المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المسألة الثالثةهل تجب الزيادة على الفاتحة - مسائل القراءة في الصلاة، والرد على أحد شراح الترمذي - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٨

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ المسألة الثالثةهل تجب الزيادة على الفاتحة

[ص 29]

‌ المسألة الثالثة

هل تجب الزيادة على الفاتحة

؟

بسم الله الرحمن الرحيم

قال

(1)

في شرح الترمذي: (باب ما جاء أنه لا صلاة إلَاّ بفاتحة الكتاب)، ثم ذكر حديث:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وزيادة:"فصاعدًا"، وأنها صحيحة؛ لأنَّ مسلمًا ذكرها في "صحيحه"

(2)

، وسكت عليها أبو داود

(3)

.

ثم قال: (ولم أقف على علَّة فيه؛ فهذا الحديث يدلُّ على أنَّ فاتحة الكتاب فصاعدًا ركن الصلاة، لاتجوز الصلاة بدونها، وما نُقل عن الإمام البخاري

(4)

رحمه الله بأنه ورد لدفع توهُّم قصر الحكم على الفاتحة ففيه أنه ليس في الحديث حكم إلَاّ أنَّ الفاتحة ركن. فيكون معنى الحديث على هذا: أنَّ الركنية ليست منحصرةً في الفاتحة؛ بل تتجاوز عنها إلى زائد عليها؛ فتكون الفاتحة مع زائد ركنًا لها.

ولو قيل: إنَّ معناه أنَّ القراءة ليست مقصورة على الفاتحة؛ بل لابد من

(1)

كتب بعده "مولانا المفتي" ثم ضرب عليها.

(2)

رقم (394/ 37).

(3)

رقم (822).

(4)

هذا ليس من كلام البخاري، بل هو عبارة الحافظ في "الفتح"(2/ 243). وسيأتي التنبيه عليه من المؤلف.

ص: 39

الفاتحة، ولو زاد عليها يجوز.

قلنا: ليس الحكم ههنا بقراءة الفاتحة في الصلاة مطلقًا؛ بل الحكم أنَّ القراءة ركن الصلاة، لا تجوز الصلاة بدونها).

أقول: زيادة "فصاعدًا" قال فيها إمام الفن محمد بن إسماعيل البخاري

(1)

رفع الله درجته: "وقال معمر عن الزهري: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب فصاعدًا"، وعامة الثقات لم يتابع معمرًا في قوله: "فصاعدًا"، مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب، وقوله: "فصاعدًا" غير معروف ما أردته [ما أريد به] حرفًا أو أكثر من ذلك؛ إلَاّ أن يكون كقوله: "لا تقطع اليد إلَاّ في ربع دينار فصاعدًا"

(2)

، فقد يُقطع اليد في دينار وفي أكثر من دينار. قال البخاري:"ويقال: إنَّ عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرًا، وإنَّ عبد الرحمن ربما روى عن الزهري، ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا نعلم أنَّ هذا من صحيح حديثه أم لا". (جزء القراءة ص 1).

وحاصله أنه أورد على هذه الزيادة أمورًا:

الأول: أنَّ معمرًا تفرَّد بها، ولم يذكرها الأكثر، ومنهم من هو أجلُّ منه وأفقه، ومنهم من هو مثله.

وأجاب عن متابعة عبد الرحمن بن إسحاق بما يعلم منه أنه يدلِّس؛ فلا يؤمن أن يكون بينه وبين الزهري ضعيف، لا يصلح للمتابعة.

(1)

في "جزء القراءة خلف الإمام"(ص 46 - 51) كما سيأتي. ورواية معمر أخرجها مسلم في الموضع المذكور.

(2)

أخرجه بهذه الزيادة مسلم (1684) من حديث عائشة.

ص: 40

وقد ذكر البخاري عبد الرحمن في موضع آخر من هذا الجزء

(1)

، وأورد له عدَّة مخالفات، يخالف فيها الثقات.

ويجاب عن هذا الأمر بما اشتهر من قبول زيادة الثقة، ويدفع هذا بأنَّ قبولها مطلقًا غير متفق عليه؛ ففي "فتح المغيث"(ص 88)

(2)

: "وقيَّده ابن خزيمة باستواء الطرفين في الحفظ والاتقان، فلو كان الساكت عددًا أو واحدًا أحفظ منه، أو لم يكن هو حافظًا ولو كان صدوقًا فلا، وممن صرَّح بذلك ابن عبد البر؛ فقال في "التمهيد"

(3)

: "إنما تُقبل إذا كان راويها أحفظ وأتقنَ ممن قصَّر أو مثله في الحفظ

".

