المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثالثة عشرة:أنه يرخص في الفتن مالا يرخص في غيرها - مسائل في الفتن

[فيصل آل صبحان]

الفصل: ‌المسألة الثالثة عشرة:أنه يرخص في الفتن مالا يرخص في غيرها

‌المسألة الثالثة عشرة:

أنه يرخص في الفتن مالا يرخص في غيرها

، وذلك لأن الفتن سبب في اختلال الأمور، وتغير الأحوال.

فمما يرخص فيها:

أولاً / جواز تمني الموت، وذلك لما رواه الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه:((إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ..)) الحديث وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (1/ 290/ 408). وله أيضا من حديث معاذ رضي الله عنه نحوه وقال: هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح.

وعن عليم قال: كنا جلوسا على سطح معنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال يزيد: لا أعلمه إلاّ عبسا الغفاري، والناس يخرجون في الطاعون فقال عبس: يا طاعون خذني ثلاثا، فقال له عُليم: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمن أحدكم الموت، فإنه عند انقطاع عمله ولا يرد فيستعتب)) فقال إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بادروا بالموت ستا، إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوا يتخذون القرآن مزامير يقدمونه يغنيهم وإن كان أقلهم فقها)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني في الصحيحة (2/ 672/ 979).

ص: 41

وقد حمل الإمام مالك دعاء عمر رضي الله عنه: (اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط) الذي رواه عنه في موطئه على ما ذكرت فقال كما في الجامع لابن أبي زيد (182): (ولا أرى عمر دعا على نفسه بالشهادة إلا أنه خاف التحول من الفتن وقد كان يحب البقاء في الدنيا)

كل ذلك دال على جواز الدعاء على النفس بالموت عند الخوف على الدين

والله أعلم.

الثاني / مما يجوز في وقت الفتن: اعتزال الناس، والانقطاع عنهم في البوادي ونحوها .. حفظا للدين وصيانة للمهج كما قدمنا.

دليل ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير ما المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه وقد تقدم في المسالة الرابعة وفيه: (ألا فإذا نزلت أوقعت ـ أي الفتن ـ فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه

) الحديث.

وعند الإمام أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن كرز الخزاعي قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! هل للإسلام منتهى؟ قال: (نعم من أراد الله به خيرا من عجم أو عرب أدخله عليه، ثم تقع فتن كالظلل يعود فيها الناس أساود صُبّاً يضرب بعضهم رقاب بعض، فأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي ربه ويدع الناس من شره).

- ولأجل ما تقدم بوب البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الفتن بابا فقال: (باب التعرب في الفتنة)، وله في كتاب الإيمان:(باب من الدين الفرار من الفتن)

ص: 42

وسئل الإمام أحمد رحمه الله كما في الآداب الشرعية لابن مفلح (4/ 119) عن العزلة فقال: إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزلها الرجل حيث شاء فأما ما لم يكن فتنة فالأمصار خير.

الثالث: مما يجوز وقت الفتن: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاشتغال بخاصة النفس.

دليل ذلك ما سبق من الأحاديث المرخصة في العزلة، وعند أبي داوود والترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني أنه سُأل عن قول الله تعالى:((عليكم أنفسكم ..)) فقال للسائل: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك يعني بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله)) وفي رواية قال: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم)).

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غاية ينتهى إليها وهي: غلبة الشح على الناس، واتباعهم للهوى وإيثارهم للدنيا، وإعجاب كل واحد منهم بنفسه. فعندها يجوز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاشتغال بخاصة النفس.

ومما يدل على أصل هذه الرخصة أيضا ما رواه أبو داوود في سننه ـ وصححه الألباني في الصحيحة (205)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: ((إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم، وكانوا هكذا)) ـ وشبك بين أصابعه ـ قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: ((الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العوام)).

- فإن قيل: فهل الرخصة شاملة لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنهي

ص: 43

عن المنكر، الواردة في حديث أبي سعيد مرفوعا:((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)

فالجواب: أن الرخصة إنما هي في المرتبتين الأوليين ـ الإنكار باليد واللسان ـ، أما مرتبة الإنكار القلبي فلابد منها؛ وذلك لأن الكراهة القلبية للمنكر، أو المحبة القلبية للمعروف أمر باطن لا إكراه فيه، ولا أذى يترتب على المرء منه، لخفائه وعدم ظهوره، فتبقى هذه المرتبة قائمة ما دام في القلب إيمان.

- فإن قال قائل: فما الفائدة من هذه المرتبة التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الإيمان، مع أن المعروف لاينتشر إلاّ بالقول أو العمل، والمنكر لا ينحسر إلا كذلك؟

فالجواب: أن الأعمال القلبية هي أصل الأعمال البدنية الحسية وأساسها، فإذا بقي القلب منكرا للمنكر؛ بقي حيا لبقاء النور الذي يميز به بين الحق والباطل، ومتى لم يكن القلب كذلك أصبح المعروف والمنكر بالنسبة إليه سواء فلا يعرف معروفا ولاينكر منكرا، ولذا ورد في الحديث ـ كما في الصحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر: أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه))

فبان بهذا عظم هذه المرتبة من الإنكار، ولماذا قال بعدها النبي صلى الله عليه وسلم:((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).

كل ما تقدم ذكره من الرخص يدل أوضح الدلالة: على يسر الإسلام وسماحته، ورفقه بأهله، وانتفاء الحرج عنه كما قال تعالى:((ما جعل عليكم في الدين من حرج)).

ص: 44

ويدل أيضا: على أصل الإسلام في التباعد عن الفتن، وعدم تكثير سواد أهلها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وعلى ما سبق فلا يصح الإنكار على من ترخص بشيء من تلك الرخص التي ذكرت، ولا التضييق عليه بسببها.

وقبل ختم المسألة يحسن بنا التنبيه على أمرين مهمين:

الأول / أن ما ذكرناه في هذه المسألة إنما هو رخصة شرعية مقدّرة بقدرها، لكن لو صبر الإنسان وصابر على العبادة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعلم والتعليم، فإن ذلك خير له، وله أجر ما يصيبه من الأذى والبلاء، وقد تقدم معنا في المسألة (الثالثة عشرة) قول النبي صلى الله عليه وسلم:((العبادة في الهرج كهجرة إليّ)) أخرجه مسلم.

