المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العقل المستعاربحث في إشكالية المنهجفي النقد الأدبي العربي الحديثالمنهج النفسي أنموذجا - مجلة جامعة أم القرى ١٩ - ٢٤ - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌العقل المستعاربحث في إشكالية المنهجفي النقد الأدبي العربي الحديثالمنهج النفسي أنموذجا

‌العقل المستعار

بحث في إشكالية المنهج

في النقد الأدبي العربي الحديث

المنهج النفسي أنموذجاً

د. صالح بن سعيد الزهراني

الأستاذ المشارك في كلية اللغة العربية - جامعة أم القرى

ملخص البحث

تهدف هذه الورقة إلى البحث في قضية المثاقفة بين الثقافة العربية والثقافة الغربيّة المعاصرة وذلك من خلال التركيز على الثاقفة النقدية، واتخاذ المنهج النفسي أنموذجاً لهذه الثقافة.

وتعرض للمهاد الفلسفي والمعرفي الذي تأسس عليه المنهج النفسي في نقد الأدب وتؤكد أنه منهج له سياقه الثقافي الخاص به، وتكشف عن محاسن هذا المنهج وعيوبه التصورية والإجرائية، كما تكشف عن أن المنهج النقدي بوصفه البستمولوجيا لا يمكن فصله عن فلسفته التي نشأ في ظلالها.

وترى أن المثاقفة الحقيقية يجب أن تكون مثاقفة راشدة تبحث عن الحكمة وتستلهمها ولا تستنسخها كيفما اتفق.

الثقافة العربية والمثاقفة

“ المثاقفة ” بين الأمم، ضرورة تفرضها الرغبة في التأثير والتأثر بحثاً عن الحكمة، واسترشاداً بالرؤى النيرة، والأفكار الخلاّقة من أجل تشييد بنية ثقافية متماسكة، وواعية بذاتها، وعارفة ما لدى الآخرين من منجزات وأفكار يمكن توظيفها، أو رفع المناعة ضدها، لما لها من أثر في سلب الهويّة، وطمس معالم الخصوصيّة.

وبمقتضى الطبيعة البشرية المبنية على النقص، وعلى حبّ البحث عن الجديد، ومعرفة الآخر قامت الثقافات البشرية على “ المثاقفة ” فأثرت وتأثرت، واختلفت درجات ذلك التأثير والتأثر باختلاف الرصيد الحضاري، والشعور بقيمة الذات والحفاظ عليها، فذابت ثقافات في نسيج ثقافات غالبة، وفقدت هويتها، كما حدث مع غالب ثقافات العالم الثالث، ونجحت ثقافات أخرى في المثاقفة، عندما قامت على أسس محكمة، كما تحقق للثقافة اليابانية، والثقافة الكونفوشوسيّة في الصين عندما تثاقفت مع “ ثقافة الغرب ”.

ص: 485

وهذه الورقة معنيّة بالبحث في “ المثاقفة ” بين الثقافة العربيّة والثقافة الغربيّة مع التركيز على المثاقفة النقديّة عبر تحوّلاتها العديدة وتقديم “ المنهج النفسي ” في النقد الأدبي أنموذجاً لهذه المثاقفة.

وقد عرضت الورقة لماهية الثقافة، وأبرزت حرص ديننا الإسلامي على البحث عن الحكمة، ودعوته للمثاقفة الراشدة. وعرّفت المثاقفة، مع سرد موجز لتاريخ المثاقفة في الثقافة العربيّة، مع الثقافات الأخرى ابتداءً بحركة الترجمة على يدي خالد بن يزيد بن معاوية في القرن الهجري الأول، ومروراً بمرحلة الازدهار على يدي الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد. ثمّ بما حدّث بعد ذلك في حالات الشقاق السياسي والدويلات المتناحرة في القرن الرابع، وأوضحت طبيعة تلك المثاقفة، وما تركته من آثار في تراثنا الثقافي.

وكشفت عمّا آل إليه المشهد الثقافي في “ مثاقفتنا الجديدة ” مع الغرب عقب دخول الحملة الفرنسيّة إلى مصر عام 1798 م، وكيف انقسم الواقع الثقافي إلى فئتين متنابذتين؟ ، وكيف غذّى الوسط الاجتماعي هذا الانقسام، وساعد على نشوء كثير من تشوهاته؟ .

