المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌7 - (باب اجتناب البدع والجدل) - مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه - جـ ٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

الفصل: ‌7 - (باب اجتناب البدع والجدل)

‌7 - (بَابُ اجْتِنَابِ الْبِدَعِ وَالْجَدَلِ)

" الاجتناب": مصدر "اجتنب، مزيد جَنَبَ، يقال: جَنَبْتُ الرجلَ الشرَّ جُنُوبًا، من باب قَعَد: إذا أبعدته، وجَنَّبْتُهُ بالتثقيل مبالغة (1)، فالاجتناب معناه: الابتعاد.

و"الْبِدَعُ" -بكسر الموحّدة، وفتح الدال المهملة-: جمع بدعة -بكسر، فسكون- قال في "القاموس":"البِدْعة" -بالكسر-: الْحَدَث في الدين بعد الإكمال، أو ما استُحدث بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال، جمعه بِدَعٌ، كعِنَبٍ. انتهى. وقال في "المصباح": أبدعت الشيءَ، وابتدعتُهُ: استخرجته، وأحدثته، ومنه قيل للحالة المخالفة بِدْعَة، وهي اسمٌ من الابتداع، كالرفْعة من الارتفاع، ثم غلب استعماله فيما هو نقصٌ في الدين أو زيادة، لكن قد يكون بعضها غير مكروه، فيُسمّى بِدْعةً مباحة، وهو مصلحة يندفع بها مفسدة كاحتجاب الخليفة عن أَخْلاط الناس. انتهى (2). وسيأتي تمام البحث في البدعة في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.

وأما "الجدَلُ" -بفتح الجيم، والدال المهملة-: فهو مصدرٌ، بمعنى شدّة الخصومة، يقال: جَدِلَ الرجلُ جَدَلًا، فهو جَدِلٌ، من باب تَعِبَ: إذا اشتدّت خُصومته، وجادل مجادلةً، وجِدَالًا: إذا خاصم بما يَشْغَلُ عن ظهور الحقّ، ووضُوح الصواب، هذا أصله، ثم استُعمل على لسان حَمَلَة الشرع في مقابلة الأدلّة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحقّ، وإلا فمذموم. ويقال: أوّلُ من دَوَّن الجدَل أبو عليّ الطبريّ. قاله الفيّوميّ.

وقال النوويّ رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات": "الجدَلُ"، و"الِجدال"، و"المجادلة": مقابلة الحجة بالحجة، وتكون بحقّ وباطل، فإن كان للوقوف على الحقّ كان محمودًا، قال الله تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية [النحل: 125]،

(1) راجع "المصباح" 1/ 111.

(2)

"المصباح" 1/ 38.

ص: 5

وإن كان في مرافعة، أو كان جدالًا بغير علم كان مذمومًا، قال الله تعالى:{مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [غافر: 4]. وأصله الخصومة الشديدة، وسُمّي جَدَلًا؛ لأن كلّ واحد منهما يُحْكِم خصومته، وحجته إحكامًا بليغًا على قدر طاقته، تشبيهًا بجَدْلِ الحَبْلِ، وهو إحكام فَتْله (1)، يقال: جادله يجادله مجادلةً وجِدَالًا. وعلى هذا الذي ذكرته يُنَزّل ما جاء في الجدل من الذّمّ والإباحة. وقد ذكر الخطيب البغداديّ في كتابه "كتاب الفقيه والمتفقّه" جميع ما جاء في الجدل، ونزّله على هذا التفصيل، وبيّن ذلك أحسن بيان، وكذلك ذكره غيره. وقد صار الجدل علمًا مستقلا، وصُنّفت فيه كتُبٌ لا تُحصى، وممن صنّف فيه أبو إسحاق الشيرازيّ، والغزاليّ، وكتاباهما معروفان. وأول من صنّف فيه أبو عليّ الطبريّ. انتهى كلام النوويّ (2).

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الجدَلُ": مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة: المناظرة والمخاصمة. والمراد به في الحديث الجَدَلُ على الباطل، وطلب المغالبة به، فأما الْجَدَل لإظهار الحقّ فإن ذلك محمود؛ لقوله عز وجل:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . انتهى (3).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عطف الجَدَل على البدع من عطف الخاصّ على العامّ؛ لأن الجدل في الدين بالباطل من جملة البدع، وسيأتي تمام البحث في الجدل في مسائل الحديث الرابع من أحاديث الباب -إن شاء الله تعالى-. والله تعالى أعلم بالصواب.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

45 -

(حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الجحْدَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ

(1) يقال: جدله يجدله جَدْلًا، من بابي نصر، وضرب: إذا أحكم فتله. أفاده في "القاموس".

(2)

"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 48.

(3)

"النهاية" 1/ 247 - 248.

ص: 6

رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ مَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ:"بُعِثْتُ أَنا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ"، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَيَقُوُل:"أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"، وَكَانَ يَقُولُ:"مَنْ تركَ مَالًا فِلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ".

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سهل الْهَرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، صدوق في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، من قدماء [10] 4/ 30.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيُّ) أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10] 2/ 17.

3 -

(عبد الوهّاب الثقفيّ) هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] 2/ 17.

4 -

(جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلويّ، أبو عبد الله المدني الصادق، وأمه أم فَرْوة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فلذلك كان يقول: وَلَدَني أبو بكر مرتين، صدوقٌ فقيهٌ إمامٌ [6].

رَوَى عن أبيه، ومحمد بن المنكدر، وعبيد الله بن أبي رافع، وعطاء، وعروة، وجده لأمه القاسم بن محمد، ونافع، والزهري، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، والسفيانان، ومالك، وابن جريج، وأبو حنيفة، وابنه موسى، ووُهيبٌ، والقطان، وأبو عاصم، وخلق كثير. وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من أقرانه، ويزيد بن الهاد، ومات قبله.

قال الدَّرَاوَرْدِيُّ: لم يرو مالك عن جعفر حتى ظهر أمر بني العباس. وقال مصعب الزبيري: كان مالك لا يروي عنه حتى يضمه إلى آخر. وقال ابن المديني: سئل يحيى بن سعيد عنه، فقال في نفسي منه شيء، ومجالد أحب إلي منه، قال: وأملَى عليّ

ص: 7

جعفر الحديث الطويل -يعني في الحج-. وقال إسحاق بن حَكِيم عن يحيى بن سعيد: ما كان كذوبًا. وقال سعيد ابن أبي مريم: قيل لأبي بكر بن عياش: ما لك لم تسمع من جعفر، وقد أدركته؟ قال: سألناه عما يتحدث به من الأحاديث أشيء سمعته؟ قال: لا، ولكنها رواية رويناها عن آبائنا. وقال إسحاق بن راهويه: قلت للشافعيّ: كيف جعفر ابن محمد عندك؟ فقال: ثقة -في مناظرة جرت بينهما-. وقال الدُّوريّ عن يحيى بن معين: ثقة مأمون. وقال ابن أبي خيثمة وغيره عنه: ثقة. وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم عن يحيى: كنتُ لا أسأل يحيى بن سعيد عن حديثه، فقال لي: لِمَ لا تسألني عن حديث جعفر بن محمد؟ قلت: لا أريده، فقال لي: إنه كان يحفظ. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال ابن عَدِيّ: ولجعفر أحاديث ونُسَخٌ، وهو من ثقات الناس، كما قال يحيى بن معين. وقال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سُلالة النبيين. وقال علي بن الجعد عن زهير بن معاوية: قال أبي لجعفر ابن محمد: إن لي جارا يزعُم أنّك تَبْرأُ من أبي بكر وعمر، فقال جعفر: برىء الله من جارك، والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر. وقال حفص بن غياث: سمعت جعفر بن محمد يقول: ما أرجو من شفاعة علي شيئًا إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ولا يُحتَجّ به، ويُستَضعف، سئل مرة: سمعتَ هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم، وسئل مرة، فقال: إنما وجدتها في كتبه.

قال الحافظ: يحتمل أن يكون السؤالان وقعا عن أحاديث مختلفة، فذكر فيما سمعه أنه سمعه، وفيما لم يسمعه أنه وجده، وهذا يدل على تثبته.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من سادات أهل البيت فقهًا وعلمًا وفضلًا، يُحتجّ بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرتُ حديث الثقات عنه، فرأيت أحاديث مستقيمة، ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ومن المحال أن يُلصَق به ما جناه غيره. وقال الساجيّ: كان صدوقًا مأمونًا إذا حَدّث عنه الثقات، فحديثه مستقيم. وقال أبو موسى: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن سفيان عنه،

ص: 8

وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه. وقال النسائي في "الجرح والتعديل": ثقة. وقال مالك: اختلفت إليه زمانًا، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مُصَلٍّ، وإما صائمٌ، وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدث إلا على طهارة.

قال الجعابي وغيره: وُلِد سنة ثمانين. وقال خليفة وغير واحد: مات سنة (148).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.

5 -

(أبوه) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو جعفر المدنيّ المعروف بالباقر، ثقة فاضلٌ [4] تقدّم في 1/ 4.

6 -

(جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة، تقدّم في 1/ 11. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه أحمد بن ثابت، فإنه من أفراده.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من جعفر، وشيخه سويدُ، هرويّ، ثم حَدَثانيّ (1)، والباقيان بصريان.

4 -

(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، وكلاهما من صيغ الاتّصال على الأصحّ في "عن" من غير المدلّس.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

(1)"الْحَدَثَانيّ" -بفتحتين: نسبة إلى الحَدِيثة، وهي بلدة على الفرات فوق هيت والأنبار، وينسب إليها أيضًا حَدَثيّ، وحَدِيثيّ. قاله في "الأنساب" 2/ 188 و"اللباب" 1/ 349.

ص: 9

6 -

(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما، وفي رواية مسلم تصريح أبي جعفر بالسماع، فقد أخرجه من طريق سليمان بن بلال، عن جعفر، عن أبيه، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كانت خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، يحمد الله، ويُثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته، ثم ساق الحديث.

أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ) أي يوم الجمعة، كما بيّنته رواية مسلم المذكورة (احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ) بالرفع على الفاعليّة، أي ارتفع صوته (وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ) أي من آثار الغضب الناشيء مما تفعله الأمة من قلّة الأدب في معصية الربّ. قاله في "المرقاة"(1).

وقال في "المرعاة": إنما يفعل صلى الله عليه وسلم ذلك لإزالة الغفلة من قلوب الناس؛ ليتمكّن فيها كلامه فضلَ تمكّن، أو لأنه يتوجّه فكره إلى الموعظة، فيظهر عليه آثار الهيبة الإلهيّة (2).

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: كونه صلى الله عليه وسلم تحمرّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدّ غضبه في حال خطبته كان هذا منه في أحوال، وهذا مُشعرٌ بأن الواعظ حقّه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلّم فيه ما يطابقه، حتّى لا يأتي بالشيء وضدُّه ظاهرٌ عليه، وأما اشتداد غضبه، فيَحتَمِل أن يكون عند نهيه عن أمر خُولف فيه، أو يريد أنّ صفتَه صفة الغضبان. انتهى (3).

(1)"المرقاة" 3/ 501.

(2)

"المرعاة" 4/ 496 - 467.

(3)

"المفهم" 2/ 506.

ص: 10

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: لعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمرًا عظيمًا، وتهديده خَطْبًا جسيمًا. انتهى (1).

(كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ) هو الذي يجيء مخُبرًا للقوم بما قد دَهَمَهم من جيش عدُوّهم الذي يخافون بأسه، أي كمن يُنذر قومًا بقرب جيش عظيم قصد الإغارة عليهم، فإضافة "منذر" إلى "جيش" من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله الثاني، والأصل: منذر قوم جيشًا، وهو اسم فاعل من "أنذر"، يقال: أنذرتُ الرجلَ كذا إنذارًا: إذا أبلغته، يتعدّى إلى مفعولين، فهو مُنذرٌ، ونَذيرٌ، والجمع نُذُرٌ بضمّتين، وأكثر ما يُستعمل في التخويف، كقوله عز وجل:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} الآية، أفاده في "المصباح"(2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وما هنا من الثاني. والله تعالى أعلم.

(يَقُولُ) أي ذلك المنذر، فالضمير عائد على "منذر"، والجملة صفة له، أو حال منه.

وقال الطيبيّ: يجوز أن يكون قوله: "يقول" صفة لـ "منذر جيش"، وأن يكون حالًا من اسم "كان"، والعامل معنى التشبيه، فالقائل إذًا الرسول صلى الله عليه وسلم، و"يقول" الثاني عطف على الأول، وعلى الوجه الأول عطف على جملة "كأنه" انتهى.

وتعقّبه القاري، فأحسن في ذلك، قال: الصحيح، بل الصواب الوجه الأول؛ إذ لا معنى لقوله في المنبر:"صبّحكم، ومسّاكم"، ويدلّ عليه إعادة الصحابيّ لفظ "يقول" إشارةً إلى أن قول المنذر تَمّ قبله، ثم الصحيح أنه عطف على "احمرّت"؛ لأن الرواية في "يقول" الرفع، فارتفع احتمال أن يكون معطوفًا على مدخول "حتّى". انتهى (3).

(صَبَّحَكُمْ) بتشديد الموحّدة، وفاعله ضمير يعود إلى "جيش"، وهو العدوّ المنذر به، والضمير المنصوب يعود على المنذَرِين: أي سيصبّحكم العدوّ يعني سيأتيكم وقت

(1)"شرح مسلم" 6/ 156.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 599.

(3)

"المرقاة" 3/ 501.

ص: 11

الصباح، فصيغة الماضي للتحقّق.

شَبّه حال الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته، وإنذاره بمجيء يوم القيامة، وقرب وقوعها، وتهالك الناس فيما يُرْديهم أي يُهلكهم بحال من يُنذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم يَقصِدُ الإحاطة بهم بغتةً من كلّ جانب، فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمرّ عيناه، ويشتدّ غضبه على تغافلهم، كذلك حال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا أشار إلى قرب المجيء بإصبعيه. ونظيره ما رُوي أنه لمّا نزل:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعِد على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عديّ

" الحديث (1).

(مَسَّاكُمْ) هكذا رواية المصنّف بدون عاطف، وفي رواية مسلم:"ومسّاكم" بالواو، وهو بتشديد السين المهملة مثلُ "صبّحكم": أي نزل بكم العدوّ مساءً.

(وَيَقُولُ) الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو عطفٌ على "احمرّت": أي يقول صلى الله عليه وسلم (بُعِثْتُ) بالبناء للمفعول: أي أرسلني الله تعالى (أَنَا وَالسَّاعَةَ) رُوي برفعها، ونصبها، والمشهور النصب على المفعولية معه، كما قال في "الخلاصة":

يُنْصَبُ تَالِي الْوَاوِ مَفْعُولًا مَعَهْ

في نَحْوِ سِيرِي وَالطَّرِيقَ مُسْرِعَهْ

بِمَا مِنَ الْفِعْلِ وَشِبْهِهِ سَبَقْ

ذَا النَّصْبُ لَا بِالْوَاوِ في الْقَوْلِ الأَحَقْ

وأما الرفع فعلى العطف على الضمير المرفوع في "بُعِثْتُ"؛ لوجود التوكيد بالضمير المنفصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضمِيرِ رَفْعِ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

والنَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "والساعة" قَيَّدناه بالنصب، والرفع (2)، فأما النصب، فهو على المفعول معه، والرفع على أنه معطوف على التاء في "بُعثتُ"، وفُصل

(1)"المرعاة" 4/ 497.

(2)

عبارة القرطبيّ: "بالفتح، والضمّ"، فغيّرته إلى العبارة المشهورة، فتنبّه.

ص: 12

بينهما بـ "أنا" توكيدًا للضمير على ما هو الأحسن عند النحويين، وقد اختار بعضهم النصب بناءً على أن التشبيه وقع بملاصقة الإصبعين، واتّصالهما، واختار آخرون الرفعَ بناءً على أن التشبيه وقع بالتفاوت الذي بين رءوسهما (1).

(كَهَاتَيْنِ) أي مثل تقارب هاتين الإصبعين (وَيَقْرُنُ) بضم الراء على المشهور الفصيح، وحُكي كسرُها، قاله النوويّ (2): أي جمع صلى الله عليه وسلم (بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ) بكسر الهمزة أفصح من غيرها، إذ فيها عشر لغات: تثليث الهمز، مع تثليث الموحّدة، فتلك تسع لغات، والعاشر أُصبوع، بالضمّ، كعُصْفُور (3)(السَّبَّابَةِ) بالجرّ على البدليّة من "إصبعيه"، ويجوز الرفع على أنه خبر لحذوف: أي إحداهما، والنصب، على أنه مفعول لفعل مقدّر: أي أعني. و"السّبابة" -بفتح السين المهملة، وتشديد الموحّدة الأولى: هي الأصبع التي تلي الإبهام، سُمّيت بذلك؛ لأنه يُشار بها عند السبّ (4)(وَالْوُسْطَى) بضمّ الواو، فُعْلى تأنيث الأوسط، ويُجمع الْوُسطى على الْوُسَط -بضم، ففتح- كالْفُضْلى وفُضَل، ويُجمع الأوسط على الأواسط، مثل الأفضل والأفاضل.

والمعنى: أنّ ما بين زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيام الساعة قريبٌ، كقرب السبّابة من الوسطى.

وورد من حديث المستورد بن شدّاد رضي الله عنه مرفوعًا: "سبقتها بما سبقت هذه هذه"(5).

وقال القاضي رحمه الله تعالى: قوله: "بُعثت أنا والساعة كهاتين" يحتمل أنه تمثيل

(1)"المفهم" 2/ 506.

(2)

"شرح مسلم" 6/ 392.

(3)

راجع "المصباح".

(4)

"المصباح" 1/ 262.

(5)

حديث ضعيف أخرجه الترمذيّ برقم (2139) من حديث المستورد بن شداد الفهري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثتُ في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه"، لأصبعيه السبابة والوسطى. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، من حديث المستورد بن شداد، لا نعرفه إلا من هذ الوجه. انتهى. وفي سنده مجالد بن سعيد ضعيف.

ص: 13

لمقاربتهما، وأنه ليس بينهما إصبع أخرى، كما أنه لا نبي بينه وبين الساعة، ويحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة، وأن التفاوت بينهما كنسبة التفاوت بين الإصبعين تقريبًا، لا تحديدًا. انتهى (1).

(وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم (أَمَّا بَعْدُ) هي من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها: أي بعد ما تقدّم من الحمد لله عز وجل، والثناء عليه بما هو أهله.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "أما": كلمة تَفْصِلُ ما بعدها عما قبلها، وهي حرف متضمّن للشرط، ولذلك تدخل الفاء في جوابها، وقدّرها النحويون بـ "مهما"، و"بعد" ظرف زمانيّ قُطع عن الإضافة مع كونها مرادةً، فبُني على الضمّ، وخُصّ بالضمّ؛ لأنه حركةٌ ليست له في حال إعرابه، والعامل فيه ما تضمّنه "أمّا" من معنى الشرط، فإن معناه: مهما يكن من شيء بعد حمد الله فكذا. وقال بعض المفسّرين في قوله عز وجل: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] أنه قول "أما بعد". انتهى (2).

وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "أما بعدُ" هاتان الكلمتان يقال لهما فصل الخطاب، وأكثر استعمالهما بعد تقدّم قصّة، أو حمد لله تعالى، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأصل أن يقال: أما بعدَ حمد الله تعالى، و"بعد" إذا أُضيف إلى شيء، ولم يقدّم عليه حرف جرّ فهو منصوب على الظرفيّة، وإذا قُطع عنه المضاف إليه يُبنَى على الضمّ، والمفهوم منهما أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أثناء خطبته ووعظه، وأنشد التوربشتيّ لسحبان [من الطويل]:

لَقَدْ عَلِمَ الحيُّ الْيَمانُونَ أَنَّنِي

إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبهَا

قال: والفاء لازمة لما بعد "أما" من الكلام، لما فيها من معنى الشرط. قال الطيبيّ:"أما" وُضع للتفصيل، فلا بدّ من التعدّد، رَوَى صاحب "المرشد" عن أبي حاتم أنه لا يكاد يوجد في التنزيل "أما" وما بعدها إلا وتُثنّى، أو تُثلّث، كقوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ} ،

(1) انظر "شرح مسلم للنوويّ" 6/ 155.

(2)

"المفهم" 2/ 507.

ص: 14

{وَأَمَّا الْغُلَامُ} ، {وَأَمَّا الْجِدَارُ} الآية [الكهف:79 - 82]، وعامله مقدّر: أي مهما يكن من شيء بعد تلك القصّة، فإن خير الحديث كتاب الله. انتهى (1).

قال الجامع: قد استوفيت البحث في "أما بعد" في شرح "مقدمة صحيح مسلم" عند قوله: "أما بعد"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ) الفاء رابطة لجواب "أما"، لتضمّنها معنى الشرط؛ إذ هي بمعنى "مهما يكن من شيء بعد ما تقدّم، فإن خير الأمور الخ"، ولفظ مسلم:"خير الحديث"(كِتَابُ اللَّه) إشارة إلى قوله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية [الزمر:23](وَخَيْرَ الْهَدْيِ) بنصب "خير" عطفًا على اسم "إنّ"، ويروى برفعه عطفا على محل "إن" واسمها، أو هو مبتدأ خبره ما بعده، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى

مَنْصُوبِ "إِنَّ" بَعْدَ أَنْ تَسْتكْمِلَا

(هَدْيُ مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم، وهو بضم الهاء، وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضًا، قال النوويّ رحمه الله تعالى: ضبطناه بالوجهين، وكذا ذكره جماعة بالوجهين، وقال القاضي عياض: رَوَيْناه في مسلم بالضم، وفي غيره بالفتح، وبالفتح ذكره الهرويّ، وفسره الهرويّ على رواية الفتح بالطريق: أي أحسن الطُّرُق طريق محمد صلى الله عليه وسلم، يقال: فلان حسن الْهَدْي: أي الطريقة والمذهب. "اهتَدُوا بهدي عمار"(2). وأما على رواية الضم، فمعناه: الدلالة والإرشاد. انتهى (3).

وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: الهدي: السيرة، يقال: هدى هديَ زيد: إذا سار

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 604.

(2)

أخرجه أحمد 5/ 399 والترمذيّ رقم 3807 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وتقدّم أنه حديث صحيح.

(3)

راجع "شرح مسلم" للنوويّ 6/ 154.

ص: 15

سِيرته، من تهادت المرأة في مشيها: إذا تبخترت، ولا يكاد يُطلق إلا على طريقة حسنة، وسنّة مرضيّة، ولذلك حسُن إضافة الخير إليه، والشرّ إلى الأمور. واللام في "الهدي" للاستغراق؛ لأن "أفعل التفضيل" لا يُضاف إلا إلى متعدّد، هو داخل فيه، ولأنه لو لم تكن للاستغراق لم تُفد المعنى المقصود، وهو تفضيل دينه وسنته على سائر الأديان والسنن. انتهى (1).

وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قال العلماء: لفظ "الهدى" له معنيان:

(أحدهما): بمعنى الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل، والقرآن، والعباد، وقال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، و {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، ومنه قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فُصلت: 17]: أي بَيَّنّا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3]، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].

(والثاني): بمعنى اللطف، والتوفيق، والعصمة والتأييد، وهو الذي تفرد الله به، ومنه قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].

وقالت القدرية: حيث جاء الهدى فهو للبيان؛ بناءً على أصلهم الفاسد في إنكار القدر، ورَدّ عليهم أهلُ الحق مثبتو القدر لله تعالى بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، ففرق بين الدعاء والهداية (2).

(وَشَرَّ الْأُمُورِ) إعرابه كسابقه (مُحْدَثَاتُهَا) بفتح الدال جمع محدثة، وهي التي ليس

(1)"الكاشف" 2/ 604.

(2)

راجع "شرح مسلم" للنوويّ 6/ 154.

ص: 16

لها في الشريعة أصل، يشهد لها بالصحّة والجواز، وهي المسمّاة بالبِدَع، ولذلك حُكم عليها بأن كلّ بدعة ضلالة، وحقيقة البدعة: ما ابتُدىء، وافتُتح من غير أصل شرعيّ، وهي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ". متّفقٌ عليه. قاله القرطبيّ (1).

(وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) هذه الجملة معطوفة على محذوف كما بُيِّن في رواية أخرى: تقديره: فكلُّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعند النسائيّ بإسناد صحيح من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار".

قال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "وكل بدعة ضلالة" هذا عام مخصوص، والمراد غالب الْبِدَع، قال أهل اللغة: هي كلُّ شيء عُمِل على غير مثال سابق. قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومُحَرَّمة، ومكروهة، ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للردّ على الملاحدة والمبتدعين، وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم، وبناء المدارس والربط، وغير ذلك، ومن المباح التبسط في ألوان الأطعمة، وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران.

فإذا عُرِف ما ذكرته عُلِم أن الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح، نعمت البدعة، ولا يَمنَع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله:"كل بدعة" مؤكدا بـ "كل" بل يدخله التخصيص مع ذلك، كقوله تعالى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} (2).

قال الجامع عفا الله تعالى: قول النوويّ: "هذا عامّ مخصوص" فيه نظرٌ؛ إذ ليس كذلك، بل هو على عمومه، فإن كلّ بدعة شرعيّة ضلالة من دون استثناء شيء منها،

(1)"المفهم" 2/ 508.

(2)

"شرح مسلم" 6/ 155.

ص: 17

وأما ما ظنّه أنه مخصوص من العموم فإنما هو في البدع اللغويّة، فإن البدعة قسمان:

[إحداهما]: شرعيّة، وهي التي أُحدثت بعد كمال الدين، وليس لها أصل في الكتاب، والسنة، والإجماع، فهذه ضلالة دون استثناء.

[والثانية]: لغويةٌ وهي أعمّ من الشرعيّة، إذ هي تشمل كل ما أُحدثت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم سواء كان له أصل في الشرع أم لا، فكلما أورده النوويّ من الأمثلة، وظن أنه مخصوص من عموم هذا الحديث، فإنه من اللغويّة، لا من الشرعية.

والحاصل أن البدع التي ليس لها مستند من الأدلة الشرعية، فإنها بدعة شرعية ضلالة، وأن البدع التي لها أصل من الأدلة الشرعيّة، فهي من البدع اللغويّة، وليست من الضلالة في شيء، ويدلّ على هذا التقسيم الحديث المتّفق عليه:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ"، فقوله صلى الله عليه وسلم:"ما ليس منه" يدلّ على أن من المحدث ما هو من الشرع، وهو الذي تدلّ عليه الأدلة الشرعيّة، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه:"نعمت البدعة"، فإنه أراد به كونها بدعة لغويّة، وذلك لأن قيام رمضان رغّب فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل صلى بعض الليالي بأصحابه، ثم اعتذر إليهم بخشية أن يُفرَض عليهم، فلا يقومون به، فلما تُوفّي صلى الله عليه وسلم، رأى عمر رضي الله عنه أن الخشية ارتفعت، فجمعهم على إمام واحد، واستحسن منه ذلك معظم الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم عثمان وعليّ رضي الله عنهما، فقد كان الناس يصلون جماعة في خلافتهما، وكذلك ما نقل عن الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى وغيره من تقسيم البدع إلى محمودة ومذمومة، فإنما أرادوا البدعة اللغوية، لا الشرعيّة، فافهم الفرق، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَكَانَ يَقُولُ) وفي رواية مسلم: "وكان يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه".

قال النوويّ رحمه الله: هو موافقٌ لقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] أي أحقّ، قال أصحابنا -يعني الشافعيّة-: لو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مضطرًا إلى طعام غيره، وهو مضطرّ إليه لنفسه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم أخذه من مالكه المضطرّ، ووجب على مالكه بذله له صلى الله عليه وسلم، قالوا: ولكن هذا -وإن كان جائزًا- فما وقع. انتهى.

ص: 18

(مَنْ تركَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ) أي فهو ميراث لأهله (وَمَنْ تركَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ) أي فعليّ وفاء دينه، وإلَيّ كفالة عياله، فالأول راجع إلى الدين، والثاني راجع إلى الضياع.

قال النوويّ رحمه الله: هذا تفسير لقوله: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه"، قال أهل اللغة:"الضَّيَاع" -بفتح الضاد-: العيال، قال ابن قتيبة: أصله مصدر ضاع يَضيع ضَيَاعًا، والمراد من ترك أطفالا وعيالا ذوي ضَياع، فأوقع المصدر موضع الاسم. انتهى.

وقال القرطبيّ: الضَّيَاع: العيال، قاله النضر بن شُميل. وقال ابن قتيبة: هو مصدر ضَاعَ يَضيع ضَيَاعًا، ومثله مضى يمضي مضاءً، وقضى يقضي قضاءً: أراد من ترك عيالًا، أو أطفالًا، فجاء بالمصدر موضع الاسم، كما تقول: ترك فقرًا: أي فقراء. و"الضِّيَاع" بالكسر: جمع ضائع، مثل جائع وجياع، وضيعة الرجل أيضًا ما يكون منه معاشه، من صناعة، أو غلّة. قاله الأزهريّ. وقال شَمِر: ويدخل فيه التجارة، والحِرفة، يقال: ما ضيعتك؟ فتقول: كذا. انتهى (1).