الثاني / أننا قد قدمنا في المسألة (الثالثة) اختلاف الفتن صغرا وكبرا خصوصا وعموما، وبنينا عليه هناك: أن لكل فتنة نظرا خاصا بها، وعليه هنا: فإن هذه الرخص أيضا يختلف الأمر فيها من فتنة إلي أخرى، بل ومن شخص إلى آخر .... والله تعالى أعلى وأعلم.

ص: 45

المسألة الرابعة عشرة:

أنه يجوز التحدث بما ثبت من أحاديث الفتن في المجالس مع الناس لا غضاضة في ذلك ولا حرج

دليل ذلك:

- أولا / أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه ببعض أحاديث الفتن وهم جماعات في المساجد والمجالس كما في حديث حذيفة رضي الله عنه المتقدم وفيه: أن حذيفة قال: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، ومالي ألا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إليّ في ذلك شيئا لم يحدثه غيري؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن

الحديث.

وكما في حديث الجساسة أيضا عند مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بعد صلاة صلاها أن يلزم كل واحد منهم مصلاّه، ثم بين لهم لم جمعهم.

- ثانيا / فعل الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث حذيفة رضي الله عنه في مجلس عمر لما سألهم عن الفتن.

كل ذلك دال على جواز التحديث بأحاديث الفتن بين الناس.

- لكن يستثنى من ذلك ثلاث حالات:

الأولى: إذا خاف الإنسان على نفسه.

ص: 47

دليل ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته؛ قطع هذا البلعوم.

وعند الحاكم وصححه وأقره الذهبي عن أبي الطفيل قال: انطلقت أنا وعمرو بن ضليع إلى حذيفة بن اليمان، وعنده سماطان من الناس، فقلنا: يا حذيفة! أدركت ما لم ندرك، وعلمت ما لم نعلم، وسمعت ما لم نسمع، فحدثنا بشيء لعل الله أن ينفعنا به فقال: لو حدثتكم بكل ما سمعت ما انتظرتم بي الليل القريب.

وقال لخيثمة بن عبد الرحمن لما طلب منه ذلك: (لو فعلت لرجمتموني).

الثانية: إذا خشي ألا يفهم من أمامه، فيثير عنده شبهة لم تكن في حسبانه.

دليل ذلك: ما قاله علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله)

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه أفهامهم إلاّ كان لبعضهم فتنة).

الثالثة: إذا كان المتحدث بها ليس أهلا للتحديث؛ إما لقلة علمه بصحيح الأخبار وسقيمها، وإما لقلة فهمه لها؛ مما يؤدي إلى خبطه فيها خبط عشواء، وتنزيلها على غير أهلها.

- فإن قيل: فما الفائدة من تحديث الناس بذلك؟

فالجواب: ليتعلموا، وليأخذوا حذرهم، وليكون ذلك سببا في تقليل الفتن، إذ إن الدفع أسهل من الرفع.

وبذلك كله تظهر شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وإرشاده لهم إلى ما ينفعهم، وصدق الله القائل:((وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)). والله أعلم ....

ص: 48

المسألة الخامسة عشرة:

أن كثيرا مما يروى في الفتن والملاحم من الأحاديث والآثار ضعيف أو موضوع لا يحتج به، ولذا ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: ثلاث علوم لا إسناد لها ـ وفي لفظ: ليس لها أصل: التفسير والمغازي والملاحم.

وهذا واضح جلي لمن قرأ في الكتب التي ألفت في هذا الباب خاصة ـ ككتاب: (الفتن) لنعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله ثم عرض ما فيها من الأحاديث والآثار على كلام أهل الشأن من العلماء.

فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كما قلت، فلماذا رواها هؤلاء الأجلة رحمهم الله وأودعوها مصنفاتهم؟ أليس في هذا تضليل للأمة، وغش لأهلها؟

فالجواب: أن من عادة سلفنا رحمهم الله تعالى أن يرووا في كتبهم ما أرادوا ذكره بأسانيدهم .. لينظر فيها من يقرأ كتبهم ممن جاء بعدهم ثم يحكم عليها بما يليق بها صحة وضعفا .. وكثير من كتب الإسلام قائمة على ما ذكرت .. فالجمع والتأليف شيء، والتمحيص ومن ثم العمل شيء آخر.

إذا: فلا غش ولا تضليل، وإنما الغش والتضليل ممن يذكر تلك الآثار والنصوص في كتابه بلا خُطُم ولا أزمة، كالبعير الشارد، ويسوقها مساق الأحاديث المسلم بها بحجة أنه وجدها في كتاب فلان، وينزلها على الأزمان والأشخاص، فيغر الجاهل بها، ويشغل العالم بالرد عليه وعليها.

ص: 49

فإن قيل: أفلا يجوز الترخص في رواية هذه الأحاديث، وبثها في الناس، لأنها لا تتعلق بشيء من الحلال والحرام؟

قيل لا يجوز ذلك لأمرين:

أولهما: أن تلك النصوص التي يراد الترخيص في روايتها ونشرها مع ضعفها وإن كانت لا تتعلق بالحلال والحرام؛ إلاّ أنها تتعلق بأمور عامة بالأمة، يترتب عليها من الأحكام والأحوال بل والأفعال مالا يعلمه إلاّ الله تعالى، فإذا ذكرت ونشرت وقعت بسببها محن وزلازل، وفتن وقلاقل .. وليس الناس كلهم علماء يعرفون، ولا عقلاء يكفّون، بل كثير منهم همج رعاع، يسمعون فيصدقون.

الثاني: أن كثيرا مما تخبر به أمثال هذه النصوص: أمور مستقبلية غيبية لا يعلمها إلا الله تعالى، فالخوض فيها اعتمادا على مثل تلك الروايات غير جائز شرعا، إذ هو من التخرص والظنون والرجم بالغيب .. والله المستعان.

فإذا كان الأمر كذلك: بان لنا خطورة الاعتماد على مثل تلك النصوص، ومن ثم العمل بها، ونشرها بين الناس.

تنبيهات:

أولها: لا يعني ما قدمناه في هذه المسألة أن الفتن والملاحم لم يثبت فيها شيء عن نبينا صلى الله عليه وسلم، كلا .. بل قد ثبت فيها الكثير الطيب عنه عليه الصلاة والسلام مما هو موجود في دواوين الإسلام المشهورة المعروفة، والتي تداولها العلماء دراسة وتمحيصا، وشرحا وتخريجا والحمد لله.