ومن قال بقبولها ولو كان المقصِّر أحفظ أو أكثر لا ينكر أن سكوت الأكثر أو الأحفظ عنها يوهِّنها، وهذا مما لا يخفى على ذي معرفةٍ.

وعليه؛ فإذا انضمَّ إلى ذلك موهِّن آخر لم ينكر على المجتهد في هذا الفن الماهر فيه أن يردَّها بمجموع [ص 30] الأمرين، وإن كان كل منهما لا يكفي على انفراده.

وقد ذكر البخاري رحمه الله موهِّنًا آخر لهذه الزيادة.

وهو الأمر الثاني: أنَّ معناها مجمل، لا يُدرى أحرفٌ واحدٌ أم أكثر؛ يعني: والشارع شأنه البيان لا الإجمال.

ولها موهِّنٌ ثالثٌ: أنَّ الحديث من رواية الزهري عن محمود بن الربيع

(1)

(ص 285 وما بعدها).

(2)

(1/ 246، 247) ط. الهند.

(3)

(3/ 306).

ص: 41

عن عبادة، وقد ثبت هذا الحديث نفسه بهذا الإسناد نفسه

(1)

في قصَّة، ولفظه: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح؛ فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال:"أراكم تقرءون وراء إمامكم؟ " قال: قلنا: إي والله يا رسول الله، قال:"أما لا تفعلوا إلَاّ بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

وقد جزم بعض الحفَّاظ

(2)

بأنه حديث واحدٌ جرَّده الراوي تارةً عن قصته، وذكره أخرى بقصته. ولا يخفى على من مارس صناعة الحديث، وعرف تصرُّف الرواة أنَّ هذا هو الظاهر. فقول الشارح فيما يأتي:"إنه لا دليل عليه" ليس مما يلتفت إليه. فإذا عرف هذا عرف أن زيادة "فصاعدًا" لا موقعَ لها في الحديث، بل هي مناقضة له، والله أعلم.

ثم إنَّ الإمام البخاري رحمه الله تعالى لم يبتَّ الحكم في ردِّ هذه الزيادة؛ بل ذكر الأمر الثالث؛ وهو أنَّ هذه الزيادة إن صحَّت فلا تقتضي أنه لا صلاة لمن لم يزد على الفاتحة.

كما أنَّ هذه اللفظة قد ثبتت في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُقطع اليدُ إلَاّ في ربع دينار فصاعدًا"، ولم يفهم منه أحد أنها لا تقطع اليد فيما لم يزد على ربع دينار؛ بل فهموا منه أنها لا تقطع إلَاّ في ربع دينار أو فيما زاد على ربع دينارٍ.

وأما ما نقله المفتي عن البخاري فتلك عبارة "فتح الباري"، وكأنها

(1)

بل من طريق مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة، كما رواه أبو داود (823) والترمذي (311).

(2)

منهم الترمذي، قال عقب رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة (311): "وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة

". وانظر "فتح الباري" (2/ 242، 243).

ص: 42

تفسير لتنظير البخاري الزيادة في حديث الفاتحة بها في حديث القطع.

وهذا لفظ "الفتح"

(1)

: "زاد معمر

واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة، وتعقِّب بأنَّه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة. قال البخاري في "جزء القراءة"

(2)

: هو نظير قوله: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا".

واعتراض المفتي على تلك العبارة بأنها تقتضي أنَّ الركنية ليست قاصرة على الفاتحة يجيء مثله في حديث القطع، فيقال: إنَّ تلك الزيادة إذا قيل إنها لدفع توهُّم قصر الحكم على ربع دينار، اقتضى ذلك أنَّ نصاب السرقة ليس قاصرًا على ربع دينار.

ولعلَّ المفتي يُقْدِم على الاعتراض على حديث القطع أيضًا، والله المستعان.

وتحقيق الحق: أنه ليس المراد بالحكم في قولهم (دفع توهُّم قصر الحكم) هو النصاب والركنية؛ بل المراد ما يُقطع فيه، وما تصح به الصلاة. وهذا وإن لم يكن هو الحكم المنصوص إلَاّ أنَّ المنصوص يتضمَّنه.

وفائدة هذه الزيادة في حديث القطع ظاهرة؛ لأنها لو لم تزد لكان ظاهر اللفظ أنَّ من سرق أكثر من ربع دينار لا يُقطع.

وأما في حديث الفاتحة فقد يقال هكذا، وهو أنه لو لم يُؤتَ بها لأمكن أن يتوهَّم متوهِّمٌ أنَّ المراد من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فقط؛ فيفهم منه أن من

(1)

(2/ 243).

(2)

(ص 48).