قال النوويّ: قال أصحابنا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُصلي على من مات وعليه دين، لم يَخلُف به وفاء؛ لئلا يتساهل الناس في الاستدانة، ويُهمِلوا الوفاء، فزجرهم عن ذلك بترك الصلاة عليهم، فلما فتح الله على المسلمين مبادىء الفتوح قال صلى الله عليه وسلم:"من ترك دينا فعليّ": أي قضاؤه، فكان يقضيه.

واختلف أصحابنا هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يَجِب عليه قضاء ذلك الدين، أم كان يقضيه تَكَرُّمًا، والأصح عندهم أنه كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم. واختلفوا هل هذه من الخصائص أم لا؟، فقال بعضهم: هو من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا، بل يلزم الإمام أن يقضي من بيت المال دين من مات، وعليه دين إذا لم يَخلُف وفاءً، وكان في بيت المال سعة، ولم يكن هناك أهم منه. انتهى كلام النوويّ (2).

(1)"المفهم" 2/ 509.

(2)

"شرح مسلم" 6/ 155.

ص: 19

وقال أبو العبّاس القرطبي رحمه الله تعالى: قوله "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه": أي أقرب له من نفسه، أو أحقّ به منها، ثم فسّر وجهه بقوله:"من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينًا، أو ضَيَاعًا فإليّ، وعليّ".

وبيانه أنه إذا ترك دينًا، أو ضَيَاعًا، ولم يَقدِر على أن يُخَلِّصَ نفسه منه؛ إذ لم يترك شيئًا يَسُدُّ به ذلك، ثم يُخلّصه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقيامه به عنه، أو سدّ ضَيْعته كان أولى به من نفسه؛ إذ قد فعل معه ما لم يَفعَل هو بنفسه. والله تعالى أعلم.

وأما رواية من رواه: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" في "غير صحيح مسلم"، فيحتمل أن يُحمل على ذلك، ويَحتمِل أن يكون معناه: أنا أولى بالمؤمنين من بعضهم لبعض، كما قال تعالى:{أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66] أي ليقتل بعضكم بعضًا في أشهر أقوال المفسّرين.

قال: وهذا الكلام إنما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم حين رَفَعَ ما كان قرّر من امتناعه من الصلاة على من مات وعليه دينٌ لم يترك له وفاءً، كما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُؤتى بالميت عليه الدين، فيَسْأل:"هل ترك لدينه وفاءً؟ " فإن قيل: إنه ترك وفاءً صلّى عليه، وإن قالوا: لا، قال:"صلُّوا على صاحبكم"، قال: فلما فتح الله عليه الفتوحَ قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من تُوفّي فترك دينًا، فعليّ، ومن ترك مالًا فلورثته". متّفقٌ عليه.

قال القاضي: وهذا مما يلزم الأئمة من الفرض في مال الله تعالى للذرّيّة، وأهل الحاجة، والقيام بهم، وقضاء ديون محتاجيهم. انتهى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هذا أخرجه مسلم.

(1)"المفهم" 2/ 508 - 510.

ص: 20

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (7/ 45) وفي "كتاب الأحكام" برقم (2407) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه مختصرًا. و (مسلم)(3/ 11) و (أبو داود)(2954) و (النسائيّ)(3/ 58 و 188) و (ابن خزيمة) في "صحيحه" رقم (1785) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(10) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 214) و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4295) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو وجوب اجتناب البدع، وسأستوفي البحث عن البدعة في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الاهتمام في التحذير عن المعاصي، والحث على الطاعات، ومن أجل شدّة الاهتمام بذلك ينشأ غضبه، بحيث تحمرّ عيناه، ويتغيّر حاله، فكأن من سمع خطبته في تلك الحال يتصوّره كأنه منذر جيش جرّار، قد دنا اجتياحه لقومه، وهم في غفلتهم ساهون، وفي مستلذّاتهم لاهون، وذلك نتيجة حرصه على هداية أمته، ورحمته ورأفته بهم، فكان كما وصفه الله عز وجل بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

3 -

(ومنها): أنه ينبغي للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، فيرفع صوته، ويُجْزِل كلامه؛ حتى يكون مطابقًا للفصل الذي يتكلّم فيه، من ترغيب، أو ترهيب.

4 -

(ومنها): بيان قرب الساعة، فإن بعثته صلى الله عليه وسلم إحدى علاماتها.

5 -

(ومنها): مشروعيّة ضرب المثل للإيضاح.

6 -

(ومنها): استحبابُ قولِ: "أما بعدُ" في خُطَب الوعظ، والجمعة، والعيد، وغيرها، وكذا في خُطَب الكتب المصنفة، وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله تعالى بابا في استحبابه، وذكر فيه جملةً من الأحاديث، واختلف العلماء في أول من تكلم به، فقيل:

ص: 21

داود عليه السلام، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: قُسّ بن ساعدة. وقال بعض المفسرين، أو كثير منهم: إنه فصل الخطاب الذي أوتيه داود. وقال المحققون: فصلُ الخطاب الفصل بين الحق والباطل (1).

7 -

(ومنها): كون كلام الله عز وجل خير الكلام، كما قال سبحانه وتعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية [الزمر:23].

8 -

(ومنها): أن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم خير الهدي، وأكمله، وأحسنه وأفضله.

9 -

(ومنها): أن البدع التي لا أصل لها من الكتاب والسنة شرُّ الأمور، وأنها هي الضلالة بعينها، فيجب اجتنابها، والحذر منها، والبعد عن أهلها، حتى لا يقع العاقل في مهواتها، فيكون مأواه نار جهنم وبئس المصير.

10 -

(ومنها): كون النبيّ صلى الله عليه وسلم أولى بكلّ مؤمن من نفسه، كما قال الله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].

11 -

(ومنها): من مات وعليه دينٌ، ولم يترك وفاءً، أو ترك عيالًا لا كافل لهم، فعلى الإمام أن يتولّى ذلك من بيت المال. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما نُقل عن أهل العلم فيما يتعلّق بالبدعة:

قال الإمام الْهُمام شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب، ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب، أو استحباب، وعُلم الأمر بالأدلة الشرعية، فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك، وسواءٌ كان هذا مفعولًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لم يكن، فما فُعل بعده بأمره -من قتال المرتدّين، والخوارج المارقين، وفارس والروم والترك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وغير ذلك- فهو سنته (2).

(1)"شرح مسلم للنوويّ" 6/ 156.

(2)

"مجموع الفتاوى" 4/ 107 - 108.

ص: 22

وقال أيضًا: البدعة ما خالفت الكتاب، والسنّة، أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات، والعبادات، كأقوال الخوارج، والروافض، والقدريّة، والجهميّة، وكالذين يتعبّدون بالرقْصِ، والغناء في المساجد، والذين يتعبّدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبّد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنّة (1).

وقال أيضًا: فمن ندب إلى شيء يُتقرّب به إلى الله، أو أوجبه بقوله، أو فعله من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين مما لم يأذن به الله (2).

وقال أيضًا: السنّة هي ما قام الدليل الشرعيّ عليه بأنه طاعة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، سواء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فُعل في زمانه، أولم يفعله، ولم يُفعل في زمانه؛ لعدم المقتضي حينئذ لفعله، أو وجود المانع منه.

فإذا ثبت أنه أمر به، أو استحبّه فهو سنّة، كما أمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وكما جمع الصحابةُ القرآن في المصحف، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعةً، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، فشرَع كتابة القرآن، وأما كتابة الحديث فنهى عنه أولًا، وذلك منسوخٌ عند جمهور العلماء بإذنه لعبد الله بن عمرو أن يكتب عنه ما سمعه في الغضب والرضا، وبإذنه لأبي شاهٍ أن تُكتب له خطبته عام الفتح، وبما كتبه لعمرو بن حزم من الكتاب الكبير الذي كتبه له لمّا استعمله على نجران، وبغير ذلك.

والمقصود هنا أن كتابة القرآن مشروعةٌ، لكن لم يجمعه في مصحف واحد؛ لأن نزوله لم يكن تمّ، وكانت الآية قد تُنسخ بعد نزولها، فلوجود الزيادة والنقص لم يمكن جمعه في مصحف واحد حتى مات صلى الله عليه وسلم، وكذا قيام رمضان، قد قال صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"، وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في

(1)"مجموع الفتاوى" 3/ 195.

(2)

"المصدر السابق" 3/ 195.

ص: 23

آخر الشهر ليالي، وكان الناس يُصلّون على عهده صلى الله عليه وسلم المسجد فرادى وجماعات، لكن لم يُدَاوم بهم على الجماعة؛ خشية أن تُفرض عليهم، وقد أُمن ذلك بموته. وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذيّ وغيره:"عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلّ بدعة ضلالة"، فما سنّه الخلفاء الراشدون ليس بدعةً شرعيّةً يُنهى عنها، وإن كان يُسمّى في اللغة بدعة، لكونه ابتُدىء، كما قال عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل. انتهى (1).

وقال العلامة أبو إسحاق الشاطبيّ (2) رحمه الله: أصل مادّة "بدع" للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117، الأنعام: 101]: أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدّم، وقوله تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]: أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدّمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدّمه ما هو مثله وما لا يُشبهه.

ومن هذا المعنى سمّيت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع وهيئتها هي البدعة، وقد يُسمّى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة.

فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخصّ منه في اللغة.

قال: ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلّقة بأفعال العباد، وأقوالهم ثلاثة:

(1)"مجموع الفتاوى" 21/ 317 - 319.

(2)

هو العلامة الأصوليّ أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطيّ الشاطبيّ صاحب المصنفات النافعة كـ "الاعتصام" و"الموافقات" المتوفى سنة (790 هـ).

ص: 24

حكم يقتضيه معنى الأمر، كان للإيجاب، أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي، كان للكراهة، أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير، وهو الإباحة.

فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في فعله وتركه، والمطلوب تركه لم يُطلَب تركه إلا لكونه مخالفًا للقسمين الأخيرين، لكنه على ضربين:

(أحدهما): أن يُطلَب تركه، ويُنهى عنه؛ لكونه مخالفة خاصّة مع مجرّد النظر عن غير ذلك، وهو إن كان محرّمًا سمّي فعله معصية وإثمًا وسمي فاعله عاصيًا وآثمًا، وإلا لم يسمّ بذلك، ودخل في حكم العفو حسبما هو مبيّن في غير هذا الموضع، ولا يُسمّى بحسب الفعل جائزًا ولا مباحًا؛ لأن الجمع بين الجواز والنهي جمع بين متنافيين.

(والثاني): أن يطلب تركه، ويُنهى عنه لكونه مخالفةً لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود، وتعيين الكيفيّات، والتزم الهيئات المعينة، أو الأزمنة المعينة مع الدوام، ونحو ذلك، وهذا هو الابتداع والبدعة، ويُسمّى فاعله مبتدعًا.

فالبدعة إذن عبارة عن "طريقة في الدين مخترعة تُضاهي الشرعيّة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله سبحانه".

وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصّها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة، فيقول:

"البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".

ولا بدّ من بيان ألفاظ هذا الحدّ:

فـ "الطريقة، والطريق"، والسبيل والسنن هي بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قُيّدت بـ "الدين"؛ لأنها فيه تُختَرع، وإليه يُضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسمّ بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدّم.

ص: 25

ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم -فمنها ما له أصلٌ في الشريعة، ومنها: ما ليس له أصلٌ فيها- خُصّ منها ما هو المقصود بالحدّ، وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتُدِعَت على غير مثال تقدّمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصّتها أنها خارجة عما رسمه الشارع. وبهذا القيد انفصلت عن كلّ ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلّق بالدين، كعلم النحو والتصريف، ومفردات اللغة، وأصول الفقه، وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة، فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع:

إذ الأمر بإعراب القرآن منقول، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنّة، فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبّد بالألفاظ الشرعيّة الدالّة على معانيها، كيف تؤخذ وتؤدّي؟، وأصول الفقه إنما معناها استقراء كلّيّات الأدلّة حتى تكون عند المجتهد نُصب عينيه، وعند الطالب سهلة الملتمس، وكذلك أصول الدين، إنما حاصله تقرير لأدلّة القرآن والسنة، أو ما ينشأ عنها في التوحيد، وما يتعلّق به، كما كان الفقه تقريرًا لأدلتها في الفروع العباديّة.

[فإن قيل]: فإن تضمينها على ذلك الوجه مخترع.

[فالجواب]: أن له أصلًا في الشرع، ففي الحديث ما يدلّ عليه، ولو سُلّم أنه ليس في ذلك دليلٌ على الخصوص، فالشرع بجملته يدلّ على اعتباره، وهو مستمدّ من قاعدة المصالح المرسلة.

فعلى القول بإثباتها أصلًا شرعيًّا لا إشكال في أن كلّ علم خادم للشريعة داخل تحت أدلّته التي ليست بمأخوذ من جزئيّ واحد، فليست ببدعة البتة.

وعلى القول بنفيها لا بدّ أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة؛ لأن كلّ بدعة ضلالة من غير إشكال.

ويلزم من ذلك أن يكون كَتْبُ المصحف، وجمع القرآن قبيحًا، وهو باطل بالإجماع، فليس إذًا بدعةً.

ص: 26

ويلزم أن يكون دليل شرعيّ، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة، وإذا ثبت جزئيّ في المصالح المرسلة ثبت مطلق المصالح المرسلة. فعلى هذا لا ينبغي أن يُسمّى علم النحو أو غيره من علوم اللسان، أو علم الأصول، أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعةً أصلًا، ومن سمّاه بدعةً، فإما على المجاز، كما سَمَّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في رمضان بدعةً، وإما جهلًا بمواقع السنّة والبدعة، فلا يكون قول من قال ذلك معتدّا به، ولا معتمدًا عليه.

وقوله في الحدّ: "تضاهي الشرعيّة" يعني أنها تشابه الطريقة الشرعيّة من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادّة لها من أوجه:

(منها): وضع الحدود، كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد، ضاحيًا لا يَستظلّ، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف واحد دون صنف، من غير علّة.

(ومنها): التزام الكيفيّات والهيئات المعيّنة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم عيدًا، وما أشبه ذلك.

(ومنها): التزام العبادات المعيّنة في أوقات معيّنة، لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته.

وثَمَّ أوجهٌ تُضاهي بها البدعةُ الأمورَ المشروعةَ، فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعةً؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية.

وأيضًا فإن صاحب البدعة إنما يَخترعها ليضاهي بها السنّة حتى يكون مُلبِّسًا بها على غيره، أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة؛ إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يُشابه المشروع؛ لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعًا، ولا يدفع به ضررًا، ولا يُجيبه غيره إليه.

ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيّل التشريع، ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير.

ص: 27

فأنت ترى العرب الجاهليّة في تغيير ملّة إبراهيم عليه السلام كيف تأوّلوا فيما أحدثوه احتجاجًا منهم، كقولهم في أصل الإشراك:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [الزمر: 3]، وكترك الْحُمْس الوقوف بعرفةَ؛ لقولهم: لا نخرُج من الحرم اعتدادًا بحرمته، وطواف من طاف بالبيت عُريانًا قائلين: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، وما أشبه ذلك مما وجّهوه ليُصَيِّروه بالتوجيه كالمشروع.

فما ظنك بمن عَدّ، أو عُدّ نفسه من خواصّ أهل الملّة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون، وظنّهم الإصابة، وإذا تبيّن هذا ظهر أن مضاهاة الأمور الشرعيّة ضروريّة الأخذ في أجزاء الحدّ.

وقوله: "يُقصَد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله تعالى" هو تمام معنى البدعة، إذ هو المقصود بتشريعها.

وذلك أن أصل الدخول فيها يحثّ على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبيّن له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف، فرأى من نفسه أنه لا بدّ لما أُطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حبّ الظهور أو عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.

وأيضًا فإن النفوس قد تَمَلُّ وتسأم من الدوام على العبادات المرتّبة، فإذا جُدّد لها أمر لا تَعْهَده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول، ولذلك قالوا: لكلّ جديد لذّة، بحكم هذا المعنى، كمن قال: كما تُحْدَثُ للناس أقضية بغدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك تُحدَث لهم مرغِّبات في الخير بقدر ما حَدَثَ لهم من الفتور. وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: "فيوشك قائل أن يقول: ما هم بِمُتَّبِعيّ فيتبعوني، وقد

ص: 28

قرأت القرآن، فلا يتّبعوني حتى أُحدث لهم غيره، فإياكم وما ابتُدِع، فإن ما ابتُدع ضلالة" (1).

وقد تبيّن بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكلُّ ما اختُرع من الطرق في الدين مما يُضاهي المشروع، ولم يُقصد به التعبّد، فقد خرج عن هذه التسمية، كالمغارم الْمُلزِمة على الأموال وغيرها نسبة مخصوصةً وقَدْر مخصوص مما يُشبه فرض الزكاة، ولم يكن إليها ضرورة، وكذلك اتخاذ المناخل، وغسل اليد بالأشنان، وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبلُ، فإنها لا تُسمّى بدَعًا على إحدى الطريقتين.

وأما الحدّ على الطريقة الأخرى (2)، فقد تبيّن معناه إلا قوله:"يُقصد بها ما يُقصد بالطريقة الشرعية".

ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛ لأن البدعة إما أن تتعلّق

(1) هو ما أخرجه أبو داود (3995) بإسناد صحيح، عن يزيد بن عَمِيرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كان لا يجلس مجلسا للذكار حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هَلَك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يومًا: إن من ورائكم فتنًا يَكثُر فيها المال، ويُفتَح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يَتَّبِعُوني، وقد قرأت القرآن، ما هم بِمُتَّبِعِيَّ حتى أَبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابْتُدع، فإن ما ابتُدِع ضلالة، وأُحَذِّركم زَيْغَة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لمعاذ: ما يُدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى اجتَنِب من كلام الحكيم الْمُشتَهِرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يَثْنِيَنّك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتَلَقَّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا.

(2)

وهي طريقة من يُدخل العادات في معنى البدع.

ص: 29

بالعادات، أو العبادات، فإن تعلّقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبّده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتمّ المراتب في الآخرة في ظنّه، وإن تعلّقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها. فمن جعل المناخل في قسم البدع، فظاهر أن التمتّع عنده بلذّة الدقيق المنخول أتمّ منه بغير المنخول، وكذلك البناءات المشيّدة المختلفة التمتّع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب، ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسّع في التصرّفات، فيعُدُّ المبتدع هذا من ذلك.

وقد ظهر بهذا معنى البدعة، وما هي في الشرع -والحمد لله-. انتهى كلام الشاطبّي رحمه الله تعالى، ولقد أجاد وأفاد (1).

وقال الإمام ابن رجب رحمه الله عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة": فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكّد ذلك بقوله:"كلُّ بدعة ضلالة".

والمراد بالبدعة ما أُحدِث مما لا أصل له في الشريعة يَدُلُّ عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة.

وفي "صحيح مسلم" عن جابر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". وأخرجه الترمذي والمصنّف (2) من حديث كثير بن عبد الله المزني، وفيه ضعف، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ابتدع بدعة ضلالة، لا يرضاها الله ولا رسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا يَنقُص ذلك من أوزارهم شيئا".

وأخرج الإمام أحمد من رواية غُضَيف بن الحارث الثُّمَالي، قال: بعث إليّ

(1)"الاعتصام" 1/ 49 - 57.

(2)

أخرجه الترمذيّ 5/ 45 رقم 2677 وسيأتي للمصنف رقم 209.

ص: 30

عبد الملك بن مروان، فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد صلاة الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثلُ بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أحدث قومٌ بدعةً إلا رُفِع مثلها من السنة"، فتمسك بسنّة خير من إحداث بدعة (1). وقد رُوْي عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله نحوُ هذا.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"(2).

فكل من أحدث شيئًا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يَرجِع إليه، فهو بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة.

وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية، لا الشرعية.

فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لمّا جَمَع الناسَ في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: نعمت البدعة هذه. ورُوِيَ عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعةً فنعمت البدعة. ورُوِيَ عن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر رضي الله عنه: قد عَلِمتُ، ولكنه حسن.

ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصولٌ في الشريعة يَرجِعُ إليها:

(1) أخرجه أحمد 4/ 105 والبزّار رقم 131 وذكره الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 1/ 193 وقال: رواه أحمد والبزّار، وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، وهو منكر الحديث.

(2)

متّفقٌ عليه.

ص: 31

فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَحُثُّ على قيام رمضان، ويُرَغِّب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرقةً ووُحْدانًا، وهو صلى الله عليه وسلم صَلَّى بأصحابه في رمضان ليلةً، ثم امتنع من ذلك مُعَلِّلا بأنه خَشِيَ أن يُكتَب عليهم، فيَعجَزُوا عن القيام به، وهذا قد أُمِن بعده صلى الله عليه وسلم (1).

ورُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (2).

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم.

ومن ذلك أذان الجمعة الأول زاده عثمان رضي الله عنه لحاجة الناس إليه، وأقرّه عليّ، واستمر عمل المسلمين عليه.

ورُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: هو بدعة. قال ابن رجب: ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام شهر رمضان.

ومن ذلك جَمْعُ المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عَلِمَ أنه مصلحة، فوافق على جَمْعه (3)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة الوحي، ولا فرق بين أن يُكتَب مُفَرقًا أو مجموعا، بل جَمْعُهُ صار أصلح.

وكذلك جَمْعُ عثمان رضي الله عنه الأمة على مصحف واحد، وإعدامه لِمَا خالفه؛ خشيةَ تفرق الأمة، وقد استحسنه عليّ، وأكثر الصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك عينَ المصلحة.

وكذلك قتال مَن مَنَعَ الزكاةَ توقف فيه عمر وغيره، حتى بَيَّن له أبو بكر أصله الذي يَرجِع إليه من الشريعة، فوافقه الناس على ذلك.

(1) أخرجه البخاريّ 4/ 779 رقم 2012 من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

صحيح أخرجه أبو داود رقم 1375 والترمذيّ 806 والنسائيّ 1605.

(3)

أخرجه البخاريّ في "كتاب فضائل القرآن" رقم 4986.

ص: 32

ومن ذلك القَصَصُ، وقد سبق قول غُضَيف بَن الحارث: إنه بدعة، وقال الحسن: إنه بدعة، ونعمت البدعة، كم من دَعْوة مستجابةٍ، وحاجةٍ مَقْضِيّةٍ، وأخٍ مُستفاد.

وإنما عَنَى هؤلاء بقولهم: إنه بدعةٌ الهيئةَ الاجتماعيةَ عليه في وقت معين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له وقت معين يَقُصُّ على أصحابه فيه، غير خُطَبه الراتبة في الْجُمَع والأعياد، وإنما كان يُذَكِّرهم أحيانًا أو عند حدوث أمر يَحتاج إلى التذكير عنده، ثم إن الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا على تعيين وقت له، كما سبق عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يُذَكِّر أصحابه كل يوم خميس.

وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حَدِّثِ الناسَ في كل جمعة مرة، فإن أبيتَ فمرتين، فإن أكثرت فثلاثًا، ولا تُمِلُّ الناسَ.

وفي "المسند" عن عائشة رضي الله عنها أنها وَصَّتْ قاصَّ أهل المدينة بمثل ذلك (1).

(1) هو ما أخرجه في "المسند" 6/ 217 ونصّه:

24636 -

حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا داود، عن الشعبي قال: قالت عائشة لابن أبي السائب، قاصِّ أهل المدينة ثلاثًا لَتُبَايعُنِّي عليهن، أو لأُناجِزَنَّك، فقال: ما هنّ، بل أنا أبايعك يا أم المؤمنين، قالت: اجتنب السجع من الدعاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا لا يفعلون ذلك، وقال إسماعيل مرة: فقالت: إني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم لا يفعلون ذاك. وقُصَّ على الناس في كل جمعة مرة، فإن أبيت فثنتين، فإن أبيت فثلاثًا، فلا تُمِلَّ الناسَ، هذا الكتابَ، ولا أَلْقَيَنَّك تأتي القوم، وهم في حديث من حديثهم، فتقطع عليهم حديثهم، ولكن اتركهم فإذا جَرَّءُوك عليه، وأمروك به فحدثهم. وهذا إسناد صحيح، وإسماعيل هو ابن عليّة، وداود هو ابن أبي هند، ويقال: إن الشعبيّ لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 265. إلا أن إرساله لا يضرّ؛ لأنه لا يرسل إلا صحيحًا، قال العجليّ: مرسل الشعبيّ صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحًا. انظر "شرح علل ابن رجب" ص 181 تحقيق صبحي السامرّائي.

ص: 33

ورُوِي عنها أنها قالت لسعيد بن عمير: حَدِّث الناسَ يومًا، ودع الناس يومًا. ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاصّ أن يقص كل ثلاثة أيام مرة. ورُوي عنه أنه قال: رَوِّحِ الناسَ، ولا تُثْقِل عليهم، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء.

وقد رَوَى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الْجُنيد قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هي.

ومراد الشافعي رحمه الله ما ذكرناه من قبلُ أن البدعة المذمومة ما ليس لها أصلٌ في الشريعة تَرجِع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة يعني: ما كان لها أصل من السنة تَرجِع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعًا؛ لموافقتها السنة. وقد رُوي عن الشافعي كلام آخر يُفَسِّر هذا، وأنه قال: المحدثات ضربان: ما أُحدث مما يخالف كتابًا، أو سنةً، أو أثرًا، أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلالة، وما أُحدث فيه من الخير، لا خِلاف فيه لواحد من هذا، فهذه مُحْدَثةٌ غير مذمومة.

وكثيرٌ من الأمور التي أُحدثت، ولم يكن (1) قد اختَلَف العلماء في أنها هل هي بدعة حسنة حتى (2) ترجع إلى السنة أم لا؟.

(فمنها): كتابة الحديث، نَهَى عنه عمر، وطائفة من الصحابة رضي الله عنهم، وَرَخَّص فيها الأكثرون، واستدلوا له بأحاديث من السنة.

(ومنها): كتابة تفسير الحديث والقرآن، كَرِهه قوم من العلماء، ورخص فيه كثير منهم، وكذلك اختلافهم في كتابة الرأي في الحلال والحرام ونحوه، وفي توسعة الكلام في المعاملات، وأعمال القلوب التي لم تُنقَل عن الصحابة والتابعين، وكان الإمام أحمد

(1) هكذا نسخة "جامع العلوم والحكم""ولم يكن"، ولعل المعنى: ولم يكن موجودًا"، والله تعالى أعلم.

(2)

هكذا نسخة "جامع العلوم" ولعل الأولى: "حيث"، والله أعلم.

ص: 34

يَكرَه أكثر ذلك.

وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعلوم السلف يَتَعيَّن ضبط ما نُقِل عنهم من ذلك كله؛ ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم، وما أُحدِث في ذلك بعدهم، فيُعلمَ بذلك السنة من البدعة.

وقد صَحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ستُحدِثون، ويُحدَث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالعهد الأول. وابن مسعود رضي الله عنه قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين.

وروى ابنُ مَهديّ عن مالك قال: لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعثمان، وكان مالك يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات، من أمور الخوارج، والروافض، والمرجئة ونحوهم، ممن تَكَلَّم في تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، أو في تخليدهم في النار، أو في تفسيق خواص هذه الأمة، أو عَكَسَ ذلك، فزعم أن المعاصي لا تضر أهلها، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد.

وأصعب من ذلك ما أُحدث من الكلام في أفعال الله تعالى في قضائه وقدره، فكَذّب بذلك من كَذَّب، وزَعَم أنه نزه الله بذلك عن الظلم.

وأصعب من ذلك ما حَدَث من الكلام في ذات الله وصفاته، مما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعون لهم بإحسان، فقومٌ نَفَوا كثيرًا مما وَرَد في الكتاب والسنة من ذلك، وزَعَموا أنهم فعلوا تنزيها لله عما تقتضي العقول تنزيهه عنه، وزعموا أن لازم ذلك مستحيلٌ على الله عز وجل. وقوم لم يكتفوا بإثباته، حتى أثبتوا ما يُظَنّ أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين، وهذه اللوازم نفيًا وإثباتًا دَرَجَ صدرُ الأمة على السكوت عنها.

ومما حَدَث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرد الرأي، ورَدُّ كثير مما وردت به السنة في ذلك؛ لمخالفته الرأي، والأقيسة العقلية.

ومما حَدَث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذَّوْق والكشف، وزَعْمُ أن الحقيقة تنافي

ص: 35

الشريعة، وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة، وأنه لا حاجة إلى الأعمال، وأنها حجاب، أو أن الشريعة إنما يَحتاج إليها العوامُّ، وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يُعلَمُ قطعًا مخالفته للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى. (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا البحث الذي حقّقه الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه النفيس "جامع العلوم والحكم" بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، فعليك بمطالعته، وتدبّره، حتى ينجلي لك الفرق بين البدعة الشرعية المذمومة بكل أشكالها وألوانها التي عناها النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"فكل بدعة ضلالة"، وبين البدعة اللغويّة التي يُستحسَن بعض أفرادها، وهي التي تستند إلى أصل من الكتاب والسنة، أو إجماع الأمة.

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: البدعة كل ما فُعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعيّة فما لم يدلّ عليه دليل شرعيّ -إلى أن قال-: ثم ذلك العمل الذي دلّ عليه الكتاب والسنّة ليس بدعةً في الشريعة، وإن سُمّي في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعمّ من لفظ البدعة في الشريعة، وقد عُلم أن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلُّ بدعة ضلالة" لم يُرد به كلّ عمل مبتدإ، فإن دين الإسلام، بل كلّ دين جاء به الرسل فهو عملٌ مبتدأ، وإنما أراد ما ابتُدىء من الأعمال التي لم يشرعها النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى (2).