الثاني: أنه كما تساهل قوم في الأخذ بكل ما هب ودرج مما يروى في الفتن والملاحم، غلا قوم في الرد والجفا حتى أنكروا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إما اجتهادا بحسن نية، وإما مكيدة وسوء طوية.

فوجد من أنكر خروج الدجال وظهور المهدي ونزول عيسى عليه

ص: 50

وعلى نبينا الصلاة والسلام إنكارا صريحا، أو تأويلا يؤول إلى الإنكار، وكل ذلك باطل قطعا، وليس المراد في هذه الرسالة الرد على أولئك المنكرين، ولكن المقصود هو بيان طرق الناس في الأخذ والرد لما ورد من النصوص في الفتن والملاحم.

وعلى كل حال فهؤلاء الجفاة كأولئك الغلاة .. جانبوا الصواب في التلقي والتنزيل .. والوسط هو العدل والخير .. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ..... والله أعلم.

ص: 51

المسألة السادسة عشرة:

اعلم أن تنزيل ما ورد من أحاديث الفتن عل الأزمان المعينة أو الأشخاص المعينين على قسمين:

القسم الأول: تنزيل تام: بأن يقول أن المقصود بالحديث الفلاني هو هذا الزمان بالذات أو أن المقصود بالشخص الفلاني المذكور في حديث كذا هو فلان بن فلان ونحو ذلك.

وهذا النوع من التنزيل لا يجوز؛ لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة والآثار الجسيمة ولو لم يكن في ذلك إلا حصول فتن جديدة ليست هي المقصود بالنص لكفى .. وقد قدمنا في المسالة (الحادية عشرة) كيف أن تنزيل بعض النصوص على بعض الأفراد كالنصوص الواردة في المهدي مثلا قد أدى إلى حصول فتن كثيرة في الأمة سفكت فيها الدماء وانتهكت فيها الأعراض ونهبت فيها الأموال ولا حول ولا قوة إلا بالله.

القسم الثاني: تنزيل جزئي، وان شئت فقل:(تنزيل معنى) بأن يقال: أن معنى ما ورد في النص الفلاني قد وقع شيء منه في زماننا هذا، كحديث " يرفع العلم وينزل الجهل ويلقى الشح " فإن قائلا لو قال: إن زماننا هذا قد وقع فيه شيء مما ذكر فيه لما أنكر عليه أحد، ولكان قوله مقبولا لا يرد. ومن نظر في كلام الأئمة عند شرحهم لمثل هذه الأحاديث رأى ذلك واضحا جليا .. والحمد لله.

فإن قال قائل: فإنه قد وجد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نزل بعض

ص: 53

الأحاديث على بعض الأشخاص تنزيلا تاما، كما ورد عن عمر رضي الله عنهم أنه كان يحلف أن الدجال هو ابن صياد، وتبعه على ذلك جابر رضي الله عنهم كما في صحيح مسلم، وابنه عبد الله كما عند أبي داود، ولو كان الأمر كما ذكرت لما جاز لهم ذلك؟

فالجواب: أن ذلك لم يكن من عمر رضي الله عنهم ومن معه من الصحابة اجتهادا من عند أنفسهم، بل كان اعتمادا على إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نفس الحديث المذكور فإن جابر رضي الله عنهم لما سئل عن يمينه قال: سمعت عمر يحلف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره.

فالذي يريد أن ينزل الأحاديث على الزمن وأهله يحتاج إلى مثل ذلك الإقرار، وأنى له ذلك.

ثم على فرض التسليم بعدم الإقرار منه صلى الله عليه وسلم لعمر وأن ذلك كان منه اجتهادا؛ فأي الناس كعمر الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحدث الملهم، والذي وافق ربه في مسائل كثيرة، هذا مما لا يكون بحال.

فإن قيل: فهل يعني ذلك أن الأحاديث الواردة في وصف الفتن ليس لها معنى معينا (خاصا) وإنما هي أمور عامة مشتركة بين الأزمنة والأمكنة والأشخاص؟

فالجواب: لا .. فإن كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في فتنة من الفتن لا بد واقع لا محالة كما أخبر؛ فان كان المخبر به أشخاصا يكونون في الأمة: ظهر أولئك الأشخاص بأعيانهم كما أخبر، وعندها يعرفهم الناس بالعلامات الدالة عليهم الواردة في النصوص في وصفهم، كذي الثديّة المذكور في قتال الخوارج؛ والدجال وغيرهما.

وان كان المذكور في النص أحوالا وأوصافا للناس عامة أو لبعضهم خاصة، أو للأزمنة أو الأمكنة: وقعت تلك الأوصاف واستحكمت وغلبت حتى تكون مطابقة لما ورد فيعرفها الناس حينئذ، كما في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه،

ص: 54

قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه.

فان قيل: فإذا كان الأمر كما ذكرت فما وجه هذا التقسيم كله؟

فالجواب: أن في ذلك سدا للذريعة على كل متقول ومتخرص وراجم بالغيب، حتى لا يقع الاختلاف، وتعم الفتن ويكذب الشرع .. والله أعلى وأعلم.

ص: 55

المسألة السابعة عشرة:

أن لله تعالى وقت الفتن بهذه الأمة ألطافا ورحمة، كيف لا وهو الله الرحمن الرحيم وقد وعد سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بان يرضيه في أمته ولا يسوؤه كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وفيه أن الله تعالى يقول:(يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)

وهذه البشارة الإلهية الكريمة عامة لهذه الأمة في الدنيا والآخرة إذ إن الله سيرضي رسوله في أمته في عاجل الأمر واجله.

والفتن وان كان فيها من البلاء والتمحيص والضيق ما يكون إلا إن لله تعالى في خفايا ذلك البلاء وأعطافه ألطاف ورحمة حقيقة بان تشكر ولا تكفر وتذكر ولا تستر. فمن ذلك:

أولا: أن الله تعالى لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا بل الحق فيها دائم ما دامت الأمة وهذا ما تدل عليه أحاديث الطائفة المنصورة كما قدمنا ووجه الدلالة منها: أن طائفة من الأمة باقية على الحق مستمسكة به حتى يأتيها أمر الله وهي على ذلك، وفي مصنف ابن أبي شيبة (8/ 604) بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 296) عن أبي مسعود رضي الله عنه انه قال:(اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة فان الله لا يجمع امة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة).