ص: 43

لم يقتصر على فاتحة الكتاب فلا صلاة له. ولكن في هذا ضعف.

والأولى أن يقال: الفائدة الإشارة إلى أنَّ الزيادة على الفاتحة مرغَّب فيها؛ كما تقول لعُمَّالك: "لا أجرة لمن لم يعمل إلى العصر فصاعدًا". تنبِّههم بقولك (فصاعدًا) على أنَّ الزيادة في العمل بعد العصر مرغوبٌ لك، وإن لم يكن شرطًا لاستحقاق الأجرة.

ولو فرضنا صحة ما ذكره المفتي فذلك لا يفيده؛ لأننا نقول: إنَّ الخمس من الإبل نصابٌ، والست نصابٌ، وهكذا السبع والثمان والتسع؛ والواجب في كل ذلك شاةٌ فقط. من كان له خمسٌ وجبت عليه الشاة، ومن كان عنده تسع وجبت عليه الشاة، وهكذا ما بينهما، ومن كانت عنده تسع فالشاة عنها جميعًا، لا عن خمس منها فقط.

فأنت ترى أنَّ كون التسع نصابًا تجب فيه الشاة لا يستلزم أن تكون الخمس ليست [ص 31] بنصاب تجب فيه الشاة.

فهكذا نقول: إنَّ ربع دينار نصاب يجب في سرقته القطع، وإنَّ ثلث دينار ــ مثلًا ــ نصاب، يجب بسرقته القطع.

وهكذا نقول: إنَّ قراءة الفاتحة ركن تتم به الصلاة، وإنَّ قراءة الفاتحة وسورة البقرة ــ مثلًا ــ ركن تتم به الصلاة.

والسرُّ في هذا أننا نقول: القراءة مثل القيام؛ فكما أنه إذا قام مقدار دقيقة كان قيامه ركنًا، وإذا قام مقدار ساعةٍ كان قيامه ركنًا؛ فكذا القراءة. وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم ــ إن كان تكلَّم بهذه الكلمة ــ زادها دفعًا لما يُتوهَّم من تعيين الفاتحة أنها هي الركن، حتى لو زاد عليها شيئًا من القرآن لا يكون حكمه حكم الركن.

ص: 44

وثمرة كون القيام كله ركنًا وإن طال، وأنَّ ما قُرئ من القرآن بعد الفاتحة حكمه حكم الركن ــ على ما تقدَّم ــ هي زيادة الثواب؛ فإنَّ ثواب الفرض أعظم من ثواب النفل، والله أعلم.

واعلم أنَّ ما فهمه الشارح وبعض من تقدَّمه من أنَّ زيادة "فصاعدًا" في حديث الفاتحة يقتضي وجوب الزيادة على الفاتحة= فَهْمٌ تأباه اللغة.

قال إمامها أبو عمرو سيبويه في "كتابه"

(1)

: "هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي؛ وذلك قولك: أخذته بدرهمٍ فصاعدًا، أو أخذته بدرهمٍ فزائدًا، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه، ولأنهم أمنوا أن يكون على الباء. لأنك لو قلت: "أخذته بدرهم فصاعدٍ" كان قبيحًا؛ لأنه صفة، ولا يكون في موضع الاسم؛ كأنه قال: أخذته بدرهمٍ، فزاد الثمن صاعدًا، أو فذهب الثمن صاعدًا. ولا يجوز أن تقول: "وصاعدٍ"؛ لأنك لا تريد أن تخبر أنَّ الدرهم مع صاعدٍ ثمنٌ لشيء؛ كقولك: بدرهمٍ وزيادة. ولكنك أخبرت بأدنى الثمن؛ فجعلته أولًا، ثم قرَّرت شيئًا بعد شيءٍ لأثمان شتى

".

أقول: إيضاح عبارته: أنَّ قوله: "أخذته بدرهمٍ فصاعدًا" يقال على ما ذكر الرضي

(2)

في "ذي أجزاء أخذ بعضها بدرهمٍ، والبواقي بأكثر". فكأنَّ تقديره: أخذت هذا الزيت رطلًا بدرهمٍ فصاعدًا؛ تريد أنَّ بعض الأرطال بحساب الرطل بدرهمٍ فقط، وبعضها بحساب الرطل بدرهمٍ وزيادة.

(1)

(1/ 146، 147) طبعة بولاق. وسيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان، لا أبو عمرو.

(2)

"شرح الرضي على الكافية"(1/ 683) ط. جامعة الإمام.

