المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المباحث الغيبية   د. عبد الشكور بن محمد أمان العروسي الأستاذ المساعد بقسم - مجلة جامعة أم القرى ١٩ - ٢٤ - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌المباحث الغيبية   د. عبد الشكور بن محمد أمان العروسي الأستاذ المساعد بقسم

‌المباحث الغيبية

د. عبد الشكور بن محمد أمان العروسي

الأستاذ المساعد بقسم العقيدة - كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى

ملخص البحث

يتعلق هذا البحث بأهم قضايا يتطلع إليها البشر في عصورهم المتعاقبة، لعلهم يحظون بعلم خباياها، ويظهرون على كوامنها وخفاياها. تلك هي القضايا الغيبية بجميع أنواعها وأقسامها.

وهذا البحث تناول في مباحثه الأربعة عشر أنواع الغيوب وأقسامها، وبين ما يمكن العلم منها وما لا يمكن، ومقدار ما يمكن علمه والوسائل الشرعية التي يعلم بها. وجاء فيه إيضاح أن تصور القضايا الغيبية بدون تلك الوسائل، وفوق ما تسمح به غير ممكن.

ولما كانت أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى على رأس القضايا الغيبية، تم تأليف هذا البحث لبيان المعيار الشرعي في تصور الغيبيات بأنواعها وأقسامها، وذلك تجنباً للانحرافات العقدية التي وقعت فيه عديد من الفرق الإسلامية نتيجة للتصور الخاطئ لقضايا الغيب حيث جعلوا عالم الشهادة أصلاً تقاس عليه كل الغيبيات.

فمن أجل ذلك عطل من عطل، وأول من أول، بدعوى التنزيه، وشبه من شبه بدعوى الإثبات لما جاءت به النصوص، وتوقف من توقف ولم يقل إلا بإثبات ألفاظ غير قابلة للتفسير وهو المفوضة.

وقد تناول هذا البحث أيضاً أن قياس الغائب على الشاهد فيما اختلفت أجناسه من الخلق قياس غير صحيح، فكيف يستقيم قياس الخالق على خلقه في أسمائه وصفاته؟ فمن علم أنواع الغيب، واستوعب حقائقها، وحظ الإنسان منها، ووسائلها في تصورها، سلم من حيرة

المؤولين، وضلال المعطلين وغلو المشبهين. وسار على منهج السلف الصالح في إثبات ما أثبتته نصوص الوحي بلا تمثيل، ونفى ما نفته بلا تعطيل، تصديقاً لقوله تعالى: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (فهو ليس كمثله شئ، ومع ذلك له صفة السمع والبصر.

وهذا ما بني عليه هذا البحث عسى الله تعالى أن يهدي به القلوب، ويظهر به معايير

ص: 22

الغيوب، ويكشف به الكروب، وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

• • •

المقدمة:

الحمد لله الملك الكريم، البر الرحيم، رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وصلاته وسلامه المتتابعان على رسوله المبعوث بالدين القويم، والداعي إلى الصراط المستقيم، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

وبعد:

فإن الله تعالى خلق الإنسان ومنّ عليه بنعم جليلة، وهبات جزيلة، وفضله على كثير من خلقه تفضيلا ولم يخلقه عبثا، ولم يتركه سدى، بل خلقه لعبادته وحده لا شريك له فأرسل بذلك رسله، وأنزل كتبه، وبين فيها لعباده ما لا بد من العلم والإيمان به من الغيب وما لا بد من العمل به مما أوجب عليهم، وما يجب تجنبه مما حرم عليهم، وما أحل لهم من الطيبات من طعام وشراب ونكاح وأقوال وأفعال. فبلَّغت الرسل ما أنزل عليهم إلى أممهم البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فكان كل رسول يتميز بالفصاحة والفطنة والذكاء المفرط، لتقوم الحجة على العباد، ولم يخاطبوا أممهم بما لا يفهمون من الكلام. ولهذا قال تبارك وتعالى:(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ((1) . فبلغوا ما أوحى الله تعالى إليهم البلاغ المبين. فكان مما أرسلوا به القسم العلمي التصديقي الذي لا عمل فيه سوى التصديق، وهو الجانب الاعتقادي من الدين الذي امتحن الله تعالى به قلوب عباده، أتُسلم لله تسليما مؤمنة بالغيب برضا وطمأنينة، فتنشط الجوارح في العمل بالجانب العملي التطبيقي من الدين، أم ترتاب في التصديق بالغيب، فتتكاسل الجوارح وتتقاعس عن العمل. فكلما قوى الإيمان بالغيب، كان العمل بالجوارح قويا، وكلما ضعف الإيمان بالغيب، كان العمل بالجوارح ضعيفا، وإذا انعدم الإيمان بالغيب، أدى ذلك إلى انعدام العمل. فالإيمان الصحيح والعمل الصالح لا ينفصلان وجوداً في قلوب الصادقين وجوارحهم، وذكراً في نصوص

ص: 23

الشرع. وذلك راجع إلى هذا المعنى.

وإن مما يفقد العمل الصالح جماله ورونقه، ضعف ما في القلب من الإيمان الذي بقوته وصلاحه تصلح الأعمال. قال (:

(ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)(1) . فكما أن في الجسد مضغة يتوقف صلاحه على صلاحها، فكذلك يكون للدين لب، إذا صلح صلح الدين كله، وإذا فسد فسد الدين كله، وإن مما يزيل الإيمان من القلوب أو يضعفه النفاق والجهل والبدع. فالنفاق يزيل الإيمان والجهل والبدع يضعفان الإيمان في القلوب والعمل في الجوارح. ولما كان من البدع الشنيعة نفي أسماء الله تعالى وصفاته، أو تأويلها بدعوى التنزيه مما أدى إلى تعطيله عز وجل عن أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكذلك تشبيه ربنا تبارك وتعالى بخلقه من قبل المشبهة بدعوى الإثبات. وكان منشأ ذلك إما غلوا في التنزيه المؤدي إلى التعطيل، أو غلوا في الإثبات الذي يؤدي إلى التمثيل، قمت بدراسة هذا الانحراف وسببه فوجدت أن كثيرا من هؤلاء أتوا من جهة اعتبارهم أن دلالة اللغة على صفات المخلوقات في عالم الشهادة هي الأصل، وأن استعمالها في عالم الغيب، أو غيب الغيوب هو الخروج عن الأصل، فلا بد إذن من قياس الغائب المجهول على الشاهد المعلوم، فرأت المشبهة أن هذا هو الذي ينبغي أن يسار إليه ويقال به، فشبهت الله تعالى بخلقه، وشبهت عالم الغيب بعالم الشهادة سواء بسواء. وأما المعطلة فقد سلكوا مسلك المشبهة أولاً فاستقبحوا ذلك ففروا من التشبيه إلى التعطيل. أي أنهم ما عطلوا إلا بعدما شبهوا. ولما رأوا أن التشبيه لا يليق بالله تعالى عدلوا إلى التعطيل والله المستعان.

ص: 24

وكلا الفريقين أصبحا بعد ذلك في اتجاهين متعارضين بعد أن أخذوا جزءاً من الحق وهو الإثبات عند الممثلة وأضاف إليه باطل التمثيل، والتنزيه عند المعطلة بعد أن أخذوا جزء من الحق وهو التنزيه، فتجاوزوا حد التنزيه حتى نفوا ما أثبته الله تعالى لنفسه أو نفاه عنه رسوله مما لا يليق به تعالى. ولو أن كلا من الفريقين لم يتطرفا فيما ذهبا إليه لكان ما تفرق بينهما من الحق قد اجتمع. فهدى الله تعالى أهل الحق لما اختلف فيه الفريقان فجمعوا ما تفرق من الحق، فصح لهم ما لم يصح لغيرهم.

وهذا ما قصدت إيضاحه في هذه المباحث، وقد بذلت جهدي مستعينا بالله تعالى في إبراز جوانب متفرقة من أمور الغيب بأنواعها وأقسامها، وحظ الإنسان من العلم بها، ووسائله التي يستعين بها على علم ما غاب عنه وخفي عليه مما يقر شرع الله تعالى استخدامها، أو التصديق بنتائجها والعمل بها.

والله تعالى أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم. ورحم الله تعالى من نظر في هذا البحث بعين النصح والتهذيب والتصويب، فأوقفني على ما ظهر فيه من العيب والتقصير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله المصطفى، ونبيه المجتبى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته البررة الصادقين، ومن سار على نهجه واقتفى أثره، واتبع هديه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

• • •

المبحث الأول: مكانة الإيمان بالغيب في الإسلام

إن للإسلام جانبين رئيسين لا يغني أحدهما عن الآخر، ولا يكون المرء مسلماً إلا بهما، وهما:

الجانب العلمي التصديقي:

ص: 25

وهو جميع القضايا الاعتقادية التي يجب التصديق بها تصديقاً جازماً وتمثل هذا الجانب أركان الإيمان الستة، ويضاف إليه اعتقاد جازم بوجوب ما أوجب الله من الأعمال كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها من أركان الإسلام، لأن الإيمان بوجوبها جانب علمي وتصديقي، وواجب شرعي، وكذلك يضاف إلى هذا اعتقاد حرمة ما حرم الله تعالى على عباده مما لا خلاف في حرمته كشرب الخمر والزنا، وقول الزور، وشهادة الزور، وغير ذلك مما علم من الدين بالضرورة حرمته.

الجانب العملي التطبيقي:

وهي الأقوال والأفعال المأمور بأدائها في شرع الله تعالى، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر والدعاء وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وإغاثة الملهوف وغير ذلك مما يطول ذكره من شرائع الإسلام التي تتعلق بالجانب العملي التطبيقي منه.

فإذا صح اعتقاد العبد وصدق إيمانه بالجانب الأول، وهو العلمي

التصديقي، أثمر ذلك العمل الصادق في الجانب الثاني الذي هو العملي التطبيقي. فمن زعم أنه يكتفي بالجانب الأول دون الثاني فهو كافر كذاب، ومن زعم أنه يكفيه الجانب الثاني فهو منافق لأنه أبطن الكفر وأعلن الإسلام أي الاستسلام العلني.

إن أعظم الجانبين وأهمهما وأولهما: هو الأول، فإن الاعتقاد مقدم على القول والعمل، وهذا الجانب برمته هو الإيمان بالغيب.

ص: 26

فمعنى هذا أن الإيمان بالغيب له المكانة الفضلى والمرتبة العليا في الإسلام، وأن الله تعالى لا يقبل من أحد ديناً إلا به، ولا يكون عمل ما زاكياً صالحاً إلا إذا كان مبنياً على الإيمان بالغيب. ولهذا أثنى الله على عباده المؤمنين بالغيب في آيات كثيرة من كتابه الكريم فمن ذلك قوله تعالى في وصف المتقين الذين جعل لهم الهداية في كتابه الكريم:(فيه هدى للمتقين (الذين يؤمنون بالغيب (1)(وقوله عز وجل: (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (2)(وقوله تعالى (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير ((3) وقوله سبحانه:

(إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرةٍ وأجرٍ كريم (4)(وقوله عز وجل (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيب ((5) وقوله جل شأنه: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبير ((6) وهذه الآيات وغيرها تدل على مكانة الإيمان بالغيب، وخشية الله تعالى بالغيب، لأن من آمن بالغيب إيماناً صادقاً راسخاً نشطت جوارحه في الأعمال وحسنت أعماله وأقواله، وأحواله كلها فيعيش راضياً مرضياً، يتقلب في طاعة ربه، شاكراً على السراء، صابراً على الضراء خاشعاً لله ظاهراً وباطناً، موقناً بوعده، خائفاً وجلاً من وعيده متمكناً من المرابطة بين الخوف والرجاء. فمن لم يؤمن بالغيب فلا نصيب له من الطمأنينة في الدنيا، والفلاح والظفر في الآخرة. بل يعيش قلقاً حائراً ساخطاً غير راض بقضاء الله تعالى وقدره. وهو في الآخرة من الخاسرين.

ص: 27

.. والإيمان بالغيب معناه أن يؤمن المرء بما غاب عن حسه، أي إن الغيب هو الأمر الذي يجب الإيمان به مما غاب عن الحس ومما أخبرت بوجوده نصوص الوحي. وقال بعض أهل العلم (1) : معنى الإيمان بالغيب هو أن يؤمن المرء وهو غائب بما أمر أن يؤمن به. أي إن الغيب في القول الأول وصف للأمور الغائبة عن الحس، وفي القول الثاني وصف للمؤمنين أي يؤمنون وهم غائبون. فكلا القولين لا تنافر بينهما، بل هما متلازمان، لأن المؤمن بما غاب عن الحس قد آمن به وهو غائب عنه، ومن آمن وهو غائب فقد آمن بما غاب عنه فليتأمل.

المأمورات والمنهيات مبناها على الاعتقاد:

إن أركان الإسلام الخمسة وغيرها من شرائع الإسلام بأوامرها ونواهيها مبنية على الاعتقاد بأن الله تعالى أوجب الواجب منها وحرم المحرمات التي أوجب تركها وتجنبها، وتصديق الشرع في ذلك (2) .

فأول أركان الإسلام: الشهادتان، فمجرد قولهما باللسان دون التصديق بالقلب لا يدخل قائلها الإسلام أي أن التصديق بالجنان هو الذي يترتب عليه النطق باللسان. فمن لم يصدق بقلبه لم يكن مؤمناً عند ربه.

وثاني أركان الإسلام: إقام الصلاة، فإقامتها لا تتأتى إلا بعد التصديق بأن الله تعالى فرضها علينا ومن لم يعتقد بأن الله تعالى فرضها فهو عند الله تعالى ليس بمؤمن ولو تظاهر بإقامتها.

وثالثها: إيتاء الزكاة، فإن من لا يعتقد بشرعيتها ووجوبها، ليس بمؤمن عند الله تعالى، وعمله مردود عليه مهما بلغ حجمه.

ورابعها: صيام رمضان، فالمؤمن الصادق هو الذي يصوم رمضان معتقداً بأن الله فرضه على عباده فإذا لم يصدق بوجوبه وفرضيته على عباد الله لم يكن من المؤمنين عند الله تعالى.

وخامسها: حج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، فمن حج وهو لا يصدق بأن الله تعالى فرضه على من استطاع إليه سبيلاً فهو غير مؤمن عند الله تعالى.

ص: 28

وكذلك ما حرم الله على عباده من الأمور، لابد من اعتقاد أن الله حرمها على عباده، ومن لا يؤمن أن الله تعالى حرم الفواحش، وقتل النفس بغير حق، وشهادة الزور، وقول الزور، وشرب الخمور، لم يكن مؤمناً عند الله تعالى، سواءً ارتكب تلك المحرمات أم تركها.

والمراد باعتقاد الوجوب، هو الوجوب العام على العباد، لأن بعض الفرائض تسقط فرضيتها عن البعض لأمور طارئة، كسقوط فرضية الصلاة عن النساء في حالة الحيض أو النفاس، وسقوط فرضية الصيام عن المسافر حتى يقيم، فإذا أقام قضى. وعدم وجوب الزكاة على من لا يملك نصاباً، وعدم وجوب الحج على من لم يستطع إليه سبيلاً. والمراد إذن إنكار الوجوب العام على العباد. وبهذا يتبين أن دائرة الإيمان تشمل دائرة الأعمال بالجوارح كما تشمل اعتقاد وجوب ترك ما حرم الله فعله من المحرمات.

المبحث الثاني: أثر الإيمان بالغيب

للإيمان بالغيب آثار جلية في نفوس المؤمنين وسلوكهم، وآثار في معاملاتهم، وعلاقاتهم بربهم، وعلاقاتهم ببعضهم، وعلاقاتهم بغيرهم، ونظرتهم إلى الكون من حولهم، ونظرتهم إلى ما يأتي في أقدار الله تعالى من خير أو شر، أو حلو أو مر.

أثر الإيمان بالغيب في تعلق العبد بربه:

المؤمن بالغيب يكون صادقا مع الله تعالى في السر والعلانية، يطيع أوامر ربه، وأوامر رسوله (مستسلما راضياً يرجو ثواب الله تعالى، ويحرص على ما فيه رضوانه. فتكون طاعة الله تعالى وذكره وعبادته بما شرع، راحة نفسه، وقرة عينه، ومنية قلبه، ومنتهى رغبته. ولصدقه في إيمانه بالغيب يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه.

ص: 29

والمؤمن بالغيب موقن بأنه (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيد ((1) وبأن حركاته وسكناته، وما يدور بخلده وما توسوس به نفسه، أو يختلج في صدره، خاضع لمراقبة الله تعالى:(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ((2) . (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ((3) ، (وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون ((4) ، (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ((5) ، (فلا يحزنك قولهم إنَّا نعلم ما يسرون وما يعلنون ((6)، (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله بكل شيء عليم ((7) . (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ((8) . (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً ((9) وهو سبحانه يعلم خبايا النفوس وخفاياها:(وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ((10)(وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ((11) ، ولا يدرك حقيقة علمه المحيط الشامل لكل شيء زماناً ومكاناً إلا من آمن بالغيب إيماناً صادقاً جازماً، ولهذا كانت قرة عين رسول الله (، أي أن راحة نفسه، وسكينة قلبه، وطمأنينته، في ذكر ربه الكريم. وهو يستيقن أنه أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد. والمؤمن بالغيب يكون الله تعالى، ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإذا أحب أحب لله، وإذا أبغض أبغض من أجل لله، وإذا أعطى أعطى لله، وإذا منع منع من أجل الله، وهو في سرائه شكور، وفي ضرائه صبور. والمؤمن بالغيب يعلم علم يقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويعلم أن الحذر لا ينجي من القدر، وأن الله تعالى قدر كل شيء في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنه تعالى يضع الموازين القسط ليوم القيامة، وأنه لا يظلم أحدا من خلقه ولا يبخسه من حقه، ولا تزر وازرةُ وزر أخرى، وأنه أحكم الحاكمين،

ص: 30

وأسرع الحاسبين، وأرحم الراحمين، وأنه من أجل هذا يعبد ربه طامعاً في رحمته ومغفرته ورضوانه، خائفاً من غضبه وعقابه وأليم عذابه، فيكون في حياته متوازناً، لا الرجاء في رحمة الله يطغى عليه حتى يأمن من مكره، ولا الخوف من عقابه يوقعه في اليأس من رحمته، ولكنه يدعوه خوفاً وطمعاً ويعبده رغباً ورهباً عملاً بقوله تعالى:(وادعوه خوفاً وطمعاً ((1) وقوله في وصف عباده الأخيار: (ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ((2) .

أثر الإيمان بالغيب في سلوك المؤمن:

إن أثر الإيمان بالغيب في سلوك المؤمن أثر عظيم. فالمؤمن بالغيب يصدق بوعد الله ووعيده. وتصديقه بوعد الله يجعله في شوق إلى لقاء الله تعالى، وما وعد به أهل طاعته من النعيم المقيم والرضا الدائم، فكأنه يرى ما أعد الله للمؤمنين من نعيم الجنان والحور العين رأي العين فيبادر إلى طاعة ربه، ويسارع في الخيرات، وتصديقه بوعيد الله يجعله يخاف من غضبه وسطوته وعقابه، وأليم عذابه فكأنه يرى نار جهنم وأغلالها وما فيها من شدائد وأهوال ونكال. فيبتعد عما حرم الله تعالى ورسوله (، ويعيش في توازن تام بين الخوف والرجاء والرغبة والرهبة من غير أن يطغى جانب على جانب، لا خوفه يطغى على رجائه رحمة ربه الواسعة، ولا رجاؤه يتغلب عليه حتى لا يخشى من عذاب الله وعقابه. فبذلك يكون خيراً لنفسه وخيراً لأهله، وخيراً لأمته، وخيراً للخلق أجمعين.

أمثلة من أثر الإيمان بالغيب

إن الأمثلة على أثر الإيمان بالغيب من واقع هذه الأمة كثيرة جداً تزيد عن العد والحد، فعلى سبيل التقريب لا التحديد والتعديد إليك أمثلة خاصة لأفراد هذه الأمة تليها أمثلة عامة توضح لمن تدبرها ما وصل إليه سلف هذه الأمة من كمال الإيمان، وترقيهم إلى أعلى درجات اليقين:

1-

أنس بن النضر بن ضمضم يوم أحد رضي الله عنه:

ص: 31

روى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قصة عمه أنس بن النضر فقال: "غاب عمي عن قتال بدر فقال: يا رسول الله؛ غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد (1) ؛ هذه الجنة ورب أنس أجد ريحها دون أحد، قال سعد بن معاذ: فما استطعت ما صنع، فقاتل. قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ما بين ضربةٍ بسيف، أو طعنةٍ برمح، أو رميةٍ بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون، فما عرفته أخته الربيع بنت النضر إلا ببنانه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه:

(من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه ((2) الآية " (3) .

هكذا صدق هذا المؤمن ما عاهد الله عليه أمام رسول الله (حيث قال: "ليرين الله ما أصنع"، فصنع ما وعد به وعاهد عليه ربه، وما ذاك إلا أثراً عظيماً من آثار الإيمان بالغيب، بل إنه رضي الله عنه قد وجد ريح الجنة دون أحد. وهذا قمةٌ في التصديق بوعد الله تعالى بالغيب حتى إنه من شدة تصديقه غمرت ريح الجنة وأريجها حاسة شمه حيث حلف على ذلك قائلاً: "هذه الجنة ورب أنس أجد ريحها دون أحد". قال تعالى: (جنات عدنٍ التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتياً ((4) وهذا التصديق القوي بوعده تعالى بالغيب كان من آثاره الوعد الصادق، ثم الوفاء بالوعد بالصدق عند اللقاء.