ص: 57

فبقاء الحق في الأمة ظاهرا منصورا محفوظا، من أجلّ النعم وأفضل المنن على هذه الأمة ولله الحمد والمنة.

ثانيا: أن الله تعالى حفظ هذه الأمة من الهلاك ببعض الأمور، بدعاء نبيها صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك:

ما رواه مسلم وغيره من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وان أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض واني سالت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وان لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وان ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فانه لا يرد، واني أعطيتك لامتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا).

وفيه عن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال صلى الله عليه وسلم (سالت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سالت أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل باسهم بينهم فمنعنيها).

فبان بهذه الأحاديث حفظ الله تعالى لهذه الأمة من الهلاك العام: بالسنين، والغرق، والعدو الخارج مهما كانت قوته، وأن من أخطر الأمور على الأمة هو التفرق والاختلاف، والفتن الناشئة من داخلها.

وعليه: فليتق الله أقوام يسعون في إشعال الفتن، وإذكاء نارها، سواء ممن له غيرة على الدين تحملهم على ارتكاب مالا يجمل، أو من الفسقة والمنحلين الذين يسعون لإفساد المسمين، فان ذلك سبب للهلاك. والله اعلم.

ثالثا: كما أن الله تعالى ـ كما تقدم ـ قد أمّن هذه الأمة من الهلاك العام بعذاب من عنده؛ فإنه سبحانه لم يجعل نهايتها على يد أحد سواه،

ص: 58

وذلك بأن يرسل سبحانه في آخر الزمان ريحا طيبة تقبض أرواح عباده المؤمنين قبضا يسيرا، حتى لا يبقى على الأرض منهم أحد. ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة ـ وفي لفظ: مثقال ذرة من إيمان إلاّ قبضته)).

وفيه وفي المسند من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الطويل في قصة الدجال ـ وفيه: ((فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر؛ فعليهم تقوم الساعة)).

رابعا: أن الله تعالى يجعل لها في بعض الفتن الكبار علامات تعرفها بها، حتى لا تقع في الخطأ والزلل.

كما ورد في الدجال، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصفه وصفا تاما كما قدمنا، وهذه الصفة التي وصف بها هي إحدى العلامات التي يعرفه الناس بها، وعلامة أخرى: أن الله تعالى يجعل بين عينيه كلمة فاضحة له وهي (كافر) يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب كما في صحيح مسلم، والظاهر أن هذه العلامة خاصة بهذه الأمة دون غيرها حفظا لها وتثبيتا، بخلاف العلامة التي هي صفة له فإنه يشترك فيها جميع الناس.

ومثل ذلك المهدي الذي سيخرجه الله للأمة في آخر الزمان، فإنه قد وصف كذلك أتم الوصف وأبينه كما مر، وحتى لا يلتبس بغيره بسبب الاشتراك في بعض الصفات جعلت له علامة أخرى عند خروجه هي من الظهور وعدم الالتباس بمكان، ألا وهي الخسوف بالجيش الذي يؤم البيت لمحاربته كما ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام.

خامسا: ومن ألطاف الله تعالى بهذه الأمة عند الفتن: أنه يقيض لها في آخر الزمان عند اشتداد الفتن وتعاظمها من يقودها، من عباده الصالحين.

فالمهدي مثلا يخرجه الله في وقت تشتد فيه الأمور وتكثر فيه الفتن،

ص: 59

ويعظم فيه أمر الكفار، فيجعل الله تعالى خروج هذا العبد الصالح سببا في إعزاز دينه وإعلاء كلمته.

وكذا عند حصول فتنة الدجال التي هي من أعظم الفتن في الدنيا ينزل الله تعالى على هذه الأمة عبده ورسوله: عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيقتل الدجال، والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية، ويمكث بين ظهراني الأمة كذلك عند خروج يأجوج ومأجوج حتى إذا أهلكهم الله، مكث في الأمة ما شاء الله أن يمكث ثم يموت عليه الصلاة والسلام.

وهذا الذي قلناه إنما هو لطف من الله تعالى بهذه الأمة وربط على قلوب أهلها، فما أكرم أمة، ساسها أنبياء الله في أول أمرها وآخره.

ولعله يدخل في هذا الباب أيضا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، فلله الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.

ص: 60

المسألة الثامنة عشرة:

أن صاحب الشريعة كما بين لنا الفتن؛ بين لنا المخرج منها وكيفية التعامل معها، مما يدل أعظم الدلالة على كمال الشريعة، حيث بينت الداء ،وأبانت عن الدواء، فمن ذلك:

أولاً: أنها أمرت بالصبر، ففي البخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: استعملت فلانا ولم تستعملني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إنكم سترون بعدي أثرة ـ وفي لفظ ـ ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني)).

وفي المسند عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة، فأعدوا للبلاء صبرا)).

ففي الحديث أمر بالإعداد للفتن صبرا، ولا يكون ذلك الإعداد إلاّ بترويض النفوس، وتعويدها على الصبر والمصابرة، وإنما الحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم، ومن يتصبر يصبره الله.

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصبر أوسع العطاء فقال كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: ((وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر))، وذلك أن الصبر لا يعقبه إلا السعة واليسر قال تعالى:((فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا))، ولذا قال عمر رضي الله عنه:(أدركنا خير عيشنا بالصبر)، وقديما قيل:

أَمَا والذي لا خلد إلا لوجهه

ومن ليس في العز المنيع له كفو

ص: 61

لئن كان بدء الصبر مُراً مذاقه

لقد يجتنى من غبه الثمر الحلو

وفي الفتن تظهر العجلة، وتخف العقول، وتختلط الأمور، والصبر كاشف لذلك كله وذلك لامور:

أولها: أن الله تعالى أخبر أنه مع الصابرين فقال: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} ، ومن كان الله معه أنزل عليه سكينته وثبت قلبه كما قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم:{ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا؛ فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ..} الآية.

والسكينة هي هدوء النفس وطمأنينة القلب، المفضية إلى حسن التصرف وسلامة التدبير، فإذا نزلت السكينة انجفلت الفتنة، وإذا رفعت السكينة، وضعت الفتنة.

