المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مباحث الربا والأحكام المالية - مجلة المنار - جـ ٣٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (33)

- ‌ذو القعدة - 1351ه

- ‌فاتحة المجلد الثالث والثلاثين من المنار

- ‌الحج نفقاته وشُقَّته ومَشَقَّاته

- ‌نموذج من كتاب الإنجيل والصليب

- ‌الشقاق بين العرب الحضارمةودعوتهم إلى الصلح

- ‌مجلة المنار سنة 33

- ‌خطاب آخر لمشتركي المنار من الطبقات الثلاث

- ‌ذو الحجة - 1351ه

- ‌شبهات حول الرسول والقرآن

- ‌أصول الدعوة المحمدية ومقاصدها العامة

- ‌تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي

- ‌قيام الحجة البالغة على ثبوت نبوة محمد العامة

- ‌خطبة الملك السعودي في حجاج هذا العام

- ‌بدعة الزيادة في الأذان أو عليه

- ‌جمال الإسلام المهجور أو المجهول

- ‌إلى شبان المسلمين

- ‌العلامة المصلح الشيخ محمد أمين الشنقيطي [

- ‌السيد أحمد الشريف السنوسي

- ‌الخوجه كمال الدين الهندي

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌أنباء العالم الإسلامي

- ‌لبنان الكبير وطن مسيحي

- ‌الاتفاق بين الدولة السعوديةوحكومة شرق الأردن

- ‌عسرة الحجاز وهضم حقوقه

- ‌نداء من حزب الاستقلال العربي في فلسطين

- ‌كتاب اللجنة العليا لصندوق الأمة بفلسطين

- ‌المحرم - 1352ه

- ‌الوطنية والقومية والعصبية والإسلام

- ‌مقدمتنا لتصدير كتابنقض مطاعن في القرآن الكريم

- ‌الإسلام ووثنية الهند وزعماؤها

- ‌تعليق على خطبة ملك المملكة العربية السعودية

- ‌مسألة التجنيس الفرنسي

- ‌التبشير أو التنصير في مصر

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌ربيع الأول - 1352ه

- ‌حكم الشرع فيمن يساعد اليهود على امتلاك فلسطينببيع أرضها وغير ذلك

- ‌أسئلة غيبية ومالية

- ‌مقدمة كتاب الوحي المحمدي

- ‌فاتحة كتاب المنار والأزهر

- ‌ولاية العهد للدولة العربية السعودية

- ‌مقاومة المبشرين وتخاذل المسلمين

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌وفيات الأعيان

- ‌جمادى الأولى - 1352ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌فصول من ترجمتي منقول من كتاب المنار والأزهر

- ‌الرؤى الصالحة

- ‌المكاشفات

- ‌شفاء المرضى بالرقية ونحوها

- ‌تكفير أزهري للمؤمنين بظواهر القرآن

- ‌ويل للعرب من شر قد اقترب

- ‌الملك فيصل الحسيني الهاشمي

- ‌تقريظ المطبوعات الحديثة

- ‌أصل الشيعة وأصولها

- ‌رجب - 1352ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌المستشرقون في موقفهم الخطير إزاء الإسلام

- ‌أصل الشيعة وأصولها

- ‌مباحث الربا والأحكام المالية

- ‌ثورة المرأة الإباحيةوخطرها على الأسرة فالأمة

- ‌فجيعة الإسلامباغتيال الغازي محمد نادر خان مللك الأفغان

- ‌دائرة المعارف الإسلامية

- ‌مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة

- ‌شعبان - 1352ه

- ‌استفتاء في مسائل نصرانية في القرآن

- ‌المطبوعات المنكرة في الدينومشيخة الأزهر

- ‌الحاجة إلى هذه الترجمة

- ‌ما بين الإمامين في جزيرة العرب

- ‌الملك نادر خان رحمه الله

- ‌رمضان - 1352ه

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌نموذجمن زوائد حواشي الطبعة الثانية لكتاب الوحي

- ‌نصيحة إسلامية خاصة عامة [*]

- ‌انقلاب التركستان الشرقي

- ‌خسارة الأفغان والإسلام بفقد الملك الهماممحمد نادر خان

- ‌دائرة المعارف الإسلاميةترجمة سيدنا إبراهيم فيها

- ‌العبرة بسيرة الملك فيصل(3)

- ‌كلمتانفي الشيخ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا

- ‌هذا رجل إلهي

- ‌آيات الله في الآفاقأو طريق القرآن في العقائد

- ‌ذو القعدة - 1352ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌النزاع الديني في ألمانيا

- ‌العبرة بسيرة الملك فيصل(4)

- ‌بيان من المعرض العربي العام في القدسإلى الأمة العربية الكريمة

- ‌المنشور القانونيالصادر من شركة المعرض العربي

- ‌إعذار تلو إنذار لهاضمي حقوق المنار

- ‌ذو الحجة - 1352ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌ويل للعرب من شر قد اقترب