والحاصل أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" هي البدعة الشرعيّة، لا اللغويّة.

ومن أقوى الأدلة على التفريق بين البدعة الشرعيّة واللغويّة ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما، من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ليس منه" إشارةٌ واضحةٌ إلى أن من المحدثات

(1)"جامع العلوم والحكم" 2/ 97 - 102.

(2)

راجع "الصراط المستقيم" 2/ 589 - 590.

ص: 36

ما يكون من الشرع، وهو ما له أصل يستند إليه من الأدلة الشرعيّة.

وقد غلا بعض الناس في هذا الباب، حيث تمسّك بقوله صلى الله عليه وسلم:"فكل بدعة ضلالة" فاعتقد أن كلّ ما أُحدث فهو من البدع الضلالة، وهذا غلوّ، وجفاء، وتفريط في عدم الجمع بين أطراف النصوص في هذا الباب، وتدبّرها، وتفهّمها حقّ تدبّر وتفهّم، كما فعل هؤلاء المحقّقون الذين تقدمت أقوالهم، فإياك، ثم إياك أن تكون من هذا الصنف، أو تقلّد منهم أحدًا. اللهم أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، آمين آمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): أنه قد تبيّن بما سبق من أقوال أهل العلم في تعريف البدعة أنها هي التي تفعل بقصد القربة، وهذا أصل أصيلٌ يفرّقُ به بين الفعل الذي يكون بدعةً، والفعل الذي يكون معصيةً فقط، وإن كانت البدعة معصيةً لله سبحانه وتعالى إلا أنها تفوق المعصية في الإثم والحكم.

فالمعصية في أصل وقوعها من حيث العمل والاعتقاد تختلف عن البدعة من جهة ما يقترن بكلّ منهما، فالعاصي لا يعتقد أنه بمعصيته يُرضي الله، بخلاف المبتدع، فإنه يعتقد في عمله المحدّث القربةَ إلى الله تعالى، وهذا هو وجه المفارقة.

ووجه آخر هو ما تؤول إليه البدعة من مفاسد حاليّة مآليّة في الدنيا والآخرة، وذلك باعتقاد المشروعيّة أو الجواز فيما ليس له أصل، وما يترتّب على هذا الاعتقاد من شيوع وانتشار، حتى ينشأ عليها الصغير، ويموت عليها الكبير، بخلاف المعصية، أو المخالفة.

وهذا هو معنى ما قاله سفيان الثوريّ رحمه الله: البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها (1).

(1) رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 26.

ص: 37

والسبب في عدم توبة المبتدع أنه يرجو بعمله، أو قوله، أو اعتقاده المحدث القرب من الله، فلا ينفكّ من ملازمة هذا العمل.

وبسبب كون البدع أشرّ من المعاصي، وأهلها أضرّ من أهل الذنوب أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة (1).

ومما جاء عن السلف في اعتبار أن البدعة أشدّ ضررًا من المعاصي ما رواه ابن وضّاح بسنده عن أبي بكر بن عيّاش، قال: كان عندنا فتًى يقاتل، ويشرب، وذَكَر أشياءَ من الفسق، ثم إنه تقرّأ فدخل في التشيّع، فسمعت حبيب بن أبي ثابت، وهو يقول: لأنت يوم كنتَ تقاتل وتفعل وتفعل خيرٌ منك اليوم.

وقصد القربة يراد به إلحاق حكم شرعيّ بعمل محدَث، كالندب والاستحباب والإيجاب، أو الكراهة والتحريم، قال شيخ الإسلام: فمن ندب إلما شيء يتقرّب به إلى الله، أو أوجبه بقوله، أو فعله، من غير أن يشرعه الله فقد شرع ما لم يأذن به الله (2).

وقصد القربة يتوجّه إلى العمل الذي لا يتصوّر فيه غير إرادة القربة كالعبادات المحضة، وهي حق خالصٌ لله سبحانه وتعالى، فلا بدّ من مطابقة فعل العبد لأمر الشرع (3).

فالعبادة التي هي حق الله تعالى لا يُتصوّر فيها غير إرادة القربة، فالإحداث فيها يسمّى ابتداعًا، سواء قصد القربة، أو افتُرض أنه لم يقصدها، فلو أحيا ليلة النصف من شعبان بعبادة مخصوصة، كالصلاة والذكر فهو مبتدع، حتى مع افتراض عدم قصده للقربة.

ويتوجّه قصد القربة أيضًا إلى العمل الذي يَحمِل أوجهًا متعدّدة، مثل الأمور الدنيويّة، فيُنظر إلى الفعل باعتبار الوجه الغالب عليه، أو باعتبار وجه القربة إذا اتّحدت

(1) انظر "مجموع الفتاوى" 7/ 284.

(2)

"مجموع الفتاوى" 3/ 195.

(3)

انظر "الموافقات" للشاطبيّ 2/ 308.

ص: 38

أوجه الفعل الواحد، فمن لبس ثوبًا بلون معيّن، ولم يُرد بذلك القربة فلا يوصف هذا العمل بالبدعة؛ لأنه مباح، إلا إذا لحقته أمور منهيّ عنها، كالإسبال والاشتهار، فإنه يكون معصيةً. أما إذا أراد بذلك الثوب المعيّن القربة فإنه ييهون بدعة، كما يفعله بعض الصوفيّة من اشتراط لون معيّن لمريدهم.

والحاصل أن كلّ فعل، أو ترك قُصد به القربة، مما ليس له أصل في الشرع فهو بدعة.

فخرج بذلك ما فُعل أو تُرك لا بقصد القربة، فإنه يكون معصيةً، أو مخالفة، أو عفوًا، ولا يُطلق عليه بدعة.

مثال ما فُعل لا بقصد القربة، ويكون معصيةً جميع المنهيات الشرعية، كالنظر إلى النساء، وسماع الغناء، فإذا كان هذا الفعل بقصد القربة فهو بدعة.

ومثال ما تُرك لا بقصد القربة ترك المأمور به شرعًا، كترك النكاح للقادر عليه، وكترك الدعوة إلى الله ممن وجبت عليه، فإذا كان هذا الترك بقصد القربة فهو بدعة.

ومثال ما فُعل لا بقصد القربة ويكون عفوًا حلقُ الرأس في غير نسُك، فإن فُعل بقصد القربة فهو بدعة.

ومثال ما تُرك لا بقصد القربة، ويكون عفوًا الامتناع عن أكل اللحم للتطبّب ونحوه، فإن كان الترك تديّنًا فهو بدعة. وللاستزادة في هذا الموضوع راجع "اقتضاء الصراط المستقيم"، و"مجموع الفتاوى" لابن تيميّة رحمه الله تعالى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)"اقتضاء الصراط المستقيم" 1/ 326 - 327 و 2/ 630 و 633 و 637. "مجموع الفتاوى" 21/ 317 - 319 و 18/ 346 "درء التعارض" 1/ 244. وراجع "حقيقة البدعة وأحكامها" تأليف سعيد بن ناصر الغامدي 1/ 291 - 296.

ص: 39

(المسألة السادسة): في تقسيم البدعة إلى حقيقيّة وإضافيّة:

قال أبو إسحاق الشاطبيّ رحمه الله تعالى: البدعة الحقيقيّة هي التي لم يدلّ عليها دليلٌ شرعيّ، لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة، ولا في التفصيل، ولذلك سمّيت بدعةً؛ لأنها شيء مُخترع على غير مثال سابق.

والبدعة الإضافيّة هي التي لها شائبتان:

[إحداهما]: لها من الأدلّة مُتَعلّقٌ، فلا تكون من تلك الجهات بدعة.

[والأخرى]: ليس لها مُتعلَّقٌ إلا مثل ما للبدعة الحقيقيّة. أي إنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة؛ لأنها مستندة إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة؛ لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، أو غير مستندة إلى شيء.

والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيّات، أو الأحوال، أو التفاصيل لم يقُم عليها، مع أنها محتاجة إليه؛ لأن الغالب وقوعها في التعبّديّات، لا في العاديات المحضة.

قال: قد يكون أصل العمل مشروعًا، ولكنه يصير جاريًا مجرى البدعة من باب الذرائع، وبيانه أن العمل يكون مندوبًا إليه مثلًا. فيَعمَل العامل خاصّة نفسه على وضعه الأول من الندبيّة، فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيّته غير مظهر له دائمًا، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم المتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم، فهذا صحيحٌ لا إشكال فيه، وأصله ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخفاء النوافل، والعمل بها في البيوت، وقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، متّفقٌ عليه. فاقتصر في الإظهار على المكتوبات كما ترى، وإن كان ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم، أو في المسجد الحرام، أو في مسجد بيت المقدس، حتى قالوا: إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر هذا الحديث، وجرى مجرى الفرائض في الإظهار بعض السنن، كالعيدين، والخسوف،

ص: 40

والاستسقاء، وشبه ذلك، فبقي ما سوى ذلك حكمه الإخفاء، فإذا اجتمع في النافلة أن تُلْتَزَمَ التزام السنن الرواتب إما دائمًا، وإما في أوقات محدودة، وعلى وجه محدود، وأُقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب، فذلك ابتداع.

والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين لهم بإحسان فعلُ هذا المجموع هكذا مجموعًا، وإن أتى مطلقًا، من غير تلك التقييدات، فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع، فكيف إذا عارضه الدليل، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلًا؟.

ووجه دخول الابتداع هنا أن كلّ ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنّة على طريق العمل بالسنّة إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعًا، ثم يلزم من ذلك اعتقادا العوامّ فيها، ومن لا علم عنده أنها سنّة، وهذا فساد عظيم؛ لأن اعتقاد ما ليس بسنة، والعمل بها على حدّ العمل بالسنّة نحوٌ من تبديل الشريعة، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض، أو فيما ليس بفرض أنه فرضٌ، ثم عمل على وفق اعتقاده، فإنه فاسدٌ، فهب العملُ في الأصل صحيحًا، فإخراجه عن بابه اعتقادًا وعملًا من باب إفساد الأحكام الشرعيّة، ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سننًا لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض.

فهذه أمورٌ جائزة، أو مندوب إليها، ولكنهم كرهوا فعلها خوفًا من البدعة؛ لأن اتخاذها سنةً إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها، وهذا شأن السنة، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شكّ.

قال الجامع عفا الله تعالى: هذا الذي قالة الشاطبيّ فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه إن أراد أن ترك السنة مخافة أن يعتقد الجاهل أنها من الفرائض فهذا مما لا معنى له؛ لأن السنة لا تُترك لمثل هذا الخوف، بل الواجب أن يُبيّن للجاهل ما هو الفرض، وما هي السنة، ولا أظنّه يُثبت النقل بذلك عن أحد من السلف أنهم تركوا السنن لأجل هذا الخوف.

ص: 41

وإن أراد بتركها ترك فعل بصفة خاصّة، لم تثبت في السنة، فهذا أمر مسلمٌ، ولكن سياق كلامه يأبى هذا التأويل.

وبالجملة: فلا تترك السنة على الوجه الذي ثبتت به لأجل مثل هذا الخوف، بل ينبه الجاهل، ويبين له ذلك. والله تعالى أعلم.

قال: ومن البدع الإضافيّة التي تقرب من الحقيقيّة أن يكون أصل العبادة مشروعًا إلا أنها تخرج عن أصل مشروعيّتها بغير دليل توهمًا أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل، وذلك بأن يقيّد إطلاقها بالرأي، أو يُطلق تقييدها، وبالجملة فتخرج عن حدّها الذي حُدّ لها.

ومثال ذلك أن يقال: إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصّه الشارع بوقت دون وقت، ولا حد فيه زمانًا دون زمان، ما عدا ما نهى عن صيامه على الخصوص كالعيدين، أو ندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول، فإذا خصّ منه يومًا من الجمعة بعينه، أو أياما من الشهر بأعيانها، لا من جهة ما عيّنه الشارع، فلا شكّ أنه رأي محض بغير دليل، ضاهى به تخصيص الشارع أيامًا بأعيانها دون غيرها، فصار التخصيص من المكلّف بدعةً، إذ هي تشريع بغير مستند.

ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تُشرع لها تخصيصًا، كتخصيص اليوم الفلانيّ بكذا وكذا من الركعات، أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانيّة بقيام كذا وكذا ركعةً، أو بختم القرآن فيها، أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق، أو بقصد يَقصِد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط، كان تشريعًا زائدًا، وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعًا، فإن كان أصلها غير مشروع فهي بدعة حقيّقية مركبة. انتهى كلام الشاطبيّ (1)، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) راجع "مختصر الاعتصام" ص 71 - 78.

ص: 42

(المسألة السابعة): في ذكر بعض ما جاء عن السلف في ذمّ البدعة:

ذكر الإمام الطبري رحمه الله تعالى في كتاب "آداب النفوس": حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان، أن رجلًا قال لابن مسعود: "ما الصراط المستقيم، قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، وثَمّ رجال يدعون من مَرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} الآية [الأنعام: 153].

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تعلموا العلم قبل أن يُقبَض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق. أخرجه الدارمي.

وقال مجاهد في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قال: البدع. قال ابن شهاب: وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الآية [الأنعام: 159]، فالْهَرَب الْهَرَبَ، والنجاة النجاةَ، والتمسك بالطريق المستقيم، والسنن القويم، الذي سلكه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح. وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا". متّفق عليه.

وروى ابن ماجة وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذَرَفَت منها العيون، ووَجِلَت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فما تعهد إلينا؟ فقال قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة، وإن عبدًا حبشيا، فإنما المؤمن كالْجَمَل الأَنِفِ حيثما قيد انقاد". وأخرجه الترمذي بمعناه، وصححه.

ورَوى أبو داود قال: حدثنا ابن كثير قال: أخبرنا سفيان، قال: كتب رجلٌ إلى عمر بن عبد العزيز، يسأله عن القدر، فكتب إليه: "أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله،

ص: 43

والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المُحْدِثون بعدَ ما جرت به سنته، وكُفُوا مُؤْنته، فعليك بلزوم الجماعة، فإنها لك -بإذن الله- عِصْمَة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعةً إلا قد مضى قبلها ما هو دليلٌ عليها، أو عبرةٌ فيها، فإن السنة إنما سَنَّها من قد علم ما في خلافها من الخطإ والزَّلَلِ، والْحُمْق والتعمّق، فارضَ لنفسك ما رَضِي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وَقَفُوا، وببصر نافذ كَفُّوا، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أَوْلَى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه، فقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حَدَثَ بعدَهم، فما أحدثه إلا مَن اتّبع غير سبيلهم، ورَغِبَ بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، قد تكلموا فيه بما يَكفِي، ووَصَفُوا ما يَشفِي، فما دونهم من مَقْصَر، وما فوقهم من مَحْسَر، وقد قَصَّر قوم دونهم فجَفَوا، وطَمَحَ عنهم أقوام فَغَلَوْا، وإنهم مع ذلك لَعَلَى هُدًى مستقيم.

كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر، فعلى الخبير -بإذن الله- وقعتَ، ما أعلم ما أحدث الناس من مُحدَثة، ولا ابتدعوا من بدعة، هي أبين أثرًا، ولا أثبت أمرًا، من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الْجُهَلاء، يتكلمون به في كلامهم، وفي شِعْرهم، يُعَزُّون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يَزِده الإسلام بعدُ إلا شِدَّةً، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته، وبعد وفاته، يقينًا وتسليمًا لربهم، وتضعيفًا لأنفسهم أن يكون شيء لم يُحِط به علمه، ولم يُحصِه كتابه، ولم يَمضِ فيه قَدَرُه، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: لِمَ أَنزل الله آية كذا؟ لم قال كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعَلِمُوا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر، وكُتِبت الشقاوة، وما يُقدَّر يكن، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعًا، ثم رَغِبوا بعد ذلك ورهبوا" (1).

(1) صحيح أخرجه أبو داود في "سننه" 4/ 202 - 203 رقم 4612.

ص: 44

وقال سهل بن عبد الله التستريّ: عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليلٍ زمانٌ إذا ذَكَر إنسانٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذَمُّوه، ونَفَرُوا عنه، وتبرءوا منه، وأَذَلّوه، وأهانوه، قال سهل: إنما ظهرت البدعة على أيدي أهل السنة؛ لأنهم ظاهروهم، وقاولوهم، فظهرت أقاويلهم، وفَشَت في العامة، فسمعه من لم يكن يسمعه (1)، فلو تركوهم، ولم يكلموهم لمَات كل واحد منهم على ما في صدره، ولم يَظهَر منه شيء، وحمله معه إلى قبره. وقال سهل: لا يُحدِث أحدكم بدعةً حتى يُحدث له إبليس عبادةً، فيتعبد بها، ثم يُحدث له بدعة، فإذا نطق بالبدعة، ودعا الناس إليها نُزِع منه تلك الخدمة. قال سهل: لا أعلم حديثًا جاء في المبتدعة أشدّ من هذا الحديث: "حجب الله الجنة عن صاحب البدعة"(2)، قال: فاليهودي والنصراني أرجى منهم. قال سهل: من أراد أن يُكرِم دينه، فلا يدخل على السلطان، ولا يَخلُوَنَّ بالنسوان، ولا يخاصمنّ أهل الأهواء. وقال أيضا: اتّبِعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم. وفي "مسند الدارمي" أن أبا موسى الأشعري جاء إلى عبد الله بن مسعود، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفًا شيئًا أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيرًا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حِلَقًا حِلَقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، وفي كل حَلْقة رجل، وفي أيديهم حصًى، فيقول لهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظارَ رأيك، وانتظارَ أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يَعُدُّوا سيئاتهم، وضَمِنتَ لهم ألا يضيع من حسناتهم، ثم مَضَى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحِلَق، فوقف عليهم، فقال: ماهذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصًى نَعُدّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فَعُدُّوا سيئاتكم، وأنا ضامن لكم ألا

(1) هكذا النسخة، ولعلّ الأولى: فسمعها من لم يكن يسمعها، والله تعالى أعلم.

(2)

حديث صحيح أخرجه الطبراني في "الأوسط" بلفظ: "إن الله حجب التوبة عن كلّ صاحب بدعة حتى يَدَع بدعته".

ص: 45

يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، أو مُفْتَتَحِي بابِ ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا خيرًا، فقال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. وعن عمر بن عبد العزيز، وسأله رجل عن شيء من أهل الأهواء والبدع، فقال: عليك بدين الأعراب، والغلام في الْكُتّاب، والْهَ عمّا سوى ذلك. وقال الأوزاعي: قال إبليس لأوليائه: من أيّ شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قِبَل الاستغفار، قالوا: هيهات ذلك شيء قُرِن بالتوحيد، قال: لأَبُثَّنّ فيهم شيئًا لا يستغفرون الله منه، قال: فَبَثَّ فيهم الأهواء. وقال مجاهد: ولا أدري أَيُّ النعمتين علي أعظم؟: أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء. وقال الشعبيّ: إنما سُمُّوا أصحاب الأهواء؛ لأنهم يَهْوُون في النار. كله عن الدارمي.

وسئل سهل بن عبد الله عن الصلاة خلف المعتزلة، والنكاح منهم وتزويجهم، فقال: لا ولا كرامة، هم كُفّار كيف يؤمن مَن يقول: القرآن مخلوق، ولا جنة مخلوقة، ولا نار مخلوقة، ولا لله صراط ولا شفاعة، ولا أحد من المؤمنين يدخل النار، ولا يخرج من النار من مذنبي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عذاب القبر، ولا منكر ولا نكير، ولا رؤية لربنا في الآخرة، ولا زيادة، وأن علم الله مخلوق، ولا يرون السلطان ولا جمعة، ويُكَفِّرون من يؤمن بهذا. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.

وقال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وقال ابن عباس: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة، ويَنهَى عن البدعة عبادةٌ. وقال أبو العالية: عليكم بالأمر الأَوَّل الذي كانوا عليه قبل أن يتفرقوا، قال عاصم الأحول: فحدثتُ به الحسن، فقال: قد نصحك والله وصدقك.

وقد قال بعض العلماء العارفين في قوله صلى الله عليه وسلم: "تفرقت بنو إسرائيل عن ثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين

" الحديث:

ص: 46

هذه الفرقة التي زادت في فرقة أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم قوم يُعادون العلماء، ويُبغضون الفقهاء، ولم يكن ذلك قط في الأمم السالفة. وقد رَوَى رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يكون في أمتي قوم يَكفُرون بالله وبالقرآن، وهم لا يشعرون، كما كفرت اليهود والنصارى"، قال: فقلت -جُعِلتُ فداك با رسول الله-: "كيف ذاك؟ قال: يُقِرُّون ببعض، ويكفرون ببعض"، قال: قلت -جُعلتُ فداك يا رسول الله-: وكيف يقولون؟ قال: "يجعلون إبليس عَدلًا لله في خلقه وقوته ورزقه، ويقولون: الخير من الله، والشر من إبليس" -قال-: "فيكفرون بالله، ثم يقرءون على ذلك كتابَ الله، فيكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة"، قال: "فما تَلقَى منهم من العداوة والبغضاء والجدال، أولئك زنادقة هذه الأمة

" وذكر الحديث.

وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن مجالسة أهل البِدَع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم، فقال عز وجل:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا} الآية [الأنعام: 68]، ثم بَيّن في "سورة النساء"، وهي مدنية عقوبةَ مَن فَعَل ذلك، وخالف، ما أمر الله به فقال:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} الآية [االنساء: 140]، فألحق من جالسهم بهم، وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة، وحكم بموجب هذه الآيات، في مجالس أهل البِدَع على المعاشرة والمخالطة، منهم: أحمد بن حنبل، والأوزاعي، وابن المبارك، فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع، قالوا: يُنهَى عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا أُلحق بهم، يعنون في الحكم. وقد حمل عمر بن عبد العزيز الحدّ على مجالس شَرَبةِ الخمر، وتلا:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} ، قيل له: فإنه يقول: إني أجالسهم لأباينهم، وأرُدّ عليهم، قال: يُنهَى عن مجالستهم، فإن لم ينته أُلحق بهم. انتهى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) راجع "الجامع لأحكام القرآن" 7/ 138 - 142.

ص: 47

[تنبيه]: من أسباب ظهور البدع: اتباعُ الهوى، وقلّةُ العلم بالأدلة الشرعية، واتباعُ الآباء والمشايخ، واتباعُ المذاهب والطائفة، وأخذ أهل السلطة بها، أو سكوتهم عنها، وكون المبتدع من ذوي الفصاحة والبيان، واحتفاء المبتدعة ببعضهم، وتعاونهم فيما بينهم (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

46 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَدنِيُّ أَبو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ أَبِي كثيرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْكَلَامُ، وَالْهَدْيُ، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّه، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، أَلا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدِثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، أَلا لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، أَلا إِنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ مَا لَيْسَ بِآتٍ، أَلا أَنَّمَا الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، أَلا إِنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، وَسِبَابهُ فُسُوقٌ، وَلَا يَحِلُّ لمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، أَلا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ بِالجدِّ، وَلَا بِالْهَزْلِ، وَلَا يَعِدُ الرَّجُلُ صَبِيَّهُ، ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارَ، وَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِن الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجنَّةِ، وَإِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَرَ، أَلَا وَإِنَّ الْعَبْدَ يَكْذِبُ حَتَى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَدنِيُّ أَبو عُبَيْدٍ) المدنيّ التَّبَّان -بفتح المثنّاة، وتشديد الموحّدة- التيميّ مولاهم، يقال: مولى ابن جُدْعان، صدوقٌ يُخطئ [10].

(1) انظر تفاصيل هذه الأسباب في كتاب "حقيقة البدعة وأحكامها" تأليف سعيد بن ناصر الغامديّ 1/ 173 - 183.

ص: 48

رَوَى عن أبيه، وعيسى بن يونس، والداروردي، ومسكين بن بكير، ومحمد بن سلمة الْحَرّانيّ، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ، وأبو إسماعيل الترمذي، وغيرهم.

قال أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ. وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ ثلاثة عشر حديثًا. انتهى. وروى عنه المصنّف في هذا الكتاب (6) أحاديث فقط برقم 45 و102 و698 و1351 و1486 و2595.

2 -

(أَبوه) عُبيد بن ميمون القرشيّ التيميّ مولاهم، أبو عبّاد المدنيّ المقرىء، مولى هارون بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ، مستورٌ [7].

رَوَى عن محمد بن جعفر بن أبي كثير، ومحمد بن هلال، ونافع بن أبي نعيم القاريء، ورَوَى عنه ابنه محمد، وإبراهيم بن محمد بن إسحاق المدني، قال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يروي المقاطيع، قال: مات سنة أربع ومائتين. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم 45 و 1351.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) الأنصاريّ الزُّرَقيّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقة [7].

روى عن زيد بن أسلم، وحميد الطويل، وإبراهيم، وموسى ابني عقبة، وهشام ابن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعمرو بن أبي عمرو، وجماعة.

وروى عنه عبد الله بن نافع الصائغ، وزياد بن يونس، وسعيد بن أبي مريم، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وعبيد بن ميمون، وجماعة.

قال الدوري عن ابن معين: ثقة. وقال ابن المديني: معروف. وقال النسائي: صالح، وقال أيضًا: مستقيم الحديث. وقال العجلي: مدني ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم 45 و1351.

ص: 49

4 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش -بتحتانيّة ومعجمة- الأسديّ مولى آل الزبير، ويقال: مولى أم خالد بنمت سعيد بن العاص، زوج الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي [5].

أدرك ابن عمر وغيره، ورَوَى عن أم خالد، ولها صحبة، وجدّه لأمه أبي حَبِيبة مولى الزبير، وحمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر، وسالم أبي الغيث، والأعرج، ونافع بن جبير بن مُطعم، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ونافع مولى ابن عمر، وكريب، وعكرمة، وغيرهم.

ورَوى عنه ابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وبكير بن الأشجّ، وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر، ووهيب بن خالد، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وابن جريج، والداروردي، وجماعة.

قال ابن سعد: كان ثقة ثبتا كثير الحديث. وقال في موضع آخر: كان ثقة قليل الحديث. وقال إبراهيم بن المنذر عن مَعْن بن عيسى: كان مالك يقول: عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة. وفي رواية أخرى عنه: عليكم بمغازي الرجل الصالح، موسى بن عقبة، فإنها أصح المغازي. وفي رواية: فإنه رجل ثقة، طلبها على كِبَر السن، ولم يُكَثِّر كما كَثَّر غيره. وفي رواية: من كان في كتاب موسى قد شَهِد بدرًا فقد شهدها، ومن لم يكن فيه فلم يشهدها.

وقال إبراهيم بن المنذر أيضًا عن محمد بن طلحة بن الطويل قال: ولم يكن بالمدينة أعلم بالمغازي منه، قال: كان شُرَحبيل أبو سَعْد عالما بالمغازي، فاتهموه أنه يُدخِل فيهم من لم يَشهَد بدرًا، وفيمن قُتل يوم أحد من لم يكن منهم، وكان قد احتاج فسقط عند الناس، فسَمِع بذلك موسى بن عقبة، فقال: وإن الناس قد اجترؤوا على هذا، فَدَبّ على كِبَر السنّ، وقَيَّد من شهد بدرًا، وأُحُدًا، ومن هاجر إلى الحبشة والمدينة، وكَتَب ذلك. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: كان ابن معين يقول: كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وكذا قال الدُّوري

ص: 50

وغير واحد عن ابن معين. وكذا قال العجلي والنسائي.

وقال المفضل الغَلّابي عن ابن معين: ثقة، كانوا يقولون في روايته عن نافع شيء. قال: وسمعت ابن معين يضعفه بعض شيء. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ليس موسى بن عقبة في نافع مثل مالك، وعبيد الله بن عمر. وقال الواقدي: كان لإبراهيم وموسى ومحمد بني عقبة حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا كلهم فقهاء ومحدثين، وكان موسى يُفتي. وقال مصعب الزبيري: كان لهم هيئة وعلم. وقال الدوري عن ابن معين: أقدمهم محمد، ثم إبراهيم، ثم موسى، وكان موسى أكثرهم حديثًا. وقال أبو حاتم: ثقة صالح. وروى ابن أبي خيثمة عن موسى أنه قال: لم أُدرك أحدا يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا أم خالد. قال: وقال مَخْلَد بن الحسين: سمعت موسى بن عقبة، وقيل له: رأيت أحدًا من الصحابة؟ قال: حججت وابن عمر بمكة، عام حج نَجْدَة الْحَرُوريّ، ورأيت سهل بن سعد متخطيًا عليّ، فتوكأ على المنبر فسارّ الإمامَ بشيء. وقال إبراهيم بن طهمان: ثنا موسى بن عقبة، وكان من الثقات. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة إحدى، وقيل: سنة خمس. وقال عمرو ابن عليّ عن يحيى القطان: مات قبل أن نَدْخُل المدينة بسنة، سنةَ إحدى وأربعين ومائة، وفيها أرخه جماعة. وقال نوح بن حبيب: مات سنة اثنتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

5 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عبيد ويقال: علي، ويقال: ابن أبي شَعِيرة الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ -بفتح المهملة، وكسر الموحّدة- والسَّبِيع من هَمْدَان، ثقة عابدٌ مكثرٌ، اختلط بآخره، ويدلّس [3].

