الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة المجلد الثالث والثلاثين من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد ولد آدم
محمد رسول الله وخاتم النبيين * المبعوث لإصلاح البشر أجمعين * الذي امتن
عليه ربه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وآله
وصحبه ومن اتبعهم في هدي ملته والتزام سنته إلى يوم الدين.
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *
يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 25-28) .
أما بعد، فإنني أذكر من يعقل من المسلمين في فاتحة هذا المجلد من المنار،
وهو الثالث والثلاثون الذي يصدر في السنة السادسة والثلاثين الهجرية من تاريخ
إنشائه بأهم ما يجب أن يفكروا فيه من حالهم ومآلهم على بصيرة من علم الحياة
الذي عرفه شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بقوله: (العلم ما يعرفك من أنت
ممن معك) فأقول:
إن الإسلام دين إيمان وعبادة، وعلم وحكمة، وسياسة ملك ودولة، وأساس
عمران وحضارة، خاطب الله تعالى به جميع البشر يدعوهم به إلى الإصلاح العام
بالمساواة بين جميع الأجناس، ونبذ التفرق بينهم بالأنساب والألوان، واللغات
والأوطان، بما شرعه في كتابه القرآن، من القواعد والأحكام والآداب.
بعث الله به نبيًّا أميًّا في أمة أمية غير مقيَّدة بسلطة روحية ولا سياسية تحول
دون فهمه، والنهوض به وتنفيذه، ففعل به هذا النبي وأصحابه في عصر واحد ما
لم يفعله نبي من الأنبياء بما أوحي إليه، ولا حكيم من الحكماء بفلسفته، ولا ملك
من الملوك بسياسته، ولا أديب من الأدباء برأيه وبلاغته، ولا جملة من ذكرنا من
رؤساء البشر وزعمائهم في جميع عصورهم.
ظهر في آسية مهد الأديان الكبرى السائدة في جميع العالم، والحكمة العليا
والحضارة الأولى اللتين استمد منهما سائر البشر حكمتهم وحضارتهم من قبله،
فاستعلى بدينه وحكمه وحكمته وسياسته وحضارته على كل ما كان لدى شعوب
البشر من ذلك كله فيهما، وتدفق سيله على أفريقية فغمرها من الرجا الشرقي إلى
الرجا الغربي منها، فأحيا الأرض بعد موتها، وفاض شؤبوب منه على أوربة،
فأنبت في الأندلس دولة راقية بالعلم والأدب والعمران اقتبست منها سائر شعوبها
العلم والحكمة والحضارة، ثم امتد فتحه إلى الجنوب منها بما أنذرها قرب الاستيلاء
عليها كلها.
ولكن الفاتحين من الصحابة والتابعين كانوا قد اختلطوا بغيرهم ممن كان
حظهم من الفتح ترجيح الغنائم والكسب، على الإصلاح والعدل، فنفخوا في
الإفرنج روح العصبية الدينية والقومية، حتى انتهى ذلك باتفاق شعوب أوربة كلها
على عداوة الإسلام فوجهت جميع قواها إلى محاربة المسلمين بقتالهم لإخراجهم من
بلادها التي فتحوها في فرنسة وأسبانية، ثم بمحاربته في غيرها من بلاد الشرق،
ثم بما هو أشد من ذلك خطرًا وأعمق أثرًا، وهو بث نفوذهم المعنوي في ملوكهم
وحكوماتهم ومدارسهم وكتبهم وصحفهم، حتى صار زعماء المسلمين من حكام
وكتاب ومعلمين ومؤلفين يخدمون أوربة ببث نفوذها المعنوي في شعوبهم وإضعاف
جميع مقوماتها ومشخصاتها الملية والقومية من حيث لا يشعرون، ولا أستثني منهم
الذين يدعون إلى مقاومة نفوذها باستقلال بلادهم وتقليص ظلها عنها إلا قليلاً منهم.
هذه قضايا أساسية في تاريخنا الحديث أثبتناها مرارًا كثيرة بأساليب مختلفة
يغنينا تفصيلها السابق عن الإطالة بها في هذا التذكير الإجمالي الوجيز الذي نرمي
فيه إلى بيان موقف العالم الإسلامي أمام أوربة في طورها الجديد، بعد الحرب
الكبرى التي كان الغبن الأكبر فيها على الشعوب الإسلامية العربية التي ساعدت
أعداءها من دول أوربة، والربح للشعوب الأعجمية التي عادتها وحاربتها وهم
الترك، والتي لزمت الحياد وهم الأفغانيون والإيرانيون، فأمامنا الآن خمس قضايا
جديدة: حالة أوربة، ودول الإسلام الأعجمية وشعوبها، وشعوبه الأعجمية
الخاضعة لغيرها، والعرب أرومة الإسلام الأولى شعوبها وحكوماتها، ومركز
الإسلام الذي يرجى تجديده فيه.
1-
حالة أوربة الحاضرة:
خرجت أوربة من الحرب العامة منهوكة القوى مثقلة بالديون، منحلة الروابط
الدينية والأدبية، مرتكسة في فوضى الإباحة، مهددة بالثورة البلشفية التي أسست
لها أقوى دولة خلفت القيصرية الروسية، وهي تبث دعايتها في العالم، وبالخطر
الأصفر الياباني، وبيقظة الشعوب الشرقية كلها حيث ينابيع ثروتها، بل مهددة بما
هو أشد خطرًا عليها من ذلك كله وهو استعار نيران البغضاء وغليان مراجل العداوة
في قلوب دولها وشعوبها بعضهم لبعض بعصبية الجنس والوطن وتباريها في الأثرة
المالية، وتنافسها في الاستعداد للحرب المبيدة الآتية، فهي الآن على فقرها وكساد
تجارتها وعجز ميزانياتها تنفق جل دخلها على إعداد ما تستطيع من قوة للحرب
البرية والبحرية والجوية، واختراع الغازات السامة التي تفني ألوف الألوف من
البشر في ساعة أو ساعات قليلة، مصداقًا؛ لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (المائدة: 64) .
ويخشى أن تكون الحرب المرتقبة كالريح العقيم التي وصفها الله تعالى بقوله:
{مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (الذاريات: 42) فيكونون كما
قال: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا
فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24-
25) فلا يطفئها الله تعالى حتى يهلك بها جميع الظالمين.
إن شعوب أوربة لفي أشد الخوف والرعب من عاقبة هذا الشقاق والعداء بين
دولها أن يُفْضِيَ إلى هذه الحرب وقد كثرت أسبابها، وهي في حَيْرَة من أمرها،
ودهاقين سياستها يعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات، ويحررون المعاهدات
وينقحون القديم منها لتلافي الخطر، ودرء الخطب المنتظر، ولكنهم فيها مضرب
المثل في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92) ، وكل فريق
منهم يضمر ويُسِرّ للآخر خلاف ما يُعْلِن، ويُظهِر للعالم غير ما يُبْطِن، وهذا عين
الدَّخَل الذي يُفسد المعاهدات، ويُلجئهم إلى نقضها نقض الأنكاث، الذي يضطرهم
إلى إعادة إبرامها لفسادها، فأنَّى يوفقون إلى الإصلاح وهم المفسدون؟
ألا إنه لا إصلاح بلا إخلاص، ولا إخلاص بلا إيمان، ولا يمكن الجمع بين
الإيمان والعلم والعمران، إلا بدين القرآن، وهم عنه معرضون، ولأهله مُحَادون:
] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ [1 {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ
بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف: 26) . فذرهم في طغيانهم يعمهون،
وفي ريبهم يترددون، بل هم أعداء أنفسهم فيما بينهم، لا يكادون يتفقون إلا على
الكيد للإسلام والعدوان عليه. وانظر في حاله في أهله، ومكانهم من هدايته، هل
هم حجة له على أعدائه وأعدائهم، أم هم فتنة لهم عنه وعون لهم على أنفسهم؟ هل
هم دعاة إليه بأخلاقهم وأحكامهم وعلومهم وأعمالهم وقوتهم وعمرانهم، أم هم
صادُّون عنه؟ وكيف يكون مستقبلهم معهم إذا وقعت الواقعة؟
(2)
دول الإسلام الأعجمية وشعوبها:
إن دول بلاد الإسلام كلها ضعيفة تجاه دول أوربة، ولكنَّ في شعوبه شيئًا من
اليقظة والتوجيه للاستقلال السياسي ولتقليد الإفرنج في الحضارة المادية والنظام
المالي والقوة العسكرية لحفظ هذا الاستقلال، وكل ذلك من الضروريات التي
يوجبها الإسلام وطالما دعونا المسلمين إليها، وصرفنا لهم الآيات فيها والحجج
عليها، ولكن هذا التقليد فيما ينفع مشوب بما يضر من الإسراف في الشهوات
ونزغات الإلحاد وفوضى الآداب وقد فازت الشعوب الأعجمية الثلاثة بهذا
الاستقلال، أعني الترك والفرس (الإيرانيين) والأفغان.
فأما الترك فقد كونوا من أنقاض الدولة العثمانية التي قوضتها الحرب العظمى
دولة جمهورية مستقلة تعنى أشد العناية بالقوة العسكرية وبالعمران المادي، ولكنها
إلحادية (لا دينية) تزهق روح الشعب الديني، ولا يحيا شعب بغير دين، وروح
الإسلام كامنة في الشعب التركي ستظهر بقوة عظيمة يفجرها الضغط عند انتهاء
حده.
وأما الأفغان فقد شرعوا في عهد الملك السابق أمان الله خان يقلدون الجمهورية
التركية في الإلحاد، وفي تقليد الإفرنج في الحضارة المادية وفوضى الآداب،
فكفاهم الله شره، وأدال لهم منه الملك نادر خان الجامع بين قوتي الحضارة والإسلام.
وأما الفرس (أو الإيرانيون) فهم وسط في هذه الأمر بين الأفغان والترك،
فالشاه الجديد عسكري بالطبع والتربية فهو خير منظم للقوة العسكرية من برية
وبحرية وجوية، وموجه كل همته معها إلى التنظيم المالي وتفجير ينابيع الثروة.
وجملة القول أن هذه الدول الثلاث قد استفادت من ضعف دول أوربة الذي
أشرنا إليه، وتم لها استقلالها بعد الحرب العظمى التي قلبت نظام العالم، وإنها
تعنى بالإصلاح العسكري والمالي الذي لا تحيا الدول بدونه عناية شديدة على
الطرق الغربية، وإن البلاد التركية وهي أقواهن ليهددها من الخطر المعنوي
ووقوعها بين أوربة الرأسمالية والروسية البلشفية ما لا يهدد أختيها، ولو عقل
زعماء سياستها وقادة قوتها ما عقله نابليون بونابرت الكبير من قوة الإسلام المعنوية
أو ما يعقله منها قيصر الألمان الأخير لأمكنهم في هذه الفترة التي شغلت دول أوربة
بأحقادها القومية والدولية ومشاكلها المالية وفوضى شعوبها الأدبية أن يؤسسوا
بالاتحاد مع العرب وإيران والأفغان قوة جديدة في الشرق الأدنى تسوده فتكون فيه
أعظم من اليابان في الشرق الأقصى، ثم تكون هي المنقذة لأوربة مما ينذرها من
خطر الفوضى التي أشرنا إليها، لا للإسلام والشرق فقط [2] .
ولو ظهر في الأفغان أو إيران مصلح حكيم آخر كالسيد جمال الدين لأمكنه في
هذه الفترة تنفيذ ما توجهت إليه همة السيد جمال الدين المصلح الأول من تأسيس
دولة عزيزة للإسلام تحيا بقوتها وعزتها الأمة الإسلامية كلها، وتستقل بها شعوب
الشرق الأدنى والأوسط كلها أيضًا، فتتجدد الإنسانية بأصول الإسلام تجديدًا تزول
به العصبيات الجنسية والقومية، وامتياز الألوان والطبقات في الإنسانية، ويكون
تأويلا لرؤيا بعض الحكماء المتقدمين ومحققًا لأمانيهم في الأخوة الإنسانية عامة،
التي أشار إليها السيد قدس الله روحه في آخر رسالته (الرد على الدهريين) .
وجملة القول في الدول الإسلامية الأعجمية أن الأفغان أرجاها لتجديد الإسلام
إن ظهر من يقوم به في هذه العصر، ولكن علماءهم أشد جمودًا على تقليد فقهاء
مذهبهم الحنفي، وإنما الفقه أحكامٌ للعبادات ونُظُمُ الحكومة، فليس من موضوعه
إحداث انقلاب إصلاحي ولا تجديد سياسي ولا اجتماعي ولا أدبي ولا روحي، وإنما
روح الإصلاح والتجديد تفيض من القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
وسيرته وتاريخ النهضة الإسلامية الأولى، وكانت الشعوب الإسلامية كلها غافلة
عن هذا فنبهها له سيد أفغاني.
(3)
شعوب الإسلام الأعجمية الخاضعة لغيرها:
وأما شعوب المسلمين الأعجمية الكبرى التي ليس لها دول إسلامية ففيها يقظة
ونهضة علمية ومدنية أقواها في الهند ومسلموها زهاء ثمانين مليونًا، ولكن الوثنيين
في جملتهم أكثر منهم عددًا وثروة وعلمًا، وأوسطها في جاوه وما حولها من الجزائر
الإندونيسية، والمسلمون فيهم هم الأكثرية الساحقة (كما يقال في عُرف العصر)
ويبلغون ستين مليونًا، ولكنهم أقل من أهل الهند الإنكليزية حرية وعلمًا وثروة
بضغط هولندة عليهم، وأدناها في الصين ومسلموها يزيدون على مسلمي جاوه عددًا،
ويفضلونهم حرية وثروة وأدبًا، ولكنهم قليل في الوثنيين الذين يزيدون على
أربعمائة مليون، بيد أنهم متفقون معهم على خلاف ما عليه مسلمو الهند مع الوثنيين،
والعلم الديني والدنيوي فيهم أضعف؛ لضعف اتصالهم بالعالم الإسلامي والعالم
المدني معًا، وبُعْدِ لغتهم عن علومهما، على أن الوثنيين سبقوهم إلى العلوم والفنون
الأوربية؛ لأن الدولة بيدهم، ولو ظهر فيهم مصلحون لما كانت دولتهم عائقة لهم
عن التجديد الإسلامي، بل لأمكنهم حينئذ أن ينشروا الإسلام في بلادهم بسرعة
عظيمة ولأوشك أن تكون لهم فيها دولة ولكن زعامته العامة لا تكون فيها وهي
خاضعة لسلطان غيرها، وبعيدة عن مهد الإسلام وعن الاتصال بأقرب شعوبه
منها، لبعد المسافات وفقد أسباب المواصلات بينها.
(4)
العرب أرومة الإسلام الأولى:
(أعني بالعرب: الناطقين بالضاد من عاربة ومستعربة على قاعدة الحديث
النبوي الشريف: (كل من تكلم بالعربية فهو عربي)[3] وهم يملكون شطر قارة
إفريقية الشمالي كله من مراكش إلى مصر، وشطر آسية الغربي ما بين المحيط
الهندى وخليج فارس والبحر الأبيض المتوسط، ويبلغون زهاء مائة مليون) .
لقد كان هؤلاء العرب كلهم أشد شعوب الأرض خضوعًا وبذلا للملايين من
الرجال والأموال في سبيل الدفاع عن الدولتين الظالمتين الباغيتين القاهرتين
الكنودين الكفورين اللتين ربحتا الحرب، واستأثرتا بجُلِّ مغانمها، وليس من
موضوعنا هنا أن نبين ما جازتا به هذه الشعوب التي جاهدت معها بأنفسها وأموالها
من الخسف والقهر والضغط الاستعماري، فإنما كلامنا في المسلمين أنفسهم وجنايتهم
عليها التي مكنت الطامعين فيهم من مقاتلهم.
احتلت جيوش إنكلترة وفرنسة بلاد العرب الخصبة التي ذاقت وبال الحرب
ونكالها، ولو أمكنها أن تحتل الحجاز ونجدًا واليمن وعسيرًا لما عفَّت عنها،
ولكنها باحتلالها للعراق وسورية الجنوبية (فلسطين وشرق الأردن) والشمالية
(سورية ولبنان) قد أحاطت بجزيرة العرب وجعلتها تحت نفوذها، وتمكنت من
حرمان الأمة والملة من تنظيم القوى الكامنة فيها وتوحيدها وتجديد مجد العرب بها.
وأما عرب البلاد الأفريقية الذين بذلوا الملايين من أموالهم ورجالهم في
مساعدة إنكلترة وفرنسة فقد جزتاهم بشدة الضغط والحرمان من حرية الدين والدنيا
بقدر جهل شعوبهم واستكانتها، فأيقظها الضغط في كل قطر بقدره، بما يتوقع
انفجاره حيث يكون على أشده، وسبقت مصر بالثورة لرفض الحماية التي ضربت
عليها فاضطرت إنكلترة للاعتراف باستقلالها، ولكنها قيدته بتحفظات اقتضت بقاء
الاحتلال العسكري فيها، والضغط السياسي عليها، وإيقاع الشقاق بين زعمائها،
ومكنهم من ذلك فساد الأخلاق، وانفصام عروة الدين والإسراف في الشهوات، ولا
غرو فهي قد بدأت بعلوم الدنيا منذ قرن ونَيِّف فقضى عليها التفرنج والتقليد أن
تكون أكلة سائغة للإفرنج، وعلى العلم الديني وأهله فيها بالانحطاط، حتى زال
التشريع الإسلامي العام منها بذلك، وما تجدد فيها من الجمعيات الإسلامية، فكلها
فقيرة ضعيفة لا تساوي قوتها كلها عشر قوة جمعية نصرانية، وأما المجلات
الإصلاحية فلا يبلغ جميع قرائها عشر قراء مجلة واحدة من مجلات المجون
والفجور، ومجلة مشيخة الأزهر تفسد وحدها أضعاف ما يصلح غيرها من
المجلات، بتأييدها وتأويلها للبدع والخرافات، حتى كان هذا سبب ما علم القراء
من حملتنا على مشيخة الأزهر الحاضرة التي لم يُصَب الأزهر بمثلها من قبل،
وعسى أن تكون آخر محنه فينتهي بها ما مُنِيَ به من الفتون والصهر! ومدافعة
الإصلاح من أول هذا العصر، فهو في طور انقلاب يتنازعه فيه جمود التقاليد
الخرافية السابق، وجمود التقاليد المادية اللاحق، فهو إما أن يحل به ما حل
بمدرسة دار العلوم من التفرنج، وإما أن يقتحم العقبتين، وينهض بالإصلاح
الإسلامي من الناحيتين، فيقف على سَواء الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله
عليهم من سلف الإسلام الصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين (وسنبسط
هذه المسائل في هذا العام إن شاء الله تعالى) .
وقد اقترح المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في بيت المقدس في العام الماضي
إنشاء جامعة إسلامية هنالك، ورأينا المجلس الإسلامي الأعلى فيه قد خصص لهذه
الجامعة مبلغًا صالحًا من ريع الأوقاف الإسلامية وفندقًا عظيمًا من مبانيه الجديدة
تقدر قيمته بمبلغ مائة ألف جنيه، فإن وفق كل قطر إسلامي لمساعدته كان مبدأ
رجاء عظيم في النهضة الإسلامية العلمية تفوق ما في سائر الأقطار، ولكن فلسطين
لا تصلح مركزًا للنهضة الإسلامية العامة في العلم والعمل والتشريع والسياسة.