- ‌تحرير محل التنازع بين الإمامين

- ‌تصدير كتاب الوحي المحمدي

- ‌مريم أم عِيسَى عليه السلامأخوتها لهارون بُنُوتها لعمران [*]

- ‌العبرة بسيرة الملك فيصل(5)

- ‌إعذار تلو إنذار لهاضمي حقوق المنار

الفصل: ‌مباحث الربا والأحكام المالية

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مباحث الربا والأحكام المالية

(كنا شرعنا في كتاب بحث فياض في تحرير حقيقة الربا وأحكامه وما

يتعلق به من الأحكام المالية في العقود والشركات والمصارف وغيرها؛ لكثرة ما

يستفتينا الناس فيها من الأقطار المختلفة، بدأناه برسالة الاستفتاء في حقيقة الربا

التي نشرتها حكومة حيدر آباد الآصفية الهندية ووزعتها مطبوعة على أشهر علماء

الأقطار الإسلامية، وسألتهم عن رأيهم في إفتاء مفتيها في المسائل الأربع التي

حصرت الموضوع فيها، وقفينا عليها بتخطئة ما اعتمده محرر هذه الرسالة في

حقيقة الربا؛ بناء على مذهب الحنفية وبنى عليه فتواه، وبينا آراء محققي

المفسرين من علماء مذاهب السنة في القرآن والشيعة وأقوال المحدثين والفقهاء،

وجعلنا نتيجة هذه النقول بيان حقيقة الربا القطعي المنصوص فيه، وهو ربا النسيئة،

وعقدنا بعده فصلاً مهمًّا في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته بالقطعي والظني

المنصوص، وإبطال دليلهم على هذا الإلحاق. وانتهى بنا البحث إلى الوعد بالكلام

على الحِيَل في الربا وغيره في أول المجلد 31 (ص37) .

وههنا وقفنا، وأرجأنا وسوَّفْنَا في إنجاز وعدنا، إذ كنا عزمنا على تحرير

الموضوع بالاستقصاء لأدلته وفروعه بنصوص المختلفين فيه، وهو ما حال دونه

كثرة أعمالنا إلى الآن، ورأينا أنها لا تزال تزداد، فرَّجَحْنَا أن نكتفي بخلاصة آراء

فقهاء المذاهب ورأينا فيها وهو ما يرى القارئ في الفصل التالي.

***

فصل في الحيل في الربا وغيره

الحيلة اسم أو هيئة من حال الشيء يحول إذا تغير حاله أو لونه أو صفته أو

وضعه أو مكانه، وأصلها حولة كحكمة، فقلبت الواو ياء؛ لكسر ما قبلها. قال في

الأساس: حال الرجل يحول حولاً إذا احتال ومنه (لا حول ولا قوة إلا بالله)

وحال الشيء واستحال تغيَّرَ، وحال لونه، وحال عن مكانه تحول - إلى أن قال -:

وحاوله طلبه بحيلة اهـ. وفي المصباح المنير: والحيلة الحذق في تدبير الأمور،

وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود، وأصله الواو، واحتال طلب الحيلة

اهـ.

وقال الراغب في مفردات القرآن: والحيلة والحويلة: ما يتوصل به إلى

حالة ما في خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما فيه

حكمة؛ ولهذا قيل في وصف الله عز وجل: {وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ} (الرعد:

13) - بكسر الميم - أي الوصول في خفية من الناس إلى ما فيه حكمة، وعلى هذا

النحو وصف بالمكر والكيد لا على الوجه المذموم، تعالى الله عن القبيح اهـ.

وذكر قبل ذلك أن من الأمثال (لو كان ذا حيلة لتحول) .

وأقول: إنه قال في المكر والكيد كما قال في الحيلة والمحال أنه يكثر

استعماله فيما فيه خبث أو قبح، وسببه كما بيناه في التفسير أن أكثر ما يخفي الناس

هو ما يعد عندهم قبيحًا أو ضارًّا ولو بأعدائهم وخصومهم، وما لو ظهر لحبط وفسد

عليهم وعجزوا عن إتمامه كما يقع في الحرب وشئون السياسة. ولم يرد لفظ الحيلة

في القرآن إلا فيما هو واجب منها، وهو قوله بعد وعيد الذين يتركون الهجرة من

دار الكفر والظلم إلى الإسلام والعدل: {إِلَاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (النساء: 98-99) الآية.

وأول من أدخل الحِيَل في الشرع أبو حنيفة وأصحابه، وأول من ألف فيها

القاضي أبو يوسف ألف كتابًا مستقلاًّ سمَّاه (كتاب الحيل) وتبعه فقهاء مذهبهم فهم

يذكرون في كتب فقههم أبوابًا للحيل التي يصفونها بالشرعية، ووافقهم الشافعية في

أصل جواز الحيل، وقال بحظرها فقهاء المالكية والحنابلة.

