المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أثر الإيمان في توجيه الأخلاق - مجلة جامعة أم القرى ١٩ - ٢٤ - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌أثر الإيمان في توجيه الأخلاق

‌أثر الإيمان في توجيه الأخلاق

د. عبد الله الغفيلي

الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين

الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة

ملخص البحث

يبين هذا البحث الأثر العظيم للإيمان في توجيه الأخلاق وتطهير النفوس من قبيح الأفعال وسيئها.

وذلك لما للأخلاق في دين الإسلام من شأن عظيم ومكانة عالية حيث دعا الإسلام المسلمين إلى التحلي بها وتنميتها في نفوسهم لأنها أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها دين الإسلام، وهناك ارتباط وثيق بين الأخلاق والإيمان، وكل عمل يقوم به العبد المسلم يحتاج إلى الأخلاق الحميدة والصفات الحسنة ولاشك أن من فقد الإيمان والتقوى فقد فقد تلك الأخلاق، وكلما كان المؤمن أكمل أخلاقاً كان أكثر إيماناً.

والالتزام بمكارم الأخلاق فيه تقوية لإرادة الإنسان وتمرينها على حب الخير وفعله والبعد عن الشر وتركه، وبذلك تتحقق سعادة القلب، وعلى رأس تلك الأخلاق: الصدق، الصبر، الأمانة، التواضع وغيرها.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التحلي بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة، والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع والأمة.

المقدمة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (] آل عمران 102 [.

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً (] النساء 1 [، (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (] الأحزاب 70،71 [.

ص: 242

وبعد: فإن الأخلاق في دين الإسلام عظيم شأنها عالية مكانتها، ولذلك دعا المسلمين إلى التحلي بها وتنميتها في نفوسهم، وهي أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها دين الإسلام وهي: الإيمان والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، ولذا نالت العناية الفائقة الكبرى والمنزلة العالية الرفيعة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله (.

بل إن الأخلاق الكريمة تدعو إليها الفطر السليمة، والعقلاء يجمعون على أن الصدق والوفاء بالعهد والجود والصبر والشجاعة وبذل المعروف أخلاق فاضلة يستحق صاحبها التكريم والثناء، وأن الكذب والغدر والجبن والبخل أخلاق سيئة يذم صاحبها.

والدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإخلاص العمل له وإلى دينه تحتاج إلى الأخلاق الحميدة، والصفات الحسنة، ويصعب توفر تلك الأخلاق فيمن يفقد الإيمان والتقوى، ورسول الله (وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين أفضل من دعا إلى الله تعالى بأخلاقهم الإسلامية الحميدة وصفاتهم الحسنة، قال الله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله وضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود (] محمد 29 [.

فحاجة المؤمن إلى الاقتداء بهم كحاجته إلى الطعام والشراب بل أشد، وأهداف العقيدة السليمة يرأسها دعوة العبد إلى التحلي بالأخلاق الحسنة ليفوز بسعادة الدارين، قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً (] الأحزاب29 [

فالعقيدة هي التي تقود العبد، فإذا صحت العقيدة وكمل الإيمان حسنت الأخلاق والعكس يؤدي به إلى التخلق بالأخلاق السيئة والأفعال القبيحة، عن أبي هريرة (أن رسول الله (قال:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (1) .

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان (1/56)، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان (1 /76) .

ص: 243

وقد يتصور بعض الناس أن حسن الخلق محصور في الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة فقط، والحقيقة أن حسن الخلق أوسع من ذلك فهو يعني إضافة إلى الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، التواضع وعدم التكبر ولين الجانب، ورحمة الصغير واحترام الكبير، ودوام البشر وحسن المصاحبة وسهولة الكلمة وإصلاح ذات البين والتواضع والصبر والحلم والصدق وغير ذلك من الأخلاق الحسنة والأفعال الحميدة التي حث عليها الإسلام ورغب فيها.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو يتكلم عن منهج السلف في الأخلاق والسلوك "يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله (: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (1) ، ويندبون أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى، والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها"(2)

(1)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الرضاع (3/457)، وقال: هذا حديث صحيح، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/3) وقال: هذا حديث صحيح.

(2)

العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص (181، 182) .

ص: 244

ويقول السفاريني (1) : حسن الخلق القيام بحقوق المسلمين، وهي كثيرة منها أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وأن يتواضع لهم ولا يفخر عليهم ولا يختال، فإن الله لا يحب كل مختال فخور، ولا يتكبر ولا يعجب فإن ذلك من عظائم الأمور

وأن يوقر الشيخ الكبير ، ويرحم الطفل الصغير، ويعرف لكل ذي حق حقه مع طلاقة الوجه وحسن التلقي ودوام البشر ولين الجانب وحسن المصاحبة وسهولة الكلمة، مع إصلاح ذات بين إخوانه وتفقد أقرانه وإخوانه، وأن لا يسمع كلام الناس بعضهم في بعض وأن يبذل معروفه لهم لوجه الله لا لأجل غرض مع ستر عوراتهم وإقالة عثراتهم وإجابة دعواتهم

وأن يحلم عن من جهل عليه ويعفوا عن من ظلم

" (2) .

وقال الحسن البصري (3) - رحمه الله تعالى - "معالي الأخلاق للمؤمن، قوة في لين وحزم في دين وإيمان في يقين وحرص على العلم واقتصاد في النفقة، وبذل في السعة وقناعة في الفاقة، ورحمة للمجهود وإعطاء في كرم وبر في استقامة "(7)

وقال الأشعث بن قيس (يوماً لقومه: إنما أنا رجل منكم ليس في فضل عليكم، ولكن أبسط لكم وجهي، وأبذل لكم مالي، وأقضي حقوقكم، وأحوط حريمكم. فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن زاد علي فهو خير مني، ومن زدت عليه فأنا خير منه. قيل له: يا أبا محمد ما يدعوك إلى هذا الكلام؟ قال أحضهم على مكارم الأخلاق (4) .

(1)

هو محمد بن أحمد بن سالم السفاريني، محدث، فقيه، أصولي، من مصنفاته: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، توفي سنة 1188هـ. الأعلام (6/240) ، معجم المؤلفين (8/262) .

(2)

غذاء الألباب للسفاريني (1/362، 363) باختصار.

(3)

هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، كان من أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد عرف بالزهد والشجاعة، توفي سنة 110هـ. سير أعلام النبلاء (4/563) ، تهذيب التهذيب (2/263) .

(4)

المصدر السابق (1/367) .

ص: 245

ويقول ابن حبان (1) – رحمه الله تعالى -: "الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق، لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، وإن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل، وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الصالحة كلها"(2) .

وليس المقصود من هذا البحث هو استقصاء الأخلاق الحسنة والفضائل الطيبة التي حث الإسلام عليها ورغب فيها، وكلام أهل العلم في الحث عليها، وإنما المقصود بيان ارتباط الأخلاق بالإيمان، وأن للإيمان أثراً في توجيه الأخلاق وتزكية النفوس وتهذيبها، وكلما كان المؤمن أكمل أخلاقاً كان أكثر إيماناً، ومن أوضح الأدلة على فضل الأخلاق وعلو منزلتها ومكانتها من الإيمان ما جاء في حديث أنس بن مالك (قال: كنا جلوساً مع رسول الله (، فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد، قال النبي (مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي (مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي (، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمتُ أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضيَ، فعلتُ. قال: نعم.

(1)

هو محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي، كان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ، من مصنفاته: روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، توفي سنة 354هـ. تذكرة الحفاظ (3/920) ، شذرات الذهب (3/16) .

(2)

روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص (64) .

ص: 246

قال أنس: وكان عبد الله يحدِّثُ أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليالٍ، وكدتُ أن أحقرَ عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجرٌ ثم، ولكن سمعت رسول الله (يقول لك ثلاث مرار:((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) فطلعت أنت الثلاث مرارٍ، فأردت أن آوي إليك، لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله (؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق (1) .

وقد وفقني الله سبحانه لاختيار هذا البحث لأبين فيه ما للإيمان من أثر عظيم في توجيه الأخلاق وتطهير النفوس من قبيح الأفعال وسيئها، وجعلت عنوانه:"أثر الإيمان في توجيه الأخلاق".

وقد سلكت فيه الخطة التالية:

المقدمة، وقد اشتملت على أهمية الموضوع وأسباب اختياره.

المبحث الأول: تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً.

المبحث الثاني: تعريف الأخلاق لغة واصطلاحاً.

المبحث الثالث: منزلة الأخلاق في الإسلام.

المبحث الرابع: الارتباط بين الأخلاق والإيمان.

المبحث الخامس: الغاية من الأخلاق الإسلامية.

المبحث السادس: بعض الأخلاق الإسلامية وأثر الإيمان عليها.

المبحث السابع: أثر الإيمان في توجيه الأخلاق.

الخاتمة: وتشتمل على أهم نتائج البحث.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/166) ، وعبد الرزاق في مصنفه (11/287) ، وابن عبد البر في التمهيد (6/121) ، والبغوي في شرح السنة (13/112)، وقال الهيثمي في المجمع (8/79) : ورجال أحمد رجال الصحيح.

ص: 247

وكان عملي في هذا البحث عزو الآيات إلى سورها من القرآن وتخريج الأحاديث والحكم عليها من خلال كلام أهل العلم فيها إذا كانت في غير الصحيحين، والترجمة للأعلام غير المشهورين، وشرح الكلمات الغريبة، والتعريف بالفرق والمصطلحات الواردة فيه، وتوثيق النقول وعزوها إلى أصحابها وغير ذلك مما يتطلبه البحث العلمي، وعملت فهرساً للمصادر والمراجع، وآخر للموضوعات.

وفي الختام أسال الله سبحانه أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به من قرأه، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يحسن أخلاقنا، إنه سميع مجيب. وصلى الله وصلى سلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المبحث الأول: تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تعريف الإيمان لغة

الإيمان مصدر آمن يؤمن إيماناً، فهو مؤمن، وهو مشتق من الأمن.

وأصل آمن بهمزتين لينت الثانية، وهو من الأمن ضد الخوف (1) .

قال الجوهري (2) : الإيمان: التصديق، والله تعالى المؤمن، لأنه أمّن عباده من أن يظلمهم، وأصل آمن أأمن بهمزتين لينت الثانية

والأمن ضدّ الخوف (3) (

وقال ابن منظور) (4)(: الإيمان ضدّ الكفر، والإيمان بمعنى التصديق ضدَه التكذيب، يقال: آمن به قوم وكذب به قوم)(5) (.

(1)

تهذيب اللغة للأزهري (15/513) .

(2)

هو إسماعيل بن حماد الجوهري، اللغوي، صاحب كتاب " الصحاح في اللغة، توفي سنة 396هـ. معجم الأدباء (6/151) ، بغية الوعاة (1/446) .

(3)

الصحاح (5/2071) .

(4)

هو أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي الأنصاري الإفريقي، المعروف بابن منظور، أديب لغوي، من مصنفاته: لسان العرب، توفي سنة 711هـ. بغية الوعاة (1/248) ، شذرات الذهب (6/26) .

(5)

لسان العرب (13/21) .

ص: 248

وقال الراغب الأصفهاني) (1) (: آمن إنما يقال على وجهين:

أحدهما: متعدّياَ بنفسه، يقال: آمنته، أي جعلت له الأمن ومنه قيل لله مؤمن.

والثاني: غير متعدُّ، ومعناه صار ذا أمن.

وقوله تعالى: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (] يوسف 17 [قيل: معناه بمصدق لنا، إلا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن)(2) (

وقال الفيروز أبادي) (3)(: ((الإيمان الثقة، وإظهار الخضوع)) (4) (.

وخلاصة ما سبق أن الإيمان في اللغة معناه التصديق الذي معه أمن وليس مجرّد التصديق يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (تعالى: ((

فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر،

فاللفظ متضمّن مع التصديق معنى الائتمان أو الأمانة ، كما يدلّ عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قالوا: (وما أنت بمؤمن لنا (] يوسف 17 [، أي لا تقرّ بخبرنا ولا تثق به، ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين، لأنهم لم يكونوا عنده ممّن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يأمن لهم

)) ) (5) (.

المطلب الثاني: تعريف الإيمان اصطلاحاً

من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأركان.

(1) هو الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم الأصبهاني المعروف بالراغب، من مصنفاته: المفردات في غريب القرآن، توفي سنة 502هـ. سير أعلام النبلاء (18/120) ، بغية الوعاة (2/297) .

(2)

المفردات ص (56) .

(3)

هو محمد بن يعقوب بن محمد الفيروزآبادي الشافعي، اللغوي، صاحب القاموس المحيط، توفي سنة 817هـ. شذرات الذهب (7/126) ، معجم المؤلفين (12/118) .