المركز الطبيعي لتجديد الإسلام:
قد علم مما تقدم أن الإسلام الذي عرفته لكم في أول هذه الذكرى لا يوجد له
في هذا العصر دولة تقيمه وتكلفه وتجدد قوته وعدله، ولا شعب يهتدي به وينشره
وينهض بحضارته، ولا مدرسة تربي النشء عليه وتعلمه وتناضل عنه، وجمعيات
غنية تجدده وتظهر للأمم الحية علويته، وما فيه العلاج لأدواء البشر في حضارتهم
المادية الحاضرة من دينية واجتماعية ومالية وحربية بحيث تقوم حجته ناهضة ماثلة
للأبصار.
وأما المركز الطبيعي الحقيق بالتجديد الإسلامي من جميع أنحائه فهو هو
المركز الذي أشرق منه نور الإسلام، فكان من تأثير نوره في العالم ما أشرنا إليه
في أول هذه الفاتحة، وهو الحجاز وسياجه من جزيرة العرب، هذا المركز الأول
للإسلام هو المركز الأخير له، الذي حَرَّمَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم على غير
أهله، وأوصى بذلك قبيل موته، ليكون هو المأرز والمعقل لهم عندما تتداعى عليهم
الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّنا ذلك
بالتفصيل مرارًا، ولكن هذا الاستعداد المركزي لتجديد الإسلام في جزيرة العرب
يجهله أهلها كما يجهلون ما في باطن أرضها من المعادن، بل هم يجهلون استعدادهم
أنفسهم ومبلغ قوتهم وما يجب عليهم وما يمكنهم فعله كما يجهلون وسائل استخراج
معادنهم والانتفاع بها.
في جزيرة العرب مئات الألوف من المسلحين المستعدين للحرب بنفقة قليلة لا
يزال يقاتل بعضهم بعضًا، أفلا يمكن وضع نظام عسكري لهم يحفظون به استقلالهم
ويكونون به إلبًا واحدًا على العدو المعتدي على جزيرتهم عند الحاجة؟
إن بلاد اليمن ونجد وداخل عمان يمكنها الاستغناء عن جلب القوت من
الخارج في أثناء الحرب العامة أو الخاصة، ويمكن الاستعداد لتموين الحجاز منها
ومن سورية والعراق، وإغناؤه عن البحر في تلك الأثناء، ولكن الخطر على
سائر البلاد العربية من قِبَل الحرب المتوقعة أشد؛ لتغلغل النفوذ الأجنبي فيها
وخلوها من قوة الدفاع عن نفسها، بيد أن أكثر أهلها غافلون عن أنفسهم، وآخرون
مشغولون بشهواتهم وتنازعهم الداخلي عن التفكر في مستقبلهم الخاص، فأنَّى
يستعدون لحفظ معقلهم ومأرزهم، ومستقبل دينهم وملتهم، الذي يجب على جميع
مسلمي الأرض مساعدة العرب على تجديد روح الإسلام وتشريعه وملكه فيه.
ألا إنه ليوجد في أهل البصيرة وعلم الحياة وحالة العصر من المسلمين مَنْ
يعرف كُنْه هذا الاستعداد كما يعرفه ساسة الإفرنج، ولا سيما الطامعين منهم الذين
يتخذون الوسائل لقطع الطريق عليهم دون الانتفاع، فعلى هؤلاء العارفين أن
يتعاونوا على وضع مشروع له بالمفاوضات السرية يتضمن بيان مسائله وإقناع
أولي الأمر بتنفيذه أو إلزامهم إياه بما لا يجدون عنه محيصًا، عليهم أن يعملوا بذلك
قبل أن يتعذر عليهم بتمكن خصومهم مما يحاولونه من تطويق قوة العرب في
جزيرتهم بالالتفاف عليها كما تلتف أفعى (البواء) على بطن الأسد فتزهق روحه
ثم تبتلعه.
هذا هو العلاج الوحيد القريب للخطر على الإسلام، الذي لا تستطيع دول
أوربة الآن أن تمنعه بقوة السلاح، لما هي عليه من الاشتغال بنفسها، وما هي
مستهدَفة له من الخطر الأكبر، والبلاء الأصفر، والموت الأحمر.
هذا ما أراه أهم الذكرى لعقلاء المسلمين في فاتحة المنار {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ
الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ
لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} (الأعلى: 9-13) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ
خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 24-25)
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
(1)
أي جعلناهم متمكنين فيما لهم نمكنكم فيه من أسباب القوة وغيرها.
(2)
قد شرحنا هذه الفكرة في كتابنا (الخلافة العظمى) شرحًا كافيًا وافيًا.
(3)
رواه ابن عساكر من طريق الإمام مالك من حديث طويل له قصة تراجع في بحث الوحدات الإسلامية الثمان من الجزء 9 مجلد 32.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحج نفقاته وشُقَّته ومَشَقَّاته
وحال المسلمين الأولين والمعاصرين فيها [1]
كان الناس من المسلمين يحجون بيت الله عز وجل مشاة احتسابًا لزيادة الأجر
لا للعجز عن الراحلة، حتى إن هارون الرشيد أعظم ملوك الأرض في عصره
ثروة وترفًا وعظمة حج ماشيًا، ولكن كان يفرش له اللباد مرحلة بعد مرحلة فيطأ
عليه.
وكان الناس يحجون من أبعد أقطار الأرض عن الحجاز كالمغرب الأقصى
والأندلس من جهة الغرب، والهند والصين من جهة الشرق إما برًّا فقط وإما برًّا
وبحرًا فيقطع أحدهم المسافة في سنة أو سنتين أو أكثر وينفق الألوف الكثيرة من
الدراهم والدنانير مما يعده لهذا النسك من أطيب كسبه، ويعد إنفاقه أفضل ما يدخره
لمثوبة ربه، فإذا هو عاد إلى وطنه حيًّا سالمًا أقيمت له الاحتفالات في أهله،
ووجهت إليه التهاني من صحبه، ومن الأدباء والشعراء في وطنه إن كان من أهل
العلم والأدب أو الوجاهة والثروة. وإننا لا نزال نرى بقية لهذه الاحتفالات والتهاني
للحجاج في هذه البلاد القريبة من الحرمين الشريفين في هذه العصر الذي قربت فيه
المسافة وسهلت فيه المواصلة، وصار من الممكن للمصري أن يسافر من مصر في
أوائل ذي الحجة الحرام إلى مكة المكرمة فيحج ويتم المناسك في منتصفه، ولا
يلبث أن يعود إلى وطنه في الأسبوع الثالث منه إذا لم يزر الحرم النبوي الشريف،
والقبر المكرم، ولولا الحجر الصحي الاحتياطي لما استغرق سفر الحج شهر ذي
الحجة كله ذهابًا وإيابًا بمنتهى الراحة والرفاهة التي كان يعجز عنها الملوك في
القرون الماضية.
وأما نفقة الحج الرسمية فقد وضعت حكومة الحجاز لها تعريفة في هذا العام
علم منها أنه يمكن للرجل أن ينفق على حجه هنالك بضعة جنيهات فقط بدون
الزيارة وبضعة عشر جنيهًا مع الزيارة، وقلما تصل نفقة ركاب السيارات في الحج
والزيارة التي لا بد منها إلى عشرين جنيهًا، وأحدثت للحجاج المترفين فنادق
يجدون فيها أحسن الطعام وأنقى الماء وجميع أسباب الراحة والصحة. ولقد كنت
أعددت لحجتي الأولى مع الوالدة رحمها الله تعالى مائة جنيه ذهبية، وإنما لم أنفقها
كلها لأنني كنت ضيفًا للملك حسين رحمه الله تعالى مدة وجودي في الحجاز، كما
كنت في الحجة الثانية ضيفًا للملك عبد العزيز أطال الله بقاءه موفقًا للإصلاح.
ومن أغرب أمر المسلمين في هذه الزمان أننا نسمع من بعض حجاجنا ونقرأ
لبعضهم من المقالات في الجرائد من التبرم والشكوى من نفقات الحج ومتاعبه ما
يدل أصح الدلالة على ضعف دينهم وعدهم الإنفاق في سبيل الله ونيل القربات عنده
من المغارم، وإن كانت واجبة، لا صدقات مندوبة. ويستبيحون لأنفسهم الطعن في
الذين يخدمون الحجاج في حِلِّهِم وترحالهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم وتعليمهم
المناسك وصحبتهم في أثناء أدائها، وفي غير ذلك من الزيارات، والطعن في
حكومتهم أيضًا مما يخشى أن يكون آية على أن حجهم غير مبرور ولا مقبول عند
الله تعالى.
لهذا رأيت أن أنشر لهم في هذه الأيام من أشهر الحج أثارة تاريخية من حج
المسلمين في القرون الوسطى التي كان حال أهلها في الدين دون حال من قبلهم في
خير القرون، وما كانوا يقاسونه في هذه السبيل سبيل الله من الشدائد والمغارم
راضين من الله محتسبين الأجر عنده؛ لتكون عبرة لمن يتذكر ويخشى الله عز
وجل، ويشكر نعمه على أهل هذا العصر.
***
مشقات الحج ونفقاته
في القرن السادس الهجري
إن العالم الكاتب الشاعر الأديب أبا الحسين محمد بن أحمد بن جبير الغرناطي
الأندلسي قد حج البيت الحرام ثلاث مرات، خرج للأولى من غرناطة لثمان من
شهر شوال سنة 578 ثم ركب البحر من سبتة في مركب للروم الجُنْوَيين في 28
منه قاصدًا الإسكندرية، وبعد حجه وإلمامه بالعراق فسورية عاد إلى الأندلس في
البحر ولقي فيه أهوالاً عظيمة منها انكسار مركبهم. وما وصل إلى بلده غرناطة إلا
لثمان بقين من المحرم سنة 581 وكان في أثناء هذه الرحلة يقيد أهم ما رآه وما
سمعه وما ألم به هو من معه فكان ذلك كتابًا حافلاً سمِّيَ (تذكرة بالأخبار، عن
اتفاقات الأسفار) واشتهر برحلة ابن جبير.
وإنني أنقل منه هنا بعض ما كتبه من خبر إرهاق الحجاج في الإسكندرية ثم
في صعيد مصر وبعض ما كتبه عن جدة ثغر الحجاز الأعظم وأهلها وأمير مكة
وظلم الحاج وإرهاقهم؛ ليكون عبرة لإخواننا المصريين ولسائر المسلمين، فيشكروا
نعم الله تعالى عليهم بما مَنَّ على عباده من تيسير إقامة هذا الركن العظيم من أركان
الإسلام في هذا العصر وقلة نفقاته.
حال الحجاج في الإسكندرية والصعيد
في القرن السادس سنة 578 هـ
قال ابن جبير في حوادث شهر ذي الحجة سنة 578:
أوله يوم الأحد ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية، فمن أول ما شاهدنا فيها يوم
نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه
فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدًا واحدًا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم
وأسماء بلادهم، وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناضٍّ ليؤدي زكاة ذلك كله،
دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل، وكان أكثرهم
متشخصين لأداء الفريضة لم يصطحبوا سوى زاد لطريقهم، فلزموا أداء زكاة ذلك
دون أن يسأل هل حال عليه حول أو لا؟
واستنزل أحمد بن حسن منا ليسأل عن أبناء المغرب، وسلع المركب،
فطيف به مرقبًا على السلطان أولاً، ثم على القاضي ثم على أهل الديوان، ثم على
جماعة من حاشية السلطان، وفي كل يُسْتَفْهَمُ ثم يُقَيَّدُ قولُه، فخلي سبيله وأمر
المسلمين بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم، وعلى ساحل البحر أعوان
يتوكلون بهم ويحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان، فاستدعوا واحدًا واحدًا، وأحضر
ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالزحام، فوقع التفتيش لجميع
الأسباب ما دق منها وما جل واختلط بعضها ببعض، أدخلت الأيدي إلى أوساطهم
بحثًا عما عسي أن يكون فيها، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم
أم لا؟ وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس؛ لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام،
ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك،
وهذه لا محالة من الأمور المُلَبَّس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين،
ولو علم بذلك على ما يُؤْثَر عنه من العدل وإيثار الرفق لأزال ذلك وكفى الله
المؤمنين تلك الخطة الشاقة واسْتؤُدُوا الزكاة على أجمل الوجوه، وما لقينا ببلاد هذا
الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من تشدد الدواوين.
ثم قال في الكلام على قوص وغيرها من الصعيد ما نصه:
وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين كإخميم وقوص
ومنية ابن الخصيب من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها،
وإدخال الأيدي إلى أوساط التجار فحصًا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو
دنانير ما يقبح سماعه، وتستشنع الأحدوثة عنه، كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة
لمحلها أو ما يدرك النصاب منها حسبما ذكرته في ذكر الإسكندرية من هذا المكتوب،
وربما ألزموهم الأيمان على ما بأيديهم، وهل عندهم غير ذلك؟ ويحضرون
كتاب الله العزيز يقع اليمن عليه، فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها
مواقف خزي ومهانة تذكرهم أيام المكوس. وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح
الدين لا يعرفه، ولو عرفه لأمر بقطعه كما أمر بقطع ما هو أعظم منه، ولجاهد
المتناول له، فإن جهادهم من الواجبات؛ لما يصدر عنهم من التعسف وعسير
الإرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا إلى الله عز وجل وخرجوا مهاجرين إلى
حرمه الأمين. ولو شاء الله لكانت عن هذه الخطة مندوحة في اقتضاء الزكاة على
أجمل الوجوه من ذوي البضائع والتجارات مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل
الزكاة، ويتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه، وكان
يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد شمل البلاد عدله، وسار في الآفاق
ذكره، ولا يسعى فيما يسيء الذكر بمن قد حسن الله ذكره، ويقبح المقالة في جانب
من أجمل الله المقالة عنه.
ومن أشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة أعوان الزكاة في أيديهم
المسال الطوال ذوات الأنصبة فيصعدون إلى المراكب استكشافًا لما فيها فلا
يتركون عكمًا ولا غرارة إلا ويتخللونها بتلك المسال الملعونة، مخافة أن يكون في
تلك الغرارة أو العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غُيِّبَ عليه من بضاعة أو
مال. وهذا أقبح ما يؤثر في الأحاديث المُلَعَّنَة، وقد نهى الله عن التجسس فكيف
عن الكشف لما يرجى بستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها أن يطلع عليها،
إما استحقارًا أو استنفاسًا دون بخل بواجب يلزمه، والله الآخذ على أيدي هؤلاء
الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه إن شاء الله) .
ثم قال الكلام على جدة وأهلها والحجاج فيها:
وأكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء أو الجبال أشراف علويون
وحسنيون وحسينيون وجعفريون رضي الله عن سلفهم الكريم، وهم من شظف
العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقًا، ويستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن
من إكراء جمال إن كانت لهم، أو مبيع لبن أو ماء إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه
أو حطب يحتطبونه، وربما تناول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهن، فسبحان المقدِّر
لما يشاء، ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا،
جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.
(ثم قال) : وأكثر أهل هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم
قد تفرقوا على مذاهب شتى، وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة قد
صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها ينتهبونهم انتهابًا، ويسببون لاستجلاب ما
بأيديهم استجلابًا، فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسر الله رجوعه
إلى وطنه.
ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم
في أمر لا ينادى وليده، ولا يلين شديده، فقد رفع ضرائب المكوس عن الحاج
وجعل عوض ذلك مالاً وطعامًا يأمر بتوصيلهما إلى مكثر أمير مكة، فمتى أبطأت
عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج وإظهار تثقيفهم
بسبب المكوس.
واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير
المذكور فورد أمره (بأن يضمن الحاج بعضهم بعضًا ويدخلوا إلى حرم الله، فإن
ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين وإلا فهو لا يترك ماله قبل
الحاج) هذا لفظه كأن حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه من الحاج، فسبحان
مغير السنن ومبدلها.
والذي جعل له صلاح الدين بدلاً من مكس الحاج ألفا دينار اثنان، وألفا إردب
من القمح، وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشبيلي عندنا، حاشا إقطاعات أقطعها
بصعيد مصر، وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور، ولولا مغيب هذا السلطان
العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا
الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج، فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل
أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية؛ لما هم عليه
من حل عُرَى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم، فمن يعتقد من فقهاء أهل
الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب، وبما يُصْنَع بالحاج
مما لا يرتضيه الله عز وجل، فراكب هذا راكب خطر، ومعتسف غرر، والله قد
أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال، فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد
اتخذوه معيشة حرام، وجعلوه سببًا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حِلٍّ
ومصادرة الحجاج عليها؟ وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم، تلافاها الله عن
قريب بتطهير يرفع هذه البدع المُجْحِفَة عن المسلمين، بسيوف الموحدين [2] أنصار
الدين، وحزب الله أولي الحق والصدق، والذَّابين عن حرم الله عز وجل والغائرين
على محارمه، والجادين في إعلاء كلمته، وإظهار دعوته، ونصر ملته، إنه على
ما يشاء قدير، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب؛
لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية
فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه
لا عدل ولا حق ولا دين على وجهها إلا عند الموحدين أعزهم الله، فهم آخر أئمة
العدل في الزمان، وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة:
يُعَشِّرُونَ تجار المسلمين، كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة
وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يُسْمَع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل
صلاح الدين قد ذكرنا سيرته ومناقبه لو كان له أعوان على الحق مما أريد والله عز
وجل يتلافى المسلمين بجميل نظره ولطيف صنعه) اهـ. المراد نقله من هذه
الرحلة، وإنني أقفي عليه بكلمة وجيزة فأقول:
لئن كان فضل الله تعالى على الحجاز في القرن السادس عظيمًا بجعله تحت
حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله؛ إذ أزال منه جُلَّ تلك المظالم المرهقة
لأهله حتى الشرفاء منهم وللحجاج، فإن فضل الله تعالى على الحجاز وحجاج
الأقطار في هذا العصر بالملك عبد العزيز آل سعود أعظم، فإنه لم يعرف المسلمون
عصرًا بعد صدر الإسلام كان الحاج فيه آمَنَ على نفسه وماله من الظلم والتعدي
مثل هذا العصر، دع تعبيد الطرقات وكثرة المياه والإسعافات الطبية فيها، وقطع
المسافات بالسيارات لمن شاء ولو قيض الله لهذا الملك من الرجال المصلحين ما
طالما تمنيناه له كما تمناه ابن جبير لصلاح الدين، لكان هذا الإصلاح المادي
والمعنوي في الحجاز أكبر وأعم مما هو الآن، ولا نيأس من روح الله، والحمد الله
على آلاء الله.
* * *
الدعوة إلى انتقاد المنار
نجدد دعوة أهل العلم والرأي من قراء المنار إلى بيان ما يرونه فيه من خطأ في
الشرع أو الرأي بما أوجبه الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدون زيادة
على القدر الواجب. ونعدهم بنشر ما يخاطبوننا به بشرطه مع بيان رأينا فيه، كدأبنا
في كل عام.
_________
(1)
وضعنا هذه المقالة موضع باب الفتاوى لما نُرَجِّي من فائدتها في موسم الحج.
