المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثامنة:أن بعض البلاد أكثر فتنا من غيرها وأشد: - مسائل في الفتن

[فيصل آل صبحان]

الفصل: ‌المسألة الثامنة:أن بعض البلاد أكثر فتنا من غيرها وأشد:

‌المسألة الثامنة:

أن بعض البلاد أكثر فتنا من غيرها وأشد:

دليل ذلك ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: (ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان).

وفي البخاري عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا) قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا) قالوا يا رسول الله: وفي نجدنا؟ قال: (هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان).

فبان بذلك أن المشرق أكثر فتنا من غيره وأشد.

- وأيضا: فإن بعض البلاد محفوظة من بعض الفتن الكبار - كمكة والمدينة - فإنهما محفوظتان من الدجال والطاعون:

أما الدجال: فالأحاديث في تحريم مكة والمدينة عليه كثيرة منها:

1.

ما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من بلد إلاّ سيطؤه الدجال، إلاّ مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلاّ عليه الملائكة صافين تحرسها فينزل السبخة فترجف الدينة ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل كافر ومنافق).

2.

وفي صحيح مسلم في حديث الجساسة الطويل الذي رواه تميم الداري رضي الله عنه وفيه أن الدجال قال: (وإني مخبركم عني إني أنا المسيح

ص: 27

الدجال، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها ..) الحديث.

وأما الطاعون: فلما أخرجه البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال).

وفيه أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله).

- وظاهر هذه الأحاديث أن الحفظ من الطاعون خاص بالمدينة دون مكة؛ لكن ورد عند عمر بن شبة في كتاب (مكة) كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 191ك الطب) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منهما ملك، لا يدخلهما الدجال ولا الطاعون) قال الحافظ: رجاله رجال الصحيح.

- وهذه البلاد المحفوظة من بعض الفتن أو القليلة فيها الفتن ـ سبب حفظها إما:

• لظهور الدين فيها وانتشار العلم بين أهلها، كما في حديث عبد الله بن عمرو

بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام) أخرجه الحاكم وصححه الألباني في فضائل الشام (15).

• وإما لتقييض الله تعالى لها من يحفظها من غير أهلها: كالملائكة لمكة والمدينة عند خروج الدجال، كما تقدم في الأحاديث.

إذا علم ذلك: علم تفاضل البلدان في هذا الجانب، وكلما كان البلد أقل فتنا؛ كان أكثر خيرا في العموم لأمور:

ص: 28

أولها: لظهور الدين فيه

وتمسك أهله به في الغالب.

الثاني: لاجتماع الناس فيه لقلة الفتن.

الثالث: لأمن الناس فيه على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.

وينبني على ما تقدم أيضا: أن سكنى البلاد التي تقل فيها الفتن أفضل من سكنى غيرها: دليل ذلك ما في الصحيحين من حديث سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).

وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الرحمن وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) أخرجه أبو داود وحسنه الألباني بشواهده في فضائل الشام (82).

- لكن ينبغي التذكير هنا بقول سلمان الفارسي رضي الله عنه لأبي الدرداء رضي الله عنه: (إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الإنسان عمله) رواه مالك في الموطأ ك القضاء.

وعليه أيضا: فإنه يلزم في البلاد التي تكثر فيها الفتن من الاستعداد لها علما وعملا أكثر مما يلزم في غيرها ـ ولئن كان ذلك لازم في جميع البلدان إلا إنه في تلك الأقطار ألزم .... والله أعلم.

ص: 29

المسالة التاسعة:

أن بعض الأزمنة أكثر فتنا من بعضها الآخر ..... فقرن الصحابة رضي الله عنهم أقل فتنا من غيره، لاسيما عصر الخليفتين الراشدين - أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حيث كان عمر أحد الأبواب الموصدة في وجه الفتن حتى كسر رضي الله عنه بقتله فزادت الفتن وانتشرت.

وعليه: فان الفتن في آخر الزمان أكثر وأشد من أوله .. دليل ذلك ما في البخاري عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحَجّاج فقال: (اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلاّ والذي بعده أشد منه، حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم).

وعند الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنهم بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 23) أنه قال: (أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة)

وروى الخلاّل في (السنة/ 93) بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: إنكم لن تروا من الدنيا إلاّ بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلاّ بلاء وشدة، ولن تروا من الأئمة إلاّ غلظة، ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلاّ حضره بعده ما هو أشد منه، أكثر أمير وشر تأمير) قال الإمام أحمد رحمه الله: اللهم رضينا.

- وإنما كان الأمر كذلك والله أعلم لأمور:

أولها: قلة العلم كما مر معنا في أول الرسالة.

ص: 31

الثاني: انتشار الجهل كما مر أيضًا.

الثالث: قبض العلماء والصالحين كما في الصحيح عن مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون الأول فالأول حتى يبقى مثل حثالة التمر والشعير لا يبالي الله بهم" أخرجه البخاري ك الرقاق

الرابع: تغير الناس وفسادهم: حيث ترفع الأمانة والخشوع وتظهر الخيانة والكذب كما في حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " قال عمران فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن "

الخامس: لقرب قيام الساعة، ولا تقوم إلا على شرار الخلق.

والله أعلم

ص: 32

المسألة العاشرة:

وهي من أعظم المسائل في هذه الرسالة وأهمها:

أن السنة قد بينت لنا بعض الفتن زماناً ومكاناً

كثرة وقلة.

- فمن ذلك حديث حذيفة المتقدم في مجلس عمر: ففهم منه أن بداية الفتن الكبرى هو موت عمر، وهذا تحديد للزمان.