2 – عمير بن الحمام في يوم بدر رضي الله عنه:

ص: 32

لقد حرض رسول الله (المؤمنين على القتال يوم بدر، فذكر ما للمؤمنين المجاهدين عند ربهم من أجرٍ عظيمٍ فقال: " والذي نفس محمدٍ بيده، لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيقتلهم صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم وهو يقول:

ركضاً إلى الله بغير زاد

إلاّ التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد

إن التقى من أعظم السداد

وخير ما قاد إلى الرشاد

وكل حيٍ فإلى نفاد

ثم حمل، فلم يزل يقاتل حتى قتل (1) .

وروى الإمام مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله (قال يوم بدر:

"

قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض " قال: عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله : جنةٌ عرضها السماوات والأرض؟ قال: " نعم " قال: بخٍ بخ " فقال رسول الله (: " ما يحملك على قولك: بخٍ بخ "؟

قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال:" فانك من أهلها ". فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل " (2) .

وقد وردت في صحيح البخاري روايةٌ أخرى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رجلٌ للنبي (يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: " في الجنة ". فألقى تمراتٍ في يده، ثم قاتل حتى قتل (3) .

ص: 33

إن القصتين متشابهتان في دلالتهما على صدق الإيمان بالغيب وظهور ثمراته على سلوك المؤمنين في هذه الحياة حتى إن هذا الصحابي ليرى استمراره على الحياة حتى ينتهي من أكل ما في يده من التمرات تأخراً طويلاً عن الوصول إلى جنة الله التي وعد المتقون. فبادر وسارع حتى يدخلها فجاد بنفسه تصديقاً بوعد الله على لسان رسوله (. وهل بعد هذا الجود من جود؟ والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

لقد أدرك عظم ما وعد الله به المؤمنين الصادقين، فهانت لديه الدنيا، فجاد لله الكريم بنفسه راضياً متوثباً إلى نعيم لا ينفد، وعطاءٍ لا يزول ولا يحول، فرضي الله عنه وأرضاه. وما ذلك إلا آثار الإيمان الصادق بالغيب، حتى لكأنه يرى الجنة وسعتها وما فيها من النعيم الخالد رأي العين فاشتاق وانساق إلى لقائها فحقق الله له ما أراد.

3 – الخنساء (تماضر بنت عمرو بن الشريد رضي الله عنها يوم القادسية:

هي امرأة اشتهرت في الجاهلية بالبكاء والرثاء والجزع والعويل على قتل أخويها صخر ومعاوية. فكانت لا تكف عن البكاء والرثاء حتى أصبح لا ينافسها أحد من الرجال والنساء في شعر الرثاء. والعبرة هنا ليس في كثرة شعرها في الرثاء ولا في جودته. ولكن العبرة في جزعها وحزنها الشديد وعدم كفها عن البكاء عشرات من السنين، ولم يتوقف بكاؤها ورثاؤها ولم ينقطع، إلا بسيف الإيمان الصادق الذي بتر الله به كل حبلٍ يمت إلى الجاهلية بصلة " كما بين ذلك رسول الله (حين قال لعمرو (1) بن العاص:" أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله "(2) فانقلب قلب الخنساء طاهراً نظيفاً يملؤه نور الإيمان بحيث لم يترك أي فراغ في قلبها لأثر من آثار الجاهلية ونزعة من نزعاتها.

ص: 34

وبعد أن أرضعتها الجاهلية وغذتها بلبانها العكر، فطمها الإسلام وفرغ قلبها من شوائب الجاهلية وطهره من دنسها ورجسها، وملأه بنور الإيمان، فانتقلت من ظلمات الجهل والكفر والهوان، إلى ضياء القرآن، وطاعة الرحمن. ففي يوم القادسية أرسلت أربعةً من أبنائها الشجعان للجهاد والاستبسال في سبيل الله والفوز بالشهادة، ووصتهم ليلة القادسية قائلةً:

" يابَنيَّ إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجلٍ واحد كما إنكم بنو امرأةٍ واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غبرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خيرٌ من الدار الفانية يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ("(1) .

فإن أصبحتم غداً إن شاء لله سالمين؛ فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين فإذا رأيتم الحرب قد شمرت (2) عن ساقها واضطرمت لظى (3) على سياقها وحللت (4) ناراً على أوراقها (5) فتيمموا وطيسها (6) ، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها (7) ، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قولها. فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم (8) . فقاتل أبناؤها فقتلوا رحمهم الله تعالى. فبلغها ذلك فما زادت على أن قالت:" الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته "(9) .

ص: 35

هكذا يتجلى أثر صدق الإيمان بالغيب في قصة هذه المرأة المؤمنة التي تجسدت الجاهلية الجهلاء في بكائها ونياحها دهراً طويلاً حتى كف بصرها قبل إسلامها. لقد كانت كذلك حينما كانت شابة جلدة تقوى على التجلد والصبر، ولكنها بعد الإيمان بالغيب أصبحت خلقاً جديداً، فتحولت تحولاً عجيباً، فإذا بها لا ترى إلا الآخرة وما وعد الله فيها لأهل طاعته فاختارت الباقية لنفسها ولبنيها على الفانية، لا الرغبة في استشهادهم ضعفت ووهنت، ولا الصبر الجميل بعد استشهادهم خانها وفارقها. وما هذا كله إلا أثرٌ من إيمانها بالغيب كأحسن ما يكون الإيمان. فالمرأة في أصل خلقتها ضعيفة الصبر كثيرة الجزع بما جعل الله فيها من الرحمة والحنان والعطف. فإذا أصيبت بمصيبة الموت في أهل بيتها كان جزعها أشد من جزع الرجال، وصبرها أقل من صبرهم. وهذا ما كانت عليه الخنساء في الجاهلية ولم ينافسها في ذلك أحد من النساء أما بعد الإيمان فهي قد ضربت مثلاً أعلى للصبر على ما جرى لبنيها الأربعة من الاستشهاد في سبيل الله تعالى بل إنها وطنت نفسها وأعدتها لهذا المقام، قبل نزول الحمام. وكان هذا أثراً عظيماً من آثار الإيمان بالغيب. ومن أثر هذا الإيمان القوي على بنيها، أن استبسلوا في الجهاد راغبين فيما عند الله راضين بنصيحة أمهم منفذين لأوامرها. فكل واحدٍ منهم، ينشد أبياتاً من الشعر قبل أن يقتحم صفوف الأعداء مشيداً بنصيحة تلك الأم الصالحة، مبدياً رغبته الشديدة فيما عند الله تعالى من الأجر الجزيل والثواب الجليل. فرضي الله عنها وأرضاها ورضي عن أبنائها الشهداء، وسلام عليهم في المؤمنين المخلصين الخالدين.

4 – مثال من أمثلة التأثر الجماعي بالإيمان بالغيب وأثر ذلك:

ص: 36

هذا المثال ينتظم مجموعة قد ارتقت درجات الإيمان واليقين وتمكن التصديق بوعد الله ووعيده من قلوبهم أيما تمكن. بين لنا ذلك رسول الله (حيث قال: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فماذا يسألونني؟ قال يقولون: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبةً. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: كيف ولو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منه فراراً وأشد لها مخافة. قال: فيقول: اشهدوا أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة. قال هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم " (1) .

ص: 37

هؤلاء هم عباد الرحمن الذين آمنوا بالغيب، آمنوا بربهم وهم لم يروه ذلك الإيمان الذي جعلهم يسارعون في طلب رضوانه، والفرار إليه من سخطه، وغضبه، آمنوا بالجنة وما فيها من النعيم الدائم، فشمروا عن ساق الجد في طلبها طول أعمارهم وهم لم يروها. آمنوا بأن النار حق فجدوا بطلب السلامة والنجاة منها. هؤلاء الصالحون الذين عبدوا ربهم كأنهم يرونه وهم لم يروه، فكيف تكون عبادتهم لو رأوه؟ وقد طلبوا منه الجنة وهم في غاية الشوق إليها من غير أن يروها، فكيف لو رأوها؟ وقد استعاذوا بربهم من النار خائفين وجلين وهم لم يروها، فكيف يكون خوفهم وفرارهم منها لو رأوها؟ ولكن مراتب المؤمنين بالغيب لا تساويها مراتب من يرى الغيب ويشاهده.

هؤلاء هم الفائزون بما طلبوا، طلبوا رضوان الله تعالى، فرضي عنهم، طلبوا جنته، فاستجاب لهم، استعاذوا به من النار فنجاهم. وأشهد على مغفرته لهم ملائكته بياناً لفضلهم وإظهاراً لمكانتهم وقدرهم:" اشهدوا أني قد غفرت لهم ". وبركة هذا الإيمان الراسخ المثمر للعمل الصالح، شملت الجلساء الذين لم يغشوا مجلس الذكر رغبة فيه وإنما جاءوا لبعض شؤونهم. لأن الجليس الصالح له على من يجالسه أثر عظيم. ومن ذلك هذا الأثر الطيب المبارك:"هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" والجليس الصلح شبهه النبي (بحامل المسك الذي ينالك نفعه في كل حال، إما بشراء المسك منه، أو بأن يمنحك شيئاً منه، أو بأن تجد منه ريحاً طيبة. وهو في كل حالٍ تنال منه الخير والنفع. وأعظم الخير وأفضلهم بركة ما يوصل إلى غفران الله ورضوانه.

أثر الإيمان بالغيب في نفس المؤمن:

إن للإيمان بالغيب أثراً عظيماً في سلوك المؤمن كما سبقت أمثلته آنفاً. وأثراً عظيماً في نفس المؤمن كما سيأتي بيان ذلك في الأمور الآتية:

أثره في غرس الطمأنينة في النفس:

ص: 38

الإيمان بالغيب يورث الطمأنينة في نفس المؤمن لأنه يحبب إلى النفس ذكر الله تعالى على كل الأحيان كما قال الله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ((1) . أي أن الإيمان الصادق هو الذي يثمر الاطمئنان إلى ذكر الله تعالى، لأن التلذذ بذكر الله تعالى لا يكون إلا ثمرة منه ثمار الإيمان بالغيب وأثراً من آثاره.

صاحب هذا الإيمان يوطن نفسه على أن كل شيءٍ في هذا الكون بقضاء الله وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه كما قال صلوات الله وسلامه عليه لابن عباس رضي الله عنهما: "

فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه. وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا " (2) .

أثره في الصبر على البلاء والخروج من العسر إلى اليسر:

إن الذي يؤمن بالغيب يعلم علم اليقين أن الصبر على بلاء الله تعالى من مقتضيات إيمانه ومتطلباته، وأن الله تعالى يحب الصابرين، وهو معهم بعونه وتوفيقه، وتفريج كرباتهم، وتيسير ما صعب من أمورهم، مصداقاً لقول النبي (:" وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ". ولقوله تعالى: (فإن مع العسر يسرا (إن مع العسر يسرا ((3) ولقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ((4)، وقوله:(وبشر الصابرين (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ((5) . وقوله جل ذكره

ص: 39

: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ((1)، وقال تعالى:(ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ((2) وقال: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ((3) .

هكذا يثق المؤمن بمعية الله عز وجل وهو متمسك بدينه عامل بشرعه مصدق بوعده وكلماته ونصره وتأييده، فترتاح نفسه، ويهدأ باله، ويطمئن قلبه، ويسكن فؤاده، وتنشط أعضاؤه وجوارحه في طاعة ربه، ويلهج لسانه بذكره، فلا تؤثر فيه المحن، ولا تربكه الفتن، ولا تزعجه حوادث الزمان، ولا تكدر صفو حياته غوائل الحدثان. لأنه على هدى من ربه، إذ يعلم أنه ملك لله تعالى يتصرف فيه كيف يشاء، فما عليه إلا أن يرضى بحكمه ويسلم لأمره، ويؤمن بقضائه وقدره، وذلك هو أثر الإيمان.

أثره في المعاملة:

إن أثر الإيمان بالغيب يظهر جلياً في معاملة المؤمن للناس، قريبهم وبعيدهم، صديقهم وعدوهم مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم. فالمؤمن الصادق في إيمانه، يعامل الناس، وليس له من وراء ذلك إلا ابتغاء مرضاة الله تعالى. فيكون براً بوالديه واصلاً لرحمه، موقراً للكبير راحماً للصغير معيناً للمحتاجين مطعماً للفقراء والمساكين آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مشفقاً على العباد، معيناً على النوائب والمصائب. سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، إذا كال أو وزن وفى، وإذا وعد وفى، وإذا قال صدق، وإن شهد أو حكم عدل، وإن خاصم أنصف، وهو في هذا كله يهدي بالحق وبه يعدل، وبشرع الله القويم يصول ويجول، وفي روضات القرآن الندية يسرح ويرتع، ومن رحيق أزهاره العطرة يرشف، ومن بحاره الزاخرة يغرف، وفي ساحاته الرحبة الطاهرة يعكف.

ص: 40

فهو إن أعطى لا يمن على أحد من الخلق لأنه يؤمن إيماناً يمنعه من المن والأذى يهتدي في هذا بقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوانٍ عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيءٍ مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ((1) .

وهو كذلك إن أعطى يخفي عطاياه خشية الرياء، ويهتدي في هذا بقول رسول الله (في أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:

" ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ". يتحرى في صدقته السرية ليقينه بأن الله تعالى يرى ما يخفيه، ويتقبله ويضاعفه له.

وإن أطعم أطعم ابتغاء رضوان الله تعالى مهتدياً بقوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً (إنَّا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً ((2) .

إنه إن أطعم لا يرجو من وراء ذلك شكراً من أحد، وإنما يرجو ثواب الله تعالى ويخاف من سوء الحساب في ذلك اليوم الشديد هوله الذي تعبس فيه الوجوه، وتتقطب فيه الجباه.

وإذا باع لا يطفف ولا يخسر، يهتدي في ذلك بقول الله تعالى:

(ويلٌ للمطففين (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليومٍ عظيم (يوم يقوم الناس لرب العالمين ((3) .

إنه لا يفعل ما يفعله المخسرون الخاسرون من التطفيف في الوزن والكيل، إذ إنهم حينما يكتالون يأخذون حقهم وافياً، أما إن اكتال الناس أوزنوا عندهم، فهم يبخسون حقوقهم ويخسرونهم. وهذه حال من لا يؤمن أن الله سيبعثه في ذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه الناس لربهم ليجزوا ويحاسبوا على أعمالهم.

ص: 41

وهو في قوله وفعله يعدل بين الناس قريبهم وبعيدهم غنيهم وفقيرهم عدوهم وصديقهم، لأنه يؤمن ويعمل بقول الله تعالى:(ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ((1) . وقوله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بها ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً ((2) .

هذا هو المبدأ الذي عمل به الرعيل الأول من سلف هذه الأمة، وهم صحابة رسول الله (الذين عادوا قرابتهم في الله تعالى، وجاهدوهم في سبيل الله. وأسوتهم في ذلك خليل الله ورسوله إبراهيم عليه السلام والذين معه. وقد قال الله تعالى فيهم: (قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ((3) .

فرباط الدين هو الذي تشد به العلائق بين الناس في دين الله، إذ الإيمان رحم بين أهله فإذا خرج أولو الأرحام عن دائرة الإيمان فلاعتبار لعلاقة النسب وحدها. ولأن الله تعالى يقول:(ونفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون ((4) ويقول: (ولا يسأل حميمٌ حميماً ((5) ويقول: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ((6) .

ص: 42

وحينما كان أولو القربى لرسول الله (وصحابته رضوان الله تعالى عليهم خارجين عن دائرة الإيمان، معادين لأهل الإيمان، كان من العدل أن يعلنوا معاداتهم، ويتبرأوا من موالاتهم فجرت الخصومة والحروب بينهم. وفيهم يقول الله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم ((1) . وفي هذا إشارة إلى ما وقع يوم بدر من المبارزة بين المؤمنين من المهاجرين، وبين أقاربهم المشركين من أهل مكة.

ولكن الذين غمر الإيمان قلوبهم لم يبالوا برابطة القرابة والقومية التي خلت من الإيمان بدين الله، واتباع رسول الله (. فالمؤمن يحب الله تعالى ورسوله ودينه، والكافر يبغض الله تعالى ورسوله ودينه، والمؤمن يحب ما يحبه الله ويرضى، ويبغض ما يبغضه الله. ولذلك لا يوجد مؤمن صادق في إيمانه يحب أعداء الله ويواليهم. قال الله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه ((2) .

وهو إن غضب لا يستبد به الغضب، بل يكظم غيظه، عملاً بقول الله تعالى:(والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ((3) .

وإذا انتصر عفا وتجاوز (والعافين عن الناس (. ومع أن الانتصار على أهل الظلم مشروع ما لم تترتب عليه مفسدة أعظم، فإن العفو عن الظالم عند المقدرة من عزم الأمور: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليم (ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور ((4) .

ص: 43

وهو إن أحب يحب لله تعالى وفيه، لأن الحب في الله تعالى من مقتضيات الإيمان الراسخ وثمراته كما قال صلوات الله وسلامه عليه:" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار "(1) .

فمن وجد حلاوة الإيمان يكون حبه لأخيه المسلم في الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا ولا لمصلحةٍ من مصالحها الفانية، لا يحبه لنسبه إن بطأ به عمله ولكنه يحبه لدينه وخلقه وأمانته، إن كان ذا دينٍ وخلق وأمانة لأنه يؤمن بأن الله تعالى سيقول يوم القيامة:" أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي"(2) . كما بين ذلك رسول الله (. إنه يحب أخاه المسلم لأن ذلك من متطلبات الإيمان الصحيح. ولقد بين رسول الله عليه صلاة ربي وسلامه بقوله: "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" (3) .

ص: 44

إن أكمل المؤمنين إيماناً، أكثرهم تحابباً في الله تعالى، وتعاضداً، وتعاوناً وتناصحاً وتواسياً. وكلما ضعف الإيمان ضعفت هذه العلائق، بين المسلمين. ولهذا قال الناصح الأمين (:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1) . إنه مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام الذي لو قام به كل مسلم ومسلمة لما وجدت المحاكم خصومات تقضي فيها بين المسلمين، فالذي يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، لا يظلمه، ولا يحقره ولا يؤذيه، ولا يشهد عليه زوراً، ولا يخونه في عرضه وماله ولا يصل إليه منه ما يكدر صفو حياته من قولٍ أو فعل. فمتى قام كل فرد من أفراد المسلمين من ذكورٍ وإناثٍ بالعمل بهذا المبدأ العظيم؛ أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً طاهراً، من مظالم الحقد والأضغان والخصومات، تتجلى فيه الخيرية التي ذكرها الله تعالى في وصف هذه الأمة في قوله:(كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ((2) . والذين تحابوا في الله تعالى يظلهم الله في ظل عرشه يوم الدين، يقول رسول الله (:" يقول الله عز وجل: المتحابون بجلالي في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي"(3) . وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله (قال سمعت رسول الله (يقول عن ربه تبارك وتعالى: " حقت محبتي على المتحابين فيَّ، وحقت محبتي على المتناصحين فيَّ، وحقت محبتي على المتزاورين فيَّ وحقت محبتي على المتباذلين فيّ وهم على منابر من نور، يغبطهم النبيون والصديقون بمكانهم " (4) .

وصاحب الإيمان الصادق يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخون من خانه، لقوله (:" أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك "(5) .

ولأن الله عز وجل يقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ((6) ولقد عد النبي (تضييع الأمانة من أشراط الساعة حينما سأله رجلٌ عن الساعة: قال له: " فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " (7) .

ص: 45

إن مفهوم الأمانة في الإسلام لا يقتصر على المعاملات المالية والودائع المستودعة، ولكنه شامل لجوانب حياة الإنسان المسلم كلها. فالدين أولى الأمانات وأجلها. وهو المعني بقول الله تعالى:(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ((1) . وحفظ أمانة الدين التصديق بأخباره ووعده ووعيده، والعمل بأوامره، والانتهاء عن مناهيه، والدعوة إليه، والموالاة فيه، والمعاداة من أجله. فمن فعل ذلك فقد قام بأداء الأمانة ولذلك قال (:

" احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك "(2) أي احفظ دين الله تعالى الذي هو أمانة الله عندك، يحفظك الله تعالى كما حفظت دينه.

ثم حقوق العباد بعضهم على بعض من الأمانات التي تجب لبعضهم على بعض فالأبناء أمانة على الوالدين، ومن أداء أمانة الأبناء على الوالدين اختيار الأسماء الحسنة والتربية الحسنة وتعليمهم مبادئ الإسلام، وإبعاد كل ما يسيء إليهم في صحتهم الجسدية، والعقلية، والدينية، والخلقية. وكذلك من أداء الأمانة القيام ببر الوالدين الواجب للأباء على الأبناء، وخدمتهما والإحسان إليهما وطاعتهما بالمعروف، والدعاء لهما والاستغفار لهما، والترحم عليهما، وصلة أرحامهما. وإكرام أصدقائهما. ومن أداء الأمانة حفظ الحقوق الزوجية بين الزوجين، بحسن المعاشرة والتناصح والتعاون بينهما، وعلى الزوج أداء حقوق الزوجة التي أوجبها الله تعالى لها عليه من النفقة والكسوة والسكن والعلاج. وعلى الزوجة حفظ حقوق زوجها في غيبته وحضوره وحسن التبعل وحفظ أسرار الزوج وممتلكاته، والنصح له وطاعته في المعروف.

ص: 46

ولا يتأتى ذلك على الوجه الصحيح إلا لمن وجد حلاوة الإيمان، وصدق في اعتقاده وقوله وعمله. وكلما تعمق المؤمن في الإيمان الصحيح، ظهرت على جوارحه الأعمال المصدقة لإيمانه، المترجمة لما في قلبه من الصدق والإخلاص حيث تصدر منه الأعمال بسهولةٍ ويسر وسلاسة بلا تكلفٍ أو تنطع. أو تكاسل أو رياء. كل هذا من آثار الإيمان بالغيب وثماره على الأفراد الذين يكونون لبنات صالحة لبناء صرح المجتمع المسلم المتضامن المتعاون المتآخي الذي يخلو من الأحقاد والضغائن والتباغض والتدابر والتنافر والتقاطع، مجتمع الإيمان والأمن والأمان. والله تعالى أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا الإيمان الصادق الصحيح الذي تظهر آثاره، وتينع ثماره، إنه سميعٌ مجيب.