(2)
يعني دولة الموحدين التي ظهرت بالمغرب، ووصلت دعوتها إلى الحجاز فكبر بها أمل المسلمين كما يذكره ابن جبير في مكان آخر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المقال العاشر
من مقالاتنا في الرد على مجلة مشيخة الأزهر
(تابع لما نشر في المجلد الثاني والثلاثين)
البُهَيْتَة الرابعة من بهائت مجلة الأزهر:
رد أحاديث البخاري في آية رجم الشيخ والشيخة
تقدم في الكلام على البُهَيْتَة الثالثة ذكر ما عزاه محرر مجلة مشيخة الأزهر
إلينا في هذه المسألة بما علم به أنه افتراء منه يوهم قراءها أنه نقله من المنار بنصه،
وإننا نعيده هنا لأجل أن نتكلم في المسألة ببعض التفصيل، وهذا نص عبارته:
عبارة الدجوي في نسخ آية الشيخ والشيخة المفتراة على صاحب المنار:
قال في مناره الصادر في آخر رمضان سنة 1327 صفحة 697 من مجلد
السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه، وليتضح به الموضوع الذي
نحن فيه، فإنه كالمقدمة له: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية:
(الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة) كانت قرأنًا يُتْلَى، وإن عمر قال ذلك
بمجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وهو معروف لا مِرَاء فيه، ويستند
حضرته في ذلك الرد على ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره. يقول: (إن
ذلك لو تَمَّ لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء
منه. ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قبل الشارع ولا يعرف إلا من جهته
ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه، وبين التفريط في القرآن وضياع شيء منه)
انتهى قول الدجوي بحروفه.
أقول: إن من قرءوا هذه العبارة في مجلة مشيخة الأزهر يظنون أن محرريها
إذا جاز أن يخطئوا في فهم بعض ما ينقلون فإنه لا يعقل أن يفتروا (أي يتعمدوا
الكذب) فيما ينقلونه عن غيرهم، ولا سيما إذا عينوا المكان الذي نقلوه عنه من
كتاب أو مجلة بعدد مجلداته وصفحاته، وإذًا يكون ما نقله هذا المحرر، وهو من
هيئة كبار العلماء المدرسين في الأزهر عن ص 697 من مجلد المنار الذي صدر
في سنة 1327 هو كما نقله لا ريب فيه. وهو أن صاحب المنار صرح في تلك
الصفحة برد ما رواه البخاري في المسألة باللفظ الذي ذكره الناقل، وأنه استدل على
رده بما ذكره عنه بقوله: يقول: إن ذلك لو تم لكان كذا وكذا إلخ ما تقدم آنفًا.
لا أقول هذا من باب الاستنباط العقلي فقط، بل أخبرني الثقة أنه وقع بالفعل
قال قائل: إن الشيخ يوسف الدجوي قد افترى الكذب فيما عزاه إلى السيد رشيد،
وزعم أنه نقله من كلامه. فقال له أحد المشايخ - وكانوا بجوار الأزهر -: إنه ليس
من المعقول أن يكون مثل الشيخ يوسف الدجوي في مكانه من كبار علماء الأزهر
ومدرسيه مفتريًا فيما نقله في مجلة المشيخة وعزاه إلى موضعه من مجلة المنار
بالصفحة المعينة من المجلد المعين؟
ولكن غير المعقول عند أكثر الناس ممن يتحرون الصدق، هو واقع بالفعل
ممن يتحرى الكذب، فإن الصفحة 697 من مجلد المنار المذكور ليس فيها ما عزاه
إليها هذا المدرس في الأزهر والمحرر في مجلة مشيخته من مسألة الشيخ والشيخة،
وإنما فيها إشارة إلى ما أنكره الدكتور محمد توفيق صدقي وغيره من نسخ التلاوة
لبعض آيات القرآن في مناظرته مع الأستاذ الشيخ صالح اليافعي، ذكرتها في سياق
الحكم في تلك المناظرة.
ذلك بأنني أشرت إلى بعض ما رده جمهور العلماء من روايات الصحيحين
لمخالفته للعمل أو لرواية أخرى أصح منها ثم قلت: فأولى وأظهر أن يجوز رد
الروايات التي تتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء
منه، ومثلت لذلك بكلمة وضعتها بين هلالين وهي (كالروايات في نسخ التلاوة)
وقلت بعدها: ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق
صدقي وأمثاله كثيرون اهـ فقولي هذا حكاية لاشتباه ترتب عليه إنكار وقع، لا
رد للحديث لاشتباه يتوقع، وهو مطلق في نسخ التلاوة، لا خاص بنسخ آية الرجم
باللفظ الذي ذكره ولا بغيره.
ومعلوم عند أهل النقل أنه ورد في نسخ التلاوة عدة روايات حتى قيل: إن
سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة أو أطول، ومنها هذه الآية، وزعم غلاة
الروافض أن مما حذفه الصحابة رضي الله عنهم منها وادعوا أنه نسخت تلاوته
آيات كثيرة في ولاية علي أمير المؤمنين عليه السلام إلخ؛ بل أقول: إن حديث
عمر الذي رواه البخاري في مسألة رجم الزاني المحصن قد ذكر فيه شيء آخر مما
نسخت تلاوته ولكن لم يذكر فيه الشيخ والشيخة إلخ.
فأنا لم أزد في التمثيل لنسخ التلاوة الذي كان أهم موضوع المناظرة المذكورة
بأكثر من كلمة (كالروايات في نسخ التلاوة) ولم أقل روايات البخاري ولا
الصحيحين ولا غيرهما. وهذه الروايات من أعظم الشبهات حتى الرواية التي
خصها محرر مجلة مشيخة الأزهر بالذكر، وزعم أنها في البخاري وليست فيه،
والشبهات فيها متعدِّدة بعضها في سندها، وبعضها في موضوعها، فمنها اختلاف
ألفاظها، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الأذن لعمر بكتابتها، ومنها
أن عمر أنكر على أبي بن كعب إرادة كتابتها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم
ومنها أن عمر يخاف قول الناس في إظهار شيء يعتقده، ولا سيما كلام الله تعالى؟
وبعضها في حكمها وهو رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا مطلقا، وإنما الرجم على
المحصن شيخًا أو شابًا. فهذا الإطلاق يخالف ما عليه العمل بالإجماع، وفي حديث
عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الزاني غير المحصن
الذي زنى بالمحصنة: إنه يحكم بينهما بكتاب الله تعالى، ثم حكم عليه بجلد مائة
وتغريب عام وعليها بالرجم، والتغريب ليس في كتاب الله عز وجل، فكل هذا من
مشكلات الرواية، وتأول بعضهم الإشكال الأخير بأن المراد به حكمه تعالى فيما
أوحاه إلى نبيه غير القرآن، وروي عن ابن عباس أن آية الرجم في القرآن لا
يغوص عليها إلا غواص. وإنني أذكر أهم ما قاله الحفاظ في زيادة (الشيخ
والشيخة) في حديث عمر.
إن البخاري لما روى حديث عمر في الرجم من طريق سفيان بن عيينة عن
الزهري ذكر أن سفيان قال: (كذا حفظت) وذكر الحافظ ابن حجر في شرح هذه
الكلمة: أن الإسماعيلي أخرج هذا الحديث من رواية جعفر الفريابي عن علي بن
عبد الله شيخ البخاري، وزاد فيه أن عمر قال عند ذكر آية الرجم: (وقد قرأناها:
(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وقد رجم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورجمنا بعده. فسقط من وراية البخاري هذه الزيادة.
(ثم قال الحافظ ما نصه) : ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا فقد
أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان كرواية جعفر ثم قال: لا أعلم
أحدًا ذكر في هذا الحديث (الشيخ والشيخة) غير سفيان وينبغي أن يكون وَهِمَ في
ذلك. (قلت) : وقد أخرج الأئمة هذه الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر
وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفاظ عن الزهري فلم يذكروها اهـ.
المراد من كلام الحافظ.
وأقول: إن قول البخاري: (قال سفيان كذا حفظت) يدل على أن رواية
جعفر الفريابي عنه هذه الزيادة (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة) غير
صحيحة؛ إذ لو كان سمعها من الزهري لما قال: كذا حفظت - ولهذا قال الحافظ
لعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا. وأما النسائي فإنه لما ذكر رواية جعفر
الفريابي عن سفيان أنكر هذه الزيادة التي انفرد بها قال: وينبغي أن يكون وهم في
ذلك - فالبخاري ينفيها عن سفيان، والنسائي يخطئه بها، وسفيان من أئمة رواة
الحديث والفقه فيه، ولكنه تغير في آخر عمره، وكان يدلس أيضًا.
وإنني لأعجب أن أرى محرر مجلة المشيخة من هيئة كبار علماء الأزهر
يتصدى للطعن علينا برد شيء من أحاديث البخاري من غير أن يكلف نفسه مراجعة
البخاري فيما يعزوه إليه منها، على علمه بضعف إلمامه بالسنة وقلة اطلاعه على
ما في الصحيحين منها فضلا عما دونهما، فيا ليت شعري ألا يشعر بضعفه؟ أم
يظن أن النقل عن صحيح البخاري كالنقل عن المنار؟ إذا قلنا للناس في الجرائد:
إن هذا النقل غير صحيح يقل فيهم من يملك مجلدات المنار القديمة ليراجع
الصفحات التي يعزو إليها ما ليس فيها فيعلم كذبه في النقل عنها؟ ولكن صحيح
البخاري يوجد في كل مكتبة إسلامية عامة أو خاصة إلا ما ندر فمن شاء، فليراجع
الحديث في كتاب الحدود منه، وشرح الحافظ ابن حجر له في الجزء الثاني عشر
منه؛ ليعلموا جهل الدجوي وكذبه فيما عزاه إليه.
* * *
استطراد في فضحية مجلة الأزهر لعلمائه
في الجهل بعلوم الحديث
ونصيحة المنار لها
إنني نصحت لمجلة مشيخة الأزهر في تقريظي لها عقب ظهورها بأن تعنى
بما قصر فيه الأزهريون في هذا العصر من علم الحديث؛ إذ رأيت فيها إنكارًا
لوجود حديث نبوي بمعنى تأييد الله لهذا الدين بمن ليس من أهله، وذكرت لها
حديث الصحيحين وغيرهما في ذلك، واقترحت عليها أن لا تذكر حديثًا إلا مقرونًا
بتخريجه ودرجته، وهي على قبولها للنصيحة في الجملة سمحت للشيخ يوسف
الدجوي بأن يخبط فيما يكتبه خبط عشواء بل عمياء، فيكذب في النقل حتى العزو
إلى صحيح البخاري، ويصحح الموضوعات والواهيات، ولما أنكرت عليه بعض
هذا الخبط انتقم مني بما علمه القراء.
وكان سبب هذا أن أحد طلاب العلم النجديين آلمه إسراف هذا الشيخ في
الطعن على قومه وأهل مذهبه بالباطل في مجلة المشيخة فألف كتابًا في الرد عليه
سماه (البروق النجدية، في اكتساح الظلمات الدجوية) وكان مما أنكره عليه أنه
أورد في باب تجهيله إياه في علم الحديث أنه استشهد بحديث توسل آدم أو سؤاله
ربه بحق محمد صلى الله عليه وسلم أن يغفر له، وزعم أن الحافظ الذهبي أقر
الحاكم راويه على تصحيحه، والحال أن الحافظ الذهبي أنكر تصحيحه بل قال:
إنه موضوع، ففضحه المجاور النجدي في زعمه هذا، بل هدم بكتابه ما كان له من
صيت في الأزهر انتقل إلى غير الأزهر.
كبر على الشيخ الدجوي أن يرد عليه ويجهله طالب نجدي (وهابي) وكبر
ذلك على الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر أيضًا فقطع رزق الطالب النجدي من الأزهر
وأمر بقطع انتسابه فيه، وحاول الدجوي الرد على النجدي من غير ذكر اسمه في
مجلة الأزهر حتى في مسألة وضع هذا الحديث، فأخذ يماري فيه بما اعتاده في
دروسه، بل ادعى أنه صحيح. وأفضى ذلك إلى سؤال بعض مجاوري الأزهر
إياي عن ذلك فبينت له خطأ الدجوي في مرائه هذا من بضعة وجوه بالإجمال ثم
فصلتها ونشرتها في الجزء الرابع من مجلد المنار (32) واعتذرت عن ذلك بقولي:
(أصر الأستاذ الدجوي على القول بتصحيح هذا الحديث والتفصي من قول
الحافظ الذهبي: إنه موضوع بالمغالطة والتأويل، وقد سألني بعض مجاوري
الأزهر عن رأيي في رده فقرأته على تحامي قراءة هذا المجلة لئلا أراني مضطرًّا
إلى ما لا أحبه من الرد على ما أنكره فيها، فبينت للسائل خطأه فيه إجمالاً وإنني
أذكره هنا استطرادًا) .
ثم بينت خطأه في عدة صفحات فكان هذا هو الذي هاجه عليَّ هذه الهيجة
الشؤمى عليه؛ لأنها أظهرت من حقيقته للناس ما لم يظهره كتاب الطالب النجدي،
بل جرأه هذا على الطعن في الحافظ الذهبي وجماعته من أهل الحديث في رسالته
البذيئة، ووضعهم مع شيخ الإسلام ابن تيمية، واتهمهم فيها كما اتهمني بعداوة
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء في حاشية صفحة 23 منها أنه يعجبه قول
بعض الأفاضل: لو كان قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) حديثًا لقال الذهبي وجماعته: إنه موضوع (!) فمن هذا الفاضل
الذي يقول في أعلم حفاظ السنة في عصره بنقد الحديث وتمحيص أسانيده هذا القول؟
إلا أنه ينبغي أن يكون الشيخ الدجوي هو القائل لتلميذه ناشر الرسالة ذلك التقول
أو يكون تلميذه هو القائل له، وهل يتجرأ على هذا الجهل إلا مثلهما؟
فإن كان شمس الإسلام الذهبي حافظ الأمة وفخرها قد بلغ من عداوته وبغضه
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخون علم سنته ويكذب كل بيان لمناقبه
وفضائله من الأحاديث فيجعله موضوعًا، وإن كان سنده صحيحًا كما يزعم هذا
المغرور باسم الأزهر - أفلا يكون لي سلوى عما افتراه عليَّ من هذا القبيل؟ كلا
بل لي الشرف بأن أكون معهم فإنهم ممن أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم من
أعداء السنة وحملتها ولا الضالين الجاهلين بها.
على أنه لم يطعن في ابن تيمية والحافظ الذهبي وحدها بل ضم إلى الثاني
جماعته وقال: إن لابن السبكي كلامًا كثيرًا عنهما. وإنما ابن السبكي تلميذ الذهبي
يفتخر به ويقول في ترجمته من طبقاته: إن حفاظ عصره أربعة المزي والبرزالي
والذهبي ووالده (تقي الدين السبكي) ثم يقول: وأما أستاذنا أبو عبد الله (الذهبي)
فنظير لا نظير له، وكبير هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود في كل سبيل،
كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها،
وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت، تعمل المطي إلى رحاله،
وتضرب اليزل المهارى أكبادها فلا تبرح أو تقبل نحو داره، وهو الذي خرجنا في
هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة، جزاه الله عنا أفضل الجزاء إلخ.
فالتاج السبكي هذا يفتخر بأنه من جماعة الحافظ الذهبي، فهو من أعداء
رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدجوي وتلاميذه أعداء السنة وأنصار البدعة؟
وحسبي هذا الذي كتبته في الموضوع؛ إذ لا فائدة للأمة في تمحيص هذه
الروايات وبسطها في الجرائد التي يقرؤها العوام والخواص، وفيها ما فيها من
الشبهات والمشكلات، وحسبي من الرد على محرر مجلة الأزهر أن يعلم الناس أنه
بهتني بما افتره عليَّ على علم، وما كذبه على صحيح البخاري بغير علم.
فإن عاد إلى القيل والقال في أمثال هذه المسائل التي لا يفقهها فإنني أتحدى
مشيخة الأزهر من دونه تحديًا ثانيًا في علم الحديث والقرآن وخاصة هذه المسألة.
* * *
المقال الحادي عشر
(البهيتة الخامسة ما سماه سحر النبي صلى الله عليه وسلم
قال محرر مجلة مشيخة الأزهر بعد ما تقدم في مسألة الشيخ والشيخة:
(ثم رد الحديث الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله عليه وسلم رد
ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها) اهـ لفظه، وفي إضافة السحر إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ما فيها من سوء التعبير وسوء الأدب.
وأما عبارة المنار فهذا نصها: ومثل الرواية في سحر بعض اليهود للنبي
صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها، فإن
نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها؛
ولأنها مؤيدة لقول الكفار: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) هو ما كذبهم الله تعالى فيه بقوله بعده: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: 9) ا. هـ.
فعلم من هذا أنني ناقل لهذه المسألة عن الأستاذ الإمام: ولست أنا الذي رددت
الحديث فإسناد الرد إليَّ بَهْتٌ لِيَ وافتراء عليَّ، ولما قلت في مقال سابق: إنني
ناقل لهذه المسألة ومسألة الملائكة عن الأستاذ الإمام طفق المفتري يهجوني في
رسالته ومقالاته بأنه لا يليق بي أن أتنصل من ذلك وألقي تبعته على أستاذي، بل
يجب أن أترك الأستاذ الإمام بمعزل من موجبات الطعن والتكفير الموجهين إليَّ،
وأحمل تبعة ذلك بنفسي) كأن الحق وأمانة النقل والصدق في القول من المنكرات
المذمومة عند الأستاذ الدجوي، أو مما يبيح فن المناظرة عنده أن تحل محلها
أضدادها وهي اتباع الباطل والخيانة في النقل والكذب في القول، وقد بلغ به
الهرب والهزيمة من توجيه الطعن إلى الأستاذ الإمام لاتفاق الأمة على إجلاله أن
جعل نقلي عنه التفسير في حياته موضع التهمة! ! !
لعله يندر أن يوجد في الدنيا خيال كخيال الدجوي سابح في دُجَى الأوهام
يتصور أن ينقل صاحب المنار عن الأستاذ الإمام في حياته أنه قال في درسه في
الأزهر كذا، وأن بعض الناس اشتبهوا في هذا القول فرد عليهم بكذا، أو أن يقول:
إنني أنقل من خطه كذا، ويكون نقله هذا غير صحيح، مع العلم بأن المنقول عنه
كان يقرأ ذلك كما يقرؤه كثير ممن حضروا دروسه في الأزهر، بل مع العلم بما
كان من قوة الصلة والثقة بين صاحب المنار والأستاذ الإمام حتى إن أمير البلاد بذل
جهده في التفريق بينهما فلم يستطع إلى ذلك سبيلا مع أحد منهما. ولا يزال في
الأحياء من يعلم دخائل هذه المسألة كفضيلة الأستاذ الشيخ محمد شاكر الذي كلفه
الخديو أن يكلم الأستاذ الإمام بأن يترك صحبة صاحب المنار ليرضى عنه سموه
ويساعده على ما يشاء من إصلاح الأزهر، فقال رحمه الله للشيخ شاكر: وكيف
أترك صحبة السيد رشيد رضا وهو ترجمان أفكاري؟ وتفصيل هذه المسألة وأمثالها
في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام - بيد أن الشيخ الدجوي يريد أن يقنع قراء
كلامه أن نقل صاحب المنار عن الشيخ محمد عبده قد يكون غير صحيح ليحصر
طعنه فيه ويسلم من سخط الجمهور. ولكن القراء قد علموا أن نقل الدجوي عن
المنار غير صحيح، بل كذب صريح، وكذا نقله عن البخاري. فكيف يعبئون
بتشكيكه فيما ينقله عن أستاذه حتى في حياته؟ ثم ماذا يقولون في مسألة السحر
وهي مدونة في تفسيره رحمه الله لجزء عم الذي طبعته الجمعية الخيرية في أيام
حياته بعد وفاته؟
قد علم القراء أنني ذكرت هذه المسألة وغيرها في مقالة المنار المشار إليها من
باب التمثل لما أنكره العلماء الباحثون من الروايات حتى التي صحَّحها الشيخان أو
أحدهما لا من باب ما أنكره أنا من ذلك. وإنني أذكر لهم هنا نص ما كتبه الأستاذ
في المسألة من تفسيره لسورة الفلق من ذلك الجزء لا من المنار ولا من تفسيره:
عبارة الأستاذ الإمام في مسألة السحر:
(وقد رووا ههنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد
بن الأعصم وأثر سحره فيه حتى كان يخيل له أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو
يأتي شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي
صلى الله عليه وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة) .