ص: 45

أقول: ويحتمل أن يقال المثال المذكور في شيءٍ واحدٍ، ولكن عند الشك أو التشكيك؛ كأنه يقول: أخذته بدرهمٍ فقط، أو بدرهمٍ وزيادة. فإذا قلت: بِعْهُ [ص 32] بدرهمٍ فصاعدًا، وهو شيءٌ واحدٌ، كان للتخيير؛ كأنك قلت: بعْهُ بدرهمٍ فقط، أو بدرهمٍ وزيادة.

هذا أصل المعنى، وإن كان بين العبارتين فرق من وجهين:

الأول: أنَّ قولك: "بِعْهُ بدرهمٍ فصاعدًا" لا يُشعِر باستواء الأمرين عندك، بل يرجع إلى القرائن، والقرينة في هذا المثال تقتضي رغبتك في الزيادة.

وفي قولك لوكيلك: "اشتره بدرهمٍ فصاعدًا" تُشعِر برغبتك في عدم الزيادة.

وقولك: "بِعْهُ بدرهمٍ فقط" أو "بدرهمٍ وزيادة"، "واشتره بدرهمٍ فقط" أو "بدرهمٍ وزيادة" يشعر باستواء الأمرين.

الوجه الثاني: أنَّ قولهم: "فصاعدًا" يقتضي زيادة مترقِّية من قليل إلى كثير.

وقولنا: "أو بدرهمٍ وزيادة" لا يشعر لفظ "زيادة" بالترقِّي، وإن كان صالحًا له.

وفي "لسان العرب"

(1)

: "وقولهم: صنع أو بلغ كذا وكذا فصاعدًا؛ أي: فما فوق ذلك، وفي الحديث: "لا صلاة

" أي: فما زاد عليها؛ كقولهم: اشتريته فصاعدًا، قال سيبويه:

".

(1)

(4/ 241) ط. بولاق.

ص: 46

وفي "القاموس"

(1)

: "وبلغ كذا فصاعدًا؛ أي: فما فوق ذلك".

وقد رُوي حديث القطع بلفظ: "فما فوق"

(2)

بدل "فصاعدًا"، وقد قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]. وليس المعنى بعوضة مع ما فوقها.

وهكذا ما في "صحيح مسلم"

(3)

عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: "ما من مسلمٍ يُشاك شوكةً فما فوقها إلَاّ كُتِبتْ له بها درجة، ومُحِيتْ عنه بها خطيئة". المعنى: يصيبه شوكة أو ما هو فوقها، وليس المعنى: تصيبه شوكة مع زيادة فوقها، أعني أنَّ الأجر المذكور متحقِّقٌ بإصابة الشوكة فقط، وليس المعنى: أنه لا يتحقَّق إلَاّ إذا انضمَّ إلى الشوكة زيادة.

واعلم أنَّ قولهم: "فما فوقه" يجيء على وجهين:

الأول: أن يكون المراد ما هو أعظم مما قبل الفاء، بدون أن يتضمَّن ما قبل الفاء؛ كما في الآية والحديث.

والثاني: أن يكون المراد به ما هو أزيد مما قبل الفاء؛ أي: بحيث يتضمَّن ما قبل الفاء وزيادة؛ كما في حديث القطع؛ لأنَّ المراد بربع دينار فيه ما يساوي ربع دينار اتفاقًا. فكل مالٍ يكون فوق ما يساوي [ص 33] ربع دينار فهو عبارة عما يساوي ربع دينار مع زيادة.

فأما قولهم: "فصاعدًا" فإنما تصلح في الوجه الثاني؛ كما يعرف من

(1)

(1/ 307).

(2)

عند مسلم (1684/ 3).

(3)

رقم (2572).

ص: 47

موارد استعمالها.

فإن زعم زاعمٌ أنها تستعمل على الوجه الأول أيضًا قلنا له: هب أنّ ذلك كذلك؛ إلَاّ أنها في حديث الفاتحة على الوجه الثاني؛ بدليل الأحاديث الكثيرة في تعين الفاتحة، والإجماعِ على ترك القول بأنَّ الواجب إما الفاتحة وإما سورة أكبر منها أو بعض سورة يكون أكبر منها، والله أعلم.

ثم ذكر الشارح حديث أبي داود

(1)

عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد: "أُمِرْنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر"، وذكر ما يطعن به على هذا الحديث من أنَّ قتادة مدلِّس، وقد عنعن، وأجاب عنه بأنَّ أبا مسلمة قد رواه عن أبي نضرة.

وذكر ما يدفع به هذا الجواب؛ من أنَّ أبا مسلمة روى الحديث موقوفًا

(2)

، وأجاب عن هذا الدفع بما معناه: أنَّ رواية قتادة بيَّنت كون الحديث مرفوعًا، ورواية أبي مسلمة بيَّنت أنَّ أبا نضرة حدَّث بهذا الحديث؛ فكل من الروايتين تَجبُر ما في الأخرى من الخلل.