(4)

القاموس المحيط (ص 1518) .

(5)

مجموع الفتاوى (7/291، 292) .

ص: 249

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ((ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح)) ) (1) (.

فهذه خمسة أمور اشتمل عليها مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول القلب، وعمله، وقول اللسان، وعمله، وعمل الجوارح، كما ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -. والأدلة على دخول هذه الأمور في مسمى الإيمان كثيرة منها:

أولاً: قول القلب، وهو تصديقه وإيقانه، قال الله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (] الزمر33، 34 [. وقال تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين (] الأنعام 75 [. وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا (] الحجرات 15 [قال تعالى في المرتابين الشاكين: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم (] آل عمران 167 [.

وفي حديث الشفاعة ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة)) (2) ، وغير ذلك من الأدلة.

(1) العقيدة الواسطية بشرح الهراس ص (161) .

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (13/473) ، ومسلم في صحيحه (1/177) .

ص: 250

ثانياً: قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بلوازمهما، قال الله تعالى:(قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (] البقرة 136 [، وقال تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق (] القصص 53 [وقال تعالى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب (] الشورى 15 [، وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (] الزخرف 86 [، وقال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (] الأحقاف 13 [، وقال (: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله..)) (1) وما في معنى هذا من النصوص.

ثالثاً: عمل القلب، وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والإقبال على الله عز وجل والتوكل عليه ولوازم ذلك وتوابعه، قال الله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه (] الأنعام 52 [وقال: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (] الليل 20 [وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون (] الأنفال 2 [، وقال: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (] المؤمنون 60 [وغير ذلك من النصوص الدالة على وجوب التوكل والخوف والرجاء والخشية والخضوع والإنابة وغير ذلك من أعمال القلوب، وهي كثيرة جداً في الكتاب والسنة.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/75) ، وأخرجه مسلم (1/53) .

ص: 251

رابعاً: عمل اللسان، وهو العمل الذي لا يؤدى إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى باللسان، قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً يرجون تجارة لن تبور ((فاطر 27 [، وقال تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته (] الكهف 27 [، وقال: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً (] الأحزاب 41 [، وقال: (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (] المزمل 20 [. وغير ذلك من نصوص الشرع الدالة على أعمال اللسان والطاعات التي تؤدى به.

خامساً: عمل الجوارح، وهو العمل الذي لا يؤدى إلا بها مثل القيام والركوع والسجود والمشي في مرضاة الله كنقل الخطا إلى المساجد وإلى الحج والجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الأعمال التي تؤدى بالجوارح، قال الله تعالى:(وقوموا لله قانتين (] البقرة 238 [، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم (] الحج 78،77 [. وقال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً (] الفرقان 64،63 [، والنصوص في هذا كثيرة جداً (1) .

(1) انظر معارج القبول للشيخ حافظ حكمي (2/17 وما بعدها) .

ص: 252

قال محمد بن حسين الآجري (1) في باب ((القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث)) قال: ((اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح.

ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ معرفة القلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمناً، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين

)) (2) .

ثم ساق من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية ما يدل على ذلك ويؤيده.

المبحث الثاني: تعريف الأخلاق لغةً واصطلاحاً

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تعريف الأخلاق لغةً

الأخلاق جمع خلق بضم الخاء المعجمة، وبضم اللام وبسكونها، والخلق يطلق في اللغة على معانٍ هي:

الدين، والطبع، والسجية والمروءة، مأخوذة من الخلق، وهو التقدير) (3) .

(1) هو محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري، كان عالماً صاحب سنة واتباع، من مصنفاته: كتاب الشريعة، توفي سنة 360هـ. تاريخ بغداد (2/243) ، تذكرة الحفاظ (3/936) .

(2)

الشريعة للآجري ص (119) ، وانظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (4/832) .

(3)

لسان العرب، لابن منظور (10/86) ، والقاموس المحيط للفيروزآبادي (3/229) .

ص: 253

قال ابن فارس) (1) (: ((الخاء واللام والقاف: أصلان: يدل أحدهما على تقدير الشيء والآخر على ملامسته، أما الأول: فيقال فيه: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته، ومن ذلك الخُلُق، وهي السجية؛ لأن صاحبها قد قدّر عليه، وفلان خليق بكذا، وأخلق به، وما أخلقه! أي هو ممن يُقدر فيه ذلك، والخلاق: النصيب؛ لأنه قد قدّر لكل أحد نصيبه ....

أما الأصل الثاني: فيقال فيه: صخرة خلقاء أي ملساء

ومن هذا الباب: أخلق الشيء وخلق وخلِق إذا بلي

)) ) (2) (.

أو هو مأخوذ من الخلق بمعنى الإبداع من غير أصل ولا احتذاء

قال الراغب في المفردات: ((والخَلق والخُلق في الأصل واحد كالشَّرب، والشُّرب والصَّرم والصُّرم، لكن خُصَّ الخَلْق بالهيئات والأشكال، والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة)) ) (3) (.

المطلب الثاني: تعريف الأخلاق اصطلاحاً

الخُلُق: حال للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروية) (4) (.

وعرفه ابن المبارك) (5)(رحمه الله تعالى بقوله: "هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى)(6) (.

وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكف الأذى وطلاقة الوجه") (7) (.

(1) هو أحمد بن فارس بن زكريا الرازي اللغوي الأديب، من مصنفاته: معجم مقاييس اللغة، توفي سنة 395هـ. معجم الأدباء (4/80) ، وفيات الأعيان (1/118) .

(2)

معجم مقاييس اللغة (2/213214) .

(3)

المفردات في غريب القرآن للراغب ص (158) .

(4)

المعجم الوسيط (1/261) .

(5)

هو عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن الحنظلي المروزي، شيخ الإسلام في زمانه، وأمير الأتقياء في وقته وأمير المؤمنين في الحديث آنذاك، توفي سنة 181هـ. سير أعلام النبلاء (8/378) .

(6)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر والصلة (4/363) .

(7)

الآداب الشرعية لابن مفلح (2/216) .

ص: 254

وعرفه ابن مسكويه) (1) (بأنه: (حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية. وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب، ويهيج من أقل سبب

ومنها ما يكون مستفاداً بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر عليه أولاً فأولاً حتى يصير ملكة وخلقاً)) (2) (.

وعرفه الغزالي) (3)(بأنه: (هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً، سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً)) (4) (.

وعرفه الأصفهاني بأنه: اسم (للهيئة الموجودة في النفس التي يصدر عنها الفعل بلا فكر)) (5) (.

وعرفه الجرجاني بقوله: (عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإذا كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعاً بسهولة سميت الهيئة خلقاً حسناً، وإذا كانت الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً)) (6) (.

(1) هو أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه، اشتغل بالفلسفة والكيمياء والتاريخ، توفي سنة 421هـ، معجم الأدباء لياقوت (5/5) ، والأعلام للزركلي (1/211) .

(2)

تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق لابن مسكويه ص (41) .

(3)

هو أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، الفقيه الشافعي الغزالي، الفقيه الأصولي، من مصنفاته: إحياء علوم الدين، توفي سنة 505هـ. وفتيات الأعيان لابن خلكان (4/216) ، والأعلام للزركلي (7/22) .

(4)

الإحياء للغزالي (3/52) .

(5)

الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني ص (114) .

(6)

التعريفات للجرجاني ص (152) .

ص: 255

وقال القرطبي: "الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمود على الإجمال أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها، ولا تنصف لها، وعلى التفصيل: العفو والحلم والجود، والصبر، وتحمل الأذى، والرحمة، والشفقة، وقضاء الحوائج، والتوادد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك ") (1) (.

ومن أجمع التعاريف وأحسنها التي جمعت بين عناصر الخلق كلها تعريف العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث قال: (هيئة مركبة من علوم صادقة، وإرادات زاكية، وأعمال ظاهرة وباطنة، موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكتسب النفس بها أخلاقاً هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها)) (2) (.

المبحث الثالث: منزلة الأخلاق في الإسلام

علم الأخلاق من أشرف العلوم وأعلاها قدراً، وقيمة الإنسان تقاس بأعماله وأخلاقه، ولذا فإن للأخلاق في الإسلام منزلة عظيمة تعلم من مبلغ العناية التي عنيت بها في الكتاب والسنة، جاء في حديث أبي هريرة (أن النبي (قال:((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (3) .

وقد كانت عناية القرآن الكريم منذ بداية نزوله على نبينا محمد (بأمرين:

الأول: تقرير الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له، وغرس عقيدة التوحيد الصافية في النفوس، والتحذير من الشرك والبعد عنه، قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله ءواجتنبوا الطاغوت (] الأعراف 36 [.

(1)

فتح الباري (10/456) .

(2)

التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص (196) .

(3)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب (4/1987) .

ص: 256

الثاني: غرس الأخلاق الفاضلة لتزكية القلوب وتطهير النفوس واستئصال رذائلها والأخلاق السيئة منها، ومن ذلك قوله تعالى:(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (] الأعراف 199 [قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية (1) .

وقد كان من أجل غايات بعثة نبينا محمد (إتمام مكارم الأخلاق كما جاء في حديث أبي هريرة (قال: قال رسول الله (( (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) (2) .

قال ابن عبد البر (3) في التمهيد: "ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله، والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه"(4) .

ومن أجل ذلك فقد جعل الله الأخلاق مقياساً للخيرية كما قال (( (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقاً)) (5) .

(1) مدارج السالكين لابن القيم (2/304) .

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/381) ، والإمام مالك في الموطأ بلاغاً (2/904) ، والحاكم في المستدرك (2/613)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/334) : هذا حديث مدني صحيح.

(3)

هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد الله النمري، أبو عمر، من كبار حفاظ الحديث في المغرب، قال الذهبي: كان في أصول الديانة على مذهب السلف، توفي سنة 463هـ. سير أعلام النبلاء (18/153) .

(4)

التمهيد (24/334) .

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب (7/80)، ومسلم في صحيحه: كتاب الفضائل (4/1810) .

ص: 257

وجعلها من كمال الإيمان كما قال (( (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً)) (1) ، وأكثر ما يثقل الميزان يوم القيامة بالحسنات هو الأخلاق، قال (:((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق)) (2) . وقال (: ((إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)) (3) . وهي أكثر أسباب دخول الجنة، "سئل رسول الله (عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ فقال:((تقوى الله وحسن الخلق)) (4) . وبحسن الخلق تنال محبة المصطفى (، والقرب منه مجلساً يوم القيامة وإنها لغاية عظيمة، قال (( (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثّرثارون (5) والمتشدقون (6) والمتفيهقون (7)) (8) .

(1) تقدم تخريجه ص (6) .

(2)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر (4/362363)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب (5/149) ، والحاكم في المستدرك (1/60)، وقال: هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر، (4/363)، وقال: حديث حسن صحيح.

(5)

الثرثار: هو كثير الكلام تكلفاً، والثرثرة: كثرة الكلام. النهاية في غريب الحديث (1/209) .

(6)

المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، وقيل: أراد بالمتشدق: المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم. النهاية في غريب الحديث (2/453) .

(7)

المتفيهق: أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ويغرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره. النهاية في غريب الحديث (3/482) .

(8)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر (4/370)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

ص: 258

فهذه الأحاديث العظيمة فيها حث عظيم على التحلي بمحاسن الأخلاق لما فيها من بيان لفضله ومنزلته في الإسلام، فما من خلق كريم ولا فعل جميل إلا وقد وصله الله بالإسلام.

ومن هنا يتبين لنا أن الإيمان القوي يكسب الخلق الفاضل، وأن سوء الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان، أو فقدانه، والشخص المعوج في السلوك هو الذي يقترف الرذائل غير آبه لأحد، وقد جاء عن الرسول (في وصف حاله:((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) (1) .

والذي يذكر جيرانه ويرميهم بالسوء، ضعيف الإيمان كما جاء في حديث الرسول (قال:((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) (2) .

ولقد سأل الرسول (أصحابه يوماً: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال:((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) (3) .

(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/500) ، والترمذي في كتاب البر والصلة (4/365)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب (7/78) .

(3)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب (4/1997) .

ص: 259

يقول محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "الحض على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات كثير جداً في كتاب الله تعالى وسنة نبيه (، ولذلك لما سئلت عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن خلقه (قالت: "كان خلقه القرآن " (1) . لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق لأن الله تعالى يقول في نبيه (: (وإنك لعلى خلق عظيم (] القلم 4 [. فدل مجموع الآية وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق أنه يكون على خلق عظيم، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق"(2) .