وحين عرضت “ للمثاقفة ” النقديّة المعاصرة مع الغرب منذ منتصف القرن العشرين الميلادي، باعتبارها شريحة تكشف طبيعة مثاقفتنا مع الغرب كشفت على وجه الإجمال عن تحوّلات المناهج النقدية ابتداءً بمناهج الحتمية العلميّة، وانتهاء بمناهج النقد النسائي والنقد الثقافي، وأبرزت تحيّز هذه المناهج إلى سياقها الفكري والتاريخي، وما حدث من اضطراب وخلط في تطبيق تلك المناهج على أدب مغاير له سياقه الفكري والتاريخي المغاير، مع الإشارة إلى ما حققته تلك المناهج من كشوفات في تفتيق النّص وإن أساءت إلى روح الثقافة العربيّة، ورصيدها الحضاري، بحسب تعبير بعض النقّاد

ص: 486

وكان “ المنهج النفسي ” هو المنهج الذي استوقف هذه الورقة حتى تكون الرؤية أكثر علميّة، وإنصافاً، فوقفت على نشأة علم النفس وأوضحت تحوّلاته، ومدارسه المتعدّدة، التي كانت ثمرة من ثمار تحوّلات الحمولات الفكرية والاجتماعية في الغرب، وهي تحولات زعم كثير من النقاد العرب، أنها لا تؤثر في المناهج النقدية، فهم يتعاملون مع هذه المناهج التقديّة بوصفها أداة إبستمولوجيه، لا بوصفها مذهباً فلسفياً، وكأنه يمكن نزع المنهج من سياقه الثقافي، والتعامل مع مفاهيمه وأدواته الإجرائية بمعزلٍ عن خصوصيّة السياق وحمولات الفكر والتاريخ.

وقد أثبتت هذه الورقة أن مقولة فصل الأداة الإبستمولوجية عن سياقها الفكري والتاريخي مقولة خاطئة، فكثير من حمولات ذلك السياق كانت حاضرة في الممارسة الإجرائية، وما كان للمفاهيم أن تتجه تلك الوجهة لولا أن السياق الثقافي كان الموجه الرئيس لها.

ماهيّة الثقافة:

الثقافة في الفكر العربي ( [1] ) تعني التقويم والتهذيب، من ثقفت الرمح إذا هذّبته وقوّمته، ويراد بها الحذق والفطنة، وترد بمعنى التمكن والغلبة كما في قوله تعالى: س إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ش ( [2] ) .

أمّا في الفكر الغربي فدلالتها مرتبطة بزراعة الأرض، ثم استخدمت

مجازاً في تعريف الفلسفة حيث عرفها شيشرون بأنها زراعة العقل (Mentis Culture) وفي عصر النهضة أصبحت الكلمة تطلق على الدراسات المتعلقة بالتربية والإبداع ( [3] ) .

ص: 487

وقد تعددت تعريفات الثقافة حتى أصبحت تقارب مائتي تعريف تقريباً، وقد أقرّت منظمة اليونسكو في مؤتمرها الذي عقدته للثقافة في المكسيك عام 1982 م التعريف الآتي:((إن الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها اليوم على أنها جميع السمات الروحيّة والمادية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون، والآداب، وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسيّة للإنسان، ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات)) ( [4] ) .

وكثرة تعريفات الثقافة زادت المفهوم تعقيداً، حتى اختلط بمفاهيم أخرى كالحضارة، والمدنية، والتقدّم، ومع هذا فيمكن إجمال تلك المفاهيم المتعددة للثقافة في معنيين اثنين:

1 -

المعنى الأنثربولوجي الذي بمقتضاه تصبح كلُّ فعاليّة إنسانية ونشاط ذهني أو مادي “ ثقافة ” سواءً كان تراكم خبرات، أو صنع أدوات، أو ممارسة تصوّرات فهي بهذا المفهوم الإنسان فاعلاً ومنفعلاً.

2 -

السمات المميزة لأمة من الأمم في المعارف والقيم وطرائق الإبداع الجمالي والتقني وطرز الحياة ونمط التفكير والسلوك والتعبير، والتطلعات للمثل العليا ( [5] ) .

وأمّا المثاقفة فيعرفها ميلقن هرسكر فيتز، ورالف لنتون، وروبرت ردفيلد بأنها:((التغيير الثقافي في تلك الظواهر التي تنشأ حين تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين في اتصال مباشر، ممّا يترتب عليه حدوث تغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية السائدة في إحدى الجماعتين أو فيهما معاً)) ( [6] ) .