- وفي المسند وسنن أبي داود وابن ماجة عن عبد الله بن بسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بين الملحمة وفتح المدينة ـ أي القسطنطينية - ست سنين ويخرج المسيح الدجال في السابعة"- وهذا أيضاً توقيت وتحديد بالسنين-

- وما ورد في تحديد المكان حديث ابن عمر رضي الله عنهما في صحيحه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول "ألا إن الفتنة ههنا، ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان"

ومنه ما ورد في حديث خروج الدجال كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أنه خارج خله بين الشام والعراق " وغيرها من الأحاديث كثير.

- وعلى ما تقدم فالفتن (استقراء) على أربعة أقسام لا غير:

القسم الأول/ ما بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتنة ومكانها.

القسم الثاني/ ما بين لنا صلى الله عليه وسلم فيه زمن الفتنة دون مكانها.

القسم الثالث/ عكسه وهو مابَيّن لنافيه المكان دون الزمان.

ص: 33

القسم الرابع/ ما لم يبين زمانه ولا مكانه وهو الأكثر.

- فأما القسم الأول وهو: ما بين لنا فيه المكان والزمان، فيجب الإيمان به كما ورد محددا؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقا وصدقا.

- وأما القسم الثاني: فيجب التسليم فيه بما ورد من تحديد الزمان دون تحديد مكانه لما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى.

- وأما القسم الثالث: فكالذي قبله يسلم فيه بما ورد من تحديد المكان دون تحديد الزمان لما سيأتي أيضا.

- وأما القسم الرابع والأخير: فيجب الإيمان به كما ورد؛ ولا يجوز لأحد كائنا من كان أن يحدد فيه زمانا ولا مكانا لأمور:

أولها: أن من ادعى ذلك وحدد الزمان والمكان

فقد تقول على الله بغير علم، وتدخل فيما هو من خصائص الله: علم الغيب .. وهذه الأمور غيب لا يجوز الخوض فيها إلا بدليل .. وما لم يرد دليل: فلنؤمن ولنصدق ونقف حيث وقف بنا النص ..

الثاني: أن في تحديد أزمنة وأمكنة الفتن التي لم يحدد زمانها ولا مكانها إثارة للفتن وزيادة لها .. بل لربما تسبب ذلك في أحداث فتن جديدة ليست هي المقصودة في النص 0

الثالث: أن تحديد ذلك قد يؤدي إلى تكذيب الله ورسوله .. وخصوصًا من الجهال والطغام .. خاصةً إذا وقع الأمر خلاف ما أخبر به ذلك المحدد فيقع اللبس ويحدث الشك .. ولربما كُذِّب الله ورسوله، والإثم على المتجرئ 0

- وعليه: فتوسع بعض الناس لاسيما من الدعاة وطلبة العلم في الرؤى والأحلام .. وتحديد بعض ما يصيب الأمة .. من الأمور والفتن، ونشر ذلك بين الناس

بل (وللأسف) مع الجزم به جزمًا تامًا .. جهل عظيم، وخطأ جسيم 0

- ولا يظنن ظان أننا ممن ينكر الرؤى

ويرد حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في

ص: 34

أنها جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة، وأنها من المبشرات، معاذ الله من ذلك.

- لكنها تبقى - من غير الأنبياء - ظنونا عرضة للصواب والخطأ: من الرائي والمعبر

فالرؤى يستأنس بها ويستبشر دون أن يجزم ويقرر وصدق إمام أهل السنة (أحمد بن حنبل) حين قال: (الرؤيا تسر المؤمن ولا تغرّه) ....... والله أعلم.

ص: 35

المسألة الحادية عشرة:

أن الفتن الكبيرة العظيمة التي تعم الأمة وتؤثر فيها تأثيراً بالغاً .. قد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفاً تاماً لا خفاء فيه ولا لبس ..

- كالدجال مثلاً: فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه في أكثر من حديث في الصحيحين وغيرهما وصفاً دقيقاً .. فوصف هيأته، وسبب خروجه، ومن أين يخرج، ومن معه، وما معه، وكم يبقى، وأين يذهب، وكيف يفتن الناس، ومن يقتله

إلى غير ذلك.

- وكذا المهدي .. فقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أمره أتم بيان حتى لا يلتبس على أحد من الناس .. فذكر لنا نسبه، وحاله، وزهده، وكرمه، آية ظهوره.

- وإنما كان ذلك من صاحب الشرع درءاً للفتن .. وتبصيراً للناس .. وقطعاً لأهواء أهل الأهواء ..

ولو تأمل المتأمل في بعض الفتن التي وقعت في الأمة لوجد أن السبب فيها هو عدم فهم هذا الأمر .. وعدم الالتفات إليه .. -فالمهدي مثلاً .. لما جهل عامة الناس أمره .. سهل على المستغلين الاستغلال .. فكم ادعى من دعي أنه المهدي، فوقعت بسببه المحن واضطربت الأمور .. وحرّف الشرع، وبدل الدين، وما (غلام أحمد القادياني) منا ببعيد، وقبله الحاكم بأمر (الشيطان) العبيدي، وقبلهم جميعاً المختار بن أبي عبيد الثقفي .. والله المستعان.

ص: 37

ومما يؤسف له: رواج بعض الشائعات والأوهام عن المهدي وغيره عند بعض الصالحين، ومن يتوسم فيهم الخير، رغم أن المأمول فيهم أن يكونوا من أهل البصر والبصيرة .. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، والسبب في ذلك العجلة والتسرع وعدم الرجوع إلى أهل العلم، مع ما يرونه من غلبة الكفار، وانتشار المنكرات، وجور السلطان

والله أعلم.

ص: 38