وُلِد لسنتين من خلافة عثمان، قاله شريك عنه. رَوَى عن علي بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة، وقد رآهما، وقيل: لم يسمع منهما، وعن سليمان بن صُرَد، وزيد بن أرقم، والبراء ابن عازب، وجابر بن سَمُرة، وحارثة بن وهب الْخُزاعيّ، وحُبَيش بن جُنَادة، وذي الْجَوْشن، وعبد الله بن يزيد الْخَطْمي، وغيرهم.

ص: 51

ورَوَى عنه ابنه يونس، وابن ابنه إسرائيل بن يونس، وابن ابنه الآخر يوسف بن إسحاق، وقتادة، وسليمان التيمي، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وفِطْر بن خليفه، وجرير بن حازم، ومحمد بن عجلان، وشعبة، ومسعر، والثوري، وهو أثبت الناس فيه، وزهير بن معاوية، وزائدة بن قُدامة، وزكرياء بن أبي زائدة، وجماعة.

قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: أيما أحب إليك أبو إسحاق أو السُّدّي؟ فقال: أبو إسحاق ثقة، ولكن هؤلاء الذين حملوا عنه بأَخَرة. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال ابن المديني: أحصينا مشيخته نحوا من ثلاثمائة شيخ، وقال مرة: أربعمائة. وقد روى عن سبعين أو ثمانين لم يرو عنهم غيره. وقال العجليّ: كوفي تابعيّ ثقة، والشعبي أكبر منه بسنتين، ولم يسمع أبو إسحاق من علقمة، ولم يسمع من حارث الأعور إلا أربعة أحاديث، والباقي كتاب. وقال أبو حاتم: ثقة، وهو أحفظ من أبي إسحاق الشيباني، وشِبْهُ الزهريِّ في كثرة الرواية، واتساعه في الرجال. وقال له رجل: إن شعبة يقول: إنك لم تسمع من علقمة، قال: صدق.

وقال أبو داود الطيالسيّ: قال رجل لشعبة: سمع أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: ما كان يصنع بمجاهد؟ كان هو أحسن حديثا من مجاهد، ومن الحسن، وابن سيرين. وعن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله إذا رأوا أبا إسحاق قالوا: هذا عمرو القارىء. وقال له عون بن عبد الله: ما بَقِي منك؟ قال: أصلي البقرة في ركعة، قال ذهب شَرُّك، وبقي خيرك. وعن أبي بكر بن عياش قال: قال أبو إسحاق: ذهبت الصلاة مني، وضَعُفتُ، فما أُصلِّي إلا بالبقرة وآل عمران. وقال العلاء بن سالم: كان الأعمش يتعجب من حفظ أبي إسحاق لرجاله الذين يروي عنهم. وقال حفص بن غياث عن الأعمش: كنت إذا خَلَوتُ بأبي إسحاق جئنا بحديث عبد الله غَضًّا. وقال ابن حبان في "كتاب الثقات": كان أبو إسحاق مُدَلِّسًا. وكذا ذكره في المدلسين حسين الكرابيسي، وأبو جعفر الطبري. وقال ابن المديني في "العلل": قال شعبة: سمعت أبا إسحاق يُحدِّث عن الحارث بن الأَزْمع بحديث، فقلت له: سمعت منه؟ فقال: حدثني

ص: 52

به مجُالد عن الشعبي عنه.

قال شعبة: وكان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت، له: هذا أكبر منك؟ فإن قال: نعم علمت أنه لَقِي، وإن قال: أنا أكبر منه تركته. وقال أبو إسحاق الجوزجاني: كان قوم من أهل الكوفة لا تُحمَد مذاهبهم -يعني التشيع- هم رؤوس محدثي الكوفة، مثل أبي إسحاق، والأعمش، ومنصور، وزُبيد، وغيرهم من أقرانه، احتملهم الناس على صدق ألسنتهم في الحديث، ووُقِّفُوا عندما أرسلوا لمّا خافوا أن لا تكون مخارجها صحيحة، فأما أبو إسحاق فروى عن قوم لا يُعرَفون، ولم ينتشر عنهم عند أهل العلم إلا ما حَكَى أبو إسحاق عنهم، فإذا رَوَى تلك الأشياء عنهم كان التوقيف في ذلك عندي الصواب. وحدثنا إسحاق، ثنا جرير، عن مَعْن قال: أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق -يعني للتدليس-.

قال يحيى بن معين: سمع منه ابن عيينة بعدما تغير. قال الحافظ: ووجدت في "التاريخ المظفري" أن يوسف بن عمر لمّا وَلِي الكوفة، أخرج بنو أبي إسحاق أبا إسحاق على بِرْذَون ليأخذ صِلَةَ يوسف، فأُخِذَت، وهو راكب، فرجعوا به، ومات يوم دخول الضحاك الخارجي الكوفة. وقال ابن حبّان في "الثقات": وُلد أبو إسحاق، سنة (29)، ويقال: سنة (32). وقال أبو بكر بن عياش: مات أبو إسحاق، وهو ابن مائة سنة أو نحوها.

وقال الحميدي عن سفيان: مات سنة ست وعشرين ومائة. وقال أحمد عن يحيى ابن سعيد: مات سنة سبع، وكذا قال غير واحد. وقال أبو نعيم: مات سنة (8). وقال عمرو بن علي: مات سنة (29). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: مات وهو ابن (96). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (106) أحاديث.

6 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلَة -بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة- الْجُشَميّ -بضم الجيم، وفتح المعجمة- من بني جُشم بن معاوية بن بَكْر بن هَوَازن، الكوفيّ، مشهورٌ بكنيته، ثقة [3].

رَوَى عن أبيه، وله صحبةٌ، وعن علي، وقيل: إنه لم يسمع منه، وابن مسعود،

ص: 53

وأبي مسعود الأنصاري، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعروة بن المغيرة بن شعبة، ومسروق بن الأجدع، ومسلم بن يزيد، وغيرهم. ورَوَى عنه بن أخيه أبو الزَّعْرَاء الجُشَميّ، وأبو إسحاق السبيعي، ومالك بن الحارث السُّلَميّ، وعبد الله بن مُرّة، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قتلته الخوارج أيام الحجاج بن يوسف. وقال ابن سعد: روى عن حُذيفة، وزيد ابن صُوحان، قال: وكان ثقة، له أحاديث. أنا عفان، أنا حماد بن زيد، أنا عاصم قال: كنا نأتي أبا عبد الرحمن السُّلَميَّ، فكان يقول لنا: لا تجالسوا الْقُصّاص غير أبي الأحوص. وقال النسائي في "الكنى": كوفي ثقة. أخبرنا أحمد بن سليمان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو بكر بن عياش، سمعت أبا إسحاق يقول: خرج أبو الأحوص إلى الخوارج، فقاتلهم فقتلوه. وذكر الخطيب في "تاريخه" أنه شهد مع علي قتال الخوارج بالنَّهْروان.

قال الحافظ: فإن ثبت ذلك فلا يُدفَع سماعه منه، انتهى (1).

أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

7 -

(عَبْدُ اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ) الصحابي الشهير رضي الله عنه تقدّم في 2/ 19، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ) قال العلامة السنديّ رحمه الله تعالى: ضمير "هما" مبهمٌ مفسَّر بالكلام والهدي: أي إنما الكتاب والسنة اللذان وقع التكليف بهما اثنتان، لا ثالث معهما حتى يَثقُل عليكم الأمر، ويتفرّقَ، وفائدةُ الإخبار نفي أن يكون معهما ثالثٌ لما ذكرنا. ويحتمل أن يكون المقصود النهي عن ضمّ المحدثات إليهما، كأنه قيل: المقصود بقاؤهما اثنتين ويحتمل أن يكون

(1)"تهذيب التهذيب" 3/ 337.

ص: 54

ضمير "هما" لما وقع به التكليف مع قطع النظر عن العدد، وإنما ثُنّي نظرًا إلى كون ذلك في الواقع اثنتين، فحصلت الفائدة في الإخبار باسم العدد، وهذا مثل ما قالوا في قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} الآية [النساء: 176]. ويحتمل أن يقال: "اثنتان" تمهيد لما هو الخبر، والخبر في الواقع ما هو المبدل من "اثنتان"، وهما الكلام والهدي، وعلى الوجوه تأنيث "اثنتان" نظرًا إلى أنهما حُجّتان. انتهى كلام السنديّ (1).

(الْكَلَامُ) بالرفع على البدليّة، أو على خبر لمحذف: أي أحدهما الكلام والهدي، ويحتمل النصب على أنه مفعول لفعل مقدّر: أي أعني الكلامَ وَالْهَدْيَ.

(فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ) الفاء فصيحيّة: أي إذا عرفت أن الأمر لا يتعديّ اثنتين، وأردت تفصيلهما فأقول لك: أحسن الكلام كلام الله سبحانه وتعالى، وهو معنى قوله عز وجل:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية [الزمر: 23](وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم، وقد سبق قريبًا أن "الهدي" ضُبط بوجهين: بفتح، فسكون آخره ياء، أو بضم، ففتح مقصورًا، و (أَلا) أداة استفتاح، وتنبيه على تأكيد مضمون الكلام عند المتكلّم (2) (وَإِيَّاكُم وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف: أي الأمور المحدثة (فَإِنَّ) الفاء للتعليل: أي لأن (شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا) هو بتقدير "من" التبعيضيّة: أي إنها من شرّ الأمور، وإلا فإن بعض الأمور مثلُ الشرك شرّ من كثير من المحدثات (وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) تقدم شرح هاتين الجملتين (أَلا لا) ناهية (يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ) أي الأجل، أي لا يُلقِيَنَّ الشيطان في قلوبكم طول البقاء، فتقسو قلوبكم. وفي بعض النسخ "الأمل"، وطوله تابع لطول الأجل، وفي طولهما، ونسيان الموت تأثير يتبع في قسوة القلوب. وقوله:(فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ) بالنصب على أنه جواب النهي، كما قال في "الخلاصة":

(1)"شرح السنديّ" 1/ 34 - 35.

(2)

انظر "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل" في باب "إن" 1/ 191.

ص: 55

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْي أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

(أَلَا إِنَّ مَا) بكسر همزة "إنّ"؛ لوقوعها بعد "ألا" الاستفتاحيّة التي تدخل على الجملة المستأنفة، كما قوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13]، و"ما" موصولة مبتدأٌ: أي إن الذي (هُوَ آتٍ قَرِيبٌ) هذا فيه تعليم، وإرشاد لما ينتفع به طويل الأمد (وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ مَا لَيْسَ بِآتٍ) أي إن الأمر الذي لا يأتي هو البعيد (أَلا إِنَّمَا الشَّقِيُّ) -بفتح، فكسر- فعيلٌ بمعنى فاعل، من شَقي يَشقَى من باب رَضِي شَقَا بالفتح: ضدّ سَعِدَ، والاسم الشِّقْوة بالكسر، والشَّقَاوة بالفتح (مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ) أي من كُتب عليه أنه شقيّ حينما كان حملًا في بطن أمه، يعني أن الشقيّ الكامل هو شقيّ الآخرة، وهو من كُتب عليه الشقاء، قبل أن يولد، وأما الشقاء الدنْيويّ فأمره هيّنٌ، وهو بمعنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآخر المتّفق عليه الآتي للمصنّف برقم (76) قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق قال: "إن أحدكم يُجمَع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيُؤمَر بأربع: برزقه، وأجله، وشقي أو سعيد

" الحديث. وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه -إن شاء الله تعالى-.

وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "ألا إنما الشقيّ الخ" أي فعليكم بالتفكّر في ذلك، والبكاء له، وكيف القسوة والضحك مع سبق التقدير في النهاية. والمعنى أن ما قدّر الله تعالى عليه في أصل خلقته أن يكون شقيّا فهو الشقيّ في الحقيقة، لا من عَرَضَ له الشقاء بعد ذلك، وهو إشارة على شقاء الآخرة، لا شقاء الدنيا. انتهى (1).

(وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ) ببناء الفعل للمفعول: أي من وفّقه الله تعالى للاتّعاظ فرأى ما جرى على غيره بسبب المعاصي من العقاب، فتركه خوفًا من أن يناله مثل ما نال غيره.

(أَلَا إِنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ) قيل: أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمِدًا على ما تقرّر من القواعد أن مثل ذلك لا يُخرج عن الملَّة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله

(1)"شرح السنديّ" 1/ 35.

ص: 56

تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، وقيل: أطلق عليه الكفر؛ لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر. وقيل: المراد الكفر اللغويّ، وهو التغطية؛ لأن حقّ المسلم على المسلم أن يُعينه وينصره، ويكفّ عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطّى على هذا الحقّ. وسيأتي تمام البحث فيه عند شرح حديث رقم (68) -إن شاء الله تعالى-.

(وَسِبَابُه فُسُوقٌ) يحتمل أن يكون بنصب "سبابه" عطفًا على اسم "إن"، وفسوق عطف على خبرها، ورفع الأول أيضًا عطفا على محلّ اسم "إن"، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبرًا، وإلى ما ذُكر أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى

مَنْصُوبِ "إنَّ" بَعْدَ أَنْ تَسْتكْمِلَا

و"السباب" -بكسر السين المهملة، وتخفيف الموحّدة-: وهو السبّ، وقيل: السباب أشدّ من السبّ، إذ هو أن يقول في الرجل ما فيه، وما ليس فيه، يريد بذلك عيبه.

و"الفسوق" -بالضمّ- في اللغة الخروج، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو في عرف الشرع أشدّ من العصيان، قال الله عز وجل:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الآية [الحجرات: 7].

(وَلَا يَحِلُّ) بكسر الحاء المهملة، من باب ضرب (لمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ) بضم الجيم، من باب نصر (أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ): أي فوق ثلاث ليال، وظاهره إباحة ذلك في الثلاث، وهو من الرفق؛ لأن الآدميّ في طبعه الغضب، وسوء الخلق، ونحو ذلك، والغالب أن يزول، أو يَقِلَّ في الثلاث.

قال النووي: قال العلماء: تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنص، وتُباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عُفِي عنه في ذلك؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر؛ ليرجع ويزول ذلك العارض.

وقال أبو العباس القرطبي: المعتبر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار

ص: 57

أُلغي البعض، وتُعتبر ليلة ذلك اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة.

قال الحافظ: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، فقد أخرج البخاريّ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ:"ولا يحلُ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"، فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أُطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مُضِيُّ ثلاثة أيام بلياليها، مُلَفّقةً إذا ابتدئت مثلًا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء. ويَحتَمِل أن يُلغَى الكسرُ، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة، والأول أحوط.

(أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ) -بفتح الكاف، وكسر الذال المعجمة، مصدر كَذَبَ يكذِبُ من باب ضرب، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وسكون الذال (1)، وهو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء فيه العمدُ والخطأُ، ولا واسطة بين الصدق والكَذِب على مذهب أهل السنّة، والإثم يَتْبَع العمد. قاله الفيّوميّ.

(فَإِنَّ الْكَذِبَ) الفاء للتعليل: أي لأن الكذب (لَا يَصْلُحُ) بضم اللام، من بابي نصر وكرُم، ويجوز فتحها، من باب فتح: أي لا يحلّ، أو لا يوافق شأن المؤمن (بِالْجِدِّ) أي بطريق الجدّ وهو -بكسر الجيم- اسم من جَدَّ في كلامه جَدّا بالفتح، من باب ضَرَب: ضدّ هَزَلَ (2)(وَلَا بِالْهَزْلِ) بفتح، فسكون، مصدر هزل في كلامه، من باب

(1) قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا اقتصر في "المصباح" على هذا الوجه، والصواب أنه يجوز تخفيفه أيضًا بسكون الذال مع فتح الكاف؛ لأن القاعدة أن كلّ جاء على وزن فَعِل بفتح، فكسر يجوز فيه ثلاثة أوجه: فَعلٌ بفتح، فسكون، وهو الأصل، وفَعْل بفتح فسكون العين للتخفيف، وفِعْلٌ بكسر الفاء بنقل حركة العين إليها، وهذا فيما إذا لم يكن الوسط حرف حلق، وإلا زاد رابعًا، وهو إتباع الفاء لحركة العين، وذلك كفخذ، وليست هذه القاعدة خاصّة بالاسم، بل الفعل كذلك، كشهد، وعَلِم.

راجع شروح "شافية ابن الحاجب" في مبحث الأوزان. والله تعالى أعلم.

(2)

راجع "المصباح" 1/ 92.

ص: 58

ضرب: إذا مَزَحَ، يعني أن الكذب لا يجوز في حال الجدّ ولا في حال الهزل، إلا فيما استثناه الشارع، وسيأتي بيانها في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.

(وَلَا يَعِدُ) بكسر العين المهملة مضارع وَعَدَ، ثم يحتمل أن تكون "لا" نافيةً، والفعل بعدها مرفوع، والمراد من النفي النهي، ويحتمل أن تكون ناهيةً، والفعل بعدها مجزم كُسِر للالتقاء الساكنين، وقوله:(الرَّجُلُ) مرفوع على الفاعليّة، وقوله:(صَبِيَّهُ) -أي ولده الصغير- منصوب على المفعولية. وقوله: (ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ) مرفوعٌ عطفًا على "لا يَعِدُ"، أو على الاستئناف، ويحتمل نصبه إجراء لـ"ثُمَّ" مجُرى الواو كما هو مذهب الكوفيين، فهو منصوب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد العاطف الواقع في جواب النفي المحض، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "فَا" جَوَابِ نَفْي أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

والمعنى أنه لا يجوز للرجل أن يَعِدَ الصغيرَ بأن يفعل له شيئًا، ثم لا يفي له بذلك، كأن تقول الأمّ، أو الأب لولدهما الصغير إذا بكا: سأذهب الآن إلى السوق، وأشتري لك الحلواء، ولا يفي بذلك، هذا هو المفهوم من الحديث.

(وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي) بفتح أوله، من الهداية، وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب (إِلَى الْفُجُورِ) بالضمّ مصدر فَجَر يفجُر من باب قعد، يقال: فجر العبد فُجُورًا: إذا فسق، وزنى، وفَجَر الحالف فُجوارًا: إذا كذب. قاله الفيّوميّ (1).

وقال الراغب الأصفهانيّ: أصل الفجر: الشقّ، فالفجور شَقُّ سَتْر الديانة، ويُطلق على الميل إلى الفساد، وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشرّ. انتهى بتصرّف (2).

وقال السنديّ: قيل: لعلّ الكذب بخاصيّته يُفضي بالإنسان إلى القبائح،

(1)"المصباح المنير" 2/ 462.

(2)

"مفردات ألفاظ القرآن" ص 626.

ص: 59

والصدق بخلافه. ويحتمل أن يكون المراد بالفجور هو نفس ذلك الكذب، وكذلك البرّ نفس ذلك الصدق، والهداية إليه باعتبار الغايرة الاعتباريّة في المفهوم والعنوان، كما يقال: العلم يؤدّي إلى الكمال، وإليه يشير آخر الحديث. انتهى (1)(وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ) أي يوصل إليها، ومصداق هذا في كتاب الله تعالى قوله عز وجل:{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14].

(وَإِنَّ الصِّدْقَ) -بكسر، فسكون-: خلاف الكذب. قال الراغب الأصفهانيّ: الصدق والكذب أصلهما في القول، ماضيا كان أو مستقبلًا، وعدًا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، ولا يكونان في القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، وقد يكونان بالْعَرَض في غيره من أنواع الكلام، كالاستفهام، والأمر، والدعاء، وذلك نحو قول القائل: أزيد في الدار؟ فإن في ضمنه إخبارًا بكونه جاهلًا بحال زيد، وكذا إذا قال: واسني في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، وإذا قال: لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه. والصدق: مطابقة القول الضميرَ والمُخْبَرَ عنه معًا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا، بل إما أن لا يوصف بالصدق، وإما أن يوصف تارة بالصدق، وتارة بالكذب على نظرين مختلفين، كقول الكافر: من غير اعتقاد: محمد رسول الله، فإن هذا يصحّ أن يقال: صدقٌ لكون المُخْبَر عنه كذلك، ويصحّ أن يقال: كَذِبٌ لمخالفة قوله ضميره، وبالوجه الثاني إكذابُ الله تعالى المنافقين حيث قالوا:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الآية [المنافقون: 1].

والصِّديق من كَثُر منه الصدق. وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قطّ لتعوّده الصدق. وقيل: لمن لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصدق. وقيل: بل لمن صَدَقَ بقوله واعتقاده، وحَقَّقَ صدقه بفعله.

(1)"شرح السنديّ" 1/ 36.

ص: 60

وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يَحِقُّ ويَحْصُل في الاعتقاد، نحو صَدَقَ ظَنِّي، ويُستعملان في أفعال الجوارج، فيقال: صَدَقَ في القتال إذا وفّى حقّه، وفعلَ ما يجب كما يجبُ، وكَذَبَ في القتال إذا كان بخلاف ذلك، قال الله عز وجل:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية [الأحزاب: 23]: أي حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وقال عز وجل:{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الآية [الأحزاب: 8]: أي يسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله تنبيهًا أنه لا يكفي الاعتراف بالحقّ دون تحرّيه بالفعل، وقال عز وجل:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الآية [الفتح: 27]: فهذا صدق بالفعل، وهو التحقيق: أي حقَّقَ رؤيته، وعلى ذلك قوله عز وجل:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]: أي حقّق ما أورده قولًا بما تحرّاه فعلًا.

ويُعبّر عن كلّ فعل فاضل ظاهرًا وباطنًا بالصدق، فيُضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به، نحو قوله عز وجل:{في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، وعلى هذا قوله عز وجل:{أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية [يونس: 2]، وقوله عز وجل:{أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية [الإسراء: 80]، وقوله عز وجل:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ في الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]، فإن ذلك سؤال أن يجعله الله تعالى صالحًا، بحيث إذا أثنى عليه مَنْ بَعدَهُ لم يكن ذلك الثناء كذبًا، بل يكون كما قال الشاعر [من الطويل]:

إِذَا نَحْنُ أثنَيْنَا عَلَيْكَ بِصَالِح

فَأَنْتَ الَّذِي نُثْنِي وَفَوْقَ الَّذِي نُثْنِي

انتهى المقصود من كلام الراغب (1).

(يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ) -بكسر الموحّدة-: أصله التوسّع في فعل الخير، وهو اسم جامعٌ للخيرات كلّها، ويُطلق على العمل الخالص الدائم (2). وقيل: هو العمل الصالح

(1)"مفردات ألفاظ القرآن" ص 478 - 479.

(2)

"فتح" 10/ 524.

ص: 61

الخالص من كلّ مذموم. قال ابن العربيّ: إذا تحرّى الصدق لم يَعص الله، لأنه إن أراد أن يفعل شيئًا من المعاصي خاف أن يقال: أفعلت كذا؟، فإن سكت لم يَأمن الريبة، وإن قال: لا كَذَب، وإن قال: نعم فسق، وسقطت منزلته، وانتُهكت حرمته. انتهى (1).

(وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ) مصداقه في كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13](وَإِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الشأن والحال (يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ) أي إذا كان صدق العبد في قوله، وفعله، وُصف بالصدق والبِرّ الذين هما من أشرف الخصال، وأكمل الخِلال، ونعم الوصف وصفه (وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَرَ) أي إنه يوصف بما هو من أسوء الأحوال، وأقبح الفعال، وهما الكذب والفجور، وبئس الوصف وصفه (أَلا وَإِنَّ الْعَبْدَ يَكْذِبُ) وفي رواية الشيخين:"وإن الرجل ليكذب"، وفي رواية مسلم:"وما يزال الرجل يكذب، ويتحرّى الكذب". والمراد أنه يتكرّر منه الكذب حتى يستحقّ اسم المبالغة في الكذب، وكذا يقال في الصدق. (حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) زاد في رواية "الصحيح" قبل جملة الكذب:"وإن الرجل ليصدُق، ويتحرّى الصدق، حتى يُكتب عند الله صِدِّيقا".

قال القرطبيّ: معنى "يتحرّى الصدق" يقصد إليه، ويتوخّاه، ويجتنب نقيضه الذي هو الكذب حتى يكون الصدق غالب حاله، فيكتب من جملة الصدِّيقين، ويُثبتُ في ديوانهم، وكذلك القول في الكذب، وأصل الكتب: الضمّ والجمع، ومنه كَتَبْتُ البغلةَ إذا جمعت بين شفريها (2) بحلقة. انتهى (3).

وقال في "الفتح": المراد بالكتابة الحكم عليه بذلك، وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى، وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغًا عن ابن

(1) راجع "شرح السنديّ" على ابن ماجه 1/ 36.

(2)

أي جانب فرجها، وهو بالضمّ جمعه أشفار، كقُفْل وأقفال.

(3)

"المفهم" 6/ 592.

ص: 62

مسعود رضي الله عنه، وزاد فيه زيادة مفيدة، ولفظه:"لا يزال العبد يَكذِب، ويتحرى الكذب، فيُنْكَتُ في قلبه نُكْتَةٌ سوداءُ، حتى يَسْوَدَّ قلبه، فيكتب عند الله من الكاذبين".

قال النووي: قال العلماء: في هذا الحديث حَثّ على تحري الصدق، وهو قصدُهُ، والاعتناءُ به، وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كَثُرَ منه، فَيُعرَف به.

قال الحافظ: والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص، عن منصور عند مسلم، ولفظه:"وإن العبد لَيَتَحَرَّى الصدق"، وكذا قال في الكذب، وعنده أيضا في رواية الأعمش، عن شقيق، وهو أبو وائل، وأوله عنده:"عليكم بالصدق"، وفيه:"وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق"، وقال فيه: "ما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب

"، فذكره.

قال: وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من تَوَقَّى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق، صار له الصدق سَجِيّةً حتى يَستحقَّ الوصف به، وكذلك عكسه، وليس المراد أن الحمد والذمّ فيهما يختص بمن يقصد إليهما فقط، وإن كان الصادق في الأصل ممدوحًا، والكاذب مذمومًا.

ثم قال النووي: واعلَم أن الموجود في نسخ البخاري ومسلم في بلادنا وغيرها، أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه، قاله القاضي عياض، وكذا نقله الحميدي، ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن المثنى وابن بشار زيادة، وهي: إن شر الرَّوَايا رَوَايا الكذب؛ لأن الكذب لا يصلح منه جِدّ ولا هزل، ولا يَعِدُ الرجل صبيه، ثم يُخلِفه".

فذكر أبو مسعود أن مسلما رَوَى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضا أبو بكر الْبَرْقاني في هذا الحديث، قال الحميدي: وليست عندنا في كتاب مسلم.

والرَّوَايا جمع رَوِيّة بالتشديد، وهو ما يَتَرَوَّى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله، وقيل: هو جمع رَاوية أي للكذب، والهاء للمبالغة (1).

(1) وقال القرطبيّ: الروايا: جمع راوية -يعني به حامل الكذب، وراويَهُ، والهاء فيه =

ص: 63

قال الحافظ: لم أر شيئًا من هذا في "الأطراف" لأبي مسعود، ولا في "الجمع بين الصحيحين" للحميدي، فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين. انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا بهذا الإسناد ضعيف، قال الحافظ البوصيريّ رحمه الله تعالى: هذا إسناد ضعيفٌ، عُبيد بن ميمون أبو عبّاد قال فيه أبو حاتم: مجهول انتهى. وقد سبق هذا في ترجمته، لكن الحديث صحيح من رواية شعبة ومعمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بغير هذا اللفظ، فقد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

3701 -

حدثنا عفان، حدثنا شعبة، قال: أبو إسحاق أخبرنا، عن أبي الأحوص، قال: كان عبد الله يقول: "إن الكذب لا يصلح منه جِدٌّ ولا هزل، وقال عفان مرةً: "جِدٌّ، ولا يَعِدُ الرجل صبيا، ثم لا ينجز له، قال:"وإن محمدا قال لنا: "لا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".

وهذا إسناد صحيح، لكن جعل أوله موقوفًا.

وأخرجه الدارميّ في "مسنده" من طريق إدريس الأوديّ، فرفعه كله، ولفظه:

2599 -

أخبرنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن إدريس الأوديّ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، أن عبد الله يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن شر الرَّوَايا

= للمبالغة، كعلّامة، ونسّابة، أو يكون استعارةً، شبّه حامل الكتاب لحمله إياه بالراوية الحاملة للماء. انتهى "المفهم" 6/ 593.

(1)

"فتح" 10/ 524 - 525.

ص: 64

رَوَايا الكذب، ولا يصلح من الكذب جِدّ ولا هزل، ولا يَعِدُ الرجل ابنه ثم لا ينجز له، إن الصدق يَهدِي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإنه يقال للصادق: صَدَقَ وبَرَّ، ويقال للكاذب: كَذَب وفَجَرَ، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتَب عند الله صديقًا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"، وإنه قال لنا: "هل أنبئكم ما الْعَضْهُ؟، وإن الْعَضْهَ هي النميمة التي تفسد بين الناس" (1).