ص: 488

ممّا سبق يتضح لنا أن الثقافة هي السمة المميّزة لأي أمة من الأمم روحياً ومادياً، وفكراً وإبداعاً (وفي إطار من هذا التصوّر نعرض للثقافة العربيّة بوصفها سمة مميّزة للأمة الإسلامية عن غيرها من أمم الأرض في التصور والممارسة) ، ونقف على المثاقفة بوصفها رافداً ثقافياً تسعى كل أمة من خلاله لتنمية كيانها الثقافي، واستثمار ما لدى الآخرين من الحِكمَ التي كانت نِتاج عبقرية مُلهَمَة، وعملٍ دؤوب، وستكون المثاقفة النقديّة نموذجاً نكشف من خلاله عن الوعي الثقافي بالآخر تكافؤاً واختلافاً.

القرآن الكريم وهو يعرض لنا تجارب الأمم السابقة وتصوّراتها يؤسس لنا منهجاً في الوعي بالآخر، ويحدّد لنا سبيلاً إلى المثاقفة. فالبشرية واحدة، والعالم الذي تتدافع فيه عالم واحد، والربّ الذي تتجه إليه بمشاعرها وسلوكياتها واحد لا شريك له.

وهذا الانفتاح على تلك الثقافات يؤكد أن الثقافة البشريّة واحدة، وأن استيعابَ تلك الثقافات ونقدها هو أساسُ بناءِ الكيان الثقافي الخاص.

فالبنية الثقافية بنية ممتدّة في أعماق الزّمان، تضيف إليها الأمم إضافات متباينة في كمها وكيفها، ولهذا لم تدّعِ أمةٌ من الأمم أنها مكتفيةٌ ذاتياً بما لديها، وأنها طفرة عبقريّة مفاجئة، لم تقل ذلك الحضارة اليونانية والرّومانية، ولا الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولا الحضارة الغربيّة ( [7] ) .

من هنا كانت المثاقفة ضرورة وجود، وإمكانية تواؤم. والمثاقفة الراشدة هي التي تقوم على أسس متينة وتوظف ((جملة من النماذج المعرفية والمناهج الحكميّة والموازين الدقيقة للفصل بين المطلق والنسبي والمشترك والخاص، والمؤقت والدائم من ذلك التراث وبذلك استوعب المطلق والمشترك الإنساني والدائم المستمر، وتجاوز النسبي والخاص والمؤقت)) ( [8] ) .

ص: 489

وحين نتأمل حركة التاريخ نجد أن الحضارة العربيّة الإسلاميّة بوعي من دستورها الإلهي قدرت الثقافات الأخرى. فلم تقف معزولة عنها، وإنما تثاقفت معها فتأثرت بها وأثرَّت فيها.

وتكاد تجمع المصادر العربيّة على أن خالد بن يزيد بن معاوية 85 هـ كان أول من بدأ حركة الترجمة إلى العربيّة للعلوم الهرمسيّة ( [9] ) .

ثم تعزّزت حركة الترجمة على يدي المأمون الذي شجع حركة الترجمة وأغدق عليها، إمّا لأنه كان مُحبّاً للفلسفة اليونانية، وإما لاستراتيجيّة سياسيّة يقاوم بها المأمون الغنوصَ المانوي والعرفان الشيعي المصدر المعرفي الذي تنفرد به الحركات المعارضة للعباسيين ( [10] ) .

غاية الأمر أن شيوع الفكر الهرمسي والاشتغال بالفلسفة اليونانية أحدثا هزّة للعقل العربي تمثلت في الولع بالنظر التجريدي والتأملات العقلية والقياس المنطقي وإهمال المنهج التجريبي الذي التقطه الغرب فبدأ به ثورته العلمية الحديثة ( [11] ) واتجاه كثير من المفكرين إلى الجدل العقائدي أولاً عند بني أميّة في “ الجبر ” والاختيار ثم إلى الجدل الفلسفي، وبلغ هذا الجدل في القرن الثالث الهجري على أيدي المعتزلة مرحلة النضج حيث اتسم منهجهم ((بظاهرة الإمعان في استقصاء الفكرة الواحدة، وتقليبها من جميع وجوهها والتغلغل فيها إلى أقصى إمكانياتها، وشق أبعاد جديدة لها، واكتشاف ما يمكن أن تنطوي عليه من عناصر عقلية ومواد فكرية تساعدهم على صياغة وجهة نظرهم في الله والكون والحياة والمصير

)) ( [12] ) .

ومع هذا جمع العرب بين الفلسفة والعلم، والتأمل والتجربة، وأضافوا للعلم إضافات مهمة قائمة على الاستقراء والملاحظة ونقد المنطق الصوري الأرسطي، الذي يغلب عليه التجريد ومجافاة المحسوسات، كما نجد ذلك في كشوفات الجغرافيين وعلماء الطب والطبيعة، وما نقف عليه في مباحث ابن خلدون في علم التاريخ وعلم العمران ( [13] ) .

