها هي ذه) .
أدب الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين مأدبة نفيسة
لصاحبي السمو شقيق سلطان لحج ونجله؛ إذ كانا من ضيوف مصر في العام
الماضي، دعا إليها جماعة من كبار أهل العلم الديني والدنيوي والمكانة، في
مقدمتهم أصحاب الفضيلة والسعادة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد
صادق المجددي وزير دولة الأفغان المفوض بمصر والشيخ محمد الخضر وعثمان
مرتضى باشا وأحمد زكي باشا والدكتور عبد الرحمن شهبندر وكذا كاتب هذه
المسامرة صاحب المنار.
ولما كنا على المائدة اعتذر شيخ الأزهر بالحِمْيَة عن مشاركة الجماعة بالطعام
المغذي، ولكنه أحب أن يجمع لهم بينه وبين الغذاء العقلي، فطفق يشكو من
إعراض المسلمين عن هداية الإسلام افتتانًا بالدنيا وتقاليد الحضارة الإفرنجية، فقال
عثمان باشا: إن حب الجمال طبيعي في البشر، وإن الإسلام كله جمال، وإن
تهذيب الحضارة والعلوم الراقية تزيد العاقل حبًّا للجمال فهي تقوي الإسلام بما
تظهره من جمال المحبوب أو ما هذا خلاصته.
قال الشيخ: ولكننا نرى الجمال في عرف أكثر أهل عصرنا هو ما يسمونه
(الموضة) في الأزياء والعادات واللهو وسائر نواحي الحياة، أي وإن كان من
الفسق والفجور الذي لا يخفى قبحه على عاقل، وتساءل كيف السبيل إلى تلافيه؟
هذه صفوة عبارته.
ثم دار الكلام في جمال الإسلام وكماله وما امتاز به على سائر الأديان وما
اعترف له بعض حكماء الإفرنج ومؤرخيهم المنصفين، ولا سيما أساسه الأعظم
وهو توحيد الله تعالى وكون المرشد الأعظم للناس من لدنه عز وجل هو عبد الله
ورسوله لا مخلوق مشارك له (أو وكيل ينوب عنه) سبحانه في تدبير أمور الخلق
في الدنيا، وينجيهم في الآخرة بنفوذه وجاهه كديانة النصارى.
وذكر الدكتور شهبندر أن بعض علماء أوربة قد صرَّحوا بأن بساطة العقيدة
الإسلامية وموافقتها للعقل والفطرة وسهولة فهمها وتعقلها هو السبب في انتشار
الإسلام في جميع طبقات البشر بالسرعة المعروفة في التاريخ وانهزام النصرانية لما
رأى خذلان النصارى باتخاذ نبيهم إلهًا وربًّا لهم لم يكتفِ بتلقين أتباعه أنه نبي
ورسول، بل أمرهم بأن يقولوا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.
حتى إذا فرغ الجمع من الطعام، وأخذوا مقاعدهم من حجرة القهوة والكلام،
تصدى كاتب هذا المقال للموضوع فقال: إن ما قاله الأستاذ شيخ الأزهر من
إعراض المسلمين في هذه البلاد وأمثالها عن هداية الإسلام وعن تشريعه أيضًا ولا
سيما الذين يتلقون التعليم العصري حقٌّ مشاهَدٌ لا ريب فيه، وإن ما قاله الأستاذان
مرتضى باشا وشهبندر حق لا ريب فيه أيضًا، وما كان حديث المائدة ليتسع لبسط
القول الفصل الجامع بين القولين،
نعم إن كل ما قيل على المائدة صحيح، وإن كان فيه ما يوهم التعارض، ولا ينبغي
لنا أن نترك هذا الموضوع المهم بدون تمحيص وتحقيق، فأرجو السماح لي بذلك.
إن الإسلام ظهر على لسان نبي أمي بعث في قوم أميين حملوه إلى أمم كثيرة
من أهل الحضارات والعلوم والفنون السابقة فقبلوه كما قبلته قبائل البداوة، وآثروه
على أديانهم وشرائعهم ولغاتهم؛ لما تجلى لهم في كتابه وسنة نبيه وسيرة دعاته من
الجمال المعنوي في عقائده المعقولة، وشريعته العادلة، وآدابه العالية، الموافقات
للفطرة الإنسانية، والجمع بين مصالح الدين والدنيا.
فما السبب الذي صرف الكثيرين من المسلمين أنفسهم بعد ذلك عن هدايته
وعن تشريعه وعن آدابه وفضائله على جمالها وكمالها، وزين لبعضهم استبدال
غيرها بها، وكيف السبيل إلى عطفهم عليها؟ وجذب غيرهم إليها؟ هذا ما تساءل
عنه مولانا الأستاذ شيخ الأزهر، ويمكنني الجواب عنه على قاعدة الأستاذ عثمان
مرتضى باشا في جماله، وقاعدة الدكتور شهبندر في سهولته وموافقته للفطرة.
إن جمال الإسلام ظهر للعالم كله في القرون الأولى بعلم دعاته وناشريه
وبيانهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبحكم خلفائه وأمرائه بين
الناس بعدل شريعته ومساواتها بينهم بالحق، ثم صار هذا الجمال يخفى ويتوارى
رويدًا رويدًا بهجر العلماء لتعاليم القرآن وبيان السنة له، واعتمادهم على تقليد
العلماء المصنفين، ولا سيما المتكلمين، وبظلم الملوك والأمراء، وتعاون الفريقين
على ظلم الناس والاستبداد فيهم، وطغيان الرياسة عليهم، ونكتفي بضرب المثل
في العلماء.
ضرب الإمام الغزالي مثلاً لما وضعه علماء التقليد من الحجب بين الناس
وبين جمال الإسلام ونوره - وهي طبقات العلماء الخمس التي يذكرونها في رسم
المفتي - فشبه نور الشريعة من كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالشمس أشرقت بها الآفاق، ودخل نورها من كوة في حجرة فوقعت على مرآة في
الجدار المقابل لها، فانعكس النور عنها إلى الجدار الذي تجاهها، وانعكس نور هذا
الجدار إلى جدار يقابله في حجرة أخرى مظلمة فكان أضعف مما قبله، وتكرر
الانعكاس حتى إذا كان الأخير على جدار الحجرة الخامسة كان أهلها في ظلمة لا
يدركون فيها إلا أشباحًا وشخوصًا لا يدركون صفاتها ولا معارفها التي تتميز بها.
فهذا مثل من يزعم أن نور الله المشرق من سماء كتابه وسنة رسوله لا يدركه
كما هو إلا المجتهد المطلق، وأن من دونه المجتهد المنتسب يدرك شيئًا كثيرًا من
مرآته لا يستقل باقتباسه من شمسه نفسها، ومن دونه مجتهد المذهب، وتحته المقلد
الذي يميز بين صحيح الروايات وسقيمها في المذهب، ووراءه الذي يقدر على
ترجيح بعض الروايات والأقوال على بعض. وأما سائر الناس فهم أسرى وعيال
على هذه الطبقة السفلى، فالواجب عليهم تقليدها في نقلها، لا في فهمها ورأيها،
ويقول بعض محققي المتأخرين من فقهاء الحنفية المؤلفين: وهذه طبقة أمثالنا.
فأنى لمن أقام من وراء هذه الحجب كلها أن يدرك نور الإسلام فيرى فيه
جماله وكماله وجمال كل شيء به؟ وإذا كان لفقهاء الفتوى في النوازل العلمية
وقضايا المحاكم عذر في مراعاة هذه الرسوم لعجزهم عن الدليل، فهل لأحد
عذر أن يضربها أمام عقائد الدين، وقد قال السنوسي وغيره: إن التقليد فيها غير
جائز، أو يضربها أمام فضائله وآدابه وأحكامه القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها؟
لقد كان علو الإسلام جميع الأديان قائمًا على قاعدة الاستقلال في فهم حقيقته
وإدراك جماله، وما ضعف إلا بترك هذه القاعدة. ولكن تعليم المدارس العصرية
قائم على هذه القاعدة، ولا يمكن تثبيت المسلمين على دينهم في هذا العصر إلا
بجعل تعليمه قائمًا عليها أيضًا؛ لأن من يتعلم كل علم مستقلا في فهمه يأبى أن يقلد
في دينه من يعترفون أن بينهم وبين كتاب الله وسنة رسوله أربعة حجب، وهم
الحجاب الخامس دونه.
ذكر لنا الدكتور شهبندر عن بعض حكماء الإفرنج اعترافهم بامتياز عقيدة
التوحيد الإسلامية على عقيدة التثليث النصرانية، وأن التوحيد يمكن أن يفهمه
ويقبله كل أحد من عوام الناس وخواصهم وبدوهم وحضرهم بخلاف التثليث، أليس
من البلاء أن يكون فساد التعليم الإسلامي قد أفضى بالمسلمين إلى خفاء عقيدة
التوحيد بالإعراض في بيانها عن آيات القرآن النيرة الواضحة إلى اصطلاحات
علماء الكلام المعقدة؟
مثال ذلك ما يلقنونه لطلبة العلوم الدينية في الأزهر وغيره من المدارس
الدينية المقلدة في أول كتاب يقرءونه لهم في العقائد وهو حواشي السنوسية الصغرى
(أم البراهين) وهو أن التوحيد الذي هو أُسُّ الإسلام عبارة عن نفي الكموم الخمسة:
الكم المتصل، والكم المنفصل في ذات واجب الوجود عز وجل، والكم المتصل،
والكم المنفصل في صفاته تعالى، والكم المنفصل في أفعاله؛ إذ ليس فيها كم
متصل كما قالوا.
إن هذه الكموم الخمسة فلسفة كلامية ما أنزل الله بها في كتابه من سلطان،
ولا وردت في شيء من بيان رسوله صلى الله عليه وسلم للكتاب، ولا في آثار
أصحابه نقلة سنته، ولا في كتب أئمة السلف الصالح ومنهم الفقهاء الأربعة وإنها
لتكاد تضاهي الأقانيم الثلاثة في الخفاء، وإن مَن يفهم معناها الذي فسروها به لا
يفهم منها حقيقة التوحيد الذي حكاه الله تعالى عن خاتم النبيين وعمن قبله من إخوانه
المرسلين، ولا ما فهمه مشركو العرب من كلمة (لا إله إلا الله) وإنني لما لقنتها
في المدرسة في طرابلس الشام حاولت أن أفهمها للعوام، فعجزت بل كدت أن أفسد
عليهم عقيدتهم، حتى قال لي بعضهم: إنه لم يستطع أن ينام الليل الذي سمع في
أوله الدرس، وخاف أن يموت وهو لا يفهم معنى التوحيد.
عندما قلت هذا وضع كفه الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر على يدي وكان جالسًا
بجانبي وقال: إن هذه الاصطلاحات الكلامية وكتبها قد وضعت لأمثالكم من
الخواص لا للعوام.
فقلت: اسمعوا أيها السادة ما يقول مولانا الأستاذ، يقول: إن هذه الكتب
الكلامية وضعت للخواص لا للعوام، فأين الكتب التي وضعت للعوام وهم أكثر
الناس؟
إن علم الكلام علم مبتدع، أنكره عند ظهوره أئمة الإسلام حتى إن الإمام
الشافعي رحمه الله تعالى هجر حفصًا الفرد؛ لأنه ألف كتابًا فيه، وقد بيَّن الإمام أبو
حامد الغزالي ما استقر رأي العلماء فيه فقال ما خلاصتُهُ أنه ليس من علوم الدين
وإنما احتيج إليه لأجل حماية العقيدة من شبهات الفلاسفة والمبتدعة، فهو كالبذرقة
للحاج يعني الحرس، فاتخاذ البذرقة ليس من أركان الحج ولا واجباته ولا سننه،
ولا من شروط الإحرام، وإنما احتيج إليها لوجود اللصوص وقطاع الطريق الذين
يعتدون على أموال الحاج وأنفسهم.
فإذا كان الأمر كذلك، فعلم الكلام تختلف الحاجة إليه باختلاف شبهات
الخصوم، وقد تجدد في عصرنا هذا شبهات على الدين غير شبهات الفلسفة
اليونانية التي ألف علماء الكلام الأولون الكتب لدحضها، فيجب على خواص
العلماء الذين يتصدون لدفع شبهات هذا العصر أن يعرفوا العلوم التي نجمت منها،
ويردوها بالأدلة العلمية الرائجة عند أهلها، لا أن يتعبوا أنفسهم ويضيعوا أزمنتهم
في دراسة الفلسفة القديمة في كتب فنية دقيقة كشرح المواقف، وشرح العقائد
النفسية وحواشيهما، وقد كفتهم العلوم والفلسفة الجديدة مؤنة التعب فيها بما يشبه
التعبد بها، ثم إننا نرى مزاوليها لا يستفيدون منها العلم بحقيقة التوحيد ولا حقيقة
الشرك، ولا يعنون بالنهي عما ابتدع الجاهلون من الشرك، بل منهم من يتأول
لأهله خرافتهم الشركية.
إننا نرى هذه الخرافات الشركية الوثنية فاشية في الناس؛ لأن أكثرهم لا
يتلقون عقائد الدين إلا من أمهاتهم وآبائهم ومعاشريهم، حتى لا يكاد يوجد في
الألوف الكثيرة منهم أحد من ذكر أو أنثى تلقى عقيدته من كتاب الله وكتب السنة
الصحيحة، أو من تآليف العلماء على ما ذكرنا من تعقيدها، فتراهم رجالا ونساء
وأطفالا يشدون رحالهم إلى قبور اشتهرت بأسماء بعض الصالحين المعروفين أو
المجهولين يحملون إليها القرابين والنذور للتقرب إليها، ويتضرعون بالدعاء لمن
دفن فيها بطلب الشفاء لمرضاهم والانتقام من أعدائهم وغير ذلك من مآربهم. وكل
ذلك من العبادات، وهم في حِلِّهِم وتِرْحَالهم إليهم يتركون الصلوات، ويرتكبون
كثيرًا من المنكرات.
ونرى بعض المعلمين إذا حضروا دروس السنوسية والجوهرة يتأولون لهم
دعاءهم واستغاثتهم لغير الله وطوافهم بالقبور ونذروهم وقرابينهم لها، بأنهم يعتقدون
أنهم يقضون حوائجهم بما خصَّهم الله به من الكرامات، وأن قضاءها من أعمالهم
الكسبية فهم كاسبون لها لا خالقون، وأنهم هم مستشفعون بهم لا عبادون لهم،
فأقوالهم محمولة على المجاز العقلي بقرينة إسلامهم، وقصارى أعمالهم المخالفة
للشرع أن تكون من الشرك العملي لا الاعتقادي فهم بهذا التأويل الباطل للجاهلين
يصدون المتعلمين عن الإسلام، وهو ما يشكو منه الأستاذ، والقرآن يدحض هذه
التأويلات بآياته القطعية المعروفة، التي تثبت أنهم يعبدون غير الله بشرع لم يأذن
به الله.
وأنَّى لمن غاية علمه بالتوحيد فلسفة نفي الكموم الخمسة أن يعرف توحيد
القرآن وشرك العبادة الذي أنكره على المشركين من التقرب إليه بوسائل لم يشرعها
لهم بل أنكرها عليهم؟ إلخ.
إننا محتاجون في هذا العصر إلى نوعين من الكتب لطريقتين من طرائق
التعليم لإظهار حقيقة الإسلام، وما فيه من جمال وكمال، وإصلاح لحال من يهتدي
به من الناس.
النوع الأول كتب في عقائد الإسلام وآدابه وعباداته تكون في غاية السهولة
والبساطة لأجل تعليم التلاميذ والعوام من الرجال والنساء؛ ولأجل المطالعة أيضًا.
ويجب أن تكون هذه الكتب مقتبسة من نور القرآن ومستمدة من آياته البينات
التي تفيض النور على العقول، وتنفخ من روح الله في القلوب، ويجب أن يطبع
منها مئات الألوف وألوف الألوف من النسخ لأجل تعميم نشرها.
والنوع الثاني كتب في بيان أصول الإسلام في الاعتقاد والتهذيب والتشريع
مقرونة بأدلتها وحكمها ووجه حاجة جميع البشر إليها في إصلاح جميع شئونهم
الشخصية والاجتماعية، ورَدّ جميع ما يرد عليها من الشبهات في هذا العصر، إلخ.
ومن الضروري أن يكون التعليم في المعاهد الدينية مُوَجَّهًا إلى تخريج طائفة
من العلماء لبث الدين على الطريقة الأولى في المدارس والمساجد والبيوت لأجل
تعميمه في العالم كله، وتخريج طائفة أخرى لأجل الدعوة إليه والدفاع عنه، وأن
يربى كل منهما تربية روحية عقلية تكون بها الغاية التي تُنَاط بأفراده وجدانًا نفسيًّا
لهم لا هم لهم من حياتهم فيما دونها، لا وسيلة من وسائل الكسب والمعيشة.
ومن المعلوم عندنا بالاختبار أن هذا المَنْحَى من مناحي التربية الدينية والتعليم
الإسلامي مفقود لا وجود له في المعاهد الدينية، لا في الأزهر الذي هو أكبرها
وأغناها ولا في غيره، وإن هذه الكتب بنوعيها لا وجود لها فيه، اللهم إلا رسالة
التوحيد للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.
قررت ما ذكر كله في السامر بنحو مما بسطته هنا فأقرني عليه جميع
السامرين حتى إن شيخ الأزهر والشيخ الخضر من أكبر أعوانه ورئيس مجلة
المشيخة لم يعارضاني في كلمة منه غير ما تقدم عن الشيخ الأكبر، وقد علم منه
الجواب الصحيح عما أورده الشيخ على المائدة بما ظهر به أنه هو الملوم المسئول
فيما تساءل عنه، والمشكو منه فيما يشكو منه.
وإذا كان السكوت إقرارًا، وكان تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز،
فقد قامت به الحجة على الشيخ الظواهري بخلو الأزهر في عهده من التعليم الذي
يظهر نور الإسلام وجماله لعامة الناس وخاصتهم، وظهر به أن أكبر الإثم فيما شكا
منه من إعراض الناس عن الإسلام واقع عليه، ففي يده تلافيه، ولكنه هو الذي
يصد عنه، وقد أخرج من الأزهر أمثل المعلمين المشتغلين به، ومجلة المشيخة
الخرافية أظهر الحجج عليه، فيا ليت جلالة الملك يعلم هذا كله، كما علم من سوء
إدارة الأزهر ما دونه، وكتب هذا في غرة ذي الحجة سنة 1351.
_________
الكاتب: محمد الهراوي
إلى شبان المسلمين
قصيدة للأستاذ محمد الهراوي
(ألقاها في حفلة لجمعية الشبان المسلمين في دار الأوبرا الملكية بمصر)
الشرق والغرب
قل للشباب المسلمين تحية
…
من مسلم ثبت على إيمانه
ويزيده في الله حسن عقيدة
…
ما جره الإلحاد من خسرانه
الغرب مجلبة الخسار جميعه
…
والشرق مفتتن به عن شانه
متودد والغرب لم يأبه له
…
لا في مودته ولا شنآنه
ماذا من الغربي في إحسانه؟
…
والشر غلاب على إحسانه
ما زال يرمي الشرق من نيرانه
…
حتى تردى في لظى نيرانه
في كل يوم معقد للجانه
…
والمشكلات تئن تحت لجانه
لو أخلص الغربي في نياته
…
ما ثارت النيران من بركانه
ما باله، والعدل من ألحانه
…
تبكي العدالة في صدى ألحانه؟
الطابع القومي
لو يحفظ الشرقي طابع قومه لم يطوه الغربي في سلطانه
لو كان يزهد في الحياة لعزه
…
ما هان بعد العز في أوطانه
لو كان متبعا لآي كتابه
…
لمضى وهذا الدهر طوع بنانه
لكن سبته حضارة غربية
…
ألقى إلى مضمارها بعنانه!
الذكرى
أين الغزاة الفاتحون؟ وأين ما
…
فتحت سيوف الله من بلدانه؟
أين السراة الخيرون؟ وأين ما
…
شادوا لدين الله من بنيانه؟
أين البيوت العامرات بأهلها
…
سل كل بيت دال من سكانه
الأزهر
والأزهر المعمور أين مكانه؟
…
سل عنه أين؟ وأنت فوق مكانه
فرحوا وهم يبنون كلياته
…
فليفرحوا بالطوب تحت دهانه
من يوم أن نقلوه من جدرانه
…
قد طار سر الله عن جدرانه
فاسأل عن الأخيار من علمائه
…
واسأل عن الأطهار من شبانه
المتقين الله حق تقاته؟
…
الحافظين لدينهم وكيانه
العالمين بشرعه وكتابه
…
العاملين بروحه وبيانه
والزي! حتى الزي لم يبقوا له
…
ظلا لجبته ولا قفطانه [1]
إلى الملك
مولاي يا ملك البلاد وذخرها
…
وملاذَ هذا الدين عند هوانه
مصر بأزهرها القديم كما بدا
…
بالطابع الموروث منذ زمانه
فأعد إليه عهده واستبقه
…
تدفع به الإلحاد في عدوانه
الجامعة الشرقية
أدعو شباب الشرق من أجناسه
…
وعلى اختلاف الشرق في أديانه
أدعو لجامعة تضم شتاته
…
من صينه الأقصى إلى تطوانه
إن لم يكن في الدين جامعة له
…
كبرى ففي آلامه ولسانه
الدين
ما بالنا والغرب غرب دائم
…
في ظله يمضي وتحت ضمانه
فخذوا سبيل الدين فهو كفيلكم
…
ليرد سيل الغرب عن طغيانه
والدين للدنيا وللأخرى معًا
…
وسعادة الدارين في قرآنه
_________
(1)
يشير الشاعر إلى ما اشتهر في مصر من لبس بعض المتخرجين في الأزهر للزي الإفرنجي، ومن كون بعض طلابه يلبسون في الدروس الجبة والقفطان، وفي الليل زي الأفندية كما كان يفعل طلبة دار العلوم قبل إجماعهم على نزع الجبة والقباء والعمامة، ولكنه عبر عنه بكلمة عامة مبالغة في التشاؤم.
الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي
العلامة المصلح الشيخ محمد أمين الشنقيطي [
1]
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم
انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق
عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) أو كما قال [2]
وعن ابن مسعود: (كل يوم ترذلون، لا أقول: عام أخصب من عام، ولا
أمير خير من أمير ولكن بذهاب علمائهم فيضعف الإسلام) أو كما قال [3] .
أنعي إلى الأمة الإسلامية أحد أركان العلم والإسلام وأنا في غاية الحزن
والأسى ألا وهو العلامة المتبحر في العلوم المجاهد العالم صاحب الفضيلة الأستاذ
الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي المغربي القاطن ببلد الزبير من أعمال البصرة.
مولده ومنشؤه في قبيلته (إذَ بَلْحسن) أي بني الحسن قبيلة عظيمة من قبائل
العرب من أهل شنقيط معرفون بالعلم والشجاعة، وقد نبغ منهم خلق من العلماء
والشعراء، رحل الفقيد إلى الشرق وهو شاب بعدما درس العلوم التي تدرس ببلاده
ولما وصل إلى مكة وجد بها العلامة الكبير الحافظ الشيخ شعيب الدكالي بارك الله
في حياته فألقى بها عصا التسيار، ولازم العلامة المذكور سنين، وكان أستاذه هذا
معجبًا به حتى إنه كان يرد إليه المسائل الأدبية فيتكلم فيها أثناء الدرس، ثم زار
الشيخ شعيبًا أحد أعيان أهل البصرة ممن كانوا يلقبون بكلمة (الباشا) التركية في
عهد الترك، فسأل هذا الوجيه الحافظ الدكالي أن يبعث معه من يرتضيه من العلماء
ليؤسس له مدرسة ومسجدًا ويقف عليهما ما يكفي للنفقة عليهما من المال، فندب
لهذا الأمر صاحب الترجمة فامتثل أمره وتوجه إلى الزبير، وأقام بها ينشر العلم
صابرًا على أذى شياطين المتفقهة ممن يشرقون بنشر العلم النافع المحمدي الصحيح؛
لأنه يبطل نواميسهم ومكرهم الذي نصبوه حبالة لصيد الحطام، وقد أجمعوا
أمرهم على إخراجه وشكوه مرارًا، وهو صابر ثابت على خطته في نشر العلم
والإعراض عن الجاهلين، وكان رحمه الله آية في الحلم، بعيني رأيت أكبر أعدائه
الذي كان سببًا لكل ما أصابه من الأذى التجأ إليه في شدة أصابته فقابله الشيخ الفقيد
بما جبل عليه من البشاشة وأخرج أوراقًا مالية فناوله إياها، ثم أمر أحد التجار أن
يعطيه عدة أكياس من الرز على حسابه، هذا بعد ما فشل ذلك الشيخ المشاغب في
جميع محاولاته. وواقعات حلمه مشهورة، وكان سراجًا منيرًا في الخليج الفارسي
وبلاد العراق ونجد.
وفي زمن الحرب الطرابلسية شد الرحل من العراق إلى طرابلس للجهاد،
وسافر إلى بلاد نجد ليستوطنها فرارًا من الكون تحت تأثير الأوربيين فلم يستقم له
ما أراده، فرجع بعد ما أقام بعُنَيْزَة أربع سنين قضاها كلها في نشر العلم والعمل،
وترك أهل عنيزة كلهم ألسنًا ناطقة بالثناء عليه، ثم توجه إلى الكويت وما مضت
عليه هناك إلا ليلة واحدة حتى نُفِيَ لاتهامه بعداوة الإنكليز، فتوجه إلى الزبير ثانية،
وأسس (مدرسة النجاة) هناك وكانت الأمية والجهل مخيمين على بلدة الزبير،
فحاربتهما هذه المدرسة بأن ضمت بين جدرانها مئات من أولاد إسماعيل وقحطان،
فهذبت من أخلاقهم، وتخرج فيها خلق من الكتاب والأدباء والعلماء، ولا تزال
قائمة إلى الآن.
ولما ازدهرت هذه المدرسة التهبت قلوب المتفقهة حسدًا، وكبر عليهم مقام
الشيخ وتذكيره بآيات الله، فأجمعوا أمرهم ليقضوا عليه ولا ينظروه، فرموه بأنه
يعلم تعليمًا وهابيًّا يسمِّم أفكار شبان العراق، زخرفوا هذه الوشاية إلى ولاة الأمر
ليقطعوا الإعانة التي كانت تتلقاها المدرسة من وزارة الأوقاف العراقية، ومن وزارة
المعارف ومجموعهما اثنا عشر ألف روبية، فكادت المكيدة تنجح ولكن الشيخ بادر
بالتوجه إلى بغداد وعرض عليهم منهاج الدروس ولم يكن فيه شيء مما يسميه
الجهلة وهابية إلا العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ولا يخفى أن الجهلة
يعدون ابن تيمية وهابيًّا) فحذفها الشيخ من المناهج وجعل محلها عقيدة الإمام ابن
أبي زيد القيرواني المالكي فبطل كيدهم واستمرت الإعانة جارية.
ثم بعد سنة جدَّد أولئك الشياطين الكرة فنجحوا وقطعت إعانة الأوقاف؛ ولأمر
آخر نذكره؛ لأن فيه عبرة للمسلمين قطعت إعانة المعارف أيضًا، وذلك أن الشيخ
كان عضوًا في إدارة المعارف بالبصرة، وكان قد بقي في المدارس الابتدائية بالعراق
درس ديني ودرسان في الأسبوع وهذه الدروس الدينية كلها لا تزيد على بضع
كراريس بقطع صغير في العقائد إجمالاً والطهارة والصلاة والصوم والحج، وكانوا
يُعَيِّنُونَ لتدريس هذه الدروس عالمًا أو مُلَاّ كما يقولون من المتدينين أو المعممين كما
يسميهم المتنورون! ! ! فاجتمع هؤلاء المتنورون بنورة أعداء العروبة والإسلام
وقرروا تطهير المدارس من هؤلاء المعممين وأجمعوا على أن يعينوا بدلهم شبانًا من
المتنورين، فعقدوا اجتماعًا دَعَوْا فيه الأستاذ الفقيد للحضور وعرضوا عليه هذا المكر
الذي بَيَّتُوهُ، وأضافوا إليه من سب المعممين والوقيعة بهم ما شاءت لهم النورة،
فامتنع الشيخ من الموافقة امتناعًا كليًّا، وكان رحمه الله على ما فيه من الحلم النادر
إذا وصل الأمر إلى هدم الأصول يتصلب فلا تلين قناته لغامز، فجعل بعض
المتنورين يجادله فتكلم الشيخ وقال: أنا أعرف الشبان وأعرف المعممين فَهَبُوا أنهم
بلغوا في البلادة والجمود كل مبلغ ولكنهم يعملون بما يعلمون، يعلمون التوحيد
وصفات الله وهم بها مؤمنون، وأما هؤلاء الشبان فإنا نراهم متى ذكروا العقائد بادروا
إلى السخرية التي لقنهم أعداء العرب والإسلام. ثم يعلمون أركان الإسلام وهم
يؤدونها، وأما هؤلاء الشبان فلا يتوضئون ولا يصلون ولا يصومون ولا يحجون،
فهل تظنون أن الإسلام لعبة يصح بمجرد الدعوى الفارغة! وبعد هذا انصرف من
مجلسهم فتسببوا في قطع الألفين اللذين كانت تعطيهما وزارة المعارف وبقيت
المدرسة على تبرعات المحسنين وقليل ما هم، فنقصت حتى صارت على الثلث،
وكم حاول قوم من الأعيان أن يقنعوا الشيخ بالخضوع إلى سلوك منهاج المعارف
والسير تحت مراقبة مفتشها وترد النفقات التي قطعت فأبى وجمع من يظن بهم
الإخلاص من المدرسين وخطب فيهم وذكرهم بما يجب عليهم من خدمة الأمة فقنعوا
كلهم أن يأخذوا ربع أو ثلث ما كانوا يأخذون من الرواتب ولا ينهزمون. وكان رحمه
الله قدوتهم في ذلك فإنه كان يأخذ في زمان ميسرة المدرسة 150 روبية فأنزلها إلى
50 وبقيت المدرسة عامرة إلى الآن، ولكنها لا تستطيع أن تقبل من الطلبة إلا نحو
نصف العدد الذي كانت تحويه من قبل. ومناقب هذا الإمام كثيرة يضيق هذا المقام
عن عشر معشارها.