الثاني: أن الله تعالى أخبر بمحبته للصابرين فقال: {والله يحب الصابرين} ومن أحبه الله عصمه وثبته، وأراه الحق حقا، ورزقه إتباعه، وأراه الباطل باطلا ورزقه اجتنابه؛ ولذا ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب ألي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن استعاذني لأعيذنه ..))، فمن أحبه الله حفظ له سمعه وبصره ويده وقدمه وما أحوج الناس وقت الفتن إلى حفظ تلك الجوارح

والموفق من وفقه الله.

الثالث: أن الله تعالى جعل للصابرين ثلاث بشارات جزاء صبرهم فقال: ((وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا أليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم

ص: 62

المهتدون))، فوعدهم سبحانه بعد صلاته عليهم؛ بأن يرحمهم ويهديهم، ومع اختلاط الأمور في الفتن ما أحوج الناس إلى رحمة الله وهداه .. جعلنا الله من أهل هداه ورحمته.

وعلى كل حال: فالصبر مطية لا تكبو، وصارم لا ينبو، من استعصم به عصم، ومن تمسك به هدي .. والله المستعان.

ثانيًا: العلم: ولذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم رفعه من علامات الساعة فقال: ((من أشراط الساعة: أن يقل العلم، ويظهر الجهل)).

وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الفتن (بقطع الليل) وليس أي ليل بل الليل (المظلم) الذي لا قمر فيه ولا ضياء، فالساري فيه على شفى هلكة إن لم يكن معه ما يبصر به مواقع قدمه، ومجاهل طريقه؛ وهو في حال الفتن: العلم؛ فإنه كاشف لها مبين لحالها وأهلها.

وكلما زاد علم الإنسان بربه ودينه؛ زادت بصيرته واطمأن قلبه، قال حذيفة رضي الله عنه:(لا تضرك الفتنه ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل).

والمراد بالعلم هنا: هو العلم الشرعي الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ فيها النجاة أبدا، ولذا سمى الله تعالى كتابه نورا فقال:{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} وقال: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير} وقال: {فالذين ءآمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} .

وسماه بصائر فقال: {فد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} وقال: {هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون} .

وأمر بطاعة رسوله فيما أمر به ونهى عنه فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع

ص: 63

الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا}، ووعد من اتبع رسوله وأطاعه بالهداية فقال:{وإن تطيعوه تهتدوا} .

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعظوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) أخرجه أبو داود واللفظ له والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في ظلال الجنة ح (31).

فجعل المخرج عند اختلاف الأمور وظهور المحدثات؛ التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم.وهذا من الهداية التي وعد الله تعالى بها من اتبع نبيه صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: مما يكون سببا في الخروج من الفتن:

أن ترجع الأمور إلى أهلها، من أهل العلم والبصيرة إذ لا يصح أن يكثر الخائضون، ولا أن يتعالم المتعالمون لأن أمر الفتن شديد فالقول وقت الفتن لا يكون إلا لأهل العلم قال الحسن رحمه الله كما طبقات ابن سعد (7/ 166):(إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل) وإنما كان الأمر كذلك لأمور:

أولها: أنهم هم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم الأعلم بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد قدمنا أن العلم من أعظم الأسباب المنجية من الفتن، وهم أمكن فيه من غيرهم، فكان الأمر لهم دون سواهم.

الثاني: أنهم أشفق على الأمة من غيرهم وأنصح لها ممن سواهم، وذلك لما علموه من دلالة الكتاب والسنة على وجوب البلاغ ومغبة الكتمان.

ص: 64

الثالث: أنهم أعلم وأدرى بتقدير المصالح والمفاسد، والترجيح بينها، من غيرهم، إذ إن لهم من البصيرة في الدين ما ليس لغيرهم.

وعلى ما تقدم: فمِن إعطاء الحقوق لأهلها ألا يُتقدم عليهم بقول ولا فتيا، ولا اجتهاد ولا نظر.

ولا يعني ذلك القول بعصمتهم، وعدم الزلل منهم: كلا، فما زال العلماء يخطئون ويزلون، لكن لا يعني خطأ العالم استباحة عرضه، وأكل لحمه فإن ذلك من الظلم الذي سببه الطيش والجهل، بل الواجب أن يرد عليه خطأه وأن تحفظ له سابقته.

ولُيعلم أن التنقص من العلماء إنما هو مكيدة شيطانية، يلقيها الشيطان على لسان بعض الناس، ثمرتها الخبيثة: نزع ثقة الأمة في علمائها ومصلحيها، وفتح باب الولوج للرؤوس الجهال الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الناس لابد لهم من رأس يرجعون إليه إما في أمر دينهم، وإما في أمر دنياهم، أو فيهما معا، فإذا كان الرأس ضالا؛ ضل بضلاله الكثير، وفسد بسببه أمر الناس في دينهم ودنياهم.

فليحذر الصالحون من مغبة الكلام في أعراض العلماء ولا يكونوا معاول هدم للأمة.

وأما العلماء: فإن عليهم واجبا كبيرا لو لم يكن من شأنه إلاّ أنهم قائمون في الأمة مقام نبيها صلى الله عليه وسلم لكفى، وإذا كان واجبهم وقت السعة عظيم؛ فهو في وقت الفتن أشد وأعظم لالتباس الأمور واشتباهها واختلاف الأحوال وتغيرها.

وليعلموا أن من أعظم أسباب الفتن وقوعا وانتشارا: كتمانهم لما عندهم من العلم، إما خوفا ومداهنة، وإما شحاً وبخلا. إذ إن كليهما مفض إلى ظهور المنكرات وانتشار البدع وذهاب الدين، ومن ثم سفك الدماء واستحلال المحارم، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)).

وعليهم أن يكونوا رجال عامة، فيصبروا أنفسهم للناس، ويخفضوا

ص: 65

لهم الجناح، فإن ذلك أدعى لقبول الناس منهم والتفافهم حولهم وصدورهم عن رأيهم، فإن لم يكونوا كذلك فلا يلوموا الناس إن طلبوا رؤوسا غيرهم بل يلوموا أنفسهم.

رابعا: الحلم والأناة: وهما خلقان محمودان شرعا، محبوبان لله ورسوله كما في حديث ابن عباس في قصة قدوم وفد عبد القيس وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشج أشج عبد القيس:(إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).

وهذان الخلقان يثمران أحسن الثمرات، ويوردان أحسن الموارد، إذ يحملان صاحبهما على فعل الحسن، وترك القبيح.