وفي الجامع الصحيح للبخاري كتاب خاص سماه (كتاب الحيل) فتح فيه

أبوابًا أورد فيها ما صح على شرطه متعلقًا بالحيل والدلالة على كراهة الشرع لها.

أولها (باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها) وأورد

فيه حديث (إنما الأعمال بالنية) الذي افتتح به صحيحه برواية (بالنيات) أشار

بهذه الترجمة إلى أن جميع الأحكام الشرعية من فعل وترك تدخل في عموم هذا

الحديث خلافًا لمن خصَّه بالعبادات وما في معناها كالأيمان. وسائر أبوابه في

الصلاة والزكاة والنكاح والبيوع والغصب والهبة والشفعة والاحتيال للفرار من

الطاعون واحتيال العامل (أي عامل السلطان) ليهدى له. وقد كتب الحافظ ابن

حجر على عنوان (كتاب الحيل) في شرحه له (فتح الباري) ما نصه:

الحيل: جمع حيلة وهي ما يُتَوَصَّل به إلى مقصود بطريق خفي، وهو عند

العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال

حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو

مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي

مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة.

ووقع الخلاف بين الأئمة في القسم الأول، هل يصح مطلقًا، وينفذ ظاهرًا

وباطنًا أو يبطل مطلقًا أو يصح مع الإثم؟ ولمن أجازها مطلقًا أو أبطلها مطلقًا أدلة

كثيرة فمن الأول قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} (ص:

44) وقد عمل به صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى وهو من حديث

أبي أمامة بن سهل في السنن ومنه قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2) وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء، فإن

فيه تخليصًا من الحنث، وكذلك الشروط كلها، فإن فيها سلامة من الوقوع في

الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال: (بع الجمع بالدراهم

ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) .

(ومن الثاني قصة أصحاب السبت وحديث: (حرمت عليهم الشحوم

فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها) وحديث النهي عن النجش، وحديث: (لعن المحلل

والمحلل له) .

والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم هل المعتبر في صيغ العقود

ألفاظها أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجاز الحِيَل، ثم اختلفوا فمنهم من جعلها تنفذ

ظاهرًا وباطنًا في جميع الصور أو في بعضها، ومنهم من قال تنفذ ظاهرًا لا باطنًا،

ومن قال بالثاني أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذي تدل عليه

القرائن الحالية. وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية؛ لكون أبي يوسف صنَّف

فيها كتابًا لكن المعروف عنه، وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق قال

صاحب المحيط: (أصل الحيل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} (ص: 44)

الآية وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت

لإبطال حق مسلم فلا، بل هي إثم وعدوان) اهـ.

أقول: إن هذا الأصل لا ينفعهم، فإنه تخفيف من الله على نبيه أيوب عليه

السلام فهو نص إلهي استثنائي لا يصح أن يقيس عليه من قال: إن شرع من قبلنا

شرع لنا، فضلا عمن يقول: ليس شرعًا لنا، وهو الحق بنص القرآن أو هو من

قبيل خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم في شرعنا. ومثله احتيال يوسف عليه

السلام لأخذ أخيه مع عدم المخالفة لشرع ملك مصر، وهو مما يستدلون به على

شرعية الحيل، فإن الله تعالى قال:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} (يوسف: 76) فهو

إذًا إذن منه تعالى، فلا يقاس عليه ما يفعل مخالفة شرعه، وسيأتي الكلام على ما

أشار الحافظ من الأحاديث في أدلة الفريقين.

ثم كتب الحافظ في الكلام على حديث النية منه ما نصه متعلقًا بالموضوع:

(واستدل به من قال بإبطال الحيل، ومن قال بإعمالها؛ لأن مرجع كل من

الفريقين إلى نية العامل. وسيأتي في أثناء الأبواب التي ذكرها المصنف إشارة إلى

بيان ذلك، والضابط ما تقدمت الإشارة إليه: إن كان فيه خلاص مظلوم مثلا فهو

مطلوب، وإن كان فيه فوات حق فهو مذموم، ونص الشافعي على كراهة تعاطي

الحيل في تفويت الحقوق، فقال بعض أصحابه: هي كراهة تنزيه، وقال كثير من

محققيهم كالغزالي: هي كراهة تحريم ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله: (وإنما لكل

امرئ ما نوى) فمن نوى بعقد البيع الربا، وقع في الربا، ولا يخلصه من الإثم

صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللاً، ودخل في الوعيد على

ذلك باللعن، ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قصد به تحريم ما أحل

الله أو تحليل ما حرم الله كان آثمًا، ولا فرق في حصول الإثم في التحيل على

الفعل المحرم بين الفعل الموضوع له، والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له.