المبحث الثالث: العالم وأقسامه

العالم هو كل ما سوى الله عز وجل، سمي كذلك لأنه علم على وحدانية الله في ربوبيته وألوهيته وصفاته ويجمع العالم على: عالمون ويعامل معاملة جمع المذكر السالم في إعرابه. ولهذا تضاف كلمة: رب وإله إذ يقال لله تبارك وتعالى: رب العالمين، وإله العالمين.

فمن ذلك قول الله عز وجل في فاتحة الكتاب: (الحمد لله رب العالمين (وقد وردت هذه الكلمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم في نحو أربعين موضعاً.

وهذا يدل على أن العالم علويه وسفليه مخلوق لله تعالى، وأنه تعالى خالقهم وربهم ومليكهم ومدبر أمورهم، ومصلح شؤونهم وأن العالم تحت سلطانه وقهره وملكوته وجبروته وكل ما سواه يدل على ذلك بحاله ومقاله وخصاله وفعاله.

والعالم ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول / عالم الغيب:

وهو كل ما خلقه الله تعالى ولم يظهر عليه أحداً من خلقه إلا من أذن له من رسله. ولا تتعلق غيبته بأمر خارج منه، وإنما الغيبية صفةٌ ملازمةٌ له.

القسم الثاني / عالم الشهادة:

ص: 47

وهو كل ما خلقه الله مهيأ للمشاهدة والظهور عليه إما بالوسائل الخلقية، وإما بالوسائل الصناعية المستحدثة. وهذا القسم غيبه نسبي والغيبية في غيبه ليست صفة من صفاته الملازمة له، وإنما هي حالةٌ طارئة عليه أو على من خفي عليه لأمرٍ خاص به.

أما القسم الأول فيسمى بالغيب المطلق لأنه مطلق عن القيد إذ لم يعتبر غيباً نسبياً وإنما هو غيب من جميع الوجوه حيث خلقه الله تعالى غيباً مكنوناً لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى. وفي ذلك يقول الله ربنا الكريم تبارك وتعالى: (قل لا يعلم من في السماوات الأرض الغيب إلا الله ((1) أي إن أحداً من خلقه لا يعلم الغيب المطلق. وقال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ((2) فذكر في هذه الآية أنه يطلع من ارتضاهم من الرسل على غيبه، فالإظهار على الغيب لا يعني علم الغيب. فإذا كان المراد بالغيب هو الغيب المطلق يكون التعبير عن ذلك بالإظهار أو الاطلاع لا بالعلم، لأن العلم بالغيب المطلق من صفات ربنا الخاصة به تبارك وتعالى. وفي هذا وردت نصوص كثيرة دلت دلالة جلية على أن علم الغيب خاص بالله تعالى فمن ذلك قوله تعالى:(وعند مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ((3) وقوله: (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ((4) وقوله: (إن الله عالم غيب السماوات والأرض ((5) وقوله: (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ((6) .

ص: 48

فتبين من هذا أن علم الغيب خاص بربنا تبارك وتعالى. وأما الاطلاع والظهور على الغيب فمعناهما واحد فهو العلم الجزئي بالشيء الذي أذن الله تعالى لرسله أن يعلموا به. والعلم الجزئي بالشيء ليس كالعلم الكلي الشامل المحيط بالشيء. ولعل السر في هاتين الكلمتين في حق العباد، الإشارة إلى هذا المعنى فالعلم لله تعالى، والاطلاع والظهور على بعض هذه الغيبيات لمن اصطفاهم الله تعالى من رسله عليهم الصلاة والسلام. ومما يجدر التنبيه عليه هنا، أن في كتاب الله تعالى نصوصا دلت على أن الله تعالى أعلم بعض عباده من الرسل والأتباع فكانوا على علم بتلك الغيوب التي أوحى الله تعالى بها إلى رسوله (وذلك كقوله تعالى:

(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ((1) وقوله: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ((2)

ويفيد هذا انهم علموا بأنباء الغيب بعد أن أوحى الله تعالى بها إلى نبيه (. فإن قيل أو ليس قد سبق أن عباده المصطفين يظهرون على بعض الغيب ولا يعلمون به لأن العلم هو الإحاطة والشمول وذلك ليس إلا لربنا عز وجل؟ فالجواب أن الآيات المفيدة بأن الرسول (وأتباعه علموا بأنباء الغيب بعد وحي الله تعالى إليه جاءت في الغيب النسبي وليس في الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل. وأيضا إن الله تعالى أخبرهم بما قد جرى ووقع في زمن قد مضى وانقضى لم يكن رسول الله (وقومه في ذلك الزمان أو المكان، ولو كانوا ثمّ لعلموا به كما علم من كان بذلك الزمان والمكان ولذلك قال الله تعالى بعد ذلك:

ص: 49

(وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه

((1) . وقال في قصة يوسف واخوته بعد أن قصها على نبيه (: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ((2) . وقال عقب قصة موسى (: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ((3) .

وهذان المعنيان يفهمان من سياق الآيات القرآنية في الفرق بين الإطلاع والظهور، وبين العلم بأخبار الغيب، فالعلم بأخبار الغيب المتعلقة بعالم الشهادة له مصادر شتى كما سيأتي بيانه في موضعه. غير أن الوحي أهم المصادر وأصدقها وأجلها وأدقها. وأما الغيب المطلق فليس للإطلاع عليه مصدر آخر غير الوحي الرباني. وكأن المطلع عليه يطلع عليه من نافذة الوحي كما يطلع المرء من نافذة منزله أو كوة فيه على ما في الخارج، فإنه لا يحيط به من جميع الجوانب.

وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الاطلاع والظهور على الغيب معناهما مشاهدة الغيب نفسه، وإن كان بلا إحاطة.

وأما أخبار الغيب التي يوحى بها فهي لا تعني أن من أوحى بها إليه شاهد الغيب واطلع عليه ولكنه أخبر به. فمثال الاطلاع على الغيب مشاهدات الرسول (ليلة الإسراء والمعراج، ورؤيته للمسجد الأقصى بعد ذلك وهو بمكة حينما سألته قريش عن صفاته حتى وصف لهم وصفا دقيقا حيث جلاه الله تعالى له (4) . ومثال العلم بأخبار الغيب عن طريق الوحي، ما جاء من قصص الأنبياء وأممهم في القرآن.

المبحث الرابع: أنواع الغيب وأقسامه

الغيب من حيث إطلاق لفظ الغيب عليه ثلاثة أنواع:

النوع الأول: غيب الغيوب:

ص: 50

وهو الغيب الخاص بذات الله وأسماءه وصفاته. وهذا النوع هو قمة الغيب وأعظمه وأبعده عن علم الخلق. ولم يكن هذا النوع قسيم غيب العالم بقسميه المطلق والنسبي، لأن الله تعالى ليس من العالم، بل هو رب العالمين تبارك وتعالى.

إن ذات ربنا وصفاته غيب استأثر الله تعالى بعلمه، ولا يعلم كيف هو إلا هو، ولا يعلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى غيره تعالى. فعباده تعالى لا يعلمون من ذلك إلا ما علمهم عن طريق الوحي إلى رسله وأنبيائه. وما علمهم الله تعالى من ذلك قليل من كثير استأثر الله تعالى به في علم الغيب. وإلى ذلك أشار النبي (في قوله: " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك

" (1) .

ولهذا لا يجوز تجاوز ما جاء في نصوص الوحي في أسماء الله تعالى وصفاته، لأنها قمة الغيب وذروته التي لا يحيد عنها إلا هالك، ومن حاد عنها وأرخى الزمام لعقله القاصر وقال في صفات الله تعالى برأيه نفيا وإثباتا فقد ضل ضلالا مبينا. وهذا النوع هو الذي كان باعثا لتأليف هذه المباحث لعلي أبين حدود العقل البشري وموقفه من هذه الحمى الذي اقتحمه طائفة من البشر بلا هدى ولا كتاب منير، فزاغوا عن الحق وأزاغوا.

النوع الثاني: غيب العالم، وهو قسمان:

القسم الأول: الغيب المطلق (2) :

وهو المتعلق بعالم الغيب. وعالم الغيب هو المخلوق على وضع لا يصل الإنسان إلى العلم به بحواسه التي يتوصل بها إلى العلم بعالم الشهادة، أو هو كل ما خلقه الله تعالى غير قابل لوصول الحواس إليه، وذلك كالملائكة والجن والشياطين فمتى أذن الله تعالى لمن شاء من عباده بذلك حصل ما أذن له به، في وقت أذن به، بقدر ما أذن به على هيئة أذن بها.

ص: 51

فمن ذلك رؤية الرسول (لجبريل عليه السلام على هيئته الملكية في النزلة الأولى من جبل حراء، وفي نزلته الأخرى عند سدرة المنتهى ليلة المعراج (1) . ومن ذلك رؤيته أرواح الأنبياء في تلك الليلة في السماوات. فقد رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحي وعيسى في السماء الثانية، ورأى يوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، ورأى إبراهيم في السماء السابعة (2) .

والأرواح من عالم الغيب الذي أطلع الله تعالى رسوله (عليه تلك الليلة، وأما أجسادهم عليهم الصلاة والسلام فهي مدفونة في الأرض، سوى ما كان من أمر عيسى (فإنه حي بجسده في السماء. حيث رفعه الله تعالى إليه حيا كما قال الله تعالى: (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ((3) .

ص: 52

ومن الغيب المطلق النبوة والرسالة، ونزول الكتب على الرسل، والقضاء والقدر، واليوم الآخر. أي إن أركان الإيمان الستة كلها داخلة دخولا أوليا في الغيب المطلق، سوى الركن الأول وهو الإيمان بالله تعالى، فإنه غيب الغيوب كما سبق بيانه، ولهذا قال الله تعالى:(الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ((1) . والإيمان لا يكون إلا بالغيب سواء كان الغيب من النوع الأول أو من النوع الثاني بأقسامه. فالأمور الحسية لا يطلب من الإنسان أن يؤمن بها، لأنه يحس بها ويشاهدها فلا يسعه إنكارها. ثم إن الله تعالى اختبر عباده حيث أمرهم بالإيمان بالغيب الذي لا يعلمون به إلا عن طريق إخبار الله تعالى بها لا عن طريق المشاهدة. ولهذا لا ينفع الإيمان حينما ينكشف الغطاء عند حلول الأجل، وبلوغ الروح الحلقوم، وعند طلوع الشمس من مغربها، وعند نزول العذاب الذي توعد الله به أقوام الرسل، لأنه لا يسع أحدا شاهد ذلك إلا التصديق بالمحسوس وذلك ليس من الإيمان في شيء. ولهذا لم يقبل الله تعالى من فرعون إيمانه لنزول الموت به، ومشاهدته حقائق ما كفر به من قبل، قال الله عز وجل:(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (آالآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ((2)، وقال رسول الله (:"إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"(3) .

فإذا قيل إن من أركان الإيمان ما ليس بغيب كالرسل والكتب إذ هم من عالم الشهادة. فكيف تعلق بهم الإيمان مع القول إن الإيمان لا يتعلق بالمحسوسات؟

ص: 53

قيل إن ذلك راجع أيضا إلى هذه القاعدة التي لا يخرج عنها ركن من أركان الإيمان، وذلك بأن الإيمان بالرسل ليس متعلقا بوجودهم في زمن من الأزمان، وذلك أمر معلوم بداهة، ولكن الذي يتعلق به الإيمان إرسال الله تعالى لهم وذلك هو الغيب الذي أمرنا بالإيمان به، أما الوجود التاريخي للرسل فهو أمر لم يكن الكفار ينكرونه، إذ هم يشاهدون الرسل في أزمانهم، وينصب كفرهم على رسالتهم ونبوتهم ولذلك قالوا لرسلهم:(إن أنتم إلا بشر مثلنا ((1)، أي لا تتميزون علينا بالرسالة التي تدعون أنكم تحملونها ولهذا قال قوم صالح (بعضهم لبعض:(أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ((2) . وقال

الكافرون لرسول الله (كما حكى الله تعالى عنهم في قوله: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ((3) وما قالوا هذا إلا نفيا وإنكارا للأمر الغيبي الذي هو النبوة والرسالة.

ص: 54

وكذلك الكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله، متعلق الإيمان لم يكن بوجودها بين الناس، فإن وجودها في أيدي الناس، أمر حسي لا ينكره أحد، ولكن الذي أمرنا بالإيمان به كونها منزلة على الرسل من عند الله تعالى، والذين كفروا بها لم يكفروا بوجودها، ولكنهم كفروا بنزولها من عند الله. ولذلك قالوا لرسلهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله:(قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ((1)، وقال الله تعالى:(وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ((2) . وقالوا في القرآن الكريم: (إن هذا إلا قول البشر ((3) .وهذا يدل على أن كفرهم كان متعلقا بنزول الوحي به لا بوجود الكتاب العيني، فإن المشار إليه بقولهم:(إن هذا (هو القرآن المعروف لديهم بوجوده بينهم، ولم ينكروا إلا كونه من عند الله تعالى. ويلحق بهذا القسم مكنونات الصدور من مقاصد ونوايا. فإن ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى. ولهذا وصف الله تعالى نفسه الكريمة بقوله: (يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ((4)،:(وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ((5)،:(وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ((6) . فمن زعم أنه يعلم خواطر النفوس وكوامنها وأسرارها، فقد تجاوز حدوده واعتدى على حق الله تعالى. وأما ما قد يلمع لبعض من أخلصوا لربهم وصدقوا في اتباعهم من لمع تتعلق ببعض الخواطر فليس من العلم بالغيب، وإنما هو فراسة كما سيأتي ذكر ذلك في مبحث خاص إن شاء الله تعالى.

القسم الثاني: الغيب النسبي أو الإضافي:

ص: 55

الغيب النسبي أو الإضافي هو ما كان من عالم الشهادة، وكان غيبا بالنسبة والإضافة إلى بعض الخلق دون بعض، وذلك باختلاف الزمان والمكان وما يستخدم في الوصول إليه أي أن غيبيته لم تكن صفة لازمة له إنما هي صفة نسبية أو إضافية، مثال ذلك من الزمن الماضي ما جرى بين الرسل وأممهم من الوقائع والأحداث غيب بالنسبة والإضافة إلينا نحن الذين نعيش في زمان غير زمانهم وهي نفسها مشاهدة بالنسبة والإضافة لأهل زمانهم ومكانهم ولم تكن غيبا. وهي غيب أيضا لمن يعيش في مكان آخر في ذلك الزمان.

وهذا القسم تحته ثلاثة أقسام بحسب الزمان:

الأول: غيب الزمن الماضي.

الثاني: غيب الزمن الحاضر.

الثالث: غيب الزمن المستقبل.

أما غيب الزمان الماضي: فهو ما يتعلق من الحوادث بغيب الأزمنة الماضية. وسبب غيبيتها وقوعها في زمن قد مضى قبل زمن قوم بلغهم الخبر عن ذلك الماضي لم يكونوا فيه.

وأما غيب الزمان الحاضر: فهو ما كان من عالم الشهادة واقعاً في الزمن الذي أنت فيه، وسيأتي بيان سبب غيبيته في المبحث العاشر إن شاء الله تعالى.

وأما غيب الزمان المستقبل: فهو ما سيحدث من الحوادث بعد اللحظة التي تعتبر الزمن الحاضر. وهو شبيه في غيبيته بالغيب المطلق لتوغله في الغيبية.

فالإنسان لا يعلم شيئا مما سيحدث في المستقبل لقول الله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ((1) .

وهذه الحوادث المذكورة في الآية الكريمة حوادث مستقبلة لا يعلمها إلا الله تعالى.

ص: 56

فأولها: متى قيام الساعة، فعلم ذلك عند الله تعالى كما دلت على ذلك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة. فمنها قول الله تعالى:(يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ((1)، ومنها قوله:(يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ((2) . وقال رسول الله (لجبريل (حينما سأله عن الساعة: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " (3) .أي إن الرسول (لا يعلم ميعادها كما لا يعلم سائله جبريل (متى هي.

وثاني تلك الحوادث التي تضمنتها الآية، موعد نزول الغيث، فعلمه كذلك عند الله تعالى، فكما أنه تعالى هو الذي ينزل الغيث فهو الذي يعلم موعد نزوله.

وثالثها علم ما في الأرحام، ولا يعلم ما في الأرحام غير الله عز وجل، وهو الذي يعلم وحده ما حوته الأرحام علما جليا محيطا عميقا، وعلم ما في الأرحام ليس مقتصرا على معرفة نوع الجنين من ذكر وأنثى، وإنما هو أوسع من ذلك وأعمق بكثير. فمعرفة نوع الجنين في مراحل حياته المتأخرة بعد تكامل أعضائه مما أمكن العلم به في هذا العصر باستخدام الآلات الحديثة، وما دام الأمر كذلك فإن المراد بعلم ما في الأرحام الذي يختص به الله ليس هذا الجانب قطعا، وإنما يشمل علمه عز وجل علم ما في الأرحام منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها النطفة في الرحم، أذكر أم أنثى، أسقط أو مولود، أشقي أم سعيد، أعالم أم جاهل، أخامل أم عامل، أرئيس أم مرؤس، أغني أم فقير، أعزيز أم ذليل، أعقيم أم يولد له، ويعلم علما دقيقا ماذا سيكون لهذه النطفة من الذراري وما تتصف به من صفات عدها في علمه وأحصاها تبارك وتعالى إلى آخر مولود من الخلائق وهو علام الغيوب سبحانه وتقدست أسماؤه وصفاته.

ص: 57

ورابع تلك الأشياء التي دلت الآية الكريمة على اختصاص الرب بعلمها ما تكسبه النفوس في المستقبل بعد اللحظة التي هي فيها، وما سيكون من أمرها وماذا سيحدث منها أو سيحدث لها، كل ذلك علمه عند ربنا تبارك وتعالى ولهذا أمر الله تعالى رسوله (أن يقول لقومه:(قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ((1) .

ولو كان أحدنا يعلم من أين يأتيه ما يخاف ويحذر لتجنبه، وما أصابه مكروه ولو كان يعلم من أين يأتي ما ترغب فيه النفس من الخير لتعرض له وما فاته شيء من المطلوب والمرغوب. ولكن الله تعالى استأثر بعلم ذلك وحده.

وخامسها: علمه تعالى وحده أين تموت كل نفس، ومتى تموت وبم تموت، وعلى أية حال تموت، ولا يعلم أحد من خلقه، أين تموت نفسه ومتى، كما لا يعلم آجال غيره من النفوس. أما رب النفوس وخالقها ومحييها ومميتها وباعثها فهو الذي له علم ذلك كله: (إن الله عليم خبير (. فإن قيل إذا كان الخلق لا يعلمون ما يستقبل من الحوادث، فكيف استطاع الفلكيون معرفة تواريخ الكسوف وساعاته، واستطاع مراقبوا أحوال الطقس عن طريق المراصد الجوية الإخبار بأخباره قبل حدوثه.

قيل أن ذلك من التجارب البشرية المتكررة التي مكنت العلماء الذين يقومون بالرصد المتواصل من توقع تلك الحوادث على سبيل التوقع والظن لا على سبيل العلم واليقين فكما يستنتج أحدنا تقابل قطارين في نقطة معينة إذا كان انطلاقها في وقت واحد وسرعة واحدة سائرا كلا منهما في الاتجاه المواجه للأخر. فكذلك توقع الفلكيين مرور القمر بين الأرض والشمس في موضع معين في ساعة معينة لا يدل على علم الغيب، وإنما هو توقع مبني على التجارب والملاحظات المتواصلة، والاختبارات المتكررة. وهذا مما لا يجزم بحدوثه ووقوعه، والعلم بالشيء هو الجزم بما هو عليه، أو بما سيقع لا محالة، فليتأمل.

المبحث الخامس: حظ الإنسان من علم الغيب

ص: 58

سعى الإنسان منذ نشأته إلى الوقوف على ما يجهله في هذه الحياة بالوسائل التي خلقها الله فيه، تدفعه غرائزه التي زوده بها. فوصل بالوسائل التي لديه إلى تحقيق الكثير مما يتوق إلى معرفته مما يمكن الوصول إليه من خبايا عالم الشهادة، غير أنه لم يكتف بذلك ولم يقتنع بما حققه من الإنجازات في ذلك، بل حاول في مختلف العصور الاطلاع على ما لم يتمكن من الوصول إليه بالوسائل التي ركّبت في بدنه، وزوده الله بها لتكون عوناً له في هذه الحياة، فاستعان بالجن والشياطين حتى نشأت بين الناس فئة ادعت أنها تعلم الغيب، وهي فئة الكهان والعرافين وقارئي الفناجين والمشعوذين الذين استغلوا التطلع الإنساني إلى المجاهيل، فأضلوه بما زعموا من معرفة الغيب من عالم الشهادة، بل تجاوزوا ذلك إلى عالم الغيب، فأخذوا يشيعون بين مصدقيهم أن لهم علاقة بالملائكة والجن، وأن لهم صلة بالنجوم والشمس والقمر والكواكب، فأقاموا لهذه الأجرام السماوية معابد وهياكل عبدوها من خلالها زاعمين أن لها أرواحاً وعقولاً وتصرفاً في الكون، وأنها ترضى وتغضب وتعطي وتمنع، وتفرق وتجمع، وتحيي وتميت، وتخفض وترفع، غير أن الله عز وجل الذي خلق هذا الكون لحكمة أرادها، والذي يتنزه عن كل نقص، ما ترك الإنسان سدى، حتى يتخبط في جهالاته وضلالاته تستهويه الشياطين في الأرض حيران لا يهتدي سبيلاً، ولا يجد هادياً ولا دليلاً، فأرسل إليه رسله تترى في كل عصر وجيل، وأنزل عليهم الكتب، فهداهم من الظلمات إلى النور، فأطاع من أطاع وعصى من عصى، واستمر الصراع بين الحق والباطل استمرار الإنسان في هذه الحياة.