(ولا يخفى أن تأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى
أن يظن أنه فعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان،
ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل،
آخِذٌ بالروح، وهو مما يصدق قول المشركين فيه: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً
مَّسْحُوراً} (الإسراء: 47) وليس المسحور عندهم إلا من خُولِطَ في عقله،
وخُيِّلَ له أن شيئًا يقع وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه. وقد
قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير
السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع
المبتدعين؛ لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر. فانظر
كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح في نظر المقلد بدعة؟ نعوذ بالله، يحتج
بالقرآن على ثبوت السحر ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه
وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك! ! مع
أن الذي قصده المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه
السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه
أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم.
والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن
المعصوم صلى الله عليه وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته وعدم الاعتقاد بما
ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصول
السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور
قطعًا، وأما الحديث فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب
العقائد وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها
عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون، على أن الحديث الذي
يصل إليها من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من قامت له
الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا بل علينا أن
نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل،
فإنه إذا خولط النبي في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم
يبلغه، أو أن شيئًا نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
ثم إن نفي السحر عنه لا يستلزم نفي السحر مطلقًا فربما جاز أن يصيب
السحر غيره بالجنون نفسه، ولكن من المحال أن يصيبه؛ لأن الله عصمه منه، ما
أضر المحب الجاهل، وما أشد خطره على من يظن أنه يحبه، نعوذ بالله من
الخذلان.
على أن نافي السحر بالمرة لا يجوز أن يُعَدَّ مبتدعًا؛ لأن الله تعالى ذكر ما
يعتقد به المؤمنون في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة: 285) الآية، وفي غيرها من الآيات، ووردت الأوامر بما يجب على
المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلمًا، ولم يأت في شيء من ذلك ذكر السحر على
أنه مما يجب الإيمان بثبوته أو وقعه على الوجه الذي يعتقد به الوثنيون في كل ملة،
بل الذي ورد في الصحيح هو أن تعلم السحر كفر، فقد طلب منا أن لا ننظر
بالمرة فيما يعرف عن الناس بالسحر ويسمى باسمه، وجاء ذكر السحر في القرآن
في مواضع مختلفة، وليس من الواجب أن نفهم منه ما يفهم هؤلاء العُمْيَان، فإن
السحر في اللغة معناه صرف الشيء عن حقيقته. قال الفراء في قوله تعالى:
{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 89) أي أنى تؤفكون وتصرفون، سحره وإفكه
بمعنًى واحد.
وماذا علينا لو فهمنا من السحر الذي يُفَرِّقُ بين المرء وزوجه تلك الطرق
الخبيثة الدقيقة التي تصرف الزوج عن زوجته، والزوجة عن زوجها؟ وهل يبعد
أن يكون مثل هذه الطرق مما يتعلم وتطلب له الأساتذة، ونحن نرى أن كتبًا ألفت
ودروسا تلقى لتعليم أساليب التفريق بين الناس لمن يريد أن يكون من عمال السياسة
في بعض الحكومات؟ وقد يكون ذكر المرء وزوجه من قبيل التمثيل وإظهار الأمر
في أقبح صورة، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن
يتمكنوا به من التفريق بين المرء وزوجه؟ وسياق الآية لا يأباه.
(وذكر الشياطين لا يمنعنا من ذلك بعد أن سمى الله خبثاء الإنس المنافقين
بالشياطين قال: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} (البقرة: 14) وقال: {شَيَاطِينَ
الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} (الأنعام: 112) وسحر سحرة فرعون
كان ضربًا من الحيلة، ولذلك قال:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه:
66) وما قال: إنها تسعى بسحرهم. قال يونس: تقول العرب ما سحرك عن
وجه كذا أي ما صرفك عنه.
ولو كان هؤلاء يقدرون الكتاب قدره ويعرفون من اللغة ما يكفي لعاقل أن
يتكلم، ما هذروا هذا الهذر، ولا وصموا الإسلام بهذه الوصمة، وكيف يصح أن
تكون هذه السورة نزلت في سحر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنها مكية في قول
عطاء والحسن وجابر، وفي رواية ابن كريب عن ابن عباس، وما يزعمون من
السحر إنما وقع في المدينة؟ لكن من تعود القول بالمُحَال، لا يمكن الكلام معه
بحال، نعوذ بالله من الخبال) اهـ بحروفه.
هذه حجة الأستاذ الإمام على إنكاره لوقوع السحر على تلك النفس القدسية
العليا التي كانت تتصل بروح الله الأمين، وتتلقى منه كلام رب العالمين، فهو
يُجِلُّهَا أن يؤثر فيها سحر ذلك اليهودي الرجيم، الذي كان يستعين كغيره على سحره
بأرواح الشياطين، ولم يقبل في ذلك رواية الراوين، وإننا لم نر من علماء الملة
متقدميهم ومتأخريهم من بيَّن لنا من فضل تلك النفس الزكية العلوية، والشخصية
الشريفة المحمدية ما بيَّنه لنا هذا الإمام الجليل في رسالة التوحيد، وفي دروسه
ومجالسه العلمية كما شرحناه في الجزء الأول من تاريخه.
* * *
بحث في أقوال من أنكر
حديث السحر ومن أثبته
هذا وإن علماء المعقول وجهابذة الأصول قد أنكروا وقوع السحر عليه صلى
الله عليه وسلم من قبل الأستاذ الإمام، وأنكره من علماء التفسير والفقه مثل أبي بكر
الجصاص من أئمة الحنفية، وقد قال العلامة ابن القيم بعد الجزم بصحة سند
الحديث ما نصه: وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد
الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنَّف بعضهم فيه مصنفًا مفردًا حمل فيه على هشام (أي
راويه عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة) وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال:
غلط واشتبه عليه الأمر، ولم يكن من هذا شيء - قال: لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لا يجوز أن يسحر.... إلخ.
أقول: أما علماء الروايات فليسوا ممن يطلب منهم معرفة هذه الحقائق في نقد
المتون، وأما علماء المناقشات اللفظية التي غلبت على الأزهر في القرون الأخيرة
فقد أجاب بعضهم عن استدلال المنكرين بقوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ
إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وتفنيده تعالى لقولهم بالآية التي بعدها بما
خلاصته أن المراد بالمسحور فيها ذا السَّحَر (بفتح السين) أي الرئة، والمعنى ما
تتبعون إلا بشرًا له رئة قال ابن القيم: (وهذا الجواب غير مرضي، وهو في
غاية البعد، فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور، ولا يُعْرَف هذا في
لغة من اللغات) وأطال في بيان هذا، واستدل عليه بقول فرعون لموسى: {إِنِّي
لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} (الإسراء: 101) قال: أفتراه ما علم أن له سَحَرًا
وأنه بشر؟ (أي إلا في تلك الساعة) ثم كيف يقول له موسى: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا
فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (الإسراء: 102) ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصَدَّقَه موسى،
وقال: نعم أنا بشر، ولكن الله أرسلني إليك كما قالت الرسل لأقوامهم.
(ثم قال) : وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو
معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره، فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر
. وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة، وهو أن من علم السحر يقال له مسحور، ولا
يكاد يُعْرَف هذا في الاستعمال ولا في اللغة، وإنما المسحور من سحره غيره
كالمطبوب والمضروب والمقتول.
(ثم قال) : فالصواب هو الجواب الثالث، وهو جواب صاحب الكشاف
وغيره أن المسحور على بابه وهو من سحر حتى فقالوا مسحور مثل مجنون، زائل
العقل لا يعقل ما يقول، فإن المسحور الذي لا يُتَّبَعُ هو الذي فسد عقله بحيث لا
يدري ما يقول إلخ.
وأقول: إنه لولا إرادة قبول رواية السحر، والجمع بينها وبين براءة النبي
صلى الله عليه وسلم مما لا يليق به من كونه مسحورًا بشهادة الله وشهادة العقل وعلم
النفس، لما تكلف الزمخشري عَلَاّمة اللغة أن يحمل معنى السحر هنا على غاية
درجاته التي قلَّمَا تقع وهي الجنون، ولما قبل ذلك ابن القيم علَاّمة المنقول
والمعقول - فإن رمي الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم بلقب مجنون، هو غير
نبزه بلقب مسحور، وقد ذكر في مواضع من القرآن، فدل ذلك على أنهم يعنون
بالمسحور ما دون المجنون من المخبولين، بل نقل البخاري عن سفيان بن عيينة
أحد رواة هذا الحديث أنه قال في وصف عائشة لذلك السحر بما سنذكره: وهذا أشد
ما يكون من السحر.
ونرى أكثر العلماء قد استقر جوابهم على أن السحر الذي وقع هو عبارة عن
التأثير في جسمه صلى الله عليه وسلم دون نفسه الشريفة الزكية العلوية، فهو
كجرحه يوم أحد، وقالوا كلهم كغيرهم: إن الأنبياء تجوز عليهم جميع الأمراض
البدنية، وقد قتل بعضهم. وهذا صحيح ولكن الروايات كلها مصرِّحَة بأن تأثير
السحر المزعوم كان في نفسه وإدراكه وتصوره صلوات الله وسلامه عليه لا في
جسده - من وجع رأس أو بطن أو يد أو رجل - بل فيها أنه كان يخيل إليه أن يفعل
الشيء ولم يكن فعله حتى إتيان أهله الذي يترتب عليه أحكام شرعية - فهل هذا من
الأمراض الجسمية؟
وليعلم القراء أن أمثال هذه المشكلات في الروايات لا يهتدي إلى تحقيق الحق
فيها إلا الذي يعطي لعقله حرية الاستقلال فيما قاله أصناف العلماء. فعلماء الرواية
هم أعلم من علماء الأصول الاعتقادية والفقهية بنقد رجال الأحاديث، وهؤلاء أعلم
من المحدثين بنقد المتون، وما يوافق المعقول وأصول العقائد منها وما لا يوافقها،
وقد اتفق الفريقان على أن ليس كل ما صح سنده من الأحاديث المرفوعة يصح متنه
؛ لجواز أن يكون في بعض الرواة من أخطأ في الرواية عمدًا أو سهوًا، وما كل ما
لم يصح سنده يكون متنه باطلاً، بل قالوا: إن الموضوع من حيث الرواية قد يكون
صحيحًا في الواقع، وإن الصحيح السند قد يكون موضوعًا في الواقع. وإنما علينا
أن نأخذ بالظواهر مع مُرَاعاة القواعد، فما صح سنده قبلنا روايته وحكمنا قواعد
الاعتقاد ودلائل العقل والعلم في متنه إن كان مشكلاً، وما كان غير صحيح السند لا
يجوز لنا أن نسميه حديثًا نبويًّا، وإن كان معناه صحيحًا.
ونحن قد اتبعنا في المنار هذه القواعد كلها في حل مشكلات الأحاديث كما
صرحنا به في مواضع من المنار والتفسير، ولعلنا نكتب فيه مقالاً خاصًّا.
وإن لنا في هذا الحديث كلمتين: (إحداهما) في سنده، وهي أن الذين أَعَلُّوا
الحديث بهشام بن عروة ورد عليهم العلامة ابن القيم باتفاق الجماعة على تعديله -
لهم وجه وجيه، ومستند من أقوال أئمة الجرح والتعديل، فقد قال بعضهم: إن
هشامًا كان في العراق يرسل عن أبيه عروة ما سمعه من غيره، وقال ابن خراش:
كان مالك لا يرضاه وقد نقم منه حديثه لأهل العراق، وقال ابن القطان: تغير قبل
موته ا. هـ فالقول بوقوع خطأ منه أهون من قبول روايته هذه، وهو أوثق مَن
روى هذا الحديث.
(الثانية) في متنه، وهو أن الروايات عن عائشة تدور على أمر واحد وهو
ما يتعلق بالنساء فقولها كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله، كناية عن
ذلك الأمر، حياء من التصريح به على أنها صرحت في رواية أخرى فظن بعض
الرواة أنه عام في كل فعل فعَظُمَتِ الشبهة فيه على علماء الأصول والعقائد، ويؤيد
حصر التأثير فيما ذكر في طبقات ابن سعد عن ابن عباس: مرض النبي صلى الله
عليه وسلم وأُخِذَ عن النساء والطعام والشراب، وفي مرسل يحيى بن يعمر عن عبد
الرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. فجملة
القول أنه مرض مرضًا أثر في الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي فقط، وما زالت
الناس تعد هذا من أنواع السحر، ويعبر عنه العوام في زماننا بالعقد، ويسمون
الواقع عليه (معقودًا) وكانت العرب تسميه مَطْبُوبًا، وهو من نوع تأثير الأنفس
بعضها في بعض كالتنويم المغناطيسي أو الاستهواء في عصرنا، وقد بيَّنا هذا النوع
وسائر أنواع السحر في تفسير سورة الأعراف.
وكان قد سبق لي في عهد اشتغالي بالروحانيات أن كنت أكتب نشرة للمصابين
بهذا السحر فتنفعهم، وربما كان جُلُّ هذا النفع من تأثير الاعتقاد الحسن، وكان هذا
الاعتقاد وحسن الظن فينا عامًّا في بلادنا حتى في النصارى الذين يعرفوننا.
ومن المقرَّر عند العلماء المتقدمين والمتأخرين أن هذا التأثير لا يكون إلا من
نفس ذات إرادة قوية في نفس ذات إرادة ضعيفة، وأن الأنفس الخبيثة الضارة لا
يمكن أن تؤثر في الأنفس الزكية العالية، وهذا ما اعتمد عليه شيخنا في إنكار سحر
اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم من الوجهة العقلية مهما يكن نوع السحر.
وقد كان العلامة ابن القيم يعلم هذا، وقد بيَّنه في مواضع من الكلام في
الأمراض البدنية والنفسية وعلاج كل منهما في كتابه (زاد المعاد، في هدي خير
العباد) فننقل عنه الفصل الآتي بنصه، قال:
(فصل)
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة
بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها
ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت
أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما
عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من
الله مغمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات وِرْدٌ لا يُخِلُّ
به يطابق فيه قلبُه لسانَه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له،
ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه، وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في
القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا
غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي، ومَن ضعف حظه من
الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات
والتعوذات النبوية، وبالجملة فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون
ميلها إلى السفليات. قالوا والمسحور هو الذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقًا
بشيء كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح
الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك
الأرواح الخبيثة وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعُدَّةِ التي تحاربها بها،
فتجدها فارغة لا عُدَّةَ معها وفيها ميل إلى ما يناسبها فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها
فيها بالسحر وغيره والله أعلم اهـ.
وقد لخص الحافظ ابن حجر هذا الفصل في الكلام على حديث السحر من
الفتح، وتعقبه بقوله: ويعكر عليه حديث الباب وجواز السحر على النبي صلى الله
عليه وسلم مع عظيم مقامه وصدق توجهه وملازمته ورده، ولكن يمكن الانفصال
عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم
لبيان تجويز ذلك، والله أعلم اهـ. أقول: فأنت ترى أن الحافظ يرى أن القاعدة
التي بَيَّنَهَا ابن القيم صحيحة في نفسها وأن الأنفس الشيطانية لا سلطان لها على
الأنفس العالية القدسية، ويُنْقَضُ اطرادُها بإثبات الرواية لتأثير السحر في أشرف
النفوس وأعلاها فيجعلها أغلبية، وإنما يتصور نقض القاعدة فيما دون هذه النفس
العليا من الأنفس الشريفة، ولكن الحافظ عفا الله عنه من الرجال التي انحصرت
قوة تحقيقهم في الروايات وحفظ ما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها وسائر
العلماء في متونها، والترجيح بينها بمقتضى قواعدهم التي هي آراء لهم. فبضاعته
ضعيفة في تحقيق مسائل المتون، وبنائها على قواعد المنقول والمعقول، حتى إنه
رجح أن لرواية الغرانيق أصلاً بما حفظه من تعدُّد طرقها، وبقاعدتهم في تقوية
الروايات الضعيفة والمُنْكَرَة بتعدد الطرق مع تصريحه بأن جميع تلك الطرق
ضعيفة، وغير متصلة، فإذا كان لا يحتج بشيء منها في أحكام النجاسة والطهارة،
أفيعتد بها في أصل أصول العقيدة؟ ورواية الغرانيق أفظع ما رواه الرواة في
الطعن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وبرأه مما قالوا في تبليغ الرسالة الذي
أجمعوا على عصمته فيه، فترى فيما اعتمده الجلال المحلي منها واقتصر عليه في
تفسيره أن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر اللات
والعزى ومناة الثالثة الأخرى من أصنام العرب في قراءته لسورة النجم جملة:
(تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) وهو عين ما يعتقده المشركون والعياذ
بالله تعالى، وقد فنَّد هذه الرواية المحققون من ناحيتي الرواية والدراية، وبيَّن ذلك
شيخنا الأستاذ الإمام أحسن بيان، بما نشرناه في المنار، ونعيد طبعه كل مرة مع
تفسير سورة الفاتحة.
ومن عجائب جهل المتأخرين المقلدين لأمثالهم من المقلدين لأنهم أوسع منهم
اطلاعًا أو جدلاً أن القاعدة عندهم تقديم ما اعتمده المتأخرون على غيره، وإن
خالف كلام الأئمة المتقدمين، وتقليد الميتين، وإن كان مخالفًا لأصول الدين،
وماسًّا بكرامة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم كما أنهم يقبلون في باب مناقبه
صلى الله عليه وسلم ومناقب من دونه من الصالحين ما يخل بتنزيه رب العالمين،
ويخالف المُجْمَع عليه من توحيده عز وجل ودعائه والاستغاثة به عند الشدائد،
يبيحون هذه العبادة لغير الله تعالى، ويتأولون لها آيات القرآن الصريحة، فخرافات
العوام، ولا سيما القبوريين عندهم مقبولة، وبدع المؤلفين المقلدين حجج متبعة،
وكلام المحققين في عصمة الرسول وتنزيهه عن الروايات المنافية لعصمته وغير
اللائقة بكماله أوهام مردودة، وآيات القرآن المحكمة في صفات الله وعالم الغيب
حتى آيات التوحيد مؤولة، وهذا ما جرت عليه مجلة مشيخة الأزهر التي سمتها
(نور الإسلام) والذي تولى كبره من علمائها ومحرريها هو الشيخ يوسف الدجوي
الذي يصحح بدع العوام، ويتأول لتصحيحها نصوص القرآن، كما سنبينه بعدُ، إن
شاء الله تعالى.