توفي إلى رحمة الله ضحى يوم الجمعة 14 جمادى الآخرة سنة 1351 على
رأس ستين سنة كلها جهاد وصلاح وخير للمسلمين، ولم يتخلف عن جنازته أحد
من أهل الفضل من البلدين البصرة والزبير، ولو كانت البلاد محتوية على وسائل
النقل لحضر جنازته الجم الغفير من أهل نجد وأهل الخليج الفارسي وأهل العراق،
فالله يلهم ذويه الصبر الجميل ويخلفه على المسلمين وإن كان كما قال الشاعر:
حلف الزمان ليأتين بمثله
…
حنثت يمينك يا زمان فكّفِّر
ولكن الله يفعل ما يشاء.
(المنار)
لله در أخينا الأستاذ الهلالي أتى بخير خلاصة لترجمة هذا الإمام المصلح بأدق
عبارة وأجمعها للفوائد، وأنزهها في التعبير، ولا سيما موقف الرجل بين فريقي
الشيوخ الجامدين، والشبان المتفرنجين، اللذين يكاد يضيع الإسلام
بينهما، فالشيوخ على محافظتهم على التقاليد الخرافية المنفرة عن الإسلام
ومحاربتهم للإصلاح الديني والدنيوي لا يزالون يقومون بشعائر الإسلام وأركانه
علمًا وعملاً، وبهذا فضلهم الشيخ رحمه الله على الشبان الذين ليس لهم من الإسلام
إلا الجنسية السياسية، وأسماء الأعلام ولكنهم يعنون بالإصلاح الإداري والسياسي،
ونراهم ينتصرون على الشيوخ في الحكومات التي ترى نفسها مضطرة إلى نظام
المدنِيَّة العصري، وبهذا حملوا حكومة العراق على إلغاء الإعانتين اللتين كانت
تساعد بهما (مدرسة النجاة) من وزارتي المعارف والأوقاف. وهي خير من جميع
مدارس العراق، فعسى أن تعيد النظر إلى ذلك وزارة العراق الجديدة التي هي
أرجى وزارة ألفت في دولتها الجديدة وتعيد إليها الإعانتين، فلن ينفعها الإصلاح
المدني بدون الإصلاح الديني، والله الموفق.
_________
(1)
كتب هذا التأبين والترجمة للمنار والفتح صديقنا الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي المدرس في مدرسة دار العلوم الندوية في الهند.
(2)
المنار: الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ (ينتزعه من العباد) والباقي كما قال.
(3)
في المقاصد الحسنة ومختصره، وفي الدرر المنتثرة أن كلمة:(كل عام ترذلون) من كلام الحسن البصري وفي معناها حديث البخاري وغيره (لا يأتي عليكم زمان وفي رواية عام إلا والذي بعده شر منه) وفي بعض الروايات من البيان له مثل ما ذكر عن ابن مسعود.
الكاتب: محمد رشيد رضا
السيد أحمد الشريف السنوسي
في العشر الأخير من الشهر الماضي (ذي القعدة) نعت أنباء المدينة المنورة
إلى العالم الإسلامي السيد الكبير، والعلم الشهير، والمجاهد العظيم، السيد أحمد
الشريف السنوسي كبير السادة السنوسية وزعيمهم، وإمامهم ومرشدهم، وقائدهم
في معارك القتال، ومعامع الأبطال:
قام النعيُّ فأسمعا
…
ونَعَى الكريم الأروعا
نعم قام نعيه في مدينة الرسول الأعظم، فأسمع كل مؤمن بجده محمد صلى
الله عليه وآله وسلم، فوجلت له قلوب وزرفت عيون، وفاضت شئون، بكته
الحجاز واليمن والسودان، وطرابلس وبرقة ومصر والعراق والشام، وسائر بلاد
الإسلام، فماذا يقول القائلون، وماذا يكتب الكاتبون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
إن السيد أحمد الشريف السنوسي من أشهر رجال الإسلام في هذا العصر
اشتهر بالصلاح والتقوى، واشتهر بالكرم والمروءة، واشتهر بالزعامة والإمامة،
ثم اشتهر بالجهاد بالمال والنفس في الدفاع عن قومه ووطنه، ثم اشتهر بعلو المقام
عند الدولة العلية العثمانية؛ إذ كان هو الذي قلد السلطان محمد السادس السيف في
حفلة مبايعته خلافًا للتقاليد المتبعة في الدولة، وأنعم عليه برتبة الوزارة الاسمية
والنشان المرصع، ثم كان له عند المجاهدين من الترك في الأناضول مقام عال،
واشتهر أنهم عرضوا عليه منصب الخلافة الروحية التي قلدوها السلطان عبد المجيد
بعد إخراج السلطان محمد السادس من الآستانة فأبى، ثم إنهم قطعوا راتبه بعد تمام
الظفر، والشروع في الانقلاب الإلحادي المنتظر، واضطروه إلى الخروج من
بلادهم فخرج إلى سورية فلم تأذن له فرنسة بالإقامة فيها، وأحب أن يأوي إلى
مصر فعلم أنه لا سبيل له إلى الوصول إليها، فلجأ إلى الحجاز، فتلقاه ملك العربية
السعودية بالقبول والإعزاز، وأجرى عليه من الرزق ما يليق به، إلى أن توفاه الله
بجوار رسوله صلى الله عليه وسلم في رحابه، ودفن في البقيع مع آل بيته
وأصحابه.
ولكن كل هذه المظاهر العالية للشهرة ملائمها ومؤلمها قاصرة عن معرفة كنه
هذا السيد الأروع والهمام السميدع، وإنما العلم التام بها يتوقف على الوقوف على
تاريخ السادة السنوسية التي هي أسرته وعشيرته، والطريقة السنوسية التي أسسها
هو وأبوه وجده، وماذا فعلت من إصلاح ديني وعمراني، وما كان لها في أنفس
الإفرنج عامة والفرنسيس خاصة من الشأن السياسي، وكيف استطاعت دولة فرنسة
فساد بأس جميع طرائق المتصوفة في إفريقية واستمالة شيوخها بالرشوة إلا الطريقة
السنوسية.
كان الجهل والفساد فاشيين في بلاد برقة وما يليها إلى أحشاء السودان فجاءها
السيد محمد علي السنوسي الكبير فنشر فيها العلم والدين والعمران، وأسس الزوايا
الكثيرة بنظام عمراني بديع، فكانت مدارس علم، ومساجد عبادة، ومعاقل أمن
وحماية، ومنازل ضيافة، ومحطات تجارة، وثكنات مرابطة، عمرت بها البلاد
وأمن العباد، وكثر العُبَّاد، وحسب لها الطامعون كل حساب، ولولا السنوسية لما
ذاقت إيطالية من جهاد العرب في برقة وطرابلس ما أفقدها مئات الألوف من
الأموال. وللسنوسية زوايا كثيرة في الحجاز أيضًا.
ولا يجد طالب تاريخ السنوسية طلبته دانية الجني إلا في ذيول كتاب حاضر
العالم الإسلامي بقلم أمير البيان، خاتمة مؤرخي الإسلام، الأمير شكيب أرسلان.
وإنني أنبه أذهان قراء المنار في تأبين هذا السيد الزعيم المجاهد لما لعلهم لا
يجدونه في غير المنار من الصحف، وهو:
لقد كان هذا السيد الزعيم الكريم أول مصداق ظاهر للأحاديث الصحيحة
الواردة في أُرُوزِ الإسلام إلى الحجاز، واعتصامه فيه من الأعداء، كما تعتصم
الوعول في شناخيب الجبال.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى
جحرها) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وقال: (إن الدين ليأرز إلى
الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحْرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من
رأس الجبل) إلخ [1] رواه الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال صلى
الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ وهو يأرز بين
المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.
ولهذا المعنى أوصى النبي مرارًا - آخرها قبيل وفاته - بإخراج اليهود والنصارى
من جزيرة العرب وألا يبقى فيها دينان، وهو من آيات النبوة التي لا يتمارى فيها
عاقلان.
وفحوى هذه الأحاديث أن دين الإسلام الذي خرج من مهده الحجاز وانبسط
في الأرض فاتحًا مُصْلِحًا سوف يُغْلَبُ على أمره ويضطهد أهله بتداعي الأمم عليهم،
حتى يضطر إلى الانقباض والأُرُوز إلى وطنه الأصلي الخاص به وهو الحجاز،
فيعتصم فيه ويكون له معقلاً وملجأً، وهذا النبأ النبوي الذي يعد من أظهر أنباء
الغيب يصدق بدين الإسلام نفسه وبرجاله وأنصاره، والسيد السنوسي من أظهرهم،
وقد ضاقت عليه مملكة الجمهورية التركية اللادينية فأخرجته بعد ما كان من مقامه
الكريم فيها، ولم يجد له ملجأً في سورية ولا في مصر فضلا عن وطنه ووطن
عشيرته وطائفته الخاص، فأرز إلى وطن دينه ومعقله من الحجاز حتى توفي في
المدينة المنورة على مُنَوِّرِهَا ومُشَرِّفِهَا وآله أفضل الصلاة والسلام.
فيجب على المسلمين كافة أن يعنوا بتقوية هذا المأرز والمركز لدينهم،
وحفظه من الأجانب الطامعين، وعدم تمكينهم مما يكيدونه له؛ لوضعه تحت
سيطرتهم البرية والبحرية من ناحية العقبة ومعان وشرق الأردن وغيرها، فوفاة
السيد السنوسي في المدينة بعد تعذر إقامته في غير الحجاز من بلاد الإسلام أكبر
عبرة للمعتبرين، تغمده الله تعالى بواسع رحمته، وجعله مع النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين في دار كرامته، ووفق الأمة للانتفاع بسيرته في حياته
وموتته.
* * *
صلاة الغائب
(على السيد السنوسي، وفوائدها الدينية والسياسية)
بعد صلاة الجمعة الأولى من شهر المحرم فاتحة سنة 1352 تقام صلاة
الغائب على الزعيم الإسلامي والمجاهد العظيم والمرشد الشهير السيد أحمد الشريف
السنوسي (قدس الله روحه) في جميع المساجد الجامعة في القطر المصري وسائر
الأقطار التي بلغتها الدعوة إلى هذه الصلاة من مكتب المؤتمر الإسلامي العام في
القدس الشريف.
ستكون هذه الصلاة ممتازة بمعنى لم يسبق له نظير في مثيلاتها من صلاة
الغائب التي يقيمها المسلمون في بعض الأقطار عندما يموت عظيم من عظماء
الإسلام في علمه الواسع وعمله النافع، لا باتصاف السيد السنوسي بشرف النسب
والحسب ولا باشتهاره بالصلاح والتقوى ولا بمكانته المعروفة في العلم والعمل
والإرشاد والإصلاح، والبر والإحسان، ولا بالجاه العريض الذي ناله بتقليده سيف
البيعة للسلطان محمد الخامس وإنعام السلطان عليه بلقب الوزارة والنشان المُرَصَّع،
فكان أول عالم مرشد مُعَمَّم تحلَّى بها كما تقدم آنفًا.
بل تمتاز هذه الصلاة على هذا الرجل العظيم بعمل له هو الذي تم به كماله،
وهو الجهاد بماله ونفسه في سبيل الله دفاعًا عن دينه وقومه ووطنه، وبما آل إليه
أمره من جرَّاء هذا الجهاد من هجرته الأولى إلى بلاد الترك، ثم من إخراجه منها
وتعذر رجوعه إلى وطنه، وتعذر إقامته في سورية ومصر، وفي كل قطر إسلامي
خاضع لنفوذ الدول الاستعمارية الثلاث المحاربة للإسلام المستذلة للمسلمين، وقد
قاتلها كلها في سبيل الله، حتى لجأ أخيرًا إلى مهد الإسلام من حرم الله وحرم
رسوله صلى الله عليه وسلم، ومات بجوار جده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله،
فبهذا كله صار للصلاة عليه معنًى لم يسبق لغيره من عظماء الإسلام، أذكره
لأذكر به كل مسلم يصلي عليه صلاة الغائب عقب صلاة الجمعة في ذلك اليوم
المشهود.
أعني بهذا هو أن يقصد بالصلاة مع ثواب إقامة هذه السنة القاصر على من
أقامها إحياء الشعور الإسلامي بوجوب الدفاع عن الإسلام وتأييد المجاهدين في سبيل
الله، والتكافل بين المسلمين في وجوه أعدائهم في دينهم وأقوامهم وأوطانهم، السالبين
لاستقلال الملايين منهم، حتى صار يتعذر على مثل هذا الرجل العظيم بكل ما للعظمة
من المعاني الصورية والمعنوية، الدينية والدنيوية.
يجب أن يتذكر الذين يصلون على هذا الزعيم العظيم أن الإسلام مُهَدَّد في أكثر
البلاد التي تسمى إسلامية باضطهاد من يخدمونه ويقومون بحقوقه.
وإن الذين جرَّأَ أعداءه على هذا العدوان والاضطهاد هو غفلة المسلمين عن
أنفسهم، وجهل أكثرهم بما حَلَّ بهم، حتى طمع أعداؤهم بإخراج الملايين عن
دينهم نفسه فلم يكتفوا بسلب ملكهم.
وأذكر أئمة المساجد وخطباءها بأن يذكروا المصلين على المنابر بعد الفراغ
من الخطبة خبر هذه الصلاة ويطالبوهم بالبقاء بعد صلاة الجمعة؛ ليقيموا هذه السنة
وينالوا أجر الصلاة على هذا الزعيم المجاهد الكبير، بما يفتح الله تعالى على كل
خطيب منهم من عبارات التذكير، ثم يذكرهم المؤذن بعد الفراغ من صلاة الجمعة
بذلك لئلا ينصرفوا.
وعسى أن يكون لعلماء الأزهر الشريف أكبر مظهر في هذا يؤثر عنهم.
_________
(1)
يقال أرز الشيء (من باب نصر وضرب وعلم) أرزا وأروزا بمعنى تقبض وانكمش ورجع، وأرزت الحية إلى جحرها انقبضت وتراجعت إليه، وأرز الرجل إلى وطنه انقبض وكف عن التجول في الأرض راجعا إليه، والأُرْوِيَّة بالضم وتشديد الياء الوعل أي تيس الجبل يطلق على ذكره وأنثاه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخوجه كمال الدين الهندي
توفي في سلخ شعبان من هذه السنة (1351) أيضًا أكبر الدعاة إلى الإسلام
في هذا العصر الخوجه كمال الدين الهندي إمام جماعة المسلمين في مسجد ووكنج
في لندن ومحرر مجلة الإسلام التي تصدر باللغة الإنكليزية هنالك، وقد أسلم
بدعوته كثير من رجال الإنكليز ونسائهم أجلهم قدرًا، وأرفعهم قدرًا، لورد هدلي
الذي سمي بعد اهتدائه (الفاروق) وقد حج مع أستاذه كمال الدين، وخدم الإسلام
خدمة جليلة، وللخوجه كمال الدين رحمه الله تعالى مصنفات في الإسلام مفيدة كانت
خير مروج لدعوته إليه، وقد اشتهر أنه كان من أتباع مسيح الهند الدجال القادياني
المعتدلين، ولكن كذب ذلك بعض العارفين بأحواله، وأخبرني من يقرأ مجلته منذ
سنين أنه لم ير فيها ما يدل على ذلك. وهاك خلاصة ترجمته.
(ملخص ترجمة الفقيد رحمه الله
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ صاحب المنار:
نبعث إليكم مع هذا ترجمة حياة المرحوم الخوجا كمال الدين لتتفضلوا بنشرها
في مجلتكم القيمة، ولكم الشكر.
…
...
…
...
…
...
…
... خوجا عبد الغني
…
...
…
...
…
... سكرتير الجمعية الإسلامية لاهور
أسلم المرحوم الخوجا كمال الدين الروح يوم الأربعاء في الثامن والعشرين من
شهر ديسمبر سنة 1932 م.
ولد الفقيد عام 1870 لوالده الخوجا عزيز الدين بمدنية لاهور (البنجاب)
فهو حفيد الشاعر المشهور الخوجا عبد الرشيد الذي كان قاضي لاهور أيام حكومة
السيخ، وقد اشتهر بيته بالعلم والفضل.
بدأ الفقيد دراسته في مدرسة الحكومة، ثم انتقل إلى كلية فورمان بلاهور فنال
منها شهادة البكالوريا في الآداب والعلم، ونال الميدالية في الاقتصاد من جامعة
البنجاب، وعُيِّنَ أستاذًا في كلية لاهور الإسلامية، ثم ما لبث بأن صار مديرًا لها،
وفي عام 1898 نال شهادة الحقوق من درجة البكالوريا، ومارس المحاماة في
بشاور ست سنوات، وعاد بعدها في 1903 إلى لاهور حيث أصبح في زمن يسير
من كبار المحامين لدى محكمة البنجاب الرئيسية وفي تلك الأثناء طاف بلدان الهند
يلقي فيها المحاضرات عن الإسلام وقد اختارته جامعة عليكرة الإسلامية عضوًا في
هيئة كبار علمائها وأمينًا في لجنة أمنائها، ثم بارح الهند إلى إنكلترة عام 1912
للدعوة إلى الإسلام وحده مستقلاًّ بنفسه، تاركًا عن طيبة خاطر ما حازه في بلاده
من مكانة عالية وشهرة واسعة في المحاماة، كانت تدر عليه أرباحًا طائلة، فلم
يتوقع له أحد من أهل وطنه نجاحًا فيما وطَّد العزم عليه، إلا أن الحوادث قد أثبتت
بعدئذ أن رحلته هذه كانت فتحًا جديدًا للإسلام في الغرب.
أقام الفقيد في ووكنج بإنكلترة وأنشأ فيها بنفقته الخاصة (المجلة الإسلامية)
فاتسعت دائرة انتشارها وذاع صيتها مع الأيام ثم أنشأ في لاهور عام 1914 مجلة
مماثلة لها باللغة الأوردية باسم (رسالة إشاعتي إسلام) وكان يحرر المجلتين بما
عهد فيه من مقدرة وكفاءة نادرة مدة عشرين عامًا كانت وفاته في نهايتها، وفي عام
1913 تولى الإمامة بمسجد (شاه جهان) بووكنج، وبقيت له هذه الإمامة حتى
توفي. وقد كتب نحو مائة مؤلف في الإسلام والأديان الأخرى كان لها أثر محمود
في المعاهد والبيئات الدينية.
لم يكن يقول بشيء من الفوارق بين الفرق الإسلامية بل كانت كلها في نظره
سواء، وكان جُلُّ مراده وأهم مقاصده أن يعود الإسلام إلى ما كان عليه في عصر
النبوة من البساطة والنقاء، ولعل هذا القصد كان سر نجاحه وإثمار جهاده، فهدى
الله تعالى به وحده إلى الإسلام ما ينيف على ألف نسمة من الإنكليز من رجال
ونساء، منهم لورد هدلي الشهير.
وقد طاف الفقيد أوربة وأفريقية والشرق الأدنى والأقصى داعيًا إلى الإسلام
ناشرًا لواء هدايته، وحج البيت الحرام مرتين أولاهما في عام 1915 والثانية مع
لورد هدلي عام1923.
وكانت في حياته عنوان البساطة والتضحية في سبيل الإسلام وإعلاء شأنه
ورفع مناره، وقد انهمك في أواخر حياته بترجمة القرآن وتفسيره بالإنكليزية مع ما
كان عليه من ضعف فخشي عليه الأطباء مغبة الانهماك وتحميل نفسه فوق ما
تستطيعه، ونصحوا له ترك العلم ريثما يسترد قواه، فلم يأبه لنصحهم وتابع ما
شرع فيه، وكان له في الهند أملاك تقدر بنحو لك ونصف (أي مائة وخمسين ألف
روبية) .
وفي عام 1927 عندما شعر بثقل المرض عليه وقف جميع أملاكه لبعثة وكنج
الإسلامية، وأما حقوق مؤلفاته والمجلة الإسلامية فقد جعل الحق فيها للجمعية
الإسلامية في لاهور.
كان الخوجا كمال الدين ذا شخصية فذة، وكان خطيبًا مُفَوَّهًا يقف في الجماهير
ساعات بطلعته المهيبة فلا يشعرون خلالها بملل ولا سآمة. وكانت صفاته الممتازة
تحببه إلى جميع عارفيه ورواد مجلسه، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه قد انتقل إلى الدار
الآخرة تاركًا كل من اتصلوا به أصدقاء ليس بينهم عدو واحد، وقد خدم الإسلام
أجلّ خدمة، ولم يكن له نظير في وقتنا هذا. وسيكون من الصعب بل من المستحيل
ملء الفراغ الكبير الذي أحدثه فقده، تغمده الله بالرحمة والرضوان اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
إننا لكثرة أعمالنا، ومنها انفرادنا بالتحرير والتصحيح للمجلة ولكثير من
مطبوعات دار المنار لا نجد فرصة نطلع فيها على ما يهدى إلينا من المطبوعات
لنقضي حق أصحابها وحق الأمة علينا بتقريظها ونقدها فكنا نرجئه من سنة إلى
أخرى رجاء اقتناص الفرص ولا تزال تفر منا، فنحاول ذكرها على سبيل التعريف
الوجيز كما تفعل بعض المجلات فيعز علينا ذلك فيما نراه كبير الفائدة فنقرظ في
العام قليلاً منها، وإننا نفتتح هذه السنة بالتنويه بأهمها مبتدئين بكتاب جليل في خاتم
النبيين وهو:
(محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل)
مؤلفه الكاتب الإسلامي الاجتماعي العالم الديني العصري الأستاذ محمد أحمد
جاد المولى المفتش بوزارة المعارف، وقد طبع في مطبعة دار الكتب المصرية
بالقاهرة سنة 1349 على ورق جيد بحروفها الجميلة، وأعيد طبعه في هذه السنة
1351 فيها أيضًا. صفحاته 271 صفحة.
تدخل (محتويات الكتاب) بعد المقدمة في عشرة أبواب:
(1)
عنوانه: إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترد الفضائل جميعها.
(2)
محمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل.
(3)
الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي اقتضت بعثته.
(4)
مراحل حصول النبوة واستقرارها.
(5)
الأدلة القاطعة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
(6)
محمد صلى الله عليه وسلم أكبر المصلحين نجاحًا.
(7)
محمد صلى الله عليه وسلم أوفى الأنبياء دينًا.
(8)
محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق.
(9)
محمد صلى الله عليه وسلم أجدر الناس بالإيمان به ومحبته واتباعه
وطاعته.
(10)
موجز السيرة النبوية.
وفي كل باب من هذه الأبواب مسائل مهمة مفصلة أحسن التفصيل بأسلوب
فصيح لا تجدها مستوفاة في كتب السيرة المطولات، وما يوجد فيها منها يعسر
استخراجه على أكثر القراء في هذا الزمان، فهو قد استخرج الزبد من تلك الألبان
الروحانية التي لا يتغير طعمها، والعسل المُصَفَّى من تلك الثمار النبوية الشهية
البالغة، ببيان تلذ قراءته جميع الناس، وتفيد جميع القارئين، ولكنه قد عَدَّ في
الأدلة العقلية على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم ما هو من الفضائل الأدبية
والمزايا الاجتماعية؛ لأنها تؤيد الدليل العقلي في جملتها، كما عد ما ذكره من مزايا
القرآن في إعجازه معجزة في جملتها لا في كل فرد منها، وقال مثل ذلك الأحاديث
النبوية جميعها.
وأورد كثيرًا من الأحاديث في أبوابه غير مُخَرَّجَة لنقله إياها من كتب
المتأخرين فكانت مختلفة الدرجات، ومنها رفع ما ليس بمرفوع، ولا تخلو ضعافها
من الموضوع، ومن ذلك أثر مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سقط منه
متعلق الخبر المقصود وهو: (الناس بزمانهم أشبه) هكذا أورده في الشواهد على
إيجاز النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مرفوع ولفظ الأثر (أشبه منهم بآبائهم)
ومثل هذا الكتاب في نفاسته وعظم فائدته، وجدارته بالتدريس في المدارس الثانوية
أو العالية يجب ألا يُذْكَر فيه غير الأحاديث الصحيحة أو الحسنة المَعْزُوَّة إلى
مُخَرِّجِيهَا من حُفَّاظ السنة. وقد علمت أنه عازم على ذلك عند إعادة طبع الكتاب
مرة ثالثة، كما أنه عازم على إعادة النظر فيما كتبه من سوء حال الأمة العربية وما
كان من مساويها قبل البعثة المحمدية، وأن يزيد على ما ينقحه منها ذكر بعض
فضائلها التي أشرنا إليها في خلاصة السيرة المحمدية؛ وهي من مراجع هذا الكتاب
النفيس كما أن من مراجعه كتاب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام ولعله نسي أن يذكرها
معها.
ومن حسن ذوق المؤلف وفهمه أنه سمى كتابه (محمد المثل الكامل) ولم يقل
(المثل الأعلى) لأن الله عز وجل قال في كتابه العزيز {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: 60) وهو يفيد الاختصاص، فهل يعتبر بهذا هؤلاء الكتاب المجازفون
المقلدون الذين ابتذلوا هذا الوصف الأعلى فصاروا يبذلونه لكل من يمدحونه وإن
كان لا يستحق المدح بما دون هذا.
وإنني أنصح لوزارة المعارف ولمديري المدارس الأهلية الإسلامية بتدريس
هذا الكتاب في مدارسهم، ولسائر المسلمين بمطالعته.
وثمن النسخة منه 10 قروش صاغ، وهو يطلب من مكتبة دار المنار بمصر.
***
(كتاب الجنايات المتحدة في القانون والشريعة)
كتاب حديث في وضعه وموضوعه، ألفه وطبعه منذ سنتين الأستاذ الفاضل
(الشيخ رضوان شافعي المتعافي) خريج قسم التخصص في الشريعة الإسلامية
ومدرسة دار العلوم العليا (حاول فيه بيان مقدار المماثلة الإسلامية بين قانون العقوبات
الأهلية وشروحه وبين الشريعة الإسلامية) ويعني بالشريعة الإسلامية ما تقرر في
كتب الفقه المشهورة. والغرض من هذا أنه قلما يوجد في قانون العقوبات حكم لا
يوجد له نظير في كتب الفقه مثله أو خير منه فلا عذر إذًا لحكومة إسلامية كحكومة
مصر أن تستمد قانونها من كتب الإفرنج دون كتب الفقه الإسلامي، وهي تجد كل
ما يُحتاج إليه لحفظ الأمن وتأديب المعتدين في كتب الشرع الديني الذي تنسب إليه
دولتها، وتدين الله به أمتها. وهذا غرض صحيح طالما أَثْبَتُّهُ في المنار، وبينتُ
فوائده الدينية والاجتماعية والسياسية، واقترحت على العلماء الواقفين على الفقه
الإسلامي والقوانين الوضعية أن يؤلفوا فيه كتابًا أو كتبًا بأسلوب القوانين ويحملوا
الأمة على مطالبة حكومتهم بتنفيذه.
وقد فتح هذا الكتاب الجديد لهم باب العلم، وأورد لهم النماذج منه، فمهما
يكن من آرائهم في مسائله فما أرى أنهم يختلفون في صحة الغرض الذي ذكرناه،
وأنه قد آن وضع المشروع التفصيلي الذي اقترحناه من قبل لتنفيذه.