(واستدل به على أنه لا تصح العبادة من الكافر ولا المجنون؛ لأنهما ليسا

من أهل العبادة، وعلى سقوط القود في شبه العمد؛ لأنه لم يقصد القتل، وعلى

عدم مؤاخذة المخطئ والنَّاسِي والمكره في الطلاق والعتاق ونحوهما، وقد تقدم ذلك

في أبوابه، واستدل به لمن قال كالمالكية: اليمين على نية المحلوف له ولا تنفعه

التورية، وعكسه غيرهم، وقد تقدم بيانه في الأيمان.

(واستدلوا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا (اليمين على نية

المستحلف) وفي لفظ له (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) وحمله الشافعية على

ما إذا كان المستحلف الحاكم، واستدل به لمالك على القول بسد الذرائع واعتبار

المقاصد بالقرائن كما تقدمت الإشارة إليه.

(وضبط بعضهم ذلك بأن الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلم ثلاثة أقسام:

(أحدها) أن تظهر المطابقة إما يقينًا وإما ظنًّا غالبًا. (والثاني) أن يظهر

أن المتكلم لم يرد معناه إما يقينًا وإما ظنًّا (والثالث) أن يظهر في معناه ويقع التردد

في إرادة غيره وعدمها على حد سواء، فإذا ظهر قصد المتكلم لمعنى ما تكلم به أو

لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره، وإذا ظهرت إرادته

بخلاف ذلك، فهل يستمر الحكم على الظاهر، ولا عبرة بخلاف ذلك أو يعمل بما

ظهر من إرادته؟

(فاستدل للأول بأن البيع لو كان يفسد بأن يقال هذه الصيغة فيها ذريعة إلى

الربا، ونية المتعاقدين فيها فاسدة لكان فساد البيع بما يتحقق تحريمه أولى أن يفسد

به البيع من هذا الظن، كما لو نوى رجل بشراء سيف أن يقتل به رجلاً مسلمًا

بغير حق، فإن العقد صحيح، وإن كانت نيته فاسدة جزمًا، فلم يستلزم تحريم القتل

بطلان البيع، وإن كان العقد لا يفسد بمثل هذا فلا يفسد بالظن والتوهم بطريق

الأولى) .

(واستدل للثاني بأن النية تؤثر في الفعل، فيصير بها تارة حرامًا وتارة

حلالاً كما يصير العقد بها تارة صحيحًا وتارة فاسدًا كالذبح مثلاً، فإن الحيوان يحل

إذا ذبح لأجل الأكل، ويحرم إذا ذبح لغير الله والصورة واحدة، والرجل يشتري

الجارية لوكيله فتحرم عليه، ولنفسه فتحل له، وصورة العقد واحد، والأول قربة

صحيحة، والثاني معصية باطلة، وفي الجملة فلا يلزم من صحة العقد في الظاهر

رفع الحرج عمن يتعاطى الحيلة الباطلة في الباطن والله أعلم. وقد نقل النسفي

الحنفي في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من

أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق. اهـ.

هذا ما كتبه الحافظ في الفتح في حديث النية، ونقلناه كله؛ لما فيه من الفوائد

ويقول: إن فقهاء المذاهب كعلماء القوانين الوضعية يستنبطون الأحكام من عبارات

نصوص المذهب من غير نظر في النيات الباعثة على الأعمال، ولا في موافقة

حكم التشريع وعلله الدينية، وما يرضي الله ويثيب عليه، وما يُسْخِطه ويعاقب

عليه، ويسمون هذه الأحكام شرعية فيفهم الناس أنها شرع الله الذي خاطبهم به

ويحاسبهم عليه، فما صححوه منها فهو الحلال الذي يرضيه، وما أبطلوه فمخالفته

حرام يسخطه، وليس الأمر كذلك بإطلاقه، بل الحق ما تقدم أنفًا بالإجمال مجملاً،

وهنا تحقيق القول فيه مفصلاً مؤصلاً.

التحقيق الفلسفي في المسألة:

التحقيق في هذه المسألة: أن الأحكام الشرعية لها نصوص تبينها وتضبطها،

وحِكَم هي المقصودة بالتشريع والمراد منه، وعلماء الحقوق وفلسفة القوانين

يعبرون عن هذا الحكم بروح القانون، وعن الأول بحرفية القانون أو بالمعنى

الحرفي له، وهم متفقون على أن القاضي العادل هو من يجمع في أحكامه بين

موافقة نص القانون ومدلوله اللفظي الذي هو هيكله الظاهر، وبين روحه والمقصود

منه في الباطن، وهو الحق والعدل والإصلاح بين الناس في القضايا الشخصية،

سواء كان الخصم الشخصي فيها فردًا، أو جماعة كالشركات أو مصلحة عامة

كالحكومة، فإذا تعارض نص القانون الحرفي هو وروحه الذي تتحقق به حكمة

الشارع وغرضه فإنهم يسمون من يرجح الأول قاضي القانون، ويسمون من يرجح

الثاني قاضي العدل والإنصاف، والفقهاء يفرقون أيضًا بين ما يثبت قضاء وما

يجب تدينًا.