ص: 59

ولقد أعلم الله الإنسان عن طريق رسله ما خلق من أجله، وما ينبغي عليه أن يؤمن به، وما يجب أن يعمله أو لا ينبغي أن يعتقده أو يعمله، غير أن الشيطان وجنوده من الجن والإنس ما فتئوا يزينون له الباطل من الاعتقاد والقول والعمل مع قيام الحجة، ووضوح المحجة، فاستمر الإنسان الذي لم يستجب لرسل الله تعالى، أو استجاب ولكنه لم يلتزم بمنهج الرسل وأتباعهم التزاماً صحيحاً، في التطلع إلى عالم الغيب، حتى وجد بين الناس من أطلق لعقله الزمام متجاوزاً بتفكيره القاصر الطموح ما وراء الطبيعة، حتى تجاوز ذلك إلى الكلام في ذات الله وأسمائه وصفاته، معرضاً عن نصوص الوحي المنزل أو مؤولاً لها، يصرفها عن دلالاتها اللغوية والشرعية، إلى ما تهواه نفسه، ويملي عليه هواها زاعماً أن عقله هو المعيار الصحيح الذي به توزن الغيبيات وزناً دقيقاً، فكان منهم من أنكر صفات الله تعالى الواردة في نصوص الوحي، فعطل رب العالمين عن صفاته الثابتة له كالمعتزلة، ومنهم من نفى أسماءه وصفاته غير مبال بنصوص الوحي كالجهمية، ومنهم من أقر ببعض صفاته على ما يلائم عقله، وأول ما لم يوافق عقله كالأشاعرة والماتريدية، فهدى الله الذين تمسكوا بنصوص الوحي وما دلت عليه من الحق من سلف هذه الأمة وخلفها، حيث لم يجعلوا العقل فوق نصوص الوحي يحكم عليها بأوهامه، ويتحكم فيها بظنونه، ولم يلغوا وظيفته، فتوسطوا في ذلك مدركين أن دور العقل هو الفهم عن الله ورسوله، والتصديق بكل ما جاء في نصوص الوحي على مراد الله تعالى كما بلغ رسوله الصادق الأمين، وأن الغيب يجب التصديق به على ما وردت به النصوص من غير أن يكون للعقل دخل في تصوره، فالله ما كلف الإنسان بما لا يطيق، وإن العقل الذي ركب فيه أداةٌ خاصةٌ لاستخدامها في عالم الشهادة من أمور دنياه، وأما عالم الغيب فكفاه الله مئونته بأن بين له ما يجب أن يصدق به منه، وما ذلك إلا لعلمه تعالى أن طاقة عقل الإنسان في هذه الحياة الدنيا

ص: 60

لا تتجاوز هذا المجال ولا تتعداه، فكما أن الموازين التي تستخدم في المتاجر لوزن المبيعات من الفواكه والحبوب والثمار لا يصح أن توزن بها الجمال والجبال، فكذلك لا يصح أن توزن الغيبيات بهذا العقل الذي خلقه الله لأمر غير هذه الأمور ليس أهلاً له. ولذلك اختلفت الفرق وتباينت آراؤهم في الغيبيات، لاختلاف عقولهم، فعقل الجهمية يرى أن ما يتوهمه هو عين العقل والصواب، وعقل المعتزلة يرى ما يخالف ذلك في بعض الغيبيات، وعقل الأشاعرة كذلك يرى ما يخالفهم منفرداً ببعض الآراء عن الجهمية والمعتزلة، وهكذا يرى كل فريق أن عقله هو المعيار الصحيح والميزان القسط التي توازن به حقائق الغيبيات، فعقل من منهم العقل الذي يجب القول بما جنح إليه من الاعتقاد؟ إنه لا يوجد في الناس عقل كلي معصوم من الخطأ يجب الرجوع إليه عند الاختلاف في الغيبيات، ولكن الذي يجب الرجوع إليه والجزم بصحة ما دل عليه هو الوحي الرباني الذي من تمسك به رشد، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن اعتصم به نجا، ومن عمل به هدي إلى صراط مستقيم.

وفي هذه الدراسة التي تم ذكر أنواع الغيوب وأقسامها فيها، أذكر بشيء من التفصيل حظوظ الإنسان من الاطلاع على تلك الأنواع والأقسام من الغيوب، طبقاً لما دلت عليه النصوص الشرعية، وشهدت له التجارب الإنسانية عبر العصور المختلفة، وذلك في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى وأعان.

المبحث السادس: حظ الإنسان من غيب الغيوب

لقد سبق أن غيب الغيوب هو الغيب المتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته. وهو أعظم أنواع الغيب وذروته.

وحظ الإنسان من هذا الغيب هو ما جاءت به النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وليس لأحد أن يقول شيئا في أسماء الله تعالى وصفاته إلا بإيقاف من الله تعالى ورسوله عليها. وهذا معنى قول العلماء: إن أسماء الله تعالى توقيفية، وكذلك صفاته تعالى على الراجح من كلام العلماء، قال السفاريني في الدرة المضيئة:

لكنها في الحق توقيفية

ص: 61

لنا بذا أدلة وفية

وإن سلف هذه الأمة من أصحاب رسول الله (ومن تبعهم بإحسان، قد التزموا بقبول ما دلت عليه نصوص الوحي من أسمائه وصفاته فأثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه الكريمة في كتابه، أو أثبته له رسوله الصادق في سنته الثابتة عنه على الوجه الذي يليق به تعالى من غير تأويل يؤدي إلى التحريف، أو نفي يؤدي إلى التعطيل تحت ستار التنزيه. وكذلك نفوا عن الله تعالى ما نفاه عن نفسه في كتابه أو نفاه عنه رسوله (في سنته. ولم يكونوا في الإثبات غالين مشبهين، كما لم يكونوا في النفي متجاوزين لحدود النصوص الواردة في النفي حتى يكونوا بذلك معطلين. فهم بذلك وسط بين أهل التشبيه، وأهل التعطيل. وما لم يرد نفيه أو إثباته في الكتاب والسنة، توقفوا في إثباته ونفيه، ولم يثبتوا خشية أن يكون غير ثابت لله، ولم ينفوا خشية أن يكون ثابتاً لله تعالى، لأن ذلك راجع إلى القول على الله بغير علم، وهو مما لا يجوز في شرع الله تعالى.

وهنا يتحتم بيان ثلاثة أمور في غاية الأهمية في الإسلام:

الأمر الأول:

تعلق مسائل الإيمان عامة بثوابت غيبيه، سواء كانت من غيب الغيوب الخاص بأسماء الله وصفاته. أومن عالم الغيب الذي منه الغيب المطلق، أو ما يلحق به في غيبيته من عالم الشهادة.

الأمر الثاني:

مسائل الإيمان توقيفية، أي أن النصوص الشرعية هي التي أوقفتنا على تلك المسائل التي لا نعلم عنها شيئا قبل ورود النصوص الشرعية التي بينتها لنا وأوقفتنا عليها.

ولا يسع المسلم الحريص على دينه أن يتجاوز هذا الموقف الشرعي برأيه وعقله المحدود، وإنما يجب عليه الوقوف على ما أوقفه الشرع عليه من مسائل الإيمان التي يجب على الإنسان أن يتقبلها بقبول حسن على النحو الذي وردت به في النصوص الشرعية.

ص: 62

ومن هنا يتبين أن المراد بالتوقيف أن الشارع أوقف العباد عليها بنصوص الوحي من الكتاب والسنة الصحيحة، والعباد يتوقفون على ذلك ولا يتجاوزونه بحال. أي توقيف من الله يترتب عليه توقف من العباد. وفعل التوقيف بناؤه للمطاوعة إذ تقول: وقفته إذا توقف. أما إذا لم يتوقف فلا تقول: وقفته ولكن تقول: استوقفته، أي طلبت منه أن يتوقف، واستفعل تدل على الطلب، وفعّل بتشديد عين الكلمة للمطاوعة، كما تقول: علمته فتعلم، وكسرته فتكسر، وقلبته فتقلب؛ تقول: وقفته فتوقف. والمطاوعة معناها؛ ظهور أثر الفعل في المفعول، فالله تعالى وقف عباده على ما ينبغي أن يتوقفوا عليه ولا يتجاوزوه، فتوقيفه العباد توقيف دلالة وإرشاد وتعليم، وليس توقيف جبر وقهر، لأن القضايا الإيمانية اختيارية وليست جبرية، فمن قبل توقيف الله تعالى ولم يتجاوز ما جاءت به النصوص الشرعية بتمثيل أو تأويل يؤدي إلى التعطيل فقد أفلح وفاز، ومن لم يتوقف بتوقيف الله تعالى، وتجاوز حدود النصوص الشرعية بعقله القاصر فقد تعدى حدود الله:(ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ((1) .

ص: 63

ومن رأى أن يتجاوز حدود الإثبات الشرعي لأسماء الله وصفاته فشبه الله تعالى بخلقه في ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً، لأن ربنا تبارك وتعالى لا يشبهه أحد من خلقه في صفاته الذاتية والفعلية، فكما لا تشبه ذاته ذوات خلقه، لا تشبه صفاته صفات خلقه سبحانه. ومن رأى بعقله المحدود أن ما جاء في النصوص الشرعية من الأسماء والصفات ظاهر معانيها لا يليق بالله تعالى، فأتى بمعان زعم أنها هي المرادة من النصوص فقد استدرك على الله تعالى ورسوله، حيث اعتقد أن الظاهر من كلامه تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام لا يليق بالله تعالى، وأن الذي يراه ويؤول به النصوص هو الصواب، وذلك رجم بالغيب، وتزكية للنفس حيث رأى أن عباراته التي أتى بها لتفسير كلام الله تعالى وكلام رسوله أليق بالله تعالى وأوضح في تنزيهه عن مشابهة الخلق، وهذا منتهى الغرور أن يظن عبد بربه أنه خاطب عباده بما لا يفهم منه إلا ما لا يليق به، واتهام لرسوله المبلغ عنه البلاغ المبين أنه ما بين ما أنزل الله عليه لأمته، وأنه خاطب أمته بما لا يفهمون مراده منه، حتى نهض هؤلاء لبيان ما قصر عنه البيان في كتاب الله وسنة رسوله.الأمر الثالث: مسائل الإيمان غير قابلة للنسخ، فالقضايا الإيمانية هي التصديق بالأمور الواقعة، أو التي ستقع على سبيل القطع، على الوجه الذي وردت به النصوص الشرعية، وهي إخبار الله تعالى أو إخبار رسوله عن أمور واجبة التصديق والتسليم، فالأخبار لا تنسخ وإنما الأوامر والنواهي هي التي يدخلها النسخ، وأما الأخبار فنسخها يعني عدم صحتها، وذلك ما لا يجوز على أخبار الله تعالى، (ومن أصدق من الله حديثا ((1)(ومن أصدق من الله قيلا ((2)، وكذلك لا يجوز على أخبار رسوله إلا الصدق لأنه:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ((3) ، فالله تعالى ما اصطفاه للرسالة إلا لعلمه أنه أصدق الناس وأحفظهم للأمانة التي حملها الله إياه. فمن فهم هذه الأمور الثلاثة

ص: 64

فهماً صحيحاً، وعمل بمقتضاها، وعامل النصوص الشرعية على أساسها، فقد اهتدى، وأصاب كبد الحقيقة، ونجا من حيرة المتكلمين ومن سلك سبيلهم،، وكان على بصيرة ونور من ربه، وأما من زين له سوء عمله من التشبيه والتجسيم، أو التعطيل والتأويل فقد ظلم نفسه ولن يضر الله شيئاً.

المبحث السابع: التصورات الخاطئة لغيب الغيوب ونتائجها السيئة

إذا أخبر الإنسان بصفات إنسان لم يره قط، فلا بد أن توجد في ذهنه صورة لذلك الإنسان وتلك الصورة الذهنية هل تطابق الصورة الحقيقية لذلك الإنسان أو لا؟ وإذا أخبر عدد من الناس بمثل هذا الخبر، فإن كل واحد ممن سمعوا الخبر عن صفاته لديه صورة ذهنية عن ذلك الإنسان الموصوف، وهل يوجد تشابه بين تلك الصور الذهنية المتعددة أولا؟ وهل تطابق كل تلك الصور الذهنية، صورة ذلك الإنسان في الخارج؟ الجواب: أن ذلك غير حاصل، فالصورة الذهنية لشخص غير مشاهد، تخالف صورته في الخارج والواقع ولا تطابقه، فكيف إذا اختلفت التصورات وتعددت الصور الذهنية بتعدد المتصورين؟

ص: 65

هذا في صفة إنسان يعتبر واحداً من أفراد جنسه، وجنسه ونوعه معروفان في الخارج، والصفات المشتركة بين أفراد الجنس الواحد كثيرة، ومع ذلك فقياس زيد الغائب على عمرو الشاهد من جميع الوجوه مع تجانسهما، فاسد إلا فيما كان من الخصائص الإنسانية العامة الشائعة في أفراد الجنس. فإذا كان هذا لا يصح في أفراد الجنس الواحد في بعض خصائصه، فكيف يصح قياس الغائب على الشاهد في موصوف ليس من جنس الخلق؟ وهو الله تبارك وتعالى؟ من هنا أتي كل من المشبِهة والمعطِلة. لقد أتي من هاهنا فريقان وهما فريق المشبهة الذين شبهوا صفات الله بصفات خلقه وفريق المعطلة الذي نفى أسماء الله تعالى وصفاته كالجهمية، أو نفى صفاته وأنكر أن تكون أسماؤه الكريمة دالة على صفاته كالمعتزلة، أو أثبت بعض صفاته إثباتاً مشوباً بالغموض والاضطراب، ونفى معظمها تحت ستار التأويل الذي يعتبر صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر لا دليل عليه من اللغة أو من النصوص الشرعية، وهم الأشاعرة والماتريدية.

قياس المشبهة:

إن المشبهة هم الذين غلوا في الأخذ بنصوص الصفات، وتجاوزوا ما دلت عليه النصوص الشرعية قياساً منهم للغيب على الشهادة، فذهبوا إلى أن صفاته تعالى الواردة في النصوص هي مماثلة لصفات خلقه، فجعلوا بذلك الشاهد أصلاً قاسوا عليه الغائب، وهو تصور خاطئ، وقياس فاسد، فقياس الغائب على الشاهد يصح فيما اتحد جنسه، واشترك في خصائصه كقياس الإنسان على الإنسان، في خصائص الإنسانية التي ثبت بالاستقراء أن الناس لا يختلفون فيها باختلاف الأزمان والأوطان.

ص: 66

أما في حالة اختلاف الأجناس، فإن قياس الغائب على الشاهد لا يصح، فالملائكة جنس، والبشر جنس، وللملائكة كلام، وللبشر كلام، فإذا كان الشاهد في كلام الإنسان أن يكون بلسان وشفتين وغيرهما من الأدوات التي جعلها الله معينة على التكلم، فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون كلام الملائكة مثل كلام البشر بأدوات مشابهة لأدوات الإنسان، وهكذا في كل مختلف الأجناس من خلق الله تعالى، لا يصح قياس بعضها على بعض، وإن تشابهت الألفاظ التي تطلق على هذه الأجناس في خصائص صفاتها، فللطير أجنحة، وللملائكة أجنحة، فهل يقول عاقل أن أجنحة الملائكة كأجنحة الطير قياساً للشاهد على الغائب؟ هذا مالا يقوله عاقل. فإذا كان قياس بعض ما اختلفت أجناسه على بعض من المخلوقات لا يصح، فكيف يصح قياس الخالق على خلقه، إن هذا إلا إفك مبين.

قياس المعطلة:

ص: 67

إن المعطلة على اختلاف دركاتهم في التعطيل انطلقوا من منطلق واحد، وهو اعتبار أن الحقائق في الصفات هي التي في الشاهد، فاليد هي الجارحة، والعين هي الباصرة، والكلام لا يكون إلا بلسان وشفتين في الشاهد، والرحمة رقة تحدث في القلب في الشاهد، والغضب انفعال يحدث في النفس عند وجود موجبه، هذا هو الأصل في الشاهد. أما في حق الله تعالى، فقياسه على خلقه لا يصح، فلا بد إذن من البحث عن معنى آخر تتقبله عقولهم، فلتكن اليد هي القدرة أو النعمة، ولتكن الرحمة إرادة الثواب، والغضب إرادة العقاب، هكذا جعلوا كل المعاني التي دلت عليها اللغة عند إطلاقها أصلاً في الإنسان كما رأت ذلك المشبهة فشبهت، أما المعطلة فقد انطلقوا من نفس المنطلق، ولكنهم وجدوا أن التشبيه غير صحيح، فوجدوا النفي مركباً للهروب من التشبيه الذي توهموا أن إثبات صفات الله تعالى على نحو ما جاءت به النصوص الشرعية يؤدي إليه، هذا كله عند القائلين بالتأويل، وأما القائلون بالنفي الكلي أو الجزئي، فمنطلقهم أيضاً نفس منطلق المشبهة والمؤلة، غير أن كل فريق انطلق إلى اتجاه غير اتجاه الآخر، فالمشبهة إلى وحل التشبيه فسقطوا فيه، والمعطلة إلى التعطيل تحت غطاء التنزيه، فسقطوا في مستنقع التعطيل على تفاوت فيما بينهم في الغوص في أعماقه.

وسبب هذا السقوط في تلك الأوحال والمستنقعات عدم نظرهم إلى القضايا الغيبية نظرة ثاقبة على ضوء ما دلت عليه النصوص الشرعية، فالمشبهة نظروا إلى الغيب نظرهم إلى الشاهد، فشبهوا ولم يأخذوا بقوله تعالى:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ((1) ، بل نظروا فقط إلى نصوص الإثبات نظرة سطحية فتطرفوا، والمعطلة نظروا إلى الغيب أيضاً نظرهم إلى الشاهد فتشابه الأمر عليهم فنفوا ولم يأخذوا بنصوص الإثبات مع نصوص التنزيه فعطلوا باسم التنزيه.

ص: 68

فهدى الله سلف هذه الأمة، ومن اقتدى بهم من الخلف، فأثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه الكريمة في كتابه العزيز، وما أثبته له رسوله (في سنته الصحيحة إثباتاً بلا تمثيل، ونفوا عنه ما نفاه عن نفسه الكريمة في كتابه الكريم مما لا يليق به، أو نفاه عنه رسوله (في سنته الثابتة نفياً لا يؤدي إلى التعطيل مهتدين بقول الله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (، (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ((1)، ولما كانت فرقة المعطلة الكبرى:(المعتزلة والجهمية) لم يبق في ديار الإسلام منهما إلا ما اندرج تحت عباءة بعض الفرق الأخرى التي لا تحمل أسماء تلك الفرق، ولم يبق منها إلى الاسم والرسم بحمد الله تعالى، اضرب عنهم الذكر صفحاً، مكتفياً بما سبقت الإشارة إليه من أن الجهمية معطلة في الأسماء والصفات، والمعتزلة معطلة في الصفات، ولقد بادتا بشؤم الاعتقاد الفاسد الذي خالفتا به كتاب الله تعالى وسنة نبيه، وهكذا شؤم المعاصي على الأمم والجماعات، وهي سنة الله تعالى التي قد خلت في عباده.

ولقد بقيت في ديار الإسلام فرق التأويل وهي تزعم أنها على مذهب أهل السنة والجماعة، غير أن ذلك ادعاء تعارضه الأدلة، ويكذبه الواقع، فلننظر فيما يأتي إلى أمثلة من تأويلاتهم المضطربة لنصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة والتي لا يزال يتشبث بها فريق من العلماء ظناً منهم أن ذلك هو الحق وأن ما خالفه هو الباطل.

أمثلة من التأويلات الحائرة لنصوص الصفات

ص: 69

إن صفات ربنا تبارك وتعالى من غيب الغيوب، وهي قسمان: صفات ذات، وهي التي يوصف الله تعالى بها على الدوام والاستمرار، ولا يجوز أن يوصف بضدها، كاليد، والوجه، والعين، والإصبع، والقدم، والساق، وصفات فعل، وهي التي تتعلق بإرادته تبارك وتعالى، يفعلها متى شاء وكيف شاء، وقد يفعلها ويفعل ضدها، ولا يطرد هذا في جميع الصفات الفعلية، وأمثلة الصفات الفعلية الخلق، والرَزق، والإحياء، والإماتة، والاستواء، والمجيء، والإتيان، والنزول، والرضا، والغضب، والكلام، فكل هذه الصفات ثابتة لربنا تبارك وتعالى، وهي صفات فعله الاختيارية يفعلها متى شاء، وكيف شاء على ما يليق بجلاله وعظمته.

إن مؤولي صفات الله تعالى ذهبوا بعقولهم القاصرة، وأفكارهم الحائرة إلى القول بأن كثيراً مما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى الذاتية أو الفعلية تدل معانيها الظاهرة منها عند إطلاقها على ما لا يليق به تعالى، فمن أجل ذلك قالوا إن الواجب على المسلم إزاءها أحد أمرين:

الأمر الأول:

التأويل، وهو صرف المعنى الظاهر إلى معنى آخر لا يتحمله اللفظ ولا يدل عليه دليل لغة وشرعاً.