وهذا جوابٌ عجيبٌ، وردُّه واضحٌ؛ وهو أنه إذا ثبتت رواية أبي مسلمة عن أبي نضرة فإنما يثبت بها أنَّ أبا نضرة روى هذا الحديث موقوفًا، ورواية قتادة لا يثبت بها شيءٌ؛ لأننا لا نأمن أن يكون قتادة سمع الحديث من رجل ضعيف، وهذا الضعيف سمع هذا الحديث من أبي نضرة موقوفًا، كما سمعه أبو مسلمة؛ ولكنه زاد الرفع من عنده كذبًا أو غلطًا.

(1)

رقم (818). قال الحافظ في "الفتح"(2/ 243): سنده قوي.

(2)

انظر "العلل" للدارقطني (11/ 325).

ص: 48

وقد أجاب الشارح عن تدليس قتادة بأنَّ النووي

(1)

ذكر أنَّ ما كان في "الصحيحين" وشِبْههما من عنعنة المدلِّسين محمول على السماع.

ويُرَدُّ بأنَّ مراد النووي بقوله: "وشبههما" الكتب التي اقتصر جامعوها على إيراد الصحيح فيها، وليس "سنن أبي داود" من ذلك. وهذا أمر معروفٌ بين أهل الفن، مبيَّنٌ في كتبهم.

على أنَّ ابن دقيق العيد ناقش في حمل ما في "الصحيحين" من ذلك على السماع

(2)

، وكذلك الذهبي أشار إلى التوقُّف في ذلك؛ في ترجمة أبي الزبير من "الميزان"

(3)

.

وأوضح من هذا أنَّ إمام الفن محمد بن إسماعيل البخاري قد طعن في هذا الحديث بقوله: "ولم يذكر قتادة سماعًا من أبي نضرة في هذا". "جزء القراءة"(ص 11)

(4)

.

ثم ذكر الشارح حديث أبي داود

(5)

وغيره؛ عن أبي هريرة: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره فنادى: "أن لا صلاة إلَاّ بفاتحة الكتاب فما زاد".

(1)

في "التقريب والتيسير". انظره مع شرحه "تدريب الراوي"(1/ 230).

(2)

انظر "النكت على كتاب ابن الصلاح" لابن حجر (2/ 635، 636).

(3)

(4/ 39) قال: "وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، وهي من غير طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء".

(4)

(ص 241) ط. الهند 1430.

(5)

رقم (820). وأخرجه أيضًا أحمد (9529) والدارقطني (1/ 321) والحاكم في "المستدرك"(1/ 239). وتساهل الحاكم فصححه ووثَّق جعفر بن ميمون.

ص: 49

والجواب عنه: بأنَّ جعفرًا ضعَّفه المتقدمون من جهة حفظه

(1)

، وقال العقيلي في حديثه هذا: لا يتابع عليه

(2)

.

على أنَّ قوله: "فما زاد" في معنى قوله: "فصاعدًا"، وقد تقدَّم معناها، وأنها لا تدلُّ على وجوب الزيادة.

ويشهد لذلك أنَّ مذهب أبي هريرة الذي كان يفتي به أنه لا يجب [ص 34] إلَاّ الفاتحة.

ثم ذكر الشارح حديث ابن ماجه

(3)

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها".

والجواب عنه: أنه من رواية أبي سفيان السعدي؛ مجمع على ضعفه، وعبارة الإمام أحمد: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه

(4)

.

ووجوب سورة مع الفاتحة لم يُنقل عن أحد.

وقوله: "في كل ركعة" تردُّه الأحاديث الصحيحة في اقتصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفاتحة في الركعتين الأخريين.

فإن قيل: هَبْ أن كلَّ حديث من هذه الأحاديث لا يتمُّ الاستدلال به على انفراده؛ أفلا يتمُّ الاستدلال بمجموعها؟

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(2/ 108، 109).

(2)

"الضعفاء الكبير"(1/ 190).

(3)

رقم (839).

(4)

انظر "تهذيب التهذيب"(5/ 12).

ص: 50

قلت: كلا؛ أما حديث ابن ماجه فلا يصلح متابعًا ولا شاهدًا.

وأما زيادة "فصاعدًا" ورواية "فما زاد" فلا دلالة فيها على وجوب الزيادة حتى يستشهد بها لهذه المسألة. بل إذا تأملت ما قدَّمنا عرفت أنها تدلُّ على عدم الوجوب.