فالمراتب ثلاثة: أعلاها الجمع بين مدلول اللفظ وحكمته المقصودة منه،

وهما كالجسد والروح للشخص، ودونها المحافظ على الحكمة وإرجاع اللفظ إليها

ولو بضرب المثل من التأويل، ودونهما الجمود على الظواهر اللفظية.

وموضوع الحِيَل في الشرائع والقوانين والعقود والوعود والأيمان والنذور بيانًا

وإفتاءً وحكمًا وتنفيذًا دون هذه الثلاثة، وهو التحول عن مدلول اللفظ الحرفي

بتأويل أو تحريف أو معارضة تقتضي ترجيح غيره عليه، وإنما يفعله الإنسان هربًا

وتَفَصِّيًا مما يوجبه عليه النص، والمؤاخذة في القضاء الدنيوي إنما تترتب على

مخالفة النص التي تسمى عصيانًا للشرع والقانون، فإن كان النص قطعي الدلالة

فلا مفر من العقاب على مخالفته، وإن كان غير قطعي بأن كان محتملاً لمعنيين أو

أكثر كان الترجيح لأحد معانيه بالاجتهاد، وكان أقوى وجوه الترجيح مراعاة غرض

الشارع وحكمته من النص. وفقهاء الشرع والقانون متفقون على هذا الأصل، ومن

كان يدين الله بعلمه وعمله فهو أولى بمراعاته عندما يؤلف أو يفتي أو يحكم.

فمن رجَّح معنى على معنى بالاحتمال اللفظي المخالف لروح التشريع وحكمة

الشارع منه كان متبعًا للهوى لا للحق، والله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام:

{فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ

عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: 26) وهذا

الأمر والنهي من أصول الشرع الديني الإلهي الذي لا يُنْسَخ ولا يتغير بتغير

الشرائع، فهو كالتوحيد في العقائد.

وقد بينا في التفسير وغيره أن نصوص الكتاب والسنة قسمان (أحدهما) ما

كان قطعي الدلالة كالرواية وهو الذي عليه مدار التشريع العام الذي عليه مدار

الاجتهاد، والواجب أن يعذر المختلفون بعضهم بعضًا فلا يكون سبب للتفرق

والعداء بالاختلاف وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل لأمته، وجرى

عليه خلفاؤه وعلماء صحابته، وأئمة السلف الصالح من بعدهم قبل حدوث

عصبيات المذاهب والشِّيع، مثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ

الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (البقرة: 219) فهم منها بعض

الصحابة تحريم ما إثمه أرجح من نفعه فتركوا الخمر والميسر، ولم يفهم هذا

الآخرون ولعلهم الأكثرون فظل شرب الخمر شائعًا مباحًا كالميسر الذي كان قليلاً،

ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركهما؛ لأن دلالة الآية على تحريمها غير

قطعية إلى أن نزلت آيات سورة المائدة القطعية الدلالة فتركهما الجميع، وصار

صلى الله عليه وسلم يعاقب من يشرب الخمر. وهكذا كان صلى الله عليه وسلم

يعذر المختلفين في فهم كلام الله تعالى، وكلامه الظني الدلالة دون القطعي،

وشواهده كثيرة.

وأما الفقهاء المقلدون فإن منهم من يجعلون نصوص علمائهم أصولاً شرعية

دينية يوجبون الاعتماد على مدلولها اللفظي في العمل والقضاء ويبيحون الحيل

لتطبيق ذلك عليها، وإن خالف ما هو معلوم بنص المعصوم من مراد الله تعالى

وحكمته، وما كان مجمعًا عليه، فهم من الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:

(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع، حتى لو دخلوا جحر ضب

لدخلتموه. قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قل: فمن؟) رواه البخاري

ومسلم وغيرهما، وشر ما اتبعوا فيه سننهم جعل كتبهم ككتاب الله تعالى في التحليل

والتحريم بنصوصها ومفاهيمها، بل جعلها مقدمة عليه في العمل، كما فعل أولئك،

وقد شرحنا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً

مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31)[1] .

واعلم أن هذه الحيل المبسوطة في كتب الحنفية تكاد تعلم الناس التفصي من

أكثر أحكام الشرع الدينية والدنيوية، فلو لم يتعد أصحابها نصوص كتبهم إلى

نصوص الكتاب والسنة لما كانت جناية على الدين مضعفة أو قاتلة لسلطانه على

القلوب كما علمت مما تقدم في الفتوى الهندية من تعريف الحنفية للربا، وكونه

خاصًّا ببيع المواد الستة المنهي عنها، وما ترتب على ذلك من الأحكام المخالفة

لنص القرآن والربا القطعي المعروف عند نزوله، وعرَّفه الشافعية بأنه (عقد على

عِوَض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في

البدلين أو أحدهما) فهذا التعريف يُدْخِل في الربا القطعي ما ليس منه، ويخرج منه

ما هو منه، ويحتمل من الحِيَل ما لا يقبله النص الشرعي كما سيأتي.