ولو لم يكن في الحلم إلاّ أن الله تعالى وصف به نفسه وجعله من أسمائه، ووصف به أنبياءه لكفى، قال تعالى:{والله غفور حليم} وقال: {واعلموا أن الله غفور حليم} وقال: {وكان الله عليما حليما} وغيرها من الآيات التي يسمي فيها الله تعالى نفسه بهذا الاسم ويصف فيها نفسه بهذه الصفة.

وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب} وقال: {إن إبراهيم لأواه حليم}

وقال عن نبيه إسماعيل عليه السلام: {فبشرناه بغلام حليم} .

وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة كما في سنن الترمذي من حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه.

وأما العجلة والتسرع فخلقان مذمومان في غالب الأحيان، وأكثر الأحوال وذلك لأنهما ثمرة الهوى والشهوة إذ يمنعان صاحبهما من التفكر في الأمر، والنظر في العواقب، بل ويحرمان صاحبهما من كثير من العلم النافع والعمل الصالح، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستحب لي)، فانظر كيف كانت العجلة سببا في حرمان الإجابة وترك الدعاء ولو صبر لكان خيرا له.

ص: 66

فعلى العبد الموفق إذا وقعت الفتن أن يحلم ولا يجهل، ويتأنى ولا يعجل، فإن ذلك أحمد للعاقبة

والله المستعان.

خامسا: مما يكون سببا في دفع الفتن أو تقليلها: التثبت:

وهو مبدأ قرآني أصيل، يذب به عن الأعراض، ويستراح به من القال والقيل. يقول الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} ويقول: {يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا} أخرج الترمذي وغيره وهو عند البخاري مختصرا في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا من بني سليم مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له، فسلم عليهم فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا إليه وقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية،.فانظر كيف كان ترك التثبت سببا في سفك دم ما أمروا بسفكه.

إن عدم التثبت ليرهق الأمة أفرادا وجماعات، إذ يكلفها من وقتها وجهدها ومالها ما تكون في غنى عن بذله لو تثبتت.

والفتن إنما تظهر بالإشاعات والبواطيل، وتنتشر بالقال والقيل، مع خفة عقل في نقلتها ورقة دين، تمنعهم من امتثال أمر الله تعالى بالتثبت وترك الاستعجال.

ولتجدنّ أشد الناس حدّة في الطبع، وإعجابا بالنفس، وتعصبا للرأي؛ هم أولئك الذين لا يتثبتون ولا يتبينون، فيغلب عليهم الصلف والكبر، وعدم مراعاة الناس، الجميع عندهم جهلة لا يعلمون، وهم العارفون العالمون.

إن حمل المسلمين على العدالة هو الأصل الذي لا ينبغي العدول عنه إلاّ بمثله من اليقين، أما بمجرد قول قيل لا يدرى من أي رأس خرج ولا

ص: 67

على أي أرض درج؛ فجريمة يسأل صاحبها عنها، مفضية إلى الندامة في الدنيا قبل الآخرة.

وعليه: فإن من أعظم ما تدفع به الفتن، التثبت والتبين في الأخبار، لاسيما إذا كان الخبر متعلقا بعموم الأمة، أو برأس من رؤوسها، وليعلم أن مجرد الثقة في الناقل لا تكفي بمفردها وذلك لما يعتري النفوس من الهوى والشهوة ونفث الشيطان.

ثم لو فرض صحة الخبر يقينا، فإنه يبقى بعد ذلك النظر في مصلحة نشره من عدمها، فإنه ليس كل ما يعلم يقال، وإن من الأخبار مالا يلقى إلاّ إلى الخاصة الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.

وليعلم أيضا أن هتك الأستار، ليس من الإصلاح في شيء، إذ إن الله تعالى أمر بالستر والنصح، وأمره سبحانه هو الصلاح والإصلاح بعينه، فما خالفه فليس من الإصلاح في شيء كما قلنا.

إن المنهج الحق: هو التناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع شفقة على المنصوح وحزن عليه يقتضي تمام السعي في إصلاحه وإن كان جبارا عنيدا، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المقتول بسبب كلمة الحق من أعظم الشهداء عند الله، لكنه لم يجعل لهاتك الأستار إلاّ الفضيحة في الدنيا؛ إذ يوشك الله تعالى أن يفضحه ولو في جوف داره، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من سوء الحال والمآل.

سادسا: الإكثار من العمل الصالح:

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول: ((سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)).

فالعمل الصالح كما أنه مجلبة للرزق، فهو كذلك مدفعة للفتن، وإنما كان كذلك لأنه من أعظم أسباب الثبات على الحق قال الله تعالى:{ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ..} الآية،

ص: 68

ولأنه من أعظم أسباب ترك البغي كما قال تعالى: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} .

وأهل العمل الصالح الذين هم المتقون يؤيدهم الله تعالى بفرقان من عنده يميزون به بين الحق والباطل، قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ..}

والناس في كل وقت محتاجون إلى التمييز بين الحق والباطل، والخلط بينهما من أعظم أبواب الفتن.

وأيضا: فإن الله تعالى مع المتقين وقد قدمنا أن من كان الله تعالى معه، ثبته وهداه، وأنزل عليه السكينة.

وأيضا: فإن المتقين أخشى لله من غيرهم وأخوف، ومن كان خوف الله تعالى وخشيته ملء قلبه كفّه عن محارمه، فيثر حينئذ خير العبد ويقل شره، ويسلم منه الناس ولذا ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم ((الإيمان قيد الفتل)) رواه أبو داود عن أبي هريرة.

فصاحب الخشية: أعف الناس لسانا، وأكفهم يدا، وأرحمهم قلبا.

ومما يجعل العمل الصالح مخرجا من الفتن أيضا: أن صاحبه مشغول به عن غيره، غير ملتفت إلى ما سواه، وإنما تزيد الفتن ويكثر أهلها بسبب الغفلة والفراغ، إذ هما مدعاة للاشتغال بما لا ينفع، ومن لم يشغل نفسه بالطاعة أشغلته بالمعصية ولا بد.

وخلاصة ما سبق، أن العمل الصالح سبب من أسباب العصمة من الفتن لأمور:

أولها: أنه سبب لتثبيت الله تعالى لصاحبه.

الثاني: أن الله تعالى يجعل لصاحبه نورا وفرقانا يميز به بين الحق والباطل.