وهذا إسناد صحيحٌ. وأخرجه أحمد مطوّلًا، فقال:

3652 -

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن عابس، قال: حدثنا رجل من همدان، من أصحاب عبد الله، وما سماه لنا، قال: لما أراد عبد الله أن يأتي المدينة جمع أصحابه، فقال: والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم فيكم من أفضل ما أصبح في أجناد المسلمين، من الدين والفقه والعلم بالقرآن، إن هذا القرآن أُنزل على حروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشدّ ما اختصما في شيء قطّ، فإذا قال القارىء هذا: أقرأني، قال: أحسنت، وإذا قال الآخر، قال: كلاكما محسن، فأقرَأنا:"إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب بهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار"، واعتبروا ذاك بقول أحدكم لصاحبه: كَذَبَ وفَجَر، وبقوله إذا صَدَقَه: صدقت وبررت، إن هذا القرآن لا يَختَلف ولا يُستَثنُّ (2) ولا يَتْفَه (3) لكثرة الرد، فمن قرأه على

(1) قال القرطبيّ: هو مصدر عضهه يعضَهه عَضْهًا: إذا رماه بكذب وبهتان، وقد رواه أكثر الشيوخ ما الْعِضَة؟ بكسر العين، وفتح الضاد، والتاء المنقلبة في الوقف هاء، وهي أصوب؛ لأن العضة اسم، والنميمة اسم، فصحّ تفسير الاسم بالاسم، والْعَضْهُ مصدرٌ، ولا يحسن تفسير المصدر بالاسم، فالرواية الثانية أولى. والذي يبيّن لك ان الْعِضَة اسم ما قاله الكسائيّ: قال: الْعِضَة الكذب والبهان، وجمعها عِضُون، مثلُ عِزة وعِزين، وقد بيّنّا أن الْعَضْهَ المصدر، فصحّ ما قلناه. انتهى "المفهم" 6/ 590.

(2)

أي لا يخلُق على كثرة الردّ.

(3)

من باب فَرِحَ: أي لا يَخْلُقُ، فهو بمعنى ما قبله.

ص: 65

حرف فلا يدعه رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي عَلَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يَدَعْه رغبةً عنه، فإنه من يَجحَد بآية منه يجحد به كُلِّه، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجَلْ، وحَيّ هلًا، والله لو أعلم رجلًا أعلم بما أُنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم مني لطلبته حتى أزداد علمه إلى علمي، إنه سيكون قوم يُميتون الصلاة، فصلّوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معقم تطوعًا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يُعارَض بالقرآن في كل رمضان، وإني عَرَضتُ في العام الذي قُبِض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن، وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة.

وهذا الإسناد فيه مجهول.

والحاصل أن الحديث لمعظمه شواهد، ولذا ذكرت فوائده، وقد قدّمت في مقدّمة هذا الشرح أنه إذا كان الحديث ضعيفًا، لا أعتني ببسط شرحه، ولا بذكر فوائده، إلا أن يكون صحيحًا بطريق آخر، أو يوجد له شواهد، كهذا الحديث، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف رحمه الله هنا (7/ 46) فقط، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 410 و 423 و 437) و (الدارميّ) في "سننه" رقم (2718). والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو اجتناب البدع.

2 -

(ومنها): مجامع الصلاح والفلاح أمران: كتاب الله عز وجل، وهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي سنته.

3 -

(ومنها): التحذير عن محدثات الأمور؛ لأنها كلّها شرّ، وأيُّ شرّ.

4 -

(ومنها): أن كلّ ما أُحدث على غير أصل من الأدلّة الشرعيّة، فإنه بدعة، وهو عين الضلالة، والهلاك والخسران.

5 -

(ومنها): أنه لا ينبغي لمسلم أن يكون طويل الأمل؛ لأنه سبب لقسوة القلوب، ويورث الغفلة، فتأتيه منيّته، وهو لاهٍ ساهٍ، فيخسر الخسران الأبديّ، أخرج

ص: 66

البخاريّ في "صحيحه" رقم (6417) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا في الوسط خارجا منه، وخَطَّ خِطَطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به"، أو "قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الْخِطَط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نَهَشَه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا". وسيأتي هذا الحديث للمصنّف في "كتاب الزهد" برقم (4221).

وأخرج برقم (6418) من حديث أنس رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا، فقال:"هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب". وسيأتي للمصنّف في "الزهد"(422) ولفظ أحمد في "مسنده"(11791) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أصابعه فوضعها على الأرض، فقال:"هذا ابن آدم"، ثم رفعها خلف ذلك قليلًا، وقال:"هذا أجله"، ثم رمى بيده أمامه قال:"وثَمَّ أمله".

5 -

(ومنها): أن ما وُعد به الإنسان آتٍ لا مَحالةَ، فلا ينبغي له التفريط في الاستعداد له.

6 -

(ومنها): أن السعيد الكامل هو الذي يعتبر بغيره، ولا ينتظر وقوع العقاب عليه، بل يرتدع عن هواه، وينكفّ عن شهواته، ويشمّر بالتوبة والاستقامة للدار الآخرة.

7 -

(ومنها): أنه قتال المؤمن من الأمور الموبقات، فيجب الحذر منه، فإن الشارع الحكيم أوجب على المؤمن أن ينصر أخاه، ويعضده، ويحترمه، ويكرمه، فإذا سلك مسلكًا معاكسا لهذا، فقد تعرّض للكفر؛ لأن هذا من أخلاق الكفرة اللئام.

8 -

(ومنها): أن سباب المؤمن فسوقٌ يُخرج عن العدالة والاستقامة؛ لأن فيه انتهاك حرمة أخيه، والاستخفاف بواجب حقّه، وهذا من أخلاق الفسقة الطَّغام.

9 -

(ومنها): أنه لا يحلّ لمسلم هجر أخيه المسلم لأمر دنيويّ فوق ثلاثة أيام، وأما الثلاثة، فيُرخّص فيها؛ لكون الإنسان مجبولًا على الغضب، فأمهل هذه المدّة حتى

ص: 67

تذهب عنه سورة الغضب، ويراجع نفسه.

10 -

(ومنها): التحذير عن الكذب، وأنه لا يجوز لا بجدّ، ولا بهزل. قال القرطبيّ: وفيه حجة للطبريّ في تحريمه الكذب مطلقًا وعمومًا.

11 -

(ومنها): أنه لا يجوز لرجل أن يَعِد صبيّه بشيء، ثم لا يفي به؛ لأنه من الكذب المحرّم، قال القرطبيّ: وفيه ما يدلّ على وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبيّ الصغير.

12 -

(ومنها): أن الكذب باب الفجور، وأن الفجور باب النار، أعاذنا الله سبحانه وتعالى منها بمنه وكرمه آمين.

13 -

(ومنها): أن الصدق باب البرّ، وأن البرّ باب الجنّة، جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهلها آمين.

14 -

(ومنها): أن الصادق يستحقّ أن يوصف بالصدق والبرّ، والكاذب يوصف بالكذب والفجور.

15 -

(ومنها): أن العبد إذا تحرّى الكذب، ولازمه كتبه الله سبحانه وتعالى من الكذابين، وبغّضه إلى خلقه أجمعين، وكذلك الصادق إذا تحرّى الصدق، ولازمه كتبه الله تعالى من الصادقين، وحببه إلى خلقه أجمعين، وهذا هو معنى الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأَحِبّه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض". هذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء -قال:- ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا، دعا جبريل فيقول: إني أُبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض". والله

ص: 68

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): فيما يُستثنى من الكذب:

قال الغزالي رحمه الله: الكذب من قبائح الذنوب، وليس حراما لعينه، بل لما فيه من الضرر، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقًا إلى المصلحة.

وتُعُقّب بأنه يلزم أن يكون الكذب إذا لم ينشأ عنه ضرر مباحًا، وليس كذلك.

ويمكن الجواب بأنه يُمنَع من ذلك حسما للمادة، فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة، فقد أخرج البيهقي في "الشعب" بسند صحيح، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال:"الكذب يُجانب الإيمان". وأخرجه عنه مرفوعًا، وقال: الصحيح موقوف. وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رفعه، قال:"يُطبَع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب". وسنده قويّ. وذكر الدارقطني في "العلل" أن الأشبه أنه موقوف، وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في "الموطإ". قال ابن التين: ظاهره يعارض حديث ابن مسعود رضي الله عنه (1)، والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: من الأحاديث التي تدلّ على استثناء بعض أنواع الكذب ما أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم، من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها -وكانت من المهاجرات الأُوَل، اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرًا، وينمي خيرًا".

قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس كذب، إلا في ثلاث: الحربِ، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.

وقد جاء من ذلك صريحًا، وهو ما أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد

(1) يعني الحديث المذكور في هذا الباب.

(2)

"فتح" 10/ 524.

ص: 69

مرفوعًا، لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحديثُ الرجل امرأته ليُرضِيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس" (1).

قال في "الفتح" عند قوله: "أو يقول خيرًا": قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما عمله من الخير، ويسكت عما عمله من الشر، ولا يكون ذلك كذبًا؛ لأن الكذب الأخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وهذا ساكت، ولا يُنسَب لساكت قول.

ولا حجة فيه لمن قال: يشترط في الكذب القصد إليه؛ لأن هذا ساكت.

وما زاده مسلم والنسائي من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه في آخره: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث"، فذكرها، وهي الحرب، وحديث الرجل لامرأته، والإصلاح بين الناس. وأورد النسائي أيضا هذه الزيادة من طريق الزبيديّ، عن ابن شهاب، وهذه الزيادة مدرجة بَيَّن ذلك مسلم في روايته من طريق يونس، عن الزهري، فذكر الحديث، قال: وقال الزهري

وكذا أخرجها النسائي مفردةً من رواية يونس، وقال: يونس أثبت في الزهري من غيره.

وجزم موسى بن هارون وغيره بادراجها.

قال: ورويناه في فوائد ابن أبي ميسرة من طريق عبد الوهاب بن رُفيع، عن ابن شهاب، فساقه بسنده مقتصرًا على الزيادة، وهو وَهَمٌ شديد.

قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة، أو ليس فيه مصلحة.

وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقًا، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض، كمن يقول للظالم: دعوت لك أمسِ، وهو يريد قوله: اللهم اغفر

(1) حديث صحيحٌ.

ص: 70

للمسلمين، ويَعِدُ امرأته بعطية شيء، ويريد إن قَدّر الله ذلك، وأن يُظهِر من نفسه قوة.

وبالأول جزم الخطابي وغيره، وبالثاني جزم المهلب والأصيلي وغيرهما.

واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل، إنما هو فيما لا يُسقط حقا عليه أو عليها، أو أخذَ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين.

واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل، وهو مختف عنده، فله أن يَنفِي كونه عنده، ويَحلِفَ على ذلك، ولا يأثم. انتهى ما في "الفتح"(1).

وقال في موضع آخر: قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص؛ رفقًا بالمسلمين لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالًا. انتهى.

قال الحافظ: ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الحجاج بن عِلَاط الذي أخرجه النسائي، وصححه الحاكم، في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء، لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأَذِنَ له النبي صلى الله عليه وسلم، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور فيه.

ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائي، من طريق مصعب بن سعد، عن أبيه، في قصة عبد الله بن أبي سَرْح، وقول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم لمّا كَفّ عن بيعته-: هلا أومأت إلينا بعينك؟ قال: "ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"؛ لأن طريق الجمع بينهما أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة، وأما حالُ المبايعة فليست بحال حرب.

قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظر؛ لأن قصة الحجاج بن عِلاط أيضًا لم تكن في

(1)"فتح" 5/ 369.

ص: 71

حال حرب، والجواب المستقيم أن نقول: المنعُ مطلقًا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتعاطى شيئًا من ذلك، وإن كان مباحًا لغيره، ولا يُعارض ذلك ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غَزوةً وَرَّى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمرًا فلا يُظهره، كأن يريد أن يغزو وجهة الشرق، فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر فيظن من يراه ويسمعه أنه يريد جهة الغرب، وأما أن يُصَرح بإرادته الغرب، وإنما مراده الشرق فلا. والله أعلم.

وقال ابن بطال رحمه الله: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث، فقال: الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض، لا التصريح بالتأمين مثلًا. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الصوابُ أن الكذب في هذه المواضع التي استثناها الشارع لا يدخل في الوعيد المذكور لمن تعمّد الكذب؛ لأن الشارع استثناها، فلا تدخل في مسمّى الكذب الشرعيّ، وإن كانت تسمّى كذبًا من حيث اللغة، فليُفهم الفرقُ بينهما. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أخرج الشيخان من حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لرجل أن يَهجُر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". زاد الطبري من طريق أخرى: "يسبِق إلى الجنة"، ولأبي داود بسند صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فإن مَرَّت به ثلاث، فلقيه فليسلم عليه، فإن رَدّ عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخَرَجَ المُسَلِّمُ من الْهِجْرَة". ولأحمد والبخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه ابن حبان من حديث هشام بن عامر:"فإنهما ناكثان عن الحقّ، ما داما على صِرَامهما، وأَوَّلُهُما فيئًا يكون سَبْقُهُ كفارةَ"، فذكر نحو حديث أبي هريرة، وزاد في آخره:"فإن ماتا على صِرَامهما، لم يدخلا الجنة جميعًا".

قال أكثر أهل العلم: تَزُول الهجرة بمجرد السلام ورَدِّه. وقال أحمد: لا يبرأ من

(1)"فتح" 6/ 192.

ص: 72

الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أَوّلًا. وقاك أيضا: تركُ الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام، وكذا قال ابن القاسم. وقال عياض: إذا اعتزل كلامه لم تُقبَل شهادته عليه عندنا، ولو سَلَّمَ عليه -يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم-. قال الحافظ: ويمكن الفرق بأن الشهادة يُتَوَّقى فيها، وتركُ المكالمة يُشعر بأن في باطنه عليه شيئًا فلا تقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع.

واستُدِلَّ للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب، عن ابن مسعود رضي الله عنه في أثناء حديث موقوف، وفيه:"ورجوعُهُ أن يأتي فيسلم عليه".

واستُدِلّ بقوله: "أخاه" على أن الحكم يَختَصُّ بالمؤمنين. وقال النووي: لا حجة في قوله: "لا يحل لمسلم" لمن يقول: الكفّار غير مخاطبين بفروع الشريعة؛ لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يَقبَل خطاب الشرع، وينتفع به، وأما التقييد بالأُخُوّة فدال على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد.

واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم، وامتنع من مكالمته، والسلام عليه أثم بذلك؛ لأن نفي الحل يستلزم التحريم، ومرتكب الحرام آثم.

قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث، إلا لمن خاف من مكالمته ما يُفسد عليه دينه، أو يُدخِل منه على نفسه أو دنياه مضرةً، فإن كان كذلك جاز، ورُبَّ هجر جميل خير من مخالطة مؤذية. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): أنه استُشكل على حديث "لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" ما صدر عن عائشة رضي الله عنها، أنها هجرت ابن الزبير رضي الله عنهما أكثر من ثلاث ليال:

وحاصل قصّتها هو ما أخرجه الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى من طريق الزهريّ، قال: حدثني عوف بن مالك بن الطُّفيل -هو ابن الحارث، وهو ابن أخي عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها أن عائشة حُدِّثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء،

ص: 73

أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأَحْجُرَنّ عليها، فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدًا، فاستشفع ابن الزبير إليها، حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أُشَفِّعُ فيه أبدًا، ولا أتحنث إلى نَذْري، فلما طال ذلك على ابن الزبير، كَلَّم المسورَ بنَ مَخْرَمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشُدُكما بالله لمّا أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذُر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما، حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة، وطَفِقَ يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته، وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عما قد علمتِ من الهجرة، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج، طَفِقت تُذَكِّرهما نذرها وتبكي، وتقول: إني نذرت، والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كَلَّمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تَذكُر نذرها بعد ذلك، فتبكي حتى تَبَلَّ دموعها خمارها.

قال في "الفتح": قد استُشكل على هذا ما صدر من عائشة رضي الله عنها في حق ابن الزبير رضي الله عنهم.

قال ابن التين إنما ينعقد النذر إذا كان في طاعة، كَلِلَّه عليَّ أن أعتق، أو أن أصلي، وأما إذا كان في حرام أو مكروه أو مباح فلا نذر، وتركُ الكلام يفضي إلى التهاجر، وهو حرام أو مكروه.

وأجاب الطبري بأن المحرَّم إنما هو ترك السلام فقط، وأن الذي صدر من عائشة رضي الله عنها ليس فيه أنها امتنعت من السلام على ابن الزبير، ولا من رَدّ السلام عليه لمّا بدأها بالسلام، وأطال في تقرير ذلك، وجعله نظير من كانا في بلدين لا يجتمعان، ولا يكلم أحدهما الآخر، وليسا مع ذلك متهاجرين، قال: وكانت عائشة لا تأذن لأحد من

ص: 74

الرجال أن يدخل عليها إلا بإذن، ومن دخل كان بينه وبينها حجاب، إلا إن كان ذا محرم منها، ومع ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها، فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها.

قال الحافظ: كذا قال، ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه، لا فائدة للإطالة بها، والصواب ما أجاب به غيره أن عائشة رضي الله عنها رأت أن ابن الزبير ارتكب بما قال أمرًا عظيمًا، وهو قوله: لأحجُرَنَّ عليها فإن فيه تنقيصا لقدرها، ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز، من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين، وخالته أخت أمه، ولم يكن أحد عندها في منزلته، فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يَستَعظِم ممن يَلُوذ به ما لا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبةً لهم، لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذةً الثلاثة؛ لعظيم منزلتهم، وازدراءً بالمنافقين؛ لحقارتهم، فعلى هذا يُحمَل ما صدر من عائشة رضي الله عنها.

وقد ذكر الخطابي أن هجر الوالد ولده، والزوج زوجته، ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث، واستَدَلّ بأنه صلى الله عليه وسلم هَجَر نساءه شهرًا، وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضًا مع علمهم بالنهي عن المهاجرة.

ولا يخفى أن هنا مقامين أعلى وأدنى فالأعلى اجتناب، الإعراض جملة، فيبذل السلام، والكلام والمواددة بكل طريق، والأدنى الاقتصار على السلام دون غيره، والوعيد الشديد إنما هو لمن يترك المقام الأدنى، وأما الأعلى فمن تركه من الأجانب فلا يلحقه اللوم، بخلاف الأقارب، فإنه يدخل فيه قطيعة الرحم. انتهى المقصود من "الفتح"، وهو تحقيق نفيسٌ (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو

(1)"فتح" 10/ 511 - 512.

ص: 75

حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمة الله في أول الكتاب قال:

46 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا إِسْماَعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ح وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إِلَى قَوْلهِ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمِ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الله، فَاحْذَرُوهُمْ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ) بن عجلان المُهَلَّبيّ مولاهم، أبو بكر الضرير البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ (1)، من صغار [10].

رَوَى عن أبيه، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وابن مهدي، وعُبيد بن واقد، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وجماعة. ورَوَى عنه ابن ماجه، وإبراهيم الحربي، وابن خزيمة، وابن بُجَير، وإسحاق بن داود الصَّوّاف، والحسن بن محمد بن شعبة، ومحمد بن نُوح بن حرب العسكري، وأبو عروبة الحرّانيّ، وأبو بكر بن أبي داود، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أغرب عن أبيه. تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب (7) أحاديث فقط برقم 47 و836 و1931 و 1976 و2031 و 2245 و 4278.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْجَحْدَرِيُّ) أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10] تقدم في 2/ 17.

(1) زاد في "التقريب": "يُغرِب"، وتعقّبه بعض المحققين، وأحسن في ذلك، فإن هذه العبارة مأخوذة من كلام ابن حبان الآتي، وعبارته ألطف، إذْ قال ربما أغرب عن أبيه، فَعَبَّرَ بربما، وقيده بأبيه، فتنبّه للفرق الكبير بين العبارتين، وأيضًا فإنه ممن انفرد به ابن ماجه، وهو لم يخرج له عن أبيه، فتفطّن، ولا تكن أسير التقليد. والله تعالى أعلم.

ص: 76

3 -

(يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ) المُقَوِّم، أبو سعيد البصريّ، ثقة حافظ [10] تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(إِسْماَعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقسَم الأسديّ أسد خُزيمة، مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، كوفيّ الأصل، المعروف بابن عليّة، وهي أمه (1)، وكان يَكره النسبة إليها، ثقة ثبت حافظ [8].

رَوَى عن عبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، وأيوب، وابن عون، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، وابن جريج، وهما من شيوخه، وبقية، وحماد بن زيد، وهما من أقرانه، وإبراهيم بن طهمان، وهو أكبر منه، وابن وهب، والشافعي، وأحمد، ويحيى، وعليّ، وإسحاق، والفلاس، وأبو معمر الهذلي، وأبو خيثمة، وابنا أبي شيبة، وعلي بن حجر، وابن نمير، وخلق، آخرهم أبو عمران موسى بن سهيل بن كثير الْوَشَّاءُ.

قال علي بن الجعد، عن شعبة: إسماعيل ابن علية ريحانة الفقهاء. وقال يونس بن بكير عنه: ابن علية سيد المحدثين. وقال ابن مهدي: ابن علية أثبت من هشيم. وقال القطان: ابن علية أثبت من وُهيب. وقال حماد بن سلمة: كنا نشبهه بيونس بن عبيد. وقال عفان: كنا عند حماد بن سلمة، فأخطأ في حديث، وكان لا يرجع إلى قول أحد، فقيل له: قد خولفت فيه، فقال: من؟ قالوا: حماد بن زيد، فلم يلتفت، فقال له إنسان: إن ابن عليّة يخالفك، فقام، فدخل، ثم خرج، فقال: القول ما قال إسماعيل. وقال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال أيضا: فاتني مالك، فأخلف الله علي سفيان، وفاتني حماد بن زيد، فأخلف الله علي إسماعيل ابن علية، وقال أيضا: كان حماد بن زيد

(1) قال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه" 1/ 66: وهي عليّة بنت حسّان، مولاة لبني شيبان، وكانت امرأة نبيلة عاقلة، وكان صالح المرّيّ، وغيره من وجوه البصرة، وفقهائها يدخلون عليها، فتبرُزُ، فتحادثهم، وتُسائلهم. انتهى.

ص: 77

لا يعبأ إذا خالفه الثقفي، ووهيب، وكان يَفْرَق من إسماعيل ابن علية إذا خالفه. وقال غندر: نشأت في الحديث يوم نشأت، وليس أحد يقدم على إسماعيل ابن علية. وقال ابن مُحْرِز عن يحيى بن معين: كان ثقة مأمونا صدوقا مسلما ورعا تقيا. وقال قتيبة: كانوا يقولون: الحفاظ أربعة: إسماعيل ابن علية، وعبد الوارث، ويزيد بن زريع، ووهيب. وقال الهيثم بن خالد: اجتمع حفاظ أهل البصرة، فقال أهل الكوفة لأهل البصرة: نَحُّوا عنا إسماعيل، وهاتوا من شئتم. وقال زياد بن أيوب: ما رأيت لابن علية كتابا قط، وكان يقال: ابن علية يَعُدُّ الحروف. وقال أبو داود السجستاني: ما أحد من المحدثين إلا قد أخطأ، إلا إسماعيل ابن علية، وبشر بن المفضل. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال ابن سعيد: كان ثقة ثبتا في الحديث حجة، وقد ولي صدقات البصرة، وولي ببغداد المظالم في آخر خلافة هارون، وعلية أمه. وقال الخطيب: زعم علي بن حُجْر أن علية جدته، أم أمه. وكان يقول: من قال: ابن علية فقد اغتابني.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (3) أو سنة (194)، وقاله في (4) أبو موسى العنزي في "تاريخه"، ونقله عنه البخاري في "تاريخه"، وخليفة، وابن أبي عاصم، وإسحاق القراب الحافظ، والكلاباذي، وغيرهم. وقال أحمد، وعمرو بن علي: وُلد سنة عشر ومائة، ومات سنة (93)، وكذا قال زياد بن أيوب، وغير واحد في تاريخ وفاته، وقال يعقوب بن شيبة: إسماعيل ثبت جدا، توفي يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة. روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب (53) حديثًا.

5 -

(عبد الوهّاب) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8] تقدّم في 2/ 17.

6 -

(أيوب) بن أبي تمية كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5] تقدّم في 2/ 17.

7 -

(عبد الله بن أبي مُليكة) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، أبو بكر، ويقال: أبو

ص: 78

محمد التيمي المكي، كان قاضيا لابن الزبير، ومؤذنا له، ثقة فقيه [3].

روى عن العبادلة الأربعة، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن السائب المخزومي، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه يحيى، وابن أخته عبد الرحمن بن أبي بكر، وعطاء بن أبي رباح، ونافع بن عمر الجمحي، وغيرهم.

قال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة. وفي "صحيح البخاري": قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال ابن سعد: ولاه ابن الزبير قضاء الطائف، وكان ثقة، كثير الحديث، وهو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله ابن أبي ملكية زهير، وكذا نسبه الزبير، وابن الكلبي، وغيرهما. وقال البخاري: يكنى أبا محمد، وله أخ يقال له: أبو بكر. وقال العجلي: مكي تابعيّ ثقة. وقال ابن حبان في "الثقات": رأى ثمانين من الصحابة. وقال البخاري وغير واحد: مات سنة سبع عشرة ومائة. وقيل: سنة (118) وكذا أرخه ابن قانع. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

8 -

(عائشة) رضي الله عنها، تقدّمت، في 2/ 14، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى أيوب، وابن أبي مليكة مكيّ، وعائشة مدنيّة.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيوخه الثلاثة، فالأولان تفرّد بهما، والثاني تفرد به هو وأبو داود، والنسائيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: أيوب عن ابن أبي مليكة.

5 -

(ومنها): أن فيه كتابةَ (ح) إشارة إلى تحويل السند إلى سند آخر، فللمصنف في هذا الحديث سندان: أحدهما محمد بن خالد، عن ابن عليّة، عن أيوب، والثاني: أحمد ابن ثابت، ويحيى بن حكيم، كلاهما عن عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب، فأيوب مُلتقَى

ص: 79

الإسنادين، وإلى هذه الحاء أشار في "ألفية المصطلح" حيث قال:

وَكَتَبُوا (ح) عِنْدَ تَكْرِيرِ سَنَدْ

فَقِيلَ مِنْ "صَحَّ" وَقِيلَ ذَا انْفَرَدْ

مِنَ "الحدِيثِ" أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ

أَوْ "حَائِلٍ" وَقَوْلهُا لَفْظًا أَسَدْ

6 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله تعالى عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، وقد تقدّم بيان المكثرين السبعة في شرح الحديث الأول من الكتاب.

7 -

(ومنها): أن من طُرَف ما يتعلق بـ "إسماعيل ابن علية" ما ذكره الخطيب البغدادي، قال: حَدّث عن إسماعيل ابن علية ابنُ جريج، وموسى بن سهل الْوَشّا، وبين وفاتيهما مائة وتسع وعشرون سنة، وقيل: سبع وعشرون، قال: وحَدّث عن ابن علية إبراهيم بن طهمان، وبين وفاته ووفاة الوشّا مائة وعشر سنين، وقيل: مائة وخمس وعشرون سنة، قال: وحدَّث عن ابن علية شعبة، وبين وفاته ووفاة الوشا مائة وثماني عشر سنة، وحَدَّث عن ابن علية عبدُ الله بن وهب، وبين وفاته ووفاة الوشّا إحدى وثمانون سنة، مات الوَشّا يوم الجمعة، أولي ذى القعدة سنة ثمان وتسعين ومائتين. ذكره النوويّ في "شرحه على صحيح مسلم"(1). والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها (قَالَتْ: تَلَا) أي قرأ (رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم هَذ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: يُخبر الله سبحانه وتعالى أن في القرآن آيات محكمات، هُنّ أم الكتاب: أي بيناتٌ واضحاتُ الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمَن رَدَّ ما اشتبه إلى الواضح منه، وحَكَّمَ مُحْكَمه على متشابهة عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى:{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}

(1)"شرح صحيح مسلم" 1/ 66 - 67.

ص: 80

أي أصله الذي يُرْجَع إليه عند الاشتباه. وقال الطيبيّ رحمه الله: سُمّيت أم الكتاب لأنها بيّنة في نفسها، مبيّنة لما عداها من المتشابهات، فهي كالأصل لهما، كما سُمّيت مكة أم القرى لدحو الأرض منها. انتهى (1){وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تَحتَمِل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.

وقد اختَلَفوا في المحكم والمتشابه على أقوال، سيأتي بيانها في المسائل إن شاء الله تعالى.

[فائدة]: قوله: إنما تُصرَف "أُخَرُ" لكونها عُدِلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام، كالكُبَر والصُّغَر، فلما عُدلت عن مجرى الألف واللام، مُنِعت الصرف. وقال أبو عبيد: لم يَصرفوها؛ لأن واحدها لا يَنصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد، وقال: يجب على هذا ألا يَنصرِف غِضَاب وعِطاشٌ. وقال الكسائيّ: لم تنصرف؛ لأنها صفة. وأنكر ذلك المبرد أيضًا، وقال: إن لُبَدًا وحُطَمًا صفتان، وهما منصرفان. وقال سيبويه: لا يجوز أن تكون "أُخَر" معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكانت معرفة، ألا ترى أن "سَحَرَ" معرفة في جميع الأقاويل لمَّا كانت معدولةً عن "السَّحَر"، و"أَمْسِ" في قول من قال: ذهب أَمْسِ معدولًا عن "الأمس" فلو كان "أُخَر" معدولا أيضًا عن الألف واللام، لكان معرفةً، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة. ذكره القرطبيّ (2).