والعمدة عند الشافعية في الحيلة حديث أبي سعيد المتفق عليه في إنكاره صلى

الله عليه وسلم بيع الصاعين من التمر الرديء كالجنيب بصاع من الجيد كالبرني

وأمره ببيع الرديء بالدراهم وشراء الجيد بها. قالوا: فهذا نص في جواز مطلق

الحيلة في الربا وغيره؛ إذ لا قائل بالفرق.

(للموضوع بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

راجع تفسيرها في ص 363 من جزء التفسير العاشر.

ص: 449

الكاتب: محمد رشيد رضا

الملك فيصل العبرة بحياته ووفاته

رحمه الله تعالى

ولد فيصل بن حسين في مكة المكرمة وربي في طفولته بالبادية كما كان يربى

شرفاؤها وكبراؤها من قبل الإسلام، ويعلم هذا جمهور مسلمي الأرض من سيرة

المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم ربي التربية الثانية في مراهقته وصباه في

الآستانة عاصمة آل عثمان، كأمثاله من أولاد كبار شرفاء مكة المرشحين للإمارة،

وكان غرض الدولة التركية من ذلك معروفًا لجميع الذين يعرفون سياستها في

الشعب العربي ولا سيما شرفاء مكة، ومنها أنها كانت تحول دون تعليم نابتتهم في

المدارس المدنية الرسمية وغير الرسمية، وكان آباؤهم يكفونها أمر تعليمهم في

المدارس الدينية لعدم شعورهم بالحاجة إليه، بل كانوا يترفعون عنه؛ لأن أرفع أمر

النابغ فيه أن يكون قاضيًا أو مفتيًا أو مدرسًا في مسجد، فكان قلما يتعلم أحد منهم

إلا ما يتفق له في منزل أبيه، ولن يكون تعليمًا أصوليًّا يتقن به علمًا أو فنًّا يكون

به أهلاً للنهوض بعمل عظيم، ومرجعًا أو مرشدًا وإمامًا للعاملين، ولا لما دون ذلك

مما يترفعون عنه من قضاء أو إفتاء أو تعليم، ولقد مرت القرون وتعاقبت الأجيال

ولم تخرج لنا هذه الأسرة الهاشمية رجلاً عظيمًا في علم نافع ولا عمل رافع، ولا

إصلاح ديني ولا اجتماعي ولا سياسي، وما زالت إمارة الحجاز موروثة فيهم من

قبل دولة الترك بقرون، وما كانت تزداد البلاد في عهدهم إلا خرابًا، ولا أهلها إلا

تبابًا، ولو قام فيها مصلح عظيم منهم لكان تأثيره في إحياء مجد الإسلام بالعرب

ومجد العرب بالإسلام ما يفوق تأثير سبعين مصلحًا من غيرهم، لما لهم من المكانة

الموروثة في أمتهم، وإن في سيرة فيصل لمثلاً لهم وعبرة لأولي الألباب من أمتهم.

لم يكن لفيصل قبل الحرب العامة ميزة في أسرته ولا قومه تلهج بها الألسنة

وتجري بذكرها الأقلام، أو تشير بها الأكف أو تشخص إليه الأبصار، إلا ما بلغني

من خبر شجاعته وأن أخاه عبد الله فاخر بعض الشجعان وهدَّده مرة فقال: تراني

أنا راعي الهدلة [1] تراني أنا أخو فيصل. وكان من تأثير تربية الآستانة في نفسه

أن سياسته كانت تركية محضًا فلم يكن يفكر في أن لأمته العربية وجودًا يجب أن

يعنى به. ولقد سمعت من لسانه في أول حديث دار بيني وبينه في بيروت (في

14 جمادى الأولى سنة 1338 - 4 فبراير سنة 1920) أنه كان يرى الخير لوالده

وأهل بيته بل لأمته في الإخلاص لدولة الترك ودوام الانتفاع أو قال الترقي بهم،

وأنه إنما تحول عن هذه السياسة لما جاء الشام قبيل الحرب وبعدها، ورأى قومه

كلهم على خلاف رأيه، على حد قول الشاعر

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وإنه يومئذ اتفق مع إخواننا في الشام على العمل للقضية العربية، وانتظم في