الثالث: أنه مورث للخشية والخوف من الله تعالى المفضيان إلى كف النفس عن اقتحام لجج الفتن.

الرابع: أنه مشغل لصاحبه عما لا يعنيه.

ص: 69

جعلنا الله وإخواننا المسلمين من عباده الصالحين.

سابعا: كف اللسان واليد: فلا يشارك في الفتنة بقول ولا فعل لما يترتب على ذلك من إشعال الفتنة وإذكاء نارها، أخرج الطبراني في الكبير والبيهقي في سننه عن الشعبي قال: قال عبد الملك بن مروان لأيمن بن خريم بن فاتك: اخرج فقاتل معنا، فقال: إن أبي وعمي شهدا بدرا وإنهما عهدا إلي ألاّ أقاتل رجلا يشهد ألاّ إله إلاّ الله، فإن أتيتني ببراءة من النار قاتلت معك، وإلاّ لا حاجة لنا فيك.

وعند الداني في السنن الواردة في الفتن (1/ 345) أن رجلا قال لحذيفة: إذا اقتتل المسلمون فما تأمرني؟ قال: انظر أقصى بيت في دارك فلج فيه، فإن دخل عليك فقل: ها بؤ بذنبي وذنبك.

وهذا الذي قاله هؤلاء الأجلّة من السلف هو ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده الفتنة فقال: إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أمانتهم وكانوا هكذا ـ وشبك بين أنامله ((قال عبد الله فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك؟ قال: ((الزم بيتك، وأمسك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصتك، وإياك وعوامهم)) رواه أحمد وأبو داود وذكره الألباني في الصحيحة (205).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. فذكر الحديث .. وفيه: ((كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف)) قلت: الله ورسوله أعلم، أو قال: ما خار لي الله ورسوله. قال: ((عليك بالصبر، أو قال: تصبر)) ثم قال لي: ((يا أبا ذر!)) قلت: لبيك وسعديك. قال: ((كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم)) قلت: ما خار لي الله ورسوله. قال: ((عليك بما أنت منه)) قلت: يا رسول الله! أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: (0 شاركت القوم إذا)) قلت فما تأمرني؟ قال: ((تلزم بيتك)) قلت: فإن دخل عليّ بيتي؟ قال: ((فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك، يبوء بإثمك وإثمه)) أخرجه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في الإرواء (2451).

ص: 70

ففي هذه الأحاديث أمر منه صلى الله عليه وسلم بكف اليد واللسان عند حصول الفتنة لما يترتب على ذلك من زيادتها.

ومما يذكر هنا أن بعض السلف الصالح رحمهم الله تعالى عندما حصلت الفتنة الأولى ترك السؤال عن أخبارها، فقد نقل المزي في التهذيب في ترجمة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أنه لزم بيته في الفتنة وأمر أهله ألاّ يخبروه بشيء من أخبار الناس حتى تجتمع الأمة على إمام.

وروي عن شريح مثل ذلك فقد قال ميمون بن مهران: لبث شريح في الفتنة تسع سنين، لا يخبر ولا يستخبر، ولما سمع مسروق ذلك قال: لو كنت مثله لسرني أن أكون قد مت، رحم الله الجميع.

وعليه: فينبغي للمسلم حال الفتن أن يكف يده ولسانه، ولرب كلمة أسالت دما، وأعقبت ندما.

والله تعالى أعلم.

ثامنا: مما يكون سببا في الخروج من الفتن: لزوم جماعة المسلين وإمامهم:

كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة الطويل وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما سأله عن الخير والشر فقال: فما ترى إن أدركني ذلك قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) فقلت:

فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك)) رواه مسلم في صحيحه.

وواضح من الحديث أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة المسلمين المجتمعة على إمام يقيم فيهم حكم الله تعالى وإن كان لفظ الجماعة قد يراد به معاني أخرى في النصوص الشرعية وهي وإن كانت لا شك مما يعصم من الفتن؛ إذ لا فتنة أعظم من ترك الإسلام وأهله واللحاق الكفر وأهله ((والفتنة أشد من القتل))، ثم ما يليها من البدع المفضية لتغيير الدين وتبديل شرع رب العالمين، لكن المراد هنا التأكيد على المغنى الذي ذكرناه لتهاون بعض الناس فيه مع ما يلقيه الشيطان من الشبه المفضية إلى الخروج على الأئمة ومنابذتهم بالسيف. بخلاف المعاني المذكورة، فإنها

ص: 71

وإن كانت كذلك إلاّ أن النفور مما يخالفها أشد، والهرب من مسمى الخارجين عنها أكثر حتى أنك ترى أهل البدع الغارقين فيها إلى رؤوسهم ينفرون من وصفهم بها ويبرئون أنفسهم منها.

وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة جماعة المسلمين وإمامهم لما في ذلك من المصلحة العامة، وإن ظن بعض الناس أن الخير في ترك ذلك، ولذا ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:(أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة) وصدق رضي الله عنه.

وليعلم أن من أعظم أسباب الفتن بين المسلمين: الهوى والشيطان، وأهل الكفر والطغيان.

فأما الأول: فلأن الإنسان قد تزين له نفسه وهواه وشيطانه؛ البغي على غيره، بأخذ ماله أو هتك عرضه أو سفك دمه، فإذا كان ثَمّ إمام وجماعة؛ وقعت الهيبة في نفس الباغي فكف عن بغيه، وأثمر ذلك لزومه للحق طوعا أو كرها، فسلم المسلمون وأمنوا.

وأما الثاني: فكما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} إلى قوله تعالى: {لعلكم تهتدون} ، وقد روي في سبب نزول هذه الآيات: أن يهوديا جلس في مجلس من مجالس الأنصار وأنشد شعرا مما كانت الأوس والخزرج تتقاوله يوم بعاث حتى ثار الحيان إلى السلاح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم وقال:((يا معشر المسلمين! الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)) ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظهم حتى عرف القوم أنها نزغة من نزغات الشيطان، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً.

إذا فأعداء الله الكافرين: لا يزالون يثيرون الفتن في الأمة، ويذكون نار الخلاف بين أهلها، أذهابا لقوة المسلمين، وإضعافا لأمرهم، فإذا اعتصم الناس بالجماعة، وتمسكوا بالإمامة ردوا كيد الكافرين في نحورهم، وبقيت

ص: 72

الأمة عزيزة الجناب، مرتوقة الإهاب لا يضرها كيد الكافرين ولا شنآن الحاسدين.