الأمر الثاني:

التفويض: أي إثبات لفظ مجرد عن المعنى وتفويض العلم بمعناه إلى الله تعالى، والتأويل هو القول المقدم عندهم، وفي هذا يقول صاحب جوهرة التوحيد:

وكل نص أوهم التشبيها

أوله أو فوض ورم تنزيها

هذا ما ذهب إليه الأشاعرة، فواكبهم الماتريدية في ذلك، قال السفاريني رحمه الله تعالى في الدرة المضيئة:

فكل من أول في الصفات

كذاته من غير ما إثبات

فقد تعدى واستطال واجترى

وخاض في بحر الضلال وافترى (1)

أ/ تأويلهم لصفات الذات:

أولاً: تأويلهم لصفة الوجه:

ص: 70

وردت صفة الوجه في كتاب الله تعالى في أحد عشر موضعاً (1) وصف الله تعالى بها نفسه الكريمة. ومع ذلك يأبى المؤولون إلا صرف معاني هذه الآيات عن ظاهرها. فقد قالوا في صفة الوجه: "إن المراد بالوجه الذات"(2) ، "لأن الوجه وضع للجارحة، ولم يوضع لصفة أخرى بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب، فتعين المجاز "(3) .

ثانياً: تأويلهم لصفة اليد:

وردت صفة اليد في حق ربنا تبارك وتعالى في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة، فقد وردت في القران وحده في أحد عشر موضعا (4) أيضا. أما في السنة النبوية فما ورد من ذلك شيء كثير.

وحال المؤولين في هذه الصفة كحالهم في صفة الوجه، فإنهم قالوا في تأويل معنى هذه الصفة:"وباليد القدرة"(5) أي المراد بالوجه الذات والمراد باليد القدرة.

وقال الإيجي نقلا عن القاضي في بعض كتبه: "وقال الأكثر: إنهما مجاز عن القدرة فإنه شائع (وخلقته بيدي) أي بقدرة كاملة"(6) .

ثالثاً: تأويلهم لصفة اليمين:

وردت هذه الصفة في حق ربنا تبارك وتعالى في الكتاب والسنة. أما الكتاب فقد وردت في قوله تبارك وتعالى: (والسماوات مطويات بيمينه ((7) وقد قالوا في تأويل هذه الصفة وصرفها عن ظاهرها: "وإن المراد باليمين في قوله تعالى: (والسماوات مطويات بيمينه (: القوة"(8) .

رابعاً: تأويلهم لصفة العين:

وردت في حق ربنا تبارك وتعالى صفة العين في القرآن الكريم بصيغة الإفراد وصيغة الجمع، فمن ذلك قوله تعالى:(ولتصنع على عيني ((9)، وقوله:(واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ((10) فقام أصحاب التأويل بصرف معناها عن ظاهرها حيث قالوا: المراد بالعين: "التربية والرعاية"(11) .

ص: 71

قال السفاريني رحمه الله تعالى: "فإن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فجمعوا بين التمثيل والتعطيل، فمثلوا أولاً وعطلوا آخراً فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل، بخلاف سلف الأمة، وأجلَاّء الأئمة، فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به نبييه (من غير تحريف ولا تشبيه) تعالى لله عن ذلك، فإنه تعالى قال في محكم كتابه: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ((1) ، فرد على المشبهة بنفي المثلية ورد على المعطلة بقوله: (وهو السميع البصير ("(2) .

إن المؤولين قد قاسوا الغيب على الشهادة بعد أن جعلوا عالم الشهادة هو الأصل في كل التصورات والمعاني، فلما نظروا في النصوص الشرعية بهذه النظرة توهموا أن كل عبارة وردت في الكتاب والسنة في حق من ليس كمثله شيء من الصفات يوهم ظاهر معناها تشبيه الله تعالى بخلقه لأن الأصل عندهم دلالتها على صفات الخلق لا على صفات الخالق، فانطلقوا من قاعدة التشبيه إلى قاعدة التأويل والتعطيل، لأنهم لم يؤولوا حتى شبهوا، ثم فروا من تلك الأوهام التي تخيلوها، إلى الأوحال التي غاصوا فيها.

ص: 72

ولو استحلف هؤلاء المؤولون لمعاني صفات الله تعالى آلله أعلمكم أنه ما أراد بتلك الكلمات إلا هذه المعاني التي ذكرتموها؟ لما أجاب أحد منهم بنعم، وإنما يقول: (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين (، أفعلى مثل هذه الأوهام يبنون القضايا الإيمانية التي هي أساس دينهم الذي يرجون لقاء الله تعالى به؟ أوليسوا هم الذين يزعمون أن قضايا الاعتقاد لا يستدل عليها إلا بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وقطعي الثبوت عندهم ما جاء عن طريق التواتر؟ فكيف اعتمدوا على هذه الأوهام التي لم يكن لها أصل يعتمد عليه لا من اللغة ولا من النصوص الشرعية الصحيحة؟

ب/ تأويلهم لصفات الفعل:

أولاً: تأويلهم لصفة الاستواء:

الاستواء على العرش من صفات الله الفعلية التي وردت في القرآن الكريم في سبع آيات (1) ، فقد أول المتأولون معنى الاستواء بالاستيلاء (2)، محتجين على هذا التأويل ببيت من الشعر جاء فيه:

قد استوى بِشرٌ (3) على العراق

من غير سيف ودم مُهراق

ص: 73

فالشاعر إن ثبت أنه قال: استوى لا استولى كما يقول بعض العلماء، فإن قوله لا يكون حجة في تفسير كلام الله تعالى، ولكن الذي ذكره أهل العلم أن الرواية الصحيحة في بيت الشاعر قوله: استولى لا استوى، فالاستيلاء على قطر من الأقطار بقتال أو بغير قتال أمر يجري بين الناس ولا ينكره منكر لا من حيث الجواز ولا من حيث الوقوع، لأن استيلاء الملوك والأمراء والقواد على بلد أو إدخاله في الحوزة والسيطرة بعد أن كان خارجاً عنها جائز، وواقعٌ كثيراً في تاريخ الأمم والشعوب وهل يصح ويستقيم هذا في حق من له ملك السموات والأرض؟ هل كان العرش خارجاً عن ملكه وحكمه وسلطانه، ثم استولى عليه من يد غيره وسلطانه؟ هذا ما لا يقوله عاقل، وإن الوهم الذي فروا منه وهو أن إثبات علو الله على عرشه يلزم منه التحيز، قد أوقعهم في أمر قبيح، واعتقاد فاسد، فأصبحوا كمن فر من المطر ووقف تحت الميزاب، فإذا كان المشبه قد غلا في الإثبات وشبه الله بخلقه بتجاوز حدود الإثبات، فإنه أثبت أولاً ولكنه تجاوز الحد بعد الإثبات أي أنه زاد على الحق باطلاً، وأما المؤول فإنه لم يثبت إلا لفظاً لا معنى له، فأي الفريقين أقبح سبيلاً وأوهى دليلاً؟

ثانياً: تأويلهم لصفة المجيء والإتيان:

الإتيان والمجيء من صفات الفعل الثابتة لله تعالى وردا في كل من الكتاب والسنة أما الإتيان فقد جاء في موضعين من القرآن الكريم (1) وأما المجيء فقد جاء في موضع واحد (2) وأما السنة فقد جاء فيها إتيان الرب لفصل القضاء.

ص: 74

ولكن محبي التأويل والتحويل لم يرق لهم القبول بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة إذ أولوا الإتيان والمجيء بإتيان ومجيء أمره أو عذابه أو ملائكته. فكأن الرب خاطب الناس بألغاز، أو بعبارات لا يفهم منها المراد. وكأن الرسول لم يبين ما نزل إليه في الذكر فأتى هؤلاء المتكلمون المؤولون يستدركون على الله ورسوله، ولسان حالهم يقول؛ إن الذي قلته يا رب في كتابك عن نفسك أو قال عنك رسولك ظاهره لا يليق بك، لأنه يؤدي إلى التشبيه، لذا نرى أنك حينما قلت:(وجاء ربك ((1) أو قلت: (أو يأتي ربك ((2) أردت بذلك إتيان أمرك أو عذابك أو ملائكتك؟! أوليس هذا لسان حال المؤولين الذين لا يتورعون عن التصريح بأن ظاهر هذه النصوص يوهم التشبيه فيجب صرفها عنه بأمثال هذه الأوهام.

ثالثاً: تأويلهم صفة المحبة والرضا:

وردت النصوص الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة بإثبات صفتي المحبة والرضا لربنا تبارك وتعالى، وهو تبارك وتعالى يحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المقسطين، ويحب المتقين، ويحب المتوكلين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص.

كل هذا مما دلت عليه آيات الكتاب الحكيم في غير ما موضع، وكذلك صفة الرضا وردت في القرآن فيما يزيد عن عشرين موضعاً في كل تلك الآيات إثبات صفة المحبة والرضا لربنا الكريم على ما يليق به تبارك وتعالى، كما وردت نصوص أخرى في الكتاب والسنة صرحت أن الله لا يرضى ولا يحب ما لم يأمر به في دينه، وأنه لا يحب الظالمين والفاسقين والكافرين والمسرفين والمعتدين والمفسدين والمستكبرين والخائنين والفرحين، وأنه لا يحب كل كفار أثيم، ولا من كان مختالاً فخوراً، ولا من كان خواناً أثيماً، ولا كل خوان كفور، وأنه تعالى لا يرضى لعباده الكفر، ولا يرضى عن القوم الفاسقين.

ص: 75

وهكذا تتابعت نصوص القرآن على هذه المعاني وتوالت نفياً أو إثباتاً لهاتين الصفتين وهما صفة المحبة وصفة الرضا أي بإثبات محبة الله لأهل طاعته، ونفي محبة الله لأهل الكفر والمعاصي. ولكن أهل التأويل لم يعجبهم إثباتهما لله تعالى على ما يليق به، فقالوا: إن ذلك في الشاهد رقة تحدث في القلب، ولا يليق ذلك بالله تعالى، فأولوهما بلازمهما، وهو إرادة الثواب، ولا شك أن الثواب يترتب على الرضا والمحبة، وليس الثواب هو المحبة والرضا لا لغة ولا شرعاً.

رابعاً: تأويلهم لصفة الغضب:

وردت صفة الغضب في القرآن الكريم في حق ربنا العظيم في نحو سبعة عشر موضعا من آياته. وهي من صفات فعله تعالى المتعلقة بمشيئته واختياره كسائر صفات الفعل التي وصف الله تعالى بها نفسه، أو وصفه بها رسوله (في سنته الصحيحة.

ومع وضوح الأدلة المثبتة لله تعالى صفة الغضب كما يليق به تعالى، أبى المؤولون إلا تأويلهم وتحويلهم وتبديلهم إذ قالوا إن إثبات صفة الغضب يؤدي إلى التشبيه لأن الغضب في الشاهد المألوف انفعال في النفس يحدث لحدوث موجبه، وهذا لا يليق بالله تعالى. فليصرف إذن معنى الغضب عن ظاهره إلى معنى آخر تتقبله عقول المؤولين الحائرة، وذلك المعنى هو إرادة العقاب وإرادة العقاب من لوازم الغضب وليس من معنى الغضب، وقد يغضب غاضب ولا يعاقب المغضوب عليه، كما قال الله تعالى في عباده:(وإذا ما غضبوا هم يغفرون ((1) ، فوصفهم بأنهم يغفرون لمن أغضبهم، فلم يكن الغضب هو العقاب أو إرادة العقاب كما زعموا.

ص: 76

إن سلف هذه الأمة من الصحابة، ومن سار على نهجهم من التابعين وأتباع التابعين وأئمة المسلمين المتمسكين بكتاب الله تعالى وسنة رسوله (يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله في سنته الصحيحة، وينفون ما نفى عن نفسه أو نفاه عنه رسوله فيما صح عنه، وهم في الإثبات متبعون لا مبتدعون ابتداع المشبهة التي شبهت الله بخلقه، وفي النفي ملتزمون بما ورد نفيه، ولا يتجاوزون تجاوز أهل التأويل والتعطيل، وهم بذلك ينزهون الملك الجليل مما وصفه به أهل التشبيه والتمثيل ويصفونه بما وصف به نفسه خلافاً لأهل التبديل والتأويل والتعطيل، ولله الحمد على التوفيق والتسديد، وأسأله الثبات على الحق والصواب، إنه هو المعين على كل أمر سديد، وعمل رشيد.

المبحث الثامن: حظه من الغيب المطلق ووسائله

لقد سبق بيان أن الغيب المطلق هو عالم الغيب وما يلحق به من عالم الشهادة. وهو ما لا سبيل إلى العلم به بالوسائل الخلقية الحسية أو الوسائل العلمية الصناعية.

وفي هذا المبحث بيان لحظ الإنسان من العلم بعالم الغيب وما يلحق به، ووسائله في حظه من العلم بذلك.

ص: 77

إن عالم الغيب قد يكون منه ما هو قريب من الإنسان قربا مفرطا، كالروح والملائكة الحفظة وشاهدي حلق الذكر منهم، والكرام الكاتبين، وما يكون بعيدا عن الإنسان بعدا مفرطا كحملة العرش من الملائكة، وسكان السماوات السبع والجنة وما فيها، وما يكون متوسطا بينهما كالجن والشياطين الذين قد يكونون قريبين من الإنسان أو بعيدين عنه. وكل ذلك مما لا سبيل للإنسان إلى العلم به سواء كان في غاية القرب منه كالروح أو في غاية البعد عنه كحملة العرش، أي أن القريب والبعيد في عالم الغيب لا يختلفان في الغيبية لأن الغيبية في عالم الغيب لا تتعلق بالقرب أو البعد، وإنما تتعلق بخلق الله له غير مهيأ لوصول وسائل العلم البشري إليه. ولا يختلف عالم الغيب في غيبيته عن غيب الغيوب الذي يتعلق بأسماء الله تعالى وصفاته، حيث ساوى بينهما الغيبية المطلقة وإن كان غيب الغيوب ذروتها وقمتها لتعلقه بما لربنا تبارك وتعالى.

وعالم الغيب منه ما هو متحرك متنقل كالملائكة والجن والشياطين، ومنه ما هو ثابت وغير متنقل كالجنة وما فيها، والنار وما فيها، ومنه ما لا يعلم حاله. وأما المتنقل المتحرك فمنه ما لا يتنقل ولا يتحرك إلا بأمر الله تعالى وهم الملائكة الذين وصفهم الله تعالى بقوله:(ويفعلون ما يؤمرون (1)(2) وقوله: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ((3) وقوله حكاية عنهم: (وما نتنزل إلا بأمر ربك ((4) .

ومن المتنقل المتحرك ما يتحرك بإرادته واختياره كالجن والشياطين الذين يجولون في الأرض، ويقومون بأعمال مختلفة مريدين مختارين، يستطيعون أن يحادثوا الإنسان ويواصلوه بطرق مختلفة. ويعرفون إلى الإنسان أنفسهم، ويظهرون له بمظاهر شتى من صور الإنس من رجال ونساء، أو صور الحيوانات المختلفة.

ص: 78

أما الإنسان فهو لا يستطيع الظهور عليهم برغبته وإرادته واختياره، وهو لا يراهم إلا إذا أرادوا ذلك، أو تجردوا من الحجاب لأمر ما فوقع بصر الإنسان على من تجرد منهم من غير قصد. اللهم إلا إذا كان السحرة الذين يستعينون ببعض أقويائهم على إخضاع ضعافهم لرغباتهم وتسلطهم. ويدل على غيبيتهم وعدم قدرة الإنسان على مشاهدتهم قوله تعالى:(إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ((1)،وقوله في الملائكة:(وأيده بجنود لم تروها ((2) وقوله تعالى: (وأنزل جنوداً لم تروها ((3) . وقوله: (فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ((4) .

وما دام الأمر كذلك فإن الإنسان لا يتمكن من الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ويعلم ما فيه بالوسائل التي وهب الله تعالى له ليستخدمها في عالم الشهادة. فكما أن أجهزة التحكم عن بعد لا تتحكم في جميع الأجهزة الكهربائية إلا فيما صنعت له، فكذلك حواس الإنسان ووسائله لا تقوى على الظهور على عالم الغيب مهما كان قريبا.

أما حظ الإنسان من العلم بعالم الغيب فلم يكن يختلف عن حظه من العلم بغيب الغيوب. فالذي يعلمه الإنسان من عالم الغيب قليل من كثير مما خلق الله تعالى غيبا: (وما يعلم جنود ربك إلا هو ((5) . ونسبة عالم الشهادة لعالم الغيب، كنسبة الطفل الرضيع في حضن أمه إلى عالم الشهادة بأسره. فماذا يعلم ذلك الطفل الصغير من العالم المشهود الذي يعيش فيه؟ إنه لا يعلم غير أمه التي ترضعه وبعض أهل بيته علما غير متكامل، وما لا يعلم مما يحيط به في بيت أهله من أثاث وأدوات وأمتعة، يعتبر بالنسبة إليه عالما كبيرا واسعا. فكيف بما هو خارج بيت أهله من الكائنات التي لا يعلم عنها أي شيء؟!

إن حظ الإنسان من الاطلاع على عالم الغيب لوامع تلمع له من خلال عالم محيط به بعيد عن وسائل العلم التي خلقت له بعدا حسيا أو معنويا.

ص: 79

أما وسائله إلى تلك اللوامع التي لمعت له من عالم الغيب من العلم فهي نصوص الوحي التي أنزلها الله تعالى على رسله صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى العلم بعالم الغيب إلا الوحي الرباني الذي بلغته الرسل إلى الأمم بلاغاً مبيناً، ووعته وحفظته من التبديل والتحريف، وتناقلته بالصدق والأمانة والضبط والدقة حتى تلقته الأجيال عن العدول الثقات جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن.

وإن هذا التلقي المتصف بهذه الصفات لم يتوفر إلا لهذه الأمة الخيرة التي اختارها الله تعالى لحمل أمانة التبليغ عن رسول الله الذي بلغ البلاغ المبين، وأشهد ربه على أنه قام بذلك خير قيام على الوجه الذي أمر الله تعالى به وقال قبل وفاته بقليل مرارا وتكرارا أي في حجة الوداع:(ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) . وقد حث أمته على حفظ ما بلغهم وتبليغه إلى من بعدهم بدقة وضبط، ودعا لمن فعل ذلك قائلا:(نضر الله عبدا سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها)(1) .وقال: (بلغوا عني ولو آية) . فقامت أمته بما أمرت به خير قيام، إذ وعت نصوص الوحي وبلغت إلى من بعدها كما سمعتها، ولم تنافسها في ذلك أمة من الأمم، لا في اتصال السند وضبط النصوص، ولا في تحري الصدق والأمانة والحفظ. حتى غدت مكائد أعدائها من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين الذين بذلوا جهوداً عظيمة في تحريف النصوص، ووضع الأحاديث في مهب الريح أمام جهود أئمة الإسلام الأمناء، فباءوا بالخيبة والخزي والعار، فبقيت بذلك المحجة بيضاء نقية ليلها كنهارها كما قال:(وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء) .

ص: 80

ومع وضوح المحجة وقيام الحجة، فإن الذين فتنوا واغتروا بعقولهم القاصرة، لم يسعهم هذا المنهاج الواسع، والضياء اللامع، واستعاضوا عن الاستنارة بنور الوحي والسير في ضوئه ونهاره، بالوثب على الغيب بأنواعه وأقسامه، فاصطلموا بنيران الحجب وصواعق الشهب أيما اصطلام، كما تصطلم الهوام والفراشات باقتحام النيران المشتعلة في ليلة مظلمة، وهكذا كان كل من استعذب الخوض في لجج الغيب بلا هدى من نصوص الوحي، وحاول السباحة في الاتجاه العكسي للحق المبين، وجعل عقله القاصر وفكره الحائر حاكماً على نصوص الوحي الثابتة، فما وافق عقله ومزاجه العكر قبله، وما لم يجده موافقاً لهواه أوله وحوله، أو رفضه ورده بحجة مخالفته لعقله، أو طعنه في دلالته ونقله.

وسبب ذلك راجع إلى اعتبار عالم الشهادة أصلاً يقاس عليه ويلحق به ما كان من عالم الغيب، أو غيب الغيوب الخاص بربنا تبارك وتعالى، والأصل فيما لا تجانس بينها عدم التشابه، وعدم قياس بعضها على بعض ما دام التجانس غير متحقق كما سبق بيانه في المبحث السادس، ولبيان ما أدى إليه هذا التوجه من الأخطاء في تصور الغيبيات إليك أمثلة لما جنح إليه العقلانيون في دفع معاني النصوص الشرعية إلى ما تقره عقولهم وتتقبله أفكارهم غير مقيمين لدلالة النصوص وزناً، وقد غفلوا عن حقيقة ثابتة هي أن النصوص الشرعية وحي من الله تعالى، ووحي الله تعالى هو حبله الذي يعصم من اعتصم به، وأن ما أخبرت به النصوص الثابتة عن المعصوم يؤخذ به على الوجه الذي وردت به تلك النصوص، لا يزاد عليها ولا ينقص منها إلا بدليل شرعي، وأن الاجتهاد في تصور الغيبيات وإدراك حقيقتها مما لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله، فمن أقدم على ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً.

وأما أهل العلم بالكتاب والسنة الراسخون فيه فهم كما وصفهم الله تعالى:

ص: 81

(يقولون آمنا به كل من عند ربنا ((1) ، وأما الغائصون في أوحال علم الكلام، وما لليونان من الجهل والهذيان، فقد أبوا إلا أن يكونوا أتباع أرسطو وأفلاطون، وظلوا في حيرتهم يعمهون، معرضين بذلك عما جاء به رسول الهدى من كتاب يهدي للتي هي أقوم وسنة من اعتصم بها ضمن الصلاح والهداية في الدنيا، والسلامة والفوز في الدار الآخرة اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وثبتنا عليه حتى نلقاك وأنت راض عنا، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا كراهيته واجتنابه، إنك رحيم ودود.

أمثلة للغيبيات المصروفة نصوصها عن دلالتها:

المثال الأول: نطق الجمادات وطاعاتها لله رب العالمين:

وردت نصوص من الكتاب والسنة دلت بعبارات صريحة بينة أن الجمادات تسبح الله تعالى وتطيعه وتسجد له، قال تعالى:

(إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ((2)، وقال:

(تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ((3) .