فلم يبق إلَاّ حديث قتادة وحده، وهو لا يصلح حجَّةً، على أنه لو صحَّ لأمكن تأويله؛ بأنَّ المراد بقوله:"أمرنا" القدر المشترك بين الأمر الموجب، والأمر المرغَّب؛ بدليل ما ثبت من أدلة قصر الوجوب على الفاتحة.

وهذا التأويل أولى عند أهل العلم من دعوى النسخ التي صار إليها الشارح، والله أعلم.

ثم جاء الشارح بالفِتَكْرِيْن

(1)

؛ فقال: حديث عبادة متروك العمل باتفاق.

يريد أنه قد ثبت فيه زيادة "فصاعدًا"، وهي تقتضي وجوب الزيادة على الفاتحة، ووجوب الزيادة متروك باتفاق؛ فلزم أن يكون الحديث كله متروكًا باتفاق، وهذا كما ترى.

والطريق المستقيم المعروف بين أهل العلم أن يكون الاتفاق على ترك العمل بهذه الزيادة دليلًا على سقوطها فقط، كيف وقد انضمَّ إلى ذلك ما تقدَّم من توهينها.

بل لو اتفق الرواة جميعًا على إثبات هذه الزيادة لما لزم من ترك العمل بها وحدها ترك العمل بالحديث كله، ولا مِن وهن الاحتجاج بها وهنُ

(1)

أي الداهية أو الأمر العجب العظيم. وتُضبط هذه الكلمة بأوجه، انظر "القاموس"(2/ 107).

ص: 51

الاحتجاج بالحديث كله.

[ص 35] ثم ذكر الشارح قولهم: (إنَّ اتفاق الأمة على ترك حديث دليل نسخه أو خطأ رواته).

أقول: إنما يصلح هذا لدفع وجوب الزيادة على الفاتحة؛ لأنَّ الأمة اتفقت ــ فيما زعم الشارح ــ على عدم القول بها. فأما الفاتحة فجمهور الأمة قائلون بفرضيتها، وقال الحنفية بوجوبها؛ مع أنَّ دعوى الشارح اتفاق الأمة على عدم القول بما تضمَّنته تلك الأحاديث من الزيادة عجيب، فإنَّ مذهب أصحابه الحنفية أنفسهم أنَّ الزيادة على الفاتحة واجبة.

فإن قال: ظاهر الحديث أنها فرض؛ قلت: الحديث عندكم خبر واحد لا يثبت به إلَاّ الوجوب، وإن كان نصًّا في الفرضية.

وفي "الفتح"

(1)

: "وصحَّ إيجاب ذلك عن بعض الصحابة ــ كما تقدَّم ــ وهو عثمان بن أبي العاص، وقال به بعض الحنفية، وابن كنانة من المالكية، وحكاه القاضي الفرَّاء الحنبلي في الشرح الصغير رواية عن أحمد".

ثم إنَّ الشارح اختار أنَّ الزيادة نسخت أولًا، واحتجَّ بحديث "الصحيحين"

(2)

، عن أبي قتادة، وفيه:"أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب" الحديث.

وعليه تعقبات:

الأول: أنَّ الزيادة لم تثبت كما تقدَّم، وتوهين الرواية التي لم تثبت ثبوتًا

(1)

(2/ 252).

(2)

البخاري (776) ومسلم (451).

ص: 52

واضحًا أو تأويلها أولى من دعوى النسخ.

الثاني: أنها لو ثبتت فليس في الأحاديث التي ساقها الشارح لإثبات الزيادة تصريح بأنها في كل ركعة؛ بل ظاهرها أنها في جملة الصلاة، وفي مذهب الحنفية أنفسهم ما يوافق هذا.

الثالث: أنَّ تلك الأحاديث قولية، وحديث أبي قتادة فعلي.

ثم ذكر دليلًا آخر؛ وهو حديث عبادة

(1)

: "صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح؛ فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: أراكم تقرءون وراء إمامكم؟ قال: قلنا: يا رسول الله إي والله، قال: أما لا تفعلوا إلَاّ بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

وحديث مسلم

(2)

وغيره؛ عن عمران: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى الظهر؛ فجعل رجلٌ يقرأ خلفه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]؛ فلما انصرف قال: "أيكم قرأ، أو أيكم القارئ"، قال رجلٌ: أنا، قال: "قد ظننت أنَّ بعضكم خالجنيها".

[ص 37]

(3)

أقول: أما حديث عبادة فلفظه في بعض الروايات

(4)

: "لا

(1)

سبق تخريجه (ص 42).

(2)

رقم (398). وأخرجه أيضًا أحمد (19815) وأبو داود (828) والنسائي (2/ 140) وغيرهم.

