الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علمت أن القول بوقوع واحدة من الثلاث على الحائض مبني على القول بأن الثلاث لا تقع جملة واحدة، بل تقع منها واحدة، أو لا يقع منها شيء أصلا، والمَبْنِيُّ والمُبْنَى عليه باطلان، وليس كل ما وجد في كتاب يجوز نقله والاعتماد عليه، ولا الإفتاء والقضاء به، وإنما يفتى بما تواردت عليه كتب المذهب، وعلمت صحته، وعدم تخطئة قائله، وإلا كان الناقل كجارف سيل، أو حاطب ليل يحمل الأفعى وهو لا يدرى، خصوصا من يطالع كتب الفتاوى، ويفتي منها قبل أن يمتزج الفقه بدمه ولحمه، ويصرف فيه جل همته وعزمه، فإن خطأه يكون أكثر من صوابه، ولا يحل لمن يعلم حاله الاعتماد على جوابه.
ولهذا قال الإمام قاضي القضاة: شمس الدين الحريري أحد شراح الهداية في كتابه " إيضاح الاستدلال على إبطال الاستبدال"، نقلا عن الإمام صدر الدين سليمان: إن هذه الفتاوى هي اختيارات المشايخ فلا تعارض كتب المذهب، قال: وكذا كان يقول غيره من مشايخنا، وبه أقول انتهى.
(وقال العلامة الشيخ خير الدين الرملي في مسائل شتى من فتاويه الخيرية ما نصه: ولا شك أن معرفة راجح المختلف فيه من مرجوحه، ومراتبه قوة وضعفا هو نهاية آمال المشمرين في تحصيل العلم، فالمفروض على المفتي والقاضي التثبت في الجواب، وعدم المجازفة فيهما؛ خوفا من الافتراء على الله بتحريم حلال وضده، ويحرم اتباع الهوى، والتشهي، والميل إلى المال الذي هو الداهية الكبرى والمصيبة العظمى؛ فإن ذلك أمر عظيم لا يتجاسر عليه إلا كل جاهل شقي. انتهى كلام الخيرية، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(قال ذلك بلسانه، وكتبه ببنانه الفقير إلى عفو رب العالمين محمد أمين بن عمر عابدين، خادم العلم الشريف بدمشق الشام عفا عنه الملك السلام.
(وسئلت) في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف: عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبًا
من مراكب أهل الحرب؛ لحمل بضائعهم وتجاراتهم، ويدفعون للمراكبي الحربي الأجرة المشروطة، وتارة يدفعون له مبلغا زائدا على الأجرة؛ لحفظ البضائع بشرط ضمان ما يأخذه أهل الحرب منها، وأنه إن أخذوا منه شيئا فهو ضامن لصاحبها جميع قيمة ذلك، فاستأجر رجل من التجار رجلا حربيا كذلك، ودفع له مبلغا تراضيا عليه، على أنه إن أخذ أهل الحرب منه شيئا من تلك البضاعة يكون ضامنا لجميع ما يأخذونه، فسافر بمركبه، فأخذه منه بعض القطاع في البحر من أهل الحرب، فهل يلزمه ضمان ما التزم حفظه، وضمانه بالعوض أم لا؟
(فأجبت): الذي يظهر من كلامهم عدم لزوم الضمان؛ لأن ذلك المراكبي أجير
مشترك، والخلاف في ضمان الأجير المشترك مشهور، والمذهب أنه لا يضمن ما هلك في يده، وإن شرط عليه الضمان، وبه يفتى كما في التنوير، ثم إذا هلك ما بيده بلا صنع منه، ولا يمكنه دفعه والاحتراز عنه، كالحرق، والغرق، وخروج قطاع الطريق، والمكابرين لا يضمن بالاتفاق، لكنه في مسألتنا: لما أخذ أجرة على الحفظ بشرط الضمان صار بمنزلة المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة، فإنها إذا هلكت يضمن.
والفرق بينه وبين الأجير المشترك: أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل، والحفظ واجب عليه تبعا. أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصودا ببدل؛ فلذا ضمن، كما صرح بذلك الإمام فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير، وهنا لما أخذ البدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا، صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل، فيضمن لكن يبقى النظر في أنه هل يضمن مطلقا، أو فيما يمكن الاحتراز عنه؟
والذي يظهر الثاني؛ لاتفاقهم في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك؛ لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه، وقد صرحوا بأن إغارة القطاع المكابرين مما لا يمكن الاحتراز عنه، فلا يضمن في صورتها حيث كان أخذ البضاعة من القطاع المكابرين الذين لا يمكن مدافعتهم.
(لكن ذكر في التنوير، قبيل باب كفالة الرجلين، قال لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنه آمن، فسلك، وأخذ ماله لم يضمن، ولو قال: إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن ضمن، وعلله في الدر المختار عن الدرر بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا انتهى.
أي بخلاف المسألة الأولى، فإنه لا يضمن؛ لأنه لم يصرح بقوله: فأنا ضامن، وهذا إذا كان المال مع صاحبه، وفي صورتنا: المال مع الأجير، وقد ضمن للمستأجر صفة السلامة نصا، فيقتضي ضمانه بالأولى، وإن لم يكن الاحتراز لكن الظاهر أن مسألة التغرير المذكورة مشروطة بما إذا كان الضامن عالما بخطر الطريق؛ ليتحقق كونه غارا وإلا فلا تغرير.
وسياق المسألة في جامع الفصولين، في فصل الضمانات يدل على ما قلنا، فإنه نقل عن فتاوى ظهير الدين قال له: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك، فأخذه اللصوص لا يضمن، ولو قال: لو مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن، والمسألة بحالها ضمن، فصار الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعارضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور، فصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو، فجعله فيه، فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به يضمن؛ إذ غره في ضمن العقد، وهو يقتضي السلامة. انتهى.
(وحاصله: أن الغار يضمن إذا صرح بالضمان، أو كان التغرير في ضمن عقد المعاوضة، وإن لم يصرح بالضمان، كما في مسألة الطحان، وقد صرح