هذا وإن أكثر بضاعة المؤلف التي يعرضها في أمثال هذه المسائل يأخذها من
كتب الفقه الحنفي، وهي من مباحث الإسلام العامة وحكمته في التشريع لا من
المباحث المذهبية، ولذلك نراها قاصرة، ونراه عرضة للعثار إذا عرض لدلائل
الكتاب والسنة وما استنبط منها كعثرته فيما انتقده على تفسير المنار في مسألة الربا.
ومنه زعمه أن الربا حُرِّمَ في أول الإسلام بمكة بنص قوله تعالى في سورة: {وَمَا
آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ
تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: 39) والآية لا تدل على
تحريم الربا ولا على فرضية الزكاة دلالة قطعية، لا على قاعدة مذهب الحنفية في
الفرضية والتحريم، ولا ظنية أيضًا، ولذلك لم يقل بدلالتها على الأمرين أحد من
علماء الصحابة والتابعين ولا أئمة الفقه، وإنما هي من قبيل قوله تعالى في سورة
سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 37) .
نقل هذا المؤلف جملة مما كتبناه في التفسير من التفرقة بين الربا المحرم
بنص القرآن القطعي، وما ثبت منه بروايات الآحاد الظنية وأقيسة العلماء، وهو
يتضمن ما أجمع عليه العلماء من أن الربا حرم بعد الهجرة بآية آل عمران وآيات
البقرة ورد علينا بزعمه أنه حرم في مكة بآية سورة الروم، وقرَّر الاستدلال بقوله:
(وقد تقرر في علم الأصول أن لفظ (ما) من صيغ العموم ولا شك في أن
الربا ذكر في آية الروم بلفظ منكر مبينًا للفظ ما يشمل كل نوع يسمى ربًا) .
ثم ذكر أن السنة الصحيحة لم تبين أنواع الربا، ولكن الأئمة استنبطوا من
الأحاديث التي صحت عندهم جميع الأنواع، فإذا كان القرآن بيَّنَها كلها فأيُّ حاجة
بعدُ لاستنباط الأئمة لها من الأحاديث؟
الحق الواضح أن آية سورة الروم لا تدل على تحريم الربا مطلقًا، فعموم
لفظها وعدمه سواء. وقد نقل المفسرون أنها نزلت في الهدايا والعطايا التي يرجو
باذلوها أن يعطوا من المقابلة عليها أكثر منها، رووا هذا عن ابن عباس ومجاهد
وسعيد بن جبير والضحاك ولفظ الأخير في تفسير الآية: هو الربا الحلال أن
تهدي تريد أكثر منه، وليس له أجر ولا وزر، ونهي عنه النبي صلى الله عليه
وسلم خاصة فقال: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) قال في الدر المنثور بعد
إيراده: وروى البيهقي في سننه عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن
محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه في الآية قال: الرجل يعطي الشيء ليكافئه
به ويزاد عليه فلا يربو عند الله، والآخر الذي يعطي الشيء لوجه الله ولا يريد من
صاحبه جزاء ولا مكافأة فذلك الذي يضعف عند الله تعالى. اهـ.
فعلى الأستاذ الشيخ رضوان أن يدقق في البحث ويطلع على الروايات ومسائل
الإجماع ومدارك الخلاف، قبل أن يتصدى للحكم الاستقلالي الاستدلالي في
الشرع.
***
(الإسلام دين عام خالد)
كتاب جديد للكاتب الاجتماعي المشهور الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي
مؤلف من مقالات نشرها في جريدة الجهاد السياسية اليومية ثم جمعها في سِفْر بلغت
صفحاته 190 صفحة من القطع الصغير، وصفه بقوله عنه (تحليل دقيق لأصول
الدين الإسلامي تحت ضوء العلم والفلسفة) وقد جاءنا نسخة منه في البريد والعهد
بصحابه أنه غضب علينا لانتقادنا بعض كتبه منذ ربع قرن أو أكثر، فما عاد يهدي
إلينا شيئًا من مصنفاته على ما كان بيننا من تعارف وتآلف منذ السنة الأولى من
هجرتنا إلى مصر (سنة 1315) بل كتب مقالات شديدة في الطعن علينا: ونحن
قد أمسكنا عن الرد على ما نراه أحيانًا من الخطأ في كتبه، وفيما ينشره في الجرائد
لئلا يتخذ انتقادنا وسيلة للجدل المذموم أو لما هو شر منه، وإن أدري أهو الذي
أهداني هذا الكتاب الجديد لثقته بأنه قد حرَّره واجتنب فيه الآراء الشاذة المنتقدة عند
أمثالنا من المشتغلين بالإصلاح الديني والتجديد الإسلامي وهو الأرجح، أم أرسله
إلينا غيره ممن يحبون الوقوف على رأينا فيه، وأَيًّا ما كان المُرْسِل والباعث على
الإرسال فقد صار من الواجب عليَّ أن أقرظ الكتاب وأبيِّن لقراء المنار خلاصة
رأيي فيه وفي صاحبه، على أنني لم أقرأ الكتاب بعدُ، وإنما أبني كلمتي المجملة
فيه على ما قرأته منه في جريدة الجهاد، وقد أراجع ذلك فيه للتثبت، وربما كان
هذا الإجمال هو الذي يضطرني إلى مطالعته، والتفصيل في نقده عند سنوح
الفرصة.
إن الأستاذ فريد أفندي وجدي كاتب سيال القلم في المباحث الاجتماعية
والمدنية الإسلامية، شديد التأثر والإعجاب بالفلسفة العصرية ومذهب استحضار
الأرواح، ولكنه مضطرب متناقض في كل ما كتبه عن الإسلام لقلة علمه بأصوله
وفروعه وكتابه وسنته وتشريعه، ومن أظهر هذا العلم الناقض المضطرب أنه يأخذ
رواية شاذة ظنية رجع عنها صاحبها في فرع خاص من الفروع العملية الظنية
كالرواية عن أبي حنيفة في صحة الصلاة بقراءة ما يجب فيها من القرآن مترجمًا
بغير العربية فيجعلها حجة على رفض إجماع الأمة وقاعدة كلية إسلامية يستدل بها
على شرعية ما فعلته حكومة الجمهورية التركية من ترجمة القرآن كله بالتركية
وإكراه شعبها على التعبد به - وإن اعتقدوا أن ذلك معصية لله أو كفر بدينه - ومِن
مَنْعِ الشعب من قراءة القرآن المنزل من عند الله باللغة العربية وعِقَاب من يقرؤه
ومن يطبعه، زيادة على استحسانه منها رَفْضَ جميع كتب السنة والشريعة العربية.
ومن المقرَّر في علم الأصول أن رأي المجتهد ليس حجة في الشرع، وأن
الاجتهاد لا يصادم الإجماع ولا النص، وأن القول الذي يرجع عنه المجتهد لا يُعَدُّ
مذهبًا له.
وأما هذا الكتاب فأرجو أن يكون أكثر ما فيه حسنًا أو نافعًا في جملته، ومن
الحسن فيه ما له قيمة غالية ووزن راجح، ومنفعة كبيرة، وهو بيان مزايا الإسلام
بالأسلوب العصري المقبول عند نابتة المدارس الدنيوية، وما ينقله عن علماء
الإفرنج من الثناء على عقائد الإسلام وتشريعه وحكمته وسيرة الرسول الأعظم في
إقامته وسيرة خلفائه وقومه العرب في فتوحهم وحضارتهم، ولكن ما فيه من الباطل
في مقصده، وما انفرد به من رأيه ومذهبه في فهم عقائد الإسلام وقواعده، قد
يجعلان إثمه أكبر من نفعه.
إن فيه كبوات ونبوات كثيرة منها ما لا يقال له عثار، ولا يقبل فيه اعتذار،
ومنها ما يحتمل التأويل، وما يتسع المجال فيه للقال والقيل، وسبب ذلك أنه لم
يدرس علوم الإسلام من تفسير كتابه وسنة رسوله وأصول عقائده وفقهه وفروعه
على أحد من العلماء ولا بنفسه دراسة علمية، إن كان من الممكن فهمها بدون التلقي،
وإنما معلوماته الدينية أمشاج علقت بذهنه من مطالعات متفرقة في الكتب
والصحف شِيبَتْ بالنظريات الفلسفية والاجتماعية الحديثة، فولدت له آراء منها
المقبول، ومنها الشاذ المردود بنصوص الكتاب والسنة، أو إجماع الأمة، ويقع له
فيها التناقض والتعارض.
ولقد عهدته في شبابه أقل شذوذًا مما قرأته له في السنين الأخيرة من مقالات
نشرها في جريدة الأخبار ثم في الأهرام وشرها في انتصاره وتأييده لما فعلته حكومة
الجمهورية التركية من المروق من الإسلام ومحاربة كتابه وسنته وتشريعه ومحاولة
محو كل ما يُذَكِّرُ الشعبَ التركيَّ الإسلامي به وبنائها ذلك كله على دعوى ارتقائها في
التجدد الإنساني ارتقاء لا يمكنها معها أن تعتصم بدين قديم بَالٍ
…
ومن العجيب أن
هذا الكاتب الإسلامي وافقها على هذا المروق، وعلى تعليله كما أشرنا إليه في
كلامنا على محاولتها ترجمة القرآن بالتركية وكتابة الترجمة بالحروف اللاتينية،
ولكننا لم نصرح باسمه فيه، وكنت فهمت من مقالات هذا الكتاب، أنه نهض من
هذه السقطة وتاب، فإذا هو مُصِرٌّ عليها كما علم من رده على شيخ الإسلام السابق
صبري أفندي في صحيفة الفتح الغراء.
وأما شذوذه في هذا الكتاب فلا يصل إلى هذا الحد من الشطط الصريح، بل
هو مزمل بنظريات الفلسفة، ومزين بالمدائح المحسنة، ومسجى بالدفاع عن الملة،
وأول ما علق بذهني منه إذ قرأته في جريدة الجهاد هو أنه فسر الدين والوحي
والإسلام - وشأنه مع المنتهين من العلماء - تفسيرًا فلسفيًّا مخالفًا لما جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين، وفهمه منه وتلقاه عنه أصحابه والتابعون لهم وسائر أئمة
المسلمين، ولكنه غير بالغ من الصراحة ما يفهم مراده منه كل مسلم.
ومن تناقضه وتعارضه أنه يوافقنا على ما قرَّرْنَاه مرارًا كثيرة في توحيد
الإسلام لشعوب البشر وقبائلهم في جميع الأمور الدينية لتحقيق الأخوة الإنسانية
العامة ثم تراه ينقض هذا بتأييده للجمهورية التركية في أفظع شقاق حدث في الإسلام
بحجة عصبية اللغة وضرورة اختلاف التشريع، دع مخالفته في أساس الدين
وبعض أصوله وشذوذه في فهمها.
رأيه في أساس الدين وكون الإسلام هو الطبيعة:
إن أساس الدين الذي عرفه في المقدمة الأولى من الفصل الأول من هذا
البحث هو أن لهذا الوجود الظاهر روحًا عامًّا وأرواحًا خاصة بكل نوع من
الموجودات، وهذه الأرواح كلها تستمد حياتها ونظامها من الروح العام، ومنها
الإنسان فهو يستمد حياته الجثمانية من ذلك الروح كما تستمد سائر أنواع الحيوان
وكذا النبات، ولكن له روحًا عقليًّا آخر متصلاً بالحياة الروحانية العامة، وغاية الدين
القصوى هي اتصال روح الإنسان العقلي الخاص بروح الوجود العام اتصالاً ذاتيًّا
مباشرًا واندماجه فيه. وقد أخذ هذا الأسس من فلسفة وحدة الوجود الهندية التي فتن
بها بعض صوفية المسلمين معطلة التشريع، الذي قال فيهم الإمام الغزالي: إنهم قد
طووا بساط الشريعة طيًّا فيا ليتهم لم يتصوفوا.
ثم إنه جعل الناس ثلاثة أقسام في الثقافة العقلية: علماء منتهون، وأواسط
متعلمون، وعامة مقلدون، وقرر أن كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث تتطلب من
الدين ما يناسبها من الغذاء الروحاني، وأن الدين الذي يوفي كلا منها حاجاتها كلها
هو الدين العام الخالد، فإن لم تجده لجأت الإنسانية إلى شيء جديد. وقفَّى على
هذا ببيان ما تطلبه الطبقة العليا من الدين بقوله:
(لا يتطلب العلماء المنتهون أن يأخذوا عن الدين آدابًا وأخلاقًا، ولا أَنْ
يتعلموا منه أسلوبًا في الحياة ولا دستورًا في المعاملات يتفق وأصول العدل والإخاء
والمساواة، فإنهم وضعة المذاهب وبناة الأساليب، وصاغة الأصول، وإنما هم
يتطلبون من الدين أن يصلهم بروح الوجود إيصالاً مباشرًا يستمدون منه حياة
لأرواحهم، ونورًا لعقولهم، وسكنًا لنفوسهم، ومُطْمَأَنًّا لوجدانهم)
ثم وصف هؤلاء العلماء وصفًا خياليًّا شعريًّا في اشتغالهم بهذا الوجود وقواه
وآياته وعلله الأولية وحيرتهم في أسرار ذلك وخفاياه (وقال) : (فالتدين لديهم
صعود بالروح إلى قيومها واتصال به في عالمها) وصرَّح بأن هؤلاء العلماء
الأعلام يرون أن لا حاجة بهم إلى الأديان المعروفة، فهم يعتمدون في تدينهم على
ما غرس في الفطرة الإنسانية من الدين الحق، وقد حمل بعضهم اليأس من الأديان
الموجودة على وضع دين دعوه الدين الطبيعي) .
هذه مقدمات خلاصتها أن هؤلاء الذين سماهم العلماء الأعلام المنتهين قد
عرفوا كل الأديان الموجودة ولم يجدوا فيها حاجتهم إلى الدين الموصل لهم إلى ما
يتطلبونه من وصال روح الوجود مباشرة، وأن كل ما في هذه الأديان من أخلاق
وآداب وفضائل وتشريع ومعارف إلاهية هي دون ما يعرفونه وما وضعوه منها،
ونتيجة هذه المقدمات أن ما يسميه هو إسلامًا هو الذي يصلح لهذا العصر علماؤه
الأعلام ومن دونهم، وهو ما صرَّح به قبل الآن في جريدة الأخبار واشترط
لإظهاره والاقتناع به والتمهيد لقبوله أن يترك المسلمون هذا الإسلام الذي يعرفونه
تركًا تامًّا لأجل أن تكون الدعوة إلى الإسلام الذي يفهمه دعوة جديدة مرجوة القبول
أو مضمونة القبول.
وقد صرَّح في هذا البحث الجديد بأن هؤلاء العلماء المنتهين يجدون في دين
الإسلام القديم آية من كتابه موافقة لهم على مذهبهم الذي يذهبون إليه في تطلبهم لما
ذكر من وصال روح الوجود وقيومه مباشرة بلا وساطة وهي قوله تعالى في سورة
الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) يعني أنهم
بمقتضى هذه الآية على ما فسرَّها هو به مسلمون، وإن لم يعلموا ولم يعلم أحد من
المسلمين الذين لا يفهمون هذه الآية كما فهمها أنهم مسلمون، وبهذا دون غيره يكون
الإسلام دينًا عامًّا خالدًا على رأيه، والمعقول أن يكون الناس أشد تباينًا وتعاديًا في
دينه إن قبلوه مما هم عليه في أديانهم كلها.
وذلك بأنه فهم أن الفطرة في الآية هي الطبيعة البشرية نفسها، وأن الطبيعة هي
الإسلام المراد من الآية، ومن القرآن كله، قال في ص 26 (فهذه الفطرة فطرة
المولود قبل أن يلقن دينًا من الأديان وتعليمًا من التعاليم هو الإسلام الذي جاء القرآن
بالدعوة إليه) ثم قال: (فالإسلام لا يؤخذ بالتلقين، وإنما هو الطبيعة نفسها خالصة
من جميع المذاهب البشرية، فكل مولود يولد مسلمًا بطبيعته، فهي تؤدي إلى خير
المذاهب في مدى حياته بعلمه وعقله وتفكيره ولا يحتاج لمن يرشده إليه) ! ! !
لعَمْرِي إن هذا الكاتب لم يكتب هذا تحت ضوء العلم والفلسفة، بل كتبه وهو
غريق في تخيلات من الفلسفة وأوهامها، وآراء فجة في حقيقة الدين لم يتم
نضجها، وتجارب في مخاطبة الأرواح لم تبلغ درجة الحقائق العلمية، فمثَله فيها
{كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: 40)
يرد على هذا الرأي أو المذهب أو الدين مسائل كثيرة متشابكة نذكر منهم ما
يتبادر إلى الذهن بالاختصار، فإن بسطها لا يمكن إلا بتأليف سِفْر خاص.
***
(مطبوعات دار الكتب المصرية)
أخرجت دار الكتب المصرية من مطبوعاتها الدورية في هذه الفترة ديوان
أيدمر المحيوي وديوان جران العود النميري على أدق ما يكون من الصحة وجمال
الطبع، وخدمة لنشر العلم والأدب جعلت ثمن النسخة الواحدة من كل منهما 25 مليمًا
للأفراد و20 مليمًا لباعة الكتب أو لمن يشتري عشر نسخ فما فوق.
ثم أنجزت طبع كتاب (ديوان نابغة بني شيبان) من فحول شعراء الدولة
الأموية، وهو كسائر مطبوعات الدار في دقة التصحيح وجمال الطبع، وثمن النسخة
الواحدة منه 40 مليمًا للجمهور، و30 مليمًا لأصحاب المكتبات أو لمن يشتري
عشر نسخ فأكثر. وتطلب مطبوعاتها منها ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(جريدة الجامعة الإسلامية)
جريدة يومية سياسية ذات 8 صحائف تصدر في ثغر يافا الفلسطيني لمنشئها
ورئيس تحريرها الأستاذ الشهير بعلمه وقلمه ووطنيته الشيخ سليمان التاجي
الفاروقي، وحسبي أن أقول في تقريظها: إن مسماها مصدق لاسمها، فهي تتحرى
في تحريرها وما تختار نقله عن صحف العالم مصالح المسلمين العامة من دينية
وسياسية، ولا تتحيز إلى حكومة من الحكومات الإسلامية دون أخرى، ولا إلى حزب
من الأحزاب الوطنية الفلسطينية أو زعيم دون آخر فيما فيه خلاف، بل تسالم الجميع
وتوادهم في دائرة المصلحة العامة، ولكن بلغت سعة الحرية منها أنها تنشر رسائل في
مدح خطة حكومة الجمهورية التركية وإطراء زعيمها فيما يخالف كاتب هذه الرسائل
فيه كل مسلم يدين الله تعالى بما جاء به محمد رسول الله وخاتم النبيين، ولعل عذرها
في هذه الحرية أنها تقبل الرد على هذه الرسائل لتمحيص الحقائق، وما ذكرت هذا إلا
ليكون استدراكًا على ثنائي عليها؛ لئلا يعد إقرارًا لهذه الرسائل، وتنبيهًا للمدافعين
عن الإسلام من قرائهم.
فأهنئ الأستاذ الفاروقي المجاهد الشجاع بجريدته، وأحث المسلمين على
تعضيده بنشرها ونشر آرائهم الإصلاحية فيها، وقيمة الاشتراك السنوي فيها في
فلسطين جنيه فلسطيني ونصف جنيه، وفي خارجها جنيهان وقيمة الجنيه
الفلسطيني والجنيه الإنكليزي واحدة، ومثلهما الدينار الحجازي والعراقي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أنباء العالم الإسلامي
(حال المسلمين أو العرب مع دول الاستعمار)
بيَّنا في فاتحة منار هذا العام حال الدول والشعوب الإسلامية في العالم كله،
ومنه أن دول الاستعمار المعادية للإسلام قد تقلص ظل نفوذها وبغيها عن مسلمي
الأعاجم ووجهت ظلمها وقهرها للأمة العربية في مهدها من جزيرة العرب وما
حولها من آسية وفي أفريقية، وهي الشعوب التي بذلت دماءها وأموالها في سبيل
هذه الدول في الحرب العالمية الكبرى. فهي تكافئهم على هذا بسلب ما بقي لهم من
استقلال وثروة ووحدة في آسية والقضاء على دينهم ولغتهم وثروتهم في أفريقية،
لماذا؟ لأنهم جهلاء متفرقون لا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم؟ فإن قوة العرب
في جزيرتهم كافية لكف عدوان الإنكليز عن الحجاز وفلسطين وسورية، لو لم
تجعل هذه الدولة بأسهم بينهم شديدًا، وتهددهم بتخريب بيوتهم بأيديهم.
وأما فرنسة فلا تزال تهدم دينهم في سلطنة المغرب الأقصى وإمارة تونس
اللتين علاقتها بهما علاقة حماية مشترط فيها سلامة دينهم وجنسيتهم بأشد مما تفعل
في الجزائر التي فتحتها منذ مائة سنة، وقد بلغ من اضطهادها للحرية الدينية فيها أن
منعت من عهد قريب علماء المسلمين من الوعظ الديني وقراءة الدرس في التوحيد
والفقه من جميع المساجد.
وقد كاد ينتهي العام الثالث على إصدارها الظهير البربري المشهور (في 16
مايو) الذي يخولها إخراج شعب البربر من دائرة الشريعة الإسلامية وجعلهم من
أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وهي لا تزال مصرة على تنفيذه بكل ما أوتيت من قوة.
وهي على هذا تنشئ سكك الحديد لوصل المغرب بمستعمراتها الداخلية في
إفريقية لتتمكن من حشد الجيوش منها إلى الساحل المغربي ونقلها إلى أوربة عند
اشتعال جحيم الحرب الآتية التي ستكون هي أكبر الأسباب لاشتعالها بسياستها
العسكرية المسرفة، ومحاولتها قتل الشعب الألماني صبرًا وقهرًا بحرمانه من
الاستعداد للدفاع عن نفسه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
* * *
(الجنسية الفرنسية في تونس)
وضعت الدولة الفرنسية منذ عشر سنين نظامًا لتجنيس مسلمي الإمارة
التونسية بجنسيتها لأجل إخراجهم من دينهم ومن جنسيتهم التونسية المعترف بها في
عقد حماية فرنسة لها، وقد حدث في الشهر الماضي أن مات أحد هؤلاء المتجنسين
فمنع الشعب المسلم أهله من دفنه بين المسلمين في مقابرهم لأنه مرتد، فتصدت
السلطة الفرنسية لقمع هذه الحركة وأرادت أن تستعين على هذه الجناية بفتوى
بعض العلماء الرسميين بنفوذ الوزير تُوهِمُ العامة أنه يمكن للمتجنس بالجنسية
الفرنسية أن يظل مسلمًا بأن يتوب من ذنبه، وحينئذ يصح أن يصلى عليه إذا مات
ويدفن في مقابر المسلمين، ولكن من المتفق عليه عند العلماء أن ركن التوبة الأول
هو الرجوع عن الذنب الذي صار به كافرًا مرتدًّا، وهو في هذه المسألة التجنس
المعلوم، يقال: إن الفتوى الرسمية صدرت، وإن العلماء الأحرار أنكروها،
والشعب نبزها ونبزهم، والرسميات لا مزية لها ولا رجحان على غيرها في عقائد
الإسلام؛ إذ ليس فيه باباوية ولا عصمة، فالجمع بين الإسلام والجنسية الفرنسية
مُحَالٌ، فحيا الله الشعب التونسي، وننصح لعلمائه وحكومته بألا تخذله في دينه،
ومن خذله منهم خذله الله وسنعود إلى الموضوع، إن شاء الله تعالى.
* * *
(فرنسة وسورية الشمالية)
لا تزال فرنسة مُصِرَّةً على تقسيم سورية إلى عدة دول وحكومات للإجهاز
عليها واستعبادها: دولة مسيحية في لبنان ودولة علوية في اللاذقية ودولة إسلامية أو
عربية في الشام ودولة دُرْزِيَّة في جبل الدروز. ولما رأت نفسها مضطرة لدى جمعية
الأمم إلى إلغاء الانتداب اقتداء بإنكلترة، خلقت مجلسًا نيابيًّا بقوتها العسكرية ومال
الحكومة السورية ومساعدة أنصارها الخونة وألفت حكومة سورية من أعوانها،
أرادت أن تضع مع هذه الحكومة ومجلسها معاهدة تحل محل الانتداب وتعني بالدولة
السورية المدائن الأربع المحصورة بين الصحراء وسورية الساحلية، فشعر الشعب
بإيقاظ زعمائه المخلصين بخطر هذه المعاهدة فهب لمقاومتها فنحثه على الثبات،
ونوجه نظر الدولتين العربيتين السعودية والعراقية إلى ما يجب عليهما من العطف
عليه، فإنه ذنبه الذي لا يغفر هو العروبة والإسلام، وتعذر جعله فرنسيًّا كاثوليكيًّا
كما يرجون من الدُّرُوز والنُّصَيْرِيَّة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
لبنان الكبير وطن مسيحي
(هكذا يقول بطرك المَوَارِنة الزعيم الديني السياسي)
نشرت جريدة المقطم رسالة لمراسلها اللبناني تاريخها 14 فبراير سنة 1933
فرأينا أن نسجلها في المنار؛ لأنها من أهم وثائق التاريخ لهذا الانقلاب الطارئ على
هذا الطارئ، وهذا نصها:
(في لبنان اليوم حركة خواطر لأسباب متعددة منها: انقضاء نحو ثمانية
أشهر على تعليق دستوره بحجة إصلاحه وتعديله وعدم ظهور شيء حتى الآن من
هذا التعديل. ومنها خوف أهل لبنان من العودة إلى الحكم المباشر. ومنها عدم
مفاتحة لبنان وأهله بأمر تحديد العلاقات بينهم وبين المنتدبين وإفراغ هذه العلاقة في
قالب معاهدة على المثال الذي جرى في بغداد والذي سيجري في دمشق. ومنها
المعارضة التي تتململ اليوم في لبنان لزحزحة حكومته الوقتية متوسلة بوسائل لا
تنتسب إلى برامج معينة في السياسة الوطنية.
هذه الأمور وغيرها مما تسبب عنه قلق في الأفكار في لبنان وحركة في
الخواطر دعاني إلى البحث في المراجع العالية من زمنية ودينية يرجع إلى رأيها
في حقيقة ما يتوقع أن يتم بهذه الأمور لإطلاع القراء على هذه الحقيقة فقصدت يوم
أمس إلى (بكركي) مقر كبير أحبار الطائفة المارونية غبطة البطريرك أنطون
عريضة لأخذ رأيه؛ ورأي البطريركية المارونية ما برح عليه المعول في شؤون
لبنان السياسية وإليه يستند المنتديون في كل ما يريدون إجراءه.
(دخلت على غبطة السيد البطريرك وهو في خلوته وأعلمته بمهمتي
فاستقبلني بترحاب فقلت: نحن اليوم يا صاحب الغبطة في دور دقيق جدًّا من حيث
مصير البلاد اللبنانية لا سيما أن سورية جارتنا تتحفز إلى الاستقلال الناجز على
مثال ما جرى في العراق فهل يمكن أن تتكرموا برأيكم في مصير لبنان، وفي
موقفه من هذا التحول في الانتداب في سورية؟
فقال غبطته: نحن طلبنا الانتداب الفرنسوي بمطلق إرادتنا ونحن نريد أن
يبقى عندنا الآن، ليس لأننا غير أكفاء للقيام بما هو مطلوب منا كشعب؛ بل لأن
للظروف أحكامًا، وأما أهل سورية فلهم رأيهم، وهم أدرى بما يوافقهم، فإذا كانت
المعاهدة أوفق لهم فنحن نرى الآن أننا ما زلنا في حاجة إلى هذا الانتداب الذي طلبناه
بمحض إرادتنا.
فقلت: يتحدثون كثيرًا اليوم بالوحدة السورية ويذكرون أسماء البلدان التي
يمكن أن تشترك في هذه الوحدة ويقولون: إنها إذا تمت على أساس اللامركزية لا
يضار لبنان بشيء. فهل لغبطتكم رأي في ذلك؟
فقال: إن لبنان كان لبنان، ونريده أن يبقى لبنان، فسورية بحالها ونحن
بحالنا.
فقلت: ولكنهم يا صاحب الغبطة يتشبثون بإرجاع الأجزاء التي ألحقت بلبنان
إلى سورية.
وما أتممت عبارتي هذه حتى التفت إلي العميد اللبناني بعينين برق نورهما
وقال:
ومتى كانت سورية مملكة لها هذه الأجزاء وسلبناها منها، إن هذه الأجزاء
هي أصلا للبنان وقد سلبت منه في الأزمان الماضية فإذا استعادها إليه اليوم استعاد
ما هو ملكه، واسترد ما هو حق له، وهي بلدان لبنانية الأصل أعيدت إلى لبنان.