(3)

ملاحظة: ورقة (36) ضرب عليها الشيخ بعد أن نقَّح ما سوَّده فيها في الصفحة التالية.

(4)

عند الدارقطني (1/ 320) والبيهقي (2/ 165)، قال الدارقطني: هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم.

ص: 53

يقرأنَّ أحدُكم إذا جهرتُ بالقراءة إلَاّ بأمِّ القرآن". وبقية الروايات بيَّنت أنَّ تلك الصلاة كانت جهرية، وأنَّ القراءة ثقلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فالحديث حجَّة أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نهى المقتدين به أن يقرأوا إذا جهر إلَاّ بأم القرآن.

ويظهر من ذلك أنَّ الزيادة على الفاتحة ليست بمرتبة الفاتحة، وهذا عندنا مبيَّنٌ؛ لما قدمناه أنَّ وجوب زيادةٍ على الفاتحة لم يثبت وجوبه أصلًا، وشاهدٌ لما قدمنا في حديث المسيء صلاته؛ من احتمال أنه كان الواجب أولًا الحمد والثناء والتمجيد، وقراءة شيءٍ من القرآن، ثم نسخ ذلك بالفاتحة؛ فكانت هي الواجبة وحدها.

وأما الشارح فعنده أنَّ هذا ناسخ الأحاديث الآمرة بالزيادة على الفاتحة. وأنت خبيرٌ أنَّ دعوى النسخ مفتقر

(1)

إلى إثبات تأخُّر هذا الحديث عن تلك، وليس بيد الشارح دليل؛ إلَاّ أنه يقول: دلَّ هذا الحديث أنهم كانوا يقرءون غير الفاتحة، ولا يُظَنُّ بهم أن يقرءوا إلَاّ بإذن شرعي؛ فيظهر أنَّ الإذن هو تلك الأحاديث.

ولقائل أن يقول: لا يتعيَّن هذا، لاحتمال أنهم كانوا يقرءون؛ لِما علموا من أنَّ الصلاة موضع القراءة وذكر الله تعالى في الجملة، أو قياسًا على الإمام، أو غير ذلك.

ويدلُّ على هذا سؤاله صلى الله عليه وآله وسلم إياهم بقوله: "أراكم تقرءون وراء إمامكم"، قالوا: إي والله يا رسول الله، ولو كان قد أمرهم بالقراءة قبل ذلك صريحًا لما اقتضى الحال الاستفهام؛ بل كان حق الكلام أن يقول: كنت أمرتكم بقراءة

(1)

كذا في الأصل بالتذكير، وقد ضرب المؤلف على هاء التأنيث في آخر الكلمة.

ص: 54

الفاتحة وما تيسَّر إذا كنتم تصلُّون معي؛ فلا تفعلوا إلَاّ بأم القرآن؛ كما قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها" الحديث

(1)

.

فالتعارض بين هذا الحديث وبين أحاديث الزيادة من باب العموم والخصوص، مع الجهل بالتاريخ.

ومذهب الجمهور حمل العام على الخاص؛ تخصيصًا لا نسخًا.

ومذهب الإمام أبي حنيفة وأكثر أصحابه رحمهم الله تعالى التوقُّف أو الترجيح.

وعلى قول الجمهور فإنَّ الذي يصحُّ من أحاديث الزيادة إنما يفيد الندب، وهذا الحديث مخصِّصٌ لها، مخرج عنها المقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجهر به صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ما يدلُّ عليه هذا الحديث.

فأما دلالته على أنَّ غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله في ذلك فلا يصحُّ بالقياس؛ لأنَّ العلَّة هي ثقل القراءة، وهذا أمرٌ روحاني كان يدركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ندرك نحن.

[ص 38]

(2)

وأما على القول بالتوقُّف فيرجع إلى الأصل؛ وهو عدم الوجوب، وأما على القول بالترجيح فالأحاديث المبينة لعدم ندب الزيادة أرجح وأثبت، والله أعلم.

(1)

أخرجه مسلم (1977) من حديث بريدة.

(2)

ملاحظة: ضرب الشيخ على أكثر ما في الورقة (38) ولم يبق فيها غير هذين السطرين.

ص: 55

[ص 39] وأما حديث عمران فليس فيه نهيٌ، وإنما فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ بسبِّح اسم ربِّك الأعلى فأحسَّ بأنه يُخالَج فيها؛ فعرف أنَّ بعض المأمومين قرأها أيضًا، فسألهم لتظهر لهم هذه المعجزة.

وهذه المخالجة أمر روحاني كان يحسُّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ففي حديث عبادة نهاهم عن قراءة غير الفاتحة، لا للمخالجة فقط، بل لها ولإخلالها باستماع القراءة لغير موجب؛ لأنَّ الصلاة جهرية كما علمت.