وقال أبو البقاء: أصل المتشابه أن يكون بين اثنين، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة، كان كل منها مشابها للآخر، فصح وصفها بأنها متشابهة، وليس المراد أن الآية وحدها متشابهة في نفسها.

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 618.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 13.

ص: 81

وحاصله أنه ليس من شرط صحة الوصف في الجمع، صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الوصوفات، وإن كان الأصل ذلك. ذكره في "الفتح"(1).

وقال البخاريّ في "صحيحه": {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] قال مجاهد: ما فيه من الحلال والحرام {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] يُصدق بعضه بعضًا، هو مثل قوله:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] إلى آخر ما ذكره.

وقوله: {زَيْغٌ} شك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] المشتبهات هو تفسير مجاهد أيضًا وصله عبد بن حميد، ولفظه:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: شك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} المشتبهات: الباب الذي ضلوا منه، وبه هلكوا. قاله في "الفتح".

وقال أيضًا: قوله: {الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} [النساء: 162] يعلمون، و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وصله عبد بن حميد أيضًا عن مجاهد في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} يعلمون تأويله {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وعن قتادة قال الراسخون كما يسمعون: آمنا به، كل من عند ربنا، المتشابه والمحكم، فآمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه فأصابوا".

قال الحافظ: وهذا الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية، يقتضي أن تكون الواو في {الرَّاسِخُونَ} عاطفة على معمول الاستثناء. وقد رَوَى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به"، فهذا يدل على أن الواو للاستئناف؛ لأن هذه الرواية، وإن لم تثبت بها القراءة، لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه؛ لوصفهم بالزيغ، وابتغاء الفتنة، وصرَّح بوفق ذلك حديثُ الباب، ودلت الآية على مدح الذين فَوّضوا العلم إلى الله،

(1) جـ 9/ ص 73.

ص: 82

وسَلّموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب. وحَكَى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب مثل ذلك، أعني "ويقول الراسخون في العلم آمنا به"(1).

(إِلَى قَوْلهِ) متعلّق بـ "تلا": أي قرأ الآية، وأتمّها بقراءة قوله {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7])، وتمام الآية:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].

تفسير تمام الآية: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ضلال، وخروج عن الحق إلى الباطل.

وقال القرطبيّ: {الَّذِينَ} رفع بالابتداء، والخبر {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ: إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وهذه الآية تَعُمُّ كل طائفة من كافر، وزنديق، وجاهل، وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إن لم يكونوا الحرورية، وأنواع الخوارج فلا أدري من هم؟. انتهى (2).

({فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يُمكنُهم أن يُحرِّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، ويُنْزِلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لِمَا يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دافع لهم، وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى:{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتجّ النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته، ألقاها إلى

(1)"فتح" 9/ 72 - 73.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 13.

ص: 83

مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59]، وبقوله:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رُسُل الله.

قال الطبريّ: قيل: إن هذه الآية نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى. وقيل: في أمر مدة هذه الأمة، والثاني أولى؛ لأن أمر عيسى عليه السلام قد بينه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فهو معلوم لأمته، بخلاف أمر هذه الأمة، فإن علمه خفي عن العباد. ذكره في "الفتح"(1).

وقوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] أي تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل بن حيان والسديّ: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء من القرآن (2).

وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} جملة في محل نصب على الحال: أي والحال أنه لا يعلم تأويل: أي ما هو الحقّ، أو حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى. وقد اختلف القرّاء في الوقف هاهنا، وسيأتي البحث عنه مستوفى في المسائل، إن شاء الله تعالى.

وقوله: ({وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} مبتدأ: أي الثابتون في علم الدين الكاملون فيه.

قال القرطبيّ: "الرسوخ": الثبوت في شيء، وكلُّ ثابت راسخ، وأصله في الأَجرام أن يَرسَخ الجبل والشجر في الأرض، قال الشاعر [من الطويل]:

لَقَدْ رَسَخَتْ في الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدةٌ

لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تَغَيَّرَا

ورَسَخ الإيمانُ في قلب فلان يَرْسَخ رُسوخًا. وحَكَى بعضهم رَسَخَ الغَديرُ:

(1)"فتح" 9/ 73.

(2)

راجع "تفسير ابن كثير" 1/ 352 - 353.

ص: 84

نَضَبَ ماؤه. حكاه ابن فارس، فهو من الأضداد، ورَسَخَ، ورَضَخَ، ورَصُنَ، ورَسَبَ كُلُّه ثَبَتَ فيه.

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم، فقال:"هو مَن بَرَّت يمينه، وصَدَق لسانُه، واستقام قلبه".

[فإن قيل]: كيف كان في القرآن متشابه؟، والله يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؟، فكيف لم يجعله كله واضحا؟.

[قيل له]: الحكمة في ذلك -والله أعلم- أن يَظهَر فضلُ العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحًا لم يظهر فضل بعضهم على البعض، وهكذا يفعل من يُصَنِّف تصنيفًا، يجعل بعضه واضحًا، وبعضه مشكلًا، ويترك لِلْجُثْوَة (1) موضعًا؛ لأنّ ما هان وجودُه، قَلَّ بهاؤه. انتهى كلام القرطبيّ (2).

وقال في "المرعاة": وحكمة وقوع المتشابه فيه إعلام للعقول بقصورها؛ لتستسلم لبارئها، وتعترف بعجزها، وتَسلَم من العجب والغرور والتكبر والتعزّز. انتهى.

وقوله: ({يَقُولُونَ} خبر المبتدأ {آمَنَّا بِهِ} أي بالمتشابه، ووكلنا علمه إلى عالمه (كلّ) من المتشابه والمحكم {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي نزل من عنده، وهو حقّ وصواب.

وقال القرطبيّ: فيه ضمير عائد على كتاب الله محكمه ومتشابهه، والتقدير كله من عند ربنا، وحذف الضمير لدلالة "كلّ" عليه، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. قاله القرطبيّ (3).

(1) مثلثة الجيم، بعدها ثاء مثلّثة: أصلها الحجارة المجموعة، لكن المراد هنا: الجماعة.

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 19.

(3)

"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 19.

ص: 85

{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} أي ذوو العقول الخالصة، وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله تعالى إليه في هذه الآية الكريمة.

وقال القرطبيّ: أي ما يقول هذا، ويؤمن، ويقف حيث وقف، ويدَع اتّباع المتشابه إلا ذو لُبّ، وهو العقل، ولبّ كل شيء خالِصُهُ، فلذلك قيل للعقل: لبّ، و"أولو" جمع "ذو" من غير لفظه. انتهى.

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله إخبارا عنهم: إنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي المتشابه، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي الجميع من المحكم والمتشابه حقّ وصدق، وكل واحد منهما يُصَدِّق الآخرَ، ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس شيء من عند الله بمختلف، ولا متضاد، كقوله:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} ، ولهذا قال تعالى:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} : أي إنما يَفْهَم، ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة، والفُهوم المستقيمة. انتهى (1).

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَا عَائِشَةُ) نادى عائشة لحضورها في ذلك الوقت (إِذَا رَأَيْتُمُ) بضمير المخاطبين، وإنما عدل إلى الجمع للتنبيه على أن معرفة هذا لا يخُصّ عائشة رضي الله عنها، بل يعمّها وغيرها، وخاطب الغائبين، وذكّر الضمير للتغليب، ففيه تغليبان متعاكسان، فليُتَأَمّل. قاله السنديّ. وفي رواية البخاريّ:"فإذا رأيتِ" بتاء المخاطب، والخطاب لكل من يَتَأتّى له الخطاب، ولذا أتى بضمير الجمع في قوله:"فاحذروهم"، ويحتمل أن يكون بتاء المخاطبة، والخطاب لعائشة رضي الله تعالى عنها، ويكون قوله:"فاحذروهم" على أسلوب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [الطلاق: 1]. لأنها أم المؤمنين؛ بيانًا لشرفها، وغزارة علمها، كما يقال لرئيس القوم

(1)"تفسير ابن كثير" 1/ 355.

ص: 86

وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت؛ إظهارًا لتقدّمه، واعتبارًا لترؤسه. قاله الطيبيّ. (1).

(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ) أي في المتشابه، وفي رواية البخاريّ:"فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه"(فَهُم الَّذِينَ عَنَاهُمُ الله) أي أرادهم بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، وفي رواية الشيخين:"فأولئك الذين سماهم الله"(فَاحْذَرُوهُمْ) أي لا تجالسوهم، ولا تكالموهم أيها المسلمون، فإنهم أهل البدعة، فيحقّ لهم الإهانة. وقيل: أمر بالحذر منهم احترازًا عن الوقوع في عقيدتهم، فالمقصود التحذير من الإصغاء إليهم.

وقال في "الفتح": قوله: "فاحذروهم" في رواية الكشميهني: "فاحذرهم" بالإفراد، والأولى أولى، والمراد التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود -كما ذكره ابن إسحاق- في تأويلهم الحروف المقطعة، وأنّ عَدَدَها بالْجُمَّل مقدار مدة هذه الأمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج، حتى جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسّر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على صَبِيغ (2) لمّا بلغه أنه يتبع المتشابه، فضربه على رأسه حتى أدماه. أخرجها الدارمي وغيره. وقال الخطابيّ: المتشابه على ضربين: أحدهما: ما إذا رُدَّ إلى الْمُحْكَم، واعتُبِر به عُرِف معناه، والآخر: ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ، فيطلبون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه، فيُفْتَنون. انتهى (3). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 619.

(2)

"صَبيغ" بوزن أمير، كما ضبطه في "القاموس" وهو ابن عِسْل بكسر العين، وسكون السين المهملتين، كان يُعنّتُ الناس بالغوامض والسؤالات، فنفاه عمر إلى البصرة. انتهى "القاموس".

(3)

"فتح" 9/ 74 - 75.

ص: 87

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عائشة رضي الله تعالى عنها هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: قد اختُلف في إسناد هذا الحديث، قال فأخرجه المصنّف من طريق أيوب السختيانيّ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه الشيخان من طريق يزيد بن إبراهيم التستريّ، عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد، عنها.

قال في "الفتح": قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا وكثيرًا أيضا ما يُدخل بينها وبينه واسطة، وقد اختُلف عليه في هذا الحديث، فأخرجه الترمذي من طريق أبي عامر الجزّار عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، ومن طريق يزيد بن إبراهيم، كما في الباب -يعني رواية البخاريّ- بزيادة القاسم، ثم قال: روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكروا القاسم، وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم. انتهى. وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم، وحماد بن سلمة جميعًا، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، فلم ينفرد يزيد بزيادة القاسم، وممن رواه عن ابن أبي مليكة بغير ذكر القاسم أيوبُ أخرجه ابن ماجه من طريقه، ونافعُ بن عمر، وابن جريج، وغيرهما. انتهى (1). والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (7/ 47) فقط، و (البخاريّ) في "التفسير"(6/ 42)(4547) و (مسلم) في "العلم"(2665) و (أبو داود)(4598) و (الترمذيّ)(2993) و (أحمد) في "مسنده"(6/ 48) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(30) و (الدارميّ) في "سننه"(147) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(73) و (76) و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" 2515 و 2516 و 2517 و 2518 و (البيهقيّ) في

(1)"فتح" 9/ 73.

ص: 88

"دلائل النبوة"(6/ 5545)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو وجوب اجتناب الْجَدَل.

2 -

(ومنها): بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم لمعنى هذه الآية الكريمة؟ لأن الله سبحانه وتعالى وكَلَ إليه بيان معاني القرآن لأمته، حيث قال عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ، وأهل البِدَع، ومن يتبع المشكلات للفتنة، فأما من سأل عما أشكل عليه للاسترشاد، وتلطّف في ذلك، فلا بأس به، وجوابه واجب، وأما الأول فلا يُجاب، بل يُزجرُ، ويُعزّر كما عزّر عمر بن الخطّاب رضي الله عنه صَبِيغَ بن عِسْل حين كان يتبع التشابه. انتهى.

4 -

(ومنها): أن في ختم الآية بقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين -يعني من لم يتذكّر، ويَتّعِظ، ويتبع هواه، ليس من أولى الألباب، ومن ثَمَّ قال الراسخون:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] خَضَعوا لباريهم؛ لاستنزال العلم اللدني، واستعاذوا به من الزيغ النفساني. قاله الطيبيّ (1).

5 -

(ومنها): ما قال بعضهم: دلت الآية على أن بعض القرآن محكم، وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله عز وجل:{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، ولا قوله:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 2] حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون؛ لأنّ المراد بالإحكام في قوله:{أُحْكِمَتْ} الإتقان في النظم، وأن كلها حقٌّ من عند الله، والمراد بالتشابه كونه يُشبه بعضه بعضًا في حسن السياق والنظم أيضًا، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه.

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 620.

ص: 89

وحاصل الجواب أن المحكم وَرَدَ بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين. انتهى (1).

6 -

(ومنها): ما قال بعضهم: العقل مُبْتَلىً باعتقاد حقيقة المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة، فالحكيم إذا صَنّف كتابًا أجمل فيه أحيانًا، ليكون موضع خضوع المتعلم لأُستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يُطلِعه على سر. وقيل: لو لم يُبْتَلَ العقلُ الذي هو أشرف البدن لاستمر العَالِم في أُبَّهَة العلم على التمرد، فبذلك يَستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها؛ استسلامًا واعترافًا بقصورها. ذكره في "الفتح"(2). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالمحكم والمتشابه:

قال العلامة أبو عبد الله القرطبيّ: اختَلَف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة، فقال جابر بن عبد الله -وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثورى وغيرهم-: المحكمات من آي القرآن ما عُرِف تأويله، وفُهِم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استاثر الله تعالى بعلمه دون خلقه. قال بعضهم: ذلك مثلُ وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.

قال القرطبيّ: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. وقال الربيع بن خُثَيم: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء.

وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزيء الصلاة إلا بها. وقال محمد ابن الفضل: سورة الإخلاص؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط. وقد قيل: القرآن كله محكم؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} . وقيل: كلّه متشابه؛ لقوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا}

(1)"فتح" 9/ 74.

(2)

جـ 9/ 74.

ص: 90

وهذا -كما قال القرطبيّ- وليس في معنى الآية في شيء، فإن قوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} : أي في النظم والرَّصف، وأنه حقّ من عند الله. ومعنى {كِتَابًا مُتَشَابِهًا}: أي يُشبه بعضه بعضًا، ويُصَدِّق بعضه بعضًا، وليس المراد بقوله:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} هذا المعنى، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله:{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه، ولا مجتمل إلا وجهًا واحدًا. وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوهًا، ثُمّ إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد، وأُبطل الباقي صار المتشابه محكمًا، فالمحكم أبدًا أصلٌ تُرَدُّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات هو قوله في "سورة الأنعام": {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى ثلاث، آيات وقوله في "بني إسرائيل":{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، قال ابنُ عطية: وهذا عندي مثال أَعطاه في المحكمات. وقال ابن عباس أيضًا: المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يُؤمَن به ويعمل به، والمتشابه: المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به. وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات، وقاله قتادة والربيع والضحاك.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حُجّة الرب، وعِصْمَةُ العباد، ودفع الْخُصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وُضِعْنَ عليه، والمتشابهات لهنّ تصريف وتحريف وتأويل، ابْتَلَى اللهُ فيهن العباد. وقاله مجاهد، وابنُ إسحاق.

قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية. قال النحاس: أحسنُ ما قيل في المحكمات والمتشابهات: أن المحكمات ما كان قائمًا بنفسه، لا يَحتاج أن يُرجَع فيه إلى

ص: 91

غيره، نحوُ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] والمتشابهات نحو: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] يُرجَع فيه إلى قوله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} ، وإلى قوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ} [النساء: 48].

قال القرطبيّ: ما قاله النحاس يُبَيِّن ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أُحكِم، والإحكامُ: الإتقانُ، ولا شك في أنّ ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، وإتقان تركيبه، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. والله أعلم.

وقال ابن خويزِ مَنْدَاد: للمتشابه وجوه، والذي يه يتعلق به الحكم ما اختَلَفَ فيه العلماء أيُّ الآيتين نسخت الأخرى، كقول علي وابن عباس رضي الله عنهم في الحامل المتوفى عنها زوجها: تَعْتَدُّ أقصى الأجلين، فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم يقولون: وضع الحمل، ويقولون: سورة النساء القُصْرَى نَسَخت أربعةَ أشهُر وعشرًا، وكان علي وابن عباس يقولان: لم تُنسخ. وكاختلافهم في الوصية للوارث، هل نُسخت أم لم تنسخ. وكتعارض الآيتين أيُّهما أولى أن تُقَدَّم إذا لم يُعرَف النسخ، ولم توجد شرائطه، كقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يَقتضِي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] يمنع ذلك. ومنه أيضًا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه، وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين، ويكون الاسم مُحْتَمِلًا أو مُجملًا يَحتاج إلى تفسير؛ لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه، والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعًا، كما قريء:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالفتح والكسر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (1).

(1)"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 9 - 12.

ص: 92

[تنبيه]: قد اقتصر في "الفتح" على ذكر قولين من هذه، فقال: المحكم من القرآن ما وَضَح معناه، والمتشابة نقيضه، وسُمّي المحكم بذلك؛ لوضوح مفردات كلامه، وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه.

وهذا هو معنى القول الذي رجحه ابن عطيّة.

قال: وقيل: المحكم ما عُرِف المراد منه، إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروفِ المقطعة في أوائل السور.

وهذا هو القول الأول الذي استحسنه القرطبيّ.

قال: وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال غير هذه نحوُ العشرة، ليس هذا موضع بسطها، وما ذكرته أشهرها، وأقربها إلى الصواب. وذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي: أن الأخير هو الصَّحيح عندنا، وابن السمعاني أنه أحسن الأقوال، والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون. انتهى ما في "الفتح"(1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قال أبو منصور، وابن السمعاني هو الأرجح.

وهو الذي استحسنه العلامة القرطبيّ، والحافظ ابن كثير (2)، والله تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى في "شرح المشكاة": قد افتقرنا في بيان هذا الحديث إلى الكشف عن المراد بالمحكم والمتشابه، فيتّضح المحِقُّ من المبطِل من أبواب التأويل، فنقول -وبالله التوفيق-: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه؛ لأن اللفظ الذي يفيد معنًى، إما أن يحتمل غيره أو لا، الثاني: النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤول، فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو

(1)"فتح" 9/ 73.

(2)

راجع "تفسير ابن كثير" 1/ 353.

ص: 93

المتشابه، هكذا ينبغي أن يقسّم؛ لأنه سبحانه وتعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه في قوله تعالى:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، وهو ما لم يتّضح معناه، فالواجب أن يُفَسَّر المحكم بما يقابله مما يتّضح معناه.

ويعضِد ما ذكرنا أسلوبُ الآية، وهو الجمع بين التفريق والتقسيم، وذلك أنه تعالى لمّا فَرّق ما جَمَع في معنى الكتاب بأن قال:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] أراد أن يُضِيف إلى كُلٍّ منهما ما يناسبهما من الحكم، فقال أوّلًا:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، وثانيًا قال:{وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وكان يُمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} ، وإنما وضع {يَقُولُونَ آمَنَّا} موضع "يتبعون المحكم" لإيثار لفظ الرسوخ في الابتداء؛ لأن الرسوخ في العلم لا يحصل إلا بعد التتبع التام، والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد، ورَسَخَ القدمُ في العلم، أفصح صاحبه النطق بالقول الحق؛ إرشادًا للخلق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] شاهدًا على أن {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} مقابِلٌ لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، وفيه إشارة إلى أنّ الوقف على قوله:{إِلَّا اللَّهُ} ، والابتداءُ بقوله:{وَالرَّاسِخُونَ} وقفٌ تامّ، وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأنّ من حاول معرفته، هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله:"فاحذروهم". انتهى (1).

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: ذكر الإمام البخاري في "صحيحه" عن سعيد بن جبير قال رجل (2)

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 618 - 619.

(2)

قال في "الفتح" 9/ 523: كأنّ هذا الرجل هو نافع بن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الأزارقة من الخوارج، وكان يُجالس ابن عبّاس بمكة، ويسأله، ويُعارضه. انتهى.

ص: 94

لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال:{فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فقد كتموا في هذه الآية، وقال:{أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: {دَحَاهَا} [النازعات: 30]، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]، إلى {طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء، قال:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا - عَزِيزًا حَكِيمًا - سَمِيعًا بَصِيرًا} ، فكأنه كان ثم مضى. فقال -يعني ابن عباس-:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27]، وأما قوله:{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالَوا نقول: لم نكن مشركين، فخُتِم على أفواههم، فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عُرِفَ أن الله لا يُكتَم حديثًا، وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين، ثم دحا الأرض -أي بسطها- ودَحْوُها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين، فذلك قوله:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فجُعِلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخُلِقت السماء في يومين. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} سَمَّى نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله.

انتهى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) راجع "صحيح البخاريّ" في "تفسير حم السجدة".

ص: 95

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في قوله عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} : قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى: اختَلَف العلماء في {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} هل هو كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله، فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله:{إِلَّا اللَّهُ} هذا قول ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم، وهو مذهب الكسائيّ، والأخفش، والفراء، وأبي عبيد، وغيرهم. قال أبو نَهِيك الأسدي: إنكم تَصِلُون هذه الآية، وإنها مقطوعة، وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس، عن أشهب، عن مالك بن أنس.

و {يَقُولُونَ} على هذا خبرُ {وَالرَّاسِخُونَ} .

قال الخطابيّ: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أَمَرنا بالإيمان به، والتصديق بما فيه قسمين: محكمًا ومتشابهًا، فقال عز من قائل:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] إلى قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، فأَعلَمَ أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يَعلَم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه، ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله:{وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . ورُوي ذلك عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم. وإنما رُوي عن مجاهد أنه نَسَقَ {وَالرَّاسِخُونَ} على ما قبله، وزَعَم أنهم يعلمونه، واحتج له بعض أهل اللغة، فقال: معناه: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} يعلمونه قائلين آمنا، وزعم أن موضع {يَقُولُونَ} نَصْبٌ على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه، ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تُضمِر الفعل والمفعول معًا، ولا تَذكُر حالا إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر

ص: 96

فعل فلا يكون حالٌ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبد الله راكبا، بمعنى أقبل عبد الله راكبا، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل، كقوله: عبد الله يتكلم، يصلح بين الناس، فكان يصلح حالًا، كقول الشاعر -أنشدنيه أبو عمر قال: أنشدنا أبو عباس ثعلب-:

أَرْسَلْتُ فِيهَا قَطِمًا (1) لُكَالِكَا

يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا

أي يقصر ماشيًا. فكان قولُ عامة العلماء، مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضًا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئًا عن الخلق، ويُثبِته لنفسه، ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله عز وجل:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقوله:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، وقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه (2)، لا يَشركه فيه غيره، كذلك قوله تبارك وتعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، ولو كانت الواو في قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} للنَّسَقِ لم يكن لقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] فائدة. والله أعلم.

قال القرطبيّ: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره، فقد رُوي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون: آمنا به. وقاله الربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والقاسم بن محمد، وغيرهم. و {يَقُولُونَ} على هذا التأويل نَصْبٌ على الحال من الراسخين، كما قال:

الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا

وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ في الْغَمَامَه

وهذ البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون "البرق" مبتدأ، والخبر "يلمع" على

(1)"القطم": الغضبان، والمشتهي اللحم وغيره. و"اللكالك" -بضم اللام الأولى وكسر الثانية: الجمل الضخم.

(2)

هكذا نسخة تفسير القرطبيّ "بعلمه"، والظاهر أن الصواب "به"، والله تعالى أعلم.

ص: 97

التأويل الأول، فيكون مقطوعا مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفا على "الريح"، و"يلمع" في موضع الحال على التأويل الثاني، أي لامعًا.

واحتج قائلوا هذه المقالة أيضًا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم، فكيف يَمدحهم، وهم جُهّال، وقد قال ابن عباس: أنا ممن يَعلَم تأويله. وقرأ مجاهد هذه الآية، وقال: أنا ممن يعلم تأويله، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي.

قال القرطبيّ: وقد رَدّ بعضُ العلماء هذا القول إلى القول الأول، فقال: وتقدير تمام الكلام عند (الله) أن معناه: وما يعلم تأويله إلا الله -يعني تأويل المتشابهات، والراسخوان في العلم يعلمون بعضه، قائلين: آمنا به، كلٌّ من عند ربنا بما نُصِبَ من الدلائل في المحكم، ومكّن من رَدِّه إليه، فإذا علموا تأويل بعضه، ولم يعلموا البعض قالوا: آمنا بالجميع، كلٌّ من عند ربنا، وما لم يُحط به علمنا من الخفايا، مما في شرعه الصالح، فعلمه عند ربنا.

[فإن قال قائل]: قد أشكل على الراسخين بعضُ تفسيره، حتى قال ابن عباس: لا أدري ما الأوّاه، ولا ما غِسْلِين؟.

[قيل له]: هذا لا يلزم؛ لأن ابن عباس قد عَلِم بعد ذلك، ففسر ما وقف عليه.

وجواب أقطع من هذا، وهو أنه سبحانه لم يقل: وكل راسخ، فيجبَ هذا، فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر.

ورجح ابن فُورَك أن الراسخين يعلمون التأويل، وأطنب في ذلك، وفى قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس:"اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" ما يبين لك ذلك: أي علمه معانيَ كتابك، والوقف على هذا يكون عند قوله:{وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} ، قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر (1): وهو الصحيح، فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوى في علمه جميع من يَفهَم كلام العرب، وفي أيّ شيء هو رسوخهم

(1) هو شيخه القرطبيّ، صاحب كتاب "المفهم" المتوفّى سنة 656 هـ.

ص: 98

إذا لم يعلموا إلا ما يَعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يُعلَم البتة، كأمر الروح والساعة، مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد، لا ابن عباس ولا غيره.

فمن قال من العلماء الْحُذّاق بأن الراسخين لا يعلمون علم التشابه، فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة، ومَنَاحٍ في كلام العرب فيُتَأوّل، ويُعلَم تأويله المسقيم، ويُزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم، كقوله في عيسى:{وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] إلى غير ذلك، فلا يُسمّى أحدٌ راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قدر له، وأما من يقول: إن التشابه هو المنسوخ، فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا غير صحيح. انتهى (1).

وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكر القولين المتقدّمين: ما نصّه: من العلماء من فَصّلَ هذا المقام، قال التأويل يُطلَق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى:{وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]، وقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي حقيقة ما أُخبِروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله:{وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] مبتدأ، و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] خبره.

وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو التفسير والبيان، والتعبير عن الشيء، كقوله:{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، لأنهم يعلمون، ويَفهَمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى

(1)"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 16 - 18.

ص: 99

هذا فيكون قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] حالًا منهم، وساغ هذا، وإن كان من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إلى قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} الآية [الحشر: 10]، وقوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] أي وجاء الملائكة صفوفًا صفوفًا. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما تقدّم عن أبي العباس القرطبيّ ترجيحه هو الأرجح، فتأمّله بتأنٍّ وإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال أبو عبد الله القرطبيّ: قال شيخنا أبو العبّاس -يعني القرطبيّ، صاحب المفهم"-:

متبعوا المتشابه لا يخلو أن يتبعوه، ويجمعوه طلبًا للتشكيك في القرآن، وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة، والقرامطة (2) الطاعنون في القرآن، أو طلبًا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة، الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة، مما ظاهره الجسمية، حتى اعتقدوا أن البارىء تعالى جسم مُجَسم، وصورة مصورة، ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وإصبع، تعالى الله عن ذلك، أو يَتَّبِعوه على جهة إبداء تأويلاتها، وإيضاح معانيها، أو كما فعل صَبِيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال، فهذه أربعة اقسام:

(الأول): لا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل، من غير استتابة.

(الثاني): الصحيح القول بتكفيرهم؛ إذ لا فرق بينهم وبين عُبّاد الأصنام والصور، ويستتابون، فإن تابوا، وإلا قتلوا، كما يُفعل بمن ارتد.

(1)"تفسير ابن كثير" 1/ 355.

(2)

"القرامطة": فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفُرْس الذين يعتقدون نبوّة زرادشت ومزدك وماتي، وكانوا يُبيحون المحرّمات. راجع "عقد الجمان" للعينيّ في حوادث سنة (278).

ص: 100

(الثالث): اختلفوا في جواز ذلك؛ بناءً على الخلاف في جواز تأويلها، وقد عُرِف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها، مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون: أَمِرُّوها كما جاءت.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن أراد أن السلف يقولون باستحالة ظواهر الصفات، وأنه لا يجوز إثباتها لله تعالى، فهذا غلطٌ عليهم؛ لأن مذهبهم إثباتها لله تعالى على ظواهرها كما يليق بجلاله، وإن أراد أنهم يقولون باستحالة ثبوتها على الكيفية التي ثبتت بها للمخلوق، فهذا مسلمٌ، ولكن ظاهر عبارته فيها إيهام، فليُتنبّه. والله تعالى أعلم.