ألم يكن لبنان ممتدًّا حتى إنطاكية وحتى عكا أو ما وراءها في الأيام السالفة؟ ولهذا
فإذا أعيد إلى ما كان عليه فإعادته هذه يجب ألا تعد تطاولاً منه على حق غيره،
وهذه الأجزاء التي يتألف منها الوطن اللبناني اليوم إنما كانت مع لبنان المعروف
في أيام المتصرفين أجزاء من ولايات أنشأها الترك فحلوا بسلخها عن لبنان الإمارة
اللبنانية، واليوم أعيد الحق إلى نصابه ولبنان إلى أصحابه.
ونحن نريده لعوامل شتى أن يبقى على ما هو عليه، والظروف تجبرنا على
ذلك.
(وهنا ذكر المكاتب حديثًا في دستور لبنان والحكم الوقتي فيه قال في آخره)
فقلت هنا: إن الإشاعات التي يتناقلها الناس اليوم متناقضة، والآراء فيها
مختلفة، فمنهم من يستحسن أن يكون للبنان حاكم من أهله، ومنهم من لا يريد أن
يكون للبنان إلا حاكم فرنسوي، وقبل أن أتم كلامي قال البطريرك: لا! لا! إننا
لا نريد حاكمًا فرنسويًّا للبنان، بل نريده لبنانيًّا محضًا.
فقلت: وماذا ترون في حاكمه الحالي فقال: إننا طلبنا أن يكون الحاكم
مارونيًّا، فقلت: لا أعلم إذا كنتم غبطتكم قد اطلعتم على البيان الذي أفضى به
المسيو بونسو أمام لجنة الانتدابات في جامعة الأمم، وفيه يذكر لبنان بين البلدان
التي قبلت الانتداب في هذه البلاد بطيبة خاطر، وذلك لاختلاف مذاهب سكانه،
وكيف سرد للجنة إحصاء لسكان لبنان وقال: إن جميعهم من الأقليات التي لا يمكن
لواحدة منها أن تسود الأخرى.
فقال غبطته: نعم نحن قبلنا الانتداب بطيبة خاطر، وأما الأقليات والأكثريات
وقولهم فيها فلا يعنينا ولبنان وطن مسيحي)
(المنار) في هذا الحديث عِبَر كثيرة للمسلمين لا نريد الآن أن نشرحها:
(منها) أن الرئيس الديني لمذهب الموارنة الكاثوليكي هو الزعيم السياسي
الأكبر لهم، وقد جعلوه بقوة فرنسة زعيمًا ورئيسًا سياسيًّا لجميع اللبنانيين
والمسلمون فيهم أكثر من الموارنة.
(ومنها) أن هذا الزعيم العام يطلب أن يكون حاكم لبنان مارونيًّا ويقرر أن
لبنان هذا وطن مسيحي. وقد كان لهذه الكلمة هزة في نفوس الطوائف الإسلامية
وبعض المسيحيين الذين لا يزالون يقولون: إن الأوطان في هذا العصر يجب أن
تكون للأقوام لا للأديان، فأراد بعض هؤلاء أن يزيلوا سوء تأثير كلمة البطرك
فنقلوا عنه أنه قال: إن كون لبنان وطنًا مسيحيًّا لا يمنع أن يكون فيه غير
المسيحيين، وهذا مما يعلم بالبداهة فإن العبرة بالحاكمية والسيادة العليا وفي جميع
الأوطان الأوربية وغيرها سكان وطنيون من غير أهل دين الدولة ذات السيادة.
يا حسرة على لبنان، كان متمتعًا باستقلال عديم المثال، فسلبته منه (الأم
الحنون) وجعلته شر آلة لسلب استقلال سورية كلها، وأبناؤه البررة لها لا
يشعرون، فلا قومية ولا وطنية ولا سياسة ولا إدارة، فأين ما كانوا يدعون؟
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاتفاق بين الدولة السعودية
وحكومة شرق الأردن
من أهم أنباء العالم الإسلامي فوز السياسة الإنكليزية بحمل كل من ملك
العربية السعودية وأمير شرق الأردن على الاعتراف بحكومة الآخر، والاتفاق
بينهما على نحو مما سبق في التأليف بين الأول وملك العراق وحكومتيهما. وإن
هذا الاتفاق ليسر كل عربي وكل مسلم، وإن استاؤوا من كونه بسعي الإنكليز
لمصلحة الإنكليز بشرط ألا يتضمن نصه الرسمي اعتراف الأول بقاء منطقة العقبة
ومعان الحجازية تابعة لإمارة شرق الأردن الإنكليزية، (نعم هي إنكليزية بالفعل
سواء سمي استيلاؤها انتدابًا أو ملكًا أو خدمة أو عبودية) فإن كانت نتيجة هذا
الاتفاق بقاء السلطة البريطانية في خليج العقبة وتصرفها فيه، وفي منطقته إلى
معان، فالربح والفوز لها وحدها، والغبن والخسار على الإسلام والمسلمين ولا
سيما عرب الحجاز ونجد، وحكومة الحجاز تكون شريكة لحكومة شرق الأردن
الصورية في إثمه الذي كان لاصقا بأميرها وأخيه وحدهما. أقول هذا على فرض
تسليم الملك السعودي بذلك وهو ما لا أظنه فيه، بل يغلب على ظني أن تبقى
المسألة معلقة ومؤجلة إلى مفاوضة أخرى. والواجب على المسلمين على كل حال
أن يهبوا في كل قطر لحمله على مطالبة الإنكليز بالخروج منها وإرجاعها إلى
الحجاز، وكذا سكة الحديد الحجازية بما سأعود إلى بسطه بعدُ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عسرة الحجاز وهضم حقوقه
يقول بعض حجاج هذا العام: إن ألوفًا من أهل الحرمين يموتون جوعًا في هذا
العام بشدة العسرة وقلة الحجاج ولا سيما أهل البادية وحكومة مصر تتمتع بمئات
الألوف من أوقاف الحرمين، وهي لا ترحمهم ببذل حقوقهم لهم، وأهلها أقرب
المسلمين إليهم، وهي أعلمهم بحالهم، بل اشتهر أن هذه الحكومة تستولي على ريع
أوقاف الحرمين الأهلية المستحق للحجاز من نظارها وتمنعهم من إرساله إلى
مستحقيه، أفلا تخاف وترعى حرمة رسوله صلى الله عليه وسلم في جيرانهما وأهل
حرمهما؟ دع حقوق الإسلام الخاصة، والرحمة الإنسانية العامة؟
ولكن لعنة الله على السياسة التي لا تعرف دينًا ولا رحمة ولا إنسانية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نداء من حزب الاستقلال العربي في فلسطين
إلى كل عربي كريم، إلى كل هيئة عربية،
إلى كل صحيفة عربية في أنحاء الأرض
يبعث حزب الاستقلال العربي في فلسطين نداءه هذا، وحالة العرب في
فلسطين قد انتهت إلى ما تهلع له القلوب، وتضطرب النفوس، وتهتز المشاعر،
إذ أخذ المستقبل المشؤوم يبدو كالحًا مظلمًا، والخطر الملاشي لكيان العرب يتجسم
يومًا فيومًا، ويحدق بهم إحداقًا مفزعًا منبعثًا من ناحيتين كبيرتين، هما ناحية بيع
الأراضي خاصة، وناحية الحكم الاستعماري المباشر في فلسطين عامة، وكلتا
الناحيتين تؤديان إلى تلاشي العرب وانهيار بنيانهم القومي، وانسلاخهم عن أرض
آبائهم وأجدادهم بفعل السياسة البريطانية الصهيونية.
أما مشكلة الأرض، فقد بلغت حدها الأكبر من الخطر، إذا نشط اليهود في
المدة الأخيرة لابتياع الأراضي نشاطًا عظيمًا، وهي الأراضي العربية القليلة التي
بقيت بأيدي العرب، والتي إذا تسنى لليهود ابتياعها - وأكثرها واقع في السهول
الساحلية ذات القيمة الزراعية الجيدة - أصبح اليهود يملكون معظم الجهات الساحلية
الخصبة في البلاد، سلسلة متصلة الحلقات، وظاهر ما في هذا من خطر ينذر
البلاد بسوء المصير، يضاف إلى هذا الخطر، خطر آخر مُمَاشٍ له جنبًا إلى جنب،
وهو الهجرة الصهيونية وإغراق فلسطين بسيل عرم من المهاجرين اليهود يدخلون
البلاد بجوازات سفر وبطرق غير مشروعة، كل هذا نتيجة استقتال اليهود لبناء
المملكة اليهودية في فلسطين، على أنقاض الكيان العربي المتداعي إلى السقوط
والانهدام.
ولقد أصبح أكثر من ستة وثمانين ألف عائلة عربية لا أرض لها ومن دون
مأوى ولا كسب، وثبت هذا بشهادة التقارير الرسمية التي وضعها الخبراء الإنكليز
الذي كلفوا درس الحالة درسًا دقيقًا، وكانت النتيجة الواقعة حتى اليوم أن انتقلت
أجود الأراضي إلى اليهود، وانزوى العرب في المناطق الجبلية القاحلة.
ولذلك باتت فلسطين تشهد كل يوم مآسي انهدام مكانها، بذهاب قرية بعد
أخرى، والأراضي قطعة بعد قطعة، وتشرد المزارعين وهيامهم على وجوههم إلى
حيث الفناء والدمار، هم وعيالهم وأولادهم!
يجري هذا كله جريًا مُطَّرِدًا سنة فسنة، والسلطة الإنكليزية في فلسطين مُمْعِنَة
في حكم البلاد حكمًا استعماريًّا مباشرًا ثقيل الوطأة، مسلحًا بأقسى ما عرفه البشر
من ضروب التقنين والتشريع والأنظمة، مما تدأب السلطات البريطانية في وضعه
وتكبيل البلاد به، وتمهيدًا لإنشاء الوطن القومي اليهودي، وقد بلغت الحال خلال
الخمس عشرة سنة الأخيرة من الويل والإرهاق مبلغًا يعز وصفه ويصعب تصويره،
فأصبح العرب وليس لهم من أمر بلادهم ووسائل حمايتهم شيء، ولم تلتفت
السلطات البريطانية إلى شيء من أنين الشعب العربي وتظلمه وشكاته، طالبًا
وضع حد لهذه الغزوة الصهيونية المجتاحة، وسن قانون عاجل يمنع بيع الأرض
من العرب إلى اليهود منعًا باتًّا، ويغلق باب الهجرة الصهيونية، وطالبًا أن يتسلم
مقاليد حكم نفسه بنفسه، حفظًا لكيانه، وهو العلاج الطبيعي الوحيد الذي بغيره
تظل فلسطين تتردى في الهوة السحيقة حيث الفناء المنتظر، فتمثل فاجعة الأندلس
ثانية دون أن يغني فيها ندب ولا عويل!
ويُسار بالوطن القومي اليهودي في قلب البلاد العربية وعلى كتف الجزء
الشمالي من جزيرة العرب، والأقطار العربية المجاورة لم تقم بعمل بعد تشعر منه
السياسة البريطانية بتضافر العرب على دفع الكارثة، ودرء هذا الخطر الذي إذا
استفحلت غزوته، فسيشمل غير فلسطين لا محالة، كما أخذت الدلائل في شرق
الأردن تدل عليه في هذه الفترة الأخيرة.
فحزب الاستقلال العربي في فلسطين، وهو يرى كل هذا حاضرًا، ويقيس
على الواقع، المصير المتوقع مستقبلاً، يناشد كل عربي كريم وكل هيئة عربية،
في أنحاء الأرض، ويناشد أهل البلاد العربية الشقيقة، إلى التضافر والتآزر مع
إخوانهم عرب فلسطين في رد هذه النكبة التي كادت تأتي عليهم، وإلى الوقوف في
وجه السياسة الإنجليزية موقف المدافع عن حياته وبقائه وكيانه، ابتغاء وضع حد
لهذه الحالة المروعة التي كادت تفتك بقطر عربي وتذهب به فريسة المطامع
الاستعمارية والصهيونية، بيت المقدس 3 شوال 1351 28، ك 2، 1933.
_________
الكاتب: موسى كاظم الحسيني
كتاب اللجنة العليا لصندوق الأمة بفلسطين
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الشيخ رشيد أفندي رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فبالنظر لما يعهده المسلمون فيكم من
الغيرة على تراثهم الديني، والذَّب عن مقدساتهم، والرغبة في المحافظة على
كيانهم، يرى فريق منهم كان له شرف الحظوة لسدانة أولى القبلتين وثالث الحرمين
الشريفين، وما يحيط بها من مقدسات إسلامية، وبقاع جبلت بدماء المجاهدين الذين
لاقوا ربهم فيها دفاعًا عن كيانها جيلاً بعد جيل، أن يرفعوا لجنابكم هذه الكلمة
الموجزة عما وصلت إليه حالتها من خطر الخروج - لا سمح الله - من أيدي
المسلمين إلى أيدي اليهود، إن لم يتداركها المسلمون وعلى الأخص ملوكهم
وأمراؤهم وزعماؤهم بعنايتهم ويعملوا متكاتفين لإنقاذها قبل أن يقع المصاب ويحل
الندم، ولات ساعة مندم.
إن السياسة الصهيونية التي ابتليت بها فلسطين وأهلها ترمي إلى (وضع
البلاد في حالات سياسية واقتصادية وإدارية تساعد على إنشاء وطن قومي فيها
لليهود) وكانت أهم مساعي اليهود في تنفيذ هذه الفكرة منذ البدء متجهة إلى
الاستيلاء على أراضي البلاد المقدسة بأي وسيلة كانت، وإغراقها بالمهاجرين من
شذاذ الآفاق من يهود العالم، وإن الاستيلاء على الأراضي هو الذي يخيف المسلمين
ويجعل مقامهم فيها بعد الحصول إليه لا سمح الله مستحيلاً؛ لأن من لا أرض له لا
وطن له، ولا يمكن لقوم أن يعيشوا في بلاد أراضيها ليست لهم مهما كثر عَدَدُهم
وعُدَدهم. ولما كان بيع الأراضي وشراؤها أمرًا اقتصاديًّا تابعًا للقوانين والنواميس
والأصول الاقتصادية فقد وجد المسلمون في فلسطين وغير فلسطين، بعد معالجتهم
لهذا الموضوع مدة عشر سنوات أن من العبث العمل لحل هذه المعضلة بغير النواميس
والأصول. فالمسلم ذو العائلة مضطر عند الحاجة لبيع أرضه لإعالة أطفاله، والمدين
منهم يُرْغَمُ على بيع أرضه بواسطة المحاكم، وليس في أسواق الأراضي من يشتري
غير اليهود بأسعار بخسة. ولذلك كان من الحكمة والمصلحة لحفظ كيان المسلمين أن
تؤلف شركة لإنقاذ أراضي فلسطين لشرائها ممن يضطر إلى بيعها ثم تقسيمها
وتأجيرها واستثمارها لمنفعة الشركة، وفي ذلك حفظها من الضياع وإصلاحها
واستبقاؤها في يد العرب.
هذا هو الحل الوحيد الذي اتفقت عليه الآراء، وهذا ما أقره ممثلو الأمة
الإسلامية في مؤتمرهم الإسلامي العام المنعقد في المسجد الأقصى ببيت المقدس في
27 رجب 1350 كانون الأول 1931، لذلك وجدت لجنة صندوق الأمة العليا
الممثلة للمؤتمر العربي الفلسطيني الذي يتكلم باسم عرب فلسطين أن تنفذ هذه الفكرة،
فشكلت شركة باسم (شركة إنقاذ الأراضي في فلسطين) وجعلتها شركة مساهمة،
وتجدون .... طيه نسخة من نظام هذه الشركة القانوني برأسمال قدره عشرة
آلاف جنيه تزداد باضطراد إلى أن تبلغ مئات الألوف.
واللجنة إنما قامت بعملها هذا، مستندة على ما سوف تلاقيه من ملوك
المسلمين وعظمائهم، من الإقبال على ابتياع أسهمها دفاعًا عن كيان هذه البلاد
الإسلامية المقدسة واستثمارًا لأموالهم فيكون في اشتراكهم فيها ربح من أموالهم
ودفاع مجيد عن ثالث الحرمين وأولى القبلتين.
إن أهل هذه البلاد الذين هم سدنة أماكنها المقدسة من عامة المسلمين يعملون
لإنقاذها مُضَحِّينَ بأموالهم وأنفسهم فمن العدل أن يقوم المسلمون البعيدون عنها وهم
أصحابها، وعليهم إثم التواني في الدفاع عن كيانها أن يمدوا يد المساعدة في مثل
هذا الأمر فيكونوا قد استثمروا أموالهم واشتركوا في الجهاد دفاعًا عنها، والله لا
يضيع أجر المحسنين.
بيت المقدس في 10 شوال سنة 1351
…
رئيس اللجنة العليا لصندوق الأمة
…
...
…
...
…
و5 فبراير سنة 1933
…
...
…
...
…
موسى كاظم الحسيني
ــ
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوطنية والقومية والعصبية والإسلام
(س1-6) من صاحب الإمضاء:
صاحب الفضيلة والعالم العلامة الشيخ رشيد رضا أطال الله عمره.
تحية وسلامًا. وبعد، فإن في بلادي إندونيسيا الآن حركة استقلالية قوية
وكفاحًا مستمرًّا بين الإندونيسيين والمستعمرين، ولسوء الحظ ظهر في وسط هذا
الجهاد، وفي خلال هذه المعمعة والنضال فريق من علماء الدين، والحاملين لواء
الحق، يحرمون الوطنية، ويحاربون الوطنيين باسم الدين الإسلامي وتعاليمه
ويرمونهم بالمروق، ويغرون العداوة بين العامة والزعماء والقادة حتى أصبحوا بين
نارين نار المستعمرين، ونار علماء الدين، وهذا بلا شك بلاء عظيم.
أعلم تطور الحركة الوطنية في مصر، وأعلم أن رجال الدين فيها كانوا في
طليعة المجاهدين، والحاملين لواء الوطنية، وما كانوا يومًا ما من ألد أعدائها، نعم
أذكر رجال الأزهر، علماءها وطلابها الذين يقودون المظاهرة تلو المظاهرة،
ويسقطون في الميدان والشوارع، فلأجل هذا كله توجهت إلى مقامكم الكريم
لاستجلاء هذه الأمور والاستفهام عن الأسئلة الآتية، فإذا تكرمتم بالجواب فقد أسديتم
للأمة الإندونيسية نعمًا عظيمة، وبينتم لها طرق الهدى، وسبل الحق، وهذه
الأسئلة هي ما يأتي:
(1)
أصحيح أن هناك أحاديث تحرم الفكرة الوطنية القومية؟
(2)
هل قوله: (لا عصبية في الإسلام) وقوله: (ليس منا من دعا بدعاء
الجاهلية) حديثان صريحان في تحريم الوطنية؟
(3)
هل هناك فاصل بين العصبية والوطنية؟ وهل الوطنية داخلة في
معنى العصبية؟ ما هي العصبية عند العرب؟
(4)
ما وجهة نظر الإسلام نحو الفكرة الوطنية، وهل هي تعارض الوحدة
الإسلامية؟ وما المقصود بالوحدة الإسلامية؟
(5)
المعروف أن الشيخ محمد عبده الفيلسوف العظيم أبو الوطنية
والوطنيين؛ لأن في بيته في حلوان نشأ سعد واجتمع رجالات مصر، وما رأيكم
في هذا باعتباركم ناشر مذهبه وناشر تاريخ حياته!
(6)
ما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم؟
هذه هي الأسئلة التي أرجو أن تتكرموا بالجواب عنها ويستحسن الجواب
على صورة مقالة متسلسلة، ولكم مني بالنيابة عن الأمة الإندونيسية جزيل الشكر
والسلام
…
...
…
...
…
...
…
... نصر الدين طه الإندونيسي
(جواب المنار) هذه الأسئلة في موضوع مسألة واحدة ذات شعب، وقد
قدمناها على غيرها؛ لأنها أهم من كل ما لدينا من الأسئلة، فنجيب عنها جوابًا
واحدًا مجملاً مختصرًا؛ لأن ما بعد هذه الورقة من هذا الجزء قد طبع فنقول: إن
العصبية عند العرب نسبة إلى العَصَبَة بالتحريك، وهم قوم الرجل الذين يتعصبون
له، أي يحمونه ويحامون عنه وينصرونه ظالمًا كان أو مظلومًا، وأصل العصبة
أقارب الرجل الذين يرثونه ثم توسعوا فيها، وهي مأخوذة من العصب، وهو شجر
اللبلاب الذي يلتوي على الشجر ونحوه.
ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أنه يحرم تعصب الظلم للأقارب وللقوم
والموطن ويحرم العداوة والشقاق بين المسلمين بتعصب كل فريق لقومه أهل بلده أو
إقليمه على إخوانهم في الدين وغيرهم إلا أهل الحرب، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه
وسلم بقوله: (العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم) رواه الإمام أحمد، ومن
المعلوم من الإسلام بالضرورة أيضًا أنه يفرض على أهله عداوة من يعتدي عليهم من
الأجانب وقتالهم فقد صرَّح جميع الفقهاء بأن الجهاد يكون فرضًا عَيْنِيًّا إذا اعتدى العدو
على المسلمين أو استولى على بعض بلادهم، وهذا دفع للظلم، فمن الجهل الفاضح
أن يُحَرَّم عليهم، ويُسْتَدَلَّ على تحريمه بعصبية الجاهلية المنهي عنها في بعض
الأحاديث كالذي كان بين الأوس والخزرج من الأنصار رضي الله عنهم، هذا مجمل
الجواب عن الأسئلة الثلاثة الأولى.
وأما فكرة الوطنية العصرية فهي عبارة عن اتحاد أهل الوطن المختلفي
الأديان وتعاونهم على الدفاع عن وطنهم المشترك وحفظ استقلاله، أو إعادته إن فقد،
وعلى عمرانه، فهي لا تظهر في جزائر إندونيسية كظهورها في مصر، ونظر
الإسلام فيها أنه يوجب على المسلمين الدفاع عمن يدخل في حكمهم من غيرهم
ومساواته بهم في الأحكام الشرعية العادلة، فكيف لا يجيز اشتراكهم معهم في الدفاع
عن البلاد وحفظ استقلالها والعناية بعمرانها؟ وقد رفع الصحابة رضي الله عنهم
الجزية عمن شاركهم من أهل الذمة في الحرب في خلافة عمر رضي الله عنه، كما
بيَّنَّاه بالشواهد في الجزء العاشر من تفسير المنار.
وأما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم فهو أن يكون أسوة
حسنة لأهل وطنه على اختلاف مللهم ونِحَلِهِم ومشاركًا لهم في كل عمل مشروع
لاستقلاله وترقيته بالعلم والفضيلة والقوة والثروة على قاعدة الشرع الإسلامي في
تقديم الأقرب فالأقرب في الحقوق والواجبات، وأن لا يغفل في خدمته لوطنه وقومه
عن كون الإسلام قد كرَّمَه ورفع قدره بجعله أخًا لمئات الملايين من المسلمين في
العالم فهو عضو لجسم أكبر من قومه، ووطنه الشخصي جزء من وطنه الملي وإنه
يجب عليه أن يتحرى جعل ترقي الجزء وسيلة لترقي الكل.
وأما الوحدة الإسلامية فهي تتحقق ببضع روابط بيَّنَّاها في كتابنا (الوحي
المحمدي) وفي تفسيرنا ومنارنا، فراجعوها وراجعوا في الجزء الأول من تاريخ
الأستاذ الإمام (ص917) رأيه في الوطنية والدين، وفي الجزء الثاني منه مقالاته
في الجنسية وفي التعصب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمتنا لتصدير كتاب
نقض مطاعن في القرآن الكريم
للأستاذ الفاضل الشيخ محمد عرفة
وكيل كلية الشريعة بالأزهر والمدرس فيها
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41-42) ، {قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) .
إن من أكبر مصائب الأمة الإسلامية أن يبلغ بها الهوان في أكبر أمصارها
وأشهرها بالعلم، وأرجاها للحياة، أن تعلم أفرادًا من نابتتها من العلم ما ترجو أن
يكونوا به جندًا لها ينصرها على من يهاجمها من الأعداء في دينها وشرفها وأدبها،
فينقلبوا أنصارًا لأعدائها، ويهاجموها في أمنع معاقلها وحصونها، ويحاولوا هدم ما
لم تكن لولاه شيئًا مذكورًا، وإنما به كانت أمة عزيزة شديدة القوى، مرجوة الندى،
مرهوبة الشذا، ذات هداية عليا، وتشريع عادل، وحضارة زاهية به دانت لها
الأمم الكثيرة، وبه نالت الإمامة والملك، ثم يوجد من حكامها ووزرائها من يكرمهم
ويأتمنهم على تربية نشئها، وتعليمه بلغتها، ما هو شر من تعليم المجاهرين
بعداوتها، الذين يدعونها إلى الخروج عن دينها، ليتم لهم إخضاعها لسلطان أجنبي،
بغير منازع وجداني.
كان أجرأ هؤلاء العَقَقَة [1] كاتب بدأ تعليمه في الأزهر في الجامعة المصرية
في أول العهد بإنشائها، وصحب في هذا العهد من لقح ذهنه بالإلحاد، ثم أرسلته
الجامعة إلى فرنسة ليدرس أدب اللغات فيها، فغذت فرنسة ذلك اللقاح بما ظهر أثره
في العمل؛ إذ عاد إليها فجُعِلَ من أساتيذها ثم عميدًا لكلية الآداب فيها، وهو أستاذه
الأول في أفكاره، والمُرْكِس له في تياره.
حذق في صناعة الكتابة، فكان فيها ذا رشاقة خلابة، ألف كتبًا وأنشأ مقالات
دس في بعضها سموم الإلحاد، وفي بعض آخر مخدرات الإباحة والإغراء
بالشهوات، فنهد للرد عليه فريق من العلماء والأدباء، حتى ضج في الشكوى منه
مجلس النواب في عهد رياسة سعد باشا زغلول فأوشك أن ينتقم منه، ورفع أمره
إلى القضاء فكاد يقضي عليه، بَيْدَ أن أنصاره الأقوياء من كبار الوزراء آزروه
وظاهروه حتى أنقذوه. ثم قدر الله تعالى أن تخرجه وزارة المعارف من الجامعة في
العام الماضي في إثر حملة شديدة جديدة في مجلس النواب، أظهرت للأمة من
جنايته على طلبة كلية الآداب فيها ما يرى القراء نقضه في هذا الكتاب.
سُرَّ جميع أهل الغيرة على الدين بإخراجه من الجامعة، وإنه ليسرهم أن
يسمعوا اليوم من الأزهر الشريف صوتًا جهوريًّا في نقض ما أذاعه مجلس النواب
من طعن هذا الكاتب على القرآن العظيم، صوت عالم أزهري، وأديب عصري،
وكاتب مجيد غير سياسي، ينقض هذه المطاعن الأخيرة، وأن يصدر نقضه لها
عن دار المنار، التي أُسِّسَتْ من أول يوم لخدمة الإسلام، فكلانا بريء من سياسة
الأحزاب فلا نحن من أحزاب الحكومة ولا من أحزاب المعارضين لها، ولا من
خصومهم ولا من خصومها، وإنما ننصر ديننا، ابتغاء مرضاة ربنا، فيما يجب
علينا لأمتنا ودولتنا.
ونتمنى لو يصرح هذا الطاعن بأن جميع ما صدر عنه من الطعن على القرآن
قولاً في الدرس، وكتابة في الطرح، كان باطلاً، وأنه رجع عنه وتاب منه. وأنه
يؤمن بأن القرآن كلام الله كله حق {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) فإن ما نقل عنه من أنه قال: إنه يؤمن بالله ورسله لا يكفي في
صحة توبته مما ذكر، على أن هذه المطاعن التي ألقاها في دروسه كانت بعد تلك
الكلمة التي كان سببها تحقيق النيابة العامة معه في مطاعن كتابه (في الشعر
الجاهلي) .
اختار الأستاذ صاحب هذا النقض للمطاعن الأخيرة أن يطبعه في مطبعة دار
المنار لأنها أحق به، وأجدر بنشره، بل رغب إليَّ أن أشركه في أجره، بالوقوف
على تصحيحه، وبما يَعِنُّ لي من تعليق عليه، وبمقدمة تصدير له، فأقرن كلمه
الطيب بكلمي، وأعزز قلمه البليغ بقلمي، وإنها لرُغْبَى محبوبة للمؤمن بالطبع،
ومظاهرة على الحق واجبة في الشرع، وتعاون على البر والتقوى، أمرنا الكتاب
العزيز بها، وهو قد وفَّى النقض للمطاعن الجديدة حقه، وقَفَّى عليه بما كان من رد
له على ما قبلها من خطيئاته، فأدى الواجب في جزئيات المطاعن الخاصة، وزاد
عليه، وليس عليَّ إلا أن أقول كلمة وجيزة في النازلة وأهلها من الوجهة العامة.
