الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الصفات التي اختلف فيها المتكلمون]
ثم إننا نتكلم على الصفات التي اختلف فيها المتكلمون، هل هي صفات فعل أو صفات معنى، والتحقيق أنها صفات معان قائمة بذات الله جل وعلا، كالرأفة والرحمة والحلم. فنجده جل وعلا وصف نفسه بأنه رؤوف رحيم، قال:{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل / 7] ووصف بعض المخلوقين بذلك، قال في نبينا صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
وصف نفسه بالحلم، قال:{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} [الحج: 59]{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة / 235]{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263].
وصف بعض المخلوقين بالحلم، قال:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 101]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة / 114].
وصف نفسه بالمغفرة قال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة / 173]{فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة / 284] ووصف بعض المخلوقين بالمغفرة، قال:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة / 263]{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ (14)} [الجاثية: 14]. ولا شك أن ما وُصف به خالق السموات والأرض من هذه الصفات أنه حق لائق بكماله وجلاله لا يجوز أن يُنْفى خوفًا من التشبيه بالخلق. وأن ما
وصف به الخلق من هذه الصفات حق مناسب لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.
وعلى كل حال فلا يجوز للإنسان أن يتنطع إلى وصفٍ أثبته الله جل وعلا لنفسه، فينفي هذا الوصف عن الله متهجِّمًا على رب السموات والأرض، مُدَّعيًا عليه أن هذا الوصف الذي تمَدَّح به أنه لا يليق به، وأنه هو ينفيه عنه، ويأتيه بالكمال من كيسه الخاص، فهذا جنون وهوس، ولا يذهب إليه إلا من طمس الله بصائرهم.
وسنضرب لكم لهذا مثالًا يتبين به الكل، لأن مثالًا واحدًا من آيات الصفات ينسحب على الجميع، إذ لا فرق بين الصفات، لأن الموصوف بها واحد. وهو جل وعلا لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من صفاته ألبتة.
فهذه صفة الاستواء التي كثر فيها الخوض، ونفاها كثير من الناس بأقْيِسةٍ منطقية، وأدلة جدلية سنتكلم في آخر البحث على وجوه إبطالها كلامًا يخص الذين درسوا المنطق والجدل، ليتبينوا كيف استدل أولئك بالباطل، وأبطلوا به الحق، وأحقوا به الباطل.
فهذه صفة الاستواء تجرَّأ الآلاف ممن يدَّعون الإسلام ونفوها عن رب السموات والأرض بأدلة منطقية، يركبون فيها قياسًا استثنائيًا مركبًا من شرطية متصلة لزومية، يستثنون فيه نقيض التالي، ينتجون في زعمهم الباطل نقيض المقدم، بناءً على أن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم.
فيقولون مثلًا: لو كان مستويًا على عرشه -والعرش مخلوق- لكان مشابهًا للخلق في استوائه على العرش.
أولًا: اعلموا أن هذه الصفة التي هي صفة الاستواء هي صفة كمال وجلال، تمدَّحَ بها رب السموات والأرض. والقرينة على أنها صفة كمال وجلال: أن الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلا مصحوبةً بما يبهر العقول من صفة كماله وجلاله التي هي منه. وسنضرب لكم مثلًا لذلك بذكر الآيات:
1 -
فأول سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء سورة الأعراف، قال:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (54)} [الأعراف: 54] فهل لأحد أن ينفي بعض هذه الصفات الدالة على الكمال والجلال.
2 -
فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
3 -
الموضع الثالث في سورة الرعد، في قوله جل وعلا:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَينِ اثْنَينِ يُغْشِي اللَّيلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاورَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [رعد / 2 - 4] وفي القراءة الأخرى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٍ وَغَيرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4] وفي القراءة الأخرى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٍ وَغَيرُ صِنْوَانٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال؟!
4 -
الموضع الرابع في سورة طه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَينَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه / 1 - 8]. فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال؟!
5 -
الموضع الخامس في سورة الفرقان، في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان / 58 - 59] فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال؟!
6 -
الموضع السادس في سورة السجدة في قوله جل وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة / 3 - 9] فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من غايات الكمال والجلال؟!
7 -
الموضع السابع في سورة الحديد في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد / 3 - 4].
فالشاهد أن هذه الصفات التي يظن الجاهلون أنها صفة نقص، ويتهجمون على رب السموات والأرض بأنه وصف نفسه صفة نقص. ثم يسببون عن هذا أن ينفوها ويؤولوها، مع أن الله جل وعلا تمَدَّح بها
وجعلها من صفات الكمال والجلال، مقرونة بما يبهر العقول من صفات الكمال والجلال. هذا يدل على جهل وهَوَس من ينفي بعض صفات الله جل وعلا بالتأويل.