ص: 490

لقد أثرت هذه المثاقفة على الفكر العربي تأثيراً واضحاً لكنّ الغلبة كانت للثقافة العربيّة لأنها ثقافة غالبة وليست مغلوبة.

وفي أشدّ حالات الشقاق السياسي والدويلات المتناحرة في القرن الرابع الهجري، ونجاح الحملات الصليبية على الشام، ونجاح المغول في تدمير بغداد والشام بعد ذلك لم ينبهر العرب بالغزاة، لأن حضارة المغزو أعظم من حضارة الغازي، فكانت الهزيمة للجسد وليست للروح ( [14] ) وللجغرافيا وليست للتاريخ، وكانت الثقافة العربيّة تعيش ازدهاراً لا مثيل له، واستطاعت تجاوز المحنة، وكان كثيرٌ من عباقرة الثقافة العربيّة نتاجاً لتلك الحقبة وما تلاها أمثال المتنبي والمعري والفارابي وابن سينا وابن حزم وابن طفيل وابن رشد وعبد القاهر وابن جني وابن خلدون وغيرهم ( [15] ) .

لقد وُجدت آثار الثقافات الأخرى في تراثنا الفكري، ولكنها آثارٌ ذائبة في النسيج الثقافي، فهي أشبه ما تكون بالجداول الرقراقة التي تصب في نهر عظيم.

أما الذي حصل مع بداية القرن التاسع عشر الميلادي عقب دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 م فقد كان مختلفاً حيث حدث شرخ ثقافي هائل في الثقافة العربية وانقسم الناس إلى قسمين ((القسم الأول الذي أوجعته الهزيمة الجسدية فركز جهوده على تقوية الجسد العسكري الاقتصادي كيف؟ بالتوحد بالخصم الغالب، يأخذ سلاحه منه، بتقليده والأخذ عنه، بتحديث مجتمعنا على شاكلته

بدأ الأخذ المنبهر بالتكنلوجيا (ق 19) وانتهى بمفاهيم العلم

(ق 20) .

أما القسم الثاني: الأخفتُ صوتاً والأبعدُ عن النفوذ فكان القسم الذي أوجعته الهزيمة الروحية. فركز جهوده على بعث الروح والإحساس بالقيمة الذاتية. انعزل عن الخصم الغالب وخاصمه، وعكف على تراث السلف الصالح يحاول العثور على منابع القوة فيه)) ( [16] ) .

ص: 491

الانشقاق الثقافي وانكسار الروح والجسد ولد فئتين متصارعتين فئة منكفئة على ذاتها، وفئة مرتمية في أحضان الآخر، وكانت هذه الفئة هي الريح الهوجاء التي عصفت بالأمة وذلك من خلال المشروع الذي رسمه محمد علي باشا وذلك بإرسال البعثات العلمية إلى فرنسا عام 1826 م، وكان الشيخ حسن العطار وتلميذه رفاعة الطهطاوي من ضمن أفراد هذه البعثة، ونلحظ الانبهار بحضارة الغرب وثقافته في كتابي الطهطاوي “ تخليص الإبريز في تلخيص باريز ” و “ مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية ” ( [17] ) ، وتم بناء المعاهد ومصانع السلاح على النمط الغربي ( [18] ) .

فحصل الفصام الثقافي والانبهار بمنجزات الغرب في حداثته وتحديثه. وكان المبتعثون العرب كما عبّر المفكر مالك بن نبي يعيشون إمّا في “ مزابل الغرب ” وإمّا في “ مقابره ” ( [19] ) ، وهكذا عاشت الثقافة العربية بين فكرتين “ ميتة ” و “ مميتة ” ( [20] ) .

عاد المثقفون العرب يقدمون لنا الثقافة الغربية نموذجاً مثالياً يجب أن يحتذى، كما رأينا عند رفاعة الطهطاوي وأحمد لطفي السيد، وسلامة موسى، وطه حسين، ومحمود عزمي، وعلي عبد الرازق، ومنصور فهمي، وشبلي شميل، وفرح أنطون، وإلياس أبي شبكة. وقد ارتبط “ التغريب ” لدى هؤلاء المفكرين بالعداء لكل انتماء عربي وإسلامي وشرقي تاريخي أو ديني أو أدبي، والولاء للقومية المصرية أو الفرعونية أو ثقافة الأبيض المتوسط، وكان العداء للفصحى، ومعركة القديم والجديد، وفصل الدين عن الدولة بعض أقنعة التغريب المتعددة ( [21] ) .

