المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفتن تقدر بقدرها - مسائل في الفتن

[فيصل آل صبحان]

الفصل: ‌ الفتن تقدر بقدرها

- فإذا علم ذلك: فإن لكل نوع من أنواع الفتن فقها خاصا به: تعاملا وعلما، فليس الصبر في الفتن الكبار كالصبر في الفتن الصغار وهكذا ..

- وأيضا: فإن‌

‌ الفتن تقدر بقدرها

.. فلا تصغر الكبيرة حتى يستهين بها الناس، ولا تكبر الصغيرة حتى ييأس الناس منها

ولا تعمم الخاصة فيفتن الناس بها ولا تخصص العامة فتخذل الأمة.

في كتاب (السنة) للخلاّل (1/ 132) عن أبي الحارث الصائغ قال: سألت أبا عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ في أمر كان حدث في بغداد وهمّ قوم بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: سبحان الله! الدماء، الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه - يعني أيام الفتنة؟ قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة فإذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السبل. الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة وقال: الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به.

فانظر إلى فقه الإمام أحمد رحمه الله وكيف كان يقدر الفتن بقدرها.

وهذا التقدير للفتن باب علم يفتحه الله لأهل البصائر من عباده .. فيقولون الحق ويهدون إليه .. فإذا أغفل هذا الجانب وقع الزلل.

وعلى هذا الباب أيضا يكون العمل عند دفع الفتن إذا تعارضت، إذ تدفع الأعلى منهما بالأدنى، والكبرى بالصغرى، والعامة بالخاصة وهكذا.

والله المستعان.

ص: 16

المسألة الرابعة:

أن من الفتن ما يخرج من الملة ومنها مالا يخرج منها، فهي متفاوتة:

دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا).

- والكفر في هذا الحديث كما قال العلماء قد يراد به الكفر الأصغر ككفر النعمة، وقد يراد به الكفر الأكبر كاستحلال المحرم كما نقل الترمذي في سننه عن الحسن البصري رحمه الله أنه كان يقول في هذا الحديث المتقدم: يصبح الرجل محرما لدم أخيه وعرضه وماله ويمسي مستحلا له، ويمسي محرما لدم أخيه وعرضه وماله، ويصبح مستحلا له).

- ومن الفتن المكفرة التي ابتليت بها الأمة في فترة من فتراتها؛ فتنة القول بخلق القرآن، لولا أن قيض الله لها من أنصار دينه وحماة شرعه من جعلهم سدا في وجه تلك الفتنة وعلى رأسهم إمام أهل السنة: أحمد بن حنبل .. فلله الحمد والمنة.

- لكن ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور مهمة جدا:

أولها: أن الحكم على الفتنة بأنها مكفرة أم لا؛ إنما هو للعلماء الربانيين الذين يصدرون عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. وليس الحكم فيها للأهواء والرغبات.

ص: 17

وفي هذا سد لباب عظيم من الشر قد ينتج عنه من الفتن إضعاف ما ينتج عن الفتنة المنظور إليها.

الثاني: تنزيل الحكم على الأشخاص إنما هو لأهل العلم الراسخين فيه؛ إذ إن إطلاق الحكم على المعين لابد فيه من معرفة الشروط والموانع

وهذا إنما يكون لأهل العلم، ولا سبيل لأحد أن يتقدم عليهم فيه لما في ذلك من الخطر العظيم والبلاء الجسيم.

الثالث: أن المشاركين في الفتن ليسوا على وزان واحد: جرما وإثما وحكما؛ فرؤوس أهل الفتن ليسوا كالأتباع، والقعدة فيها ليسوا كالمشاة، والمشاة فيها ليسوا كالسعاة

وهكذا.

وقد تقدم معنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه؛ فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به) متفق عليه.

وفي صحيح مسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه). قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم تكن له أبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: (يبؤ بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار).

- وإنما كان الأمر كذلك: لأن جهد أهل الفتن مختلف، ووقعهم فيها متفاوت؛ فالقاعد غالبا ـ ما لم يكن من رؤوس أهلها ـ أضعف عملا من الماشي، والماشي أضعف من الساعي وهكذا. (هذا أولاً).

ص: 18

وثانيا: لأنه قد يشارك فيها من ليس من أهلها كالمكره ونحوه.