جمعيتهم السرية. ثم كان من عمله في الثورة العربية التي أعلنها والده ما كان به

أظهر رجالها، وحارب الترك مع الإنكليز حربًا كسبته وكسبت العرب ثناء رسميًّا

له قيمة سياسية عظيمة. ودخل دمشق عقب انسحاب الترك منها دخول الفاتح

الظافر، وسافر بعد ذلك إلى أوربة وشهد مؤتمر الصلح الأكبر، ودخل في إثر ذلك

أبواب السياسة، ثم بايعته الأمة السورية وجعلته ملكها، ثم نادت بسقوطه وتحدثت

بالهجوم والدمور عليه للفتك به، فوضع الحرس الحجازي المسلح على بابه، إذ

أذيع فيها قبوله لإنذار الجنرال غورو المُخْزِي، وزاد السخط عليه بدخول دمشق

في الليلة التي دخلها الجيش الفرنسي محتلا لها، مؤملا أن يرضى ببقائه ملكًا فيها،

ولكنه أخرجه منها ليلا، ثم كان من أمر توليه ملك العراق ما كان، وما لقي فيه من

مقاومة وما طرأ عليه من أطوار، وما زال يرسب ويطفو، ويسف ويسمو، حتى

صار سياسي الأمة العربية المحنك، وجذيلها المحكك وتجلى فيه من عبقرية الذكاء

والحزم، ونباهة الشأن وإدارة الملك، ما انتهى به أمره إلى ما علمنا من ثقة به

موطدة، وآمال بسعيه معلقة، وأحزان عليه صادقة، وألسنة بإطرائه ناطقة، دلت

على أن المستقبل الذي أمامه كان عظيمًا، وأنه كان قوميًّا عامًّا، لا وطنيًّا خاصًّا.

كان لفيصل كثير من أخلاق الزعامة والرياسة، وشمائل السياسة والكياسة،

كالسخاء والنجدة، والحلم الواسع، والصبر على المكاره، وقوة الأمل، والدهاء

والمكر، وكان جذابًا خلابًا، عذبًا سائغًا، هينًا لينًا، سهلاً متواضعًا، سريع

الغضبة سريع الفيئة، لا ييأس ولا يوئس مخالطه منه، وكل أولئك من أخلاق

الزعامة والرياسة، وما كان يخلو من بعض الصفات القاطعات لطريقها، والمانعات

لتحقيقها، منها مبالغته في المواتاة لكل معاشريه والاستجابة لمطالبهم المتناقضة،

ومساعدتهم على الأعمال المتعارضة، ومنها أنه كان على شدة صراحته يكاد يتعذر

على أقرب الناس إليه أن يعرف كُنْه سريرته، ويثق بإصراره على رأيه، وثباته

على ما يبديه له منه. هكذا كان عهدي به في دمشق.

ولولا ما أوتي من المرونة والحلم، والحرية واللطف، والاعتبار بالحوادث،

وممارسة الكوارث، وتربية نفسه بها، والارتياح إلى إعطاء كل ذي حق حقه فيها

لكان الخوف عليه أكبر من الرجاء فيه، وبهذا فضل والده وأخاه الذين سبقاه إلى

التفكير في القضية العربية، والخروج على الدولة العثمانية من قبل أن يُتَاح لهما

القيام بإعلان الثورة، ويفتح لها باب الرجاء في سيادة الأمة.

ليس من مذهب المنار تدوين وقائع التاريخ، ولا من مشربه سرد المناقب

والمثالب، وإنما صاحبه قرآني يبحث عن العبرة، ويجليها في قالب الحكمة

والموعظة الحسنة، وقد علم الذين تتبعوا ما كتبت في المسألة العربية، والواقفون

على الكثير من عملي فيها بالمشاركة أو بالمعاشرة، أنني اشتغلت مع هؤلاء الثلاثة

فيها اشتغال تجربة لهم؛ لوجودهم في الميدان، لا اشتغال واثق بهم، وإن التجارب

أسفرت عن خيبة الأمل في كل منهم، واعتقاد أنهم مستسلمون للسياسة البريطانية،

التي أعتقد أنها موجهة إلى القضاء الأبدي على الأمة العربية، وعلى تجديد مجد

الإسلام أيضًا.

ثم تجدد لي أمل في إمكان الانتفاع بدهاء الملك فيصل وحنكته ومركزه العظيم

في إنعاش سورية التي تتردى في مهاوي الهلكة بشدة شنآن فرنسة للإسلام وسياستها

المستعجلة المتهورة في ذلك، التي لا تقبل هوادة، ولا يتخلل حملاتها العنيفة فترة

ولا هدنة، ولا تخفف شدتها رأفة ولا رحمة.

تجدد عندي هذا الأمل في العام الماضي وأظهرته في هذه العام، فعلمت أنه

جدير بأن يكون رجاء لا تمنيًا، وأن تكون دائرته أوسع من سورية، وأن مودة

فيصل للدولة البريطانية لا تحول دون الانتفاع به فيما ينأى بخطرها الذي يخشاه

العرب قليلا، أو لا يزيده دنوًّا؛ إذ بلغني أنه قد اشتد شغفه بفكره الوحدة العربية،

وأنه يدرس كل ما يزيده علمًا بالاستعداد لها ما كتب بلغتها وباللغات الغربية،

كتاريخ الوحدة الجرمانية والوحدة الطليانية.