وفي حديث عمران لم ينههم؛ لأنَّ المخالجة وحدها ليست علَّة تامة، ولأنها إنما تحصل إذا قرأ المأموم عين السورة التي يقرؤها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يتفق دائمًا.

وقد ذكر البخاري في "جزء القراءة"(ص 9)

(1)

هذا الحديث من رواية شعبة عن قتادة، ثم قال:"قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه؛ فقال: لو كرهه لنهانا عنه".

ومع هذا ففي بعض روايات حديث عمران ما يدلُّ أنَّ ذلك القارئ رفع صوته، وسيأتي بيان ذلك، إن شاء الله تعالى. وعليه فيصح قول البيهقي:"وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كره من القاريء خَلْفَه شيئًا كره الجهر بالقراءة"(سنن ج 2 ص 162).

ثم قال الشارح: (وعُلم من هذا الحديث ــ يعني حديث عبادة ــ أنَّ آية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] نزلت بعد هذا؛

(1)

(ص 214) طبعة الهند.

ص: 56

لأنَّ فيها نهيًا عن القراءة مطلقًا إذا قُريءَ القرآن، وبعيدٌ عن الصحابة القراءة في الصلاة حال قراءته صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا إجازته صلى الله عليه وآله وسلم بقراءة أم القرآن خلفه مطلقًا بعد نزول الآية

).

أقول: الآية مكية اتفاقًا، وحديث عبادة ونحوه وقع بالمدينة اتفاقًا، وسأعقد للآية فصلًا مستقلًّا إن شاء الله تعالى. وإنما أذكر هاهنا ما يردُّ على استدلال الشارح على تأخر نزول الآية.

فأقول: قد كان الصحابة رضي الله عنهم يقرؤون خلف الإمام بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، وسنثبت ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى. والظاهر البيِّن أنهم كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن توفَّاه الله عز وجل، ولا شكَّ أنَّ ذلك بعد نزول الآية؛ فكيف يستبعد هذا الأمر الذي قام الدليل على وقوعه؟

ثم من الجائز أن يكونوا فهموا أنَّ الآية خاصة بمن ليس في صلاة؛ بدليل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]؛ حيث سمَّى الصلاة قرآنًا.

أو فهموا أنَّ المراد الإنصات عن الكلام الأجنبي لا عن القراءة نفسها؛ ظنًّا أنَّ المقصود من الإنصات فهم القرآن وتدبُّره. فإذا كان السامع نفسه يقرأ القرآن فقد حصل له تدبُّر ما يقرأه بنفسه مع زيادة التلاوة.

أو فهموا أنَّ المراد بالإنصات ترك رفع الصوت؛ لقوله بعدها: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية [الأعراف: 205]، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والاحتمالات كثيرة.

ص: 57

وأما استبعاد أنَّ يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقراءة الفاتحة بعد نزول الآية فخيال عجيب، أَوَلا يكون صلى الله عليه وآله وسلم علمَ أنَّ هذه الآية مُخَصَّصة بقوله تعالى:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وغيرها.

[ص 40] مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، والمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم: الفاتحة؛ كما في "الصحيح"

(1)

.

وقوله تعالى في الحديث القدسي المشهور: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي

" الحديث

(2)

. فسَّر الصلاة فيه بالفاتحة.

أو علمَ أنَّ المراد بالإنصات ترك رفع الصوت.

فأما الفاتحة فالمأموم مأمور بقراءتها سرًّا؛ لقوله تعالى عقب آية الإنصات: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية؛ كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وفوق هذا كلِّه لا يمتنع أنَّ الله عز وجل أعلم رسوله بما يفيد تخصيص الآية، ولو لم يدلَّ على ذلك قرآن. والآية مخصصة اتفاقًا فدلالتها على بقية الأفراد ضعيفة؛ حتى قال بعضهم: إنَّ دلالة العام المخصوص على بقية أفراده لا يحتجُّ بها أصلًا، وقال الحنفية: إنَّها دلالة ضعيفة؛ بحيث يرجَّح خبر الواحد عليها.

(1)

البخاري (4703) من حديث أبي سعيد بن المعلى، و (4704) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة.

ص: 58

وبالجملة فقضيَّة استدلال الشارح أنه إذا تعارض دليلان عام وخاص، ولم يعلم التاريخ يرجَّح العام مطلقًا. وهذا عكس قول أكثر أهل العلم، وخلاف قول الإمام أبي حنيفة وأصحابه، فالله المستعان.

ص: 59