المبحث الرابع: الارتباط بين الأخلاق والإيمان

الدين الإسلامي دين عظيم يشمل كل جوانب الحياة ولا يهمل شيئاً منها، فهو يربط بين العقيدة، وبين الأخلاق التي ارتضاها للمسلمين، قال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (] الإسراء 9 [فمن تأمل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله (، تبين له إن مقتضى الإيمان بالله تعالى أن يكون المؤمن ذا خلق محمود، وإن الأخلاق السيئة دليل على ضعف الإيمان، وبذلك يمكننا أن نعرف مدى قوة إيمان الشخص بمقدار ما يتحلى به من مكارم الأخلاق. ومدى ضعف إيمانه بمقدار ما يتصف به من ذميم الأخلاق، حيث يتبين لنا الصلة القوية بين الأخلاق والعقيدة على نحو يجعل انفصال العقيدة عن الأخلاق واستقلالها أمراً مستحيلاً، لأن الذي يحمل على التحلي بفضائل الأخلاق والتخلي عن رذائلها إنما هو الإيمان بمشرعها وهو الله سبحانه وتعالى، وبما جاء به رسولنا (، والإيمان بما يترتب عليها من ثواب عند الامتثال، وعقاب عند الترك، والإيمان بوجوب تزكية النفس وتطهيرها من دنس المعاصي.

(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1/513) .

(2)

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/411) .

ص: 260

ويتضح هذا جلياً في كتاب الله عز وجل، فالأخلاق الإسلامية التي حث عليها ورغب فيها وأرشد إليها تسبق دائماً بنداء الإيمان، فعندما أمر الله عز وجل المؤمنين بالعدل، سبق الطلب وصف الإيمان للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي العدل، فيقول عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (] المائدة 8 [.

وعندما أمر بالصدق سبقه نداء الإيمان فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (] التوبة 119 [.

كما ورد الربط بين الإيمان، وبين عمل الصالحات والإحسان، فقال عز وجل (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً (] النساء 125،124 [.

كما بين الرسول (في السنة الصلة القوية بين الإيمان والأخلاق الحسنة من الصدق والوفاء والأمانة أو ضد هذه الأخلاق من جانب آخر فقال (: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (1) .

وفي روايةٍ: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن، كانت فيه خلة من نفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) غير أن في حديث سفيان: ((وإن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق)) (2) .

وهذا يبين لنا أن هذه الأخلاق السيئة التي حذر الإسلام منها من الكذب، وخلف الوعد، وخيانة الأمانة، والغدر، والفجور دليل على ضعف الإيمان بالله تعالى، إذ الأخلاق نبتة وثمرة من ثمار الإيمان.

(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان (1/14) .

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (1/78) .

ص: 261

والإيمان بالله عز وجل يقتضي أن يكون المؤمن متصفاً بالأخلاق الفاضلة من الكرم والجود والسماحة وحسن الجوار، يعرف حقوق جاره عليه، فيؤديها، ولا يفعل ما يؤذيه أو يضره، ويعلم حق ضيفه عليه فيؤديه، يقول عليه الصلاة والسلام:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه)) (1) .

ويقول (( (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) (2) .

وعن عبد الله بن مسعود (قال: قال رسول الله (: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه)) . قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟

قال: ((غَشْمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار.

إن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو بالخبيث)) (3) .

كما يقتضي أن يكون المؤمن حيياً: فقد مر رسول الله (على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله (: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) (4) .

ويقتضي أن يكون المؤمن رحيماً: يقول عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا)) (5) .

(1) أخرجه البخاري (4/54) .

(2)

سبق تخريجه ص (34) .

(3)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/387) ، والحاكم في المستدرك (2/447)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

(4)

أخرجه البخاري: كتاب الإيمان (1/74) .

(5)

أخرجه الترمذي في كتاب البر، (4/322) وقال: هذا حديث حسن غريب.

ص: 262

وليس المقصود بالرحمة معنى ضيقاً محدوداً، يشمل شخصاً دون آخر، أو جماعة دون أخرى، أو جنساً دون غيره، بل الرحمة بمعناها العام الذي يشمل كل من يستحق الرحمة من خلق الله تعالى.

عن أبي موسى (أنه سمع النبي (يقول: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا)) قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال:((إنه ليس رحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة)) (1) .

أي الرحمة الشاملة لجميع خلق الله جل في علاه.

وإن من مقتضى الإيمان أن يكون المسلم صابراً محتسباً، راضياً بما قدر الله له، فالرسول (يقول:((ليس منا من لطم الخدود. وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)) (2) .

فإذا وقر الإيمان في القلب، تقبل المؤمن كل ما يأتيه في السراء والضراء، لأنه يعلم أن أمره كله خير، كما قال عليه الصلاة والسلام:((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)) (3) .

فالمؤمن لا يخاف من المصائب والأقدار، إنما يخاف من الذنوب والسيئات وسوء الأخلاق. قال عبد الله بن مسعود (:((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا)) قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه" (4) .

(1) أخرجه أبو يعلى في المسند (7/250) ، والطبراني في مكارم الأخلاق ص (55) ، وقال الهيثمي في المجمع (8/187) ، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3/163) .

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد الرقائق (4/2295) .

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الدعوات (7/146) .

ص: 263

كما بين الرسول (للمؤمن ميزاناً يعرف به إيمانه فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك، فأنت مؤمن)(1) . فالمؤمن دائماً يسعى إلى مكارم الخلاق يتحلى بها، وإلى محاسن السجايا يتصف بها، حتى يكتمل إيمانه، ويثقل ميزان حسناته يوم القيامة، فيدخل جنة ربه.

وقد فهم الصحابة رضوان عليه ذلك فحرصوا عليه، عن أم الدرداء قالت: قام أبو الدرداء ليلة يصلى. فجعل يبكي، ويقول: اللهم أحسنت خلقي، فحسن خلقي، حتى أصبح، فقلت يا أبا الدرداء، ما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق، فقال: يا أم الدرداء إن العبد المسلم يحسن خلقه، حتى يدخله حسن خلقه الجنة، ويسئ خلقه، حتى يدخله النار، والعبد المسلم يغفر له وهو نائم. فقلت: يا أبا الدرداء، كيف يغفر له. وهو نائم؟ قال: يقوم أخوه من الليل فيتهجد، فيدعو الله عز وجل فيستجيب له، ويدعو لأخيه، فيستجيب له فيه (2) .

وعن عطاء عن ابن عباس، لما دخل رسول الله (على الأنصار، فقال: أمؤمنون أنتم؟

فسكتوا، فقال عمر: نعم يا رسول الله.

قال: وما علامة إيمانكم؟

قالوا: نشكر على الرخاء، ونصبر على البلاء، ونرضى بالقضاء.

فقال (: مؤمنون ورب الكعبة (3) .

فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل هذه الأخلاق الكريمة من الشكر على النعمة، والصبر على البلوى، والرضا بما قضى الله وقدر أمارات وعلامات على الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/246) ، والطبراني في الكبير (8/137) ، والحاكم في المستدرك (1/14)، وقال: صحيح متصل على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (1/86) : رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/387) .

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير (11/123) ، وفي الأوسط (9/163) ، وسكت عنه الهيثمي في مجمع البحرين (1/195،196) .

ص: 264

وبهذا يتبين لنا أن العلاقة وثيقة بين الإيمان والأخلاق في الفرد والمجتمع المسلم، وأن الرابطة الإسلامية والأخوة الإيمانية تزيد كلما التزم أفراد المجتمع بالأخلاق الفاضلة، فالصدق في الحديث والمعاملة والعدل في الحكم والأمانة في جميع الأمور، والوفاء بالعهد والحياء والصبر والحلم والرفق والتعاون على البر والتقوى توجد الثقة والمحبة وتشعر الجميع بالرضى والأمن.

المبحث الخامس: الغاية من الأخلاق الإسلامية

إن الغاية من الالتزام بالأخلاق والفضائل الإسلامية والابتعاد عن الرذائل والأخلاق السيئة هو اكتساب مرضاة الله عز وجل، فإنه سبحانه يحب فعل الخير ويكره فعل الشر، ومن رضي عنه الله سبحانه وتعالى ظفر بسعادة الدارين وعظم أجره وعلت منزلته.

والالتزام بمكارم الأخلاق التي أمر بها الإسلام أو رغب بفعلها فيه تقوية لإرادة الإنسان وتمرينها على حب الخير وفعله والبعد عن الشر وتركه، ويتحقق للمؤمن سعادة القلب بمقدار ما حققه بأفعاله من مرضاة الله سبحانه وتعالى.

وباكتساب مرضاة الله تعالى تتحقق النجاة من الشقاوة التي يجلبها الإنسان لنفسه بفعل السيئات.

فبالالتزام بالخلق والحرص عليها تطهر النفوس وتزكو قال عز وجل: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ((الشمس 10،9) ، وبالأخلاق يسعد الفرد والمجتمع، وتنتشر الفضيلة وتختفي الرذيلة، وبالأخلاق يكثر الخير والصلاح والصالحون، ويقل الفساد وأهله، وبالأخلاق تبقى الأمم وتقوى وترقى، وجماع ذلك كله حصول مرضاة الله سبحانه وتعالى والأمن من عذابه في الدار الآخرة. وهذه هي الغاية العظمى من عناية الإسلام بالأخلاق وحرصه عليها.

ص: 265

ولقد أدرك أعداء المسلمين قيمة الأخلاق الإسلامية في تكوين الأمة المترابطة القوية المتينة، فعملوا على إفساد الأخلاق للمسلمين بكل ما أوتوا من مكر ودهاء وبكل ما أوتوا من وسائل مادية ومعنوية، ليبعثروا قوتهم المتماسكة، وليفتتوا وحدتهم الصلبة التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة، ويزيلوا جمالها وبهجتها التي هي مثل الجنة الوارفة الظلال المثمرة خضرة وبهاءً وثمراً.

إن أعداء المسلمين قد أدركوا وعرفوا أن الأخلاق الإسلامية في أفراد المسلمين تمثل معاقد القوة، فجندوا جنودهم لغزو هذه المعاقل وكسرها بجيوش الفساد والفتنة، وكان غزوهم من عدة جهات، ولقد عرفوا أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان بالأخلاق الإسلامية العظيمة إنما هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والالتزام بشرعه، فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم ويسدوا عيونه، ويقطعوا شرايينه، وعرفوا أن ذلك يتم بدراسة حياتهم وإفساد المفاهيم والأفكار فوجهوا جهودهم لغمس أبناء المسلمين بالانحلال الخلقي بغية إصابتهم بالرذائل الخلقية عن طريق العدوى وسراية الفساد واستمراء الشهوات المرتبطة برذائل الأخلاق، وقد حققوا بعض ما يريدون ولكن جنود الله من الدعاة والمصلحين لهم جهد كبير في الدعوة إلى دين الله ونشر الفضيلة ودحض الرذيلة وصد كيد الأعداء مستعينين بالله عز وجل الذي كتب النصر لأوليائه كما قال تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز (] المجادلة 21 [.

وإذا عرف المسلمون الغاية من الأخلاق الإسلامية وأهميتها في حياتهم وتمسكوا بها استطاعوا أن يردوا كيد الأعداء في وجوههم ويحفظوا مجتمعاتهم من الرذيلة، والله الموفق.

المبحث السادس: بعض الأخلاق الإسلامية وأثر الإيمان عليها

ص: 266

الإيمان بالله سبحانه تعالى هو مصدر الأخلاق ومنبعها، فهو الذي يزكي النفوس ويطهرها ويهذب الأخلاق ويحسنها، وله أثر عظيم في التمسك بها والحرص عليها، والبعد عن مساوئ الأخلاق ورذائلها، وقد اخترت جملة من الأخلاق الفاضلة التي رأيت أنها جمعت أصول الأخلاق مع بيان أثر الإيمان عليها، ومنها:

1 الصدق:

الصدق خلق عظيم، نال أهمية بالغة في الإسلام، ومن ذلك أن الله مدح الصادقين وأمرنا بالصدق فقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (] التوبة 119 [.

كما أنه سبحانه أثنى على الأنبياء والمرسلين، وبعض عباده المتقين بالصدق، وطلب من المؤمنين اتباع الصادقين وبشرهم به فقال عز وجل: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً (] مريم 41 [.

وقال تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً (] مريم 54 [.

وقال تعالى: (رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه (] الأحزاب 23 [.

وقال تعالى: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم (] المائدة 119 [.

الصدق لغة: نقيض الكذب، وهو من صَدَقَ يَصْدُقُ صَدْقاً، وصِدْقاً يقال: صَدَقْتُ القومَ، أي: قلت لهم صدقاً، ومن أمثالهم: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، رجل صَدُوقٌ: أي: أبلغ من الصادق، والصديق المبالغ في الصدق (1) .