وجملة القول في مسألة السحر أن هذه المحرر الثقة عند المشيخة رغم أن
صاحب المنار رد حديث السحر المذكور بتمويهات وخيالات لا يطيل هو بها،
وإنما بهته لنا إيهامه قراء كلامه أن صاحب المنار قد انفرد بهذه الجرأة على رد
حديث البخاري! وقد علم القراء أن كثيرًا من العلماء المتقدمين قد ردوه قبل الأستاذ
الإمام، ولكن بدون أدلته - وأنه يعني بالتمويهات والخيالات ما أشرنا إليه من
الحقائق العالية التي عزوناها إلى الأستاذ الإمام، في إعظام شأن المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام.
وإننا على هذا قد مَحَّصْنَا أقوال علماء المعقول والمنقول في الرواية متنًا
وسندًا بما يهون فيها أمر منكري الرواية بما قيل في هشام، وبما يرجع أجوبة
مثبتيها إلى كون التأثير الذي وقع على قولهم هو خاص بمباشرة الراوية له (عائشة)
على أن أستاذنا (رحمه الله تعالى) فوض الأمر في تأويل الحديث لأهله، ولم
يرد روايته كغيره.
* * *
المقال الثاني عشر
البُهَيْتَة السادسة ما سماه إفتاء التلاميذ المسلمين بالصلاة مع النصارى
في الكنائس
وتعليله بقوله: (ليغرس في قلوبهم النقية تلك الطقوس النصرانية وينقش في
نفوسهم الساذجة ما يسمعونه من القسوس والمبشرين هناك) اهـ. بحروفه.
كل بُهَيْتَة من المفتريات التي بهتنا به الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر
كان لها شبهة منتزعة من المنار أو تفسيره بضرب من التحريف بالزيادة أو
النقصان، وجعل المنقول مقولا للناقل ومذهبًا له، وتفسيره بغير معناه، وإضافة
شيء من الكذب أو اللوازم الباطلة إليه. وأما هذه البهيتة فهي الفرية المفضوحة
التي لا تستند إلى أدنى شبهة، بل هي قذف لنا بضد ما كنا عليه في موضوعها،
وخلاف ما قررناه وما كررناه فيه وفي وقائعه.
ومن غرائب الجرأة على الكذب الصريح، والبهتان المفضوح أن يعزوه إلى
منار شعبان من المجلد 12 (سنة 1327) ليصدقه قراء مجلة الأزهر كما تقدم،
وإنني أنقل من ذلك المجلد بعض ما نشرته فيه خاصًّا بهذا الموضوع بعد مقدمة
وجيزة.
إنني زرت سورية في سنة 1326 هـ (الموافقة سنة 1908م) بعد إقامة
12 سنة في مصر لم أزرها فيها، وكان ذلك عقب إعلان الدستور في البلاد
العثمانية الذي نفخ شيئًا من روح الحرية فيها فحمل طلاب العلم من المسلمين في
المدرسة الكلية الأميركانية ببيروت على الثورة على نظام المدرسة الذي يُكْرِههم
على دخول كنيسة المدرسة وسماع المواعظ النصرانية فيها وحضور صلاتهم فيها،
وهي عبارة عن أدعية مأثورة عندهم، وكنت وقتئذ في بيروت فدافعت عن هؤلاء
الطلبة وقويت عزائمهم على الامتناع من حضور صلاة النصارى، والاعتصام
بعروة الإسلام الوثقى، فمن ذلك أنني جمعت هؤلاء الطلبة في مسجد رأس بيروت
وخطبت فيهم خطابًا نشرته في الجزء الأول من المجلد الذي صدر في المحرم سنة
1327 قلت في آخره ما نصه:
(إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم
وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب، وإني أُجِلُّكم عن قصد
العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته) .
(وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم
وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة
فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت ليَ الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا)[1]
(إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة لسماع تعاليم دين
غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين: {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) اهـ.
ثم أنشأت في هذا مقالة عنوانها: (المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية)
بينت فيها آراء المسلمين في تعليم أولادهم فيها، فقلت ما ملخصه:
(وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة إلى هذه المدارس التي أسست
على دعوة النصرانية لما فيها من العلم، ويعلمون بما فيها من الضرر لأولادهم في
الدين، فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على عقائد النشء الجديد يمنع من
الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع والمقتضي) وبينت رأي
المرجحين للمقتضي وحجتهم عليه أن المسلم لا يخشى عليه أن يصير نصرانيًّا.
ثم قلت: هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه
المدارس الدينية (ومنهم من يرجح المانع على المتقضي كما هو المعتمد في المسألة
عند أهل الأصول كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
قالوا فلان عالم فاضل
…
فأكرموه مثل ما يرتضي
فقلت: لما لم يكن عاملا
…
تعارض المانع والمقتضي
(ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في
دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم
بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يُظَنُّ أنه
منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا إلا إذا
قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مُجْمَع عليه معلوم من الدين بالضرورة.
ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم كالأولاد الذين يوضعون
في هذه المدارس أن يُسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون عندنا كفرًا وردة،
وأهونها أن تكون معصية، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ منا، ومات قبل
أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء الراسخين، مات
مرتدًّا لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا مات أبوه أو أمه
أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون أيضًا: إن
بعض فقهائنا صرح بأن الرضى بالكفر كفر فإذا رضينا بشيء من ذلك نكون نحن
مرتدين أيضًا) اهـ. ص 20 منه.
ثم ذكرت في هذه المقالة حديثًا دار بيني وبين أحد أساتذة هذه المدرسة قال فيه:
(إن المدرسة لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال الدينية التي يقررها بعض مذاهب
النصرانية ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق
مع كل دين وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في قلوبهم تقوى الله
وحب الفضيلة وتبعدهم من الإلحاد والتعطيل) وذكر أن المكان الذي تلقى فيه ليس
كنيسة بل مكانًا لأجل الخطب، وسألني: (هل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين
دخول هذا المكان ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟) هذا نص سؤاله فأجبته
بما نصه:
(قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل ومنهم من يتبع فقهاء
مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى
معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم في أمور الدين فيها وكذا
في خارجها إما محرم وإما كفر في تفصيل لهم في ذلك، فلعل تلاميذكم يعتقدون أن
دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن كان
لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت ليس معبدًا دينيًّا
ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام) ا. هـ صفحة 22 منه.
ثم شرحت له هذا القول بالتفصيل، وذكرت له أيضًا في المحافظة على النظام
قولاً معقولاً، وكان مدار كلامي على أن إكراه التلاميذ على نظام يخالف عقائدهم
ووجدانهم هو تربية لهم على النفاق الذي يُفْسِد كل دين وأطلت في ذلك وبينت له
سوء عاقبة هذه الخطة) .
هذا بعض ما قلته في ذلك الوقت وكتبته في منار سنة 1327، وأنا أتحدى
الشيخ يوسف الدجوي الذي افترى عليَّ بأنني أفتيت التلاميذ المسلمين بالصلاة مع
النصارى في كنيستهم ليتربوا على دين النصارى بأن يدلني على عالم مسلم كتب
مثل هذا التشديد في الصد عن تلك المدارس أو مثله! ! !
وفي إثر هذا أعفت المدرسة الأميركانية التلاميذ المسلمين من حضور الكنيسة
في تلك السنة، ثم جاءني من أحد وجهاء بيروت الكتاب الآتي في الموضوع:
كتاب في مسألة إكراه التلاميذ المسلمين على دخول الكنيسة في الكلية
الأميركانية
سيدي رجل الإسلام والمسلمين السيد رشيد أفندي رضا حفظه الله:
عرفتم بالتفصيل ما صار إليه أمر الاعتصاب الإسلامي في الكلية، وكيف أن
العمدة تلافت الخطر المحدق بها بإعفائها التلامذة من حضور الكنيسة مؤقتًا، والآن
وقد أوشكت السنة المدرسية أن تنتهي لم نشعر إلا والرئيس يستقدم التلامذة من
مسلمين ويهود لغرفته، طالبًا منهم التوقيع على صَكٍّ؛ تعهدًا منهم بالقيام بالواجبات
الدينية في السنة المقبلة: من دخول كنيسة ودرس توراة وإنجيل حسب الشروح
والتعاليق البروتستانتية التي ينفر منها المسلم، ويشك في صحتها كل من له مسكة
من العقل، وإذا آنس من أحدهم رفضًا أو ترددًا ينبئه بعدم قبوله في السنة الثانية،
حتى ولو لم يبق له إلا سنة أو سنتان لنيل الشهادة، وقد وقع هذا فعلا مع أحد
العثمانيين الإسرائيليين.
فيا ركن الإسلام المتين، أطلب منك أن تحمل بقلمك وعملك وفتاويك الحملة
الشعواء على خطة الكلية، وتظهر للملأ سوء نيتها، وتعدد لهم الأضرار الناتجة
عن تساهل المسلمين في أمور دنيهم حتى لا يبقى عذر للآباء، ولا حجة للأبناء،
وإن الكلية لفي خوف من المسلمين، ولا سيما إذا وجد من يحركهم تحريكًا لا تعمله
القوة الكهربائية؛ ليفسد ما بنوه من الأوهام منذ اثنتين وأربعين سنة.
عرفتك فيما مضى تَحُضُّ المسلمين على إيجاد مدرسة للاستعاضة عن الكلية
قبل مناقشتها الحساب، أو قبل الرغبة إليها بإصلاح نظاماتها، فنعم الرأي رأيك،
والنصيحة نصيحتك، وقد عرف كل مسلم ما لك من القدم الراسخة، وبُعْد النظر
في الأمور العقلية والنقلية، ولكن يا سيدي ما عسانا نفعل وقد دفع المسلمون إلى
الاعتصاب بتأثير من القوى الطبيعية وقوانينها التي سنها الله، وأهم تلك القواعد
هي أن كثرة الضغط توجب الانفجار.
فيا من اتخذك الكبير أخًا، والصغير أبًا، مُدَّ يد المساعدة إلى مسلمي الكلية
وحَرِّضِ المصريين بجرائدهم اليومية ومجلاتهم للاعتراض على الكلية، فلقد عرفنا
أن ليس للمدرسة من حجة تستند عليها، ولقد أقر كاتب العمدة أمامي بأن المدرسة
عثمانية تتبع كل أمر مصدره الآستانة، وذَكِّرْهم أن ما علينا إلا أن نصب الشكوى
من جميع الجهات، واعلم أن كل ما تفعله الكلية لتأكيد مركزها هو من باب السياسة،
وليس له ظل من الحقيقة، واعلم أن ليس كل كلام يصدر عن كاتب له تأثير
ككلامك.
فكأني بالأسد الآن وقد ثار من مربضه مدافعًا عن الأشبال، خيفة أن يصيبهم
أذًى من الأغرار، فيظهر أن للإسلام صوًى و (منارًا) يُسْتَضَاء بنوره إذا اشتد
حالك الظلام، فلا زلت للإسلام عضدًا، وللمسلمين مرشدًا.
…
...
…
...
…
...
…
... مُقِرّ بفضلك
بيروت
…
...
…
...
…
...
…
عبد القادر الغندور
أقول: لولا تلك العناية التي عرفها أهل بيروت مني في هذه المسألة بالقول
والفعل والسعي لَمَّا كنت بينهم لما لجئوا إِلَيَّ دون غيري من علماء الأزهر أو
غيرهم بمثل هذا الكتاب، وقد أجبت صاحب الكتاب يومئذ بما يأتي:
(المنار) هذا الذي عملته المدرسة الآن هو الذي كنا نحسبه فإن هؤلاء
الإفرنج أشد خلق الله تعصبًا للدين، وهم الذين نفخوا روح التعصب الذميم في
الشرق كما بيَّنا ذلك مرارًا، ولكنهم هم ومن ربوه على تعصبهم يشيعون في بلادنا
أن الشرق هو مهد التعصب (رمتْنِي بدائها وانْسَلَّتْ) حتى راج تزييفهم هذا على
الجمهور زمنًا. ولا يبعد أن يعدوا كراهتنا لإكراههم إيانا على دينهم تعصبًا منا
وتساهلاً منهم! ! !
إنهم علموا أن الحكومة العثمانية الآن تمنعهم من إكراه غير النصارى على
التعاليم والأعمال النصرانية، ولا يمكنهم أن يعبثوا بها كما كانوا يعبثون في زمن
عبد الحميد، فلجئوا إلى هذه الحيلة التي ليس أمامهم سواها ولا يرجعون عنها بحملة
الجرائد عليهم؛ لأن بث دينهم هو الغرض الأول لهم من مدارسهم لا سيما في
الشرق، فلا يثنيهم عنه شيء إلا أن يكون قوة الحكومة، والحكومة لا تمنع إلا
الإكراه. فالرأي إما ترك التلاميذ المسلمين لهذه المدرسة إن كانوا يستغنون عنها
بغيرها، وإما البقاء فيها مع تلافي ضرر التعاليم المخالفة لدينهم وجعل ذلك ذريعة
إلى منافع أخرى دينية ودنيوية.
أما الاستغناء عن المدرسة بمثلها أو خير منها فلا سبيل إليه؛ إذ لا يوجد في
بلادنا مثلها في تعليمها وتربيتها، وأما الثاني فهو ميسور والذي ننبه إليه منه أمور:
(1)
مطالعة الكتب الإسلامية التي تبين حقيقة الإسلام ككتب الأستاذ الإمام
وأقواله في التوحيد والتفسير والنسبة بين الإسلام والنصرانية وكتاب روح الإسلام
للقاضي أمير علي.
(2)
مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم التعليمية الدينية ككتاب أضرار تعليم
التوراة والإنجيل لأحد علماء الإنكليز وهو يوجد بالعربية والإنكليزية وغيره من
الكتب الإنكليزية التي يمكن أن يرشدهم إليها سليم أفندي.
(3)
المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة إذا أمكن وغير
ذلك من الأعمال الإسلامية كالصيام في هذه الأيام.
(4)
ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومنه التواصي
بإعداد النفوس لمسابقة القوم إلى مثل عملهم في الجمع بين العلم والدين، وإنشاء
مثل هذه المدرسة في بيروت وغيرها من البلاد فإن عملهم هذا مما يُحْمَد.
قد بيَّنا فيما كتبناه عن مسألة هذه المدرسة في (هذا العام وفي العام الماضي)
أن المسلم لا يكون نصرانيًّا كما قال السيد جمال الدين وغيره من العارفين، وقلنا
هناك أيضًا: إن هذا التعصب من هؤلاء الإفرنج لا سيما القائمين بأمر هذه المدرسة
هو الذي يحيي الشعور الديني في نفوس غير النصارى من التلاميذ في هذه المدرسة،
فعمل رجال المدرسة يأتي بنقيض ما يريدون منه ويصدق فيه على المسلمين قوله
تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) .
إن المسلم البصير بدينه لا يمنع من النظر في كتب أي دين من الأديان ولا
من سماعها، ولكن علماء الإسلام متفقون على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلبس بعبادة
أهل دين آخر، ويعدون تلبُّسَه بها الذي يكون به كأهلها لا يميزه الرائي عنهم من
الردة. فإذا ثبت عند القاضي ذلك في دعوى إرث مثلا فإنه يحكم بأن من هذا شأنه
لا يرث من أبيه المسلم. وما أظن أن تعصب عمدة المدرسة يصل إلى هذا الحد،
فإن هم وصلوا إليه ورفع الأمر إلى الحكومة فإنها تمنعهم منه بلا شك، سواء تعهد
التلميذ به أم لا، نعم ما كل ما يُحْكَم به في الظاهر يوافق الباطن، وما كل ما يسميه
النصارى صلاة دعاء ممنوع عندنا، ولكن التشبه بهم فيما هو خاص بهم من أمر
الدين ممنوع قطعًا. اهـ. من آخر جزء شعبان من منار سنة 1327.
وملخص هذا الجواب أن مسألة دخول الكنيسة تمنع الحكومة العثمانية المدرسة
منه، وإن أخذت من الطلبة عهودًا به فيجب أن يرفعوا أمرهم إليها إن عادت إليه
المدرسة، وإن ما يخص الأهالي من هذه المعاملة فهو أن يتحروا مقاومة ما تريد
المدرسة منها بضده أعني شدة الاعتصام بالدين والنفور من المخالفين إلخ.
فهذا ما عبَّر عنه الدجوي بافتائنا التلاميذ المسلمين بحِلِّ الصلاة مع النصارى
في كنائسهم مع علمه بكل الجهاد الذي جاهدناه في صدهم عنه، وإرشادهم إلى
الاعتصام بالإسلام بأنفع العلم والعمل.
ومنه أنني سعيت في بيروت لإقناع المسلمين بإخراج أولادهم من المدرسة
الكلية الأميركانية وغيرها من مدارس النصارى، وجمع المال لإنشاء مدرسة كلية
إسلامية تغنيهم عنها أو مساعدة المرحوم الشيخ أحمد عباس بما يتمكن به من إيجاد
جميع العلوم والفنون في مدرسته؛ فعجزوا عن ذلك وعلمت منهم أنه لا يمكنهم
الاستغناء عن تعليم أولادهم في تلك المدراس، وكان منتهى ما أنذرتهم إياه الخوف
على أولادهم من الردة، وأما الجزم بها فغير جائز ويترتب عليه فساد كبير.
فلتخبرنا مشيخة الأزهر هل كان يمكن يومئذ أن نكتب في الموضوع خيرًا مما
كتبناه، أو يمكن اليوم تخويف المسلمين وصدهم عن هذه المدارس بأشد مما كتبناه
في ذلك المنار التي عزا إليه محرر مجلتها فريته، أو في الجزء الثالث من منار
هذه السنة (1351) في فتوى طويلة، وقد ذكرت للشيخ الدجوي فقال: إن هذا
من تخبط صاحب المنار وتناقضه فيما يكتبه (! ! !) ولا خلاف ولا تناقض إلا في
مزاعمه وبهائته المفتريات، وقد فضحه الله تعالى بها حتى عرفت حقيقته عند من
كانوا يظنون أنه على شيء من العلم والفهم، أو الصدق في النقل والعزو.
وليس العجب أن يشتهر مدرس أزهري كالدجوي بالعلم والفهم ويظن فيه
الصدق وتحري الحق، ثم تظهر الحوادث للناس فيه خلاف ما كانوا يظنون فيه،
وإنما عجب العجب أن يُقِرَّ شيخ الأزهر هذا الرجل -بعد ظهور أمره- على
التدريس في الأزهر والتحرير في مجلته ويأتمنه على العلم والدين، والواجب عليه
أن يكلفه تبرئة نفسه مما أثبتناه من افترائه وجهله بما يقنع الناس الذين يقرءون
مقالاتنا وهم يعدون بمئات الألوف أو يعاقبه بمنعه من التدريس والتحرير، وأنَّى
يفعل هذا من يُخْرِج من الأزهر أفضل المدرسين وأنفعهم بحجة الاستغناء عنهم،
ومنهم خير من نعلم من مدرسي الأزهر عناية بعلم السنة التي كادت تنسخ وتزول
من الأزهر، ولعل هذا أكبر ذنبهم، والله أعلم، وله الأمر وهو العلي الكبير.