فالتقدم عند هؤلاء على اختلاف مجالات طروحاتهم مرهون باستنساخ الثقافة الغربية والتماهي معها، وكانت النتيجة من هذه التبعية المقيتة والمثاقفة الذليلة اتساع الهوة الفاصلة بيننا وبين الغرب بدلاً من تجسير الفجوات وبناء القناطر.

ص: 492

وممّا عزّز هذا الانسلاخ وهذه المثاقفة غير المتكافئة كون القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين مهادَ ركودٍ حضاري وهزائم عسكرية مما أشعل فتيل الإحساس بالدونية والغبن الحضاري، وانطفاء الإحساس بالكرامة وقيم الانتماء، فضعفت المباديء في النفوس، وتحطمت الإرادة.

هذا الفراغ الحضاري في العالم الإسلامي الذي تقابله كتلة حضارية هائلة في الغرب أحدث خللاً في التوازن الاستراتيجي بين الثقافتين العربية الإسلامية والثقافة الغربية المسيحية، فعمدت الحضارة الغربية إلى تصدير ثقافتها عبر ترسانة إعلاميّة هائلة تضخ قيماً ثقافية تكرّس الاستعلاء والغَلَبة وتمارس إرهاباً فكرياً، وغسيلاً عقلياً منظماً يزلزل القيم، ويتلاعب بالعقول ابتداءً من دعايات الكوكاكولا، وانتهاءً بأفلام سلفستر ستالون، وبطولات الهكرز، ودراسات المستقبل ( [22] ) .

هذا الركود الحضاري وتلك الهزائم المتتالية كانا مناخاً مناسباً لنشوء أورام سرطانية ثارت على نظام الجسد الاجتماعي وبدأت تفتك بخلاياه ونسيجه الداخلي، فاستحالت الثقافة العربية إلى ساحة حرب أهليّة، وسجال مغالط، عطل قدراتها، وأفقدها القدرة على الاستبصار، وجرّها إلى صناعة ثنائيات متضادّة كالأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والرجعيّة والتقدميّة، والعقلانية والعرفانية، والذكورة والأنوثة وما إلى ذلك ( [23] ) .

وتحوّل المجتمع الثقافي إلى طوائف متنافية ينكر بعضها بعضاً. واشتغل المثقفون بالتجريح والاتهامات وتصيّد العثرات، والتنابز بتهم العمالة والزندقة، والتخلف والخنوع حتى أصبحت الثقافة العربيّة ثقافة شتائمية قوامها التنافي، وليس التنامي والتكامل ( [24] ) .

ص: 493

وهذا الانشقاق الثقافي الذي ولّدته المثاقفة مع الغرب لا يدّل على خطورة المثاقفة من حيث هي بحث عن المعرفة بقدر ما يدل على ضعف المؤسسات الثقافية في العالم العربي فالارتماء في أحضان الآخر، والانكفاء على الذات وجهان لقصور في الوسائل والغايات لدى أجهزة بناء المعرفة. الذين نادوا بالتغريب لم يجدوا في مناهج التعليم لديهم ما يحقق الرضا الثقافي ويبني الحصانة الذاتية ضد التلاشي والاستلاب، والذين آثروا التقوقع وغمرهم طوفان الانطفاء والتبلّد لم يجدوا في ما تلقوا من معارف منهجاً رشيداً يتجافى الرتابة والتكرار ويزرع الشغف بالمعرفة والبحث عن الحكمة الضالة، فكان القصور الذاتي سمة لكلا الفريقين. ((عجز عن اكتشاف الذات)) و ((خوف من الآخر)) .

الثقافة العربيّة المعاصرة “ ثقافة استنساخ ” للآخر أو للذات، والخروج من حال النسخ إلى حال الابتكار يحتاج إلى محاضن خاصة، ووسط اجتماعي حيّ، وهذا ما عجز عن تحقيقه العرب، ونجح في إيجاده اليابانيون لقد كانت ((الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان. فالمجتمعان قد تتلمذا سوية حوالي عام (1860) في مدرسة الحضارة الغربيّة.

واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم (فالأفكار المميتة) في الغرب لم تصرفها عن طريقها. فقد بقيت وفيّة لثقافتها، لتقاليدها، لماضيها

بينما المجتمع الإسلامي وبالرغم من الجهود الحميدة التي خصه بها التاريخ تحت اسم النهضة فإنه بعد قرن من الزمان ليس غير مجتمع ذي نموذج متخلف.

والواضح في النتيجة أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها)) ( [25] ) .