عرف الماوردي الصدق بقوله: " الصدق هو الإخبار عن الشيء على ما هو عليه، والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه"(2) .

وعرفه الغزالي بقوله: "فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق"(3) .

وقال بعضهم: "أقل الصدق استواء السر والعلانية، والصادق من صدق في أقواله، والصديق: من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله"(4) .

(1) لسان العرب (10/193194) .

(2)

أدب الدنيا والدين ص (224) .

(3)

الإحياء (4/388) .

(4)

المصدر السابق (4/389) .

ص: 267

وإذا تأملنا النصوص الواردة في خلق الصدق، نجدها تجعل المسلم يدرك أن الصدق من متممات إيمانه ومكملات إسلامه.

وقد حث الرسول (على الصدق وأخبر أنه يهدي إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود (قال: قال رسول الله (: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) (1) .

قال النووي: قال العلماء في هذا الحديث حث على تحري الصدق، وهو قصده الاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه، فيعرف به (2) .

وقد أخبر النبي (أن كذب الحديث من النفاق وعلاماته: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (3) .

وقد أمر الله تعالى عباده المتقين بالقول السديد فقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (] الأحزاب 71،70 [.

فالصدق في الأقوال، يجعل أصحابها يصدقون في الأعمال، ويكون ثمرة ذلك الصلاح في الأحوال، وذلك الفوز العظيم.

فالمسلم حين يعامل إخوانه لابد أن يكون صادقاً في معاملاته معهم، فلا يغش ولا يخدع.

قال عليه الصلاة والسلام: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما)) (4) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب (7/95) ، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة (4/2012) .

(2)

شرح صحيح مسلم للنووي (12/253) .

(3)

تقدم تخريجه ص (38) .

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع (4/309)، ومسلم في صحيحه: كتاب البيوع (3/1164) .

ص: 268

وقال (أيضاً: ((الحلف منفَقَةٌ للسلعة ممحقة للبركة)) ، وفي رواية مسلم ((للربح)) (1) .

فيجب على المسلم إذا وعد أحداً أنجز له ما وعد به؛ إذ خلف الوعد من علامات النفاق كما مر ذكره في الحديث.

لهذا، فصدق الوعد من الصفات الحميدة، التي ينبغي أن يتمسك بها المسلم، لأنها سبب من أسباب النجاح في هذه الحياة.

ومن صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور، كما قال تعالى: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً (] الفرقان 72 [.

لأن شهادة الزور تعد من أكبر الكبائر، فقد قرنت بالإشراك بالله وعقوق الوالدين، قال رسول الله (:((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال:((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان متكئاً فجلس فقال: ((ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور)) فما زال يقولها، حتى قلت: لا يسكت (2) .

وقد نهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن كتم الشهادة، وأخبر بأن الذي يكتمها آثم القلب، قال تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (] البقرة283 [.كما أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بالوفاء بالعهد فقال تعالى: (وأوفوا بالعهد إ ن العهد كان مسؤولاً (] الإسراء 34 [. وقال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم (] النحل 91 [.

وأثنى على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فقال: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً (] الأحزاب 23 [.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع (4/315)، ومسلم في صحيحه: كتاب المساقاة (3/1228) .

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب (7/70) ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1/38) .

ص: 269

وذم الذين أخلفوا ما عاهدوه عليه، قال تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلي يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (] التوبة75، 77 [.

وللصدق ثمرات طيبة يجنيها الصادقون، فهو طريق الفلاح والنجاح وفيه راحة الضمير وطمأنينة النفس، والبركة في الكسب وزيادة الخير، والنجاة من المكروه، والهداية إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، كما في الحديث المشهور المتقدم.

وقد التزم المسلمون في صدر الإسلام بهذا المبدأ العظيم، وجاء القرآن مؤكداً لهذه الحقيقة، حيث قال تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (] الزمر 33 [.

ولذا فالمسلم الحق هو الذي يصدق في كل أقواله وأفعاله، ويتجنب الكذب ومزالقه، ولا يكذب أبداً مهما نال بذلك من مكاسب.

ص: 270

ومن أعظم الأمثلة على صدق الصادقين حديث كعب بن مالك (قال: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله (قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله (قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله (علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك فقلت بلى إني والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله (أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله (بما اعتذر إليه المتخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله (لك فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله (المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض

ص: 271

فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله (فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو بن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت لما قرأتها وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله (يأتيني فقال إن رسول الله (يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال كعب فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله (فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربك قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله (في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت والله لا أستأذن فيها رسول

ص: 272

الله (وما يدريني ما يقول رسول الله (إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله (عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله (بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله (فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنونني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله (جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله (قال رسول الله (وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال لا بل من عند الله وكان رسول الله (إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله قال رسول الله (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر فقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما لقيت فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله (أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله (إلى يومي هذا كذبا وإني

ص: 273

لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت وأنزل الله على رسوله ((لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار (إلى قوله (وكونوا مع الصادقين (فوالله ما نعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله (أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال تبارك وتعالى: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم (إلى قوله: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (قال كعب وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله (حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله (أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا (وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه (1) .

فالصدق من أعظم مقامات الإيمان وشعبه، فالإخلاص والمحبة والرجاء والاستقامة كلها تفتقر إلى الصدق ولا تصح إلا به، فلذا يجب التحلي بهذه الصفة العظيمة.

2-

الصبر:

الصبر لغةً: هو المنع والحبس، وهو نقيض الجزع، يقال: صبر صبراً فهو صابر وصبَّار وصبِّير وصبور. وسمي الصوم صبراً، لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح (2) .

وفي الاصطلاح: هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لايحسن ولا يجمل. وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها.

وقيل: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله، لا إلى الله؛ لأن الله تعالى أثنى على أيوب عليه السلام بالصبر بقوله:(إنا وجدناه صابراً ((ص 44)، مع دعائه في دفع الضر عنه بقوله: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين (] الأنبياء 83 [.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، (4/1603) .

(2)

لسان العرب (4/438، 439) .

ص: 274

ولقد اهتم الإسلام بالصبر، ورفع منزلته، وأثنى على المتحلين به، وهذا يدل على عظم أمره، لأنه أساس كثير من الفضائل، بل هو أصلها، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليه، فالشجاعة هي الصبر على مكاره الجهاد، والعفاف هو الصبر عن الشهوات، والحلم هو الصبر على المثيرات. لهذا أحب الله سبحانه وتعالى الصابرين فقال عز وجل: (والله يحب الصابرين (] آل عمران 146 [

وقال تعالى: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (] النحل 96 [.

وأخبر سبحانه وتعالى أنهم ينالون مزيداً من الفضل والرحمة والثواب في الدنيا والآخرة، فقال: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (] الزمر 10 [.

كما أخبر الله تعالى أن الصبر من الخصال العظيمة التي يجب أن يتصف بها المؤمنون فقال عز وجل: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (] آل عمران 186 [. وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم، فقال تبارك وتعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (] البقرة 157 [.

فالصبر وحده هو الذي يعصم من التخبط، ويجعل المسلم يسير متزناً وفق منهج الإسلام في كل شؤون الحياة، فلابد أن يوطن المسلم نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، وكان الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ممن برز في هذه الفضيلة، وفي مقدمتهم أولوا العزم من الرسل، ولذلك خاطب الله نبيه الخاتم صاحب الخلق العظيم (، وأمره بالصبر، فقال تعالى: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل (] الأحقاف 35 [.

فنبينا محمد (، أوذي أذىً شديداً ولقي من قومه ما لقي من البلاء، فصبر، واحتمل، وبلّغ رسالة ربه، حتى أتاه اليقين.

يقول الماوردي: "فقد لقي بمكة من قريش وغيرهم ممن كان يدعوهم إلى الله أو يطلب منهم حمايته ليؤدي رسالة الله ما يشيب النواصي، وهو مع ذلك صابر صبر المستعلي، وثابت ثبات المستولي"(1)

(1) أعلام النبوة للماوردي ص (283) .

ص: 275

والصبر ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء، وذلك هو الحياة كلها، لذلك كان الصبر نصف الإيمان؛ لأنه ما من مقام من مقامات الإيمان إلا ويلازمه الصبر.

فالمؤمن يحتاج إلى الصبر على الطاعة لأن النفس بطبعها تنفر من العبودية، وهي شاقة على النفس مطلقاً، ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل، كالصلاة، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يكره بسببهما جميعاً كالحج والجهاد، فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد.

ومن أنواع الصبر الصبر عن المعاصي وهي مقتضى باعث الهوى، وما أحوج العبد إلى الصبر عنها. وقد جمع الله أنواع المعاصي في قوله تعالى: (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي (] النحل 90 [. وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي التي أصبحت مألوفة بالعادة.

وأما النوع الثالث من أنواع الصبر فهو الصبر على المصائب والأقدار، مثل موت الأعزة، وهلاك الأموال، وزوال الصحة بالمرض. فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر.

والمؤمن بحاجة إلى الصبر أمام مواجهة المصائب التي تجري عليه بأن يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ويحبس نفسه عن الجزع والتسخط؛ لأن الصبر على المصائب ثمرة من ثمار الإيمان بالقدر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة.

والصبر من الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة، والمؤمن حين يتقي ويصبر ويغفر ويشكر، يوفى أجره بغير حساب، ويكتب له النجاح والفلاح والظفر، في شؤون حياته كلها، وذلك هو الخير كله.

قال الله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور (] الشورى 43 [.

وقال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (] آل عمران 186 [.

وقال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (] الزمر 10 [.

ص: 276

وقال رسول الله (: ((عجباً لأمر المؤمن: إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)) (1) .

والمؤمن يبتلى في هذه الحياة، والفائز من المؤمنين من حسن عمله وصبر واتقى قال تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً (] الملك 2 [.

وهذه نصوص من الكتاب والسنة تبين لنا أنواع الابتلاء وتبشر الصابرين عليه بأعظم المثوبة في الدارين.

وقال الله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (] البقرة 155، 157 [.

وقال تعالى: (والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (] البقرة 177 [.

وقال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين (] محمد 31 [.

وقوله تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله (] النحل 127 [.

وقوله تعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (] لقمان 17 [.

وفي السنة عن أنس بن مالك (أن رسول الله (قال: ((إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ثم صبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه)) (2) .

وفي رواية الترمذي قال:: قال رسول الله (: ((إن الله تعالى يقول: إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا، لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة)) (3) .

وعن أبي هريرة (قال: قال النبي (: ((يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبته فصبر واحتسب، لم أرض له ثواباً دون الجنة)) (4) .

(1) تقدم تخريجه ص (43) .

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المرضى (7/116) .

(3)

سنن الترمذي (4/602) .

(4)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الزهد (4/603) . وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 277

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (: ((إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيِّه (1) من أهل الأرض فصبر واحتسب وقال ما أمر به بثواب دون الجنة)) (2) .

وعن أبي هريرة (قال: إن رسول الله (قال: ((يقول الله ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (3) .

وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي (فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)) ، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها) (4) .

وما عند الله من الجزاء والمثوبة للصابرين هو خير حافز يدعو المؤمن إلى الصبر والمصابرة، حتى يكون من المفلحين.

(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (] آل عمران 200 [.

على ما يصيبه ابتغاء مرضاة الله ومن ذلك قوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (] البقرة 155، 156 [.

وقوله تعالى: (واصبر وما صبرك إلا بالله (] النحل 127 [.

وقوله تعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (] لقمان 17 [.

(1) بصفيه: بمحبه الخاص من الولد وغيره، يقول الحافظ ابن حجر في الفتح (11/242) : صفيه: بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية وهو الحبيب المصافي كالولد والأخ وكل من يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت.

(2)

أخرجه النسائي في سننه: كتاب الجنائز (4/23) . وصححه السيوطي في الجامع الصغير (1/73)

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق (7/173) .

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: (4/1994) .

ص: 278

ومن السنة ما رواه أنس بن مالك (قال: قال رسول الله (: ((الصبر عند الصدمة الأولى)) وفي رواية: (أنه أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال: ((اتقي الله، واصبري)) فقالت: وما تبالي بمصيبتي، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله (فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك. قال: ((إنما الصبر عند أول الصدمة)) أو قال: ((عند أول الصدمة)) .

وفي أخرى نحوه، أنها قالت:(إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، وأنه قال (: لما جاءته وقالت: لم أعرفك: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) ) (1) .

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (أرسلت بنت النبي (إليه: أن ابناً لي قبض، فائتنا وفي رواية: ابني احتضر فأشهدنا وفي أخرى: إن ابنتي قد حضرت فأرسل يقري السلام، ويقول: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمىً، فلتصبر ولتحتسب)) ، فأرسلت إليه تقسم بالله ليأتينها) (2) .