* * *
المقال الثالث عشر
البهيتة السابعة ما سماه تطبيق القرآن على مذهب داروين
قال بعد مسألة الجن: (ومثل ذلك ما قاله في مذهب داروين في أول تفسيره
لسورة النساء: وأنه يجوز تطبيق القرآن عليه، وما أدري كيف يفعل في قوله
تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59)
إلى آخر ما جاء في الكتاب والسنة، مع أن كثيرًا من الأوربيين يأبون هذا المذهب
كل الإباء، وهل يبقى مع مثل تلك التأويلات وثوق بكتاب الله الذي أصبح قابلاً لكل
تأويل، وأصبح المراد منه غير معروف حتى في أصول الدين كالإيمان بملائكة الله
تعالى.
هذا نص عبارته في البهت، ويليه عبارة أخرى في التهكم والسَّبّ، ومن
عجائب جرأة هؤلاء الجامدين المقلدين لأمثالهم من الخلف، والمعادين لمذهب
السلف، أنهم يؤولون أكثر صفات الله تعالى وأفعاله بزعمهم أن نص كتاب الله
تعالى ونصوص الأحاديث النبوية فيها تستلزم الجسمية أو الجهة في عقولهم، وهي
مُحَال ويجهلون متبعي مذهب السلف الذين يوجبون وصف الله تعالى بما وصف به
نفسه من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل، حتى إن الرجل يقول: إنه لا يؤمن
بإله في السماء؛ لأن قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) يجب
تأويله بأنه ليس في السماء ولا على العرش، وأنه لا يجوز إطلاقه كما أطلقه الله
تعالى، بل ابتدع هذا الدجوي في مجلة الأزهر تأويل أحكم المحكمات من آيات
توحيد الله وعبادته لأجل أن يصحح بدع العوام والجاهلين ويبيح لهم دعاء غير الله
من الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد، وهو ما لم يبلغه شرك العرب في جاهليتها،
فإن الله تعالى قال فيهم: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان:
32) فهو يستبيح لنفسه تأويل أصول عقيدة الإسلام لتصحيح البدع الوثنية، ثم
يزعم أننا إذا أولنا النفس الواحدة بغير آدم فماذا يبقى لنا من القرآن؟ وإنما هذا
تفسير بظاهر اللفظ لا تأويل، والمراد منه تنزيه القرآن عن نقض شيء فيه، وكان
قد بسط هذا الاعتراض من قبل في جريدة الأفكار كما بيَّناه من قبل في المقالين
الأول والرابع من هذا الرد، وقلنا في الرابع: إن الشيخ الدجوي قد اعتذر عنه
عقب نشره في جريدة الأفكار سنة 1335 إذ خاف أن نقاضيه إلى محكمة العقوبات،
فيضطر إلى الاعتذار فيها كما اعتذر زميله في ذلك العام، وكان مما بَهَتَ به
صاحب المنار افتراؤه عليه أنه قال: إن آدم عليه السلام من سلالة القرود، وأنه
ليس أبًا الجميع البشر، وكانت حجته في اعتذاره أن الذي قرأ له غَشَّه وهو أعمى
لا يُبْصِر، ولكنه عاد في هذه السنة إلى الطعن علينا بما كتبه واعتذر عنه.
وكان الذي أثار هذه الفرية في نفسه وحمله عليها ما نقلته عن الأستاذ الإمام
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) من أن كلمة النفس
الواحدة ليست نصًّا أصوليًّا ولا ظاهرًا في آدم عليه السلام، وأنها مع ذلك لا يمكن
أن يعترض عليها أحد لا الذين يقولون: إن آدم هو الأب لجميع البشر ولا غيرهم
حتى الذين يقولون: إن للبشر عدة أصول، وبيَّن ذلك بما يراجع في أول تفسير
سورة النساء من جزء التفسير الرابع أو مجلد المنار الثاني عشر.
وقد وضحت كلامه (رحمه الله تعالى) فيما علقته عليه بأن المفسرين كالإمام
الرازي وغيره ذكروا في تفسير هذه الجملة {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف:
189) من آية سورة الأعراف: ثلاثة أقوال: أحدها قول القفال إن هذه القصة
وردت على سبيل ضرب المثل، والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة،
وجعل من جنسها زوجها إنسانًا يساويه في الإنسانية، والثاني أن الخطاب لقريش،
والمراد بالنفس الواحدة جدهم قُصَيّ، والثالث أن النفس الواحدة آدم، وتأول ما يرد
عليه من الإشكال في قوله تعالى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف:
190) مع عصمة آدم من البشر بما تراه فيه. فلو كان لفظ {نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) نصًّا في آدم عليه السلام لما كان هناك وجه للقولين الآخرين. وكيف
يكون نصًّا أو ظاهرًا فيه ولفظ (نفس) اسم جنس نكرة، وآدم علم شخص معرفة؟
فتفسير هذه النفس بآدم تفسير بالمراد لا بمعنى اللفظ.
وذكرت أيضًا ما نقله المفسرون وغيرهم عن الإمامية والصوفية من أنه كان
في الأرض قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب وعندنا آدمون كثيرون، فراجع ذلك
في روح المعاني للآلوسي وراجع ما قالوه أيضًا في تفسير: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) من قول بعضهم: إنه كان فيها بشر قبل آدم هم
الذين أشار إليهم الملائكة بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة: 30) ثم قلت بعد بيان استدلال شيخنا وما وضحته به ما نصه (صفحة
326 من جزء التفسير الرابع) .
(ثم إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام يرد الشبهات التي ترد في هذا المقام،
ولكنه لا يمنع المعتقدين أن آدم هو أبو البشر كلهم من اعتقادهم هذا؛ لأنه لا يقول:
إن القرآن ينفي هذا الاعتقاد، وإنما يقول: إنه لا يثبته إثباتًا قطعيًّا لا يحتمل
التأويل. وقد صرحنا بهذا لأن بعض الناس كان فهم من درسه أنه يقول: إن
القرآن ينافي هذا الاعتقاد أي اعتقاد أن آدم أبو البشر كلهم، وهو لم يقل هذا
تصريحًا ولا تلويحًا، وإنما بيَّن أن ثبوت ما يقوله الباحثون في العلوم وآثار البشر
وعادياتهم والحيوانات من أن للبشر عدة أصول، ومن كون آدم ليس أبًا لهم كلهم
في جميع الأرض قديمًا وحديثًا - كل هذا لا ينافي القرآن ولا يناقضه ويمكن لمن
ثبت عنده أن يكون مسلمًا مؤمنًا بالقرآن، بل له حينئذ أن يقول: لو كان القرآن من
عند محمد صلى الله عليه وسلم لما خلا من نص قاطع يؤيد الاعتقاد الشائع عن أهل
الكتاب في ذلك بما لم تستطع اليهود أن تعارضه من قبل بدعوى مخالفته لكتبهم،
ولم يستطع الباحثون أن يعارضوه من بعد لمخالفته ما ثبت عندهم، وليت شعري
ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت
عنده بأن البشر من عدة أصول؟ هل يقولون: إذا أراد أن يكون مسلمًا وتعذر عليه
ترك يقينه في المسألة أنه لا يصح إيمانه، ولا يقبل إسلامه، وإن أيقن بأن القرآن
كلام الله، وأنه لا نص فيه يعارض يقينه؟ ؟ اهـ.
وإنما بيَّن الأستاذ الإمام في تنزيه القرآن ما ذكر ووضحته بما ذكرت؛ لأننا
نعلم أن كثيرًا من المسلمين يعتقدون صحة نظرية داروين في جملتها، وطالما
حاججناهم فيها كما سيأتي، ولكن لا نقول بكفر مَن يؤمن بالله وكتابه ورسوله منهم،
ولا أن هذا الرأي مانع من صحة إسلام من يهديه الله إلى الإسلام ممن يرون
صحة هذه النظرية أو نظرية تعدد أصول البشر، ولكننا لم نؤول نصًّا من القرآن
ولا ظاهرًا من ظواهره؛ لأجل تطبيقه على هذه النظرية التي لا نعتقد صحتها من
كل وجه.
وقد ذكرت في المقال الأول أن عالمًا من علماء تونس الأذكياء لا يبلغ الدجوي
مُدَّهُ في العلم ولا نصيفه قد انتقد عبارة الأستاذ الإمام وإقرارنا لها، وكتب إلينا بذلك
ما نشرناه له ورددنا عليه من بضعة عشر وجهًا فاقتنع بما كتبناه.
وخلاصة الكلام في المسألة أن مراد الأستاذ الإمام مما قرره أن من معجزات
القرآن في تعبيره عن أمور الخلق أن يذكر المسائل بما لا تستنكره معلومات العرب
الأميين في عصر التنزيل ولا معلومات غيرهم ممن خوطبوا به في العصر الأول،
ثم ترتقي معارف البشر في هذه المخلوقات ارتقاء عظيمًا حتى تصل إلى ما نعلم
ونسمع ونبصر في هذا العصر، ويبقى تعبير القرآن فوق كل علم وكل ارتقاء لا
يمكن أن ينهار، ولا أن ينقض من بنائه العظيم جدار، ولا أن يسقط منه حجر من
الأحجار، مع أننا نرى فحول علماء كل عصر كلما ألفوا كتابًا فيما وصلت إليه
معارفهم الواسعة من أمور العالم يجدون من الباحثين من ينقض كثيرًا من مسائله،
بل نرى العالم الواحد منهم إذا أعاد طبع كتابه بعد سنين قليلة من تأليفه يصحح
كثيرًا من مباحثه. فهل يعقل أن يكون في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن
يأتي بمثل هذه التعبيرات التي يستفيد البشر منها العبرة المرادة في كل زمن بما
يناسب معارف أهله من غير أن يمسها ما ينقض شيئًا منها، أو يصدّ الناس عن
الاهتداء بها؟
ولكن أمثال الشيخ يوسف الدجوي من علماء المناقشات في عبارات الأشموني
والصبان وحواشي مختصر السعد التفتازاني وجمع الجوامع، وإيراد الاحتمالات
الكثيرة فيها لا يعقلون مثل هذا الإعجاز في القرآن، ولا يفقهون فيها مراد عليم
كبير كالأستاذ الإمام، كما أنهم لا يفقهون كلامه في عظمة نفس المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام، وأنه لا يمكن أن يؤثر فيها سحر السحرة أولي الأوهام، بل
ينكرون تحقيقاته التي لا تصل إليها أفهامهم المحصورة في مناقشات كتب المتأخرين،
ويجبنون عن توجيه الاعتراض عليها؛ لئلا تلعنهم الأمة بعد إجماعها على أن
مصر لم تنجب عالمًا ربانيًّا وحكيمًا تفتخر به مثله، فيوجه أجرؤهم على التحريف
وقول الزور كالشيخ يوسف الدجوي اعتراضه على ناقل علمه وحكمته وناشر فضله
ومزاياه وما هو إلا صاحب المنار، ويظاهره على ذلك ضريبه في علمه واعتقاده
الشيخ الأحمدى الظواهري فيما يظهر؛ إذ يستعمله في نشره في مجلة الأزهر، ولا
يأذن بأن ينكر عليه فيها منكر.
أما قول الشيخ يوسف الدجوي: وما أدري كيف يفعل في قوله تعالى: {إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59) إلخ، فجوابه
أولا: أنه لا يعقل أنه لا يدري ذلك؛ إذ لا بد أن يكون راجع تفسيرنا لهذه الآية
وأمثالها لأجل تأييد طعنه علينا أن وجد فيها ما يؤيد رأيه، وثانيا أنه إن كان صادقًا
في قوله: إنه لا يدري، فهو أنه لا يحب أن يدري؛ لأنه لو كان يحب أن يدري
لراجع تفسيرنا لهذه الآية ولغيرها في معناها، ولا سيما الآيات التي انفردنا
بتفسيرها بعد وفاة شيخنا رحمه الله كقوله تعالى في سورة الأنعام: {هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام: 2) الآية، فقد قلت في تفسيرها من صفحة 296 من
جزء التفسير السابع ما نصه:
هذا كلام مستأنف جاء على الالتفات عن وصف الخالق تعالى بما دل على
حمده وتوحيده إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، يذكرهم به
بما هو ألصق بهم من دلائل التوحيد والبعث، وهو خلقهم من الطين وهو التراب
الذي يخالطه الماء فيكون كالعجين، وقد خلق الله آدم أبا البشر من الطين كما خلق
أصول سائر الأحياء في هذه الأرض؛ إذ كانت حالتها مناسبة لحدوث التولد الذاتي،
بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فبنية الإنسان مكونة من
الغذاء ومنه ما في رحم الأنثى من جراثيم النسل وما يلقحه من ماء الذكر، فهو
متولد من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان
المتولد من الأرض، فمرجع كل إلى النبات، وإنما النبات من الطين، ومن تفكر
في هذه ظهر له ظهورًا جليًّا أن القادر عليه لا يعجزه أن يعيد الخلق كما بدأه إذا هو
أمات هذه الأحياء بعد انقضاء آجالها التي قضاها لها في أجل آخر يضربه لهذه
الإعادة بحسب علمه وحكمته اهـ.
وفي معناه ما كتبته في تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ
ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (الأعراف: 11) الآية وهذا نصه من (ص328 من جزء
التفسير الثامن) :
(الخطاب لبني آدم، والمعنى خلقنا جنسكم أي مادته من الصلصال والحمأ
المسنون، وهو الماء والطين اللازب المتغير الذي خلق منه الإنسان الأول، ثم
صورناكم بأن جعلنا من تلك المادة صورة بشر سَوِي قابل للحياة، أو قدرنا إيجادكم
تقديرًا ثم صورنا مادتكم تصويرًا إلخ؛ ثم ذكرت الأقوال المروية عن ابن عباس
وغيره من مفسري السلف وقلت في آخرها: والتقدير الذي ذكرناه أولا هو الموافق
لما عليه الجمهور، والإنسان الأول آدم) اهـ. فهذان نصان صريحان في
اعتقادنا أن آدم هو الإنسان الأول، وأنه أبو البشر ناقضًا لما افتراه علينا الشيخ
الدجوي ومُكَذِّبًا له.
وأما آية خلق عيسى كخلق آدم فقد كتبت في تفسيرها (ص 319 ج3) ما
نصه:
(أقول بعد أن بيَّن سبحانه خلق عيسى ومجيئه بالآيات، وما كان من أمر
قومه في الإيمان والكفر به، كشف شبهة المفتونين بخلقه على غير السنة المعتادة
والمُحَّاجين فيه بغير علم، وردَّ على المنكرين لذلك فقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آل عمران: 59) أي أن شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه
على غير مثال سبق كشأن آدم في ذلك ثم فسر هذا المثل بقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
} (آل عمران: 59) أي قدَّر أوضاعه وكوَّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء
فكان طينًا لازبًا ذا لُزُوجَةٍ: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 59) أي ثم
كوَّنه تكوينًا آخر بنفح الروح فيه اهـ.
مذهب داروين والإسلام:
وجملة القول: أن ما بهتنا به الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر من أننا
نقول بتطبيق القرآن على مذهب داروين فهو كذب مفترى كغيره من مفترياته، وإن
في مجلد المنار الثاني عشر الذي استنبط منه سائر هذه المفتريات رسالة لشيخ
الصحافة في سورية عبد القادر أفندي القباني جعل فيها مذهب داروين دينًا مناقضًا
للأديان المعروفة في البلاد العثمانية وناقضًا لها وقد نشرتُها له وعلَّقْتُ عليها تعليقًا
قلت فيه (ص635 منه) : (أؤكد لصديقي الكاتب أن مذهب داروين لا ينقض -
إن صح وصار يقينًا - قاعدة من قواعد الإسلام، وأعرف من الأطباء وغيرهم من
يقول بقول داروين وهم مؤمنون إيمانًا صحيحًا، ومسلمون إسلامًا صادقًا، يحافظون
على صلواتهم وسائر فرائضهم، ويتركون الفواحش والإثم والبغي التي حرم الله على
عِبَادِهِ عملا بدينهم، على أن هذا المذهب علمي ليس من موضوع الدين في
شيء) .
فقولي: (إن صح وصار يقينًا) صريح في أنه لم يصح وأنه لا يرجح أن
يصح، وكان هذا هو المستقر في رأيي مما بسطه أستاذنا الشيخ حسين الجسر
العلامة الشهير في كتاب (الرسالة الحميدية) وأقره عليه علماء سورية وعلماء
الترك وغيرهم من العلماء كما صرَّحت به في المقال الأول من هذه الردود.
وأما رأيي التفصيلي في مذهب داروين الذي كنت أرد به على القائلين به قولاً
وكتابة ففيه أجوبة على أشهر أدلتهم عليه وقد ابتليت بدفع شبهاتهم كغيرها من
الشبهات على الدين. وأوسع هذه المباحث ما نشر في الجزء الثامن من مجلد المنار
الثلاثين (ص 593) وهي شبهات ألقاها إليَّ بعض الشبان كتابة في أثناء
محاضرة لي على منبر جمعية الشبان المسلمين فيعلم منها مبلغ بهتان الشيخ يوسف
الدجوي عليَّ، وقلبه للحقائق وإسناده إليَّ ضد ما هو ثابت عني في مواضع من
مجلة المنار وتفسيره، وذلك برهان قاطع على تعمده افتراء الكذب وسوء نيته فيه.
وهذه البُهْيَتة آخر البهائت التي نشرتها له مجلة الأزهر في الجزء الخامس من
هذه السنة (1351) ووعدت بتفنيدها وسأنشر بعدها مقالة الرد على احتجاجه
لبدعة الزيادة في الأذان أو عليه إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كذا قلت في الخطاب، والحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما وهو فيهما من حديث جابر:(وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) وفي مسلم من حديث حذيفة: (وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا وجعلت تربتها لنا طهورًا) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من كتاب الإنجيل والصليب
(تابع لما نشر في الجزء العاشر م 32)
الباب الثالث
(أيادوكيا) بمعنى (أحمد)
الكلمة الأصلية التي ترجمت عنها كلمة (أيادوكيا)
نقول: إذا لم يكن الإنجيل الأصلي قد رفع من الميدان منذ زمن لوقا،
أو نقول: لكي لا نعرض أنفسنا للتهمة بجرم الافتراء؛ إذ ربما كانت أنشودة
الملائكة موجودة بنصها الأصلي؛ ثم أعدمت في عهد تصرفات مجمع نيقية
التطهيرية: لماذا لا يوجد النص الأصلي لهذه الآية؟ لماذا يحاولون أن نقتنع
ونخضع لدعوى القائل: إن (أيادوكيا) ترجمة مطابقة للكلمة التي كانت في
المتن الأصلي، وبصورة موافقة للقاعدة اللسانية الحقيقية؟ فلو قام أحد البَابِيِّينَ
فرضًا وترجم هذه الآية بقوله: (الحمد لله في الأعالي وعلى الأرض لوح.
وللناس باب! !) فبأي حق وصلاحية يمكن أن يرد ويرفض؟ والمتن الأصلي
غير موجود؛ ليكون للكنيسة حق الاعتراض والمؤاخذة! إلا أن البابي مجسم أو أنه
يعتقد بإنسان قد تأله، وهو أيضًا يدعي الألوهية، وأنه يعطي ألواحًا وآيات
كحضرة (يهوه) معبود اليهود.