ص: 494

إن الأزمات والمحن هي “ المحفزات ” التي تنشط خلايا الثقافة، وتجدد دماءها كما حصل في تاريخ الأمة في القرن الرابع الهجري، وكما حدث بعد سقوط دولة الخلافة، وتداعي القوى الكبرى حيث هبّ دعاة الإصلاح الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربيّة، والشوكاني في اليمن، والأفغاني ومحمد عبده في مصر، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، والكواكبي في بلاد الشام ( [26] ) .

والثقافة العربية في أزماتها الماحقة منذ 1967 م كانت حالة نشاز، كانت شذوذاً عن القانون الحضاري، حيث لم ترتفع حمى المرض في جسد الأمة، فكانت قوى المناعة تغط في سبات عميق، مع أن العالم العربي يتثاقف مع الغرب، ويستهلك كل أدوات تحديثه ( [27] ) .

بين “ الارتماء ” و “ الانكفاء ” أين تكمن المثاقفة الراشدة، وما السبيل إلى تحقيقها؟!

“ المرتمون ” و “ المنكفئون ” كُلٌّ يدعي الأصالة، والانتماء. وكُلٌّ يرى في الآخر وجهاً من وجوه التخلف والانهزاميّة، وسبباً من أسباب تعثر الأمة في شهودها الثقافي الخلاق.

“ المرتمون ” لا يُقرون باستلابهم الثقافي وغربتهم الفكرية، و“ المنكفئون ” لا يعترفون بعجزهم وخوفهم من الجهاز المعرفي عند الغرب، فالأزمة تكمن في القدرة لدى الفريقين على اكتشاف الذات ونقدها، هناك استسلام مفعم بالطمأنينة في المعتقد والمنهج والمعرفة، وليس هناك رغبة في الاعتراف بالقصور الذاتي والنقص ((هذه الغبطة هي العائق عن اكتشاف الفرد لذاته لأنه لم يدرك أنه يعيش استلاباً كاملاً، فهو يتوهم أنه تام التفرد.. لذلك يندر في الناس من يخترق هذا العائق؛ لأنه أصلاً لا يعلم بوجوده فلا يحاول اكتشافه فضلاً عن اختراقه)) ( [28] ) .

ص: 495

إننا نؤمن إيماناً لا يداخله شك، أن الغرب يعلن لنا العداء، ويرى في الثقافة العربية الإسلامية خطراً ينعته الساسة والمفكرون الغربيون “ بالخطر الأخضر ” ولهذا يمارس الغرب بمراكز دراساته الاستراتيجية، وترساناته الإعلامية ضغطاً هائلاً على مراكز الحس في الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ويسعى جاهداً لتفكيك بنيتها، والتشكيك في مرجعيتها، ويمجد هتك نسيجها الداخلي، ويلتف حول الخارجين على قيمها الثابتة. كما حدث مع طه حسين، وسلمان رشدي، ونصر أبو زيد، وفاطمة المرنيسي، ومحمد شكري، وأدونيس، ومحمد أركون، ويمارس قمعاً ثقافياً لمن يشب عن الطوق كما حدث مع محمد إقبال، وعبد الوهاب المسيري، وجارودي*.

وليست مؤسسة فرانكلين، والمنظمة العالمية لحرية الثقافة، وأندية الروتاري ورابطة مقاومة الهتلرية، ومجلة الكاتب المصري وحوار وشعر إلاّ نماذج لمسخ الثقافة العربيّة، واستقطاب مبدعيها إلى جبهاتها.

ونؤمن إيماناً تاماً أن الثقافة العربيّة تملك تصوّراً كونيّاً شاملاً للوجود من خلال مرجعيّة قطعية الثبوت هي القرآن الكريم والسنة النبوية، وأن الخيرية التي كنا بسببها أعظم الأمم، والأمانة التي حملناها، والاستخلاف الذي ينتظرنا لا ترضى جميعاً لنا هذا السبات الثقافي، وهذه الغيبوبة الفكريّة، ونؤمن كذلك أننا نعيش حالة انقراضٍ ثقافي يحتاج إلى تدخل عاجل ومراجعة دؤوبة ونقد ذاتي لا يتوقف ونؤمن أن الغرب حقق من خلال مثاقفته معنا سبقاً حضارياً وثقافياً لا مثيل له، يوجب علينا أن نفيد من تجاربه، ونتثاقف معه فنعيش العصر ونحييه ونحياه في آنٍ واحد.

المثاقفة النقدية:

ص: 496

منذ منتصف القرن العشرين الميلادي والنقد العربي يعيش انفتاحاً على النقد الغربي بكافة تحولاته ابتداءً بمناهج الحتمية العلمية (المنهج التاريخي - والمنهج النفسي - والمنهج الاجتماعي) ومروراً بالأسلوبية والنقد الجديد وانتهاءً باللسانيات ونظريّة التلقي والنقد النسائي والنقد الثقافي.