قال: وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها، وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذهب هو الذهب الذي سلكه الخلف، وخالفوا فيه السلف، وهو مذهب فاسد، وقد بينّا ذلك في غير هذا الموضع، فتبصّر.

والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: (الرابع): الحكم فيه الأدبُ البليغ، كما فعله عمر بصَبِيغ. وقال أبو بكر الأنباريّ: وقد كان الأئمة من السلف، يُعاقبون من يَسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن؛ لأن السائل إن كان يَبْغِي بسؤاله تخليد البدعة، وإثارة الفتنة، فهو حقيق بالنكير، وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده، فقد استحق العَتْبَ بما اجترم من الذنب؛ إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلًا إلى أن يَقصِدوا ضَعَفَة المسلمين بالتشكيك والتضليل، في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل، وحقائق التأويل، فمن ذلك: ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، أنبأنا سليمان بن حماد بن زيد، عن يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار، أن صَبِيغ بن عِسْل (1) قَدِم المدينه، فجعل يسأل

(1) هو صبيغ بوزن أمير ابن شريك بن المنذر بن قطن بن قشع بن عِسل بكسر العين ابن عمرو بن يربوع التميميّ، وقد يُنسب إلى جده الأعلى، فيقال: صَبيغ بن عسل. =

ص: 101

عن متشابه القرآن، وعن أشياء، فبلغ ذلك عمرَ رضي الله عنه، فبعث إليه عمر فأحضره، وقد أَعَدَّ له عَرِاجين من عراجين النخل، فلما حَضَر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغ، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي. ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة، وقذفها في قلبه، فتاب وحسنت توبته. انتهى (1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

48 -

(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ح وحَدَّثَنَا حَوْثَرَةُ (2) بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ (3)، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} الْآيَةَ [الزخرف: 58]).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَليُّ بْنُ الْمُنْذِرِ) الطَّرِيقيّ الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع [10] 2/ 21.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوان الضّبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوق، رُمي بالتشيّع [9] 2/ 21.

3 -

(حَوْثَرَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ) -بفتح الحاء المهملة، وسكون الواو، بعدها مُثَلّثةٌ مفتوحة- ابن قديد الْمِنْقَريّ، أبو الأزهر البصريّ الورّاق، صدوقٌ من صغار [10].

= راجع "القاموس"، وشرحه في مادّة "صبغ" و"عسل".

(1)

تفسير القرطبي جـ 4 ص 14 - 15.

(2)

وقع في بعض النسخ "جوثرة" بالجيم بدل الحاء، وهو غلط، فتنبّه.

(3)

وقع في نسخة محمد فؤاد عبد الباقي: "أبو طالب" بالطاء المهملة بدل الغين المعجمة، وهو غلط.

ص: 102

رَوَى عن ابن عيينة، والقطان، وابن مهدي، ومحمد بن بشر العبدي، وأبي أسامة، وغيرهم. وروى عنه ابن ماجه، وابن خزيمة، وزكرياء الساجي، وابن جرير الطبري، وأبو حامد الحضرمي، وابن صاعد، وغيرهم. ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال هو وإبراهيم بن محمد سنان: مات سنة (256). تفرّد به المصنّف (1)، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 48 و 518 و 1087 و 1266.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة حافظٌ [9] 4/ 34.

5 -

(حَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ) الأشجعيّ، وقيل: السَّلَمِيّ، مولاهم الواسطيّ، صدوقٌ (2)[7].

رَوَى عن الحكم بن عتيبة، ومنصور، وأبي بشر، ومعاوية بن قرة، وأبي جعفر الباقر، وأبي غالب صاحب أبي أمامة، وغيرهم. وروى عنه إسرائيل، وشعبة، وإسماعيل بن زكريا، وعيسى بن يونس، ومحمد بن بشر العبدي، ويعلى بن عبيد، وغيرهم.

قال ابن المبارك: ثقة. وقال أحمد: ليس به بأس. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صدوق ليس به بأس. وقال زهير بن حرب، ويعقوب بن شيبة، والعجلي: ثقة. وقال أبو زرعة: صالح صدوق مستقيم الحديث لا بأس به.

وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال الترمذي: ثقة، مقارب الحديث. وذكره مسلم في "مقدمة كتابه" (3). وقال ابن خزيمة: في القلب منه. وقال

(1) لكن ذكره بعضهم في "شيوخ أبي داود"، وقال: رَوَى عنه في "كتاب بدء الوحي"، وعندي أن هذا غير صحيح. والله أعلم.

(2)

وقال في "التقريب": لا بأس به، وما قلته أولى، لأن الجمهور على توثيقه، كما هو ظاهر من ترجمته، والذين جرحوه ليس جرحهم مفسّرًا، حتى يعارض قول الجمهور، فتنبّه.

(3)

ذكره أبو القاسم اللالكائي في رجال مسلم، وعندي أن هذا غير صحيح.

ص: 103

الدارقطني: ليس بالقوي. وقال أبو داود، وابن عمار: ثقة. وكذا قال ابن المديني.

وقال عبدة بن سليمان: ثنا حجاج بن دينار، وكان ثَبْتًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 48 و1785 و 2784 و 3024.

6 -

(أَبُو غَالِبٍ) -بالغين المعجمة- صاحب أبي إمامة البصريّ، نزيل أصبهان، قيل: اسمه الحَزَوَّر، وقيل: سعيد بن الحْزَوَّر، وقيل: نافع مولى خالد بن عبد الله الْقَسْريُّ، وقيل: الأمويّ، وقيل: مولى بني أسيد، وقيل: مولى عبد الرحمن الْحَضْرَميّ، وقيل: مولى بني راسب، وقيل: مولى بني ضُبيعة، وقيل: مولى باهلة، صدوقٌ يُخطىء [5].

رَوَى عن أبي إمامة الباهلي، وأنس بن مالك، وأم الدرداء. وروى عنه الأعمش، وحسين بن واقد المروزي، وحسين بن المنذر الخراسانيّ، وأبو خَلْدة خالد بن دينار، وحجاج بن دينار، والربيع بن صَبِيح، وعبد العزيز بن صُهيب، وصفوان بن سليم، ومالك بن دينار، وأبو مرزوق، ومبارك بن فَضَالة، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، وآخرون.

قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال النسائيّ: ضعيف. وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن عديّ: قد رُوي عن أبي غالب حديثُ الخوارج بطوله، وهو معروف به، ولم أر في أحاديثه حديثًا منكرًا، وأرجو أنه لا بأس به. وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحّح بعضها. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، إلا فيما وافق الثقات. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا. وقال الْبَرْقانيّ عن الدارقطنيّ: أبو غالب حَزَوَّر بصري يُعتَبر به. ووثقه موسى بن هارون. أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 48 و172 و 1483 و 4002.

7 -

(أَبُو أُمَامَةَ) صُدَيّ -بالتصغير- ابن عَجْلان بن الحارث، ويقال: ابن وهب،

ص: 104

ويقال: ابن عمرو بن وهب بن عريب بن وهب بن رِياح بن الحارث بن معن بن مالك ابن أَعْصُر الباهليّ الصحابيّ مشهور بكنيته، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبادة بن الصامت، وعمرو بن عَبَسَة، وغيرهم. ورَوَى عنه سليمان ابن حبيب المحاربي، ومحمد بن زياد الألهانيّ، وأبو سَلّام الأسود، ومكحول الشامي، وشهر بن حوشب، والقاسم بن عبد الرحمن ورجاء بن حَيْوة، وسالم بن أبي الجعد، وخالد بن معدان، وأبو غالب الراسبي، وسليم بن عامر، وجماعة.

قال ابن سعد: سكن الشام. وروى أبو يعلى من طريق أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم فانتهيت إليهم، وأنا طَاوٍ، وهم يأكلون الدم، فقالوا: هَلُمّ، قلت: إنما جئتُ أنهاكم عن هذا، فنمت وأنا مغلوب، فأتاني آت بإناء فيه شراب، فأخذته وشربته، فكَظَّني بطني (1)، فشَبِعتُ ورَوِيتُ، ثم قال لهم رجل منهم: أتاكم رجل من سَرَاة قومكم، فلم تُتحفوه، فأتوني بلبن، فقلت: لا حاجة لي به، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم. ورواه البيهقي في "الدلائل"، وزاد فيه: أنه أرسله إلى قومه باهلة. وقال ابن حبان كان مع علي بصفين، مات أبو أمامة الباهلي سنة ست وثمانين. قال ابن الْبَرقيّ بغير خلاف، وأثبت غيره الخلاف، فقيل: سنة إحدى، قاله محمد بن سعد. وقال عبد الصمد بن سعيد: ولما مات خَلَف ابنا يقال له: المغلس، وله -يعني صاحب الترجمة- مائة وست سنين، فقد صح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.

وأخرج البخاري في "تاريخه" من طريق حُميد بن ربيعة: رأيت أبا أمامة خرج من عند الوليد بن عبد الملك في ولايته سنة ست وثمانين، ومات ابنه الوليد سنة ست وتسعين، قال: وقال الحسن -يعني ابن رافع عن ضمرة في "فضائل الصحابة" لخيثمة من طريق وهب بن صدقة، سمعت جدي يوسف بن حزن الباهلي، سمعت أبا أمامة

(1) يقال: كَظّه الطعامُ: ملأه حتى لا يُطيق النّفَسَ اهـ "ق".

ص: 105

الباهلي يقول: لما نزلت: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18] قلت: يا رسول الله أنا ممن بايعك تحت الشجرة، قال:"أنت مني وأنا منك". وأخرج أبو يعلى من طريق رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة: أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم غَزْوًا، فأتيته، فقلت: ادع الله لي بالشهادة، فقال: "اللهم سَلِّمْهم، وغنمهم

" الحديث (1). وأخرج البيهقيّ من طريق سُلَيم بن عامر: جاء رجل إلى أبي أمامة، فقال: إني رأيت في منامي الملائكة تصلّي عليك كلما دخلت، وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلست. الحديث سنده صحيح. ذكره في "الإصابة" (2).

وقال في "تهذيب التهذيب": وقال سليم بن عامر: قلت له: مثلُ مَن أنت يومئذ -يعني يوم حجة الوداع-؟ قال: أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة. قال ابن عيينة: هو آخر من مات من الصحابة بالشام. وقال إسماعيل بن عياش، وأبو اليمان، وأحمد بن محمد بن عيسى، صاحب "تاريخ حمص": مات سنة إحدى وثمانين بحمص. وقال عمرو بن عليّ، وخليفة، وأبو عبيد، وغير واحد: مات سنة (86)، زاد بعضهم: وهو ابن (91) سنة.

قال الحافظ: لا يستقيم هذا القدر من سِنِّه مع قوله: إنه كان يوم حجة الوداع ابن ثلاثين، بل مقتضاه أن يكون جاوز المائة بست سنين، أو أكثر. وقال ابن حبان: كان مع عليّ بصِفِّين. وقال البخاري: قال خالد بن خَلِيّ عن محمد بن حرب، عن حميد بن ربيعة: رأيت أبا أُمامة خارجا من عند الوليد في ولايته. وقال ضمرة: مات عبد الملك سنة (86) وهذا يُقَوّي قول مَن قال: إن أبا إمامة مات سنة (6). وفي الطبراني من طريق راشد بن سعد وغيره، عن أبي أُمامة ما يدل على أنه شَهِدَ أُحُدًا، لكن إسناده ضعيف (3).

(1) رواه أحمد في "مسنده" 5/ 204 والطبراني في "الكبير" 19/ 89 والبيهقيّ في "دلائل النبوّة" 2/ 186، قال الحافظ الهيثميّ: رجال أحمد رجال الصحيح.

(2)

"الإصابة" 3/ 339 - 340.

(3)

"تهذيب التهذيب" 2/ 209 - 210.

ص: 106

أخرج له الجماعة، وله (250) حديثًا، أخرج البخاريّ منها خمسة، ومسلم ثلاثة، وله في هذا الكتاب (44) حديثًا. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله موثّقون.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالشام.

4 -

(ومنها): أن جملة ما رواه المصنّف لأبي أمامة رضي الله عنه (44) حديثًا، ولكلٍّ من حَوْثَرة، وحجاج بن دينار أربعة أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) صُدَيّ بن عجلان الباهليّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ) أي أُعطوه، فجملة "أوتوا" حال، وقد مقدّرة على رأي، والمستثنى منه أعمّ الأحوال، وصاحبها الضمير المستتر في خبر "كان". هكذا قال الطيبيّ، وتعقّبه السنديّ، وعبارته: وذو الحال فاعل "ما ضلّ"، لا الضمير المستتر في خبر "كان" كما توهّمه الطيبيّ، فإنه معنى فاسد، وإن كان الضمير المذكور راجعًا إلى فاعل "ما ضلّ"، فليُفهم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن دعوى السنديّ فساد المعنى على ما قاله الطيبيّ مما لا وجه له، كما يدلّ عليه آخر كلامه، فافهم. والله تعالى أعلم.

والمعنى: ما ضلّ قوم مَهديّون كائنين على حال من الأحوال إلا على إيتاء الجدل، يعني أن من ترك سبيل الهدى، وركب متن الضلال عارفًا بذلك لا بُدّ أن يسلُك طريق العناد واللَّجَاج، ولا يتمشّى له ذلك إلا بالجدل. قاله الطيبيّ.

وقال في "المرعاة": والمعنى: ما كان وقوعهم في الضلالة إلا بسبب الجدال، وهو الخصام بالباطل، وضرب الحقّ به، وضرب الحقّ بعضه ببعض بإبداء التعارض والتدافع والتنافي بينهما، لا المناظرة لطلب الصواب، مع التفويض إلى الله عند العجز

ص: 107

عن معرفة الكنه. انتهى (1).

(ثُمَّ تَلَا) أي قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم توضيحًا لا ذكره بذكر مثال له، لا للاستدلال به على الخصم المذكور، فإنه لا يدلّ عليه.

(هَذِهِ الْآيَةَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]) هكذا في رواية المصنّف، وفي رواية أحمد، والترمذيّ:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. وقوله: {مَا ضَرَبُوهُ} أي هذا المثل {لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أي إلا لمخاصمتك، وإيذائك بالباطل، لا لطلب الحقّ.

[فإن قلت]: قريشٌ ما كانوا على الهدى، فلا يصلح ذكرهم مثالًا.

[قلت]: نُزّل تمكّنهم منه بواسطة البراهين الساطعة منزلة كونهم عليه، فحيث دفعوا بعد ذلك الحقّ بالباطل، وقرّروا الباطل بقولهم:{أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يريدون أنهم يعبدون الملائكة، وهم خير من عيسى، وقد عبده النصارى، فحيث صحّ لهم عبادته صحّ لنا عبادتهم بالأولى، فصاروا مثالًا لما فيه الكلام.

وقيل: الأصحّ في معنى الآية أن عبد الله بن الزِّبَعرى قبل إسلامه جادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية [الأنبياء: 98]، آالهتنا أي الأصنام خير عندك أم عيسى؟، فإن كان في النار، فلتكن آلهتنا معه.

والجواب عن هذه الشبهة بوجهين: الأول: أن "ما" لغير ذوي العقول، فالإشكال نشأ عن الجهل باللغة العربية. والثاني: أن عيسى والملائكة خُصّوا عن هؤلاء بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101].

[تنبيه]: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وكأن السبب في ذلك ما ذكره محمد بن

(1)"المرعاة" 1/ 284.

ص: 108

إسحاق في "السيرة" -1440 - حيث قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} الآية [الأنبياء: 98] ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزِّبَعْري التميمي حتى جلس، فقال الوليد بن الغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، سلوا محمدًا أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"كلُّ من أحب أن يُعبَد من دون الله فهو مع عبده"، فإنهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته، فأنزل الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]: أي عيسى وعزير ومن عُبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله، ونزل فيما يُذكر من أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات [الأنبياء: 26]، ونزل فيما يُذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه يُعبد من دون الله، وعَجِب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]: أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله، ثم ذُكر عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً في الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 59، 61] أي ما وضع على يديه من الآيات من إحياء

ص: 109

الموتى، وإبراء الأسقام، فكفى به دليلًا على علم الساعة، يقول:{فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 61] انتهى (1).

وقوله: {بَلْ هُمْ} أي الكفار {قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي كثيرو الخصومة. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه هذا حسنٌ (2).

[فإن قلت]: ضعفه بعضهم؛ لأجل الكلام في أبي غالب.

[قلت]: أبو غالب هذا رجل معروف، رَوَى عن جماعة، وروى عنه جماعة، ووثّقه موسى بن هارون، والدارقطنيّ، وقال ابن معين: صالح الحديث، وقال ابن عديّ: لا بأس به، وتكلم فيه غيرهم كما سبق في ترجمته، وصحح الترمذيّ حديثه هذا، وكذا صححه الحاكم في "المستدرك"(2/ 448)، ووافقه الذهبيّ، فمن كان بهذه الحالة، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بالاعتساف. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (7/ 48) بهذا السند فقط، وأخرجه (الترمذيّ) في "التفسير" (3273) و (أحمد) في "مسنده" 5/ 252 و 256. و (الحاكم) في "المستدرك" 2/ 448 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبيّ، والله تعالى أعلم.

(1)"تفسير ابن كثير" 4/ 141 - 142.

(2)

حسّنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى، وأحسن في ذلك، انظر "صحيح الترغيب والترهيب" حديث رقم (137). وأما قول الدكتور بشار: إسناد ضعيف بسبب أبي غالب، فليس بصواب، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد.

ص: 110

(المسألة الثالثة): في البحث عما يتعلّق بالجدل:

قد تكلّمتُ فيما سبق في نبذة من معنى الجدل، ووعدت أن أتمّم البحث فيه هنا، فوفاءً بما وعدت أقول:

قال الحافظ أبو بكر الخطيب رحمه الله: أما الجدل، فهو تردّد الكلام بين الخصمين إذا قصد كل واحد منهما إحكام قوله، ليدفع به قول خصمه، وهو مأخوذ من الإحكام، يقال: دِرْعٌ مجدولةٌ، إذا كانت محكمةَ النسج، وحبلٌ مجدُولٌ: إذا كان محُكم الْفَتْل، والجدالة: وجه الأرض إذا كان صلبًا، ولا يصحّ الجدل إلا من اثنين، ويصحّ النظر من واحد، والجدَل كلّه سؤال وجواب، فالسؤال هو الاستخبار، والجواب هو الإخبار.

قال: احتجّ من ذهب إلى إبطال الجدال بقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى: 35]، وبقوله تعالى:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} الآية [آل عمران: 20].

ومن السنّة بحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضلّ قوم

" الحديث (1). وعن الخليل بن أحمد قال: "ما كان جدَلٌ قطّ إلا أتى بعده جدَلٌ يُبطله" (2).

وعن إسحاق بن عيسى الطبّاع قال: رأيت مالك بن أنس يَعيب الجدال والمراء في الدين، قال: أفكلما كان رجلٌ أجدل من رجل أردنا أن يردّ ما جاء به جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (3).

وعن إسحاق بن عيسى بن الطباع قال: رأيت رجلًا من أهل المغرب جاء مالكًا، فقال: إن هذه الأهواء كثُرت قِبَلنا، فجعلت على نفسي إن أنا رأيتك أن آخذ بما تأمرني، فوصف له مالك شرائع الإسلام: الزكاة، والصلاة، والصوم، والحجّ، ثم قال: خذ

(1) هو حديث حسنٌ كما أسلفناه قريبًا.

(2)

إسناده صحيح.

(3)

إسناده صحيح.

ص: 111

بهذا، ولا تُخاصم أحدًا في شيء.

وعن عبد الله الأزديّ قال: حدّثني عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون بهذه الرسالة، وقرأها عليّ:

"أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتّباع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركِ ما أحدث المُحدِثون في دينهم مما قد كُفُوا مؤونته، وجَرَت فيهم سنته، ثم اعلم أنه لم تكن بدعة قطّ إلا وقد مضى قبلها دليلٌ عليها، فعليك بتقوى الله، ولزوم السنّة، فإنها لك -بإذن الله- عِصمةٌ، وإنما جُعلت السنّة يُستنّ بها، ويُعتمد عليها، وإنما سنّها من علم ما في خلافها من الزلل والخلاف والتعمّق، فارض لنفسك ما رَضُوا لأنفسهم، فإنهم بعلم وقَفُوا، وببصرٍ ما كفّوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضلٍ لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، فإن كان الهدى ما أحدثتم، وما أنتم عليه لقد سبقتموهم، ولئن قلتم: حَدَثَ حَدَثٌ بعدهم فما أحدثه إلا من اتّبع غير سبيلهم، ورَغِب بنفسه عنهم، وقد وضعوا ما يَكفِي، وتكلّموا بما يَشفِي، فما دونهم مُقَصِّر، ولا فوقهم محسنٌ، وإنهم من ذلك لعلى هدى مستقيم، فارجعوا إلى معالم الهدى، وقولوا كما قالوا، ولا تُفرّقوا بين ما جَمَعوا، ولا تَجمعوا بين ما فرّقوا، فإنهم جُعلوا لكم أئمة وقادة، هم حَمَلُوا إليكم كتاب الله، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فهم على ما حَمَلوا إليكم من ذلك أُمناءُ، وعليكم فيه شُهداء، واحذروا الجدل، فإنه يُقرّبكم إلى كلّ موبقة، ولا يُسْلِمكم إلى ثقة.

فنظرنا في كتاب الله تعالى، وإذا فيه ما يدلّ على الجدال والحِجَاج، فمن ذلك قوله تبارك وتعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية [النحل: 125]، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالجدال، وعلّمه فيها جميع آدابه، من الرفق والبيان والتزام الحقّ والرجوع إلى ما أوجبته الحجة. وقال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية [العنكبوت: 46]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ} الآية [البقرة: 258]. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]، وكتاب الله تعالى لا

ص: 112

يتعارض، ولا يَختلف، فتضمّن الكتاب ذمّ الجدال، والأمرَ به، فعلمنا علمًا يقينًا أن الذي ذمّه غير الذي أمر به، وأن من الجدال ما هو محمود مأمورٌ به، ومنه مذمومٌ منهيّ عنه، فطلبنا البيان لكلّ واحد من الأمرين، فوجدناه تعالى قد قال:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]، وقال:{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35]، فبيّن الله في هاتين الآيتين الجدال المذموم، وأعلمنا أنه الجدال بغير حجة، والجدال في الباطل.

فالجدال المذموم وجهان: أحدهما: الجدال بغير علم. والثاني: الجدال بالشَّغَب والتمويه؛ نُصرةً للباطل بعد ظهور الحقّ وبيانه، قال الله تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5].

وأما الجدال المحقّ، فمن النصيحة في الدين، ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام حيث قالوا:{يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]، وجوابه لهم:{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وعلى هذا جرت سُننٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرج بسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"(1).

فأوجب المناظرة للمشركين، كما أوجب النفقة والجهاد في سبيل الله، وعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَضَع السؤال موضعه، وكيفيّةَ المحاجّة في الحديث الذي ذَكَر فيه محاجّة آدم موسى عليهما السلام.

ثم أخرج بسنده عن طاوس، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يُحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "احتجّ آدم وموسى، فقال موسى يا آدم أنت أبونا خَيّبتنا، وأخرجتنا من الجنّة، فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله برسالته، وكتب لك التوراة بيده، لم تلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني

(1) حديث صحيح رواه أبو داود 2504، والنسائي 6/ 7، والدارميّ 2/ 213، والحاكم 2/ 81، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ.

ص: 113

بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحجّ آدم موسى" (1). يعني آدم هو حجّ موسى.

قال الخطيب: وَضَع موسى الملامة في غير موضعها، فصار محجوجًا، وذلك أنه لام آدم على أمر لم يفعله، وهو خروج الناس من الجنّة، وإنما هو فعل الله تعالى، ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الوجبة لذلك لكان واضعًا للملامة موضعها، ولكان آدم محجوجًا، وليس أحدٌ ملومًا إلا على ما يفعله، لا على ما تولّد من فعله مما فعله غير، والكافر إنما يُلام على فعل الكفر، لا على دخول النار، والقاتل إنما يُلام على فعله لا على موت مقتوله، ولا على أخذ القصاص منه.

فعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كيف نسأل عند المحاجّة، وبين لنا أن المحاجة جائزة، وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجًا، وظهر بذلك قول الله تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].

وليس هذا الحديث الذي ذكرناه من باب إثبات القَدَر في شيء، وإنما هو وارد فيما وصفْنَاه من محاجّة آدم وموسى، وإثبات القدر إنما صحّ في آيات وأحاديث أُخَر.

وعن الشعبيّ، قال: قال عمر لزياد بن حُدير: أتدري ما يَهدِم الإسلام؟. فلا أدري ما أجابه، قال: فقال عمر: زَلّة عالمٍ، وجدالُ منافقٍ، وأئمة مُضلّون". وقد تَحاجّ المهاجرون والأنصار، وحاجّ عبد الله بن عبّاس الخوارج بأمر عليّ بن أبي طالب، وما أَنكَر أحدٌ من الصحابة قطّ الجدال في طلب الحقّ.

وأما التابعون ومن بعدهم، فتوسّعوا في ذلك، فثبت أن الجدال المحمود هو طلب الحقّ ونصره، وإظهار الباطل، وبيان فساده، وأن الخصام بالباطل هو اللدد الذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أبعض الرجال إلى الله الألدّ الخصم (2).

(1)"إسناده صحيح".

(2)

متّفقٌ عليه.

ص: 114

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخَصْم"(1).

قال: وجميع ما حكينا أنه تعلّق به من أنكر المجادلة، محمولٌ على أنه أريد به الجدال المذموم الذي وصفناه، على أن مالك بن أنس قد بيّنه، وأنه الجدَلُ الذي يُقصد به ردّ ما جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك قولُ الخليل:"ما كان جدَلٌ قطّ إلا أتى بعده جدَلٌ يُبطله"، أراد به الجدال الذي ينصر به الباطل؛ لأن ما تقدّم وكان حقّا لا يأتي بعده شيء يُبطله، وهو في معنى قولِ عمر بن عبد العزيز:"من جَعَل دينه غَرَضًا للخصومات أكثر التنقّل"(2). انتهى كلام الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى (3)، وهو كلام نفيس، وبحثٌ أنيس. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

48 -

(حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِليٍّ، أَبُو هَاشِمِ بْنِ أَبِي خِدَاشٍ الْمُوْصِليُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِحْصَنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا، وَلَا صَلَاةً، وَلَا صَدَقَةً، وَلَا حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَا جِهَادًا، وَلَا صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا، يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن حفص الْعَسْكَرِيُّ، أبو سهل الدّقّاقُ السَّامَرِيّ، مولى بني هاشم، لقبه بُنَان، صدوقٌ [10].

رَوَى عن أبي معاوية الضرير، وحسين بن علي الجعفي، وكثير بن هشام، ومحمد

(1) متّفقٌ عليه.

(2)

حديث صحيح رواه الآجريّ في "الشريعة" ص 56 واللالكائيّ في "أصول الاعتقاد"(216).

(3)

راجع "الفقيه والمتفقّه" 1/ 551 - 562.

ص: 115

ابن خِداش، ومحمد الدولابي، وغيرهم. وروى عنه النسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود، وعلي بن سعيد العسكري، والخرائطي، ومحمد بن العباس الأخرم، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق. وقال الخطيب: كان ثقة.

وذكره النسائي في "أسماء شيوخه"، وقال: شويخ كتبنا عنه بالثغر صدوق. تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 49 و3342.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عِليٍّ، أَبُو هَاشِمِ بْنِ أَبِي خِدَاشٍ) -بكسر المعجمة، وتخفيف الدال- الْمُوْصِليُّ، ثقة عابد [10].

رَوَى عن الْمُعَافَى بن عمران، وعيسى بن يونس، وابن عيينة، وعفيف بن سالم، والقاسم بن يزيد الجرمي، ومحمد بن محصن الْعُكَاشي، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن أخيه عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش، ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، وداود بن سليمان العسكري، وعلي بن حرب، ومحمد بن مسلم بن وَارَة، وغيرهم.

قال العجلي: ثقة رجل صالح. وقال تمتام: قلت لابن معين: كتبتُ "جامع الثوري" عن أبي هاشم، عن المعافى، فقال: إن هذا الرجل نظير المعافى، أو أفضل منه. وعن بشر بن الحارث أنه كان يقول: وددت أني ألقى الله تعالى بمثل عمل أبي هاشم. وقال أحمد بن دباس الأزدي: كنا عند المعافى، فأقبل أبو هاشم، فقال: من القوم -يعني الأبدال-. وقال العجلي: كلُّ شيء رُوي عن أبي هاشم حديثان. وقال إدريس بن سُليم: كنا عند غسان ابن الرَّبيع، أو يعلى بن مهدي، فجاء نَعْيُ أبي هاشم، وقال قائل: مات شيخ الموصل، فقال: نعم، وشيخ الجزيرة ومصر والشام.

قال أبو زكريا في "تاريخ المُوْصِل": من أهل الصلاح والفضل والجهاد، قُتل في سبيل الله تعالى بشِمْشَاط مُقبلًا غير مُدْبر سنة اثنتين وعشرين ومائتين. تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط (1).