فكل من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، فلابد أن يؤذى، فما له دواء إلا الصبر في الله، الاستعانة بالله، والرجوع إلى الله (3) .

وكان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في مقدمة من أوذي في الله، وقد لقي الرسول (وصحبة الكرام أنواعاً كثيرة من الأذى.

قال تعالى عن قول الرسل لأقوامهم: (ولنصبرن على ما ءاذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (] إبراهيم 12 [.

وقال تعالى: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (] المزمل 10 [.

وقال تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصبرين واصبر وما صبرك إلا بالله (] النحل 126، 127 [

(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجنائز (3/171) ، ومسلم في صحيحه (2/637) .

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3/151) ، ومسلم في صحيحه (2/635) .

(3)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/445) .

ص: 279

وعن ابن مسعود رحمه الله تعالى قال: كأني أنظر إلى رسول الله (، يحكي نبياً من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون)) (1) .

وعن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب رسول الله (قال: قال رسول الله (: ((المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم)) أخرجه الترمذي، وقال: وكان شعبة يرى أنه ابن عمر (2) .

وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (شكونا إلى رسول الله (وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: ((كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)(3) .

ولقد صبر النبي (على الاضطهاد والتعذيب والإيذاء والسخرية. وتحمل كل ذلك (بصبر جميل وعزيمة قوية، ولم يقتصر الأمر عليه (، بل لحق ذلك الأذى كل أتباعه وأقاربه. ففي يوم الخندق حوصرت المدينة ذلك الحصار الشديد الذي لم يعرف المسلمون فيه نوماً ولا راحة، وطالت الفترة، وتعب المسلمون، وكانوا كما وصفهم الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصر وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (] الأحزاب 10،11 [.

(1) أخرجه البخاري (7/249) في ومسلم في صحيحه (3/1417) .

(2)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة (4/663) . وابن ماجه في سننه: كتاب الفتن (2/1338) . وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (10/512) .

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب (4/180) .

ص: 280

فالصبر له مكانة عظيمة في الإسلام ومنزلة رفيعة في الإيمان؛ لأن أكثر أخلاق الإيمان لا تتم إلا بالصبر، وقد أدرك السلف رحمهم الله تعالى هذه المنزلة العظيمة للصبر من الإيمان حتى قال عبد الله بن مسعود (:"الصبر نصف الإيمان"(1) ، وهذا يبين لنا أهمية خلق الصبر ومكانته العظيمة من الإيمان.

3 الحلم والأناة

الحلم بالكسر: الأناة والعقل، وجمعه: أحلام، وحلوم، والحلم: ترك العجلة (2) .

وفي الاصطلاح: إمساك النفس عن هيجان الغضب.

والأناة: التثبيت وترك العجلة (3) . والحلم بالكسر هو الأناة والتثبت في الأمور (4)، والحلم: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب (5) .

ومن أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى الحليم، قال تعالى: (ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (] آل عمران 155 [، وقال تعالى: (والله شكور حليم (] التغابن 17 [.

والحلم من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي يحبها الله تعالى، ويدل على ذلك قوله (للأشج عبد القيس:((إن فيك لخصلتان يحبهما الله، الحلم والأناة)) (6) .

(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/34) ، والبيهقي في شعب الإيمان حديث رقم (48) .

(2)

انظر: معجم مقاييس اللغة (2/93) ، القاموس المحيط (4/99) .

(3)

انظر شرح صحيح مسلم للنووي ص (1/155) .

(4)

النهاية في غريب الحديث (1/434) .

(5)

المفردات للراغب ص (129) .

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان (1/48) .

ص: 281

وهو من صفات المؤمنين، ومن كان له عقيدة سليمة إذ هي التي تقود الإنسان وتؤثر في جميع تصرفاته فيغضب في مقام الغضب، ولا يتسرع إلى الانتقام، ولذا كان الحلم من أبرز صفات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فلا ينتقمون من الكفار بأفعالهم السيئة تجاههم، قال الله عز وجل في حق نبيه إبراهيم عليه السلام:(إن إبراهيم لأواه حليم (] التوبة 114 [ونبي الله هود عليه السلام دعا قومه إلى توحيد الله عز وجل وقالوا له: (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (] الأعراف 66 [فرموه بالحماقة، وخفة العقل، ولكن بحلمه عليه الصلاة والسلام لم يرم بهم بالقول أو الفعل بل (قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (] الأعراف 67 [وهذا الصفات التي يتصف بها الرسل من البلاغ والنصح والأمانة والحلم مما ينبغي أن يتصف بها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: أي لست كما تزعمون بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء فهو رب كل شيء ومليكه (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين (.] الأعراف68 [وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغ والنصح والأمانة (1) .

وقوة الإيمان لها تأثير كبير على اكتساب الفضائل الخلقية والسلوكية ومنها صفة الحلم، فالمؤمن الذي يعلم فضل الحلم يجد في نفسه اندفاعاً قوياً لاكتساب فضيلة الحلم.

(1) تفسير القرآن العظيم (2/208) .

ص: 282

وهنالك ارتباط وثيق بين الحلم والعقل، وقد سبق تفسير الحلم بالعقل؛ لأن العقل السوي هو الذي يعقل صاحبه عن الاندفاع وراء عواطفه وغرائزه، أو وراء انفعاله وشهواته، أو وراء طبائعه النارية، أو وراء كل ما يميل به إلى الجنوح والانحراف، وإن الإنسان الذي يتحكم في انفعالاته يعد إنساناً قوياً. يقول رسول الله (:((ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (1) .

ومما يدل على فضل الحلم وبيان أهميته: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)) (2) .

ومن حلمه (ما جاء في حديث أبي هريرة (قال: بال أعرابي في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي (: ((دعوه، واهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) (3) .

فقد علّم الرسول (في هذا الحديث أصحابه كيف يكون الحلم بالجاهلين، وكيف يكون الرفق بهم، وكيف يجب أن يكون الدعاة إلى الله والحق والخير والفضيلة وأنهم ميسرين لا معسرين.

وفي رواية أخرى عن أنس (قال بينما نحن في المسجد مع رسول الله (إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله (: مه مه!! حتى بال، ثم إن رسول الله (دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) ، قال أنس:((وأمر (أي رسول الله () رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فسنّه عليه)) (4) . (أي فصبه على المكان الذي بال فيه الأعرابي) .

(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب (4/2014) .

(2)

تقدم تخريجه ص (81) .

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الوضوء (1/61) .

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الطهارة (1/236) .

ص: 283

وهذا يدل على حلم الرسول (وعلى رفقه وحسن سياسته وهذا الخلق العظيم هو الذي ملك به قلوب أصحابه وفرض به احترامه على أعدائه.

ومن حلمه (عدم دعائه على الذين آذوه من قومه، وكان باستطاعته أن يدعو عليهم فيهلكهم الله، ولكنه (حلم عليهم رجاء صلاحهم، وصلاح من يخرج من ذريتهم.

فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إن النبي (قال لملك الجبال لما جاءه عارضاً عليه أن يطبق على قومه الجبلين المحيطين بمكة فقال النبي (: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) (1) .

وهكذا كان الرسول (حليماً في أحلك الأوقات وأقسى الحالات شدة.

فالحلم أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد؛ وقد قال علي بن أبي طالب (: أول عوض الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره (2) .

يقول صاحب بهجة الناظرين: الحلم منزلة بين رذيلتين الغضب والبلادة، وهو تأني وسكون عند الغضب أو مكروه مع قدرة وقوة وصفح وعقل؛ فالحليم لا يستفزه الذين لا يعلمون ولا يستخفه الذين لا يعقلون وإنما يضبط نفسه عند هيجان الغضب. وهو يبدأ بكظم الغيظ ثم النظر في عواقب الأمور وبوضع الشيء في موضعه مما يدل على صحة العقل وكماله وعلم صاحبه وإرادته القوية التي تبصره في اتخاذ رد الفعل السليم باتباع أيسر الأمور وأرشدها، وقد ينتهى الأمر بالعفو والإحسان (3)، ولذلك يقول الله تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (] آل عمران 134 [. (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقها إلا الذين صبروا وما يلقها إلا ذو حظ عظيم (] فصلت 34، 35 [.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق (4/83)، ومسلم في صحيحه: كتاب الجهاد (3/1421) .

(2)

أدب الدنيا والدين للماوردي ص (245) .

(3)

بهجة الناظرين ص (678679) ، بتصرف.

ص: 284

ويقول الرسول (: ((يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)) (1) .

ويقول (: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه)) (2) . ويقول (: ((من يحرم الرفق يحرم الخير)) (3) .

أما عن أسباب الحلم التي تؤدي إلى ضبط النفس، فيقول الماوردي:

"وأسباب الحلم الباعثة على ضبط النفس عشرة:

أحدها: الرحمة للجهال وذلك من خير يوافق رقة

والثاني: القدرة على الانتصار وذلك من سعة الصدر وحسن الثقة

والثالث: الترفع عن السباب وذلك من شرف النفس وعلو الهمة

والرابع: الاستهانة بالمسيء وذلك عن ضرب من الكبر والإعجاب

والخامس: الاستحياء من جزاء الجواب وهذا يكون من صيانة النفس وكمال المروءة

والسادس: التفضل على الساب فهذا يكون من الكرم وحب التألف

والسابع: استكفاف الساب وقطع السِّباب وهذا يكون من الحزم

والثامن: الخوف من العقوبة على الجواب وهذا يكون من ضعف النفس وربما أوجبه الرأي واقتضاه الحزم

والتاسع: الرعاية ليد سالفة وحرمة لازمة، وهذا يكون من الوفاء وحسن العهد

والعاشر: المكر وتوقع الفرص الخفية، وهذا يكون من الدهاء

" (4) .

والمؤمن الذي يعلم فضل الحلم عند الله، والثواب العظيم الذي أعده الله للحلماء، لابد أن يجد في نفسه اندفاعاً قوياً لاكتساب فضيلة الحلم، والتحلي بها.

وكما رغب الإسلام بالحلم وحث عليه حذّر من الأخلاق المنافية له، والتي منها الغضب، والغضب مناف للحلم، جاء في حديث أبي هريرة (أن رجلاً قال للنبي (: أوصني، قال:((لا تغضب)) ، فردد ذلك مراراً، فقال:((لا تغضب)) (5) .

(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر (4/2004) .

(2)

المصدر السابق (4/2004) .

(3)

المصدر السابق (4/2003) .

(4)

أدب الدين والدنيا ص (245249) .

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب (7/99) .

ص: 285

وفي حديث عبد الله بن مسعود أن النبي (قال: ((ما تعدون الصُّرعة فيكم؟)) قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، فقال الرسول (:((ليس بذلك ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)) (1) .

فبين الرسول (أن الذي يملك نفسه عند الغضب هو القوي وهي تدل على صفة الحلم العظيمة عند هذا الإنسان.

يقول أبو حاتم: "الواجب على العاقل إذا غضب واحتد أن يذكر كثرة حلم الله عنه مع تواتر انتهاكه محارمه وتعديه حرماته، ثم يحلم ولا يخرجه غيظه إلى الدخول في أسباب المعاصي"(2) .

فالحلم من صفات رب العالمين، وصف الله به أنبياءه وبعض عباده الصالحين فحري بالمؤمن التحلي به والحرص عليه.

4 الأمانة

الأمانة لغةً: ضد الخيانة (3) .

وحقيقتها: أن يعف الإنسان عن أخذ ما ليس له بحق.

وعرفها صاحب البحر المحيط بقوله: "كل ما يؤتمن عليه المرء من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، والشرع كله أمانة"(4) .

والأمانة من الأخلاق الإسلامية العظيمة التي دعا إليها الإسلام، وقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تحث على الأمانة والوفاء بالعهود وتدعو كل مؤمن بالله بالمحافظة عليها، قال تعالى:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ((النساء 58) .

وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (] الأنفال 27 [.

ولا يمتثل بهذا الأمر إلا من كان يعتقد أن الله تعالى يسمع ويبصر ومن ثم تؤثر فيه هذه العقيدة، وتزجره عن الخيانة (إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً (] النساء 58 [.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب (4/2014) .

(2)

روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لأبي حاتم ص (212) .

(3)

القاموس المحيط للفيروزآبادي (4/178) .

(4)

البحر المحيط (7/253) .

ص: 286

وقد بين الله تعالى الجزاء الذي يستحقه المتصف بالأمانة فقال عز وجل: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون (] المؤمنون 1، 11 [.

وعلق ابن كثير رحمه الله تعالى على هذه الآية قائلاً: (هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات المذكورة في الآيات هم المفلحون السعيدون)(1) .

فالأمانة فضيلة من الفضائل وخلق اجتماعي لا يستطيع أي مؤمن أن يستغني عنها إن كان يرجو الله واليوم الآخر والثواب العظيم.