النابتة العصرية من الكُتَّاب:
نبغ في الربع الثاني من هذا القرن الهجري نابتة من كُتَّاب الأدب والسياسة
والتاريخ، اقتفوا أثر الإفرنج في الأساليب، وما يسمونه النقد التحليلي في الكتابة،
ومزج الكلام بالنظريات الحديثة والمسائل العلمية، فكان لما يكتبون رواج ووقع
حسن عند جميع المتعلمين على المناهج الحديثة، وأصاب بعضهم به شهرة بما
تنشره لهم الجرائد التي يؤيدون سياستها، وما تقرظه من مصنفاتهم، ناعتة إياهم
بأجمل النعوت، والألقاب المحببة إلى النفوس، وناهيك بدعوى تجديد حضارة
الأمة، وقيادتها إلى حيث تساوي أمم الإفرنج في عظمتها، وتمتعها بزينة الدنيا
وطيباتها.
وإن لبعض هؤلاء الكُتَّاب مصنفات حرة مستقلة، وهم الذين يخدمون العلم
والتاريخ والأدب بباعث حب التحقيق، وإن لبعضٍ آخر أهواء سياسية وإلحادية،
لمنافع لهم شخصية، على ما بيَّنَّاه في المنار بالتفصيل، أشرنا إليه آنفًا بالإجمال،
وهو موضوع كلامنا هذا، وشره وأضره الطعن على القرآن الحكيم.
إذا كان يوجد في الأوربيين من يتمحل الطعن على الإسلام، ولا يتنزه عن
التسامي إلى انتقاد القرآن، فلهم على ذلك باعثان: باعث ديني وباعث سياسي.
وذلك بأنهم رأوا أن الإسلام قد غلب النصرانية على أمرها في الشرق، وكاد
يغلبها في الغرب أيضًا، بعد اعتزاز دولها، واستبحار ثروة كنائسها وإحكام نظمها،
فلم يجدوا وسيلة لصد تياره عن بلادهم، وسلبه لملكهم وتعريبه لشعوبهم إلا
بمحاربته بالافتراء عليه والطعن فيه، وبقتال أهله بالسلاح، ثم بالسياسة، فأحكموا
نظام الحربين بعد التمهيد لهما بتربية الشعوب النصرانية على بُغْض المسلمين،
وتلقينهم في البيوت والمدارس أن الإسلام هو العدو الأكبر للمسيحية، وما هو إلا
أخو المسيحية وصديقها، والمُدَافع عن حقها، والمتمم لإصلاحها، والمبرئ لنبيها
عليه الصلاة والسلام من طعن المفترين وشطط الغالين.
ويوجد منهم قوم آخرون لا يدينون بدين، وقد رأوا من معجزات القرآن ومن
أنزل عليه القرآن في العلم وهداية البشر وإصلاح شئونهم ما يلجئهم إلى الإيمان
والإذعان؛ إذ لم يجدوا لهذه المعجزات تأويلًا ينظمونها به في سمط السنن الكونية،
فتكلفوا التأويل لها؛ لإبطال كونها من خوارق العادات والآيات الإلهية، فهذه أسباب
طعن الإفرنج ومريديهم وتلاميذهم من النصارى والملاحدة.
وأما المسلم فلا يعقل أن يبعثه شيء على الطعن في كتاب الله وفي هدي
رسوله، صلوات الله وسلامه عليه وآله، وهو برهان الكفر والردة، وكبرى
الجنايات القاتلة لهذه الأمة، فإن خفي عليه برهان شيء من عقائده، أو صحة شيء
من آياته، وجب عليه أحد أمرين: إما الجد في طلب العلم بالبحث عما جهل
والسؤال عنه، وإما تفويض الأمر في ذلك إلى الله تعالى.
بيد أن في المسلمين الجغرافيين زنادقة منافقين، وإن منهم ملاحدة شاكِّينَ،
وإن من زنادقتهم غاوين مشككين، يستخدمهم شرار أعداء الإسلام الدينيين
والسياسيين، وإن منهم من يزدلف إليهم بالتشبه بهم، وبدعوى (التنور) وحرية
الفكر والفلسفة، وإن من النابتة والعامة من ينخدع بشبهات هؤلاء وأولئك، وتغره
دعايتهم بما يزينها من خلابة القول، ووهم التجديد العصري، والانسلاخ من تقاليد
القديم الذي يصفونه بالخلق البالي، وإن كان كالفلك لا تخلق جدته، وكالشمس
والقمر لا تبلى محاسنه، ولا ينطفئ نوره، وهو القرآن الحكيم.
وإن لهذا التجديد دعاة من ملاحدتنا يوهمون الدهماء في بلاد الإسلام العربية
والأعجمية أن الإفرنج ما صاروا أقوى منا وأرقى ثروة وحضارة، وتمتعًا باللذات
والشهوات، إلا بالانسلاخ من الدين، فأول ما يجب علينا أن نفعله إذا أردنا أن
نكون مثلهم أن نتجرد أولاً من ديننا، فنكون إباحيين عبادًا لشهواتنا، ثم نطلب
علومهم وفنونهم فنكون مثلهم، وهذا غش وخداع بالكذب والبهتان، فهم أشد من
شعوب الشرق كلها إحكامًا لربطتهم الدينية وعناية بتعليم الدين ونشره، وبذل
الملايين في سبيله [2] .
ولكن لهؤلاء الدعاة للإلحاد والإباحة شبهات من فلسفة الإفرنج وأصول النقد
عندهم يروجون بخلابتها الطعن على القرآن بما يفترون عليه، فنحن نشير إليها
أولا ونُقَفِّي عليها ببطلان بناء نقدهم على قواعدها، فإذا هي وأهلها كمن قال الله
تعالى فيهم: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ
السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} (النحل: 26)
قواعد النقد العصري
من أصول النقد العلمي الفلسفي للكلام الذي يسمونه النقد التحليلي أن يعرف
أولا تاريخ صاحبه في مزاجه وتربيته الدينية والأدبية، وقومه وعشرائه، ووطنه
وحكومته، وأخلاقه ومعيشته، وأهله وولده، وعوارض حياته، وأطوارها
الاجتماعية والسياسية والشهواتية وغيرها، فمن المعلوم بالطبع والعقل أن كل ما
يعرض لإدراك الإنسان ووجدانه يكون له أثر في كلام صاحبه.
فلو كان الإنسان مفطورًا على الصدق وألا يقول إلا ما يعتقد، وألا يكتم شيئًا
مما يعتقد، وعلى التوفيق بين اعتقاده وما يعارضه من شعوره ووجدانه، من حب
وبغض، وخوف وطمع، لكان طريق النقد التحليلي للكلام مُعَبَّدًا مستقيمًا قَلَّمَا يضل
سالكه أو يعثر.
ولكن الإنسان خلق قادرًا على الصدق والكذب، وعرف من سيرة أفراده أنهم
يتبعون أهواءهم ومنافعهم، في كلامهم فيرجحون بها الكذب على الصدق، أو إخفاء
الحق على إظهاره، إما لجلب منفعة أو لدفع مضرة، إلا من كان له عقيدة دينية أو
حكمة عالية تعصمه من الكذب الصريح ولو بالتأول، وقليل ما هم. ولذلك قال
بعض الأذكياء: إنما وظيفة اللسان في الإنسان إخفاء الحقيقة عن الناس، ولا ريب
في أن الشعراء وكُتَّاب السياسة المكتسبين بشعرهم هم أبرع الناس في الكذب والإفك،
وإبراز الباطل في صورة الحق، والرذيلة في ثوب الفضيلة، والعكس. فهذه
مَدْحَضَةٌ من مداحض النقد التحليلي في الناقدين والمنتقدين، تتيح لصاحب البصيرة
أن يظهر خطأ هؤلاء الكتاب عندنا في كثير مما قالوه ويقولونه في تراجم شعراء
العربية ونقد رجال السياسة.
ومن هذه المداحض بعض ما يضعونه من الأصول والقواعد الواهية لطبائع
الأمم وأحوالها الاجتماعية ويرجعون إليها في نقدهم، كالذي كانت الشعوبية تقوله
في ذم العرب، ومنه بعض ما قاله الحكيم ابن خلدون بسريان دعايتهم في رأيه على
استقلاله فيه، وبنى عليه زعمه أن أكثر حملة العلم في الإسلام من العجم، دع ما
تخرص به بعض علماء الإفرنج من المستشرقين وغيرهم في هذا الباب، وهو ما
يعتمد عليه مقلدتهم منا في نقدهم التحليلي، تراهم يعرفون بداوة العرب ويجهلون
حضارتها القديمة في جزيرتها، ولا سيما السعيدة منها، وفعل جواليها في الحضارات
الكلدانية في العراق والفينيقية في سورية والمصرية في مصر.
ومن فروع الأغلاط الراجعة إلى هذه الأصول التي أخذها كثيرون بالتسليم
فجعلوها من القضايا البرهانية، قول بعض السابقين: إن سبب وضع علماء
الأعاجم لأكثر معاجم اللغة العربية ولكتب فلسفتها من النحو والبلاغة هو شعورهم
بالحاجة إليها لفهم هذه اللغة التي كان يفهمها أهلها بالسليقة.
وهذا قول باطل فمن ثم كان تعليله باطلاً، فإن الواضع لأول معجم للغة هو
الخليل بن أحمد وهو عربي، وأكثر واضعي سائر المعاجم من العرب كالفيروزآبادي
وهو قرشي صديقي، وابن سيده وهو عربي أندلسي، وابن منظور وهو عربي
أنصاري خزرجي، ولا تتسع هذه المقدمة للتمثيل لسائر العلوم اللغوية الشرعية.
ومن فروعها ما جرى عليه الدكتور طه حسين في محاضراته الأخيرة في
شعر أبي تمام والبحتري وابن الرومي، فقد تمحل فيما حاوله تبعًا لغيره من إثبات
نسب أعجمي لبعض هؤلاء الشعراء وغيرهم، وتمييز شاعريتهم عن غيرها من
شاعرية أقرانهم، بتأثير الوراثة الأعجمية في عقولهم ومخيلاتهم، في إثبات
الأنساب الأعجمية لبعض هؤلاء الشعراء نظر تاريخي ظاهر، وأضعف دلائله
الأسماء والألقاب، والنسبة إلى البلاد، ولكن النظر في إثبات الوراثة الأعجمية في
شعرهم أقوى وأظهر، فقد أتى على جيل الروم قرون كثيرة لم ينبغ فيها فيلسوف
ولا شاعر يقرن بشعراء العرب في جاهليتهم فضلاً عن شعراء حضارتهم، على أن
ملكة الشعر لم تكن شائعة منتشرة في الروم كالعرب فيرثها أكثر من كان من سلائلهم،
وإن بعدت من عهد علمهم وحضارتهم.
إذا تمهد هذا أقول:
نقد كُتَّاب الإفرنج للقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ومقلدهم المسلم:
إن كُتَّاب الإفرنج من دعاة النصرانية والملاحدة قد وضعوا القرآن المجيد
الحكيم والنبي الأمي الصادق الأمين على مشرحة النقد التحليلي، وأعملوا فيهما
مُدَاهم ومباضعهم، وآلات التحليل عندهم، اتِّباعًا لقواعدهم وأصولهم التي أشرنا
إليها، فكان عاقبة ذلك أن آمن من كان سليم الفطرة منهم غير جامد على الأفكار
المادية بنبوة محمد ورسالته، وكون القرآن كلام الله تعالى ووحيه إليه صلى الله
عليه وسلم، وتمحل بعضهم من التعليل والتأويل للمعجزات والآيات العلمية ما رآه
أقرب للجمع بين المعتاد والمعهود في استعداد البشر العقلي والروحي وسنن
الاجتماع، وما ثبت في تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم مما هو من خوارق
العادات، مع اجتناب المبالغة في ذم ولا مدح كموسيو مونتيه [3] ومنهم من عرضه
في قالب المدح بمثل ما شرحه كارليل في كتابه (حياة محمد) عليه الصلاة والسلام.
وأصر الفريق الثالث على افتراء الكذب والبهتان، وأعني بهذا الفريق دعاة
الكنيسة، وأعوانهم من رجال السياسة.
فأما رجال هؤلاء الطعانون المفترون، فالباعث لهم على عملهم خدمة ملتهم
ودولهم، وجهاد أقوى عدوٍّ لتعاليم كنائسهم وعظمتها على قاعدتهم المشهورة عنهم
بلفظ (الغاية تبرر الواسطة) يعنون أن الجريمة التي تكون وسيلة إلى مقصد حسن
- كالكذب - تكون بهذه النية من أعمال البر الشريفة، وهم مأجورون عليه من
جمعيات كنائسهم في الدنيا، والمؤمن منهم بكنيسته وقاعدتها المذكورة يرجو على
عمله ثواب الآخرة ودخول الملكوت.
وأما أولئك الناقدون من علمائهم المستقلي العقل مادحهم وقادحهم فإنهم رأوا
أنفسهم تجاه أعظم حادث في تاريخ البشر: رجل أمي ظهر في قوم أميين مشركين
من أبعد الشعوب عن الحضارة، وهداية الديانة، والتشريع والفتح وسياسة الشعوب،
جاءهم بكتاب فاق جميع كتب الأنبياء والحكماء في عبارته وهدايته، فجمع به
وعليه كلمتهم المتفرقة، وألف بين قلوبهم على ما كان من إحنة وضغن، وهذَّب
طباعهم على كبر السن ففتحوا العالم وصاروا أئمة أمم الحضارة وسادتها وملوكها،
كتاب معجز بأسلوبه ونظمه وعلمه، ونبي ذو معجزات في نفسه وأخلاقه وأعماله
وأمته، لا جرم أن هذا الحادث التاريخي الأعظم يحتاج إلى فهم ونقد وتعظيم وإكبار.
مع تكلف إدماجه في المعتاد من كبار العقول وأعلياء الهمم من الناس.
وأما مدرس الأدب المسلم في الجامعة المصرية التي أسستها الأمة المصرية
المسلمة بأموال أغنيائها وأوقافها، وكفلتها الدولة المصرية الإسلامية، فما الباعث
له على الطعن في نبيه الكريم، وكتاب ربه العلي العظيم، وجعل الطعن عليهما
درسًا في الأدب يلقح به أذهان طلبة كلية الآداب مصرِّحًا فيه (بأن الباحث الناقد
والمفكر الجريء لا يفرق بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر) والمفروض أنه
مؤمن بأن القرآن كلام الله ووحيه، فلا يدخل في عموم تلك القواعد الموضوعة
لنقد كلام البشر؟
هل يستطيع مسلم جريء أو متهور ألا يفرق بين كتاب الله وبين أي كتاب
أدبي آخر، وإن كان ككتاب ألف ليلة وليلة، أو جريدة العجائب مثلا؟
أم هل يستطيع كافر بالله وكتابه ورسوله وقد أوتي حظًّا من بلاغة اللغة أو
نصيبًا من أدب النفس وعلم الأخلاق، أو خَلاقًا من علم الاجتماع وفلسفة التاريخ،
ألا يفرق بين القرآن العظيم الحكيم، وبين أيّ كتاب آخر؟
أم هل يُصَدَّق مَن يدعي عدم التفرقة في قوله، وقد اقتصر في نقده على
الطعن، وأسرف فيه حتى أربى على أولئك الأعداء الطعانين بما لا يعقل أنه يعتقده،
وهو ما يرى القارئ بيانه في هذا النقض؟
ألا إن من وراء المعقول أن يكون هذا من النقد النزيه، الذي يعبرون عنه
بالبريء فما سببه إذًا وما الداعي إليه؟
الفرق بين السور المكية والمدنية
من هذه المطاعن ما سببه الجهل بالمكي والمدني من السور، ومنها ما منشؤه
الجهل بما يدرك منها بالسمع والبصر كالذي زعمه في قصر الآيات في القسم المكي،
وطولها في القسم المدني، وهو ما ذكره علماؤنا ولم يبينوا سببه، ونحن نبينه هنا
بالإيجاز فنقول:
إن طول الآيات وقصرها مَنُوط بموضوعها، ولا دخل فيه لمكان نزولها،
فالآيات أو السور التي يراد بها الوعظ والزجر يحسن فيها أن تكون أقصر من آيات
الأحكام، وهي تكثر في القسم المكي؛ لأنه هو المناسب لحال المخاطبين، من
المشركين المعاندين، كما تكثر الأحكام التفصيلية في السور المدنية؛ لأن الخطاب
بها للمؤمنين المكلفين، على أن الآيات الطويلة التي قال: (إن الآية الواحدة منها
تزيد على عدة سور بتمامها من القسم المكي) قليلة جدًّا، بل لا تظهر تمام الظهور
إلا في آية الأحكام المالية من الدَّيْن والرَّهْن وكتابتها والاستشهاد عليها من سورة
البقرة، فهي أطول آية في القرآن تبلغ في المصاحف المطبوعة اثني عشر سطرًا،
وهي تزيد على عدة سور من صغار المفصل التي تتلى في الصلوات القصيرة
مكيها ومدنيها، فسورة النصر منها مدنية، وهي سطران فقط، وسورة الزلزلة
مدنية وهي أربعة أسطر، ومثلها سورة العاديات والمعوذتين، وكذا العصر في قول
وهي سطر واحد.
وآيات الأحكام التي قلما تبلغ نصف تلك الآية الطولى قليلة جدًّا كآيتي
المواريث في سورة النساء ودونها الآية التي في آخرها، وآية الوضوء وآية
الوصية في السفر من سورة المائدة [4] وما عدا ذلك من آيات السور السبع الطول
والمئين معتدل بين الطول والقصر، ومنها المكي والمدني، وإنما تكثر الآيات
القصيرة في قسم المفصل من القرآن لحكمتين: (أولاهما) أن أكثره وعظ وزجر
وعبر، وسوره أكثرها مكي، وهو المناسب لمقتضى الحال في مكة وأهلها لما كان
عليه أكابر أهلها في جحودهم وعنادهم وطول باعهم في البلاغة، لا لانحطاط
بيئتهم وسذاجتهم كما زعم، فإنهم كانوا أرقى العرب ذكاء ونباهة وبلاغة [5] .
(وثانيتهما) أنه أكثر ما يُتْلَى في الصلوات فرضها ونفلها، طويلها
وقصيرها، فالمناسب أن تكون آياته قصيرة وسوره قصيرة أو متوسطة ليكون كل
ما يقرأ منها مستقلا بالفائدة المتدبرة، والطاعن يجهل كل هذا على ظهوره؛ لأن
درس التفسير وحكمة القرآن لم يكن مما يُعْنَى به.
ومن هذه المطاعن ما سببه الجهل بفنون البلاغة أو الغفلة عنها أو تقليد
الإفرنج، وهو ما عبر عنه بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني، وقد سبقه إليه مستر
سايل وغيره، ولا يتسع هذا المقام لبيانه.
أخلاق النبي وأفعاله قبل الهجرة وبعدها:
تكلف النقاد من الإفرنج قبله أن يجدوا فرقًا بين السور المكية والمدنية وبين
أخلاق النبي وأحواله في مكة؛ إذ كان فقيرًا ضعيفًا، ثم في المدينة بعد أن صار
غنيًّا قويًّا، وما كان شرعه في البلدين إلا شرعًا في إبطال الباطل وإحقاق الحق،
وتقرير قواعد الإصلاح وإقامة ميزان العدل، وما كان في الحالين إلا مثلا في
الخلق والعلم (والشمس رَأَد الضحى كالشمس في الطَّفَل) وما كان مكي القرآن
ومدنيه إلا سواء في البلاغة المثلى على ما قيل في تعريفها من مطابقة الكلام
لمقتضى الحال، وعلى ما نقول من أنها عبارة عن بلوغ المتكلم به ما يريد من إصابة
موقع الإقناع من العقل، والوجدان في القلب.
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1) {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} (الزمر: 23)
فكان مقتضى الحال في مكة - وأهلها مشركون منكرون للبعث، مستكبرون
بما لهم من الثروة والرياسة في العرب، في الذروة من بلاغة اللسان، ولوذعية
الأذهان، وجرأة الجنان أن يخاطبوا بالنذر القارعة، والحجج الصادعة، بأبلغ
العبارات، وأفصح البينات، في الدعوة إلى التوحيد وأصول الدين، وقواعد
التشريع، وعقائل الفضائل، وهو ما ألممت ببيانه في مقدمة الطبعة الثانية للمجلد
الأول من المنار، التي كانت في سنة 1327هـ إذ قلت:
(قد اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل وقرع الأذهان بالخطابيات
الصادعة من القرآن الحكيم، فإن أكثر السور المكية، ولا سيما المنزلة في أوائل
البعثة قوارع تصخ الجنان، وتصدع الوجدان، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف،
وتَدُعُّ العقول إلى إطالة الفكر، في الخطبين الغائب والعتيد، والخطرين القريب
والبعيد، وهما عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال
وعذاب الآخرة، وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى، بكل من هذا وذاك، أنذرت
السور المكية أولئك المخاطبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام
عن ضلالهم وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة
السهلة، وليست بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد
الآباء والأجداد، بصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد.
(راجع تلك السور العزيزة ولا سيما قصار المفصل منها ك {الْحَاقَّةُ * مَا
الحَاقَّةُ *} (الحاقة: 1-3)، و {الْقَارِعَةُ * مَا القَارِعَةُ} (القارعة: 1-2) ،
و {إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ} (الواقعة: 1)، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: 1) ،
و {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار: 1) ، و {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق
: 1) ، و {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} (الذاريات: 1) ، و {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) ، و {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} (النازعات: 1) .
تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعِبَرها، تفزعهم من
سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي صلى الله عليه وسلم من مكان إلى مكان:
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (المدثر: 50-51) {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ
صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (هود: 5) ثم ارجع إلى السور المكية الطوال، فلا تجدها تخرج في الأوامر
والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23) إلى الآية 37 منها، وقوله بعد إباحة الزينة
وإنكار تحريمها وتحريم الطيبات من الرزق: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
***
قصص القرآن ومزاياها،
والتشريعان الإسلامي والإسرائيلي
هذا ومما امتازت به السور المكية قصص الرسل عليهم السلام مع أقوامهم وما
في معانيها من أصول دين الله العام، ومن بيان سننه تعالى في الأقوام، ومن العبر
والمواعظ في التهذيب، ونزاهتها من كل ما يُخِلُّ بالآداب، ومن سوء القدوة في
الأخلاق والأعمال، وهي تفضل بذلك كله قصص التوراة كما فصلناه في تفسير
المنار، وكذلك تفضلها وتفضل سائر كلام البشر بما في نظم عباراتها، واختلاف
أساليبها، من روعة البلاغة ودلائل الإعجاز الخاصة بها، وناهيك بإيرادها في
بعض السور بمنتهى الإيجاز والاقتصار على موضع العبرة، وفي بعضها بالإسهاب
والبسط المشتمل على كثير من أصول الهداية وسنن الاجتماع وأمهات الفضائل،
وفي بعض آخر بما هو وسط بينهما، مع اختلاف النظم والأسلوب والفواصل في
كل منها، بما يتجلى به الإعجاز أظهر التجلي من ناحية البيان، فوق الإعجاز من
ناحية الإخبار بالغيب، وتصحيح أغلاط التاريخ المأثور عند أهل الكتاب، وبيان
خلاصة دين الله (الإسلام) في العقائد والهداية التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام،
ونزاهتهم عما وصمتهم به كتب اليهود من النقائص والآثام.
ولو أن هذه القصص جاءت في السور المدنية لقال المغرور بفلسفة نقده
التحليلي: إن محمدًا أخذ أكثرها من التوراة؛ لأن أهل مكة كانوا يجهلونها، بل
كانوا يجهلون هذا النوع القصصي في كلامهم تاريخيه ووضعيه جميعًا، وقد
عدوا هذا من عيوب الشعر العربي ونقصه عن شعر الأعاجم، ولكانت هذه الشبهة
على قوله هذا أدنى أن تشتبه على طلبة الجامعة المصرية والعوام، من شبهته على
وجود تشريع الأحكام الشخصية والمالية والزوجية في القسم المدني، فإن الفرق بين
التشريعين الإسلامي والإسرائيلي في هذين النوعين وفي غيرهما عظيم جدًّا، كما
أن سبب تفصيله في المدينة دون مكة واضح جدًّا، وهو أن التشريع العملي مرتبط
بسلطان الحكم التنفيذي، فلا تشريع لمن لا يملك حكم التنفيذ، فالإسلامي أرقى
وأعلى من الإسرائيلي من كل وجه، وناهيك بكونه تشريعًا عامًّا لجميع البشر في
جميع الأزمنة والأمكنة، ومن أسسه: المساواة في الحق والعدل بين جميع الشعوب
والقبائل، وجميع الأفراد فيهما، لا يميز فيه بين ملك وسوقة، ولا بين شريف
ووضيع، أو غني وفقير أو قوي وضعيف، والتشريع الإسرائيلي خاص بشعب
خاص مبني على تفضيله على جميع الشعوب بنسبه (لحكمة موقوتة بيناها في
مواضع من تفسير المنار) فلا يستطيع هذا الشعب نفسه تنفيذه في هذا العصر إن
عاد له الملك الذي يسعى له، بل هم قد تركوا معظم أحكامه من قبل أن يفقدوا الملك،
والقرآن يعيب عليهم تحريف كتابهم وجهلهم به، وعدم إقامته، وإيمانهم ببعضه
وكفرهم ببعض، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن النظر في كتبهم،
وأخبرهم أن نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام لو كان حيًّا لما وسعه إلا اتباعه؛
لأنه خاتم النبيين الذي جاء بالدين الكامل والشرع العام لجميع البشر، كما بشَّر الله
به موسى في التوراة، وكما بشر به عيسى عليه الصلاة والسلام المصلح في
شريعته، زد على هذا نعيه عليهم فساد أخلاقهم ولا سيما الحسد، والبخل، وأكل
السحت، واستحلال أكل أموال الناس بالباطل، ووصفهم بأنهم لا يفقهون ولا
يعقلون.
ألا يستحيي من يعلم هذا من مؤمن بالقرآن ونبي القرآن، أو كافر حر الفكر،
أن يفضل السور المدنية على المكية بتأثير مجاورة اليهود - وهذا حكمه عليهم -
ويدعي استمداد المهاجرين من ثقافتهم وتشريعهم، وهم الذين أصلحوا جميع شعوب
البشر بهداية القرآن، والتأسي بأكمل الخلق على الإطلاق؟ ؟ وقد أجمع مؤرخو
الإفرنج وغيرهم على أن أظهر أسباب نجاح الإسلام في انتشاره السريع وفتوحه
الكثيرة الظافرة ما كان عليه أهل الملل كلها من فسوق وفساد، والدول كلها من ظلم
واستبداد.
هذا ما يتسع له المجال من الفرق بين السور المكية والمدنية بالإجمال، وقد
التزمنا في تفسير المنار أن نكتب في آخر تفسير كل سورة خلاصة كلية لما في
السورة من الأصول والقواعد العامة التي تشتمل عليها، ومنها الفرق بين المكي
والمدني بالتفصيل. فمن راجع خلاصة سورة الأعراف المكية في الجزء التاسع من
تفسير المنار يرى في باب توحيد الله إيمانًا وعبادة وتشريعًا 12 أصلاً، وفي باب
أصول التشريع 9 أصول، وفي باب آيات الله وسننه في الخلق والتكوين 14 أصلاً،
وفي باب سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران 7 أصول.
ثم إذا راجع خلاصة سورة الأنفال المدنية في الجزء العاشر يجد في أولها
مقدمة في الفرق بين السور المكية والمدنية هذا نصها:
(ينبغي أن يتذكر القارئ أن جُلَّ السور المكية في أصول الإيمان الاعتقادية
من الإلهيات والوحي والرسالة والبعث والجزاء وغيرهما من عالم الغيب، وقصص
الرسل مع أقوامهم. ويلي ذلك فيها أصول التشريع الإجمالية العامة، والآداب
والفضائل الثابتة، كما بيناه في خلاصة كل من سورتي الأنعام والأعراف. ويتخلل
هذا وذاك مُحَاجَّة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول، ودحض شبهاتهم،
وإبطال ضلالاتهم، وتشويه خرافاتهم.
وأما السور المدنية فتكثر فيها قواعد الشرع التفصيلية، وأحكام الفروع
العملية، بدلا من أصول العقائد الإيمانية. وقواعد التشريع العامة المجملة، كما
تكثر في بعضها محاجة أهل الكتاب، وبيان ما ضلوا فيه عن هداية كتبهم ورسلهم،
ودعوتهم إلى الإيمان بخاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وفي
بعضها بيان ضلالة المنافقين ومفاسدهم كما يرى القارئ للسور المدنية الطول
الأربع (جمع الطولى) المتقدمة، وكل من هذا وذاك يقابل ما في السور المكية من
بيان بطلان الشرك وغواية أهله.
في سورة البقرة تكثر محاجة اليهود، وفيها تذكير كثير بقصة موسى معهم،
وفي سورة آل عمران تكثر محاجة النصارى [6] وفي سورة المائدة تكثر محاجة
الفريقين، وفي سورة النساء تكثر الأحكام المتعلقة بالمنافقين، ويليها في فضائح
المنافقين سورة التوبة الآتية. وتكثر في هذه السور الثلاث أحكام القتال، كما تكثر
في هذه السورة (أي سورة الأنفال) اهـ.
