الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففهمنا من هذا الحديث أن باب الفتن إذا فتح لا يغلق، فتكثر الفتن وتختلف الأمور ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
والأحاديث الدالة على لزوم وقوع الفتن في هذه الأمة كثيرة جدا ولعله يمر علينا في أثناء الرسالة طرفا منها.
فإذا علمنا هذا وتيقناه ـ وهو أن الفتن واقعة لا محالة: فلا بد من الاستعداد لها بالعلم والعمل جميعا:
أما العلم: فلأنه سيقل ويرفع كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة لأياما: ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج؛ والهرج القتل).
و
سبب قلة العلم في آخر الزمان
أمور:
أولها: موت العلماء الذين هم حملته وأهله كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
الثاني: زهد الناس في العلم النافع وانصرافهم عنه وان كان موجودا. كما هو مشاهد في زماننا هذا من عزوف كثير من الناس عن العلم الشرعي، ورغبتهم عنه وعن معاهده وكلياته.
الثالث: ترك العمل به. والتحاكم إلى غيره، عن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: (ذاك أوان ذهاب العلم) قلت: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: (ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما) أخرجه ابن ماجة
فإذا كان الأمر كذلك وجب على اللبيب العاقل التزود منه قبل ذهابه .......... والله المستعان
وأما العمل: فلأمره صلى الله عليه وسلم بالمبادرة به قبل الفتن: ففي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمن ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وفيه أيضا عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال ستا: الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم).
وإنما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى الأعمال قبل الفتن -والله أعلم _ لأمور:
أولها: أن الإنسان وقت الفتن يشغل بنفسه وأهله فلا يحصل له من الوقت ما كان يحصل له فبل الفتن.
الثاني: أنه قد لا يمكن من العمل وقت الفتن، بل قد يمنع منه إما بقتل أو سجن أو تعذيب أو تشريد أو نحو ذلك .... فالمبادرة قبل المصادرة.
الثالث: انشغال القلب هما وتفكيرا، فيقل الخشوع والعمل. (والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول: أن الأول انشغال عمل بطلب رزق وحفظ نفس ومال ونحو ذلك، وهذا انشغال عقل وتفكير).
الرابع: لالتباس الحق بالباطل واختلاط الأمور في الفتن، فلا يدري الإنسان أين الحق فيتبعه، وأين الباطل فيجتنبه.
فالموفق من وفقه الله للعلم النافع والعمل الصالح ..... جعلنا الله من أولئك.
المسألة الثانية:
إذا علمنا أن الفتن لابد واقعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يعلم أنها كثيرة جدا لا يمكن حصرها .. فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة فقال: (هل ترون ما أرى؟) قالوا: لا. قال: (فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر) متفق عليه واللفظ للبخاري.
وفي البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول: (سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات _ يريد أزواجه _ لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة).
فدل ما تقدم على كثرة الفتن حتى شبهت بالقطر من السماء، ومعلوم أن القطر لايحصيه إلاّ الذي أنزله.
فإذا كان الأمر كذلك وأن الفتن كثيرة جدا فليعلم العبد أنه إن أخطأته فتنة .. لم يكد يسلم من الأخرى، فلينج بنفسه وليحذر. وقد تقدم في الحديث:(من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به).
فالعاقل يوطن نفسه على الهرب منها واجتنابها .. والأحمق الأخرق هو الذي يرفع لها رأسه فيوشك أن تقطعه.
وعلى ما تقدم: فلا يزال العبد في مجاهدة وصبر لكثرة الفتن واستمرارها .. والله المستعان.
المسألة الثالثة:
أن الفتن متفاوتة منها الصغير ومنها الكبير، ومنها الخاص ومنها العام:
دليل ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله أنه كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلي في ذلك شيئا لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعد الفتن:(منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار) قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري.
وقد قدمنا في المسألة (الأولى) حديث حذيفة رضي الله عنه لما سأله عمر عن الفتن فبين له أولا الفتن الخاصة بالإنسان في أهله وماله وولده وجاره، ثم سأله عن الفتنة العامة التي تموج كما يموج البحر فأخبره بها.
وفي مصنف ابن أبي شيبة (8/ 672) والسنن الواردة في الفتن لأبي عمرو الداني (1/ 284) عن طاووس بن كيسان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إنما هذه حيصة من حيصات الفتن وبقيت الرداح المطبقة التي من ماج بها ماجت به ومن أشرف لها استشرفت له)
والرداح المطبقة هي الثقيلة العظيمة العامة.