فقد قال رسول الله (: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته)) (2) .

ويتضح معنى الأمانة من خلال قوله سبحانه وتعالى: (إنا عرضا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً (] الأحزاب 72 [.

فالأمانة فسّرها ابن عمر بالنية التي يعتقدها الإنسان، فيما يظهره باللسان من الإيمان، ويؤديه من الفرائض في الظاهر (3) .

وقد ذكر الحافظ ابن كثير أقوال المفسرين في معنى الأمانة في هذه الآية، وذكر منها الفرائض، والطاعة، والدين، والحدود، قال ابن كثير:(وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي)(4) .

(1) تفسير ابن كثير (3/232) .

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2/441) . برقم (893) مع الفتح.

(3)

انظر: لسان العرب (13/22) .

(4)

تفسير ابن كثير (3/530) .

ص: 287

وقال ابن منظور في اللسان: الأمانة: تقع على الطاعة، والعبادة، والوديعة، والثقة، والأمان. وقال ابن التين:(الأمانة: كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف)(1) .

وعليه فطاعة الله وأداء الفرائض التي شرعها الله للناس أمانة، وبهذا تكون شاملة لجميع التكاليف، والالتزامات الدينية والدنيوية، التي يثاب فاعلها، ويعاقب تاركها.

إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الضعيف الحول، المحدود العمر، الذي تتناوشه الشهوات، والنزاعات، والميول والأطماع، وتخلت عن حملها السموات والأرض والجبال.

فالأمانة تنتظم الاستقامة في شؤون الحياة كلها، من عقيدة وأدب ومعاملة، وتكافل اجتماعي، وخلق حسن كريم.

والأمانة بهذا المعنى، وهذه الحدود، سر سعادة الأمم، أو شقائها، ويوم كانت أمة الإسلام صادقة في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت خير أمة أخرجت للناس.

والأمانة بهذا المعنى تشمل الدين كله فعن أنس بن مالك، (قال: ما خطبنا نبي الله (، إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (2) .

وعن ابن مسعود (قال: ((إن الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والغسل أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عدوها، وأشد ذلك الودائع)) (3) .

(1) لسان العرب (12/22) .

(2)

أخرجه أحمد في المسند (3/135) ، وابن حبان في صحيحه (1/208) ، والبغوي في شرح السنة (1/75)، وقال: هذا حديث حسن. وصححه الألباني في تحقيقه للإيمان لابن أبي شيبة ص (18) .

(3)

ذكره المنذري في الترغيب (4/5) ، وقال رواه أحمد والبيهقي مرفوعاً، وذكر عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال: إسناده جيد، وقال ابن كثير في تفسيره (3/488) : إسناده جيد ولم يخرجاه.

ص: 288

فكل ما أوجبه الشرع، وأمر به الإسلام، حفاظاً على مصالح الناس الدينية والدنيوية، من دين وعقل ومال ونفس ونسل، يدخل في معنى الأمانة التي يجب المحافظة عليها.

والأمانة وضع كل شيء في مكانه اللائق به، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، فالولايات والأعمال العامة أمانة لدى الولاة، وهذا أمر قدره الإسلام، فقد جاء في حديث أبي ذر (قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال:((يا أبا ذر.. إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)) (1) .

لذا نجد أن النبوة التي نالها نبي الله يوسف عليه السلام انضاف إليها الحفظ والعلم وقال: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (] يوسف 55 [

وتقتضي الأمانة أن نختار للأعمال الأكفاء، فإذا عدلنا عنهم إلى غيرهم لهوى أو رشوة أو قرابة فقد وقعنا في خيانة، حيث أبعدنا الكفؤ، ومكنا من هو دونه، قال رسول الله (:((من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين)) (2) . وقال عليه الصلاة والسلام: ((من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فأمر عليهم أحداً محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، حتى يدخله جهنم)) (3) .

وقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)) فقال السائل عن قيامها: وكيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) (4) .

(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة (3/1407) .

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك (4/9293) ، عن ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك (4/93) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم (1/21) .

ص: 289

ومن الأمانة حفظ الحواس والمواهب التي أنعم الله بها على الإنسان وخصه بها، وكذلك رعاية الأهل والذرية والمال، إذ هي بمثابة ودائع الله الغالية عند الإنسان، فينبغي أن يسخرها في مرضاة الله.

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم (] الأنفال 27، 28 [.

وقال تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً (] الكهف 46 [.

ومن الأمانة حفظ أسرار العلاقات الزوجية، فما يضمه البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته، يجب أن يطوى، ولا يطالع عليه أحد مهما كان قريباً إلى أحد الزوجين، لأنه خلاف أدب الإسلام.

تقول أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها بأنها كانت عند رسول الله (والرجال والنساء قعود عنده، فقال: ((لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها)) ، فأرم (1) القوم، فقلت: إي والله، يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن!!! قال:((فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة، فغشيها والناس ينظرون)) (2) .

وقال رسول الله (: ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها)) (3) .

فالأمانة من مكارم الأخلاق التي يحث عليها الإسلام.

(1) سكتوا وجلين، أرم القوم: أي سكتوا ولم يجيبوا. النهاية في غريب الحديث (2/267) .

(2)

أخرجه أحمد في المسند (6/457) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/294) رواه أحمد والطبراني وفيه شهر بن خوشب وحديثه حسن وفيه ضعف، قال العلامة الألباني بعد ذكره لشواهد هذا الحديث: فالحديث بهذه الشواهد صحيح أو حسن على الأقل: انظر آداب الزفاف في السنة المطهرة ص (144) .

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب النكاح (2/1061) .

ص: 290

والأمانة أمر جامع لكل ما كلف به الفرد أو استؤمن عليه، وهي تشمل حقوق عدة، منها حقوق الله تعالى ومنها حقوق العباد.

والأمانة هي صفة المؤمنين المصلين لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذلك يقول تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون

والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (] المؤمنون 1، 8 [. وقال تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين (إلى قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (] المعارج 19، 32 [.

كما حذرنا الله سبحانه وتعالى من الخيانة فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (] الأنفال 27 [، وعن الحث والأمر بأدائها يقول تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها (] النساء 58 [.

ويقول (: ((أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) (1) .

ولذلك فالأمانة تنقسم إلى عدة حقوق واجبة على الإنسان.

منها: حقوق الله تعالى ومنها حقوق العباد.

أما حقوق الله تعالى على العباد فتتمثل في أداء كل ما كلف به العباد من تكاليف وهي العبادات بمعناها الشامل والتي خلق الله الإنسان من أجلها يقول تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون

(] الذاريات 56، 58 [.

(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/414) ، وأبو داود في سننه، كتاب البيوع (3/805) ، وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب البيوع (3/564)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/46)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

ص: 291

وأما حقوق العباد فتتمثل في حسن معاملتهم وعدم فعل ما يضرهم وينطبق ذلك على أقرباء الفرد بحسب قربهم، وعلى الجيران، وعلى الناس والمجتمع كله، فيؤدي الفرد ما عليه نحو المجتمع من عطاء ووفاء بحيث يرقى بمجتمعه ويحفظ كيانه ومرافقه، ويخلص في عمله، ويكون أميناً في معاملة الناس في أية مهنةٍ يمتهنها أو عمل يقوم به.

ومن الأمانة إخلاص الفرد في عباداته، ومن الأمانة حسن الانتفاع بالوقت خاصة وأننا سوف نسأل عن العمر فيما أفنيناه.

ومن الأمانة إخلاص الفرد في عمله والدارس في درسه، ولذلك ذهب بعض المفسرين أن قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها (] النساء 58 [تضمنت جميع الدين والشريعة وآدابها.

وخيانة الأمانة تشمل الكذب وعدم الوفاء بالوعد، لأنها تجمع كل الخصال السيئة، ومن ثم يصبح خائنها منافقاً كما جاء في الحديث السابق.

فينبغي على كل مؤمن الاتصاف بها والحرص على ذلك حتى يكمل إيمانه ويحسن إسلامه.

5 الرحمة

الرحمة: هي الرفق والمغفرة والتعطف (1) .

والرحمة كمال في الطبيعة تجعل المرء المؤمن بالله تعالى يشعر بآلام الآخرين، ويسعى لعلاجها فيعرف أخطاءهم ويدعو لهم بالهدى والصلاح. لأن الرحمة خلق من أخلاقه، قال تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (] غافر 7 [.

أي أن رحمة الله وعلمه وسعت كل شيء حيث إنه يغفر الشرك الذي هو أعظم الذنوب عنده ويعفو عنه إذا تاب منه إلى الله وأناب.

والرحمة صفة كريمة وعاطفة إنسانية نبيلة تبعث على بذل المعروف وإغاثة الملهوف وإعانة المحروم وكف العسف والظلم ومنع التعدي على الضعفاء والمساكين والبغي عليهم (2) .

(1) انظر: الصحاح للجوهري (5/1929) ، ومجمل اللغة (2/424) .

(2)

انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/192) .

ص: 292

والرحمة صفة من صفات رب العالمين وصف سبحانه وتعالى به نفسه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة (] الأنعام 54 [، وقال سبحانه وتعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (] الأعراف 156 [.

وقد جعل سبحانه وتعالى إرسال نبينا محمد (رحمة للعالمين، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (، ووصفه بالرحمة فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (] التوبة 128 [.

وهي خلق من أخلاق المؤمنين والسلف الصالحين، بها يكمل الإيمان، ويسود الحب والمودة بين الناس، وقد حث عليها رسول الله (في أحاديث كثيرة.

منها قوله (: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)) (1) .

ولهذا فإن المؤمن يحب الرحمة ويبذلها ويوصي بها ويدعو إليها مصداقاً لقوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة (] البلد 17، 18 [.

وقوله (: ((إنه من لا يرحم لا يُرحم)) (2) .

وقد كان رسول الله (رحيماً عطوفاً. قال أنس بن مالك (: ((ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله ()) (3) .

وديننا دين الإسلام دين الرحمة، ولذلك نجد النصوص الكثيرة في القرآن والسنة تحث على الرحمة وتوصي بالتحلي بها.

منها: أمر الله للعباد بطلب المغفرة والرحمة من الرحمن الرحيم أرحم الراحمين، يقول تعالى: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين (] المؤمنون 118 [.

(1) تقدم تخريجه ص (41) .

(2)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل (4/1808) .

(3)

المصدر السابق (4/1708) .

ص: 293

ومنها: وصف من يتخطون العقبة يوم القيامة بصفة الرحمة والتواصي بها يقول تعالى: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذي آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة (] البلد 11، 18 [.

وقد وردت أحاديث كثيرة تدعو إلى الرحمة وتحث عليها:

منها: حديث جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله (: ((لا يرحم الله من لا يرحم)) (1) .

ومنها حديث عياض (قال: قال رسول الله (: ((

وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربي ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)) (2) .

ومنها حديث أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق (يقول: ((لا تنزع الرحمة إلا من شقي)) (3) .

ومنها حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله (: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) (4) .

ولذلك كان الإصلاح بين الإخوة المؤمنين بدافع الرحمة بهم جالباً لرحمة الله، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (] الحجرات 10 [.

(1) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الفضائل (4/1809) .

(2)

المصدر السابق: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/2198) .

(3)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/442)، والترمذي: كتاب البر والصلة (4/323)، وقال: هذا حديث حسن.

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/17 18)، وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب البر (4/324)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 294

ومن رحمة الرسول (بأمته تطبيقاً لوصف الله له بالرحمة، قوله عن نفسه (: ((إنما أنا رحمة مهداة)) (1) ، وجعل نفسه مثل الوالد لولده، فعن أبي هريرة (قال: قال رسول الله (: ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده)) (2) .

وعن معاوية بن الحكم السلمي (قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله (إذ عطس رجل من القوم أي المصلين فقلت له: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت لهم: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله (فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن

)) (3) .

وقد حث الإسلام على معاملة الحيوان بالرفق والرحمة، ونهى عن إيذائه وتعذيبه، ومما ورد في ذلك حديث ابن عمر (أن رسول الله (قال:((عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) (4) .

(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر (4/2025) .

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/247، 250)، وأبو داود في سننه: كتاب الطهارة (1/18)، وابن ماجه في سننه: كتاب الطهارة (1/114) .

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/381) .

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب السلام (4/1760) .

ص: 295

وعن أبي هريرة (عن النبي (قال: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال:((في كل ذات كبد رطبة أجرٌ)) (1) .

وعن أنس بن مالك (قال: ((ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) (2) .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله (لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً (3) .