ص: 82

لقد زعموا أن ما نسب في هذين النصين وغيرهما من نصوص الكتاب والسنة إلى الجمادات من أقوال وأعمال إنما هو مجاز لا حقيقة، أي إنه لسان حال لا مقال، وأنها تطيع الله طاعة قهر وتسخير لا طاعة فكر وتخيير، وأما تسبيحها فمعناه أن من شاهدها سبح الله تعالى، لا أنها هي التي تسبح الله تعالى. والآيتان المذكورتان فيهما ما يرد هذا التأويل الفاسد، فآية سورة الأحزاب صريحة في أن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال، وعرض الشيء لا بد أن يكون على ما له إدراك، وإلا فيكون ذلك عبثاً، فالله تعالى منزه عن العبث، ثم إباؤها وإشفاقها من الأمانة دليل على الإدراك، وهذا المعنى تؤكده آية سورة فصلت التي قال الله تعالى فيها:(ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ((1) ، فبين فيها أنه خير السماوات والأرض بين أن يأتيا طوعاً لأمر الله على سبيل الطاعة والاختيار، وبين أن يأتيا على سبيل القهر والتسخير، فاختارتا الإتيان الطوعي على الإتيان القهري، وذلك دليل واضح على الإدراك والاختيار. وأما آية سورة الإسراء فقد بينت أن جميع الخلق يسبحون بحمد ربهم تبارك وتعالى، ثم صرحت للإنس أنهم لا يفقهون كيف تسبح كل الكائنات ربها، ولكن أبى المفتونون بالتأويل والتحويل إلا أن يقولوا: إن تسبيحها غير معقول، وإدراكها غير مقبول، وأن الإنسان هو الكائن العاقل المدرك المتميز بعقله وإدراكه، وأن الجمادات لا تسبح الله إلا بلسان حالها لأنها لا تعقل، فكأنه يقول لربه الذي خلقه وقال له: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم (بل نفقه تسبيحهم، وأنه يتم بلسان الحال، لا بلسان المقال.

المثال الثاني: وزن أعمال العباد يوم القيامة:

ص: 83

زعموا أنها لا توزن، لأنها أعراض وليست أجساماً. ووزنها مجازات العاملين على أعمالهم كل بحسب عمله. فإذا كان العليم الخبير قد أخبر بذلك فما على المؤمن إلا أن يصدق ويؤمن ويسلم تسليماً، وأما أن يقول: كيف توزن الأعمال؟ فذلك مما لا سبيل لعقله القاصر على إدراكه، ولو سئل هذا المفتون: كيف توزن قوة التيار الكهربائي وضعفه وتعاير على ذلك الأجهزة الكهربائية مع أن التيار عرض من الأعراض، لما وجد جواباً إلا الإذعان.

وبعد

فهذا بعض ما ذهب إليه أهل التأويل والرد والتحويل، من الفرق المبتدعة التي اغترت بعقلها القاصر، حيث جعلته حكماً على نصوص الشرع، مع أن العقل السليم يشهد لنصوص الشرع ويخضع لسلطانها، وذلك معيار سلامته وصحته.

المبحث التاسع: وسائل العلم بعالم الشهادة

إن الله تعالى جعل للإنسان وسائل العلم بعالم الشهادة الذي يعيش فيه، بها يتعرف عليه، ويتعامل معه، ويستفيد مما يفيد، ويحذر مما يضر.

وتنحصر تلك الوسائل في الأمور التالية:

1-

السمع.

2- البصر.

3- اللمس.

4-

الذوق.

5- الشم.

6- الحس.

ويلحق بهذه الوسائل الخلقية الوسائل المستحدثة التي صنعها الإنسان للوصول إلى ما خفي عليه بتلك الوسائل.

أما السمع: فيتعلق بالمسموعات، وهي الأصوات.

وأما البصر: فيتعلق بالمبصرات من الذوات، والكتابة والرسوم والإشارات والرموز.

وأما اللمس: فيتعلق بالأجسام الملموسة، فيدرك به النعومة والخشونة، والرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة، والصلابة والهشاشة، والحدة، وغيرها مما لا يمكن إدراكه إلا باللمس.

وأما الذوق: فيعلم به طعم الأشياء من حلاوة ومرارة، وملوحة وحموضة، وحراقة وغيرها.

وأما الشم: فتعلم به روائح الأشياء.

وأما الحس: فتدرك به أمور لا تندرج تحت الوسائل التي سبق ذكرها، كالثقل والخفة.

ص: 84

وقد جعل الله تعالى لهذه الوسائل قدرة محدودة، ومدى لا تتجاوزه، ولكنها تتفاوت قوة وضعفاً تفاوتاً يسيراً، فمن الناس من أوتي قوة السمع أكثر من غيره، ومنهم من أوتي حدة الإبصار أكثر من غيره، وكذلك في سائر الحواس والوسائل التي يدرك بها عالم الشهادة، يوجد شيء من التفاوت غير أن الغالب من الناس تكاد هذه الوسائل تتفق في مداها، إلا ما كان منها متعرضاً لمانع طارئ.

ويكون ما تجاوز المدى المألوف من هذه الوسائل نادراً جديراً بالإشارة والتنبيه إليه.

أما ما خرج من وصول الإنسان إليه بهذه الوسائل لكونه خارجاً عن مداها، فهو مما يعتبر غيبا، ولكنه غيب بالنسبة لمن كان خارجا عن حدوده ومداه، أما بالنسبة لمن كان قادرا على الوصول إليه بها فليس بغيب، ويسمى هذا بالغيب النسبي لأجل ذلك كما سبق بيانه.

وهذا كله إن كان مما هو قائم في الزمن الحاضر، إذ لا تعلق لتلك الوسائل إلا بما هو موجود قائم في زمنها، فمن أجل ذلك سمي بغيب الزمان الحاضر.

ويضاف إلى تلك الوسائل التي خلقها الله في الإنسان ليعلم بها ما يوجد معه في عالم الشهادة؛ الوسائل الحديثة التي صنعها الإنسان، والتي مكنته من الإطلاع على ما لا تصل إليه الوسائل الخلقية، فرأى بها البعيد وكبر بها الأجرام الصغيرة التي لا تراها العيون واخترق بها الحواجز والستائر والحجب، وسمع بها من الأصوات ما لا يمكن أن يسمع بالأذن المجردة عن الوسائل الحديثة لبعدها وخروجها عن مدى السماع، أو لضعفها وخفوتها بحيث لا تقوى الآذان على سماعها، وكذلك الوسائل الحديثة الأخرى التي أرسلها الإنسان إلى الأماكن البعيدة، فلمست أجهزته ما لا يمكن أن تلمس يده من الأجسام، وتعرف بها الإنسان على الطعوم والروائح التي لا يستطيع معرفتها بحاستي الذوق والشم اللتين لا يدركهما الإنسان بالوسائل الخلقية.

ص: 85

والذي يملك هذه الوسائل الصناعية ويطلع بها على ما خفي على غيره لا تعد الأمور التي اطلع عليها غيبا بالنسبة له لظهوره واطلاعه عليها.

أمثلة الوسائل الحديثة:

أ- الوسائل الصناعية لسماع ما لا يسمع بالأذن وحدها:

السمع أهم وسائل العلم التي خلقها الله في الإنسان، فلذلك نجده متقدما في الذكر على الوسائل الأخرى في كتاب الله تعالى، حيث ورد فيه تقديم السمع على البصر في آيات كثيرة؛ منها قوله تعالى:(إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ((1) وقوله تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ((2) .

ومما يؤكد أفضليته على سائر الحواس، أن من ولد أصم عاش أبكم، ولا يستطيع أن ينطق ويتكلم، ومن ولد أعمى فليس كذلك، فكم من العلماء ولدوا عميانا، ولكن الله تعالى منّ عليهم ببصائر العلم فكانوا مصابيح الدجى بما أوتوا من العلم الذي به يهتدى.

أما وسائل تقوية مداه، فهي الأجهزة المكبرة للأصوات الخافتة كدقات القلب وحركة الأمعاء، أو دقات قلب الجنين وحركاته، أو التي يتنصت بها على الأصوات البعيدة أو يخترق بها الحواجز التي تحول عادة بين الإنسان ووصول ما خلفها أو داخلها من الأصوات إليه، وذلك كالمذياع والتلفاز والهاتف التي يستمع الإنسان بواسطتها إلى الأصوات البعيدة الخارجة عن مدى السمع وكأجهزة التصنت إلى أصوات الأحياء تحت المنازل أو المناجم المتهدمة أو تحت المياه. وقد يعود الظهور على الصوت الخافت بتكبيره بحيث يسمع من بعيد بالأذن المجردة أي أن السامع في هذه الحالة لم يستخدم شيئا من وسائل الاستماع، وإنما الصوت هو الذي قوي حتى أمكن سماعه من مسافة بعيدة، وذلك كالأصوات المسموعة بواسطة مكبرات الصوت.

وكل ذلك راجع إلى استخدام الوسائل الصناعية سواء في ذلك السماع بواسطتها أو الإسماع بها.

ب- الوسائل الصناعية لرؤية ما لا يرى بالعين وحدها:

ص: 86

إذا كانت نعمة السمع أعظم نعم الحواس التي من الله بها على الإنسان، فإن نعمة البصر تليها في العظمة -وإن كانت كل نعم الله عظيمة وجليلة- فالبصر به ترى الذوات ويميز به بين شخص وشخص ويفرق به بين الألوان، ويتعلم به الكتابة والقراءة، وتتعلق به حركة الحياة برمتها.

ولكن الله تعالى جعل للإبصار مدى لا تتعداه العيون، وجعل للذوات المبصرة أحجاماً لا ترى العيون ما هو أدق منها وأصغر، كما لا ترى الأبصار من الأنوار إلا بعض الألوان منها.

ولما كان الإنسان مولعاً بحب الاطلاع على ما خفي عنه من الأمور استحدث من الوسائل ما يمكنه من الاطلاع والظهور على أمور لا يصل إليها ببصره، إما لبعدها المفرط عنه، وإما لصغر حجمها ودقتها، وإما لاحتجابها بحاجز مانع عن الرؤية، وهذا كله ما كان من عالم الشهادة.

فمن تلك الوسائل: المناظير، والأجهزة المكبرة للأجرام الصغيرة، أو المقربة للبعيدة مع التكبير، أو الأجهزة المخترقة للحواجز المانعة من الرؤية والسمع، والأجهزة المميزة بين الأنوار على اختلافها.

ولقد تمكن الإنسان في بعض مجتمعاته من مشاهدة النجوم والكواكب والشموس والأقمار والمجرات بواسطة مخترعاته التي استعان بها على رؤيتها كما شاهد الأشياء الخفية المحتجبة بحجب تمنع الأعين من رؤيتها كمشاهدة الجنين، ومعرفة وضعه وجنسه، واكتشاف أمراض خفية في جسم الإنسان، وكذلك رأى بها الأشياء الدقيقة التي ما كانت العين تراها لولا استخدام الإنسان للوسائل الحديثة.

فمن اطلع وظهر على هذه الأشياء باستخدام هذه الأجهزة، فإن ما اطلع عليه منها لا يعتبر بالنسبة إليه غيباً، وإنما يعتبر غيباً بالنسبة إلى من لم يستخدم تلك الأدوات، فمثلهما في ذلك كمثل رجلين كانا في حجرة واحدة، فتح أحدهما نافذة الحجرة فرأى ما في الخارج من إنسان وسيارات، فلم يفعل الآخر ذلك، ولو أخبر الأول من في الحجرة بما شاهد لما قيل له إنه اطلع على الغيب أو علم به.

ص: 87

ولو أخبر الثاني بما يجري خارج الحجرة، لقيل فيه إنه يتكلم عن الغيب، فالغيب هنا قد يكون قريباً جداً وقد يكون بعيداً جداً، وقد يكون قريباً قرباً يصل إليه مدى الإبصار لولا الحاجز المانع، فمن هذا معرفة نوع الجنين من قبل من استخدم الآلة الحديثة والتحاليل الدقيقة للسائل الأمينوسي لمعرفة الجنس (1) ، ومن هذا القبيل معرفة الألوان المختلفة للمبصر فإنها بالنسبة له من الأمور البدهية، ولكنها بالنسبة لمن ولد أعمى غيب نسبي، ولو أخبر المبصر عن الألوان التي يراها لكان ذلك خبراً عن المشاهدة، أما لو أخبر ذلك الضرير الذي لم يسبق أن رأى الألوان منذ ولادته لو أخبر عن الألوان، لكان ذلك إخباراً عن الغيب، فالغيبية في هذه الصور المختلفة وما شابهها لم تكن من صفات تلك الأشياء اللازمة لها، وإنما هي حالات طارئة على تلك الأشياء حتى حالت تلك الحالة بينها وبين مشاهدة من أراد رؤيتها بالعين، أو حالة طارئة على الإنسان منعته من رؤيتها.

قال صاحب تفسير المنار: "والغيب قسمان: غيب حقيقي مطلق، وهو ما غاب علمه عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله عز وجل:(قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ((2)، وغيب إضافي: وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض، كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر مثلاً، وأما ما يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه، واستعمالهم لها، ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب، أو عجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله، وهذه الأسباب منها ما هو علمي كالدلائل العقلية والعلمية، فإن بعض علماء الرياضيات وغيرها يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس، ويضبطون ما يقع من الكسوف والخسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه بالألوف من

ص: 88

الأعوام (1) . ومنها ما هو عملي كالتلغراف الهوائي أو اللاسلكي الذي يعلم به المرء بعض ما يقع في أقاصي البلاد، وأجواز البحار التي بينه وبينها ألوف من الأميال، ومنها ما قد يصل إلى حد العلم من الادراكات النفسية الخطية كالفراسة والإلهام، وأكثر هذا النوع من الانكشاف لوائح تلوح للنفس لا يجزم بها إلا بعد وقوعها.

فما يصل منها إلى حد العلم الذي يجزم به صاحبه لاستكمال شروطه، يشبه ما ينفرد بإدراكه بعض الممتازين بقوة الحاسة كزرقاء اليمامة التي ترى على بعد عظيم ما لا يراه غيرها، أو بقوة بعض المدارك العقلية كالعلماء الذين أشرنا إليهم آنفاً " (2)

المبحث العاشر: غيب الزمن الماضي وأدلة غيبيته

إن غيب الزمن الماضي كل ما حدث وانقضى في زمن غير زمنك من عالم الشهادة وهو ما كان بعد نشأة الإنسان وسكنه الأرض، أما ما كان قبل نشأة الإنسان فهو ليس غيبا نسبياً، لأنه لا يوجد أحد من الناس في الأرض ذلك الزمان حتى يقال؛ إنه بالنسبة لهم شهادة وبالنسبة لسواهم غيب، وعليه فإن ما كان قبل نشأة الإنسان في الأرض من الغيب المطلق، أي ملحق به في عدم العلم به بالوسائل العلمية خلقية كانت أم صناعية صنعها الإنسان.

أمثلة غيب الزمن الماضي وأدلة غيبيته:

أول ما يمكن أن يمثل به من حدث مضى على غيب الزمن قصة ابنيّ آدم التي حكى الله تعالى علينا في كتابه الكريم بقوله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:

(واتل عليهم نبأ ابنيّ آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (لإن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (فبعث الله غرابا يبحث

ص: 89

في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواريَ سوءة أخي فأصبح من النادمين ((1) .

هذه هي القصة الأولى التي أخبرنا الله تعالى بها عن طريق وحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لها مصدر آخر من أخبار البشر، فهي شهادة بالنسبة لابني آدم ومن كان ثم من إخوانهما والأبوين الكريمين، وغيب بالنسبة لمن جاء بعد ذلك من ذرية آدم عليه السلام.

وثاني الأمثلة على حدث قد مضى قصة نبي الله ورسوله نوح مع قومه إذ أرسله الله تعالى إليهم بعد كفرهم به بعبادة غيره من الآلهة التي ذكر الله أسماءها في سورة نوح، واستمرار نوح على دعوتهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ودعائه عليهم في نهاية الأمر، وإهلاك الله تعالى لهم بالطوفان، كل هذا مما قص الله علينا في كتابه الكريم وسماه غيبا حيث قال:(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ((2) .

هذه قصة نوح عليه السلام مع قومه، فقد سمى الله تعالى تلك الأحداث الماضية التي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقومه يعلمونها قبل وحي الله تعالى إليه غيبا حيث قال: (تلك من أنباء الغيب (،فدل هذا على أن أحداث الزمن الماضي من عالم الشهادة تسمى غيبا أي غيباً نسبيا.

وثالث قصة سماها الله غيبا هي قصة يوسف واخوته التي قصها الله تعالى علينا في كتابه الكريم وسماها من أنباء الغيب التي أوحاها إلى رسوله حيث قال: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون ((3) .

هكذا سماها غيبا وبين سبب الغيبية، وهو أنه ما كان لديهم أي ما كان في زمانهم ومكانهم، ولو كان في مكانهم وزمانهم لكان ذلك مشاهدة لا غيبا.

ص: 90

ورابع مثال على تسميته تعالى أحداث الزمان الماضي غيبا قصة آل عمران حيث قال تعالى بعد ذكره خبر امرأة عمران، ونذرها لله بما في بطنها، وولادتها لمريم، وكفالة نبي الله زكريا (لها، ونشأتها نشأة صالحة في طاعة ربها، وما كان من دعاء زكريا ربه أن يهب له ذرية طيبة، وبشارة الملائكة له بيحيى ومخاطبة الملائكة لمريم بأمر الله تعالى واصطفائه إياها على نساء العالمين؛ بعد ذكر ذلك كله قال عز وجل: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ((1) .

وبعد أن سمى الله تعالى ذلك غيبا بين سبب غيبية ذلك بقوله: (وما كنت لديهم (أي أن عدم وجودك في ذلك الزمان والمكان جعل ذلك غيبا عنك.

وهكذا بين الله تعالى لنا أن هذا القسم مما مضى به الزمان وانقضى من عالم الشهادة غيب بسبب أن المخبر به لم يكن في ذلك الزمان والمكان أي أنه غيب نسبي.

وهذا الغيب مع أنه من عالم الشهادة فإن العلم به على سبيل الإحاطة ليس إلا لربنا تبارك وتعالى، فإذا علمنا بشيء منه عن طريق الوحي الرباني، أو النقل الصحيح لم يكن علمنا به علما شاملا محيطا، بل هو علم جزئي يعتبر قطرة من بحر علمه تعالى يعلم ببعضه من يشاء من عباده المصطفين ويطلعهم عليه بقدر ما تقتضي حكمته تعالى وهو الحكيم العليم.

ص: 91

ألا ترى أنك حينما تنظر إلى شيء تراه أمامك لا تراه إلا من جانب واحد، حسب الجهة التي تليك منه، وأما ما لا يواجهك من جوانبه الأخرى فأنت لا تحيط به، وزد على هذا أنك تعلم الظواهر ولا تعلم البواطن والخفايا، ولهذا وصف الله الكافرين بعدم العلم، ثم وصفهم بأنهم يعلمون بظواهر الأمور في هذه الحياة، قال تعالى:(وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ((1) .

وهذا ما يسمى بانفكاك الجهتين أي أن العلم المنفي غير العلم المثبت.

المبحث الحادي عشر: وسائل العلم به

إن لغيب الزمن الماضي وسائل تمكن الإنسان من العلم به، وقد تنوعت تلك الوسائل قديماً، وتعددت حديثاً، ولم يزل الناس يسعون للعلم بأخبار الغابرين من الأمم بوسائل شتى، وإليك بيان تلك الوسائل حسب أهميتها وأقدميتها التاريخية:

الوسيلة الأولى: وحي الله تعالى إلى أنبيائه ورسله:

لأن أخبار الله تعالى أصدق الأخبار، وأنبياؤه ورسله أعدل من حمل أخبار الله ونقلها إلى الناس، وورثتهم من العلماء العاملين أحرص الناس على نشر ما بلغتهم الأنبياء والرسل من أخبار الله على الوجه الذي حملوه، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل الصحيحة وأقدمها وجوداً مع الإنسان في تاريخه الطويل.

الوسيلة الثانية: الأخبار الصحيحة:

إن الأخبار المنقولة نقلاً صحيحاً من الوسائل التي استفاد الإنسان منها العلم بأخبار من مضى من الأمم، وقد سلك الناس في ذلك ثلاثة مسالك:

المسلك الأول/ الكتابة:

وهذا المسلك أكثر انتشاراً وازدهاراً في المجتمعات البشرية، حيث ألفت فيه كتب وبيضت فيه صحف، تناقلوا فيها الأخبار الماضية من تواريخ الملوك والأمم والأنبياء والرسل والقبائل والدول، والحروب والحوادث والفتن مما امتلأت به صفحات التاريخ، غير أن المفيد للعلم منها ما كان صحيح النقل ولم يكن مبنياً على استنتاج أو استنباط أو تحامل.

ص: 92

المسلك الثاني/ الكتابة مع الرسوم:

ومن المسالك التي استفاد منها الإنسان في تاريخه الطويل الكتابة مع الرسوم والصور الإيضاحية لبعض الحوادث، حيث كانت بعض الدول تسجل الحوادث المهمة من حياتها بالكتابة والصور، وقد سلك هذا المسلك الآشوريون والبابليون والمصريون القدامى، فجعلوا بذلك تاريخهم الماضي تنتقل أخباره إلى من بعدهم كتابة وتصويراً، وهذا المسلك –وإن كان استخدامه أقل من الأول- فإن أثره في نفس القارئ أقوى لاشتراك الكتابة والتصوير في نقله.

المسلك الثالث/ النقل الشفهي:

هذه الوسيلة أيضاً من الوسائل التي أفادت الإنسان في علم ما لم يعلم من أخبار من سبق حيث تناقلت أجياله المتعاقبة أخبار الغابرين تناقلاً جعل من لم يكن في ذلك الزمان والمكان على علم بما كان قبله من الأحداث، ولعل هذا المسلك هو المسلك الثاني في التاريخ البشري، لأن الكتابة والرسم لم يواكبا الحياة البشرية منذ النشأة الأولى، ولكنها مما طرأ على الحياة الإنسانية بعد أن لم تكن، والله تعالى أعلم.