ثم علمت علمًا صحيحًا أنه موطن نفسه على السعي لسورية وفلسطين معًا،

متوسلاً بنفوذه عند الدولة الإنكليزية، وأنه يعتقد أن وجود الملك عبد العزيز بن

السعود في الحجاز رحمة للعرب والجزيرة، وأنه لا يوجد في الأمة العربية من

يقدر على حفظ الأمن فيها ودرء الفتن وتقدم العمران مثله أو غيره، وأنه يجب

الاتفاق والتعاون معه، على أنه كان يرى مع هذا أنه لا يرجى أن يكون لهذا الرجل

الفذ الوحيد في مواهبه، من يستطيع من ولده أو غيرهم أن يضطلع بما اضطلع هو

به، وقصارى هذه الآراء والأفكار أنه يجب أن يكون هو قطب الرحى للأمة

العربية والمؤسس لوحدتها.

الأمير عبد الله:

ولعل أخاه الأمير عبد الله لو ابتلي بمثل ما مارسه من خطوب، وتدافعه ما

أشرنا إليه من طفو ورسوب، لمحصت ما في صدره من الشغف بلقب الملك

وعظمته الباطلة، ولو كان هبة تستخدمه بها دولة العدو الغاصبة، وسكنت بعض

ما قلبه على ابن السعود من الضغن والحفيظة ولكن كان من سوء حظه وحظ أمته

أنه تَأَمَّرَ على بدوٍ جاهلين، وإن كانوا مسلحين، وحَضَرٍ أكثرُهُمْ متملقون

مسترزقون: والمجاهدون منهم قليلون مستضعفون، فلم يلق منهم ما لقي فيصل في

الشام ثم في العراق من معارضة ومناهضة، ومشادة ومحادة، كانت خيرًا له من

المواتاة والموادة، وإنني أبسط ما بلوته بنفسي من خير الأخوين من مبتدئه إلى

منتهاه بالإيجاز:

عرفت الشريف عبد الله في الآستانة سنة 1328 (الموافقة سنة 1910م)

وكان عبيد الله أفندي مبعوث أيدين وصاحب جريدة العرب الخادعة يطعن في والده

الشريف حسين أمير مكة المكرمة طعنًا مسمومًا نافذًا، ولم يدافع عنه أحد من أبناء

الأمة العربية، وكان هذا قد أطراني في جريدته إطراء ظاهرًا وسماني مجددًا، ثم

لما شعر بنجاح مشروع الدعوى والإرشاد الذي دعت إليه الدولة الاتحادية قلب لي

ظهر المِجَنّ، واتهمني بالتفريق بين الترك والعرب، فقامت عليه قيامة الجرائد

العربية في سورية ومصر والمهاجر السورية، وفي الآستانة نفسها أيضًا،

فافترصت هذا وقلت للشريف عبد الله: إنني أريد أن أُسِرَّ إليك حديثًا، فهش لي

وأقبل عليَّ، فقلت له: ألا ترى أن هذا التركي المتعصب البذيء يطعن في والدك

وهو سيد العرب فلا يلقمه أحد منهم حجرًا، حتى إذا ما قال فيَّ كلمة طعن، مع

كلام كثير في الثناء والمدح، فُوِّقَتْ إليه السهام، وسُدِّدَتْ إلى صدره أسنة الأقلام،

وأنا دون والدك مقامًا ومنصبًا، فلماذا؟

أليس إخواني العرب يرون أنني أُعْنَى بقومهم، وأبذل بعض الخدمة لهم؟

وأنهم لا يرون لأحد منكم لقومه عملاً، ولا يسمعون منكم في مصلحتهم قولاً؟ قال

نعم: إني لأشكر لك مصارحتي بهذه الحرية، وبهذا فتح باب الكلام بينا في المسألة

العربية، ودعاني إلى طعامه في دارهم في محلة بيوكدره على البوسفور وامتدت

المودة.

ولما زار مصر سنة 1330 ونزل ضيفًا على الخديو في قصر عابدين هو

وأخوه فيصل زرته وأطلعته على قانون (الجامعة العربية) فابتهج به ورغب

الانتظام في سلك الجمعية، فحلفته يمينها الغليظة الغموسي، وأخذت عليه ميثاقها

الشديد، وأطلعني على ما بعثته به حكومة الدولة إلى والده، وهو قتال السيد محمد

الإدريسي، فكاشفته برأيي في ضرره فوافقني عليه، وعاهدني على بذل جهده،

في إقناع والده به.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الهدلة لقب فرس من جيادهم يفخرون بها.

ص: 457