فالرحمة من الصفات العظيمة التي ندب الله عباده إلى التحلي بها وحثهم عليها فينبغي الاتصاف بها، فبها يحسن الإسلام ويزداد الإيمان.

6 التواضع

التواضع: التذلل. ويقال: تواضع الرجل: إذا تذلل (4)، وقيل: التواضع سلم الشرف، وسئل الفضيل عن التواضع فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته، وقال ابن المبارك: رأس التواضع: أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا، حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل (5) .

والتواضع: تجمل النفس بالخضوع لله تعالى ومنع النفس من الترفع على الناس والاستخفاف بهم وحملها على احترامهم وهو لين الجانب للناس والخشوع وخفض الجناح.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المساقاة (3/77) .

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة (3/1189) .

(3)

المصدر السابق: كتاب الصيد (3/1550) .

(4)

لسان العرب (8/397) ، والقاموس المحيط (3/25) .

(5)

إحياء علوم الدين (3/342) ، مدارج السالكين (2/329) .

ص: 296

وهو من الأخلاق الإسلامية الحميدة التي يكتسبها المؤمن من إيمانه بالله عز وجل، ولذا وصف الله تعالى عباده الصالحين بالتواضع وخصهم بذلك دون غيرهم فتأثير الإيمان في هؤلاء جعلهم يتميزون عن غيرهم، قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً (] الفرقان 63 [.

قال ابن كثير: هذه صفات عباد الرحمن المؤمنين الذين يمشون في الأرض بسكينة ووقار وتواضع دون استكبار وجبرية، وإذا خاطبهم الجاهلون بكلام سيئ سفيه لا يردونهم بمثله بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً (1) .

ولذا ينبغي على المؤمن أن لا يفتخر على الآخرين ولا يتكبر عليهم، لأن المتكبر يرى نفسه في مكان لم يصل إليه غيره ويظن أنه أفضل وأحسن من الناس، قال تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين (] الحجر 88 [.

والتواضع يزيد المؤمن عزة وكرامة كما جاء في حديث المصطفى (: ((ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (2) .

والكبر لا يأتي إلا من جهل الإنسان بربه الذي خلقه وبنفسه التي بين جنبيه والمتكبر يضع نفسه في مكانة ليست له، فهو ينازع المولى تبارك وتعالى في صفة من صفاته، جاء في الحديث القدسي أن الله سبحانه وتعالى يقول:((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) (3) . فالكبر عاقبته الذل والهوان والخسران، والمتكبر عقابه العذاب الأليم، قال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آيةٍ لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً (] الأعراف 146 [.

(1) تفسير ابن كثير (3/314) .

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة (4/2001) .

(3)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/414) ، وأبو داود في سننه (4/350) وصححه الألباني انظر السلسلة الصحيحة (2/79) حديث رقم 541

ص: 297

وقال تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (] غافر 70 [.

يقول ابن حبان: الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر، ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره، والتواضع تواضعان: أحدهما محمود، والآخر: مذموم، والتواضع المحمود: ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم، والتواضع المذموم: هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه.

فالعاقل يلزم مفارقة التواضع المذموم على الأحوال كلها، ولا يفارق التواضع المحمود على الجهات كلها (1) .

وفي القرآن الكريم حث على التواضع، بل فيه الأمر الصريح كما قال تعالى مخاطباً رسوله (: (واخفض جناحك للمؤمنين (] الحجر 88 وفي الشعراء يقول تعالى 0 واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (] الآية 315 [

والخفض في اللغة: نقيض الرفع، وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع، والمقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، أمره بالتواضع لفقراء المسلمين. ونظيره قوله تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين (] المائدة 54 [.

ويمتدح الله رسوله (فيقول: (وإنك لعلى خلق عظيم (] القلم 14 [.

ويثني على عباد الرحمن بقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً (] الفرقان 63 [. وقال في جزاء المتواضعين: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين (] القصص 83 [.

وفي ذم الكبر يقول تعالى مخاطباً رسوله (: (ولا تصعِّر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختار فخور (] لقمان 18 [.

(1) روضة العقلاء، ونزهة الفضلاء ص (59) .

ص: 298

وتوعد سبحانه وتعالى المتكبرين فقال: (وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم الله عذاباً أليماً (] النساء 173 [. وقال: (إنه لا يحب المستكبرين (] النحل 23 [. وقال: (فلبئس مثوى المتكبرين ((النحل 29) .

ويقول في شأنهم أيضاً: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرو ن في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (] الأعراف 146 [.

وفي السنة النبوية دعوة إلى التواضع وحث عليه، فعن عياض بن حمار (قال: قال رسول الله (: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحدٍ ولا يبغي أحد على أحدٍ)) (1) .

وعن أبي هريرة (أن رسول الله (قال: ((ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ولا تواضع لله أحد إلا رفعه الله)) (2) . وفي الترغيب في التواضع يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)) فقال له أصحابه: وأنت؟ قال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) (3) .

وقال: ((لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت)) (4) .

وفي السنة النبوية ذم للكبر ودعوة إلى التنفير منه، قال رسول الله (:((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) (5) .

وقال عليه الصلاة والسلام: ((العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته)) (6) .

(1) تثدم تخريجه ص (115) .

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة (4/2001) .

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإجارة (3/48) .

(4)

المصدر السابق، كتاب النكاح (6/144) .

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان (1/102) .

(6)

المصدر السابق (4/2023) .

ص: 299

وقال عليه الصلاة والسلام: ((بينما رجل يمشي قد أعجبته جمته وبراده؛ إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة)) (1) .

مما تقدم تبين لنا أن التواضع خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وقد كان سمة بارزة للرسول (، ولهذا فينبغي للمسلم أن يتواضع في غير مذلة ولا مهانةٍ، بحيث يكون التواضع من أخلاقه المثالية، وصفاته العالية؛ إذ المسلم يتواضع ليرتفع.

وبالتواضع يرفع الإنسان، وبالكبر يخفض، إذ سنة الله جارية في رفع المتواضعين له، ووضع المتكبرين، والمسلم عندما يصغي بأذنه وقلبه إلى مثل هذه الأخبار الصادقة، من كلام الله وكلام رسوله في الثناء على المتواضعين مرة، وفي ذم المتكبرين أخرى، يحرص على ألا يكون من المتكبرين أسوة في ذلك برسول الله (، إذ لابد أن يتواضع الإنسان لعظمة الله وكبريائه، وسيظهر هذا التواضع في كلمته التي ينطق بها، وفي حركته التي يدب بها فوق ظهر الأرض، كما وصف الحق تبارك وتعالى عباده فقال: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً (] الفرقان 63 [.

وعن تواضع رسول الله (جاءت الأخبار الصحيحة والآثار الشهيرة، حيث تواترت الأخبار عمن اجتمع معه من أصحابه عليه الصلاة والسلام أنه كان يبدأهم بالسلام، وينصرف بكليته إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً، وكان آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا أقبل جلس حيث ينتهي بأصحابه المجلس، وكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته، ويقول: أنا أولى بحملها، وشارك في بناء مسجده (، وفي حفر الخندق، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأمة، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم في مهنة أهله، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، ويجلس على الأرض، وكان متواضعاً في ملبسه ومسكنه (2) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء (4/153) ، ومسلم في صحيحه كتاب اللباس والزينة (3/1653) .

(2)

انظر مدارج السالكين (2/328، 329) .

ص: 300

وكان (بين أصحابه مثلاً أعلى للخلق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العاطرة قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات (.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي (لما قدم إلى مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه (1)، وقال معاذ: كنت رديف رسول الله (على حمار، يقال له عفير، وكان مرة في سفر مع صحبه. فأرادوا أن يهيؤوا له طعاماً فقسّم العمل بينهم، فقام بجمع الحطب، فأرادو أن يكفوه ذلك فأبي، لأن الله يبغض الرجل يتعالى على رفاقه. ولما وقف عليه أعرابي يرتجف خشية، قال له (: "هون عليك فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد (2) . وخرج على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصا فقاموا له، فقال ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً)) (3) . وعن أنس ابن مالك (قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله (فتنطلق به حيث شاءت (4) . وكان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم يرَ مقدما ركبتيه بين يدي جليس له (5) .

وسئلت عائشة (ما كان رسول الله (يفعل في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة توضأ، فيخرج إلى الصلاة (6) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب العمرة (2/204) ،.

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الأطعمة (2/3312)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: 1141 إسناده صحيح ورجاله ثقات.

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/352)، وأبو داود في سننه: كتاب الأدب (5/398) .

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه الكتاب الأدب (7/90) .

(5)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب القيامة (4/654) وقال: هذا حديث غريب.

(6)

أخرجه البخاري (2/160) .

ص: 301

وعن عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله (1) .

فقد كان (يتواضع في كل حال من أحواله، فهو سهل الطبع، لين الجانب، دائم البشر، ليس بفظ ولا غليظ، ولا فاحش، ولا عتاّب، ولا مدّاح.

قال عكرمة بن أبي جهل (عندما أسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنت عبد الله ورسوله، وأنت أبر الناس، وأصدق الناس، وأوفي الناس)، قال عكرمة: أقول ذلك، وإني لمطأطئ رأسي استحياء منه. وقال أنس بن مالك: خدمت رسول الله (عشر سنين والله ما قال لي: أُفا قط، ولا قال لي لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا (2) .

وقال أنس بن مالك (: (كان رسول الله (يعود المريض ويشهد الجنازة، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة على حمار)(3) . وقد ضرب الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة والتابعين أروع الأمثلة في التواضع أسوة برسول الله ((4) .

فالتواضع من صفات المؤمنين التي يكمل بها الإيمان وترتفع به الدرجة عند الرحمن سبحانه وتعالى.

المبحث السابع: أثر الإيمان في توجيه الأخلاق

(1) أخرجه الترمذي (5/601) وقال: حسن غريب.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل (4/1804) .

(3)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الجنائز (3/337) وابن ماجه في سننه: كتاب الزهد (2/1398) .

(4)

انظر عن تواضع الخلفاء، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص (61، 94، 120، 140) .

ص: 302

للإيمان أثر كبير في توجيه الناس إلى الأخلاق الفاضلة، وقد يظن بعض الناس أن حسن الخلق من الصفات الجبلِّية التي لا مجال للتغيير فيها، ولا يمكن اكتسابها، فإن كان الإنسان مجبولاً على سوئها أو فقدها فإنه يبقى سيئ الخلق وهذا مفهوم خاطئ يحتاج إلى تصحيح، لأنه لو كانت الأخلاق لا تكتسب ولا تقبل التغيير لم يكن للخطب والمواعظ والإرشاد قيمة، ولم يكن للتربية والتهذيب معنىً، والحق أن لذلك أثراً في تهذيب الطباع والتربية على الأخلاق.

صحيح أن الإنسان إذا كان مجبولاً على حسن الخلق فإنه يبقى حسن الخلق، وخاصة إذا سعى إلى تحقيق ما جُبِل عليه في واقع حياته.

ولكن الشخص الذي لم يجبل على حسن الخلق فإنه يمكن أن يكتسب شيئاً بل أشياء من الأخلاق الحسنة، وإن لم يكن مجبولاً عليها، وهذا هو أثر الإيمان في توجيه الأخلاق، ومن الأدلة على ذلك:

1 إن الشرع الحكيم دعا الناس إلى الأخلاق الحسنة وأمرهم بها ورغبهم فيها، ولو لم يمكن اكتسابها لم يكن لدعوة الشرع إلى ذلك معنىً، ولم يكن فيه فائدة للوعظ والوصايا في ذلك، وقد سبقت أدلة كثيرة تحث على الأخلاق وترغب فيها.

يقول الراغب الأصبهاني: " ولو لم يكن كذلك لبطلت فائدة المواعظ والوصايا والوعد والوعيد والأمر والنهي، ولما جوز العقل أن يقال للعبد: لم فعلت؟ ولم تركت؟ وكيف يكون هذا في الإنسان ممتنعاً وقد وجدناه في بعض البهائم ممكناً"(1) .

(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص (115، 116) .

ص: 303

2 أننا نرى بعض الحيوانات تعلم وتدرب على بعض الأمور فتتعلمها ومن ذلك أن الفرس تعلم حسن المشي وجودة الانقياد فتتعلم وهي من قبل على خلاف ذلك، وكذلك الحال بالنسبة للكلب المعلم، يُعلم ترك الأكل فيتعلم وهو على خلاف ذلك من قبلُ، والحمار الوحشي يستأنس بعد توحشه. فهذا دليل على أنه يمكن تغيير الصفات الجبلية أو بعضها، وإذا كان الحيوان يستطيع أن يتعلم فابن آدم أولى بذلك وأقدر، وهذا لا يحصل إلا بعد كثرة المراس والتعلم والاستفادة.