وهذه المناهج تختلف في إجراءاتها وتصوّراتها وممارساتها، فإذا كانت مناهج الحتمية العلميّة تتعامل فيما بينها مع النص الأدبي على أنه وثيقة تاريخية أو نفسية أو اجتماعية وتقف عند حدود المحيط الخارجي للنص، فلا نجد في المنهج التاريخي إلاّ أسماء الناس والأماكن، ولا نلمس في المنهج النفسي إلا عقد الكاتب وحصاراته ولا نستدل من المنهج الاجتماعي إلاّ على أحوال الناس وسلوكياتهم ومستوى المعيشة في المجتمع، فإن الأسلوبيّة ركزت على النص وأولته اهتماماً خاصاً، ما لبث عند أصحاب النقد الجديد أن تحول إلى بنية مغلقة على ذاتها، فإذا كان النقد عند أصحاب الحتمية العلميّة مؤلفاً بلا نصّ، فقد أصبح عند النقد الجديد نصاً بلا مؤلف ( [29] ) .

وجاءت البنيوية لتجمع بين الطرفين وتضيف طرفاً ثالثاً هو المتلقي في البحث عن أنظمة النص ووحداته مع التركيز على النص الأدبي، وما لبثت التفكيكيّة أن أماتت المؤلف، والنص، واستبقت المتلقي لتجعله مبدعاً يكتب نصاً موازياً للنص المكتوب ( [30] ) .

وقد حاول الدكتور محمود أمين العالم أن يحصر لنا اتجاهات المثاقفة مع هذه المناهج النقدية في أربع مدارس تجمع عدداً من المناهج المختلفة في طرائق الإجراء المتفقة في جذورها الأبستمولوجية والفلسفية، هي:

1 -

المدرسة الوجدانية التي تضم النظرية الرومانتيكية كما في ممارسات مدرسة الديوان، ومدرسة أبولو، وجهود جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وتطبيقات المنهج النفسي عند أحمد محمد خلف الله، والنويهي، والخولي، ومصطفى سويف، ويحيى الرخاوي.

ص: 497

2 -

مدرسة الذوق الفني كما تجلّت في نقد طه حسين الذي بدأه تقليدياً ثم متأثراً بمناهج الحتمية العلمية التاريخي عند هيبولت تين، ثم الجمع بين منهج البحث العلمي والتذوق الفني بعد ذلك وكما نجد لدى محمد مندور - في نظراته النقدية

3 -

المدرسة النقدية الجدلية: التي تتخذ من مفهوم الانعكاس أساساً في فحص العمل الأدبي، كما في كتابات عصام حفني ناصف، وسلامة موسى، ومجلة الطليعة السورية، وعمر فاخوري، ومفيد الشوباشي، ورئيف خوري. ثم مجلة الثقافة الجديدة، وحسين مروّه، والشرقاوي، والخميسي، ولويس عوض، ومحمد دكروب، وصلاح حافظ، وعبد العظيم أنيس، ومحمود العالم، وعبد المحسن طه بدر، وغالي شكري

الخ

ثم في أتباع البينوية التكوينية عند (غولدمان) أمثال: جابر عصفور، ومحمد بنّيس، ومحمد برادة، وأتباع باختين أمثال: يُمنى العيد، وسيد البحراوي، وأمينة رشيد.

4 -

المدرسة النقديّة الوضعيّة والبنيويّة كما في كتابات أدونيس، وصلاح فضل، وفريال غزول، وسيزا قاسم، وخالدة سعيد، وكمال أبو ديب، وعبد الفتاح كليطو، والغذامي، وعبد الكريم الخطيبي ( [31] ) .

وفي نهاية عرضه يسجل ملاحظات مهمة أهمها أن: ((التصورات الأساسيّة لهذا الفكر النقدي صدى لتصورات ومفاهيم نقدية أوروبيّة، وإن كانت استجابة في أغلب الأحيان لاحتياجات اجتماعية موضوعية أسهمت في استيعابها وتشكيلها تشكيلاً خاصاً يتلاءم وهذه الاحتاجات، ويعبر عنها بمستوى آخر)) ( [32] ) .