(1) وله عند النسائيّ حديث واحد أيضًا، وهو حديث عائشة رضي الله عنها رقم =

ص: 116

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِحْصَنٍ) نُسِبَ إلى جدّه الأعلى، هو: محمد بن إسحاق بن إبراهيم ابن محمد بن عُكاشَة بن مِحْصَن الأسديّ الْعُكَاشيّ، كذّبوه [8].

رَوَى عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وغيرهم. ورَوَى عنه أبو هاشم محمد بن خِداش الوصلي، ومُصعَب بن سعيد، وسليمان ابن سلمة الخبائري، وغيرهم.

قال البخاري عن يحيى بن معين: كذّاب. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: كذاب، وقال في موضع آخر: مجهول. وقال ابن حبان: شيخ يضع الحديث على الثقات، لا يحل ذكره إلا على سبيل القدح فيه. وقال الدارقطنيّ: متروك يَضَعُ. ورَوَى له أبو أحمد أحاديث، ثم قال: وهذه الأحاديث مع غيرها لمحمد بن إسحاق كلها مناكير، موضوعة.

وقال ابن حبان أيضا: يروي المقلوبات عن الثقات، لا يكتب حديثه إلا للاعتبار، وقال ابن أبي حاتم: رأى أبي معي أحاديث من حديثه، فقال: هذه الأحاديث كذب موضوعة. وقال العقيليّ: الغالب على حديثه الوهم والنكارة، وأورد له بسند صحيح إلى أبي بكر الصديق حديث:"من أكرم مؤمنا فكأنما أكرم الله تعالى"، وقال: حديث باطل لا أصل له. وقال الأزدي: منكر الحديث.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ) -بسكون الموحّدة- واسمه شِمْر -بكسر المعجمة- ابن يقظان بن عبد الله الْمُرْتحل، أبو إسماعيل، ويقال: أبو سعيد الرمليّ، وقيل: الدمشقيّ، ثقة [5].

أرسل عن عتبة بن غَزْوان، ورَوَى عن أَبِي أُبَيّ بن أم حَرَام امرأة عبادة، وأنس بن مالك، وأم الدرداء الصغرى، وبلال بن أبي الدرداء، وعقبة بن وَسّاج، وعبد الله

= (2656)"وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة".

ص: 117

الدَّيْلميّ من وجه ضعيف، بل موضوع، وغيرهم. ورَوى عنه مالك، والليث، وابن المبارك، وابن إسحاق، وآخرون.

قال ابن معين ودحيم ويعقوب بن سفيان والنسائي: ثقة، وقال ابن المديني: كان أحد الثقات، وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الذُّهْليّ: يا لَكَ من رجل. وقال الدارقطني: الطرُق إليه ليست تصفو، وهو ثقة، لا يخالف الثقات، إذا روى عنه ثقة. وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبيه: رأى ابن عمر، وروى عن واثلة بن الأسقع، وهو صدوق ثقة. وقال البخاري في "التاريخ": سمع ابن عمر. وأخرج الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق إبراهيم قال: رأيت ابن عمر يَحْتَبي يوم الجمعة. انتهى. وقال الذهبي في "مختصر المستدرك": أرسل عن ابن عمر، وتبعه العلائي في "المراسيل"، فقال: لم يدرك ابن عمر، وهو متعقب بما تقدّم آنفًا. وقال النسائي في "التمييز": ليس به بأس. وقال الخطيب: ثقة من تابعيّ أهل الشام، يُجمَع حديثه. وقال ابن عبد البر في "التمهيد": كان ثقة فاضلا له أدبٌ، ومعرفة، وكان يقول الشعر الحسن. انتهى. وأغرب يحيى بن يحيى الليثي، فقال في "الموطإ" عن إبراهيم بن عبد الله بن أبي عبلة، و"عبد الله" زيادة لا حاجة إليها.

وقال ضمرة بن ربيعة: ما رأيت أفصح منه، مات سنة إحدى أو اثنين وخمسين ومائة، كذا قال محمد بن أبي أسامة، وأبو مسلم المستملي، عن ضمرة. وقال غير واحد عن ضمرة: مات سنة (52) من غير شكّ، وكذا قال ابن يونس، وقال حيوة بن شُريح عن ضمرة: مات سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين. أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم 49 و 3448.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الدَّيْلَمِيِّ) هو: عبد الله بن فَيْروز، أبو بِشْر، ويقال: أبو بُسْر، أخو الضحاك بن فيروز، وعَمّ الْعَرِيف بن عَيّاش بن فيروز، كان يسكن بيت المقدس، من كبار التابعين، ومنهم من ذكره في الصحابة [2].

رَوَى عن أبيه، وأُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان،

ص: 118

وعبد الله بن عمرو بن العاص، ويعلى بن أمية، وغيرهم. ورَوى عنه ربيعة بن يزيد على خلاف فيه، وأبو إدريس الْخَوْلانيّ، وعروة بن رُويم، ووهيب بن خالد الحمصيّ، ويحيى ابن أبي عمرو الشيباني، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، إن كان محفوظًا، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة. وقال العجلي: شامي تابعيّ ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره ابن قانع "في معجم الصحابة"، وأبو زرعة الدمشقي في تابعي أهل الشام، وأما ابن حبان فقال: هو عبد الله بن دَيْلَم بن هَوْشَع الحميري، عِداده في أهل مصر، كذا قال.

وقال أبو أحمد الحاكم في "الكنى": قال مسلم: أبو بشر -يعني بالمعجمة- قال: وقد بَيّنّا أن ذلك خطأ أخطأ فيه مسلم وغيره، وخليق أن يكون محمد -يعني البخاري- قد اشتبه عليه مع جلالته، فلما نقله مسلم من كتابه تابعه عليه، ومن تأمل كتاب مسلم في "الكنى" عَلِم أنه منقول لمن كتاب محمد حَذْوَ الْقُذَّة بالْقُذّة، وتَجَلّد في نقله حَقّ الجلادة؛ إذ لم ينسبه إلى قائله، والله يغفر لنا وله. انتهى. أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (4) أحاديث فقط برقم 49 و 74 و 1398 و 3368.

6 -

(حُذَيْفَةُ) بن الْيَمَان، واسم اليمان: حُسَيل -مصغّرًا- ويقال: حِسْل بكسر، فسكون- بن جابر بن ربيعة بن فَرْوة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عَبْس الْعَبْسيّ -بفتح المهملة، وسكون الموحّدة- حليف بني عبد الأشهل، كان أبوه أصاب دمًا، فهَرَب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان؛ لأنه حالف اليمانية، وتزوّج والدة حذيفة من بني عبد الأشهل، وأسلم هو وأبوه، وأرادا حضور بدر، فأخذهما المشركون، فاستحلفوهما فحلفا لهم أن لا يشهدا، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:"نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم"، وشهدا أُحُدًا، فقتل اليمان بها.

رَوَى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وروى عنه جابر بن عبد الله، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وأبو الطفيل، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وحُصين بن جندب أبو ظَبْيان، ورِبْعي بن حِرَاش، وزِرّ بن حُبيش، وزيد بن وهب،

ص: 119

وأبو وائل، وصِلَةُ بن زُفَر، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الله بن عُكيم، والأسود بن يزيد النخعي، وأخوه عبد الرحمن بن يزيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وهَمّام بن الحارث، ويزيد بن شريك التيمي، وجماعة.

قال العجلي: استعمله عمر على المدائن، ومات بعد قتل عثمان بأربعين يومًا، سكن الكوفة، وكان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقبه كثيرة مشهورة. وقال علي بن زيد بن جُدْعان عن ابن المسيب، عن حذيفة: خَيَّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنُّصْرة، فاخترت النُّصرة. وقال عبد الله بن يزيد الخطمي عن حذيفة: لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون حتى تقوم الساعة. رواه مسلم. وكانت له فتوحات سنة (22) في الدِّينَوَر، وماسَبَذَان، وهَمَذَان، والرَّيّ، وغيرها. وقال ابن نُمير وغيره: مات سنة (36) رضي الله عنه. أخرج له الجماعة، وله أكثر من (100) حديث، اتفق الشيخان على (12) وانفرد البخاريّ بـ (8) ومسلم بـ (17) حديثًا، وله في هذا الكتاب (35) حديثًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا، وَلَا صَلَاةً، وَلَا صَدَقَةً، وَلَا حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَا جِهَادًا، وَلَا صَرْفًا، وَلَا عَدْلًا) قيل: هما التوبة والفدية، وكأن المراد التوبة من غير البدعة. قاله السنديّ. وقال في "النهاية": قد تكرّرت هاتان اللفظتان في الحديث، فالصرف: التوبة، وقيل: النافلة، والعدل: الفِدية، وقيل: الفريضة. انتهى (1). (يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ كَما تَخْرُجُ الشَّعَرَةُ) واحدة الشعر، وهو بفتح، فسكون، ويُجمع على شُعور، كفلس وفلوس، بفتحتين، ويُجمع على أشعار، كسبب وأسباب، وهو من الإنسان وغيره مذكّر. قاله الفيّوميّ (2)(مِنَ الْعَجِينِ) بفتح، فكسر، فَعِيل بمعنى مفعول، يقال: عجنَت المرأة العجين عَجْنًا من

(1)"النهاية" 3/ 24.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 314 - 315.

ص: 120

باب ضرب. والكلام على التشبيه، شبّه سُرعة خروجه من الإسلام بسهولة، وانسلاخه منه دون أن يبقى له منه أثرٌ بخروج الشعرة من خلال العجين دون أن يبقى عليها شيء من آثار العجين.

وهذا على تقدير صحّة الحديث محمول على البدع التي يحكم على صاحبها بالرّدّة، لا على جميع أنواع البدع، وهو معنى قول الله عز وجل في حقّ الكفّار:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا مما تفرّد به المصنّف، لم يُخرجه غيره، وهو موضوعٌ؛ لأنه من رواية محمد بن محِصن، وهو كذّاب، كما تقدّم في ترجمته، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قال الإمام الحافظ الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الأوسط" 4/ 463 الحديث رقم (4202): حدّثنا عليّ بن عبد الله الفرغانيّ، قال: ثنا هارون بن موسى الْفَرْويّ، قال: حدّثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حجب التوبة عن صاحب كلّ بدعة".

وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال الشيخين، غير هارون بن موسى الْفَرْويّ، وقد روى عنه جماعة، ووثقه الدارقطنيّ، وابن حبّان، ومسلمة بن القاسم، وقال النسائيّ: لا بأس به. وقال أبو حاتم: شيخ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث الصحيح يُغني عن الحديث الموضوع الذي أورده المصنّف، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

50 -

(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَنَّاطُ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبَى اللَّه أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ

ص: 121

صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَّى يَدَعَ بِدْعَتُه").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ) بن حُصين الكنديّ، أبو سعيد الأشجّ الكوفيّ، أحد مشايخ الأئمة الستةَ دون واسطة، ثقة، من صغار [10] 1/ 11.

2 -

(بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ الحُنَّاطُ) -بالحاء المهملة والنون (1) - صدوقٌ [8].

وقال في "تهذيب التهذيب": جـ: 1 ص: 40 بشر بن منصور الحناط عن أبي زيد، عن أبي المغيرة، عن ابن عباس بحديث: "أبَى الله أن يَقبَل عمل صاحب بدعة

" الحديث، وعنه به أبو سعيد الأشجّ قال: وكان ثقة. وقال أبو زرعة: لا أعرفه، ولا أعرف أبا زيد. وقال ابن أبي حاتم: رَوَى عبد الرحمن بن مهدي، عن بِشْر بن منصور الحناط، عن شعيب بن عمرو، قاله في ترجمة شعيب، فإن كان ابن مهدي رَوَى عنه فقد ثبتت عدالته، ويحتمل أن يكون هو السليمي. انتهى.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

3 -

(أَبُو زَيْدٍ) مجهول [7] وقيل: هو عبد الملك بن ميسرة. قاله في "التقريب".

وقال في "تهذيب التهذيب": "أبو زيد" عن أبي المغيرة، عن ابن عبّاس بحديث:"أبي الله أن يَقبَل عمل صاحب بدعة"، وعنه بشر بن منصور الحنّاط، قال أبو زرعة: لا أعرف أبا زيد، ولا أبا المغيرة. وقال أبو القاسم الطبرانيّ: أبو زيد عندي هو عبد الملك ابن ميسرة الزّرّاد، كذا قال، وفيه نظر. انتهى.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

4 -

(أبو المغيرة) مجهول [4] قاله في "التقريب".

وقال في "تهذيب التهذيب": أبو المغيرة عن ابن عباس في ذمّ البدعة، روى بشر

(1) وقع في بعض النسخ "الخيّاط" بالخاء المعجمة، والتحتانية، بدل الحاء المهملة، والنون، وهو تصحيف، فتنبّه.

ص: 122

بن منصور عن أبي زيد عنه، قال أبو زرعة: لا أعرفهم. انتهى.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

5 -

(عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما 3/ 27. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أبَى اللَّهُ) أي امتنع (أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ) أي أنه لا يقبل صالح عملهم، ولو شفع لهم شفيع في قبولهم فرضًا، ولإفادة هذا المعنى قيل: "أبي الله"، وإلا فلو قيل: لا يقبل الله لكفى. قاله السنديّ (حَتَّى يَدَعَ بِدْعَته) غاية لعدم القبول، فيدُلّ على أنه إن تاب عن بدعته يُقبل عمله الذي عمله في حال البدعة، ولو جُعل غاية للعمل لدلّ على أنه لا يقبل عمله الذي عمله حال البدعة وإن تاب، وهو بعيد لفظًا ومعنًى، ولعلّ المراد بالبدعة الاعتقاد الفاسد، دون العمل الفاسد كما عليه الاصطلاح اليوم. قاله السنديّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لو صحّ الحديث لما كان للتخصيص وجه، فإنه يدل على عموم البدع الاعتقاديّة والأعمالية، فتفطّن. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف، وهو ضعيفٌ؛ لجهالة رجال إسناده، كما سبق في تراجمهم آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

51 -

(حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِي، وَهَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ، وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ قَصْرٌ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ، وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ في وَسَطِهَا، وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ في أَعْلَاهَا") *

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ) هو: عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو بن

ص: 123

ميمون القرشي الأموي مولى آل عثمان، أبو سعيد الدمشقي القاضي المعروف بدُحيم ابن اليتيم، ثقة حافظٌ متقنٌ [10].

رَوَى عن الوليد بن مسلم، وسفيان بن عيينة، ومروان بن معاوية، وعُمر بن عبد الواحد، وابن أبي فُديك، وأبي ضمرة، وبشر بن بكر التِّنِّيسيّ، وحبيب بن إسحاق، وأيوب بن سُويد الرَّمْليّ، ومحمد بن شعيب بن شابور، ومعروف الخياط التابعي، وجماعة.

ورَوى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وروى النسائي أيضًا عن أحمد بن المُعَلَّى القاضي، وزكرياء بن يحيى السِّجزي عنه، وابناه: إبراهيم، وعمرو، وبَقِيّ بن مَخْلَد، والحسن بن محمد الزعفرانيّ، وهو من أقرانه، وأبوا زرعة: الرازيُّ، والدمشقيّ، وأبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وإبراهيم الحربي، وأحمد ابن منصور الرَّمَاديّ، وجعفر بن محمد الفِرْيابيّ، وعبد الله بن محمد بن يسار الفرهيانيّ، ومحمد بن الحسن بن قتيبة، ومحمد بن خُرَيم الْعُقيليّ، وجماعة.

قال عبدان الأهوازي: سمعت الحسن بن علي بن بَحْر يقول: قَدِمَ دُحَيم بغداد، فرأيت أبي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وخلف بن سالم قعودا بين يديه. وقال الخطيب: كان ينتحل في الفقه مذهب الأوزاعي. وقال ابن يونس: قدم مصر، وهو ثقة ثبت. وقال أبو بكر المَرُّوذِيُّ: وسمعته -يعني أحمد- يثني علي دُحيم، ويقول: هو عاقل رَكِين. وقال العجلي وأبو حاتم والنسائي والدارقطني: ثقة، زاد النسائي: مأمون لا بأس به. وقال أبو داود: حجة لم يكن بدمشق في زمنه مثله، وأبو الجماهر أسند منه، وهو ثقة. وقال أبو حاتم: كان دُحيم يُمَيِّز ويَضبِط حديثَ نفسه. وقال الإسماعيلي: سئل عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني مَنْ أوثق أهل الشام ممن لقيت؟ فقال: أعلاهم دُحيم. وقال أيضًا: هو أحب إليّ من هشام بن عمار، وهشام مُسِنّ. وقال ابن عدي: هو أثبت من حرملة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يَكرَه أن يقال له: دُحيم، وكان من المتقنين الذين يحفظون علم بلدهم وشيوخهم وأنسابهم، ومات بطبرية. وقال

ص: 124

ابن حبان في موضع آخر: دُحيم تصغير دَحمان، ودحمان بلغتهم خبيث. وقال مسلمة: ثقة وقال الخليلي في "الإرشاد": كان أحد حفاظ الأئمة، متفق عليه، ويعتمد عليه في تعديل شيوخ الشام وجرحهم، وآخرُ من رَوَى عنه بالشام سعيد بن هاشم بن مَرْثَد.

قال ابنه عمرو: وُلد في شوال سنة (17)، قال: ومات في رمضان سنة خمس وأربعين ومائتين، وفيها أرّخه غير واحد، زاد: أبو سعيد بن يونس: بالرملة. أخرج له الجماعة، سوى مسلم، والترمذيّ، وفي "الزهرة": أخرج عنه البخاري ثلاثة أحاديث (1).

وله في هذا الكتاب (91) حديثًا.

2 -

(هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن محمد بن مالك بن زُبيد الهَمْدانيّ، أبو القاسم الكوفيّ، صدوق من صغار [10].

رَوَى عن أبيه، وحفص بن غياث، وابن عيينة، والمحاربي، ومعتمر بن سليمان، وأبي خالد الأحمر، وعبدة بن سليمان، وابن أبي فديك، وغيرهم. ورَوى عنه البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام"، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابنه موسى بن هارون، وأبو بكر الأثرم، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأحمد بن هارون الْبَرْدِيجيّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق. وقال علي بن الحسين بن الجنيد: كان محمد بن عبد الله ابن نمير يُبَجِّله. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن خزيمة: كان من خيار عباد الله. وقال النسائي في "أسماء شيوخه": نِعْمَ الشيخُ كان، وهو أحب إليّ من أبي سعيد الأشجّ، وكان قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال مطين: مات سنة ثمان وخمسين ومائتين. أخرج له البخاري في "جزء القراءة"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه. وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

3 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم ابن أبي فُديك، واسمه

(1) الذي في برنامج الحديث (صخر) أن البخاريّ روى عنه في "صحيحه" حديثين حديث رقم (3920) و (6163).

ص: 125

دينار الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8].

رَوَى عن أبيه، ومحمد بن عمرو بن علقمة حديثًا واحدًا، وهشام بن سعد، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وكثير بن زيد الأسلمي، وموسى بن يعقوب الزَّمْعيّ، وعبد الرحمن بن عبد المجيد السهمي، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وسَلَمَة بن وَرْدان، والضحاك بن عثمان، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، وغيرهم. ورَوى عنه الشافعي، وأحمد، والحميدي، وقتيبة، وأحمد بن صالح، وحاجب بن سليمان المُنبِجِيّ، والحسن بن داود المنكدري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، ودحيم، وهارون الحمال، وغيرهم.

قال النسائي: ليس به بأس. قال ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس بحجة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال البخاريّ: مات سنة مائتين. وقال ابن سعد: مات سنة (99)، وقال مرّة: مات سنة إحدى ومائتين. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.

4 -

(سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ) الليثي الْجُنْدعيّ مولاهم، أبو يعلى المدنيّ، ضعيفٌ [5].

رأى جابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع، وعبد الرحمن بن أشيم، ورَوى عن أنس بن مالك، ومالك بن أوس بن الحَدَثان، وأبي سعيد بن أبي المعلى، وسالم بن عبد الله بن عمر، وغيرهم. ورَوى عنه وكيع، والفضل بن موسى، والدراورديّ، وسفيان الثوري، وابن أبي فديك، والقعنبيّ، وغيرهم.

قال أبو موسى: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن أبي حاتم: ليس بقويّ، وتدبرت حديثه، فوجدت عامتها منكرة، لا يوافق حديثه، عن أنس حديث الثقات، إلا في حديث واحد يُكتب حديثه. وقال أبو داود، والنسائيّ: ضعيف. وقال النسائي في موضع آخر: ليس بثقة. وقال ابن عديّ: وفي مُتون بعض ما يرويه أشياء منكرة، خالف سائر الناس. وقال ابن سعد: قد رَأى عِدّة

ص: 126

من الصحابة، وكانت عنده أحاديث يسيرة، وكان ثبتًا فيها، ولا يُحتجّ بحديثه، وبعضهم يستضعفه، مات في خلافة أبي جعفر. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح، هو عندي ثقة، حسن الحديث. وقال الحاكم: حديثه عن أنس مناكير أكثرها. وقال العجلي، والدارقطنيّ: ضعيف. وقال ابن حبان: كان يَروِي عن أنس أشياء لا تُشبه حديثه، وعن غيره من الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، كأنه كان قد حَطَمَه السنّ، فكان يأتي بالشيء على التوهم، حتى خرج عن حدّ الاحتجاج، مات سنة (106). وأرّخه بن قانع سنة (7).

أخرجه له البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (50) و (3838).

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ) أي وقت مرائه، كما يدلّ عليه القرينة الآتية، ويحتمل الإطلاق (وَهُوَ بَاطِلٌ) جملة معترضة بين الشرط والجزاء للتنفير عن الكذب، فإن الأصل فيه أنه باطلٌ، أو جملة حاليةٌ من المفعول: أي والحال أنه باطلٌ، لا مصلحة فيه من مرخّصات الكذب، كما في الحرب، أو إصلاح ذات البين، والمعاريض، أو حال من الفاعل: أي وهو ذو باطل بمعنى صاحب بطلان. قاله القاريّ (1).

وقال السنديّ في "شرحه": قوله: "من ترك الكذب، وهو باطل" يحتمل أن المراد بالكذب المراء بالباطل، وجملة "وَهُوَ بَاطِلٌ" بتقدير "ذو باطل" حالٌ من ضمير "تَرَكَ": أي وهو مبطلٌ، وعَبّر بالكذب للتنبيه من أوّل الأمر على البطلان، وإلى هذا يشير كلام ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ". ويحتمل أنه على ظاهره، وجملة "وهو

(1)"المرقاة" 8/ 576 - 577.

ص: 127

باطلٌ" حال من الكذب، وهو الذي ذكره ابن رجب في شرح الكتاب، قال: هي جملة حاليّةٌ: أي حال كونه باطلًا، فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: "ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس، ويقول خيرًا، ويَنمِي خيرًا"، قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرَخَّصُ في شيء مما يقول الناس كذب، إلا في ثلاث: الحربِ، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.

قال: وروى أبو داود عن أبي أُمامة مرفوعًا: "أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنّة لمن ترك المراء، وإن كان مُحِقّا، وببيت في وسط الجنّة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنّة لمن حسّن خلقه". وهذا يقتضي أن يُراد بـ "باطل" مازح بتقدير ذو باطل، وتُجعل الجملة حالًا من فاعل "ترك"، لا من مفعوله، وجعله حالًا من الفاعل هو الموافق لقرينه -أعني: وهو محقّ. بقي أن بين الحديثين تعارضًا، والظاهر أنه وقع من تغيير بعض الرواة. انتهى (1).

(بُنِيَ) بالبناء للمفعول (لَهُ قَصْرٌ) مرفوع على أنه نائب فاعل "بُني": أي بنى الله سبحانه وتعالى له بيتًا (في رَبَضِ الجَنَّةِ) بفتحتين: أي نواحيها، وجوانبها، لا في وسطها، وليس المراد خارجًا عن الجنّة كما قيل. قال القاريّ رحمه الله تعالى: وأما قول الشارح: هو ما حولها خارجًا عنها تشبيهًا بالأبنية التي حول المُدُن، وتحت القلاع، فهو صريح اللغة، لكنه غير صحيح المعنى، فإنه خلاف المنقول، ويؤدّي إلى المنزلة بين المنزلتين حسّا كما قاله المعتزلة معنًى، فالصواب أن المراد به أدناها كما يدلّ عليه قوله:(وَمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ) بكسر الميم والمدّ: أي الجدال خوفًا من أن يقع صاحبه في اللَّجَاج الموقع في الباطل (وَهُوَ مُحِقٌّ) في ذلك الجدال، فتركه كسرًا لنفسه، كيلا يرتفع على خصمه، وأن لا يظهر فضله عليه، فتواضع في ذلك مع كونه مُحِقّا فيه.

(1)"شرح السنديّ" 1/ 39.

ص: 128

قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: لا شكّ أن قوله: "وهو محقّ" حال من فاعل "ترك" وقع تتميمًا للمعنى، ومبالغةً. وقوله:"من ترك الكذب، وهو باطلٌ" قرينة له، فينبغي مراعاة هذه الدقيقة. فالمعنى: من ترك الكذب، والحال أنه عالمٌ ببطلانه في أمور الدين، لكن سنح له فيه منفعة دنيويّة، فتركها كسرًا لهواه، وإيثارًا لرضي الله تعالى على رضاه، بُني له بيتٌ في ربض الجنّة. ولمّا كانت مكارم الأخلاق متضمّنةً لترك رذائلها، وللإتيان بمحاسنها عقّبهما بقوله:"ومن حسّن خلقه" تحليةً بعد التخلية.

قال الشيخ أبو حامد الغزاليّ رحمه الله تعالى: حدّ المراء: الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما لفظًا، أو معنًى، أو في قصد المتكلّم، وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض، فكلّ كلام سمعته، فإن كان حقّا فصدّق به، وإن كان باطلًا، ولم يكن متعلّقًا بأمور الدين، فاسكت عنه. انتهى. (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فاسكت" أراد فيما إذا كان ذلك الباطل متعلّقًا بشخصيّته مثلًا، كأن يسبّه، ويَعيبه، فيتجاوز عنه، ولا يردّ عليه بالمثل، وإن كان له الحقّ في ذلك، كما قال سبحانه وتعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41]، بل صفح، وعفا إيثارًا لما هو الأفضل كما قال عز وجل:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال عز وجل:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، لا أنه يسكت على ما يسمعه من الباطل مطلقًا، يدلّ على ذلك قوله:"ولم يكن متعلّقا بأمور الدين". والله تعالى أعلم.

(بُنِيَ لَهُ في وَسَطِهَا) بفتحتين، قال في "القاموس": وَسَط الشيءِ محرّكةً: ما بين طرفيه، كأوسطه، فإذا سُكِّنَت كانت ظرفًا، أو هما فيما هو مُصْمَتٌ كالحلْقَة، فإذا كانت أجزاؤه مُتباينةً فبالإسكان فقط، أو كلُّ موضع صلح فيه "بَيْنَ" فهو بالتسكين، وإلا فبالتحريك. انتهى. والمعنى: بُني له بيتٌ في وسط الجنّة؛ لتركه كسر قلب من يُجادله،

(1)"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 320.

ص: 129

ودفعه رفعة نفسه، وإظهار نفاسة فضله، وهذا يُشعر بأن معنى صدر الحديث: أن من ترك المراء، وهو مُبطلٌ، فوضع الكذب موضع المراء؛ لأنه الغالب فيه، أو المعنى: أن من ترك الكذب، ولو لم يترك المراء بُني له في ربَض الجنة؛ لأنه حفظ نفسه عن الكذب، لكن ما صانها عن مطلق المراء، فلهذا يكون أحطّ مرتبةً منه. قاله القاري (1).

(وَمَنْ حَسَّنَ) بتشديد السين المهملة، من التحسين (خُلُقَه) بضمتين، ويجوز التخفيف بتسكين اللام: أي حسّن بالرياضة جميع أخلاقه التي من جملتها المراء والكذب (بُنِيَ لَهُ في أَعْلَاهَا) أي في أعلى الجنّة حسًّا ومعنًى. وهذا يدلّ على أن الخلُق مكتسبٌ، وإن كان أصله غريزيًّا، ويقوّيه ما أخرجه أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"اللهم أحسنت خَلْقِي فأَحسِن خُلُقِي". وما أخرجه مسلم وغيره من حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعًا: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يَهدي لأحسنها إلا أنت

" الحديث. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(مسألة): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا مما تفرّد به المصنّف، وهو ضعيف؛ لضعف سلمة بن وردان عند الجمهور، كما سلف في ترجمته، وأيضًا في متنه نكارة، فإنه جاء من حديث أبي أمامة رضي الله عنه في "سنن أبي داود"، وغيره، ولفظه:

4800 -

حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي أبو الجماهر، قال: حدثنا أبو كعب أيوب بن محمد السعدي، قال: حدثني سليمان بن حبيب المحاربيّ، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء، وإن كان مُحِقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".

وهو حديث حسنٌ، وأيوب بن موسى روى عنه أبو الجماهر، وقال: كان ثقةً،

(1)"المرقاة" 8/ 577.

ص: 130

وقال في "التقريب": صدوقٌ، وباقي رجاله كلهم ثقات، وقد أورد الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى للحديث شواهد في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، فراجعها 1/ 491 - 495 رقم (273).

والحاصل أن الحديث بهذا اللفظ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، لا باللفظ الذي ساقه المصنّف من حديث أنس رضي الله عنه، فتفطّن. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

ص: 131