ثم اعلموا أن هذا الشيء الذي يقال له: التأويل، الذي فَتَنَ اللَّهُ به الخلق، وضل به الآلاف المؤلَّفة من هذه الأمة، اعلموا أن التأويل يطلق في الاصطلاح مشتركًا بين ثلاثة معان:
1 -
يطلق على ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال. وهذا هو معناه في القرآن، نحو {ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلًا (59)} [النساء / 59 {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْويلُهُ} [يونس / 39] {يَوْمَ يَأْتِي تَأْويلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف / 53] أي: ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال.
2 -
ويطلق التأويل على التفسير، وهذا قول معروف
(1)
كقول ابن جرير: القول في تأويل قوله تعالى كذا، أي تفسيره.
3 -
أما في اصطلاح الأصوليين؛ فالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل.
وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، له عند علماء الأصول ثلاث حالات:
أ- إما أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة، وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول لا نزاع فيه. ومثال هذا
(1)
في الأصل: "تأويل"، وهو سبق لسان.
النوع: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجار أحق بصقبه" فظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار. وحَمْل هذا الحديث على خصوص الشريك المقاسم حَمْلٌ للفظ على محتمل مرجوحٍ غير ظاهر متبادر، إلّا أن حديث جابر الصحيح:"فإذا ضُربت الحدود وصُرِفت الطرق فلا شُفْعة" دل على أن المراد بالجار الذي هو أحق بصقبه خصوص الشريك المقاسم. فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل واضح يجب الرجوع إليه من كتاب وسنة. وهذا تأويل يسمى: تأويلًا صحيحًا وتأويلًا قريبًا، ولا مانع منه إذا دل عليه النص.
ب- الثاني هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلًا، وهو في نفس الأمر ليس بدليل. فهذا يسمى: تأويلًا بعيدًا. ومثَّلَ له بعضُ العلماء بتأويل الإمام أبي حنيفة رحمه الله لفظ "المرأة" في قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل".
قالوا: حَمْل هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد، لأنه صرفٌ للفظ عن ظاهره المتبادر منه؛ لأن "امرأة" و"أي"
(1)
صيغة عموم. وأكدت صيغة العموم بـ "ما" المؤيدة للتوكيد، فحَمْل هذا على صورة نادرة. هي المكاتبة هذا حَمْلٌ للفظ على غير ظاهر. لغير دليل جازم يجب الرجوع إليه.
ج- أما صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل: فهذا لا يسمى تأويلًا في
(1)
كذا في الأصل، وأثبتها في المطبوعة:"لأن "أي" في قوله" أيما امرأة".
الاصطلاح، وإنما يقول له الأصوليون: لعبًا، لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن هذا تفسير غلاة الروافض قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة / 67] قالوا: عائشة!.
ومن هذا النوع: صَرْفُ آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان، كقولهم "استوى" بمعنى "استولى"، فهذا لا يدخل في اسم التأويل، لأنه لا دليل يدل عليه ألبتة. وإنما يسمى في اصطلاح أهل الأصول: لعبًا، لأنه تلاعب بكتاب الله جل وعلا من غير دليل ولا مستند. فهذا النوع لا يجوز؛ لأنه تهجُّم على كلام رب العالمين. والقاعدة المعروفة عند علماء السلف: أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله، ولا سنة رسوله، عن ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
وكل هذا الشرّ يا إخوان -اسمعوا نصيحةَ مشفق- كل هذا الشرّ إنما جاء من مسألة، وهي نجس القلب وتلطخه وتنجسّه بأقذار التشبيه. فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفةً من صفات الكمال أثنى الله بها على نفسه، كنزوله إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير، وكاستوائه على عرشه، وكمجيئه يوم القيامة، وغير ذلك من صفات الكمال والجلال، أول ما يخطر في ذهن المسكين أن هذه صفةٌ تشبه صفة الخلق، فيكون قلبه متنجِّسًا بأقذار التشبيه، لا يقدر الله حق قدره، ولا يعظم الله حق عظمته، حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق. فيكون مشبِّهًا أولًا نجسَ القلب متقذِّرَه بأقذار التشبيه. فيدعوه شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق جل وعلا
عنه، بادعاء أنها تشبه صفة المخلوق. فيكون مشبهًا أولًا، معطلًا ثانيًا. ضالًّا ابتداءً وانتهاءً، متهجِّمًا على رب العالمين، بنَفْي صفته عنه بادعاء أن تلك الصفي لا تليق.
واعلموا أن هنا قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتدُّ به من أهل العلم، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا سيما في العقائد. ولا سيما لو مشينا على فرضهم الباطل، أن ظاهر آيات الصفات الكفر، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول الاستواء بـ "الاستيلاء"، ولم يؤول شيئًا من هذه التأويلات. ولو كان المراد بها هذه التأويلات لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها؛ لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
فالحاصل أنه يجب على كلِّ مسلم أن يعتقد هذا الاعتقاد الذي يحل جميِع الشُّبَه، ويجيبُ عن جميع الأسئلة= أن الإنسان إذا سمع وصفًا وصَفَ به خالقُ السموات والأرض نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فليمتلأ صدْرُه من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين. فيكون القلب منزِّهًا معظِّمًا له جل وعلا، غير متنجس بأقذار التشبيه. فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق بصفات الله التي تمَدَّح بها، وأثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، على غرار {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى / 11] والشرُّ كل الشرِّ في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى
الكاذبة الفاجرة الخائنة.