ثم إذا راجع خلاصة سورة براءة (التوبة) المدنية يجد في أولها ما نصه:
(هذه السورة آخر السور المدنية الطول نزولاً فيقل فيها ذكر أصول الدين، وما
يناسبها من الحجج العقلية والسنن الكونية، وكذا أنواع العبادات البدنية. اهـ.
ثم إذا هو قرأ الأبواب والفصول التي لخصنا فيها ما في السورتين من
الأصول والقواعد يجد أكثرها في قواعد التشريع الخاص بالقتال والصلح والعهود،
وأحكام المشركين والمنافقين وأهل الكتاب في ذلك، وكذا القواعد والأصول المالية،
وكل ذي إدراك يفهم أن هذا كله لا يعقل أن يكون إلا في القسم المدني دون المكي.
الحروف المفردة في أوائل بعض السور
إن هذه المسألة ما كان ينبغي لمسلم أن يقلد دعاة النصرانية في تشكيك طلاب
العلم في القرآن بها وجعلها من مباحث النقد التحليلي في الأدب، (أي كما فعل طه
حسين) وقد فنَّد الأستاذ الناقض لمطاعنه رأيه فيه، وذكرنا فيما علقنا عليه في
حاشيته ما سبقه إليه بعض المستشرقين منه، ونذكر هنا المختار عندنا في هذه
المسألة، وهو ما كتبناه في تفسير {المص} (الأعراف: 1) من أول سورة
الأعراف في الجزء الثامن من تفسير المنار وهو:
(المص) هذه حروف مركبة في الرسم بشكل كلمة ذات أربعة أحرف،
ولكنها تقرأ بأسماء هذه الأحرف ساكنة هكذا: ألف. لام. ميم. صاد. والمختار
عندنا أن حكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء حروف ليس لها معنى مفهوم غير
مسمى تلك الحروف التي يتركب منها الكلام هي تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد
هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء. فهي كأداة الافتتاح (ألا) وها
التنبيه، وإنما خصت سور معينة من الطول والمئين والمثاني والمفصل بهذا
الضرب من الافتتاح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوها على المشركين
بمكة لدعوتهم بها إلى الإسلام وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية إلا الزهراوين
البقرة وآل عمران وكانت الدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب وكلها مفتتحة بذكر
الكتاب إلا سورة مريم وسور العنكبوت والروم وسورة ن، وفي كل منها معنى مما
في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب.
فأما سورة مريم فقد فصلت فيها قصتها بعد قصة يحيى وزكريا المشابهة لها،
ويتلوهما ذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءًا كل منها بقوله
تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَاب} (مريم: 16) والمراد بالكتاب القرآن. فكأنه قال
في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ} (مريم: 16) وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هذا لا هو ولا قومه كما صرح به في
سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا
إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:
49) وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ
الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:
102) وختمت هذه السورة (أي سورة مريم) بإبطال الشرك وإثبات التوحيد.
ونفي اتخاذ الله تعالى للولد، وتقرير عقيدة البعث والجزاء، فهي بمعنى سائر
السور التي كانت تتلى للدعوة ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم
النبيين وصدق كتابه الحكيم.
وأما سورة العنكبوت وسورة الروم، فكل منهما قد افتتحت بعد (الم) بذكر
أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة، فالأولى الفتنة في الدين وهي إيذاء الأقوياء
للضعفاء واضطهادهم؛ لأجل إرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة. كان مشركو
قريش يظنون أنهم يطفئون نور الإسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه،
وأكثرهم من الضعفاء الذين لا ناصر لهم من الأقوياء بحمية نسب ولا ولاء. وكان
المضطهدون من المؤمنين يجهلون حكمة الله بظهور أعدائه عليهم فبين الله في فاتحة
هذه السورة أن الفتنة في الدين من سننه تعالى في نظام الاجتماع يمتاز بها
الصادقون من الكاذبين؛ ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وتكون العاقبة
للمتقين الصابرين. فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها.
والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإنباء بأمر وقع في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ولما يكن وصل خبره إلى قومه وبما سيعقبه مما هو في ضمير
الغيب، ذلك أن دولة فارس غلبت دولة الروم في القتال الذي قد طال أمره بينهما
فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم
الفرس في مدى بضع سنين، وبأن الله تعالى ينصر في ذلك اليوم المؤمنين على
المشركين، وقد صدق الخبر وتم الوعد، فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات
القرآن، والآيات المثبتة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ولو فات من تلاها
عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة من أولها لما فهموا مما بعدها شيئًا، فكانت
جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع المنبهة للأذهان، وكان هذا بعد
انتشار الإسلام بعض الانتشار، وتصدي رؤساء قريش لمنع الرسول صلى الله
عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس، ولا سيما في موسم الحج. وكان
السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) وأما سورة (ن) ففاتحتها وخاتمتها في
بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم ودفع شبهة الجنون
عنه إلخ.
وقد بينت بعد ما ذكر حكمة هذا التنبيه الذي كان من إصلاح القرآن في
أساليب اللغة العربية، وكونه مما يقتضيه علم النفس، وبلاغة القول، وتأثير
الخطاب، فيراجع في التفسير فإنه مهم جدًّا.
(نصيحة) قد علمت أيها المسلم القارئ لهذه المقدمة، وهذا الكتاب أن
الدكتور طه حسين تكلم في القرآن بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا
بإخلاص في النقد التحليلي، الذي يعلو القرآن على مدارك أهله وعقولهم وعلمهم
باللغة والدين والتشريع، وإذ كان القرآن أصل الدين فلا ينبغي للمسلم أن يأخذ علم
بلاغته وآدابه، ولا علم هدايته وتشريعه، إلا عن خواص العلماء بتفسيره، ويجب
أن يرجع إليهم فيما عسى أن يقرأه أو يسمعه لغيرهم من نقد أو طعن أو رأي فيه
يخفى عليه.
أما دعاية التجديد التي يبثها الملاحدة الإباحيون بعضهم لبعض ويخدعون بها
التلاميذ الأغرار، والمفتونين بتقليد الإفرنج فيما يسهل عليهم من طُرُز (بضمتين
جمع طراز) الزينة والشهوات، فليخبرونا أي شيء جديد جاءوا به مما يرقي الأمة
في اتحادها وأخلاقها وقوتها وعزتها لنبين لهم خطأهم فيه، ونحن نقول: إنهم ما
جاءوا بشيء جديد نافع قط، بل بالضار المفسد للأمة على أنه غير جديد، بل هو
الذي أفسد أمم الحضارة القديمة وأسقط دولها، وعقلاء أمم أوربة يخافون سقوطها
بمقتضى سنة الله فيمن قبلها.
وأما الأسلوب العصري في النقد الذي اعترفنا بحسنه في جملته فهو قديم أيضًا
وأول واضع لأصوله حكيمنا ابن خلدون، وجرى عليه شيخنا الأستاذ الإمام في رده
على موسيو هانوتو بما حمل هذا الوزير على اعتذاره للإمام، وجرى عليه أيضًا
في مقالات الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية الذي طبع مرارًا، ومنه هذا
النقض.
وأما ما يكتبه هذا الرجل وأمثاله في مسائل الأدب اللغوي والتاريخ فمنه
الصحيح المقبول، ومنه الزائف المردود، وإن تطبيق الحكم على الصحيح منها قد
يكون خطأ ظاهرًا، وقد يكون محل نظر واستدلال، كما وقع للحكيم ابن خلدون
واضع هذا الفن، وهذا شأن جميع علماء النظر العقلي والشرعي وغيرهم، فإن
خطأ الفقهاء في تطبيق الأحكام على قواعد الأصول أكثر من خطئهم في القواعد
نفسها.
ومن راجع ما كتبه بعض الحُذَّاق في النقد التحليلي التفصيلي لكتاب (في
الأدب الجاهلي) علم قيمة بضاعته المزجاة فيه، والتقليد المحض لكبار الحكماء
والعلماء ينافي العلم الصحيح، فما القول بتقليد من دونهم، و (الحكمة ضالة
المؤمن أين وجدها فهو أحق بها) {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
_________
(1)
جمع عاق بالتشديد اسم فاعل من العقوق وقد اخترته على العاقين على ثقل لفظه لمناسبة معناه، وللإشارة إلى عدم استعمال عقولهم في عقوقهم، على أن الإدغام يخفف الثقل.
(2)
إن دول أوربة لتجدد العناية بالدين تعليما وتربية وقد قرأت اليوم برقية في الصحف بأن حكومة النمسة أمرت بجعل إقامة شعائر الدين في مدارسها إجباريا.
(3)
هو مدرس اللغات.
(4)
ومثلهما في الطول آية قيام الليل من سورة الزمل وهي من أول ما نزل بمكة وقيل أول سورة كاملة نزلت فيها.
(5)
وتظهر البلاغة في الآيات القصيرة بأتم ما تظهر في الطويلة ولا سيما آيات القصص.
(6)
كان سبب هذا مجيء وفد نصارى نجران ومحاجة النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإسلام ووثنية الهند وزعماؤها
مقابلة ومقارنة ومفاضلة في التوحيد والتصوف
بمناسبة شهرة غاندي في العالم
الفصل الأول
(1)
الإسلام نشأته الأولى وحاله اليوم:
الإسلام دين ودولة، ملة وأمة، ساد العالم بيسر تعاليمه الدينية وسماحتها
وقلتها وموافقتها للفطرة، وبعدل دولته العام، ومساواته بين البشر في الأحكام،
وجعل السلطان فيه للأمة التي تختار لنفسها الإمام، ويعد إجماعها من أصول
الأحكام، فتح بهذه المزايا ثلاثة أرباع العالم القديم في ثلاثة أرباع قرن تقريبًا،
واهتدى به عشرات الملايين فيه من جميع الأمم باختيارهم قبل أن يتم القرن الأول.
بيد أنه ابْتُلِيَ بعد عصر النور المحمدي وعصر الخلفاء الراشدين المهديين ببدع
تغلغلت في تعاليمه وتربيته الدينية بالتدرج فَكَثَّرَتْهَا وعَقَّدَتْهَا حتى جعلتها أضعاف ما
جاء الرسول الرءوف الرحيم عن رب العالمين، وجعلتها حَرَجًا لا يطاق احتمالها،
وسرت سموم فسادها في دوله فجعلتها استبدادية، وسلبت منها سلطة الأمة على
خلفائها وسلاطينها، بتأويلات رجال الدين والشرع وتحريفهم لها؛ لأجل أن
يشاركوا الحكام في السيادة عليها واستغلال ثروتها، ولكن انتهى بهم ذلك إلى عصر
ما عاد يطيق فيه الحكام أحكامهم فصاروا يبعدونهم من مناصب السياسة،
ويحرمونهم من منصات الرياسة، إلا أفرادًا منهم يخضعون العوام لنفوذهم، ثم أدى
ذلك إلى ترك بعض أحكام الشرع الإسلامي نفسه، ثم إلى ترك بعضهم له كله
أصوله وفروعه.
قام في الأمة رجال مصلحون يدعون الأمة إلى الرجوع إلى دينها الذي وصفه
الله باليسر وبرَّأه من الحرج، وترك كل ما عرض لأهله من الخرافات والبدع،
وإلى استعادة حقها في المراقبة على حكامها، والشورى في أحكامها، فناوأهم
زعماء البدع والخرافات من ناحية، وأرباب الاستبداد من ناحية ثانية، وما زالت
الحرب بين الفريقين سِجَالاً في جميع الأقطار الإسلامية، لم يستطع قطر منها، ولا
شعب أن يبلغ من الإصلاح العام، ما بلغته أوربة واليابان، ولا وثنيو الهند في
هذه الأيام، وسبب ذلك أن السواد الأعظم من شعوب الأمة لم يبلغ من الرشد أن
يفقه ما دعاه إليه المصلحون فيؤلف لهم عصبية تنصرهم على المبتدعين الخرافيين،
وعلى المستبدين المستكبرين، ولذلك كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى يقول: يا
وَيْح الرجل الذي ليس له أمة.
إن شئتم أيها المسلمون أن تفقهوا كلمة هذا الإمام المصلح الكبير فقد ضرب
الزمان لكم أكبر مثل لفقهها، ترونه بأعينكم، وتسمعون أخباره كثيرًا في صحفكم،
وهو زعيم الهند الكبير المهاتما غاندي.
(2)
زعيم الهندوس وزعيما الإسلام وأمة كل منهما:
أتظنون أيها المسلمون أن غاندي أوسع من السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ
محمد عبده المصري علمًا بما تصلح به الأمم وتعتز وتنال حقوقها؟
أتحسبون أنه أشد غيرة على قومه ووطنه منهما على أمتهما وأوطانهما؟
أتحسبون أنه أقوى منهما إيمانًا، أو أقوى حجة وبرهانًا، أو أجرأ جنانًا
وأفصح لسانًا؟ أتتخيلون أنه أقوى منهما إرادة، أو أصح عزمًا وأشد حزمًا؟
أم تذهبون إلى أن سبب فوزه في سياسته، سخاؤه ببذل روحه في سبيل أمته
(وهو آخر ما أعجب به العالم من أخباره) وأنهما كانا يبخلان بها في سبيل أمتهما؟
كلا إن كل هذه الفروض والظنون والأوهام بعيدة عن ساحة حكيم الشرق
والأستاذ الإمام، فطالما عرَّضَا حياتهما للموت والقتل، بل يعتقد أكثر الناس أو
جميعهم أن أولهما قد قتل بالسم قتلا، ويظن بعضهم أن الثاني كذلك، ويرى أكثرهم
أنه قتل قهرًا. وكان على الرأي الأول مستر ألفرد بلنت صديق الإمام، كما صرَّح
به في مذكراته التي نشرت بالعربية في العام الماضي.
وأما هذا الوصال في الصيام الذي يصومه غاندي على دينهم في تعذيب الجسد
لتربية النفس فقد حرَّمه وأبطل قاعدته الإسلام الذي أعطى الجسد حقه والروح حقها،
على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل في الصيام وينهى عنه، ويعلل
وصاله بأن الله تعالى يطعمه ويسقيه، أي يعطيه قوة الطاعم الشارب كما قالوا.
على أن هذين الإمامين المجددين قد فعلا لأمتهما وأوطانها ما لم يفعل غاندي
لأمته ووطنه: هما اللذان نفخا فيها روح الإصلاح الديني والسياسي والأدبي فسرى
في جميع شعوبها ولكنه لما يبلغ كماله بعدُ، إنما ظهر غاندي في أمة فيها ألوف من
رجال التعليم العالي والتربية الصوفية المبنية على الإيمان بوحدة الوجود، وقوة
الإرادة وبذل المال والنفس فيما توجبه العقيدة، مع ثروة واسعة، وجمعيات منظمة،
فوجه إرادته إلى إكمال ما بدأ به غيره من السعي للوحدة والاستقلال.
وأما أمتهما الإسلامية فكانت عند ظهورهما معتلة منحلة، ليس فيها تربية
دينية ولا سياسية، ولا جمعيات إصلاحية، وإنما كان التعليم الديني مناقشات لفظية
في عبارات كتب هي أبعد عن العلم الصحيح من كل ما كتب سلفهم في عصر حياة
العلم، وكان أهل هذا التعليم العقيم في عزلة عن العالم لا يشعرون بشيء من أطوار
الأمم في ترقيها وتدليها، وقوة دولها وضعفها، وما تجدد لها من التربية والتعليم
والتشريع المُوجِب للتجديد. وكان تعليمها المدني قاصرًا على فئة قليلة تعلم؛ لتكون
آلات وأدوات في معمل الحكومة.
يمتاز غاندي ويَفْضُل جميع زعماء قومه بجمعه بين الزعامتين الدينية
والسياسية، وفي كهنتهم من الصوفية من هم أعلم منه بالدين وأشد انقطاعًا للتنسك
فيه، وفي زعمائهم السياسيين من هم أعلم منه بالقوانين وسنن الاجتماع، ولكن
الجمع بين الدين والدنيا إيمانًا وعلمًا وعملاً هو الذي آتاه من القوة والتأثير في
جمهور أمته ما لم يؤت أحد من هؤلاء، ولا من أولئك، وبقدر استمساك أمته به
واتباعهم له كان تأثير نفوذه في الدولة البريطانية، فهي في كل بلاد تملكها أو
تستعمرها تحترم رجال الدين والدنيا وتستميلهم إليها بقدر نفوذهم في شعوبهم، فما
القول فيمن يجمع بين النفوذين الروحي والسياسي؟ على أنها لم تر بُدًّا من سجنه،
ومنع قومه من لقائه.
ولقد كان كل من زعيمي الإسلام الأفغاني والمصري عالمًا دينيًّا، وصوفيًّا
روحانيًّا، وعالمًا بكل ما يحتاج إليه الإصلاح العام من علم الدين وفلسفة النفس
والأخلاق وسنن الاجتماع وعِبَر التاريخ، وكان كل منهما كاتبًا بليغًا، وخطيبًا
مفوَّهًا، ولو وجدا في الأمة الإسلامية ما وجد غاندي من قومه الهندوس لكان ما
أحدثاه من الانقلاب تامًّا كاملاً في شعب مستقل أتم الاستقلال، ولكان ذلك يسري
إلى سائر الشعوب الإسلامية كما كانا يريدان.
(3)
اقتباس غاندي الإصلاح الذي دعا إليه الأفغاني:
فالعبرة لنا معشر المسلمين في هذا الفوز الكبير لوثني الهند أن نعلم أن
الإصلاح الذي تكون به الأمة عزيزة مستقلة لا بد أن يكون دينيًّا دنيويًّا، ونحن
أولى بهذا من الهندوس؛ لأنهم إنما أخذوه عنا، ألم تروا أن زعيمهم الأكبر
(غاندي) قد صرَّح أخيرًا بأنه يتشبه بنبينا وبعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام،
ألم تَرْوِ لنا جرائدنا عنه في العام الماضي أنه نصح في بورسعيد لمن زاره من
طلاب العلم بمصر من إخواننا مسلمي الهند أن يتشبهوا بالخلفاء الراشدين في
سيرتهم العالية، ولا سيما تقشفهم وعدم مبالاتهم بالشدائد؟
ألم تنقل لنا قبل ذلك جرائد الهند فسورية ومصر ما أثنى به على نبينا صلى
الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام القويم وشهد بأنه حق وأمر قومه بأن يدرسوه
باحترام ويحبوه، (وقد نشرنا ترجمة قوله في الجزء الثاني من منار السنة الماضية
المجلد 32) .
ألم تعلموا أن انقسام الهندوس إلى طبقات بعضها مقدس وبعضها رجس
وبعضها بين بين، هو من أصول دينهم، وأن الإسلام هو الذي جاء بالأخوة العامة
وبالمساواة بين جميع البشر وعدم التفاضل بينهم بالطبقات والأجناس والتقاليد، بل
بتقوى الله وهي معرفته والتقرب إليه بتزكية النفس بالعبادات والفضائل، بعد
التخلي عن الشرك والرذائل؟ وأن هذا الذي يدعو إليه غاندي الآن هو من إصلاح
الإسلام؟
ولقد دعانا المصلحان المجددان الأفغاني والمصري من قبله إلى الجمع بين
الإصلاح الديني الروحي والدنيوي المدني والسياسي، دعوانا بأن نكون وسطًا بين
الدجالين الخرافيين الدينيين، والمتفرنجين الماديين الإباحيين، وضربا لنا على ذلك
الأمثال، وأقاما الحجج والبراهين، بأنه سبيل الفوز والفلاح في الدنيا والدين
فحزبهما هو الحزب الوسط الذي اعترف بسداده عقلاء الأوربيين، وبأنه لا يرجى
بدونه حياة ولا استقلال المسلمين، كما بينا ذلك مرارًا في المنار، وفيما بسطناه من
سيرتهما في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام، ولا سيما فاتحته وخاتمته.
(4)
الدين عندنا وعند الهندوس والوثنية:
المعروف عند المسلمين بالإجمال في كل العالم أن دين الإسلام دين التوحيد
الخالص، وأن دين الهنود من البراهمة والبوذية والسيخ وكذا البرس وغيرهم
أديان شرك ووثنية، وأن دين أهل الكتاب دين توحيد طرأ عليه ابتداع الشرك
والوثنية.
ويقل في المسلمين من وصل علمه في هذه الأديان إلى تفصيل لهذا الإجمال
ولا سيما مسلمي العرب والترك والفرس، وقد يوجد من يعلم هذا في علماء الهند
الذين اطلعوا على أديان أقوامها وتاريخها ولا سيما مذهبهم في التصوف وتربيتهم
عليه.
إن التوحيد هو أصل دينهم أو أديانهم أيضًا، وقد طرأت عليه الوثنية طروءًا،
ولهم فيها فلسفة تجتمع مع وحدة التجلي والشهود ووحدة الوجود عند صوفيتنا،
وقد سرى ضرب من وثنيتهم ووثنية غيرهم من أهل الأديان القديمة التي أصلها
التوحيد إلى أكثر النصارى وضرب منها إلى مبتدعي المسلمين الذين نراهم عند
الشعور بالحاجة إلى السلطان الإلهي الغيبي الأعلى لجلب نفع أو دفع ضر من غير
طريق الأسباب يتوجهون إلى غير الله من الصالحين، فيدعونهم ويستغيثون بهم،
إما وحدهم وإما لتوسيطهم عند الله بما يسميه عوامهم سوقًا أو سياقة فيقولون: يا
سيدي فلان أنا سايقك على الله أو على النبي ويسميه خواصهم توسلاً. وقلما يوجد
بين هذين الفريقين من يتوجه إلى الله وحده مخلصًا له الدين كما أمر الله تعالى في
آيات الأمر باتباع الحنيفية ملة إبراهيم وهو التوجه إليه وحده دون سواه، وفي
دعاء افتتاح الصلاة المقتبس منها (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض
حنيفًا وما أنا من المشركين) إلخ.
(5)
طغمة الدعاة لعبادة القبور باسم التوصل:
ويوجد من أصحاب العمائم من يدعو إلى ذلك التوجه المشترك المنافي
للحنيفية، ويحتج له بأن الذي يدعو غير الله من أحبابه إنما يقصد بدعائه إياهم
واستغاثته بهم تقريبهم إياه إليه عز وجل. قال بعضهم في توجيهه من كتاب ألفه
للدعوة إليه: وكل ما في الأمر أنه يرى نفسه مُلَطَّخًا بقاذورات المعاصي أبعدته
الغفلات عنه تعالى أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه
وقضاء حاجاته، وله الحق في هذا الفهم فإن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين،
وشؤم المعاصي معروف أثره في الحرمان من الخيرات) إلخ ما قال، وقرر أن
الدعاء والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم
أحياء في قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها، وفي خارجها، وأدخل هذا في باب
الكرامات، التي جعلوها عملا كسبيًّا لهم جاهلين لمعنى كونها من خوارق العادات،
وواطأه على ضلاله وإضلاله 63 عالمًا أزهريًّا كما ادعى وذكر أسماءهم
وإمضاوات أكثرهم بخطوطهم، وبَنَى على هذا أنه انعقد عليه الإجماع؛ لأن سائر
علماء الأزهر يوافقونهم فيه، وأنه يجب على جميع المسلمين اعتقاده والعلم به،
وإنما الإجماع الأصولي اتفاق مجتهدي هذه الأمة وليسوا منهم، بل هو يقول
كجمهورهم: إن المجتهدين قد انقرضوا من القرن الثالث، فلو أجمع جميع علماء
الأزهر لما كان إجماعهم حجة شرعية.
هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله تعالى عنهم بقوله:
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) إلخ، وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ
هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين،
فهو مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع) الحديث وهو متفق عليه.
ما شرع الله تعالى للعاصي أن يتوجه إلى أحد غيره من أوليائه الميتين ولا
الأحياء ليقربه إليه، بل قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: 53-54) الآية، وقال بعد ذكر مضاعفة العذاب
للمشركين والقتلة والزناة: {إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: 70) فشرع للعصاة التقرب
إليه بالتوبة من الذنب والإنابة والرجوع إليه عز وجل، والآيات والأحاديث
المحكمات في هذا المعنى كثيرة هي أصل الدين في المسألة وشرع لكل مؤمن أنه
يتوجه إليه حنيفًا أي مائلاً عن كل ما سواه، وأن يدعوه كفاحًا في كل ركعة من صلاته
بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 5-6)
فيجب أن يطلب منه وحده دون سواه أن يهديه الصراط الذي استقام عليه أحبابه
المُنْعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا أن يطلب ذلك ممن
يعتقد أو يظن أنه منهم، بل قال تعالى لأكرمهم عليه السلام: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) أي الهداية بالفعل، وإنما
عليه صلى الله عليه وسلم هداية التعليم المُرَادة بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) وفاقًا لقوله له: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وقال له: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلَا رَشَداً} (الجن: 21)
أي ولا نفعًا ولا غيًّا ففيه احتباك: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن
دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلَاّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 22-23) إلخ، والآيات في
هذا المعنى عديدة.
الفصل الثاني
(6)
توحيد الإسلام والهندوس ومبتدعتهما وصوفيتهما:
إن كتاب الله تعالى قد علَّمَنَا أنه بعث في كل أمة من الأمم رسولا يدعوهم إلى
عبادته وحده واجتناب الشرك والطاغوت وإلى العمل الصالح، وأنه لما بعث محمدًا
خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كانت جميع الأديان قد فسدت ببدع الوثنية فَبَيَّنَ
الإسلام الذي جاء لجميع أهلها دين الله الحق، وأن أساسه التوحيد المجرد، ولا
تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم
الأزهري، وأستاذه الدجوي للمستغيثين بالبدوي والدسوقي والمتبولي وأبو سريع
وغيرهم ممن لا يُحْصَى عددهم، واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين ليس
لأحدهم أن يتقرب إلى الله تعالى بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء المعتقدين
ليقربه إليه زلفى.
ولا تظنوا أنه ليس عندهم صوفية لهم من الخوارق ما حار أكبر علماء
الإنكليز وغيرهم في فهمه أو تأويله، بل اعترف قدماء صوفيتنا بكشفهم وخوارقهم
وسموها ظلمانية أو صورية ولا أنه ليس عند طغمة مقلديهم من الحكايات التي
يستدلون بها على قضاء الأموات لحاجات المستغيثين بهم ما هو أكثر وأكبر من
الحكايات التي يتناقلها عَوَامنا، وأكبر مما ينقله النصارى عن سيدة لورد في فرنسة
وغيرها.
إن عند الهندوس علماء أقدر من هذا العالم، ومن الذين أجازوا كتابه بزعمه
(وهم 63 معًا من المنسوبين إلى المذاهب الأربعة) على تأويل بدعهم بفلسفة أرقى
من هذه الفلسفة الباطلة التي نقلنا لكم كلمة منها، حتى إنهم أقنعوا كثيرًا من الإنكليز
بدينهم فدخلوا فيه، ونشرت الصحف أن أحد دعاة النصرانية من الأميركان قد دخل
فيه هو وامرأته، والمعجبون من الإفرنج بدين غاندي كثيرون، وقد قال بعضهم:
إنه لم يوجد في البشر أحد يشبه المسيح مثله أو غيره، فهذا بعض أثر الهندوس في
خدمة دينهم الوثني، فماذا يفعل علماؤنا في خدمة دين التوحيد المُصْلِح لجميع
الأديان؟
ها أنا ذا أذكر لكم محاورة دارت بيني وبين أحد كهنة الهندوس في مدينتهم
المقدسة (بنارس) في التوحيد عندهم وعندنا، بعد أن نشرت لكم مسامرة في انتقاد
كتب التوحيد وتعليمه عندنا، كانت بيني وبين الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
فأقمت بها الحجة على أن تعليم التوحيد في الأزهر ومعاهد التعليم التي على منهاجه
لا يصلح في عصرنا هذا للعوام، ولا للخواص، وما يجب من إصلاحه، ولم يرد
عليها شيخ الأزهر بكلمة.
(7)
محاورة بيني وبين كاهن هندوسي في التوحيد ووحدة الوجود:
في ضحى يوم الأربعاء لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة 1330 (8
…
أبريل سنة 1912م) وصلت إلى بنارس (مدينة الهندوس المقدسة) فاستقبلني في
محطتها (محمد ممنون حسن خان) المعاون المسلم لواليها الإنكليزي، وهو شهم
أفغاني الأصل، وأنزلني ضيفًا مكرَّمًا في داره بضاحية المدينة، وهي في حديقة
غناء غبياء فيها بعض الشجر المقدس عن الهنود كالبيبل والبيبر، وإذ كنا جالسين
في ظل شجرة منها متدلية الأغصان مفتحة الزهر الأبيض جاء كاهن من كهنة الدين
لزيارة مهراجا من أمرائهم محجور عليه لمرض عقلي بكفالة مضيفي، هو مرسل
من قبل زوج المهراجا، فلما علمت أنه من علماء دينهم أحببت البحث معه بما
أدونه هنا.