وها أنذا أسأل: ماذا كان أصل الكلمة المرادفة لكلمة (أيودوكيا) ؟ فعوضًا
عن (بروباجندا فيده) التي للكاثوليك، وجمعية ترجمة الكتب المقدسة إلى كل
اللغات التي للبروتستانت، أرجو أن يتلطفوا بالإجابة على هذه الأسئلة: -
ماذا كان نص العبارة التي كان التهليل والترنيم بها، والمترجمة بكلمة
(أيودوكيا) ؟ هيهات، لا شيء، عدم، كله ضاع وانمحى، وإن ما يضحكني
بزيادة هو قولهم: (بما أن لوقا ملهم من قِبَل الروح القدس، قد حافظ على الترجمة
من غير أن تَبْقَى حاجة إلى المتن) ولكن المترجمين في المخابرات الدولية دائمًا
يذهبون بمتن اللغة الأصلية مع الترجمة إلى الرئيس ويعرضونهما عليه معًا، فأين
متن اللغة السماوية؟ وسنبرهن في الفصل الثاني بصورة قطعية ومقنعة على أن
لوقا لم يكتب موعظته بالوحي والإلهام ولا بإلقاء الروح القدس. فالمتن الأصلي
مفقود، والترجمة مشكوك في صحتها!
المعنى اللغوي المستعمل لكلمة (أيودوكيا)
يجب أن تكون كلمة (أيودوكيا) ترجمة حرفية لكلمة سريانية مثل (إيرايتي)
أو لكلمة عبرانية. ولكن كتاب لوقا لم يترجم عن لسان آخر، فإن قال قائل: (كان
هناك مأخذ، وإن لوقا كتب كتابه مترجمًا عن ذلك المأخذ) فإن المعنى يزداد
غموضًا؛ لأن ذلك المأخذ في اللسان الأصلي مفقود.
ولا بد أن يرد على بال كل مسيحي وجود نسخة مكتوبة بالسريانية، وهي:
بشيطتا
سبرا طابا
ولكن تلك أيضًا مترجمة عن اليونانية، فعلينا إذًا أن نفهم معنى (أيودوكيا)
من اللغة اليونانية ومن قاموسها فقط، وذلك لا يكفي لحل المسألة، ولا بد أن تكون
الملائكة قد استعملت كلمة عبرانية أو بابلية أو كلمة أخرى من إحدى اللغات السامية
وإن لوقا ترجمها بـ (أيودوكيا) وههنا السر والظلمة.
وفي النسخة المسماة (بشيطتا) التي برزت إلى الوجود بعد مجمع نيقية
(أزنيك) مثل (الصبر جميل) بالعربية تمامًا. ولا شك أن الذين ترجموها بعبارة
(سورا طاوا) قد كتبوها متخذين بنظر اعتبارهم أن (إنجيل) عبارة عن بشارة أمل.
إن المقصود من الاشتغال بالألفاظ ليس إلا التمكن من إظهار حقيقة لم تزل
مكتومة أو خافية على كل الموسوية والمسيحية والإسلامية حتى الآن، فأرجو أن
يتعقبني القراء بصبرٍ وتأنٍّ.
لا يمكن أن تكون (أمل صالح) ترجمة حرفية مطابقة لأصل كلمة (أيودوكيا)
بل يجب أن تكون إحدى العبارتين مردودة، ولكن أيتهما؟
الآثوريون النسطوريون يقرءون الآية التي هي موضوع بحثنا عند شروعهم
بالصلاة، ولهؤلاء كتاب عبادة يسمى (قود شاد شليحي)
وهو أقدم من مجمع نيقيه بكثير. وبما أن ليس بين مندرجات هذا الكتاب المهم
الآيات العائدة إلى (قربان القديس) الموجودة في أناجيل مَتَّى ومرقس ولوقا
نستدل على أن الكتاب المذكور أقدم من الأناجيل الأربعة، ومهما يكن هذا الكتاب
فهو أيضًا قد أصيب بالتغييرات والتحريفات على مرور الزمان لكنه قد تمكن من أن
تبقى صحائفه مصونة عن إضافة الآيات المذكورة إليه المسماة (الكلمات الأصلية)
وفي هذا الكتاب (سبرا طابا) أي (أمل صالح) أو (بشارة جيدة أو سنة) وذلك
عوض عن (أيودوكيا) فلدينا وثيقتان فقط في أصل أنشودة الملائكة وهما كتاب
(لوقا) وكتاب (قودشا) .
ليت شعري أي واحدة من هاتين الوثيقتين المستقلة إحداهما عن الأخرى هي
أكثر اعتبارًا وأحرى بالاعتماد عليها؟
لو كانت الملائكة في الحقيقة قد أنشدت (أمل صالح) لكان الواجب على لوقا
أن يكتب عوضًا عن (أيودوكيا)(----)(أيوه لبيس) وعلى الأصح
(----)(إيلبيدا آغسى) كما كتب بولس وبما أننا وقعنا بين وثيقتين متضادتين
تناقض إحداهما الأخرى، لا يمكننا أن نرجح إحداهما بغير مرجح.
لم يكن في الكنائس القديمة كتاب باسم إنجيل باللغة العبرانية، أما الكلمة
(أيودوكيا) فهي بالعبرانية (----) راضون وهي تشمل على معان مثل (رضا،
لطف، انبساط ميسرة، حظ، رغبة) وهي اسم لفعل (---- رضا) المشابهة
لكلمة (رضا) العربية فتكون النتيجة أن (أيودوكيا) المترجمة مرة إلى اليونانية
Volantas bona (حسن الرضا) قد تحولت وتأولت بعد ذلك إلى كافة الألسنة
بالعبارات التي تفيد المعنى المذكور. أنا أدعي أولا أن تأويل (أيودوكيا) على هذا
الطراز لا يؤدي المعنى الحقيقي، وثانيًا أنه من الجهل والمفتريات الكفرية بمكان.
أولاً: لا يقال في اليونانية لحسن الرضا (أيودوكيا) بل يقال (---- ثليما)
وكان يجب لمن يكتب (----) أو (----) المطابقة تمامًا لحسن الرضا. ففي هذا
يكون تفسير أيودوكيا غلطًا وخطأً، ولعل الكنائس ولا سيما الأساتذة الذين يعرفون
اليونانية من أهلها وغيرها يعارضوني في ذلك فأقول: إن هذه الكلمة مركبة من
كلمتين (أيو) بمعنى (حسن، جيد، صالح، مرحى، حقيقي، حسن ملاحة)
وأما كلمة (دوكيا) وحدها فلا أعرف لها استعمالاً في شيء من كتب اللغة، وإنما
توجد كلمة (---- أو ---- دوكوثه) وهي بمعنى (الحمد، الاشتهاء، الشوق،
الرغبة، بيان الفكر) وها هي ذي الصفات المشتقة من هذا الفعل (دوكسا) وهي
حمد، محمود، ممدوح، نفيس، مشتهى، مرغوب، مجيد، والآن لننظر ماذا
بين أنبياء بني إسرائيل من الأفكار والمعاني في الألفاظ ---- محمود [*]
أنا لا أعلم بوجود رجل تاريخي يحمل اسم أحمد ومحمد قبل ظهور النبي
(الأخير الأعظم) صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فإن اختصاص حضرة
النبي الأكرم بهذا الاسم الجليل (محمد) لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة
والاتفاق، ولو قال قائل: إن أبوي النبي سمياه محمدًا قصدًا لأنهما قرآ كتب
الإنجيل، ومن هناك علما أنه سيأتي نبي باسم محمد، لكان من المحال أن يصغي
لقوله أحد.
وهنا أريد أن أفتش في كتب العهد القديم العبرانية المكتوبة قبل ظهور الإسلام
بألفين أو ثلاثة آلاف سنة عن المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ العربية (حمد، أحمد،
محمد) وعما تشتمل عليه كلمة (إسلام) في اللغة الرسمية السماوية من المعاني
الواسعة، فإن كلمتي (أحمد، ومحمد) أيضًا تحتويان على ذلك المقدار من المعاني.
---- لا تحمد ---- لا تطمع في بيت جارك (خروج 17: 20) إن ترجمتهم
التركية تنهى عن النظر بالشهوة والحسد، وذلك غلط؛ لأن نص الآية ---- لا
تشته زوجة جارك.
---- تحت ظله باشتياق جلست (نشيد الإنشاد 2: 3) حمدة (----
الحمد، الاشتهاء، الاشتياق، التعشق، التلذذ، الانشراح) .
---- الله اشتهى هذا الجيل أو الجبل الذي اشتهاه الله (مزامير 16: 68) .
---- أحمد الإعجاب، الاشتهاء، الانبساط، الانشراح، الرضا، حمد،
محمد، مليح، جميل المنظر، حميد المنظر (تكوين: 9: 2) .
(حمد وشمن) مرغوب، ---- مشتهى، مرضي، مطلوب،
مرغوب (أمثال 20: 21) والحال أنهم قد ترجموا الكلمتين (هتاوا، هاوا) من
هذا الباب نفسه بكلمة (أيبيشوميا) اليونانية التي هي أيضًا بمعنى الشهوة والاشتهاء.
إذن فإن (الإصحاح السبعين) يترجم الكلمتين (حمد) و (أهوى) كلتيهما
بالكلمة (أيبيثوميا)----(----) وباليونانية (أيبيثوميا) أحمد من الذهب أي
أشهى من الذهب.
---- كل (محمدتنا) خربت. وفي اليونانية ----(أشعيا 11: 64)
نحب الدقة في أنهم يترجمون كلمة (محمد يتو) التي في الآية المذكورة أعلاه ب
(أندوكساهيمون) .
إذن فمحمد ---- بمعنى Fameux Illustre، Glorieux، الفرنسية.
أي أن علماء اليهود الذين ترجموا كلمة (محمد) العبرانية مرة بمشتهى ومرة
بمرغوب وأخرى براض ومرضي، يعبرون عنها الآن بلفظ (أيندكسوس)
فالصفة (أيند وكسوس) المذكورة تحتوي على الصفات الجميلة كالاسم (محمد،
أحمد، أمجد، ممدوح، محتشم، ذو الشوكة) ، والبروتستانت ترجموا هذه الصفة
الجميلة بجملة (كل نفائسنا صارت خربًا) .
إذن فإن الكلمات (----) أو (----)(المحمدة الأحمدية) أو
(----) الحمدة التي ذكرها لوقا بمقابلة (أحمد، محمد) كلها الاسم المبارك
الذي ترنمت به الملائكة إشارة وإخبارًا بنبي آخر الزمان.
إن عبارة (حسن الرضا) لها كل المناسبة إلى (محمد وأحمد) فقط؛ لأنه إذ
كان قد وجد في جماعة الأنبياء من ظهرت فيه هذه المعاني: طيب ومقدس حري
بتوجه العالمين وجدير بحسن رضائهم وحائز على المحمدة، وكل الصفات الجميلة
بحيث يفيدهم ويرضيهم ويسرهم بكل ما يشتاقون إليه، فهو محمد صلى الله عليه
وسلم. فإن كان الذين لم يؤمنوا به ولم يطيعوه بحسن رضائهم، فمن ذا الذي
يرضون من بعده، وأما الذين يذهبون إلى الفكرة السقيمة، إلى أن المقصود من
(حسن الرضا) هو أن واجب الوجود كان سيئ النية، سيئ الرضا، حاملاً للبغض
والعداوة والغضب على نوع الإنسان إلى حين ولادة المسيح، وأنه بعد ولادة المسيح
غير هذه الصفات إلى ضدها وتصالح مع الناس، فليتفكروا جيدًا أن الجنود
السماوية (ملائكة الله) يعلمون أن خالقهم مُنَزَّه وبرئ من سوء النية والجهل وأنهم
يسبحونه ويقدسونه إلى أبد الآبدين.
إن أملي الوحيد هو الكشف عن حقيقة الموضوع والغرض الذي يجب أن
ترمي إليه هذه الكتب (العهد الجديد) أي أني أشعر بأن لا بد في هذه الكتب من
حقيقة. وأدرك أن الحقيقة المذكورة سعادة وخير لكافة البشر، وأني قد شرعت في
مطالعة الكتب المقدسة باللسان الأصلي التي كتبت بالدقة والإمعان لإظهار هذه
الحقيقة بكل وضوح (----) مترجمة عن كلمة (----) راصون العبرانية.
ليثق قرائي المحترمون؛ بأن الاختلاف المستحكم بين العيسوية والإسلامية
سينحل، ويفصل فيه حالا عند انكشاف المعنى الحقيقي الذي تحتويه هذه الكلمات
بعونه تعالى، فمن الضروري أن يتتبعوا المباحث في شأن الكلمات المذكورة
بالصبر والدقة.
يوجد في اللغتين العبرانية والبابلية القديمة فعل ثلاثي مجرد (---- رصه)
(---- رضا) بمعنى (رضي) العربية. وهذا الفعل مستعمل كثيرًا في كتب
التوراة وسنحقق هذه الكلمات الأجنبية المهمة في النسخة المسماة (سبتو اغتبتا)
وهي الكتب العبرانية المقدسة التي ترجمها سبعون عالمًا يهوديًّا من اللسان الأصلي
إلى اليونانية في مدة قرنين أو ثلاثة قبل الميلاد في إسكندرية مصر.
ومن المعلوم لدى علماء اللغات أن الأسماء والصفات والأفعال على قسمين،
أي أن كل اسم أو صفة إما مذكر وإما مؤنث على الإطلاق، مثلا محمد مذكر
ومحمدة مؤنث، وبالعبرانية (----) محمد مذكر (----) مؤنث. وفي
الأثورية (----) محمد مذكر، و (----) محمدة مؤنث. وأما اللغات
الغربية القديمة، فلا تتبع هذه القاعدة، وهي تطلق على الكلمة التي لا تذكير ولا
تأنيث فيها (غير جنسي) وفي اليونانية يستعملون التعبيرات (----)
بمقابلة محمد، وللمؤنث (----) أيند وكسي، ولعديم الجنس (----)
أيند وكسون. فاليونانيون يطلقون لفظ (أيندوكسون) على ما يصفه العبرانيون
بالصفة (----) محمد لذلك جاء التعبير في (إشعيا 11: 64)(----)
محمديتو، و (----) أيندو كساهيمون بمعنى أشياؤنا الحميدية النفسية (أندوكسا
وهو جمع أيندوكسون (---- محمديهم محمديها) نفائسهم نفائسه (مراثي أرميا: 1: 7: و11) وقد ترجمت في النسخة السبعينية ----) بمشتهيات
(---- كرم حمد) كرم الحمد الحديقة اللذيذة، مبتغى اللذة والشوق (إشيعا 2: 27 و 12: 32) ---- من أجل الحقول المقبولة (---- أو يحمدوت)
(---- دوكساسي) النفائس (دانيال 11: 38 و43)(---- حمدة النسوان)
شهوة النساء (دنيال 11: 27 و 38 و 43) .
(---- هحمدوت ثياب فاخرة)---- جميل، فاخر، مرغوب
(تكوين 15: 27) فالمعاني التي تحتوي عليها الكلمات (حمد، حميد، محمد) في اللغة العبرانية القديمة على الوجه الآتي:
1-
فعل: النظر بعين الطمع والشهوة، الغبطة، الاشتياق، الاشتهاء
صيرورة الشيء مرغوبًا ولذيذًا، الرغبة والإرادة، المدح والثناء، الحمد.
2-
صفة: مشتهى، شهي، معشوق، مقبول، فاخر، نفيس، ذو قيمة،
حميد، جليل، ممدوح، حبيب، لطيف، لذيذ، مكيف (أو مطرب) راض،
مسرور، مليح، جميل، شهير، ذو اسم (نامدار) ، صديق.
3-
اسم: أحمد، محمد، عشق، عال، علاء، محمدة، نفاسة، لذة ملاحة،
حسن، جمال، كيف، غلاء، انبساط، شهرة، صداقة.
ولكي لا أتعب القراء المحترمين أتيت على نماذج الألفاظ الأجنبية أعلاه على
وجه الاختصار، وإن صحائف كتب التوراة مملوءة بالألفاظ المذكورة، وكل
المعاني والتأويلات التي أعطيتها صحيحة حقيقية، وأنا مستعد كل وقت لإثباتها
واحدة فواحدة.
يقف المطالع مندهشًا عندما يحصي بحسن نية ما اشتملت عليه هاتان الكلمتان
(----. ----. حمد) من المعاني الكثيرة بهذا المقدار. ويجد أن
ألفاظ (حميد وأحمد ومحمد) تحتوي اسمًا وصفة، على معاني التفضيل: أحب،
وألذ، وأقوم، وأعلى، وأغلى، وأطيب، وأجمل، وأرغب، وأقبل، وأشرف،
وأحشم وأشهر شيء وشخص وجنس بعد الخالق تعالى.
(----) عاد يرضى حتى يرضى (إلى أن يرضى)---- أيودوكيص
(أيوب 6: 14)(---- أورصيتم)---- إذا ترضيهم (أيام ثاني 7: 10)
(---- رصي) كن راضيًا (ارض)----. أيودوكيصون.
(---- أيودوكياص) رضا، راضون، عناية (مزامير 12: 5)
(---- رصون ----. تيليما) مرضاة رغبة (دانيال 4: 8)
إن البروتستانت ترجموا (أيودكيا)---- راصون طوب (رضاء طيب)
لا نظن أن أحدًا يجترئ على إنكار القرابة والاقتران المعنوي وبين الكلمتين
(رضا، رضوان) المذكورتين أعلاه الواردتين في كتب التوراة والاسمين (حمد،
محمد) لأننا أوضحنا أن كلمة حمد العبرانية تشتمل على معان مثل (رضا، رغبة،
شهوة، عشق، طلب، إرادة، شوق) .
على أن في العبرانية كلمة أخرى (---- حفص) وفي العربية حفص
بمعنى (ميل، اشتهاء، رغبة، طلب، اشتياق) وبما أن كلمة راحون التي
ترجمت بها الأفعال والأسماء (حمد ومحمد) تستعمل أغلبيًّا في ترجمة وتفسير
حفص ثبت أن مدلول (حمد ومحمد) أوسع وأشمل.
وهنا أكرر قولي: إن (أيودكيا) لا يكون عبارة عن (حسن الرضا) الخيالي
المبهم وعديم المعنى، بل إنها بمعنى plaisir bon consentement
Bienvillance الفرنسية بمعنى (الرضا السرور وإرادة الخير) مثلا: أيودكيا في
اليونانية (---- إنشاء الله، بتوفيق الله، بعناية الباري) وكل ما يرغب فيه
الإنسان من مال وروح ونفس، وكل ما كان لديه محبوبًا ولذيذًا ومشهورًا ومحترمًا،
فهو موجود في معنى الكلمتين أحمد ومحمد.