يقول الغزالي: "كيف ننكر هذا يشير إلى تغير الخلق في حق الآدمي، وتغير خلق البهيمة ممكن، إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغير للأخلاق"(1)

ويقول ابن قدامة (2) رحمه الله تعالى:

وأما خيال من اعتقد أن ما في الجبلة لا يتغير، فاعلم أنه ليس المقصود قمع هذه الصفات بالكلية، وإنما المطلوب من الرياضة رد الشهوة إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط، كيف والشهوة إنما خلقت لفائدة ضرورية في الجبلة ولو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، أو شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية، لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه.

وقد قال تعالى: (أشداء على الكفار رحماء بينهم (] الفتح 29 [، ولا تصدر الشدة إلا من الغضب، ولو بطل الغضب لامتنع جهاد الكفار، وقد قال تعالى: (والكاظمين الغيظ (] آل عمران 134 [ولم يقل الفاقدين الغيظ.

(1) إحياء علوم الدين (3/48) .

(2)

هو أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي، أبو العباس، الفقيه المحدث، توفي سنة 689هـ.ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4/322) .

ص: 304

واعلم أن الاعتدال تارة يحصل بكمال الفطرة منحة من الخالق، فكم من صبي يخلق صادقاً سخياً حليماً، وتارةً يحصل بالاكتساب، وذلك بالرياضة، وهي حمل النفس على الأعمال الجالبة للخلق المطلوب. فمن أراد تحصيل خلق الجود فليتكلف فعل الجواد من البذل ليصير ذلك طبعاً له، وكذلك من أراد التواضع تكلف أفعال المتواضعين، وكذلك جميع الأخلاق المحمودة، فإن للعادة أثراً في ذلك" (1) .

فإذا كان الإنسان المؤمن مجبولاً على حسن الخلق فذاك فضل من الله تعالى، فما عليه إلا أن يستغل ما وهبه الله تعالى من حسن الخلق بإصلاح الناس والنهي عن الفساد، وإن لم يكن كذلك فعليه أن يكتسب حسن الخلق بأحواله، فإن حسن الخلق من الأمور التي دعا إليها الإسلام، ومن صفات عباد الله المؤمنين.

ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد (لما جبله عليه من الأخلاق العظيمة (وإنك لعلى خلق عظيم (] القلم 4 [.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجية وخلقاً تطبعه، وترك طبعه الجبلي فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل (2) .

فالله سبحانه وتعالى أثنى على رسوله (بهذه الآية الكريمة وبين أنه على خلق عظيم في عبادته وتعامله وامتثال أمر ربه. ويفهم من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يحب صاحب الخلق، بدليل ثنائه على رسوله (لاتصافه بالخلق العظيم وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يتسابق المسلمون للاتصاف بهذه الصفة المحبوبة إلى الله تعالى.

وعن أنس بن مالك (قال: كان رسول الله (أحسن الناس خلقاً (3) الحديث.

(1) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص (191192) باختصار.

(2)

تفسير ابن كثير (4/402) .

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب (4/128) .

ص: 305

فهذا أنس (الذي لازم رسول الله (طويلاً وكثيراً، يصف رسول الله (بأنه أحسن الناس خلقاً.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (قال: لم يكن رسول الله (فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: " إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً " (1) .

ففي هذا الحديث الصحيح ، تصريح من الرسول الله (أن من خيار الأمة من كان خلقه حسناً. وأي واحد من المسلمين لا يرغب أن يكون من خيار هذه الأمة.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سمع النبي (يقول: ((ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ فسكت القوم فأعادها مرتين أو ثلاثاً)) قال القتوم: نعم يا رسول الله. قال ((أحسنكم خلقا)) (2) .

فأخبر (أن أحب الناس إليه وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة أحسنهم أخلاقاً. وهذه منزلة عظيمة يجب على المؤمن أن يبذل كل غال ورخيص للحصول عليها لأن ذلك حصل بسبب الخلق الحسن.

وعن النواس بن سمعان (قال: ((سألت رسول الله (عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (3) .

وعن عبد الله بن مسعود (أن رسول الله كان يقول: ((اللهم أحسنت خلقي فحسن خلقي)) (4) .

وعن أبي الدرداء (عن النبي (قال: ((ليس شيء أثقل في الميزان من خلق حسن)) (5) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب المناقب (4/518) .

(2)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/185) والإمام البخاري في الأدب المفرد ص (272) .، قال الهيثمي في المجمع (8/21) : رواه أحمد، وإسناده جيد.

(3)

أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة (4/1980) .

(4)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 403)، وقال الهيثمي في المجمع:(10/173) : رواه أحمد وأبو يعلى

ورجالهما رجال الصحيح.

(5)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 448) .

ص: 306

أخرجه أبو داود بلفظ ((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق (1) زاد الترمذي ((فإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)) (2) .

وعن عائشة (قالت: سمعت رسول الله (يقول ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) (3) .

وعن أبي هريرة (قال: سئل رسول الله (عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) (4)

(1) سنن أبي داود كتاب الأدب (4/253) .

(2)

أخرجه الترمذي في سننه. أبواب البر والصلة (4/363)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

تقدم تخريجه ص (32) .

(4)

أخرجه الترمذي في سننه. أبواب البر والصلة (3/244)، وقال:((هذا حديث غريب)) () .

المصادر والمراجع

آداب الزفاف في السنة المطهرة للعلامة / محمد ناصر الدين الألباني، المكتبة الإسلامية – عمان – الأردن – الطبعة الأولى للطبعة الجديدة 1409 هـ

إحياء علوم الدين للغزالي المتوفى سنة 505هـ دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.

الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني الطبعة الرابعة دار القلم دمشق 1417هـ.

أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري دار الكتاب العربي.

أخلاق النبي (وآدابه لأبي الشيخ عبد الله بن جعفر الأصفهاني ت 369هـ تحقيق: عصام الدين سيد/ الطبعة الأولى سنة 1411هـ الدار المصرية القاهرة.

الأخلاق والسير في مداوة النفوس لابن حزم الطبعة الثانية دار الكتب العلمية بيروت.

أدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي ت 450هـ تحقيق / مصطفى السقا دار الفكر العربي.

الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح المقدسي دار ابن تيمية للطباعة والنشر القاهرة.

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، الناشر مكتبة ابن تيمية مصر عام 1408 هـ الرياض المملكة العربية السعودية سنة 1403هـ.

الإيمان لابن أبي شيبة (ت 235) ن المكتب الإسلامي الطبعة الثانية 1403 هـ.

بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية الطبعة الثانية مكتبة القاهرة القاهرة سنة 1392هـ.

بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادى المكتبة العلمية بيروت.

التبيان في أقسام القرآن لابن قيم الجوزية ت 751هـ دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الأولى 1415هـ.

الترغيب والترهيب للحافظ المنذري المتوفى سنة 656هـ الطبعة الثالثة دار إحياء التراث العربي بيروت.

التمهيد لما جاء في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري ت 463هـ. طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب سنة 1397هـ الطبعة الأولى.

تهذيب الأخلاق لابن مسكويه المتوفى سنة 421هـ دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى سنة 1405هـ.

التعريفات للجرجاني الطبعة الأولى 1403هـ بيروت لبنان.

تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774هـ دار المعرفة بيروت.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي دار إحياء التراث العربي.

جامع البيان عن تأويل القرآن لأبي جعفر الطبري، مكتبية مصطبة مصطفى البابي الحلبي مصر الطبعة الثالثة.

الجواب الكافي عن سأل عن الدواء الشافي لابن قيم الجوزيه المطبعه للسلفيه الطبعة الأولى سنة 1394هـ.

روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان تحقيق حامد الفقي دار الكتب العلمية لبنان

روضة المحبين نزهة المشتاقين لابن قيم الجوزية مطبعة السعادة مصر.

سنن الترمذي لأبي عيسى الترمذي الناشر المكتبة الإسلامية.

سنن أبي داود للإمام أبي داود السجستاني إعداد وتعليق / عزت عبيد الدعاس وعادل السيد دار الحديث للطباعة والنشر بيروت لبنان.

سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي / مجموعة من المحققين / مؤسسة الرسالة لبنان.

شرح السنة للبغوي المتوفى سنة 516 هـ تحقيق / شعيب الأرناؤوط المكتب الإسلامي 1394 هـ.

شرح صحيح مسلم للنووي المطبعة المصرية.

الشمائل المحمدية لأبي عيسى الترمذي ت 279هـ تخريج وتعليق عزت عبيد الدعاس الطبعة الثانية 1396هـ الناشر: مؤسسة الزعبي للطباعة والنشر بيروت.

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري دار العلم للملايين بيروت.

صحيح البخاري للإمام البخاري المتوفى سنة 256 هـ المكتب الإسلامي إستانبول تركيا.

صحيح مسلم للإمام مسلم المتوفى سنة 261 هـ / تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي.

طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية المطبعة السلفية القاهرة سنة 1375 هـ.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ المطبعة السلفية.

القاموس المحيط للفيروزآبادي الطبعة الثانية مؤسسة الرسالة بيروت.

قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام دار الباز مكة المكرمة.

لسان العرب لابن منظور المصري دار صادر بيروت.

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لأبي بكر الهيتمي دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثانية.

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن حاكم طبع مجمع الملك فهد الطباعة المصحف الشريه.

مدارج السالكين لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ دار الكتب العلمية بيروت.

مساوئ الأخلاق ومذموها للخرائطي المتوفى سنة 327 هـ مكتبة السوادي الطبعة الأولى سنة 1412هـ.

المسند لأبي عبد الله الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ المكتب الإسلامي بيروت.

المستدرك لأبي عبد الله الحاكم دار الفكر بيروت 1398 هـ.

المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502 هـ دار المعرفة بيروت.

مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا المتوفى سنة 281 هـ دار المكتب الطبعة بيروت لبنان الطبعة الأولى سنة 1409 هـ.

مكارم الأخلاق ومعاليها للخرائطي المتوفى سنة 327 هـ مكتبة السلام العالمية.

الموطأ للإمام مالك بن أنس المتوفى سنة 170 هـ تصحيح وتعليق / محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي.

النهاية في غريب الحديث الأثر لابن الأثير الجزري تحقيق / طاهر أحمد الزاوي ومحمد الطناحى المكتب الإسلامي.

ص: 307

الحديث.

فهذه الأحاديث الشريفة - وغيرها كثير - تبين فضل حسن الخلق وتدعو إليه. فليحرص كل مؤمن ومؤمنة أن يكون حسن الأخلاق، طيب الأفعال حتى ينال هذه المنزلة والدرجة الرفيعة فإذا كان الإيمان يطهر النفوس ويزكيها ويكسبها الأخلاق الفاضلة، فإن التزم المؤمن بالأخلاق الفاضلة يجذب الناس إلى الإيمان ويحببهم فيه فيدخلون في دين الله أفواجاً، وهذه مرتبة عالية وميزة عظيمة فيها ثواب عظيم وأجر كبير وعاقبة حميدة.

الخاتمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أحمد الله وأشكره على أن من عليّ بإتمام هذا البحث، وفيما يلي أهم نتائج هذا البحث:

1 الإيمان بالله سبحانه وتعالى يدفع صاحبه إلى الخلق الكريم والفعل الحسن لأن الإيمان إذا استقر في القلب انعكس ذلك على أفعال الإنسان وأقواله.

2 أن المؤمن يدرك بحسن الخلق المنازل والدرجات العلا في الدنيا والآخرة، وإن الأخلاق لها منزلة عالية فهي تحقق السعادة لمن كرمت أخلاقه، تأسياً بالرسول (، فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً.

3 الرسول (خير قدوة لنا في الأخلاق الكريمة والصفات الحسنة من الصدق والبر والرحمة والحلم والصبر والصدق والتواضع وغير ذلك.

4 أن الأخلاق تبوأت في الإسلام مكانة رفيعة فمن أهم رسالة هذا الدين إتمام مكارم الأخلاق، لأنه ما من خلق كريم ولا فعل جميل إلا وقد وصله الله عز وجل بهذا الدين.

5 إن غاية الأخلاق الإسلامية تحقيق السعادة الدنيوية الممتثلة في جوانبها الروحية والعقلية والنفسية والحسية، وتحقيق السعادة في الآخرة بوصفها السعادة الحقيقية الأبدية.

6 أن التزام الأخلاق الفاضلة له أثر في تقارب المؤمنين وصلاحهم وقربهم من الله، فتسود المحبة والألفة بينهم، ويتعاملون بالمودة والتراحم والتعاون فيسود بينهم الرضى والأمن.

ص: 308

7 أن التحلي بالأخلاق الكريمة يعود نفعه على كل من الفرد والمجتمع والأمة.

وفي الختام أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحواشي والتعليقات

ص: 309