تاسعا: الدعاء والتضرع:

وهو سلاح المؤمن وجُنّة المتقي، والإنسان مهما بلغ علمه وعمله معرض للفتنة، فكان لزاما عليه أن يلوذ بمصرف القلوب والأبصار، راجيا متضرعا، داعيا متبتلا، عسى الله أن يرحمه ويثبته ويهديه، وما خاب عبد قرع باب مولاه، ولا ندم من انطرح بين يدي الله.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الفتن عموما ويأمر أصحابه بذلك كما في مسند أبي عوانة عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن))، قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

ويتعوذ من فتن خاصة منها ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الجماعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار، وفتنة القبر وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر، ومن شر قتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)).

فإذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بنا نحن، فمن توفيق الله تعالى لعبده أن يلهمه الدعاء والتضرع، ولرب دعوة خرجت من قلب صادق أورثت سعادة الدنيا والآخرة.

عاشرا: مما يكون سببا في العصمة من الفتن: العزلة والفرار بالدين.

كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)). وفي صحيح مسلم من حديث

ص: 73

أبي بكرة رضي الله عنه وقد تقدم في المسالة الرابعة وفيه: (ألا فإذا نزلت أوقعت ـ أي الفتن ـ فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه

) الحديث.

وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو وقد مرت: (0 وعليك بأمر خاصتك وإياك وعوامهم)).

وأكثر ما تتأكد العزلة في الفتن لأحد صنفين:

أحدهما: من خشي على دينه أن يفتن فيه، ويحول عنه.

الثاني: من كان ذا بأس وشدة يخشى على الناس منه ومن بأسه، ومثله صاحب الرأي والمشورة والدهاء، الذي يخشى على الناس من رأيه. ولذا ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لما ذكرت عنده الفتن وسئل: أي أهل ذلك الزمان شر؟ قال: (كل خطيب مسقع، وكل راكب موضع) نقله عنه البغوي في شرح السنة (15/ 16).

وإنما كان الأمر كما قال: لأن الأول محرض على الفتنة بلسانه، والآخر بسنانه، فاجتمع الشران: شر القول، وشر العمل.

إذا: فالعزلة في الفتن: عند خوف الضررين: القاصر والمتعدي.

فإن قيل: فما فائدة العزلة وقت الفتن؟

فالجواب: أمور:

منها: صيانة الدين عن المساس، والنفس عن التلف والعرض عن الضيم والانتهاك والمال عن الضياع، وقل من شارك في فتنة من الفتن وسلمت له هذه كلها.

ومنها: سلامة الصدر على المسلمين، ولذا جاء عن سعد رضي الله عنه كما تقدم أنه أمر أهله إلاّ يخبروه بشيء من أخبار الناس لما وقعت الفتنة حتى يجتمعوا على إمام، وإنما كان الأمر كذلك: لأن من شارك في الفتن مع فئة

ص: 74

من الفئات، فلا بد له من العقد القلبي على محبتها والتعصب لها في الغالب، والبغض لمخالفها المناوئ لها، حتى ولو زالت الفتنة بقي في قلبه ما بقي، فكان من سبيل السلامة اعتزال فرق الفتنة كلها. والله المستعان.

ومنها: إطفاء الفتن وإخماد نارها، وذلك أن الناس كلما اعتزلوا الفتن؛ قلّ أهلها، فقلّ شرها، وكلما تشرفوا لها وقاموا وقعدوا فيها؛ كثروا سواد أهلها، فزاد شرها، لثبات أهلها عليها، ودخول غيرهم ممن غرهم تكالب الناس عليها فيها فتزيد الفتن وتشتد، فشرعت العزلة حسما للداء، ورفعا للبلاء ..

ولذا بوّب البخاري في صحيحه في (ك) الفتن فقال: باب من كره أن يكثر سواد أهل الفتن والظلم، وذكر فيه حديث أبي الأسود قال: قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة فأخبرته فنهاني أشد النهي ثم قال: أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثّرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى:{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ..} الآية.

ص: 75

المسألة التاسعة عشرة:

أن كل ما تقدم يدل أتم الدلالة وأوضحها على أن الفتن منافية للشريعة، ومناقضة لها، فهي خلاف مقصودها.

وعليه: فمن سعى في تحصيل فتنة أو إشعال نارها، فإنه ساع في ضلالة، وداع إلى هلكة، لكونه يسعى لشيء نهي عن السعي إليه.

فإن قيل: فإنك قد قدمت في المسألة الثالثة؛ أنه إذا تعارضت الفتن، دفعت العظمى منهما بالصغرى، وهذا هو عين السعي في الفتنة التي ذكرت قبل أنها خلاف الشريعة؟

والجواب: أن ارتكاب الفتنة الصغرى دفعا للفتنة الكبرى ـ إذا لم تندفع إلاّ بذلك ـ ليس المقصود به الفتنة المرتكبة لذاتها إذ الفتنة مكروهة على كل حال؛ وإنما جاز ارتكابها للمصلحة المترتبة على ارتكابها وهي دفع ما هو أعظم منها، وهذا عند جميع العقلاء حسن جميل، كمن يدفع الموت عن نفسه بقطع يده التي أصابتها الآكلة، استغناء عن الجزء من أجل الكل.

فإن قيل: فما وجه مناقضة الفتن للشرع؟

فالجواب: أمور:

أولها: أن الفتن مفسدة للضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها ودفع ما يفسدها، كلها أو بعضها، وهذا جلي من شأن الفتن، وكفى به مناقضة للشرع.

ص: 77

الثاني: أن الفتن مفضية إلى التفرق والاختلاف الذي جاءت الشريعة بالنهي عنه كما في قوله تعلى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} الآيات، وقوله:{ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما ليهم فرحون} وغيرها من الآيات، فصارت الفتن مؤدية إلى خلاف ما جاءت لأجله الشريعة وهذا من أعظم المناقضة.

الثالث: أن الشريعة قد جاءت بالنهي عن الفتن والتحذير منها كما تقدم، مما يدل على مناقضتها لها ، ولو كانت ملائمة لما ورد فيها ما ورد

والله تعالى أعلى وأعلم.

ص: 78