_________
(*) يقول مصححه: إن اسم أحمد هو صيغة تفضيل من الحمد، واسم محمد صيغة مبالغة من التحميد ومعناه الذي يحمده غيره كثيرًا، وقد كان خاتم النبيين أحمد خلق الله لله، وهو الذي حمده الله أكثر مما حمد غيره من رسله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشقاق بين العرب الحضارمة
ودعوتهم إلى الصلح
للأمة العربية مزايا وفضائل كثيرة، ومنها كغيرها من الأمم عيوب كبيرة،
وشر عيوبها وأضرها عليهم: التفرق والشقاق الذي يثيره التحاسد والتنازع في الجاه
وحب التعالي، ومنه التنازع في الإمارة والملك. فلولا هذا التنازع الذي شجر بينهم
منذ العصر الأول لملكوا الشرق والغرب، ولكان أكثر البشر عربًا مسلمين بتأثير
عقائد الإسلام وقواعده الإصلاحية العامة المرشدة إلى رفع الإنسانية إلى الوحدة
والأخوة والكمال الممكن في الهدى والعلم والحضارة. وإنهم - وقد ضاعت خلافتهم،
وزالت حضارتهم، وثُلَّتْ عروش ممالكهم - لو اتحدوا اليوم وجمعوا شملهم كما
فعلت الأمم التي تفرقت شعوبها قبلهم كالجرمان والطليان لأمكنهم أن يجددوا للعالم
الإنساني هداية وحضارة ودولة تنقذ شعوب البشر التي تفوقهم علمًا وقوة وسيادة في
الأرض مما هي مستهدفة له من خطر وفساد، كما أنقذ سلفهم البشر مما كان قد
أفسدهم من مدينة الروم والفرس وغيرهم من الأقوام.
لقد كان أفضل مأثرة لعرب حضرموت أن ضرب تجار منهم في الأرض
يبتغون التجارة فبلغوا جزائر الهند الشرقية - جاوه وما جاورها - وأهلها وثنيون
فنشروا فيها الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ إلا للعرب أجدادهم، ونالوا الحظوة
عند أمرائها وحكامها الذين اهتدوا بهم، وأثروا وتأثلوا وكثروا ولو كانوا على
معارف واسعة لعمموا اللغة العربية فيها كما فعل سلفهم في غيرها، ثم كان أقبح
مساوئهم تجاه تلك المأثرة الفضلى أن دب إليهم داء الشقاق والبغضاء في الوقت
الذي تنبه فيه الشعب الوطني الأصلي للعلم والعمل وجمع الكلمة ومباراة الشعب
الهولندي السائد من جانب ومقاومة تيارات الإلحاد والدعايات الكفرية والبدعية من
جانب آخر.
انشقت عصاهم القوية فكانت شظيتين سميت إحداهما العلوية، والثانية
الإرشادية، كل منهما تحاول كسر الأخرى، ويخشى أن تفوز كل منهما بما تحاول
فيُقضى على هذه الجالية العربية العريقة المجد، العظيمة القدر في قلوب هذا
الشعب، فتصبح حصيدًا كأن لم تغن بالأمس.
كل منهما يعيب الآخر بما إذا صح كله كان قبحه وضرره دون محاولة علاجه
بما يضاعف الداء، حتى يتعذر الشفاء، وهو الحسد والبغضاء، التي سماها النبي
صلى الله عليه وسلم الحالقة: حالقة الدين، وقد انتهت فيهم إلى سفك الدماء، بعد
الإسراف في الطعن والسباب، فكيف إذا كان مبالغًا فيه، على عادة الناس في مثله،
فإن كانوا قد صاروا همجًا لا زعماء لهم كما قال الشاعر العربي:
لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
فلا بد من انتقام العدل الإلهي منهم على سنته تعالى في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال:
25) وليتدبروها وما يليها من قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) مع تدبر قوله تبارك اسمه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) .
وإن كان لهم زعماء يطاعون فعليهم أن يتداركوا الأمر، ويرأبوا الصدع، وإلا
كان عليهم وزرهم وأوزار الذين يتبعونهم في الإثم.
إنني لفي أشد الألم والحزن على هذه الجالية الكريمة، وطالما فكرت في
السعي إلى إصلاح ذات بينها، فلم أجد له طريقًا لاحبًا يرجى بسلوكه الوصول إلى
ما يرضي الفريقين، حتى إذا ما ألم بنا أخونا السيد إبراهيم السقاف من كبار
سروات العلويين، وبسط لنا ما كان بلغ به السعي مع صديقه وصديقنا الشيخ أحمد
السوركتي الأستاذ الأكبر للإرشاديين، واطلعنا على ما اتفقا عليه من شروط الصلح،
وما عرض لها من الفشل بسوء الفهم، تجدد عندي الرجاء في نجاح السعي،
فكتبت الخطاب الآتي، ونقلت له صورة منه في اليوم الذي سافر فيه من مصر
فأمضيتها له ليحملها إلى الفريقين (فحملها ونشرتها جرائدهما) وبقيت عندي
المسودة وهذا نصها:
خطاب صاحب المنار
لزعماء العلويين والإرشاديين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) .
من محمد رشيد رضا ابن السيد علي آل رضا الحسيني الحسني صاحب مجلة
المنار الإسلامي بمصر إلى إخوانه في الإسلام من جماعة العلويين والإرشاديين
الحضرميين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد طال العهد على ما شجر بينكم
من الخلاف والشقاق، وما نجم عنه من الطعن في الأنساب، والنبز بالألقاب،
واللعن والسباب، وقطع الأرحام، المنافية لأخوة الإسلام، وقد آلم ذلك جميع
المسلمين، وسر أعداء الإسلام من ملحدين ومليين، وجعلوا هذا حجة لهم على
دينكم، وأنتم دعاته وحماته، وأجدادكم مهاجرته وأنصاره، ولعل أخاكم هذا من أشد
المسلمين حزنًا وأسفًا على ما حل بكم، وتمنيًا على الله تعالى أن يوفقه لإصلاح
ذات بينكم، وطالما فكر في ذلك فلم يهتد إليه سبيلا.
ثم إنني رأيت في العام الماضي ما وفقتم له من وضع شروط للصلح معقولة،
وسرني ما بشرتنا به الجرائد من اتفاق زعماء الفريقين عليها، ولكن لم ألبث أن
قرأت في جرائد مهاجركم أنكم نكصتم على أعقابكم، وحللتم ما عقدتم بأيديكم،
فكنتم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
أيها الإخوان المسلمون:
إن محمدًا رسول الله وخاتم النبيين، الذي فضلكم الله باتباعه على العالمين،
لم يكن شيء بعد الشرك بالله والكفر به أبغض إليه من التفرق والاختلاف بين أمته،
وإنه ما أفسد عليه دينها، وأضاع مجد دنياها من بعده، إلا هذا التفرق والاختلاف،
وإنه ليحزنني أن أقول: إن التحاسد والتعادي والشقاق بين قومه العرب أشد منه بين
غيرهم من الأقوام والأمم، ولولا ذلك لكانوا أعز الأمم وأسعدها وأقواها، ولما هدموا
-بتفرقهم واختلافهم- تلك الصروح الشامخة التي بناها سلفهم باتحادهم وائتلافهم.
وإننا أيها الإخوان قد دخلنا في طور جديد من الانقلاب البشري يهاجم ديننا
فيه جيوش من الملحدين ومن (المبشرين) ومن المبتدعين، ومن المسلمين
المفرقين لوحدة الإسلام بالعصبية الجنسية واللغوية والوطنية (أيضًا) فديننا على
خطر في كتابه وسنته وهدايته وتشريعه ولغته، وهي قوام وحدة أمته، وأنتم أيها
العرب الخُلَّص أحق الناس بتلافي هذا الخطر وحفظ وحدة الأمة على اختلاف
أجناسها ولغاتها وأوطانها، وأنى يتسنى لكم هذا وأنتم أشد من جميع الأجناس
الإسلامية تفرقًا وتمزقًا، تخربون بيوتكم بأيديكم وأيدي أعدائكم، فأي شعب
يرضاكم قادة له وهذه حالكم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1)
أيها الإخوان المسلمون:
إنني نظرت فيما وضع مندوباكم من شروط الصلح، وفيما اقترح بعضكم لها
من تفسير يقصد به إغلاق باب الاختلاف في فهمها، وسد ذرائع التأويل السيئ
لشيء منها، فنقحت عباراتها، وبينت مجملها، بما أرجو أن يكون مقبولاً عند كل
منكم؛ لظهور المصلحة فيه عند أهل العلم والرواية منكم، وكل منكم يعلم فيما أظن
أنني حسن النية بريء من المحاباة في ديني، وأزيد على هذا أنه يمكنني أن أؤيدها
بتوقيعات أشهر زعماء المسلمين من أهل العلم والرأي في مصر وغيرها، فعسى
أن يرتضيها كل منكم، وتقر أعين المسلمين باتفاقكم الدائم إن شاء الله تعالى.
شروط الصلح بين جماعتي
العلويين والإرشاديين
(1)
يراعي كل من الفريقين في معاملة الآخر معنى الإخاء الإسلامي
الثابت بقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) والفضائل الدينية
المستمدة من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ،
والمساواة الشرعية التفصيلية في سائر الحقوق الدينية والأدبية والاجتماعية العرفية
في حدود الشرع المبنية في مذاهب أهل السنة والجماعة التي ينتمي إليها الفريقان،
ويدخل في هذه الحقوق العرفية اختصاص العلويين بلقب (السيد) ككل من ثبت
نسبه للسبطين الشريفين بالتواتر أو بغيره مما ثبت به الأنساب في الشرع، ويدخل
فيها إفشاء السلام بدءًا وردًّا، وعيادة المرضى وتشييع الجنائز وتهاني الأعياد
والقدوم من السفر.
(2)
يُدفن كل من كان من ماضي العداء والخصومة المؤسف كأن لم يكن
فلا يعاد إلى شيء منه، ويعاهد الله كل من الفريقين على اجتناب كل دعاية إلى
سوء أو طعن على الآخر في الصحف أو المدارس أو المجالس وغيرها، وكل ما
يخالف الشرع من السباب، والتنابز بالألقاب، والطعن في الأنساب، وغير ذلك
مما يؤلم النفوس ويجرح القلوب ويجدد الشقاق، لقوله تعالى: {َ وَلَا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) وقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32) .
(3)
يتعاون الفريقان على خدمة الإسلام ولغته ومقاومة أعدائه الطاعنين
فيه من دعاة الإلحاد والأديان والنحل المحدثة المخالفة لإجماع المسلمين الذين يعتد
أهل السنة بإسلامهم، وعدم موالاة أحد منهم عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .
(4)
يتعهد كل من الفريقين بكف السفهاء الذين ينتمون إليه عن الطعن
المحظور في الآخر، فإن لم يتمكن الزعماء والوجهاء من كف بعض سفهائهم عن
ذلك يعلنون الإنكار عليه والبراءة من سفهه بالطريقة التي يقتنع بها الفريق الآخر
أن طعنه غير صادر عن إغراء ولا رضا.
(5)
كل من يطعن على العلويين أو الإرشاديين من غيرهم يتعين على
جمعية الرابطة العلوية وجمعية الإرشاد أن تستنكر طعنه بما يدل على عدم الموافقة
عليه فضلا عن تهمة الإغراء به، إلا إذا كان انتقادًا علميًّا أو أدبيًّا أو دينيًّا
موضوعُهُ الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة الذين ينتمي أهل السنة إلى مذاهبهم.
وفي هذه الحالة يذكر المخالف بحكم الشرع وأدلته بالحكمة والموعظة الحسنة.
(6)
يعذر كل من الفريقين الآخر جماعة وأفرادًا فيما يخالفه فيه من الرأي
في المسائل الدينية غير الخارجة عن أقوال المذاهب الأربعة؛ لأن الاختلاف في
المسائل الاجتهادية طبيعي في البشر والاتفاق عليها كلها متعذر. والمسائل التي
عرف رأي الفريقين فيها يجتنب إثارة الجدال غير الودي فيها ما دامت موافقة أحد
هذه المذاهب فلا ينكر الآخذ بمذهب الشافعي (مثلا) على الآخذ بمذهب أبي حنيفة
أو مالك أو أحمد بن حنبل رضي الله عنهم، ويراعى مع الاتفاق على هذا الأصل
قاعدة: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) فلا
نتخذه وهو اجتهادي ظنيّ سببًا للتفرق والشقاق المحرم بالإجماع.
(7)
تتألف لجنة من العلويين والإرشاديين متساوية الأعضاء لمراقبة تنفيذ
مواد الصلح وشروطه، وتدارك ما عساه يبدو من أي الفريقين من مخالفة لها قبل
انتشارها وشيوعها الذي يتعسر معه تلافيها، فإن ظهر من أحد منها مخالفة لشرط
منها في الصحف أو غيرها ولم يمكنها إزالته توجه اللجنة نظر الهيئة العليا للفريق
الذي ينتسب إليه ذلك المخالف لتوقفه عند حده، وتعلن في أثر ذلك أنه لا دخل لها
في ذلك مطلقًا، فإن لم تتمكن من إيقافه عند حده يجب أن تعلن براءتها منه اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مجلة المنار سنة 33
نشرنا هذا البيان في بعض الصحف في شهر شوال الموافق شهر فبراير
(شباط)
سيصدر الجزء الأول من مجلد المنار الثالث والثلاثين في أول مارس من سنة
1933 والجزء العاشر في نهاية هذه السنة الميلادية بجعل شهري التعطيل في أولها
بدلاً من أثنائها المعتاد أو آخرها. وتعوض المشتركين عن جزئي هذين الشهرين
فترسل إلى كل من أدى قيمة الاشتراك تامة كاملة قبل انتهاء السنة ما هو بقدر
قيمتهما أو يزيد عليها من الكتب أو الرسائل المفيدة.
وسيقرؤون في الأجزاء الأولى من هذه السنة تتمة بحث (إثبات الوحي
المحمدي) بالأدلة العلمية العقلية وبيان أنواع مقاصد القرآن وعلومه في إصلاح
البشر الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي مما لم يسبق له نظير قط في
بيان كون الإسلام هو الدين العام الأخير للبشر، وأنه لا منجاة لمدنية الغرب
الحاضرة من تعادي الشعوب والملل المنذر لهم بالهلاك بدون هدايته، وهو يتضمن
دحض شبهة الماديين القائلين بأن وحي الأنبياء نفسي أي فائض من استعدادهم
النفسي لا إلهي من عالم الغيب، وفيه بيان لما أخطأ به موسيو درمنغام في كتابه
(حياة محمد) من تصوير هذا الوحي ومقدماته.
ويلي هذا البحث في عظمة موضوعه وطرافته بحث إثبات قوله تعالى حكاية
عن المسيح عليه السلام: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف:
6) والشواهد عليه من كتب العهدين القديم والجديد المؤيدة باللغات الآرامية
والسريانية والعبرية واليونانية لقسيس من علماء الآشوريين هداه الله إلى الإسلام في
القرن الماضي، وكذا بحث الخطر على الإسلام من الداخل والخارج وأنواعه
والمخرج منه الذي شخصناه في خطابنا الأخير في المؤتمر الإسلامي العام في
القدس الشريف. إلى غير ذلك من الحقائق والفتاوى في المشكلات التي لا توجد في
غير المنار.
ونذكر قراء المنار والراغبين في قراءته في عامه الجديد أن خسارتنا المالية
في إصداره كانت عظيمة في السنة الماضية لقلة الذين أدوا إلينا حقه بعذر العسرة
المالية، عسى أن يتفكروا فيتذكروا أن اشتراك كل واحد منهم في هذه الخدمة للملة
والأمة بجنيه واحد في السنة أيسر من بذل القائم بها وحده مئات من الجنيهات مع
بذل علمه وعقله وعمره في تحريرها وتصحيحها.
شر المشتركين في الصحف من ينوي ألا يؤدي حقها وهو قليل، ويليه
المماطل بالوفاء. وفي الحديث النبوي المتفق عليه: (مطل الغني ظلم) والغني:
الذي يجد القيمة. وفي حديث صحيح آخر: (لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته)
أي أن مطله يبيح ذمه باللسان والقلم، وعقوبته لدى الحكام في الدنيا قبل عقاب الله
تعالى في الآخرة.
وليفرض الماطل الظالم أن كل المشتركين مثله؛ إذ لا يرضى أحد لنفسه أن
يكون أظلم الناس، فكيف يمكن لصاحب الصحيفة في هذه الحالة أن يصدرها؟
نذكرهم بذلك لقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
55) وقوله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) وقوله سبحانه: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب آخر لمشتركي المنار من الطبقات الثلاث
تعلمون أيها الإخوان أننا كنا أشد أصحاب الصحف تساهلاً في اقتضاء قيمة
الاشتراك فلا وكلاء للتحصيل يُلِحُّون في الطلب، ولا دعوى ترفع إلى المحاكم على
أحد، ولا تشهير بذم مماطل في المجلة ولا في غيرها، ولا منع لإرسال المنار إليه
لزوال الثقة بذمته ودينه.
ولكن اشتداد العسرة اضطرنا في العام الماضي إلى ما لم يكن من عادتنا
فمنعناه عن بعض الماطلين في كثير من الأقطار؛ إذ ضاعفت الحكومة المصرية
أجرة البريد الصادر حتى أجرة الصحف، ولنحن في هذه العام أعجز عن
الاستمرار على إرساله إلى المُصِرِّينَ على مطلهم، وإن أكثر أهل وطننا على قربهم
منا لأشد مطلاً من غيرهم، فكيف يحكمون؟ وكيف نعمل لإمكان الثبات على هذه
الخدمة الواجبة؟
إن الرأي المعقول السهل هو أن يرسل المشترك المعسر ما عليه للمنار أقساطًا
ولو شهرية، وأن يتفضل علينا المدينون لنا بإخبارهم إيانا كتابة عما عزموا عليه،
وإن الكتابة إلينا بالاعتراف بالحق، وبحسن النية في الوفاء الذي يتيسر لهم، لهي
آية طهارة الذمة واتصال المودة الأخوية، وحب التعاون المستطاع على خدمة الملة،
وسيروننا إن شاء الله تعالى كما يحبون من قبول عذر، وصبر وشكر، وإنظار
مُعْسِر يطلب النَّظِرَة، وصلح مقلّ يطلب إسقاط بعض الحق المتأخر، ونقبل منهم
شهادتهم لأنفسهم.
وليتدبروا قوله تعالى في طبقات أهل دينه ودرجاتهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) .
هذه الدرجات الثلاث تظهر في جميع الأعمال: فالظالم لنفسه في المعاملات
المالية مع أصحاب الصحف وغيرهم هو الذي يؤخر إيتاء ما عليه إلى ما بعد
الاستحقاق، ويمطل في الوفاء كما ثبت في الحديث الصحيح - والمقتصد من يؤدي
ما عليه في أثناء السنة. وأما السابق بالخيرات فهو من يعطي قيمة الاشتراك سلفًا،
وأسبق منه من يزيد على الواجب نفلاً، ومن هذا القسم الأعلى من قراء المنار من
رأى ما كتبناه في شأن المشتركين في الجزء الماضي فأرسل إلينا حوالة بستة
جنيهات منها جنيه قيمة اشتراكه في المجلد الثالث والثلاثين سلفًا، وخمسة جنيهات
تبرع بها لخمسة من فقراء القراء الذي يجري انتفاعهم ونفعهم بما يقرءون، ولم
يسمح لنا بذكر اسمه، وهو ممن يعيشون عيشة الكفاف، وحسبه علم الله عز وجل،
وما أعد للسابقين بالخيرات من مضاعفة الثواب. وأما من يستحل أكل الحق الذي
عليه كله، فلا يعد من الوارثين لكتاب الله ولا من أهله، برأ الله جميع مشتركي
المنار من ذلك بتوفيقه وفضله.
_________