- وعليه: فتعميم الحكم على جميع من شارك في فتنة من الفتن؛ خطأ كبير لا يكون من عالم عارف بأحوال الناس.

ولا يعكر على هذا ما ورد في بعض النصوص من إهلاك بعض أهل الفتن مهلكا واحدا، رغم أن فيهم من ليس منهم ـ كالجيش الذي يؤم البيت ـ كما في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح وغيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن في نفس الحديث أنه وإن شاركهم في عقوبة الله إلاّ أنه يخالفهم يوم القيامة فقال لمّا سئل عن المكره:(يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيّته).

- فإذا علمنا ذلك كله وتيقناه: تيقنا خطر المخاطرة في الفتن .. وعلمنا أنها مزلة أقدام ومضلة أفهام

والله المستعان.

ص: 19

المسألة الخامسة:

أن الحق واضح جلي لا لبس فيه ولا خفاء حتى في أوقات الفتن.

يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن النجاة فيهما أبدا؛ ولو كانت الفتن مما يخفى على الأمة الحق فيها لما صح التمسك بهما حينئذ لأنه لا فائدة في ذلك.

ومما يدل على ذلك أيضا: أحاديث الطائفة المنصورة ـ وستأتي بعد قليل إن شاء الله ـ

ووجه الدلالة منها: أن هذه الطائفة لا تزال مستمسكة بالحق على مر الزمان، ولو كان الحق خفيا لما اهتدت إليه وتمسكت به.

- ومرادنا بقولنا (أن الحق لا خفاء به): أي أنه لا يخفى على جميع الأمة، بل إذا خفي أو التبس على أناس ولو كانوا من أهل العلم فلا بد أن يكون واضحا جليا عند طائفة أخرى، وهذا أيضا ما تدل عليه أحاديث الطائفة المنصورة المشار إليها.

- فإن قيل فما سبب خفاء الحق على من خفي عليه؟

فالجواب: سبب ذلك إما: جهل بالحق (قلة العلم)، أو تقصير في طلبه والسؤال عنه، أو ضعف في أهله

والله أعلم.

ص: 21

المسألة السادسة:

وهي مبنية على ما تقدم وهي:

أنه لا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ظاهرة منصورة .. لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، كما ثبت ذلك في أحاديث كثيرة منها:

ما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حيى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون).

وفي صحيح مسلم وغيره من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).

- ففهمنا من هذه الأحاديث أمورا:

أولها: أنها طائفة وليست الأمة كلها.

الثاني: أنها على الحق وليست على الباطل.

الثالث: أنها ظاهرة: أي عالية رفيعة معلومة غير مختفية.

الرابع: أنها منصورة على أعدائها مهما اشتد بلاؤهم.

الخامس: أنها محفوظة بحفظ الله تعالى لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، والخذلان يكون ممن يتوقع منه النصرة، والمخالفة: تكون من الأعداء، ورغم اجتماع البلاءين عليها إلا إنها ظاهرة منصورة محفوظة ((فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين)).

ص: 23

وهذه الطائفة كما قال العلماء: يجوز أن تكون متعددة من أنواع الأمة: ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومفسر ومحدث وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد.

فإذا زالت هذه الطائفة زال معها الحق، وعندها تقوم الساعة، ولا تقوم إلا على شرار الخلق.

- وعليه: فتنزيل أحاديث الطائفة المنصورة على فئة معينة من الأمة دون غيرها خطأ؛ لما يترتب على ذلك من تجهيل الآخرين والتقليل من شأنهم رغم أنهم قد يكونون من هذه الطائفة المعنية في الأحاديث.

- فإن قال قائل: فما تقولون فيما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال عن هذه الطائفة: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم)، فإنه رحمه الله قد حصر هذه الطائفة في أهل الحديث دون غيرهم.

فالجواب: هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين بين المراد بأهل الحديث فقال كما في مجموع الفتاوى (4/ 95): (ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرا وباطنا، واتباعه باطنا وظاهرا وكذلك أهل القرآن، وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبهما، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول صلى الله عليه وسلم من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول صلى الله عليه وسلم من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم). اهـ.

فبان من كلامه رحمه الله أن أهل الحديث طائفة تحوي أنواعا من الأمة، فمنهم العالم والمجاهد والعابد والحاكم بل والعامي أيضا، وهذا موافق لما نقلناه عن غيره من أهل العلم كما في أول المسألة.

والله تعالى أعلى وأعلم.

ص: 24