والمسلمون تميزوا على غيرهم من الأمم في حفظ الأخبار وضبطها بدقة متناهية، وهي أمة إذا روت ضبطت، وإذا أخبرت صدقت، وإذا قالت عدلت، وإذا خاصمت غلبت، وإذا جادلت دحضت، وما سبب ذلك إلا لما في أخبارهم من دقة وضبط وصدق وعدل.

الوسيلة الثالثة: الوسائل الحديثة:

ص: 93

زاد الله عز وجل في خلقه ما شاء في هذا العصر الذي نحن فيه، حيث قويت فيه الوسائل القائمة من كتابة وتصوير، وتطورت تطوراً عظيماً، فالكتابة التي كانت تزاول باليد منذ آلاف السنين أصبح لها وسائل متعددة، كالمطابع الضخمة، والآلات الكاتبة المختلفة، وطابعات الكمبيوتر الدقيقة، فغدت الكتابة أسرع، ووسائلها أكثر، وعلمها أدق، كما أصبحت الرسوم والصور في هذا العصر صوراً للحقائق القائمة، والأحداث الجارية، إذا التقطت بالآلات الحديثة، وليست تمثيلاً وتشبيهاً كما كانت في الأزمنة الماضية، وإنما هي صور مطابقة للوقائع والأحداث كما وقعت وحدثت.

ولقد حدثت في هذا العصر وسائل قوية لنقل الأخبار الماضية نقلاً صحيحاً دقيقاً، فمن تلك الوسائل:

1 -

التصوير التلفزيوني أو الفيديوي: المتميز بنقل الصور والأصوات والحركات على ما هي عليه، وهذه الوسيلة تعتبر أقوى الوسائل وأجلاها، وأشدها إفادة للعلم، لأن الصور المتحركة فيها صور حقيقية لأشياء حقيقية، وأصوات حقيقية، وحركات حقيقية.

لقد مكنت هذه الوسيلة الإنسان من سماع الأصوات الحقيقية ورؤية الصور الحقيقية لأناس قد مضوا، وحوادث قد جرت منذ عشرات السنين، كأحداث الحرب العالمية الثانية وغيرها من الحروب، فعلم بذلك الإنسان ما قد مضى علماً أقوى مما كان يعلم به من الأحداث عن طريق الوسائل القديمة، فرأى وسمع بها ما رأى وسمع من حضر وشهد.

2 -

التسجيل الصوتي: الذي تمكن الإنسان به من سماع الأصوات التي حدثت منذ عشرات السنين وقد يتمكن من الاستماع إليها بعد مئات السنين أو آلاف السنين، والله أعلم.

ولقد كان الناس يتناقلون الكلام كتابياً أو شفهياً أن فلاناً قال كذا وكذا، وأما الآن فإنهم يسجلون صوت القائل بأنفاسه حتى استمع إليه من غاب كما استمع إليه من حضر، وشهد تلك الأحداث.

لقد حفظت الآلات الحديثة الأصوات ونقلتها إلى الأجيال المتعاقبة، وذلك فتح جديد في مجال العلم في عصرنا.

ص: 94

3-

التصوير الفوتوغرافي المقترن بالكتابة: إذا كانت الرسوم والصور القديمة تمثيلاً وتشبيهاً للحقائق على وجه التقريب على تفاوت بين المصورين والرسامين في الاقتراب من الحقيقة أو الابتعاد عنها، فإن التصوير الفوتوغرافي هو التقاط للصورة الحقيقية وليس تمثيلاً وتكلفاً، ولذلك تكون إفادة الصورة الفوتوغرافية للعلم إفادة تامة، وخاصة إذا اقترنت مع الكتابة التي تشرح موضوع الصورة، ويلاحظ هنا أن إطلاق اسم المصور على من يلتقط الصور بالآلة غير صحيح، وإنما هو ملتقط للصور الموجودة عن طريق الآلة، ولو أن أنساناً نظر إلى صورته في المرآة واستطاع إبقاءها فيها لما صح أن يقال له مصور، لأن المصور هو الذي يتكلف التصوير بالرسم أو النحت أو النقش أو العجن أو القص، وعلى هذا فإن المصور هو الذي يحدث الصورة لا الذي يلتقط الصورة الموجودة، فليتأمل.

4 -

التصوير الإشعاعي أو التلفزيوني: المستخدم لتشخيص الأمراض في المستشفيات والمراكز الطبية.

5 -

التحاليل الدقيقة في المختبرات الطبية والعلمية: التي تعرف بها الأمراض الخفية أو العناصر والجزيئات الدقيقة.

المبحث الثاني عشر: غيب الزمن الحاضر وسبب غيبيته

إن غيب الزمن الحاضر من أقسام الغيب النسبي الذي هو من عالم الشهادة كما سبق ذكره، وهو الغيب المعاصر للإنسان من عالم الشهادة، وسبب غيبيته راجع إما إلى ما حال بينه وبين الإنسان من حواجز وسواتر مع قربه، وإما راجع إلى بعده عن الإنسان، وإما راجع إلى صغر حجمه صغراً يمنع من رؤيته، أو ضعف صوته وخفوته خفوتاً يمنع من سماعه، أو راجع إلى ما قد يعتري الإنسان من عوارض تطرأ عليه كالصمم والعمى وفقدان الإحساس.

وفيما يأتي بيان تفصيلي لتلك الأسباب التي من أجلها تعتبر من الغيب النسبي ما كان معاصراً للإنسان من الأمور:

السبب الأول/ البعد المكاني:

ص: 95

أي ما كان البعد المكاني مانعاً من الوصول إلى العلم به، ولولا بعد المكان لأمكن رؤية ما يرى وسمع ما يسمع، وشم ما يشم، ولمس ما يلمس وذوق ما يطعم.

أما أمثلته فالبعيد عن الرؤية والإبصار ما كان خارج مدى النظر في العادة، وما كان كذلك فرؤيته تكون بالآلات المقربة للبعيد كالمناظير المقربة بمختلف أنواعها ودرجاتها، فقد تمكن الإنسان من مشاهدة ما خرج عن مدى الرؤية بالعين المجردة إلى الأجرام البعيدة بعداً كبيراً كالنجوم والكواكب والأقمار والمجرات، وفي الأصوات البعيدة عن السماع استخدم الأجهزة المقوية لسمعه، أو المكبرة للأصوات الخافتة، أو البعيدة، حتى استطاع الاستماع إليها، وهكذا في سائر ما خفي وغاب عن حواسه من الغيب النسبي الذي هو غيب الزمن الحاضر، فتمكن بها من علم خفايا هذه الأشياء من عالم الشهادة.

وهذه الأمور تعتبر غيباً نسبياً، إذ هي بالنسبة لمن استخدم تلك الآلات ليست غيباً بل هي شهادة، وبالنسبة لمن لم يستخدمها غيب.

السبب الثاني: الحاجز المانع:

أي ما حال بين الإنسان وبين علمه حاجز منع من الوصول إليه والعلم به، ولولا وجود ذلك الحاجز لما كان غيباً.

أمثلة ذلك ما يمنع الرؤية أو السمع أو الشم أو اللمس من السواتر كالجدران والألواح والأوعية، وسائر الأجسام، ويدخل في هذا ما في الأرحام من الأجنة بعد تمام الخلقة واكتمال الصورة، وهذا أيضاً لا يعتبر غيباً لمن استخدم الآلات المخترقة لتلك الموانع الساترة.

السبب الثالث: التناهي في الصغر إن كان جرماً، والخفوت الشديد إن كان صوتاً:

ص: 96

فاستخدم الإنسان من الأجهزة ما مكنه من رؤية الأجرام الدقيقة جداً بتكبيرها آلاف المرات أو ملايين المرات، كما تمكن بآلات أخرى من سماع الأصوات الخافتة التي ما كان يسمعها بالأذن المجردة، واستخدم أجهزة أخرى في معرفة ما خفي عليه من الروائح والطعوم، فأصبحت تلك الأمور مرئية مسموعة بواسطة تلك الآلات، ومن هذا القبيل معرفة فصائل الدم، ومشاهدة كريات الدم والشرايين الدقيقة للجسم.

السبب الرابع: الآفات والنقائص:

وهي ما يعتري البعض من النقائص كالعمى الذي يمنع من الرؤية، والصمم الذي يمنع من السمع، وفقدان حاسة الشم الذي يمنع من تمييز الروائح، وحاسة الذوق التي يعرف بها طعم الأشياء المختلفة والخدر الذي يمنع إحساس الجسم بالألم والحرارة والبرودة. وهذه الأشياء تعتبر غيبا نسبيا، إذ هي بالنسبة لمن يملك تلك الوسائل جلية ليست بغيب، بينما تعتبر بالنسبة لمن فقدها غيبا.

السبب الخامس: الحجب الرباني:

لقد حجب الله عز وجل بعض عالم الشهادة حجبا لا سبيل لأحد من الخلق إلى اختراقه مع أنه من حيث الجنس من عالم الشهادة، ليعلم عباده أنه هو الذي حجب عنهم ما حجب من خلقه، وكشف لهم ما كشف، وكل ذلك راجع إلى قدرته تعالى لا إلى طبيعة الأشياء الذاتية، فلا الإنسان قادر على إدراك ما أدرك بقدرته وطبيعته، ولا ما كان غيبا قادرا على الغيبية بقدرته، وإنما طبع الله تعالى خلقه على تلك الأحوال بقدرته ومشيئته، فمتى شاء أن يخرق سننه الكونية لحكمة أرادها، غيرها وبدلها حتى يدرك الخلق أن للطبيعة خالقا مريدا طبعها بما شاء وكيف شاء. فمن أمثلة ذلك:

أولاً: خفاء المسيح الدجال (1) :

ص: 97

المسيح الدجال رجل من اليهود ورد ذكره في الأحاديث النبوية على سبيل التحذير من فتنته، وأن جميع الأنبياء حذروا أممهم منه كذلك. وذكر من صفاته أنه خارج من موضع بين الشام والعراق. وأن الله تعالى يسخر له كثيرا من الخلق ليفتن بذلك العباد، حيث تظهر على يديه الخوارق الشيطانية، وأنه يدعي الألوهية، ومكتوب بين عينيه كافر، يقرأ ذلك أهل الإيمان ممن يقرأ وممن لا يقرأ، وأنه أعور العين اليمنى، وأنه يجوب في الأرض سريعا ويمكث فيها أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كالأيام المعتادة، وأنه يذوب كما يذوب الملح في الماء حينما يرى المسيح عيسى ابن مريم عليه

السلام (1) ، وأنه يقتله نبي الله عيسى بفلسطين، في مكان يدعى "باب لد"(2) وهو موضع المطار الدولي الحالي لليهود المحتلين لفلسطين، وأنه يمنع من دخول مكة والمدينة (3) .

والدجال موجود في مكان غير معلوم للناس في هذه الأرض. ومع كونه من بني آدم الذين هم من عالم الشهادة فإن أحدا من الناس لا يعلم في أي بقعة من الأرض هو. ويدل على وجوده حديث تميم الداري رضي الله عنه المشهور حيث رواه عنه رسول الله (على سبيل الاستشهاد بما رآه لا على سبيل استفادة العلم بما لا يعلم صلوات الله وسلامه عليه. فقد علم من ربه وأعلم الناس بما علم. ولما سمع من تميم الداري ما طابق علمه مما شاهد أخبر بذلك الصحابة رضي الله عنهم، إذ الأمر قبل ذلك خبر جاء به الوحي الإلهي وأما الذي رواه تميم فكانت معاينة ومشاهدة لغيب أراد الله أن يطلعه عليه هو ومن معه ليكون ذلك شاهدا لنبيه (.

ص: 98

وتجنبا للإطالة أورد موضع الشاهد من حديث تميم ابن أوس الداري الذي روته فاطمة بنت قيس: حيث كان قد ركب البحر مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام فلعب بهم موج البحر شهرا فخرجوا في النهاية إلى جزيرة فلقيتهم دابة غزيرة الشعر فسألوها ما هي؟ فقالت: أنا الجساسة (1) ، فطلبت منهم أن ينطلقوا إلى رجل في الدير لشوقه إلى الأخبار، فانطلقوا إلى الدير سراعاً فرأوا فيه إنسانا عظيم الجثة شديد الوثاق مجموعة يداه إلى عنقه وما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. فسألهم من هم؟ وكيف وصلوا إلى الجزيرة؟ وما الذي دلهم عليه؟ فلما عرف منهم أنهم من العرب سألهم عن أمور كثيرة في بلاد العرب حتى سألهم عن نبي الأميين ما فعل؟ فأخبروه أنه خرج من مكة ونزل بيثرب، وسألهم عن قتال العرب له وماذا فعل بهم؟ فأجابوه أنه ظهر على من يليه من العرب فأطاعوه. ثم إنه قال لهم:"وإني مخبركم عني؛ إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدا أو واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت راوية الحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: " قال رسول الله (وطعن بمخصرته في المنبر: " هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة" بمعنى المدينة " ألا هل كنت حدثتكم ذلك" فقال الناس: نعم." فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة. ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو" وأومأ بيده إلى المشرق)(2) .

ص: 99

إنه من قبل المشرق كما أكد رسول الله (ذلك في هذا الحديث، ولكن أين ذلك الموضع بالتحديد؟ ذلك ما لا يعلمه إلا عالم الغيب والشهادة. والشاهد من الحديث هنا أن الدجال موجود منذ عهد بعيد في مكان غير معلوم، وأنه سيخرج حينما يأذن الله بخروجه ولا يعلم أحد متى ذلك. ومن هنا نعلم أيضا أن ما كان في أصله من عالم الشهادة، إذا شاء الله غيبيته كان من عالم الغيب ولو شاء الله أن يقلب الغيب شهادة، والشهادة غيبا لفعل، ولكنه لا يخرق نواميسه وسننه الكونية إلا تأييدا لرسله أو من أخلص في اتباعهم من أهل طاعته، ليبين في كلتا الحالتين أن ما جاءت به الرسل حق منزل من عند الله تعالى الذي له ملكوت كل شيء سبحانه.

ثانياً: خفاء يأجوج ومأجوج:

لقد أخفى الله يأجوج ومأجوج على من سواهم من الناس مع أنهم من ذرية آدم عليه السلام، ومع أنهم قد كانوا موجودين مشاهدين، حيث يقومون بالإغارة على مجاوريهم، والإفساد في أرضهم حتى قام ذو القرنين بعزلهم عن الناس حينما جعل بينهم وبين مجاوريهم سدا لا يفتح إلا يوم الوعد، وذلك بين جبلين لم يستطيعوا بعده أن يظهروه.

وإن أحدا من الناس لا يراهم الآن ولا يعلم أين هم لأنهم أصبحوا غيبا بعد أن كانوا شهادة.

ولقد ورد ذكرهم في القرآن والسنة. أما القرآن فقد ذكرهم في سورة الكهف وسورة الأنبياء.

ص: 100

وفي سورة الكهف قال الله تعالى في الإخبار عن رحلة ذي القرنين وما جرى فيها من الأمور وأنه بلغ بين السدين ووجد من دونهما قوما: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سداً (قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً ((1) .

وأما في سورة الأنبياء فقال الله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ((2) .

لقد دلت آية سورة الكهف في شأنهم على الأمور الآتية:

الأمر الأول: وجودهم في ذلك الزمن الغابر وجودا مشاهدا.

الأمر الثاني: إنهم أهل كفر وفساد في الأرض.

الأمر الثالث: إنهم حجزوا وراء السد وحيل بينهم وبين الإفساد في الحرث والنسل.

الأمر الرابع: إن هذا السد المنيع لا يمكنهم نقبه من أسفله ولا الصعود من أعلاه.

الأمر الخامس: إن ذلك السد لا يفتح إلا في آخر الزمان قرب قيام الساعة وعليه دلت آية سورة الأنبياء أيضا.

الأمر السادس: إن ذلك السد يتكون من قطع من الحديد الذي أفرغ عليه الصفر المذاب وهو أقوى ما يكون.

الأمر السابع: إنه لا بد من خروجهم إذا جاء وعد الله تعالى بأن يجعله دكا. وعليه دلت أيضا آية سورة الأنبياء.

أما آية سورة الأنبياء فقد صرحت بأمور:

الأمر الأول: خروجهم في آخر الزمان.

الأمر الثاني: إن خروجهم علامة على قرب قيام الساعة.

الأمر الثالث: إنهم حين يأتي وعد الله بفتح السد يخرجون ويموج بعضهم في بعض حيث يندفعون ويسرعون وينحدرون من كل حدب.

ص: 101

هذا ما جاء في القرآن الكريم في شأن يأجوج ومأجوج.

وأما ما جاء في السنة فهو على كثرة الروايات لا يخرج عما تضمنته الآيات القرآنية في كثير من الأمور (1) . غير أن الأحاديث تميزت بالنص على أنهم من بني آدم، وأنهم أكثر بني آدم عددا، وأن العدد الأكبر من بعث النار يكون منهم يوم القيامة (2) .

وليس المقصود هنا ذكر ما يتعلق بيأجوج ومأجوج من الروايات على سبيل الاستقصاء، ولكن المراد بيان أنهما مع كونهما من عالم الشهادة خلقا، فإن الله أخفاهما عن المشاهدة. فمن ادعى أنه يعلم مكانهما أو أنهم من الشعوب المعروفة التي تتعامل مع سائر الشعوب في هذا العصر، فقد تكلم في الغيب الذي حجبه الله تعالى عن البشر إلى أن يأتي وعده حيث يفاجئون بخروجهم مقترنا ذلك ببعض علامات الساعة الكبرى كخروج الدجال ونزول المسيح عليه السلام. ومع تقدم الوسائل العلمية وتطورها فإنها لا تتخطى عالم الشهادة المسخر للحواس.

المبحث الثالث عشر: وسائل العلم به

إن غيب الزمن الحاضر من عالم الشهادة سعى الإنسان لمعرفته بالوسائل المختلفة، ولكن الذي نريد البحث فيه هنا الوسائل المفيدة للعلم، لا كل الوسائل التي استخدمها الإنسان.

وتلك الوسائل تتجلى فيما يأتي:

الوسيلة الأولى/ الوحي الرباني:

حيث يُعلم الله تعالى أنبياءه ورسله ببعض ما هو خفي عن الناس في أزمانهم، مما يقع في سر وخفاء إن كان قريباً أو مما يقع في أماكن بعيدة عن الأحداث في عصورهم. ويتجلى ذلك في الأمثلة التالية:

إخبار الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم باستشهاد جعفر وزيد وعبد الله بن رواحة في موقعة مؤتة ساعة استشهادهم، وأخذ خالد بن الوليد للراية وفتح الله عليه (3) .

إخبار الله له باستشهاد أصحاب بئر معونة من الحفاظ (4) .

إخبار الله له بقتل كسرى على يد ابنه شيرويه (5) .

إخبار الله له بالظعينة التي حملت خطاب حاطب بن أبي بلتعة (6) .

ص: 102

إخبار الله إياه بموت النجاشي رحمه الله يوم وفاته (1) .

إخبار الله تعالى إياه بما كان بين عمير بن وهب وصفوان بن أبي أمية بمكة (2) .

إخبار الله إياه بأكل الأرضة من صحيفة المقاطعة التي كتبتها قريش وعلقتها داخل الكعبة كل اسم لله ورد فيها، وأبقت ما فيها من شرك وظلم وقطيعة (3) .

إخباره بما جرى بين زوجيه عائشة وحفصة في أمر أسره النبي إلى عائشة، كما في صورة التحريم (4) .

والأمثلة على هذا الأمر أكثر من أن تعد وتحصى، وهذا خاص بزمن الوحي، أما بعد توقف الوحي وانقطاعه بوفاة النبي فقد انقطعت هذه الوسيلة وتوقفت.

الوسيلة الثانية/ الأجهزة العلمية الحديثة:

حينما انقطع الوحي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن هناك وسيلة يعلم بها ما يجري في خفاء أو بعد، فالوحي الرباني لم تكن مهمته إنباء الناس بما غاب عنهم أو خفي عنهم، ولكنه يأتي بإجلاء ذلك بقدر ما تحتاج إليه الدعوة، ويكون مؤيداً لها، وليس من مهمة الوحي الإخبار عن أماكن وجود الضالة، والكشف عن المسروقات، فإن تلك أعمال العرافين والكهان والمشعوذين، غير أن الإنسان اهتدى في هذا العصر إلى اختراع آلات تمكن بها من الوصول إلى علم ما لا يعلم مما في عصره من خفايا عالم الشهادة، فمن تلك الآلات ما يأتي:

البث المباشر المرئي المسموع، وجهاز الاستقبال:(التلفاز) .

البث الإذاعي المسموع عن طريق جهاز الالتقاط: (الراديو) .

الهاتف الذي ينقل الصوت الحي من مسافة بعيدة بين طرفين متحادثين، والفاكس.

أجهزة التصنت على الأصوات من بعد.

الأقمار الصناعية وما تشتمل عليه من أجهزة دقيقة كاشفة لبعض الخفايا.

المراصد التي يتم بها اكتشاف الفضاء الكوني وما بث الله تعالى فيه من الأجرام المختلفة.

ص: 103

المركبات الفضائية التي تجوب الفضاء الكوني السحيق وتبث إلى أجهزة في الأرض صوراً عن النجوم والشموس والأقمار والمجرات، إلى غير ذلك مما تنتجه مصانع الدول الصناعية المتطورة من آلات جعلت الاطلاع على كثير من الخفايا في غاية من السهولة واليسر.