ص: 498

* هذه المناهج النقديّة التي استنسخها النقد العربي الحديث نتاج خصوصيّة ثقافية، وتحوّلات فكرية واجتماعية مغايرة، ولهذا لا يمكن تجريدها من خصوصيتها الثقافية وحمولاتها الفكريّة، فهي ((بوصفها نظريات أو مقاربات أو أدوات بحثية تحليلية للأدب تحمل مضامين ثقافية تجعلها متلائمة مع بيئتها الحضارية الغربية، وأن الناقد غير الغربي، ونقصد به هنا الناقد الذي يحمل ثقافة عربية إسلامية مضطر إن هو أراد تطبيق أيٍّ من تلك المناهج على أدب أنتجته تلك الثقافة العربية إلى سلوك أحد سبيلين:

1 -

أن يطبق تلك المناهج كما هي، وبالتالي يتبنى سواءً أراد أم لم يرد المضامين والتوجهات الفكرية التي شكلت تلك المناهج، ومثل ذلك التطبيق سيؤدي في الأغلب إلى إساءة فهم المادة الأدبية موضوع التحليل النقدي.

2 -

أن يُحدث تغييراً جوهرياً في المنهج الغربي الذي يطبّقه إلى حد يجعل من الصعب القول بأن المنهج المطبق هو المنهج الأصلي ذاته.

أما القول بإمكانية فصل المنهج عن سياقه دون إحداث أية تغييرات، أو بعد إدخال تعديلات طفيفة، فهو نوع من الوهم الذي سرعان ما يتكشف تحت محك التحليل التاريخي للخلفية الثقافية الفلسفية التي تحملها تلك المناهج)) ( [33] ) .

لكننا نجد عدداً من النقاد العرب يرفض هذا التصوّر، ويرى إمكانية الفصل بين المنهج النقدي ومضمونه الفلسفي، فعبد الله العروي مثلاً يقول:

((يمكن أن ترفض التاريخانية أو البنيويّة كفلسفة، وتوظف كمنهج للتحليل في حدود معيّنة)) ( [34] ) ويذهب أبو ديب إلى أن البينوية ليست فلسفة ((لكنها طريقة في الرؤية والمنهج ومعاينة الوجود)) ( [35] ) .

وهذا المنطق التبريري لا يثبت أمام البحث العلمي وقبل ذلك أمام صيرورة الأفكار، وطبيعة الأشياء، فالمناهج النقدية لا يمكن أن تنشأ من فراغ، وما تحولات الخطاب النقدي الغربي إلا نتيجة لكشوفات العلوم التجريبية، وتراكمات البنية الثقافيّة.

ص: 499

فالحتمية العلمية ثمرة من ثمار “ المادية ” التي كانت تشكل عصب الفكر الغربي في القرن التاسع عشر في الفيزياء والفسيولوجيا والفلسفة الوضعيّة.

المادية هي التي تفسر لنا حتمية العلاقة بين النص ومحيطه الخارجي، وتربط بين الواقع والإبداع، فالإبداع انعكاس لعلاقات الإنتاج، ونتيجة حتمية للبيئة والمناخ والعرق ( [36] ) .

وهي التي تكشف لنا منهج السلوكية، والتحليل النفسي لدراسة النفس الإنسانية، فالحقيقة كل ما هو مادي يمكن إدراكه بإحدى الحواس، ولأن العقل لا يمكن إدراكه بإحدى الحواس قامت السلوكية بدراسة السلوك متخذة من نظرية الفعل المنعكس الشرطي سنداً لها. وذهبت مدرسة التحليل النفسي إلى أن الشعور لا أثر له في سلوك الإنسان، فاللاشعور هو الذي يحدد سلوكيات الإنسان، ويحكم حركته في الحياة. فالشخصية مثل كتلة الجليد العائمة لا يعلو منها إلا أقلها أما معظمها فهو مغمور بالماء ( [37] ) .

وجاءت فيزياء القرن العشرين لتنقض هذه المسلمات التي قامت في ظلالها تلك المناهج فتحطمت فيزياء نيوتن على يدي إنشتاين ونظريته في النسبية التي أثبتت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا تُعرف إلا بالمواقف الشخصية للمراقب، وليس بالحياد كما أقر نيوتن. وبناءً على هذا اكتشف الغربيون أن الميكانزم الآلي لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرّس لخدمة البشر يُنظر من خلاله إلى الإنسان على أنه حيوان أو آلة صماء، فهو قوّة واعية يجرّب ويقرّر ويتصرّف ( [38] ) .

وجاءت الشكلانية والبنيويّة كنتيجة من نتائج العلم التجريبي الذي لا يرى للذات دوراً في معرفة العالم، لأنه لا يمكن إخضاعها لمبادئ القياس التجريبي فكان محتوى اللغة هو اللغة؛ لأن اللغة يمكن إخضاعها وقياسها بالمعايير التجريبية ( [39] ) . وهذا يفسر لنا الاهتمام بالنص الأدبي عند هؤلاء.

ص: 500