الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب تفاوت شروط الرواية بين المحدثين وكتاب التأريخ والسير:
إذا عرفنا شروط قبول الرواية – ولو إجمالاً – عند المحدثين، فلعلنا نتلمس أسباب تفاوت المعايير بين المصنفين في الحديث النبوي والمصنفين في السير والتأريخ، وهي كما سيرى القارئ بعضها متعلق ببعض، ومرتبط به، ومبني عليه، لكن التقسيم الفني لا يمنع من تفريقها وتنويعها.
أول الأسباب – في نظري – وأولاها هو الغرض من التصنيف والجمع، فالمحدثون غرضهم جمع الأدلة التي يمكن أن تستنبط منها الأحكام الشرعية المختلفة، ومن ذلك ما يدخل تحت مسمى السيرة النبوية، وعادة أن من يريد الاستدلال على أمر فإنه لا يورد له إلا ما كان مقبولاً عنده، أو صالحاً للانجبار في نظره على الأقل، أما المصنفون في السيرة فإن اهتمامهم بالسيرة أشمل وأوسع، فيهمهم أن يجمعوا فيها أموراً كثيرة لا تشغل - عادة - بال المحدثين، ومن ذلك مثلاً تحديد مواقع الغزوات جغرافياً، وتواريخها، وأسماء من حضرها، وقبائلهم وأسنانهم، وخيلهم ومراكبهم، وتفاصيل أخرى دقيقة لا ينبني على أكثرها حكم شرعي.
والأمر الثاني: - مبنيٌ على السابق - وهو الشيوخ الذين أخذ عنهم كل من الطائفتين، ودرجة كل منهم، فتلك التفاصيل والجزئيات اليسيرة، إذا لم يجدها المحدث بإسناد يرضاه ربما زهد في أخذها عن ذلك الشيخ الذي يرويها له، وربما أخذها عنه لكنه أهمل روايتها فيما بعد، كما أن كثيراً من الأخبار والمعلومات ما يكون متداولاً بين الناس، وربما كان مشهوراً عندهم، لكنهم
لا يجدون له إسناداً متصلاً أو صحيحاً، فالإخباري لا يقف عند هذه الشروط التي تفقده كثيراً من مصادره، ومادته العلمية.
كما أن كثيراً من الأخبار التي يرويها أولئك الشيوخ المجهولون – أو المجروحون - كثيراً ما تكون غريبة ونادرة، وإذا كان الناس عامة يميلون إلى سماع الغريب، فإن طالب العلم أحرص على حمل الغريب وروايته، ليتفرد عن أقرانه بما ليس عندهم، لكنه حينئذٍ يكون عرضة للاتهام، وربما جُرِحَ لذلك، وخاصة إذا أكثر منه، قال الخطيب البغدادي:" وأكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف
…
" (1) .
الأمر الثالث: وهو الشيوخ الذين روى عنهم كل من الطائفتين – وعبرت هنا بالرواية وليس الأخذ، لأن الأخذ المجرد عن الشيخ الضعيف لا يضر الراوي إذا لم يرو عنه – ذلك أن الراوي يتأثر توثيقاً وتجريحاً – عادة - بمن يروي عنه، ولذا ليس له أن يروي إلا عن ثقة مقبول الرواية، غير متهم في دينه ولا حديثه، ومن هنا رأينا غالب المحدثين يسمعون من كل أحد، لكنهم عند الرواية ينتقون شيوخهم الذين يروون عنهم، ويزهدون في الرواية عن المجروحين والمجهولين الذين لا يعرفون، من ذلك قول أبي حاتم الرازي:" إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش " قال العراقي: كأنه أراد؛ اكتب الفائدة ممن سمعتها، ولا تؤخر حتى تنظر هل هو أهلٌ للأخذ عنه أم لا؟ فربما فات ذلك بموته أو سفره أو غير ذلك، فإذا كان وقت الرواية أو العمل ففتش حينئذ،
(1) الكفاية ص 140.
وقال السخاوي:" غير أنه يغتفر في الطلب ما لا يغتفر في الأداء
…
" انتهى (1) .
والناظر في شيوخ كل من الفريقين يجد بوناً شاسعاً، فأهل السير أكثروا الرواية عن المجهولين والمجروحين، ويكفي أن نطالع كتاباً من كتبهم لتجد هذا الأمر واضحاً، ويكفي أن تراجع شيوخ الواقدي لتعلم صدق هذا الأمر، بخلاف غالب المحدثين الذين يعتنون بانتقاء الأسانيد والشيوخ.
والرابع: كثرة الأحاديث التي انفرد بها المصنفون في التأريخ والسير، وغرابتها، وهذا مما يؤثر عادة في صاحبه، ذلك أن كثرة الأخبار الغريبة في حديث الراوي سبب من أسباب ضعفه، قال مالك: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وقال عبد الرزاق: كنا نرى أن غريب الحديث خيٌر فإذا هو شرٌ، وقال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء، وعن أبي يوسف القاضي قال: من اتبع غريب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق (2) .
بل إن الراوي الثقة إذا ذهب إلى غير بلده استحب له أن يتجنب رواية الغرائب، حتى لا يتهمه أولئك بالكذب، لأنهم قد لا يعرفونه، ولا يعلمون صدقه وثقته كما يعرفه أهل بلده، فإذا سمعوا منه تلك الغرائب ربما اتهموه بالتزيد والكذب، أو بالغفلة والخطأ، أخرج البخاري في صحيحه عن
(1) فتح المغيث 2/73، وتدريب الراوي 2/148.
(2)
الكفاية في علم الرواية ص 140-142.
علي قال: "حَدِّثُوا النَّاس بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ "(1)، وقال ابن مسعود: ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة " رواه مسلم (2) ، وقال النخعي: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن ما عنده، قال السمعاني: عنى بالأحسن " الغريب" (3) .
وقال عيسى بن يونس:" ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث، فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم مائتي ركعة، ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث
…
" (4) .
ويلتحق بذلك الروايات الشاذة والمنكرة، فالراوي الذي يخالف الثقات في حديثه، ربما أضر ذلك به، ولاسيما إذا كثرت مخالفته لمن هو أولى منه، وانظر إلى كلام الشافعي المتقدم:".... ومن كان هكذا كان مقدماً بالحفظ، إن خالفه من يقصر عنه كان أولى أن يقبل حديثه ممن خالفه من أهل التقصير عنه
…
".
هذه أهم أسباب تفاوت شروط نقد المرويات عند كل من المحدثين وكتاب السير في نظري.
(1) صحيح البخاري 1/ 41.
(2)
صحيح مسلم 1/11.
(3)
تدريب الراوي 1/163.
(4)
الكفاية في علم الرواية.