المبحث الرابع عشر: غيب الزمن المستقبل وأدلة غيبيته

الزمن المستقبل هو الزمن الذي يأتي بعد اللحظة التي نحن فيها، وغيبه هو ما سيقع فيه من حوادث لم تقع بعد، فهو وإن كان من عالم الشهادة قبل وقوعه، فليس من الغيب النسبي الذي يعلم به قوم دون قوم، ومع عده من حيث التقسيم من غيب عالم الشهادة، فإنه في غيبيته عن الحس والإدراك الإنساني يشبه الغيب المطلق الذي هو من عالم الغيب، كما يشبه في حكمه أيضا ما قبل نشأة الإنسان من غيب الزمن الماضي من عالم الشهادة.

وسيلة الإطلاع على غيب الزمن المستقبل:

إن الوسيلة التي يمكن أن يعلم بها الإنسان ما يأتي في المستقبل من ساعاته وأيامه وشهوره وسنواته، هي وحي الله تعالى إلى أنبيائه ورسله، أي إن الله تعالى هو الذي يعلم وحده ما سيكون فهو الذي يعلم من يشاء من عباده المصطفين ما سيأتي غير أن سنن الله في الوحي إلى أنبيائه بذلك جرت على عدم تحديد تواريخ ما سيأتي من الأحداث، وإنما يوحي الله تعالى إليهم بصفات تلك الأحداث وحالاتها حتى يترقبها الإنسان في حياته كلها لا في يوم معين أو شهر معين أو سنة معينة، فكما علم الناس أن لهم آجالا تنتهي إليها أعمارهم، ولا يعلمون متى ذلك، فإنهم لا يعلمون متى سيقع حدث من الحوادث التي أوحى الله تعالى بحدوثها في المستقبل ولكنهم يفاجأون بحدوث ما قد آمنوا بحدوثه، وفي هذا يقول الشاعر:

ما مضى فات والمؤمل غيب

ولك الساعة التي أنت فيها

وقال زهير:

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عمي

أما أدلة غيبية حوادث المستقبل في عالم الشهادة فكثيرة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه فمن ذلك:

ص: 104

1-

قوله تعالى حكاية عما قاله العاص بن وائل لخباب (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولداً (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (، لقد زعم أنه سيكون له مال وولد إذا بعث، وأنه سيوفي خباباً حقه هناك، قال ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء من البعث بعد الموت. بيان سبب ذلك أن خباباً قال: "جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقاً لي عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا حتى تموت ثم تبعث، قال: وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت: نعم، قال: إن لي هناك مالا وولدا فأقضيكه. فنزلت هذه الآيات.

وقد سمى الله تعالى هذا غيبا، وأنكر على من زعم أن له مالا وولدا في الآخرة، بأن قال: (أطلع الغيب (أظهر على ما في الغيب وعلم أن له مالا وولدا.

2-

كذلك سمى الله تعالى المستقبل غيبا لا يعلمه سواه، فقال لملائكته (إني أعلم ما لا تعلمون (، وذلك أنهم لما أخبرهم الله تعالى بأنه (جاعل في الأرض خليفة (قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (، فأخبرهم الله تعالى بأنه هو وحده يعلم ما سيكون وهم لا يعلمون من ذلك شيئاً، ثم إنه تعالى لما خلق آدم علمه الأسماء كلها، ثم عرض على الملائكة تلك المسميات، فسألهم عن أسمائها فلم يعلموا هنالك أمر الله آدم أن يعلمهم ما لم يعلموا. حيث قال تعالى في ذلك كلها (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ((1) .

وهذا دليل آخر على أن ما سيقع في المستقبل من الأحداث في عالم الشهادة غيب انفرد الله بعلمه سبحانه وتعالى.

ص: 105

3-

وكذلك دل على غيبية حوادث المستقبل قول الله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (، أي إن هذه الأمور المذكورة في الآية من حوادث المستقبل علمها عند الله تعالى وحده ليس لأحد من خلقه علم بها.

وأما السنة النبوية فقد امتلأت كتبها بأحاديث الفتن، وما سيحدثه الله في المستقبل من الحوادث التي يكون حدوثها من علامات الساعة، مما أعلم الله نبيه عن طريق الوحي فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليها.

4-

ولقد دلت آية من كتاب الله تعالى على حدثين أحدهما من غيب الزمن الحاضر والآخر من غيب الزمن المستقبل عند نزول الآية فتحقق ذلك في زمن يسير، ذلك هو قول الله عز وجل:(آلم (غلبت الروم (في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ((1) .

وقوله: (غلبت الروم (: إخبار بغيب الزمن الحاضر حيث إن غلبة فارس للروم وقعت في ذلك الزمن، والناس لم يقفوا بعد على ذلك، فكان الوحي في ذلك الزمن هو الوسيلة والمصدر الوحيد للوقوف على هذا القسم من الغيب ونقله إلى من غاب عنه، وقوله: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون (في بضع سنين (، إخبار بغيب الزمن المستقبل الذي سيقع في زمن لا يزيد عن عشر سنين، وهو انتصار الروم على الفرس، وأن ذلك اليوم يوم فرح للمؤمنين لانتصار أهل الكتاب على أهل الشرك، أو المراد بيوم الفرح هو يوم بدر الذي يوافق يوم انتصار الروم على الفرس كما قال بذلك بعض العلماء، وهذا أبلغ في الفرح وأليق، وهو يعتبر أيضاَ إخباراً بغيب المستقبل، وهو انتصار أهل الحق على أهل الباطل يوم بدر.

• • •

الخاتمة:

ص: 106

إن الحوادث المستقبلة لا يعلم ميعادها وحقيقتها وصورتها وحجمها وكل ما يتعلق بها إلا رب العالمين. ومن زعم أن أحدا من الخلق يعلم ما يستقبل من الأمور فقد كذب على الله وكذب برسول الله (. وقد زعم بعض المفتونين أن حوادث معينة ستقع في سنة معينة وشهر معين، فلم يحدث من ذلك شيء. مع مضي تلك السنة وذلك الشهر. ومنذ بضع سنوات سرت إشاعات زعم أصحابها أن صيحة ستحدث ليلة الجمعة في النصف من شهر رمضان، فصدق بذلك بعض العوام وحدثت بلبلة للأفكار، وقلق وفزع، فانبرى أهل البصيرة لبيان زيف تلك الدعوى وعدم صحة الحديث الذي بنيت عليه تلك الأوهام، فجاء اليوم الموعد الذي ترقب الجهال أن تحدث فيه تلك الصيحة ولم يحدث شيء، ثم في هذه السنة أعادوا الكرة على نطاق أوسع ومستوى أعلى وأرفع فيما أطلق عليه عام ألفين، ووقوع حوادث في الليلة الأولى منه، وقيام الساعة فيه، ولكنهم خسئوا وخابوا فلم يحدث من ذلك شيء. وعلى المسلم الحريص على دينه وسلامة عقيدته، وحسن تصديقه، لما بلغه عن الله تعالى ورسوله، ألا يركن إلى ما يشيعه أعداء الإسلام، والجاهلون من أبنائه، ومدعوا العلم ممن لم يؤتوا العلم بمنهج أهل العلم الصحيح من سلف هذه الأمة، وأن لا يندفع نحو كل صارخ وناعق، فكتاب الله تعالى وسنة رسوله (هما مصدر العلم الصحيح، والعقيدة الصافية، فيلتزم المسلم بها مستنيرا في فهمها بأقوال العلماء الربانيين من أهل السنة والجماعة) .

وأسأل الله تعالى العظيم، رب العرش الكريم، أن يهدينا إلى الحق ويثبتنا عليه اعتقادا وقولا وعملا، وأن يميتنا على ذلك بمنه وكرمه وإحسانه إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الحواشي والتعليقات

سورة إبراهيم: 4.

رواه البخاري/كتاب الإيمان/ باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم/كتاب المساقاة/باب أخذ الحلال وترك الشبهات.

سورة البقرة: 3

سورة فاطر: 18

سورة فاطر: 18.

سورة يس: 11

سورة ق: 33

سورة الملك: 12

ص: 107

أنظر تفسير الجواهر الحسان المعروف بتفسير الثعالبي لمحمد بن عبد الرحمن الثعالبي ج1 ص183 وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي ج4 ص152 وإرشاد العقل السليم المعروف بتفسير أبي السعود لمحمد بن العماد الحنفي ج1= = ص53-54 وتفسير الرازي المشهور بمفاتيح الغيب لمحمد بن ضباء الدين عمر المشتهر بالفخر الرازي ج1 ص31 وكتاب التسهيل لعلوم التنزيل لمحمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي ج1 ص62.

انظر مجموع الفتاوى ج 11 ص 336.

سورة ق: 18.

سورة ق: 16.

سورة آل عمران: 5.

سورة الانفطار: 12.

سورة طه: 7.

سورة يس: 76.

سورة البقرة: 235.

سورة الأنعام: 3.

سورة الفرقان: 6.

سورة القصص: 69.

سورة البقرة: 284.

سورة الأعراف: 56.

سورة الأنبياء: 90.

لفظ البخاري: (أين يا سعد) واللفظ المذكور في الإصابة والاستيعاب وفي مسند أحمد: (يا أبا عمرو أين) .

سورة الأحزاب: 23.

أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 1 ص 155 وانظر صحيح البخاري كتاب المغازي / باب غزوة أحد.

سورة مريم: 61.

انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 787 – 788. والسيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 627.

صحيح مسلم كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنة للشهيد.

البخاري / كتاب المغازي / باب غزوة أحد.

المعجم الكبير للطبراني ج3 ص266-267 حديث 3367 وراجع في ترجمته أسد الغابة في معرفة الصحابة ج1 ص414 والإصابة في تمييز الصحابة ج1 ص289.

رواه مسلم /كتاب الإيمان / باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج.

سورة آل عمران: 200.

شمرت عن ساقها: شمر عن ساقه وشمر في أمره: أي خف. لسان العرب. وهو كناية عن شدة الحرب.

واضطرمت لظى: ضرمت النار وتضرمت النار واضطرمت إذا التهبت. واللظى:

النار. الصحاح.

وحللت: أي غشيت وألبست.

على أوراقها: أوراقها هم المتقاتلون.

ص: 108

وطيسها: الوطيس المعركة وقيل تنور من حديد شبهت به الحرب. وقيل الضراب في الحرب وقيل غير هذا. أنظر لسان العرب.

خميسها: الخميس: الجيش سمي كذلك إما لأنه خمس فرق: المقدمة، والقلب والساقة والميمنة والميسرة، ولأنه يخمس الغنائم. أنظر لسان العرب.

الإصابة في تمييز الصحابة ج 4 ص287 – 289 وانظر أسد الغابة ج6 ص88-90، وانظر الاستيعاب لابن عبد البر رحمه الله تعالى على هامش الإصابة ج4 ص295-297.

انظر ترجمتها في مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق لأبي زكريا أحمد بن إبراهيم الدمشقي ثم الدمياطي المتوفى سنة 814 هـ ج 1 ص 215.

أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل. وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل مجالس الذكر، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. واللفظ للبخاري.

سورة الرعد: 28.

رواه أحمد في المسند ج 1 ص 306-307 بهذا اللفظ. وقال المحققون للمسند:

" حديث صحيح " انظر الموسوعة الحديثية: مسند الإمام أحمد بن حنبل ج5 ص19 حديث 2803 ورواه الترمذي بلفظ آخر في كتاب صفة القيامة. باب 59 حديث 2516 وقال حديث: حديث حسن صحيح. وأبو يعلي في مسنده ج3 ص84-85 حديث 2549.

سورة الشرح: 5.

سورة الزمر: 10.

سورة البقرة: 155-157.

سورة البقرة: 177.

سورة الطلاق: 4.

سورة الطلاق: 2 - 3.

سورة البقرة: 264.

سورة الإنسان: 8 –10.

سورة المطففين: 1-6.

سورة المائدة: 8.

سورة النساء: 135.

سورة الممتحنة: 4.

سورة المؤمنون: 101.

سورة المعارج: 10.

سورة لقمان: 33.

سورة الحج: 19.

سورة المجادلة: 22

سورة آل عمران: 134

سورة الشورى: 39 – 43.

أخرجه البخاري / كتاب الإيمان / باب حلاوة الإيمان. ومسلم / كتاب الإيمان / باب بيان خصال من انصف بهن وجد حلاوة الإيمان ومسلم / كتاب البر والصلة / باب في فضل الحب في الله.

ص: 109

أخرجه أحمد في المسند ج2 ص 338 و 370، 23 عن أبي هريرة وصححه الألباني / كلاهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه / في مختصر العلو للبيهقي، ص105 بتحقيق وتعليق ناصر الدين الألباني.

أخرجه مسلم / كتاب الإيمان / باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ص 105.

رواه مسلم / كتاب الإيمان / باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.

سورة آل عمران: 110.

أخرجه أحمد في مسنده ج5، ص128.

رواه ابن حبان في صحيحه / ذكر إيجاب محبة الله للمتناصحين والمتباذلين.

رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة وقال حديث حسن غريب كتاب البيوع باب 38 حديث 1264 وانظر الجامع الصغير بشرح فيض القدير للمناوي ج 1 ص 223 ورمز السيوطي لصحته. وانظر الصحيحة للألباني 424 والإرواء 1544.

سورة النساء: 58.

البخاري / كتاب العلم / باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه

سورة الأحزاب: 72.

رواه الترمذي وقال حديثٌ حسنٌ صحيح.

سورة النمل: 65.

سورة الجن: 26.

سورة الأنعام: 59.

سورة الأنعام: 73.

سورة فاطر: 38.

سورة سبأ: 48.

سورة هود: 49.

سورة يوسف: 102.

سورة آل عمرآن: 44-45.

سورة يوسف: 102.

سورة القصص: 44-46.

انظر صحيح البخاري/ كتاب التفسير/ باب قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام (. وكتاب فضائل الصحابة، باب حديث الإسراء.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد: " رواه أحمد وأبو يعلى والبزار

والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. مجمع الزوائد ج10 ص136.

انظر الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي ج3 ص303-304. وانظر كتاب: عالم الغيب والشهادة لعثمان جمعة 75.

اقرأ قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى (سورة النجم: 13-14.

انظر البخاري/ كتاب بدء الخلق/ باب ذكر الملائكة، وكتاب فضائل الصحابة/ باب المعراج. ومسلم/ كتاب الإيمان/ باب الإسراء برسول الله (.

سورة النساء: 158.

ص: 110

سورة البقرة: 3.

سورة يونس: 90-91.

رواه الترمذي وقال حديث حسن. كتاب الدعوات باب فضل التوبة والاستغفار. حديث 3537.

سورة إبراهيم: 10.

سورة الأعراف: 75.

سورة الرعد: 43.

سورة يس: 15.

سورة الأنعام: 91.

سورة المدثر: 25.

سورة الهود: 5.

سورة القصص: 69.

سورة الملك: 13.

سورة لقمان: 34.

سورة الأعراف: 87.

سورة الأحزاب: 63.

رواه مسلم من حديث جبريل المشهور.

سورة الأعراف: 188.

سورة الطلاق: 1.

سورة النساء: 87.

سورة النساء: 122.

سورة النجم: 3.

سورة الشورى: 11.

سورة البقرة: 213.

لوامع الأنوار البهية ص1، ص101.

سورة البقرة: 115و272، الرعد: 22، الروم 38، 39، الرحمن: 27،

الإنسان: 9، الليل: 20، الأنعام: 52، الكهف: 28، القصص:88.

شرح جوهرة التوحيد لإبراهيم الباجوري ص161.

المواقف في علم الكلام للإيجي ص 298، وشرح المقاصد ج 4، ص 174.

آل عمران: 26، 73، المائدة: 64 مرتين، الفتح: 10، الحديد: 29،

المؤمنون: 88، يس: 45، 83، ص: 75، الملك:1.

شرح جوهرة التوحيد لإبراهيم الباجوري ص161.

المواقف ص 298 وشرح المقاصد ج 4 ص 174.

سورة الزمر: 67.

شرح جوهرة التوحيد لإبراهيم الباجوري ص 161.

سورة طه: 39.

سورة هود: 37.

شرح جوهرة التوحيد لإبراهيم الباجوري ص 161.

سورة الشورى: 11.

لوامع الأنوار البهية ج1 ص 94.

الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، طه: 5، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد:4.

انظر المواقف ص297 وشرح المقاصد ج4 ص174.

وفي المواقف عمرو مكان بشر.

سورة البقرة: 210، الأنعام:158.

سورة الفجر: 32.

سورة الفجر: 22.

سورة الأنعام: 158.

الشورى: 35.

سورة التحريم: 6.

سورة الأنبياء: 27.

سورة مريم: 64.

سورة الأعراف: 27.

سورة التوبة: 40.

سورة التوبة: 26.

سورة الأحزاب: 9.

سورة المدثر: 31.

ص: 111

رواه الشافعي بهذا اللفظ في المسند ج1 ص 16 كتاب العلم. وابن حبان كتاب العلم باب ذكر دعاء المصطفى. وذكر المنذري في الترغيب والترهيب ج1 حديث 6.

سورة آل عمرن: 7.

سورة الأحزاب: 77.

سورة الإسراء: 44.

سورة فصلت: 11.

سورة الإنسان: 2.

سورة الملك: 23.

ثبت لدى المختصين من العلماء أن تحليل ما لديهم بالسائل الأمنيوسي بعد مضي أربعة أشهر من الحمل يمكنهم من معرفة نوع الجنين أذكر أم أثنى، حيث إن حرف (y) يدل على خصائص الذكورة وأن حرف (x) يدل على خصائص الأنوثة، فبهاتين العلامتين يمكن التعرف على نوع الجنين.

سورة النمل: 65.

هذا التحديد أمر مبني على سياق ما سيأتي على ما قد مضى من التجارب، ولا يعلم أحد أن ذلك يقع حتماً، لاحتمال أن الدنيا قد لا تستمر إلى ذلك الزمن أو على ذلك النحو المعلوم من قبل فليتأمل.

تفسير القرآن الحكيم المعروف بتفسير المنار ج 7 ص 422-423.

سورة المائدة: 27-31.

سورة هود: 49.

سورة يوسف: 102.

سورة آل عمران: 44-45.

سورة الروم: 6-7.

إن المسيح الدجاللم يرد ذكر له في القرآن الكريم غير أن بعض العلماء يرون أنه داخل في قوله تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل (أنظر النهاية للفتن والملاحم للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي ج1 ص 128-129 بتعليق وتحقيق محمد خير طعمة وخليل مأمون شيحا.

أنظر في هذه الصفات كلها صحيح مسلم كتاب الفتن باب خروج الدجال وصفته، وباب قصة الحساسة. وانظر الترمذي أيضاً كتاب الفتن باب ما جاء في فتنة الدجال وأبا داود كتاب الملاحم باب خروج الدجال.

رواه الترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في قتل عيسى بن مريم الدجال. وقال حديث حسن صحيح.

أنظر صحيح مسلم كتاب الفتن باب في صفة الدجال وتحريم المدينة عليه. وباب قصة الجساسة. والترمذي كتاب الفتن باب ما جاء في الدجال لا يدخل المدينة.

ص: 112

الجساسة: اسم تلك الدابة قيل إنها سميت بذلك لأنها تجسس الأخبار للدجال. وذكر بعضهم أنها هي الدابة التي ذكرت في القرآن والسنة أنها تخرج في آخر الزمان وتكلم الناس.

رواه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب قصة الجساسة وأبو داود كتاب الملاحم باب في خبر الجساسة.

سورة الكهف: 94-98.

سورة الأنبياء: 96-97.

أنظر صحيح البخاري / كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج. وصحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج كلاهما عن زينب بنت جحش.

أنظر البخاري / كتاب الأنبياء / باب قصة يأجوج ومأجوج. وصحيح مسلم / كتاب الإيمان / باب قوله

(يقول الله يا آدم: أخرج بعث النار (.

أنظر البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام.

أنظر البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة.

السيرة النبوية لابن كثير، ج3، ص 509-510.

أنظر البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح.

البخاري فضائل الصحابة، باب هجرة الحبشة.

أنظر السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص 661-663.

أنظر السيرة النبوية لابن كثير، ج2، ص44-46.

أنظر البخاري، كتاب التفسير، باب (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً (.

سورة البقرة: 31-33.

سورة الروم: 1-5.

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

إرشاد العقل السليم، أبو السعود محمد بن العمادي الحنفي.

أسد الغابة في معرفة الصحابة، مجد الدين أبو السعادات المبارك محمد الجزري ابن الأثير.

الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.

الاستيعاب، أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري.

بصائر ذوي التمييز، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي.

الترغيب والترهيب، زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المشهور بالحافظ المنذري.

تفسير القرآن الحكيم، رشيد رضا ومحمد عبده.

الجامع الصحيح، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي.

ص: 113

الجامع الصغير، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي.

الجواهر الحسان، محمد بن عبد الرحمن الثعالبي.

سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني.

سنن ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني.

سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي.

السيرة النبوية، أبو محمد عبد المك بن هشام الحميري.

السيرة النبوية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي.

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني.

شرح جوهرة التوحيد، إبراهيم الباجوري.

صحيح ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي.

صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري.

صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري.

عالم الغيب والشهادة، عثمان جمعة.

الكليات، أيوب بن موسى الكفوي.

كتاب التسهيل لعلوم التنزيل، محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي.

لوامع الأنوار البهية، محمد بن أحمد السفاريني.

مجمع الزوائد، نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي.

مختصر العلو للعلي الغفار، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي.

المسند، الإمام أحمد بن حنبل.

مسند أبي يعلى، أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي.

مسند الإمام الشافعي، الإمام محمد بن إدريس الشافعي.

مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، أحمد بن إبراهيم الدمشقي.

معجم الطبراني الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني.

مفاتيح الغيب، المشهور بتفسير الرازي، محمد بن ضياء الدين عمر الشهير بالفخر الرازي.

المواقف في علم الكلام، عضد الدين الإيجي.

موسوعة حياة الصحابيات، محمد سعيد مبيض.

ص: 114