ولا بد في هذا المقام من نُقَط يتنبه لها طالب العلم.
أولًا: أن يعلم طالب العلم أن جميع الصفات من باب واحد، إذ لا فرق بينها ألبتة؛ لأن الموصوف بها واحد وهو جل وعلا لا يشبه الخلق في شيء من صفاتهم ألبتة. فكما أنكم أثبتم له جل وعلا سمعًا وبصرًا لائقين بكماله وجلاله لا يشبهان شيئًا من أسماع الحوادث ولا أبصارهم، فكذلك يلزم أن تُجْروا هذا بعينه في صفة الاستواء والنزول والمجيء، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال التي أثنى الله بها على نفسه.
واعلموا أن ربَّ السموات والأرض يستحيل عقلًا أن يصف نفسه بما يلزمه محذور أو يلزمه محال أو يؤدي إلى نقص، كل ذلك مستحيل عقلًا. فإن الله لا يصف نفسه إلا بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال، ما يقطع جميع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، على حد قوله:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].
الثاني: أن تعلموا أن الصفات والذات من باب واحد، فكما أننا نثبت ذات الله جل وعلا إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية مكيفة محدَّدة، فكذلك نثبت لهذه الذات الكريمة المقدسة صفات إثبات إيمانٍ ووجود لا إثبات كيفية وتحديد.
واعلموا أن آيات الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المتشابه
وهذا من جهةٍ غلط، ومن جهةٍ قد يسوغ، كما بينه الإمام مالك بن أنس. أما المعاني فهي معروفة عند العرب كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله:"الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة" كذلك يقال في النزول: النزول غير مجهول، والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة. واطْرُدْه في جميع الصفات؛ لأن هذه الصفات معروفة عند العرب، إلا أن ما وُصِفَ به خالق السموات والأرض منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئًا من صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق جل وعلا حق، والمخلوقون لهم ذوات، وذات الخالق جل وعلا أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئًا من ذوات
(1)
المخلوقين.
فعلى كل حال: الشرُّ كلُّ الشرِّ في تشبيه الخالق بالمخلوق، وتنجيس القلوب بقذر التشبيه. فالإنسان المسلم إذا سمع صفة وُصِفَ بها الله أول ما يجب عليه أن يعتقد أن تلك الصفة بالغة من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه، على نحو:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} .
وهنا سؤال لا بد من تحقيقه لطالب العلم، أولًا: اعرفوا أن اللفظ -المقرر في الأصول-: أنه إذا دل على معنى لا يحتمل غيره هذا يسمونه: "نصًّا"، كقوله مثلًا:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة / 196]. فإذا
(1)
الأصل: صفات.
كان يحتمل معنيين فلا يخلو من حالتين؛ إما أن يكون أظهر في أحد الاحتمالين من الآخر، إما أن يتساوى بينهما. فإن كان الاحتمال يتساوى بينهما فهذا الذي يسمى في الاصطلاح:"المجمل" كما لو قلت: "عدا اللصوص البارحة على عين زيد" فإنه يحتمل أن تكون عينه الباصرة عَوَّروها، أو عينه الجارية غَوَّروها، أو عينه ذهبَه وفضَّتَه سرقوها. فهذا مجمل. وحكم المجمل أن يُتَوَقَّفَ عنه إلا بدليل على التفصيل. أما إذا كان نصًّا صريحًا فالنص يُعْمَل به ولا يُعْدَل عنه إلا بثبوت النسخ. أما إذا كان أظهر في أحد الاحتمالين فهو المسمى بـ "الظاهر"، ومقابله يسمى:"محتملًا مرجوحًا"، والظاهر يجب الحمل عليه إلا لدليل صارف عنه، كما لو قلت:"رأيت أسدًا" فهذا مثلًا ظاهر في الحيوان المفترس، محتمل للرجل الشجاع.
إذًا فنقول: فالظاهر المتبادر من آيات الصفات من نحو قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ} [الفتح / 10]، وقوله في صفية النزول وصفية المجيء وما جرى مجرى ذلك، هل نقول: ما الظاهر المتبادر من هذه الصفة أهو مشابهة الخلق، حتى يجب علينا أن نؤول ونصرفه عن ظاهره؟ أو ظاهرها المتبادر منها تنزيه رب السموات والأرض حتى يجب علينا أن نقره على الظاهر من التنزيه؟
الجواب: أن كل وصف أُسْنِد إلى رب السموات والأرض فظاهره المتبادر منه عند كل مسلم هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق. فإقراره على ظاهره هو الحق، وهو تنزيه رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق في شيء من صفاته. وهل ينكر عاقل أن المتبادر