المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌درجات الأخبار ومراتبها حسب المعايير المقترحة: - مرويات السيرة لمسفر الدميني

[مسفر الدميني]

الفصل: ‌درجات الأخبار ومراتبها حسب المعايير المقترحة:

‌درجات الأخبار ومراتبها حسب المعايير المقترحة:

يمكننا أن نضع اصطلاحات جديدة لمراتب الأخبار التي نقوم بنقدها حسب تلك المعايير المقترحة لنقد المرويات، فإذا كان المحدثون قد وضعوا اصطلاح: الصحيح والضعيف أولاً، ثم زادوا عليه الحسن، فأصبح الحديث ينقسم إلى: صحيح وحسن وضعيف، كما قسّموا الضعيف أقساماً ومراتب متفاوتة، فيمكننا أن نفعل مثل ذلك اليوم، لكن في تلك المرويات التي هي دون الحسن عند المحدثين، وكنت قد اقترحت أن تكون على مراتب ثلاث هي: مقبول، ثم معقول، ثم متروك (1) ، لكنني بعد تأملٍ لصنيع المحدثين وعباراتهم، رأيت لفظاً كثيراً ما يوردونه في مثل هذه الحال، ذلكم هو قولهم:"معناه صحيح"، ويمكن أن نضيف إليه بعض العبارات التي تناسب المقام، وبناءً عليه فإنني أقترح أن تكون مراتب الأخبار التي يتم نقدها حسب هذه المعايير على النحو التالي:

المرتبة الأولى: عبارة " معناه صحيح " وهي أعلى الدرجات، ويمكن تخصيصها بما له شاهد صريح، قوي الدلالة من نصوص الكتاب والسنة – الصحيحة – بغض النظر عن حال إسناده.

ومن ذلك ما قدمنا بعضه قبل قليل، ومنه:

(1) وفسرت ذلك بقولي: فالمقبول: هو ما سَلِمَ إسناده من متروك أو كذاب، وإن كان فيه انقطاع أو جهالة راوٍ، ولم يكن في متنه ما يعارض نصاً صحيحاً، والمعقول: ما كان متنه معقولاً، وممكن الوقوع، ولا يعارض نصاً صحيحاً، بغض النظر عن حال رواته، والمتروك: ما كان متنه منكراً، يناقض نصاً صريحاً، أو غير ممكن عقلاً أو عرفاً، مهما بلغ إسناده من الصحة.

ص: 27

ما ذكره القرطبي في تفسيره قال: وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال: "يتبعونه حق اتباعه " فيه واحد من المجهولين فيما ذكر الخطيب أبو بكر، إلا أن معناه صحيح (1) .

وقال ابن كثير في تفسيره: قال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] قال: "حالاً بعد حال"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن قدامكم لأمراً عظيماً لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم" هذا حديث منكر، وإسناده فيه ضعفاء، ولكن معناه صحيح والله سبحانه وتعالى أعلم (2) .

وفي السنة لعبد الله بن أحمد: عن حماد بن زيد قال: القرآن كلام الله عز وجل، نزل به جبريل عليه السلام، من رب العالمين جل وعز " في إسناده من لا يعرف ولكن معناه صحيح (3) .

ومنه قول ابن حزم في المحلى: فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الشهادة؟ فقال: "ألا ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع" قال أبو محمد: وهذا خبر لا يصح سنده، لأنه من طريق محمد بن سليمان، وهو هالك، عن عبيد الله بن سلمة، وهو ضعيف، لكن معناه صحيح (4) .

(1) تفسير القرطبي 2/95.

(2)

تفسير ابن كثير 4/491.

(3)

السنة لعبد الله بن أحمد 2/485.

(4)

المحلى لابن حزم 9/434.

ص: 28

وله أيضاً قال: فإن احتجوا بالخبر " لا ضرر ولا ضرار " فهذا خبر لا يصح، لأنه إنما جاء مرسلاً، أو من طريق فيها زهير بن ثابت وهو ضعيف، إلا أن معناه صحيح (1) .

وهذه العبارة كثيرة جداً في استعمال المحدثين.

والدرجة الثانية لفظ: " معناه حسن، أو معناه مقبول " وذلك في حال عدم وجود شاهد صحيح على المعنى الذي اشتمل عليه الخبر، أو تكون شواهده صحيحة لكن دلالتها على معنى الخبر إما ضعيفة، أو غير صريحة، ونحو ذلك.

ويليها- درجة ثالثة - لفظها: " معناه معقول، أو معقول المعنى " وذلك فيما كان ممكناً بحسب العرف والعادة، لكن لا شاهد له يقويه، ولا معارض له يضعفه، ونحو ذلك.

ويليها – في الدرجة الرابعة - لفظ: "ضعيف المعنى " أو " معناه ضعيف " وذلك فيما ظاهره النكارة، أو يكون مستغرباً لا يناسب الحال، لكنه لا يعارض نصاً صحيحاً صريحاً، بل ربما تجاذبه وجهان أحدهما بالإمكان والوقوع، والآخر بالبعد وعدم الإمكان.

وآخرها – وهي الخامسة - لفظ: كذب، أو باطل، ونحوه، وهو فيما كان معارَضاً بنص صحيح صريح من الكتاب أو السنة، أو الوقائع التأريخية الثابتة، أو العقل والمنطق، أو كان ركيكاً في لفظه أو معناه، أو لا يناسب

(1) المرجع السابق 8/241.

ص: 29

مقام المنسوب إليه، وغير ذلك من الأمور المعروفة، والتي أشرنا إلى شيء منها، ومن أمثلة هذا:

حديث عائشة قال رسول الله:" ذهبت لقبر أمي آمنة، فسألت الله أن يحييها، فأحياها، فآمنت بي، وردَّها الله عز وجل ".

قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع بلا شك، والذي وضعه قليل الفهم عديم العلم، إذ لو كان له علم لعلم أنه من مات كافراً لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة، لا بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، ويكفي في رد هذا الحديث قوله تعالى:{فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217](1) .

وحديث: "عليكم بالعدس فإنه مبارك، يرقق القلب، ويكثر الدمعة، قُدِّسَ فيه سبعون نبياً".

حيث سئل عبد الله بن المبارك عن هذا الحديث؟ فقال: أرفع شيء في العدس أنه شهوة اليهود، ولو قُدِّسَ فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء، فكيف بسبعين نبياً؟ وقد سماه الله تعالى أدنى، ونعى على من اختاره على المن والسلوى، وجعله قرين الثوم والبصل، أَفَترى أنبياء بني إسرائيل قدسوا فيه لهذه العلة؟ قال ابن القيم: والمضار التي فيه من تهييج السوداء، والنفخ، والرياح الغليظة، وضيق النفس، والدم الفاسد، وغير ذلك من المضار المحسوسة، ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع الذين اختاروه على المن والسلوى، أو أشباههم (2) .

(1) الموضوعات 1/284.

(2)

المنار المنيف لابن القيم ص52.

ص: 30

وحديث: "من طوّل شاربه في الدنيا، طوّل الله ندامته يوم القيامة، وسلّط عليه بكل شعرة على شاربه سبعين شيطاناً، فإن مات على ذلك الحال لا تستجاب له دعوة، ولا تنزل عليه رحمة

قال ابن الجوزي: وهذا من أنتن الوضع وأسمجه، ولولا حماقة من وضع هذا، وأنه ما شم ريح العلم لعلم أن غاية ما في تطويل الشارب مخالفة سنة لا يصلح التوعد عليها بمثل هذا" (1) .

ومن ذلك حديث رفع الجزية عن أهل خيبر، فقد أخرج اليهود كتاباً نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الكلف والسخر والجزية، ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما، ويبدو أن اليهود أظهروا هذا الكتاب في زمن ابن جرير الطبري، ثم في زمن الخطيب البغدادي، وفي حياة ابن تيمية أيضاً، وقد نقده العلماء، ومنهم ابن القيم ناظراً إلى متنه، ومما قاله عنه:

1-

أن فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق.

2-

وفيه: "وكتب معاوية بن أبي سفيان" هكذا، ومعاوية إنما أسلم زمن الفتح، وكان من الطلقاء.

3-

أن حكم الجزية لم يكن نزل حينئذٍ، ولا يعرفه الصحابة ولا العرب....

4-

أنه لم يكن في زمانه كلف ولا سخرة ولا مكوس.

(1) الموضوعات 3/52.

ص: 31

5-

أن مثل هذا مما تتوافر الدواعي والهمم على نقله، فكيف يكون قد وقع ولا يكون علمه عند حملة السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، وينفرد بنقله اليهود (1) .

فهذه الأحاديث حكم عليها المحدثون بعدم الصحة نظراً لنكارة متونها، ومخالفتها إما للقرآن الكريم، كما في الحديث المنسوب إلى عائشة في إحياء أم النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانها به، أو للثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث تطويل الشارب، أو للمعلوم من التأريخ كما في حديث رفع الجزية عن أهل خيبر، أو لركاكة ألفاظها ومعانيها كما في حديث العدس وغيرها من الأحاديث التي حكم عليها العلماء بالوضع بالنظر إلى متونها (2) .

ثم إن هذا لا يمنع وقوع التجاذب في بعض الأخبار بين الجواز والاستحالة، والوقوع وعدم الوقوع، كما في حديث أسماء بنت عميس في رد الشمس لعلي رضي الله عنه.

فقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير (3) ، والعقيلي في الضعفاء له (4)، عن أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ورأسه في حجر علي رضي الله عنه، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اللهم إن علياً كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس"،

(1) المنار المنيف لابن القيم ص 102-105.

(2)

انظر في ذلك كتاب: المنار المنيف لابن القيم، ومقاييس نقد متون السنة للدميني.

(3)

المعجم الكبير 24/150.

(4)

الضعفاء الكبير 3/327.

ص: 32

قالت أسماء: فرأيتها غربت، ورأيتها طلعت بعدما غربت.

فهذا الحديث مما اختلفت فيه أقوال أهل العلم بين مثبت له، ومنكر لمتنه، فكما أثبته جماعة من الأئمة كالبيهقي وابن حجر والسيوطي وغيرهم، نجد كثيرين من الأئمة قد حكموا برده ووضعه، قال الإمام أحمد: لا أصل له، وحكم بوضعه ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي (1)، وقال ابن الجوزي: ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى صورة فضيلة ولم يتلمّح إلى عدم الفائدة، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاءً، فرجوع الشمس لا يعيدها أداءً (2) .

هذا ما تيسر ذكره، من معايير وأمثلة، وقد كنت أتمنى مزيداً من الوقت للتمثيل بعدد من الروايات والأخبار من السيرة النبوية، لكن نفاد الوقت المحدد لإعداد هذا البحث، كان حائلاً دون التوسع في ذلك، ولعله يتيسر لي فيما يستقبل من العمر أن أكمل ما بدأته اليوم، وحسبي أني قدمت فكرة عامة عن الموضوع، وطريق معالجة هذه المشكلة، والله من وراء القصد.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(1) انظر تعليق محقق المنار المنيف الشيخ عبد الفتاح أبوغدة عليه ص 58.

(2)

الموضوعات 1/357.

ص: 33