قلت: ما الذين جعل هذا النوع من الشجر وأشرت إلى الشجرة التي فوقنا
مقدسًا؟ قال: إن أوراق هذه الشجرة إذا وضعت على المجدور لا يلبث الجدري أن
يذبل ويزول من قريب.
قلت: إن صح هذا فهو لا يوجب لشجرة قداسة دينية، فإن لشجرة الخروع
زيتًا يطهر الأمعاء من الفساد فيشفي من الذرب والهيضة، وأن لشجرة الكينا مادة
تزيل الحمى، ولكل شجرة وكل مخلوق خاصية أيضًا.
قال: نعم وإن كل ذلك أو كل ما في الوجود ما ظهر الفيض الإلهي (ونطق
كلمة الفيض بالظاء وكان يتكلم باللغة الأوردية، ويترجم لي كلامه ترجماني السيد
عبد الحق الأعظمي رحمه الله تعالى) فالله تعالى يعبد ويتوجه إليه بمظاهر وجوده
ومجالي فيضه وآياته في خلقه.
وذكر أن مذهبهم هذا في وحدة الوجود هو الذي ينتهي إليه كبار العارفين منا
كشمس الدين التبريزي ومحيي الدين بن عربي وأمثالهم.
فرددت عليه بكلام حاصله أن التوحيد الحق الذي جاء به الإسلام المجرد من
شوائب الشرك، الوسط بين إفراط صوفية الهند وغيرهم وفلسفتهم في وحدة الوجود،
وتفريط المشركين منهم ومن سواهم في تعديد الإله المعبود، هو التوجه إلى الله
تعالى وحده غير مقترن بأحد من خلقه، مهما تكن مراتبهم في مظاهر فيضه،
وحظوظهم من خواصه وآياته في خلقه، وهو المُعَبَّر عنه بالحنيفية والموصوف
صاحبها بالحنيف، فهكذا يتوجه إليه المسلم الموحد الحنيف عند الدعاء والصلاة
والذكر، يلاحظ أنه هو العلي العظيم القاهر فوق عباده، فلا يصوب نظر قلبه إلى
ما دونه عند وقوفه في حضرة مناجاته، وبسط أكف الحاجة إلى كرمه، والسجود
والذل لعظمته وكبريائه، وهو قد كرَّم الإنسان بالعبودية له، وفرض عليه مخاطبته
كفاحًا بغير وساطة كما ترى في سورة الفاتحة، وفي غيرها من آيات كتابه، كقوله
فيها وهو ما نقرؤه في كل ركعة من صلاتنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وقوله في غيرها: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) .
وأما إذا نظر المسلم إلى كل من هؤلاء المخلوقات وحده فمقتضى كمال
التوحيد ألا يحجبه شيء من آياته تعالى فيها وما أودع فيها من جمال وخواص
ومنافع لعباده عن كونها من آلائه ومظاهر فيضه، وتجليات أسمائه وصفاته، ولا
عن تسخيره بعضها لبعض في عالم الأسباب، ووقوف كل منها في محيطه، لا
يتجاوزه إلى مشاركته تعالى في شيء مما هو فوق الأسباب المسخرة والسنن العامة
في خلقه، فهو يعطي كل مخلوق منها حقه، ويعطي ربها وخالقها حقه، ومن ثم
لا يشركها معه بشيء ما من التقديس والتعبد، لا بالذكر ولا بالدعاء ولا بالتوجه،
ولا بوضعها أو وضع شيء مما يذكر بها من صورة أو تمثال أو قبر في بيوت
العبادة تفعلونه في هياكل هذه المدينة (بنارس) وغيرها اهـ.
(8)
معابد الهندوس ومعابد غيرهم:
في بنارس هذه قبر أبي البشر آدم عليه السلام وقبر زوجه وقبر أمه (ويقال:
إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة) وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب،
كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره من أئمة أبنائه (عليهن السلام
والرضوان) في كربلاء والكاظمية وغيرها، وبجانب قبة آدم تمثال العجل الأحمر
الذين يزعمون أنه كان يمتطيه في انتقاله من مكان إلى آخر، وترى الأزهار
منثورة عليه ومن حوله.
وجميع هذه القبور تُعْبَد بالطواف حولها والتمسح بها، وتلاوة الأدعية
والأوراد عندها كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور
لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنِّحَل أو التعبدات
فيها أن علماء وثني الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس
لهم فلسفة في عباداتها، كيف وهم أئمة الفلسفة الأولى، ولا سيما فلسفة علم النفس
والأخلاق والتصوف وتربية الإرادة، وعنهم أخذ غيرهم من الشعوب، وقد بينت
هذه الحقائق في مواضع من المنار وتفسير القرآن.
أفيصح لنا معشر المسلمين أن نرى وثني الهند يقتبسون من ديننا الحق ما
يصلحون به دينهم الفاسد، ويبقى فينا من يصرون على البدع الوثنية التي اتبعنا بها
سننهم وسنن من قلدهم قبلنا من أهل الكتاب؟ أما آن لنا أن نعلم أننا في مصر
وغيرها مهملون لعلم التوحيد وهو أعلى العرفان الذي يصلح النفوس ويزكيها،
ويربأ بها أن تقبل الاستبداد، أو تدين بالذل والعبودية لغير خالقها، وكذا تعليم
أخلاق الإسلام وتاريخه، وأن وثني الهند وأهل الكتاب أشد عناية بتعليم دينهم منا؟
أما آن لنا أن نعلم أن فشو هذه الخرافات وتأييد بعض المعممين لها باسم الإسلام،
هو أكبر أسباب ترك أكثر معلمي المدارس العصرية لهداية الإسلام، وحسبان
بعضهم أنه كغيره من الأديان الوثنية الخرافية؟
(9)
الإسلام بين الخرافيين والإباحيين:
لقد كاد الإسلام يضيع بين فريقين أحدهما غلبت عليه الخرافات والبدع
الملصقة بالدين، فهو يطلب سعادته في الدنيا والآخرة من قبور الميتين، والآخر
استحوذت عليه الشهوات البدنية فارتكس في حمأة الإباحة، المفسدة للصحة، المفنية
للثروة، الهادمة لبناء الأسرة. وكل من الفريقين في ضلال مبين، العارفون
بحقيقة الإسلام الجامع بين مصالح الدنيا والآخرة قد أصبح صوتهم خافتًا لفقد الزعامة
التي تجمع شملهم، وتصدي الخرافيين لمحاربتهم، وتأييد الزعامة الدينية لهؤلاء
بمجلة الأزهر، ولم يسبق لهذا نظير في القرون الأخيرة، فالأمة ضائعة بين
الخرافيين والإباحيين.
كتب بعض رجال التاريخ في بعض الصحف أن السيدة زينب بنت الإمام
الحسين السبط عليهما السلام غير مدفونة في المشهد المبني لها في المسجد المضاف
إلى هذا الاسم، فتصدى الخرافيون للرد على هؤلاء المؤرخين، وكان دليلهم على
الإثبات قول الشعراني: إن شيخه عليًّا الخواص قد علم بالكشف وجودها في هذا
القبر، وهذا الكشف الذي يدَّعُونه ليس بحجة شرعية ولا عقلية ولا لغوية، وكتب
الشعراني هذا طافحة بالخرافات التي لا يقبلها عقل ولا دين، ولعلها أقوى أسباب
الاستمساك بها عند كثير من المعممين.
من هذه الردود أن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً في الموضوع نشره في
المقطم يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الإمام الحسين
في القبر المنسوب إليه: (إنك جئتَ تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية
…
تريد أن تطير البقية من دينهم، وذكر أن وجود أبناء النبوة بين ظهرانيهم كما
يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. وأن الأمة عامتها وخاصتها يرون الأنوار
النبوية تتلألأ في مقاماتهم، والعزة الهاشمية تتجلى على أضرحتهم، ويحسون بذلك
أثناء الزيارة ويشعرون أنهم يتوسلون بهم إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم فتقضى،
وفي شفاء مرضاهم فيشفون) .
ويحتجون بمثل هذا على وجود رأس الحسين عليه السلام في المشهد
المعروف بمصر، وأنه حي فيه يقضي حوائج المستغيثين به، ولا ندري ما يقولون
في حكمة حياة الرأس وحده في مصر والجسد وحده في العراق، وكون كل منهما
حيًّا يقضي حوائج الناس أي فلا حاجة مع وجود هذه المقامات إلى الطب والأطباء،
ولا إلى الأسباب الدنيوية في قضاء الحاجات، بل لا حاجة إلى دعاء الله تعالى
وحده فيما وراء الأسباب والعادات.
(10)
اقتراح مؤتمر ديني:
أيها المسلمون: إن دعاة البدع الخرافية قد نظموا دعايتهم وألفوا لها عصبية
يؤيدونها بإيهام العامة إجماع علماء الأزهر عليها (وحاشاهم) وبمجلة مشيخة
الأزهر، وهو ظاهر فيها، والأزهر قوة معنوية لا تُنْكَر، والعامة قوة أكبر وأخطر،
والله أجل وأكبر، ودينه أظهر وأنور، ومعاذ الله أن يجمع علماء الأزهر على
بدع أحدثها ملاحدة الباطنية وغيرهم بعد عصر النبوة، وعهد الأئمة وخير قرون
الملة، ولكن آن لأهل البصيرة من المسلمين أن يستبينوا حقيقة هذه الدعاية الجديدة
ويمحصوها في جرائدهم بأقلام الأحرار من علماء الأزهر الذين لا يخافون انتقام
أستاذهم الأكبرة، وأن يلخصوا هذه البدع في قضايا كلية، ويطالبوا مجلس الأزهر
الأعلى بعقد مؤتمر إسلامي عام لبيان الحق فيها، فإن لم يفعل فليطالبوا الحكومة
بذلك، فإنه لا يوجد في رجال الحكومة من يستطيع الإيمان بهذه الخرافات المبتدعة،
بل هي أكبر أسباب فشو الإلحاد في نابتة الأمة، وإننا سنبين صفة هذا المؤتمر
وموضوعه في مقال خاص، إذا أيدت الأمة طلبنا له.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تعليق على خطبة ملك المملكة العربية السعودية
التي لخصناها في الجزء الماضي
إن ما قرره هذا الملك العربي الهمام من أسباب ضعف المسلمين وتفرقهم هو
الحق الواقع الذي لا يقبل المراء ولا المكابرة، وإن ما ذكره من نعم الله تعالى عليه
بالإمارة والملك وحب قومه وطاعتهم له صحيح يعرفه له ولهم كل من له وقوف
على تاريخه فيهم، وكذلك ما قاله من حبه للسلم والوفاق، ومن دلائله اتفاقه مع
سيادة إمام اليمن حتى إذا ما وقع الخلاف على جبل عرو حكَّمَه الإمام يحيى فيه
فحكم على نفسه، وترك ذلك الجبل الحصين له، وكان هذا الحكم موضع إعجاب
الشعوب العربية والأعجمية، واستغراب الدول الغربية.
وكذلك قوله: إنه مسلم سلفي يدعو إلى الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون، والأئمة المجتهدون،
فهو حق تشهد له به خطبه وسيرته في أحكامه بقدر استعداده واستعداد علماء بلاده،
على انتقاد يوجه إلى بعض رجال حكومته، منه ما خوطب به ومنه وما لا يحيط
به علمًا، ومنه ما يقول: إنه ضرورات قضى بها ضعف الأمة وضعف استعدادها،
وكثيرًا ما أشرنا إلى هذا في المنار، وفصَّلْنَاه لجلالته في المكتوبات الخاصة.
وأما الشيء الجديد المهم في الخطبة فهو قوله: (أنا مبشر أدعو لدين الإسلام
ولنشره بين الأقوام) فهذا نعده وعدًا منه لا يمكنه إيفاؤه إلا بتأسيس جماعة ومدرسة
للدعوة والإرشاد كالذي سبق لنا في مصر، والذي قرر مثله المؤتمر الإسلامي الذي
عقد في العام الماضي في بيت المقدس.
وكذلك قوله: إنه يبذل كل مجهوداته لتوحيد الأمة العربية وجمع كلمتها، فهو
وعد تطالبه به الشعوب العربية عالمة أنه أقوى دولها وحكوماتها، وأن مقامه في
قلب جزيرتها من الحجاز ونجد يعطيه من قوة المركز ما يزيد قوة جيشه أضعافًا
مضاعفة، وحسبنا من قوة جيشه وتأمين بلاده، وحفظ مركزه من التعدي الخارجي
وتمكنه من العمل، وإنما يعوزه العلم والمال وهما مما يأتي به الرجال، إذا صحت
النية ووضع النظام لكل عمل من الأعمال، ومتى وثق المسلمون بهذا فإن عربهم
وعجمهم يبذلون له ما يستطيعون من المساعدة، وفقه الله تعالى ووفق سائر
المسلمين لإحياء مجد الإسلام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة التجنيس الفرنسي
أتى على دولة فرنسة قرن كامل منذ تم لها الاستيلاء على قطر الجزائر
الإسلامي، وهي تدبر المكايد لتحويل أهله عن دينهم، وكان الطريق المعبد لها
ولغيرها من دول الإفرنج الدعوة إلى النصرانية التي يسمونها (التبشير) ولهم فيها
فنون وشؤون، والتعليم المدرسي، وهو قسمان تبشيري وإلحادي، والتعليم لا يفيد
إلا في الأحداث، لذلك ابتدعت فرنسة طريقين آخرين لتحويل المسلمين الكبار
الراشدين عن الإسلام، آخرهما انتزاع شعب البربر المسلم من الإسلام بالقوة
العسكرية القاهرة، وهو قريب العهد، وأولهما تجنيسهم بجنسيتها الذي يكون
لصاحبه جميع ما للفرنسي الأصلي من الحقوق القانونية وعليه ما عليهم.
وهو موضوع حديثنا في هذا الفصل، ومقتضى هذا التجنيس أن يمرق المسلم
من جنسيته الإسلامية ويؤثر أحكام القانون الفرنسي على أحكام كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم في النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك، وهو ارتداد
عن الإسلام صريح لا يحتمل التأويل، ولذلك لم يكن يقدم عليه إلا من لا حظَّ له من
الإسلام إلا التسمية بالأعلام التي لا تزال خاصة بالمسلمين كمحمد ومحمود
ومصطفى، وإنما يقدم عليه من غير المارقين المنافقين من لا يعلمون في الغالب
أنهم يكونون به كفارًا خالدين في جهنم، فإن سلطان الإسلام على قلوب البشر يمنع
أجهلهم بعقائده وأحكامه أن يؤثر عليه غيره، ويرتد عنه ارتدادًا يكون به عدوًّا لله
ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحرم على المسلمين أن يزوجوه مسلمة وأن يدفنوه
في مقابرهم، حتى لا تجاور روحه النجسة أرواح موتاهم الطاهرة، فكان الجاهل
بهذه الأحكام وبما هو أشد منها في الإسلام يرى بأنه يمكنه أن يتجنس بالجنسية
الفرنسية ويظل مسلمًا، وأن هذا ليس إلا ذنبًا يمكن أن يغفره الله له بالكفارات
وغيرها؛ لأنه لم يرغب فيه إلا ليدفع عن نفسه ظلم حكومته للمسلمين وإرهاقها لهم
في أمور دينهم ودنياهم، ويتمتع بمساواة الفرنسيين في حقوقهم، على أن هذه
الحقوق لا تكون تامة له، وإن عادى المسلمين، وعبد المسيح وأمه والقديسين، أو
كفر كملاحدتهم بالله وملائكته وكتبه ورسله أجمعين.
ثم إن فرنسة أدخلت خديعة التجنيس في المملكة التونسية منذ عشر سنين كما
ذكرنا مخالفة في ذلك شروط الحماية المعقودة بينها، وبين حكومة باي تونس ومنها
المحافظة على جنسية التونسيين الإسلامية، ولكنها رأت أن الذين يقبلون جنسيتها
من أهل تونس أقل ممن يقبلونها من أهل الجزائر؛ لأن التونسيين أعلم بأحكام
الإسلام من الجزائريين، ولهم حكومة ملية صورية، فحاولت حمل الناس عليه بقوة
السيطرة الرسمية، فخذلت إذ كان فعلها إيقاظًا للشعب كله، فهب يدافع عن دينه،
فقاومته حكومة الحماية بقوتها، وقوة الحكومة المحلية التي هي آلة بيدها، فلم تزده
القوتان الرسميتان إلا شجاعة وإقدامًا وثباتًا، سنة الله في يقظة الشعوب من رقادها
بالاضطهاد والقهر.
دفنت السلطة متجنسًا بعد آخر في مقابر المسلمين بالقوة العسكرية، وبنت
قبورهم بالأسمنت والحديد كما تبني الحصون الحربية، وجعلت لها حرسًا من الجند
شاكي السلاح، فدرى بالكارثة من لم يكن يدري من العوام والخواص، ففهم الشعب
المؤلف من ميلوني مسلم أنه يراد إخراجه من دينه بالقوة القاهرة، فهاج هيجة عامة
لم يبال فيها ما تكون العاقبة، قيل له: إن الحكومة أصدرت فتوى شرعية من
شيخي الإسلام شيخ الجامع الأعظم، وهو المفتي المالكي ومفتي الحنفية فزاده ذلك
هياجًا؛ لأن مسألة ارتداد المتجنس بالجنسية الفرنسية صارت عنده من المسائل
المعلومة بالضرورة لما سبق لنا ولغيرنا من الإفتاء بذلك من قبل ولإفتاء بعض
علمائهم وعلماء الشرق في هذا العهد، والشعوب الإسلامية لا تقيم وزنًا للعلماء
الرسميين الذين يرونهم آلات في أيدي الحكومات الإسلامية، ولا سيما الخاضعة
لنفوذ أجنبي، وناهيك بالخضوع للنفوذ الفرنسي.
كان أعظم مظهر لهيجان الشعب التونسي إضراب طلاب العلم في جامعة
الزيتونة الأعظم وأكثر شيوخهم عن الدروس، ومشاركتهم لسائر الأهالي في الإنكار
بالمظاهرات وكانت المظاهرات العامة عظيمة، وكانت الخطب والأناشيد التي
ألقيت فيها جد مؤثرة، أنذرت الحكومة الزيتونيين وغيرهم بطشتها بهم فتماروا
بالنذر، ولم يبالوا العقاب المنتظر، وأنشأت محكمة عرفية لعقابهم بالفعل فما زادتهم
إلا إقدامًا وإيمانًا، وإنه ليجب علينا أن نوجه نظر الأمة الإسلامية في هذه المسألة
إلى قضيتين: إحداهما دينية تعبدية، والثانية إسلامية سياسية شرعية.
مسألة التجنس من الوجهة الدينية التعبدية:
فأما الدينية المحض فإنني أرى بعض المسلمين قد شبه عليهم الحكم كون
تجنس المسلم بالجنسية الفرنسية ونحوها يُعَدُّ ردة ومروقًا في دين الإسلام ويرجحون
أنه معصية من كبائر المعاصي التي يمكن أن يقترفها صحيح الإيمان، كالزنا
والسرقة وشرب الخمر وغيرها من الكبائر التي يتحامى أهل السنة تكفير المسلم بها؛
إذ يقولون في كتب العقائد: ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، وأن قوله صلى الله
عليه وسلم: (لا يزني الزاني حيث يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وهو متفق على
صحته يجب تأويله بنفي الإيمان الكامل أو بغير ذلك.
وقد قال لي أحد أصدقائي من فضلاء المسلمين: إذا كان الذي يقبل الجنسية
الفرنسية أو غيرها من جنسيات الدول غير الإسلامية يُعَدُّ كافرًا فلا يصح إسلام أحد
من الذين يسلمون في أوربة وأمريكة وهم كثيرون ويزدادون في هذه السنين عامًا
بعد عام، وإن لي أصدقاء منهم أثق بصحة إسلامهم وكانوا يرجعون إليَّ في كثير
من مسائل العبادات والأحكام الإسلامية التي تخفى عليهم إذ كنت بينهم.
قلت له: إن الفرق عظيم بين الفرنسي الأصلي المقيم في بلاده تحت سلطان
دولته إذا أسلم، وكان قانون دولته يكرهه على أحكام غير أحكام الإسلام، وبين
المسلم الأصلي الذي يختار لنفسه ترك أحكام الشرع حتى المجمع عليها المعلومة من
الدين بالضرورة ويستبدل بها أحكام الجنسية التي يختارها عليها.
إن صفة الفرنسي الذي يهتدي إلى الإسلام أنه قد آمن بعقائده وأخذ بعباداته،
وفضل شريعته على كل ما يخالفها من شرائع دولته، فيجب عليه العمل بكل ما
يقدر عليه منها وما يعجز عنه وأمكنه أن ينفذه بصورة لا تعارضها حكومته فعل،
كالوصية بجعل تركته من بعده لوارثيه الشرعيين في حكم الإسلام، وما عجز عنه
من كل وجه يكون معذورًا فيه.
وأما صفة المسلم الذي يختار الجنسية الفرنسية وأمثالها على الإسلامية فهو أنه
قد فضَّل شرع المكذبين لله ولكتابه ولرسوله خاتم النبيين على شرع الله، وآثر
الاعتزاز بهم على الاعتزاز بدين الله، وأعان المعتدين على المسلمين في دينهم
وشرعهم وملكهم فيما يبغونه منهم، وما يبغون إلا محو الإسلام من الأرض دينًا
وتشريعًا وسلطانًا، وجعل الآخذين به عبيدًا أذلاء لهم، وهذا عين وَلَايَتهم التي نهى
الله تعالى عنها وقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) فأنى لمسلم
أن يجعله من المسلمين بعد إخراج الله تعالى إياه منهم وجعله من أعدائهم؟
ومن هذا الوجه كتبت عند البحث في هذه المسألة أول مرة أن الذي يقبل هذه
الجنسية مختارًا عالمًا بمعناها وأحكامها لا يكون مرتدًّا عن الإسلام بقبولها، بل لا
بد أن يكون كافرًا بما جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه من قبلها.
فإن المؤمن الموقن لا يمكنه أن يفعل ما ينافي إيمانه عامدًا متعمدًا، وأما المعاصي
التي قال علماء السنة: إنها لا تنقض الإيمان فهي ما يفعله المؤمن بجهالة من
ثوران شهوة أو غضب عليه تنسيه وعيد الله تعالى على الذنب، أو تضعف
عزيمته أن تتغلب على هوى النفس، كما قيل في تأويل حديث (لا يزني الزاني
حين يزني وهو مؤمن) إلخ وتأويل معصية آدم إذ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) حتى إذا تذكر الوعيد،
دفعه عنه بضرب من التأويل، كالرجاء في المغفرة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً} (النساء: 17-18) فليراجع ما كتبناه في أحكامهما من الجزء الرابع من
تفسير المنار من شاء.
والآيات التي تدل على كفر هذا المتجنس من كتاب الله تعالى غير آية التولي
التي أشرنا إليه آنفا، وما في معناها كثيرة أظهرها في هذا المقام قوله تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) الآيات، فهي
صريحة في أن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وهو كل ما يخالف حكم
الله من أحكام المخالفين إنما هم منافقون غير مؤمنين بما أنزل الله وإن لم يتحاكموا
بالفعل؛ لأن الإرادة وحدها تنافي الإيمان، فكيف إذا نفذها مريدها بالفعل تنفيذًا
دائمًا؟ فراجع تفسيرها في الجزء الخامس من تفسير المنار.
ومنها قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:
115) فإن هذا المتجنس مشاق للرسول باختياره شرع الأجنبي على شرع الله على
لسانه، ومتبع غير سبيل المؤمنين في أزواجهم من زواج وطلاق وما يتعلق بهما،
وفي فرائض المواريث وغير ذلك من الأحكام الشخصية والمدنية، بل هو بهذا
التجنس راضٍ ببذل ماله ونفسه في قتال المسلمين إذا دعته دولته إلى ذلك وهي
تدعوه عند الحاجة قطعًا.
ففي المسألة أحكام كثيرة مجمع عليها معلومة من دين الإسلام بالضرورة
يستحل المتجنس مخالفتها، واستحلالها كفر بالإجماع، والأصل في الاستحلال عدم
المبالاة بأمر الله ونهيه لا النطق باللسان فقط، وقد قال الفقهاء: إن من اعتقد قبح
شيء من هذه الأحكام القطعية أو فضَّل غيرها يكون مرتدًّا عن الإسلام، وهذه
مسألة في غاية البداهة.
مسألة التجنس من الوجهة الشرعية السياسية:
وأما القضية السياسية الإسلامية في المسألة، وقد أشرنا إليها في عرض
الكلام فنوجز الكلام فيها كالقضية الأولى ومجال التطويل فيها أوسع فنقول:
إن الإسلام دين روحاني، ونظام دولي اجتماعي سياسي، وكل جانب من
جانبيه هذين معزز للآخر مكمل له، ولذلك كانت غايته سعادة الدارين الدنيا
والآخرة فموضوع الجانب الأول تزكية النفس البشرية بالعقائد الصحيحة والعبادات
المعقولة، والأخلاق العالية، والأعمال الشريفة النافعة؛ لتكون أهلا لجوار الله
تعالى في جنات الآخرة، وموضوع النظام الدولي حماية هذا الدين وكفالته والدفاع
عنه وعن أهله وأوطانه بالقوة، وإقامة الحق والعدل والحرية بين أهله وجميع
التابعين لدولته من غير أهله؛ لإقامة العمران، وإظهار سنن الله وأسرار خلقه
بترقي نوع الإنسان، فالجانب التعبدي الروحاني من الإسلام يكمل النظام المدني
بنفخ روح الصدق والإخلاص فيه حتى لا تكون السياسة وسيلة لمطامع الدنيا
وشهواتها وظلم الأقوياء للضعفاء فيها، والنظام المدني السياسي يكفل الجانب
التعبدي ويمكنه بجعل المتعبدين به أحرارًا أعزاء، آمنين على أنفسهم في إقامته
لوجه الله تعالى لا يخافون فيه لومة لائم، ولا اعتداء معتدٍ، كما بين الله لهم ذلك
فيما وعدهم به من استخلافهم في الأرض بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55)
ومن المعلوم بالبداهة أن المتجنس بالجنسية الفرنسية إن أمكن عقلا وصح
شرعًا أن يظل متمسكًا بالجانب الروحي من الإسلام بأن يكون مؤمنًا بأن كل ما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين حق يجب اتباعه فيه بتأوله أنه يقدر على
القيام بعباداته، ويكون عاصيًا معذورًا، فلا يمكن عقلاً ولا شرعًا أن يدعي أنه
يظل مستمسكًا بالجانب الآخر من الإسلام، وهو السياسي الاجتماعي، فإنه لا معنى
للتجنس إلا خروجه منه، ومن المعلوم بالضرورة أن كلا من جانبي الإسلام شرع
الله ودينه، فالمروق من هذا مروق من ذاك وخذل له وجناية عليه.
أيها المسلمون الغافلون!
