الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعايير المقترحة لنقد المرويات في السيرة:
لا بد قبل البحث في هذه المسألة من تأمل مسألتين متعلقتين بهذا الاقتراح:
المسألة الأولى: معرفة الهدف من نقد مرويات السيرة والتأريخ ودراستها.
إذا علمنا أن الغرض من دراسة الحديث الشريف، إنما هو لمعرفة المقبول الذي يؤخذ به، ويعمل بموجبه، ولمعرفة الضعيف الذي لا تقوم به الحجة، ولا يلزم العمل به، فما الغرض إذن من دراسة مرويات السيرة والتأريخ عموماً؟
وللجواب عن هذا السؤال يمكن القول: إن مرويات السيرة والتأريخ تنقسم إلى قسمين، قسم منها ثابت كثبوت الأحاديث النبوية الأخرى، فمنها ما ورد في الصحيحين والسنن والمسانيد والسير وغيرها من مصادر السنة الأخرى بأسانيد مقبولة عند أهل الفن، وهذه لا كلام فيها، حيث يمكن البناء عليها، واستنباط الدروس والعبر منها، وأخذ الأحكام الشرعية المتنوعة من ثناياها.
وقسم آخر لم يثبت حسب منهج المحدثين، فلا تسلم طرقها من جهالة أو جرح في رواتها، أو انقطاع وإعضال وإرسال في أسانيدها، وهذا القسم لا يصلح للعمل بموجبه حسب الأحكام التكليفية - من وجوب وندب وكراهة وتحريم – لأنه لا يمكن أن نحكم بشيء مما تقدم إلا بعد ثبوت الدليل، والحكم الشرعي لا يثبت بدليل واهٍ.
وما دامت دراسة هذا القسم من مرويات السيرة والتأريخ لا يثبت به
حكم شرعي، فما الغرض إذن من نقدها ودراستها؟
الذي يظهر لي - والله أعلم - أن دراسة هذا القسم إنما هو للاستئناس بما ورد به، وأخذ العظة والعبرة منه – إن كان مقبولاً - أو للمعرفة الذهنية المجردة، أو لغير ذلك من الأمور، وفي هذه الحال أرى أننا في حاجة إلى استعمال نقد المتن حسب المعايير المعتبرة، أو ما يسميه الغربيون " النقد الداخلي ".
المسألة الثانية – التي وعدنا ببحثها – هي: هل صحة الإسناد تستلزم صحة المتن؟ فإذا صح الإسناد لزم منه أن يكون المتن صحيحاً، وينبني على هذا أمرٌ آخر هو: ألا يمكن أن تكون تلك الأخبار التي وصفت أسانيدها بأنها غير صحيحة – أي ضعيفة أو موضوعة - صحيحة في الأمر نفسه؟
هذان الأمران قد نص عليهما المحدثون في كتبهم، حيث قرروا ذلك في قاعدتين:
الأولى: أن صحة الإسناد لا تستلزم صحة المتن، فقد يصح الإسناد ولا يصح المتن لشذوذ أو علة.
قال ابن الصلاح: قد يقال " هذا حديث صحيح الإسناد " ولا يصح، لكونه شاذاً أو معللاً (1) .
وقال ابن القيم: وقد عُلِمَ أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث، وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث إنما يصح بمجموع
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 38.
أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم (1) .
وقال الأنصاري: لأنه لا تلازم بين الإسناد والمتن صحة وحسناً، إذ قد يصح الإسناد أو يحسن لاجتماع شروطه – من الاتصال والعدالة والضبط – دون المتن لقادح من شذوذ أو علة (2) .
وقال ابن الجوزي: وقد يكون الإسناد كله ثقات، ويكون الحديث موضوعاً أو مقلوباً، أو قد جرى فيه تدليس، وهذا من أصعب الأمور، ولا يعرف ذلك إلا النقاد (3) .
وعلى هذا سائر من كتب من المحدثين في علوم الحديث.
ومن هذه النصوص نستفيد أموراً منها:
- أن الإسناد ليس كل شيء في الحكم على الخبر، بل لا بد من تضافر أمور أخرى متعلقة بالمتن.
- أن النظر إلى المتن – عند الحكم على الحديث - كان موضع اهتمام لدى المحدثين، وأنهم لم يغفلوه عند حكمهم عليه.