لماذا فرض الله الجهاد عليكم بأموالكم وأنفسكم وجعله أقوى آيات الإيمان؟
أليس لتأييد دولة الإسلام وحكمه، والدفاع عن داره وأهله؟ لماذا فرض الله الهجرة
لحرية العقيدة والوجدان، قبل أن يفرض الجهاد؟ أليس لأجل تأسيس دولة الإسلام؟
لماذا فرض الله الولاية والبراءة وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض في النصرة
كما أن الكافرين بعضهم أولياء بعض عليهم؟ ألم تعلموا أن الله تعالى جعل من
شروط صحة الإسلام: الإيمان بالكتاب كله، وجعل الكفر ببعضه كالكفر به كله،
ولم يفرق بين التعبدي والسياسي منه؟
ومن أدلة هذا وشواهده أن الله وبَّخ اليهود واحتج عليهم في قتالهم مع مخالفيهم
من العرب لإخوانهم المحالفين لغيرهم ثم فدائهم لأسراهم بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) فهو
تعالى قد سمى مخالفتهم لشريعتهم في المسائل الحربية كفرًا جزاؤه الخزي والذل في
الدنيا وأشد عذاب النار في الآخرة، أفيُعَدُّ مثله من المسلمين إيمانًا وإسلامًا ويجعل
جزاؤه عز الدنيا وسعادة الآخرة؟ وهل حال المسلمين في تونس وغيرها تدل على
ذلك؟
أتريدون مع هذا أن تجدوا للخارجين من ولاية الإسلام وجنسيته إلى ولاية
المحادين له مخرجًا لفظيًّا من أحكام الردة لإثبات إسلامه ودفنه في مقابر المسلمين
خداعًا لعامتهم ليقبلوا الخروج مما خرج منه، والدخول فيما دخل فيه، إلى أن
يزول الإسلام كله من بلادكم بجهل عامتكم، ونفاق خاصتكم؟
أرأيتم هذه الصراحة في بيان حقيقة دينكم التي قلما يتجرأ غير صاحب المنار
على الجهر بها في صحيفة تنشر؟ إنها لهي بعض ما يجب أن تعلموه وتعملوا به،
ولو صرح لكم بكل ما يجب عليكم لرجت الأرض رجًّا، وقامت عليه جميع دول
أوربة وصحفها بل على الإسلام كله، على أنه قد بين كل شيء في فرص أخرى،
ولكن أكثر المسلمين لا يقرءون، وأكثر الذين يقرءون منهم لا يفقهون، وأكثر
الذين يفقهون على قلتهم في أنفسهم متحيرون، ولا يدرون ما يعملون {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا
لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 51)
وأما أنتم أيها الفرنسيس فحسبكم بغيًا وفجورًا، وحسبكم اضطهادًا لدين الحق،
واستعبادًا للمستضعفين من الخلق، واعلموا أن الإسلام لا يزول بزوال الدولة
العثمانية، وارتداد الحكومة التركية، وأنكم لم تصيروا آلهة العالم بضعف الدولة
الألمانية، وأن صداقة الإسلام خير لكم من عداوته، فاطلبوها تجدوها، قبل أن
تحتاجوا إليها فلا تجدوها والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التبشير أو التنصير في مصر
ماضيه وحاضره ومساعدة الحكومة له
ليس في مصر من الحملة الدولية الصليبية على الإسلام كل ما في
المستعمرات الأوربية منها، ليس فيها مسألة كمسألة البربر في المغرب ومسألة
العلويين في سورية، ولا كمسألة التجنيس في إفريقية الفرنسية كلها، ولا كمسألة
الجلاء والإبادة في طرابلس الغرب وبرقة؛ إذ لا مجال فيها لهذه الحملات وهي
ذات حكومة إسلامية مستقلة بنفسها، معترف باستقلالها من جميع الدول، وما كانت
سيادة الدولة العثمانية السياسية عليها إلا مزيد حصانة لها ووقاية من هذا النوع من
الحرب الصليبية.
بيد أن استقلالها وتلك السيادة عليها من قبل لم يكونا واقيين لها ولا للإسلام
فيها ولا في تلك الدولة من سائر أنواع الحرب الصليبية، فقد اعتدى على استقلالها
الفرنسيس ثم الإنكليز، وقد اعتدى على إسلامها الفريقان وغيرهما بالتعليم الإلحادي
وبجميع وسائل التنصير من دعاية لسانية وكتابية وتعليم وتطبيب وإغراء وإغواء
بالمال والشهوات وغير ذلك، وقد وجدوا من حكومتها المتفرنجة كل مساعدة مالية
وإدارية على جميع ذلك، وكان نجاحهم في التعليم الإلحادي أتم من غيره، فهو الذي
جعل نفوذهم السياسي والأدبي والاقتصادي يعلو ولا يعلى، ويحطم كل ما تحته من
نفوذ للحكومة المصرية، ومن حرمة للأمة المصرية، واشتد هذا النفوذ من إسماعيل
باشا إلى اليوم، فكانت مدارس الأجانب الإلحادية والتنصيرية تُسَاعَد من الحكومة
المصرية بالمال وبهبة المباني والأراضي، وبإعفاء ما يرد لها من بلادها من الكتب
المراد بها هدم الإسلام ومن الأدوات المدرسية وغيرها من رسوم المكس (الجمرك)
وكان الوزراء والكبراء ثم الأوساط فالفقراء - وما زالوا - يعلمون أولادهم ذكرانًَا
وإناثًا فيها، ويفضلون تربية القسيسين والرهبان والراهبات والمبشرين والمبشرات
على تربية المدارس المصرية الأميرية وغيرها، ولم يكن أحد ممن يقذفون بأولادهم
أو ينبذونهم فيها يبالي عاقبة هذا التعليم في جنايته على الدين والدنيا: أما الدنيا فلأن
زمامها في أيدي هؤلاء الإفرنج فصارت تطلب بالزلفى عندهم، ولقد قال اللورد
سالسبوري: إن مدارس المبشرين أول خطوات الاستعمار فإن أول عملها إحداث
الشقاق في الأمة التي تنشر فيها.. وأما الدين فلأنه لم يعد مما يراد في مصر من
التربية والتعليم، إذ قررت الحكومة المصرية جعل ما كان واجبًا من تعليمه والعمل به
أمرًا اختياريًّا لا شأن له ولا يطالب التلاميذ به، فصار الدين في مدارسها كالشيء اللقا
(اللقا بالفتح ما يُلْقى ويطرح لعدم الحاجة إليه) وهي تعلم أن أئمتها من الإفرنج
يجعلونهما من الفرائض القطعية التي لا هوادة فيها، ويجبرون عليهما كل من يعلمونه
من أبناء دينهم ومن المسلمين.
زال ما كان من رسوم ماثلة للدين من مدارس الحكومة على ما كان من قلة
غنائه، وتعليم الأزهر وملحقاته للدين أصبح عقيمًا في هذا العصر على أنه
محصور بين حيطانه في دروس تلك الكتب التي صار ضرها أكبر من نفعها كما
بيَّناه بالبرهان مرارًا، وأقمنا الحجة اللسانية به على شيخ الأزهر لهذا العهد في
محفل حافل، والخرافات الدينية فاشية في الأمة من جهة، ونزغات الإلحاد
والتفرنج من جهة ثانية، فخلا الجو للمبشرين في التعليم الديني بالأساليب العصرية
الموافقة لأذهان التلاميذ، ومبدأ الدين فطري في أنفس البشر، فإن لم يوجد من
يلقن النشء دين الفطرة المعقول قبلوا من يلقنهم أي دين كان قبل الرشد واستقلال
العقل.
ذلك، ولم يوجد في مصر هيئة دينية حكومية ولا ملية تتولى أمر التربية
الإسلامية العامة ومراقبة سيرها في الأمة، ولا العناية ببث التعليم الديني السهل
والوعظ العام في طبقات الأهالي ولا سيما تعليم البنات، وإرشاد الأمهات،
كالهيئات البطركية والحاخامية عند النصارى واليهود، ولم يوجد فيها جمعيات
إسلامية تتولى ذلك بنظام عام، إلا ما تجدد في هذه السنين الأخيرة من الجمعيات
الوعظية الضيقة النطاق، الضعيفة التأثير.
أول من فطن لمقاومة التنصير:
كان أول من فطن من المسلمين بأمر تنصيرهم في مصر المصلحان العظيمان
السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده في القرن الماضي. وقد كان أول
حادثة علمت في عهدهما مثل حوادثهم التي فطن لها الجمهور في هذا العهد، أن
طغمة التبشير الأمريكانية نصَّرَتْ فتًى مصريًّا وصارت تعرضه للوعظ العام الذي
يحضره كثير من المسلمين في كنيستهم بحي الأزبكية، فكبر ذلك على السيد فعهد
إلى جماعة من الإيرانيين بخطفه من الكنيسة ووضعه في مكان خفي ففعلوا وذهب
هو وتلميذه الأكبر الى ذلك المكان واستتابا الفتى، وأقنعاه بأن الإسلام هو دين الله.
وسعيا لتلافي مثل هذا الأمر لدى الحكومة فلم يسمع لهما أحد، وقد ركبا مرة عربة
وذهبا إلى محافظ العاصمة في يوم مطير كثير الوحل للاستعانة به على إنقاذه فلم
يحفل بسعيهما، فقال السيد للشيخ: إنه والله ليس في مصر مسلم غيري وغيرك.
أول من اقترح مراقبة الحكومة للمدارس الأجنبية فتقرر:
قد كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أول من فكر في خطر المدارس
الأجنبية على مصر فاقترح على مجلس المعارف الأعلى الذي ألف في مصر بسعيه
سنة 1398 هـ (1881 م) أن يقرر جعل جميع مدارس الأجانب في القطر
المصري تحت مراقبة الحكومة وتفتيشها وقد كان من معارضة أعضائه من الأجانب
لهذا الاقتراح ما كان، وكان من فوزه فيه بالوسائل الذي اتخذها له ما هو من
عجائب أعماله في خدمة الأمة (يراجع ذلك في ص 144 من تاريخ الأستاذ الإمام) .
وكان يجب على الحكومة المصرية أن تتخذ هذا القرار قانونًا متبعًا دائمًا ولكن
البلاد نكبت في ذلك العهد بالاحتلال الإنكليزي في إثر الثورة العرابية ففقدت
حكومتها كل سلطان كان لها على التعليم وغير التعليم، وألقيت مقاليد وزارة
المعارف المصرية في يد قسيس إنكليزي (مبشر) جعل سكرتيرًا لها فمستشارًا،
وكان من أمر التعليم الإسلامي والتربية في مدارسها ما أشرنا إليه آنفًا، وقد
اعترفت إنكلترة لمصر بعد الحرب الكبرى بالاستقلال مقيدًا بتحفظات لا تمس
التعليم الحكومي ولكن الدين الإسلامي لم يزدد بذلك إلا ضعفًا في مدارس الحكومة
والأوقاف العامة والخاصة بالبيت المالك ويعارضه قوة دين النصرانية في جميع
المدارس الأجنبية.
مساعدة الاحتلال للتنصير واضطهاد المنار:
بلغ من مساعدة الاحتلال الإنكليزي لدعاية المبشرين بسيطرتها على الحكومة
أن أمر اللورد كتشنر وزير الأوقاف بإلغاء المستشفى الذي بنته الوزارة في مصر
القديمة بجوار مستشفى هرمن التبشيري؛ لأنه يصرف كثيرًا من فقراء المسلمين
عنه فيحرمون من التبشير بالنصرانية، فوعده الوزير بأن سيبحث له عن مكان
بعيد عن مستشفى التبشير يصلح له فينقله إليه، ولكن الله تعالى صرف اللورد
المستبد عن هذه البلاد قبل أن ينفذ أمره هذا.
وقد أمر اللورد بما هو شر من ذلك استبدادًا وتحكمًا في هذه الحكومة الصورية
لمساعدة النصرانية على الإسلام، أمر بتعطيل مجلة المنار؛ لأنها ترد على
المبشرين، وبنى ذلك على مقالة نشرت فيه بإمضاء الدكتور محمد توفيق صدقي
رحمه الله تعالى قالوا: إنها شديدة اللهجة، وقد كتب اللورد على الجزء الذي نشرنا
فيه تلك المقالة بخطه ما كتب، وأرسلها إلى النائب العام ليقيم الدعوى على صاحب
المنار ويحكم بعقابه وتعطيل مجلته.
وكان النائب العام عبد الخالق ثروت باشا والوزارة وزارة محمد سعيد باشا
(رحمهما الله تعالى) فكبر عليهما أن يعطلا المجلة الإسلامية الوحيدة التي تنشر
وتفاوضا في الأمر فاتفقا على أن يحاولا إقناعي بترك الرد على المبشرين والكلام
في النصرانية ليتوسلا بذلك إلى إقناع اللورد بعدم تعطيل المنار، فكلمني ثروت
باشا بالمسرة (التلفون) أنه يريد أن يكلمني في أمر مهم في داره إن لم يكن لدي
مانع من زيارته فيها في تلك الساعة أو عندي، وكنت في مدرسة الدعوة والإرشاد
فأجبته مخبرًا بوجود المانع فجاء بنفسه وأطلعني على الكتابة الإنكليزية التي كتبها
اللورد على المنار وأخبرني الخبر وسألني عن رأيي فيه، فقلت له: إنني لن أدع
الرد على المبشرين ما داموا يطعنون في الإسلام ويدعون المسلمين إلى دينهم؛ لأن
الرد عليهم وتفنيد شبهاتهم فرض من فروض الكفاية لا أرى في البلاد مجلة ولا
جريدة تقوم بها، فإن تركتها كنت آثمًا كجميع القادرين عليها. قال: إن دولة
رئيس النظار يسوءه تعطيل المنار كما يسوءني وأود أن تساعدنا على اتقاء هذا
الشر، وهو يرجوك أن تقابله في داره وتأتي معك بالدكتور محمد توفيق صدقي
وتخبره بالوقت الذي تحضران فيه وأنا سأكون عنده لننظر في المسألة ففعلت.
جئت الوزير الرئيس بالدكتور في الموعد الذي اتفقنا عليه، وكان قد علم من
النائب العام أنني لن أكف عن الرد على المبشرين فأمر بدخولي عليه وحدي أولا
وبوضع الدكتور في حجرة الانتظار إلى أن يطلبه؛ لأنه كره أن يسمع ما يدور بيننا
من الكلام الحر الصريح، وكان ثروت باشا قد حضر، فبدأ الوزير يذكرني
بسيطرة الإنكليز على البلاد وشأن المبشرين عندهم وأنهم ضاقوا ذرعًا بما ينشر في
المنار من الطعن في دينهم حتى طلبوا من الحكومة محاكمته لعقابه وتعطيله، وأنه
يشق عليه ذلك؛ لعلمه بقيمة خدمة المنار للإسلام، ويرغب إليَّ أن أكف عن ذلك
ليتخذه حجة على إقناع اللورد كتشنر بالعدول عن اقتراحه أو أمره الذي علمته.
قلت: إن ما أنشره في المنار قسمان: أحدهما تفسير آيات القرآن التي نزلت
في شأن النصارى ودينهم فلا بد من بيان معانيها وإقامة ما عندنا من الدلائل الدينية
والعقلية والتاريخية على صحتها، وثانيهما مقالات في الرد على المبشرين المعتدين
علينا في بلادنا: وهذا فرض من فروض الكفاية إلخ.
قال: إنك لا تقتصر على الرد بل تهاجمهم كثيرًا.
قلت: ما يوجد في المنار من هجوم فهو في ميدان الدفاع إذ كانوا هم المعتدين
في الأصل، وإنما يتحقق معنى هجوم الاعتداء في إعلان الحرب وبدئها لا في كل
معركة منها، فإذا كان لهم الحرية في هذا دون المسلمين في حكومتنا فلتحكم عليَّ
هذه الحكومة بما تشاء
…
وتكلمت كلامًا شديدًا في حقوق الإسلام ووجوب الهجرة
من مصر إذا فقدت حرية الدين، وأجابني الوزير بصراحة غريبة في استبداد
الإنكليز لا حاجة إلى شرحها.
ثم قال: إن ما تكتبه أنت بقلمك تتحرى فيه الأدب واتقاء ما يمنعه القانون
ويعاقب عليه، ويمكننا أن ندافع عنك بأن مجلتك دينية تقوم بوظيفتها، وليس كذلك
تلميذك الدكتور محمد توفيق صدقي فهو شديد اللهجة ويكتب ما يعد طعنًا صريحًا في
الديانة المسيحية لا بيانًا لعقائد الإسلام ولا مناظرة للمبشرين، فأرى أن تساعدنا
عليه عند الكلام معه وإنذاره.
ثم طلب الدكتور فحضر فكلمه الوزير بأن ما يكتبه في الديانة المسيحية ليس
من شأنه، وقد يفضي إلى عقابه وعزله من وظيفته في الحكومة، وهو يمضيه
باسمه مع ذكر وظيفته، والذي ينبغي له أن يكتبه في المنار وغيره هو الوصايا
الصحية والمقالات العلمية والطبية، فإن كان لا بد له من كتابة مثل هذه الردود
فيجب عليه اجتناب ما يعد طعنًا لا بحثًا وأن لا يمضيه باسمه الصريح. فوعد
الدكتور بذلك.
هذا ملخص ما وقع في هذه الحادثة، وقد كتبت عقبها في آخر المجلد السادس
عشر من المنار ما نصه:
حرية المسلمين الدينية بمصر
لدعاة النصرانية (المبشرين) عدة مدارس ومستشفيات وصحف في مصر لا
غرض لهم منها إلا تنصير المسلمين، وقد ساعدتهم الحكومة المصرية على إنشاء
مدارسهم ومستشفياتهم باسم نشر العلم وعمل الخير، ثم إنهم ينشرون في كل سنة
عدة كتب ورسائل في الطعن في القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام، وتنفير
المسلمين من الإسلام. دع النشرات والأوراق الصغيرة التي ينثرونها في
المستشفيات، والخطب التي يلقونها فيها، وفي سائر معاهد التبشير، وقد عز
عليهم مع هذا أن يكون للمسلمين في هذا القطر الإسلامي كله صحيفة إسلامية واحدة
ترد عليهم وتدافع عن الإسلام، فسعوا بواسطة بعض قناصلهم إلى لورد كتشنر
ورغبوا إليه أن يأمر الحكومة المصرية بإلغاء المنار وإبطال صدورها، وبمحاكمة
صاحبها هو والدكتور صدقي الذي يساعده في الرد عليهم! أليس من عجائب الغلو
في تعصب القوم أن يسعى إلى هذا أو يتحدث به أو يفكر فيه بعض أبناء الأمتين
الأمريكية والإنكليزية، أعرق أمم الإفرنج في احترام الحرية؟
وقد سئلنا عما يُنْشَر في المنار من الرد على النصارى فأجبنا: أننا أقدمنا على
هذا العمل مدافعين لا مهاجمين، وأن هؤلاء المبشرين قد كتبوا في الطعن في ديننا
أضعاف ما كتبنا، وأن هذا الرد واجب علينا شرعًا، بل هو من فرائض الكفاية إذا
لم يقم به بعض المسلمين أَثِمَ الجميع، وأنه يجب على المسلمين الهجرة من البلاد
التي ليس لهم حرية فيها في إظهار دينهم والدفاع عنه، وأننا مع هذا نفضل أن
يسكت هؤلاء المعتدون عنا ونسكت عنهم.
على أن مجالهم في الرد علينا أوسع؛ لأننا نؤمن بنبيهم وكتابهم الذي أنزله
الله عليه، ونعد الطعن فيه كفرًا كالطعن في نبينا بلا فرق، فلا نستطيع أن نقول
كما يقولون، ولا أن نخوض كما يخوضون.
ألا إنه لم يكن يظن أحد من الناس أن الحرية التي كانت مصر تفاخر فيها
أوربة من كل وجه تتضاءل بعد لورد كرومر حتى يطمع الطامعون فيها بمثل ما
ذكرنا، وهي التي رفعت اسم إنكلترة حتى صار جميع مسلمي الأرض يفضلونها
على جميع دول أوربة، ضعفت في مصر الحرية السياسية فخفف على الناس
المُصَاب فيها راحتهم من أولئك الأحداث السفهاء، فإذا اضطهدت الحرية الدينية
فأي شيء يخفف على المسلمين مصابها ويعزيهم عنها؟ على أن الذي ظهر لنا أن
أولي الشأن قد أقنعوا أولئك السعاة المحالين) بل لورد كتشنر) بأنهم هم المعتدون،
وأنه يصدق على المنار وعليهم (واحدة بواحدة بل بمئات، والبادئ أظلم) اهـ.
هذا ما فعله المبشرون في مصر من السعي لتعطيل المنار، وقد فعلوا مثله
في السودان فكانت حكومته أطوع لهم؛ لأنها إنكليزية خالصة فصادرت كل ما
أرسل إلى السودان حتى المسجل منه وأحرقته ومنعت دخوله في تلك البلاد،
واستمر هذا المنع إلى سنة 1345 ثم طلبنا من حكومة السودان الحاضرة الإذن به
فأذنت.
كان يقع لنا مثل هذا فلا نهن لما أصابنا في سبيل الله، ومشيخة الأزهر لا
تبدئ في الدفاع عن الإسلام ولا تعيد، والأمة في شغل عن المبشرين بالسياسة أو
الشهوات، حتى تفاقم شرهم، وصار مثل القس زويمر منهم يدخل الأزهر ويزور
بعض علمائه في بيوتهم داعيًا إلى النصرانية، حتى كاد يبطش به صديقنا الأستاذ
الشيخ علي سرور الزنكلوني في الأزهر مرة واشتهرت الحادثة، ولكن الأمة قد
استيقظت في هذه السنة بكثرة ما تنشره الجرائد من حوادث كاستمالتهم للشبان
بالنساء الجميلات، وقلب أفكارهم بالتنويم المغناطيسي، وإغوائهم للبنات في
مدارسهم، بالترغيب والترهيب، وكذا الضرب والتعذيب، وليس للحكومة عندهم
أدنى قيمة، وسنبين في الجزء التالي ما يجب عمله في كف عدوانهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(بقية ما كتبناه للجزء الماضي من الرد على كتاب فريد أفندي وجدي
(الإسلام دين عام خالد) وزعمه فيه أن الإسلام هو أن يعمل كل إنسان بعلمه وعقله
وتفكيره بدون تلقين من أحد، وهو ما فسر به دين الفطرة، أي الطبيعة. وهذا
الزعم هدم لدين القرآن لا تفسير له، ولا توحيد لجميع الأديان، كما يزعم، ويعلم
القارئ ببطلان زعمه بالإيجاز مما يأتي:
(1)
الإنسان عالم اجتماعي يعيش بالتعاون العلمي والعملي، وتنمى معارفه
كلها بتلقي بعض أفراده من بعض حتى إنه يستحيل أن يكون لكل فرد دين هو وليد
فكره وعقله وحده لم يتلق منه شيئًا من عشرائه، ومن انفرد بشيء فقلما يوافقه عليه
قومه، إذن يستحيل أن يكون ما ذكره هو الدين في كل قوم أو في البشر كلهم،
فتعين أنه يريد أن يكون لكل فرد دين يصح أن يسمى الإسلام.
(2)
إن كانت الطبيعة التي يولد عليها كل طفل من البشر هي دين الله
الحق الذي سماه الإسلام، فكل ما يهتدي إليه الإنسان من أول نشأته إلى آخر حياته
بعلمه وتفكيره وعقله هو دين الإسلام، ومنه عبادة بعض الحشرات وغيرها من
حيوان ونبات وجماد، وهو يقتضي أن قبائل الهمج من معطلة ووثنية كلهم على
الإسلام، وأن الذي لا يصح أن يكون من دين الإسلام هو ما جاءهم به النبيون
المرسلون؛ لأنه تلقين تلقوه من الوحي ولقنوه للناس، لم يكن مما وصلوا إليه
بعلمهم وتفكيرهم.
(3)
هل فهم أولئك العلماء المنتهون من تراجم القرآن بلغاتهم (وهو يشهد
لها بالصحة والدقة في تحديد معانيه) هذا المعنى الذي قرَّره في الآية؟ وهل كان له
من الوقع العظيم في عقولهم ما وصفه وصاروا به مسلمين مؤمنين بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم، ويكون القرآن كلام الله تعالى؟ أم هي مترجمة بلغاتهم بغير
المعنى الذي فسرها هو به، فيكون إيمانه موقوفًا على اطلاعهم على تفسيره؟
وكيف السبيل إلى اقتناعهم بتفسيره لها في هذه الحال وترجيحه على ما يخالفه من
فهم علمائهم وعلماء المسلمين كافة؟
(4)
إذا أعجب هؤلاء العلماء المنتهون بهذه الآية من القرآن، وبالآية
الجامعة بين تنزيه الخالق عز وجل ووصفه ببعض صفات خلقه وهي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) وأكبروا مخاطبة البشر بهما من
زهاء أربعة عشر قرنًا كما قال، واتخذوهما منهاجًا من مناهجهم العلمية الكسبية
بعقولهم، يسيرون عليها في تطلابهم للوصول إلى روح الوجود العام، أو وصاله
وصال العشاق للمعشوقات، وكان الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي يعدهم بهذا
مسلمين دائنين بدين القرآن، وإن لم يتبعوا ما أنزله الله تعالى فيه من عقائد
وعبادات وآداب وشرائع، ولم ينتهوا عما نهى عنه من المحرمات والرذائل؛ لأن
هذه الأصول والفروع من الدين مما يحتاج إليه من دونهم من الطبقتين الوسطى
والدنيا في رأيه، إن فرضنا صحة هذا كله فأي ربح للإسلام القديم وأهله منهم في
حفظ دين القرآن وتجديدهم إياه بفلسفته هو، وما هو إلا إسلامه دون إسلام محمد
صلى الله عليه وسلم وأتباعه؟ أم يريد أن يكونوا أتباعًا له في هذا، فيسمون
محمديين وجديين؟
(5)
مَن هؤلاء العلماء المنتهون وكم عددهم؟ أليسوا أفراد الفلاسفة والعلماء
الذين انقطع كل منهم لإتقان مسألة أو مسائل من النظريات العقلية والاجتماعية
أو العلوم والفنون فلا يكاد يعنى بغيرها؟ إن هؤلاء إذا وافقوا القرآن في بعض آياته
فإنما يوافقونه كما يوافق كل منهم غيره فيما يستحسنه من رأيه، لا لاعتقادهم أنه
كلام (روح الوجود العام) الذي هو أقرب وسائل الوصول إليه والزلفى عنده،
وإنما هو الوسيلة إلى ذلك ببيان الرسول له بأمره، ولن يكونوا مسلمين إلا بهذا
الإيمان، وبما يستلزمه من الأعمال، ولن يصلوا إلى أعلى ما يمكن للبشر أن
يصلوا إليه في الدنيا من معرفة الله عز وجل والكمال في حبه المؤهل لما هو
فوق ذلك في الآخرة إلا بهذا الإيمان والإسلام، دون الإسلام الذين اخترعه محمد
فريد أفندي وجدي.
(6)
إن تسميته ما فعلته الجمهورية التركية من رفض الإسلام كله وإجبار
شعبها على اتباع ترجمة القرآن بالتركية وكتابته بالحروف اللاتينية والتعبد بها من
اعتقادهم أنه حرام أو كفر، قد يكون عنده من إسلام المنتهين وهو في اعتقاد جميع
المسلمين كفر وارتداد عن الإسلام ممن كان مسلمًا، فما باله يخاطب به المسلمين
في جريدة سياسية يومية (جريدة الجهاد) مُلَبِّسًا عليهم بأنه مجدِّد للإسلام؟
(7)
ليخبرنا الأستاذ فريد أفندي وجدي عمن يعرف في قومه الترك من
هؤلاء العلماء المنتهين الهائمين في حب روح الوجود العام المتطلعين لوصاله؟ هل
مصطفى باشا كمال وعصمت باشا وأمثالهم من رجال الحرب منهم؟ وما حقيقة
العبقرية التي زعم أن الترك فاقوا بها غيرهم من الشعوب فأقر هو بسببها حكومتهم
العسكرية على رفضها للشريعة الإسلامية المشتملة على كل ما تحتاج إليه الطبقة
الوسطى والطبقة الدنيا من هداية الدين مما لا يوجد في غيرها، وقد فضلت هذه
الحكومة شرائع سويسرة وإيطالية وغيرهما عليها، ولم تستطع أن تسن شريعة
تركية لائقة بعبقريتها؟
إن كانت هذه العبقرية هي استبسالهم في ظفرهم على اليونان الضعيفة في
عقر دارهم وقلب وطنهم وهو الأناضول فكيف يطمع في إقناع الأمم الفاتحة التي
قهرت الترك، ومن هم أقوى من الترك بقبول الإسلام الصحيح أو بإسلامه هو،
وكلها متعصبة لأديانها؟
إن من أعجب ما في مصر من الفوضى الدينية والأدبية أن ينشر فيها مثل هذا
الإلحاد السخيف، ويوجد في المسلمين مَن يثني عليه، وعلى كاتبه بنصر الإسلام،
والانفراد ببيان حقيقته للأنام، وينشر هذا الثناء في الجريدة التي نشرته، ثم لا
يجد من شيخ الأزهر، ولا هيئة كبار العلماء فيه، ولا محرري مجلته التي سميت
باطلاً (نور الإسلام) من يخطئه ويبين له ولقراء كلامه أنه دعوة إلى إبطال
الإسلام.
وإنني قد كلمت في هذا رئيس تحرير هذه المجلة؛ إذ لقيته في دار سفارة
الدولة الأفغانية - وكان قد نشر مقالاً في الانتقاد على فريد أفندي وجدي فقلت له:
إن هذه المقالات في الإسلام تتضمن الرد على مجلتكم، وإن الثناء عليها من فئة لا
تخلو من بعض الأزهريين، والسكوت عليها منكم ومن سائر العلماء، يتضمن
نقض نقدكم، وترجيح فهمه للإسلام على فهمكم، الذي هو فهم المشيخة الرسمية
وأتباعها فسكت، وكلمت أيضًا بعض من لقيت من علماء الأزهر في هذا المعنى.
وأما ما يجب عليَّ من ذلك فكنت معتمدًا فيه على بحثي المستفيض في حقيقة
الوحي المحمدي وحجة القرآن على جميع البشر الذي نشرت أكثره في تفسير المنار
وطبعته في كتاب مستقل، وهو يتضمن هدم كل ما في هذه المقالات من الباطل،
ومنه تفسير دين الفطرة، فلما أهدى إليَّ الكتاب صار من الواجب عليَّ شرعًا أن
أعجل بهذا النقد له قبل صدور كتاب (الوحي المحمدي) .
_________