- أن المتون الواردة بأسانيد لم يحكم لها بالصحة يمكن النظر فيها ونقدها، والحكم عليها بحكم مناسب لها، وليس شرطاً أن يكون حكماً بالصحة أو الحسن، بل يمكن أن يكون حكماً بالإمكان والوقوع، أو
(1) الفروسية لابن القيم ص 64.
(2)
فتح الباقي للأنصاري بحاشية التبصرة والتذكرة 1/107.
(3)
الموضوعات 1/99-100.
بالتكذيب والاستحالة ونحوه من الأحكام المناسبة.
والقاعدة الثانية: وهي أن الحكم على الحديث بعدم الصحة لا يعني أنه كذب أو موضوع، فقد يكون صحيحاً في حقيقة الأمر، قال ابن الصلاح:"إذا قالوا في حديث إنه غير صحيح، فليس ذلك قطعاً بأنه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقاً في نفس الأمر، وإنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور"(1) .
وقال الكمال بن الهمام في فتح القدير: لقائل أن يقول: الحكم بالضعف والصحة إنما هو في الظاهر، أما في نفس الأمر فيجوز صحة ما حكم بضعفه ظاهراً (2) .
وعلى هذا فموضوع بحثنا هو الأحاديث والآثار والأخبار والقصص والسير الواردة بأسانيد ضعيفة أو واهية أو موضوعة.
وهنا أمرٌ ينبغي التنبيه له: وهو أن الأحايث التي حُكم عليها بالوضع نوعان: منها ما حكم عليه بالوضع بالنظر إلى إسناده، ومنها ما حكم عليه بالوضع بالنظر إلى متنه، فأما ما حكم عليه بالوضع بالنظر إلى إسناده فقط، حيث ورد من طريق راوٍ كذابٍ أو دجال ونحوه، دون سبب آخر في متن الحديث، فهذه يمكن النظر فيها وتطبيق المقاييس المقترحة عليها، فقد يكون الحديث معقولاً أو مقبولاً، إذ لا يبعد أن يصدق الكاذب، أو يصيب المخطئ، بل لو اعترف الواضع بوضعه لاحتمل أن يكون كاذباً في اعترافه ذلك.
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 14.
(2)
فتح القدير للكمال بن الهمام 1/461.
أما ما حُكِمَ عليه بالوضع بالنظر إلى متنه، لنكارته ومعارضته لكتاب الله تعالى، أو للمقطوع به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لغير ذلك من الأمور المبينة في موضعها، فهذا مقطوع بوضعه واختلاقه، ولا ينظر فيه ولا كرامة.
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] .
وأخرج البخاري في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ"(1) .
قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد: أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن، وأن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها، وأن الكافر قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمنا، وبأن الكذاب قد يصدق (2) .
وإذن فقد يصدق الوضاع فيما يرويه من حديث، وإنما لم يقبله المحدثون منه ولو تاب من كذبه، احتياطاً للدين، وعقوبة له، وردعاً لغيره ممن يتجرأ على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذراً من أن يكون كاذباً في حديثه.
(1) صحيح البخاري 4/92.
(2)
فتح الباري 4/489.
أما إن كان الحكم بالوضع على الحديث مبنياً على النظر في متنه، بأن يكون مناقضاً للمقطوع به من الدين أو العقل، أو لغير ذلك مما هو مقرر في موضعه، فهذا لا خلاف في رده، والحكم عليه بالكذب والاختلاق، سواء أكان سببه الخطأ أو تَعَمُّدُ الكذب، قال ابن الجوزي عقب حديث منكر:
…
وإلا فمثل هذا الحديث لا يحتاج إلى اعتبار رواته، لأن المستحيل لو صدر عن الثقات رُدَّ ونُسِبَ إليهم الخطأ (1) .
وما دام الأمر كذلك فيمكننا حينئذٍ أن ننظر في متون تلك الأخبار التي لم تُقْبل بسبب النظر في أسانيدها، وأن نزنها بميزانٍ يمكننا من خلاله أن نحكم عليها إما: بالرد والتكذيب، أو بالإمكان والتصديق.
وهذا المعيار أكثر اعتماده على النظر في المتن؛ لأن الأسانيد الواردة بها أكثرها غير قوية، ولا تصلح للحجية، لجأنا إلى النظر في المتون وإمكان صدقها، ونقدها بموازين مناسبة للحال.
(1) الموضوعات 1/105-106.