المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌9 - (باب في الإيمان) - مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه - جـ ٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

الفصل: ‌9 - (باب في الإيمان)

‌9 - (بابٌ في الإيمان)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف بعقد هذا الباب بيان أن الإيمان قول وفعلٌ، وأن له شعبًا كثيرة، وأنه يتفاوت، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما يتبيّن ذلك فيما يورده من الأحاديث الآتية، إن شاء الله تعالى.

ومناسبة الباب للباب السابق كون الإيمان يبعث صاحبه على التخلّي عن الهوى الموجب لاتّباع الرأي والقياس الباطل، والتحلّي بتحكيم شرع من آمن به؛ لأنّ من أعظم شُعَبِه الحياءَ، فإذا كان العبد يستحيي من الله سبحانه وتعالى لا يتجاسر بأن يتقدّم بين يدي الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بشيء من الأحكام؛ لأن ذلك ينافي مقضى إيمانه، بل يجعل الكتاب والسنة حاكمين عليه، قال الله عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36].

وبالجملة فالإيمان هو الذي يَحْمِل العبد على التخلّي عن الرذائل، والتحلّي بالفضائل، اللهم ارزقنا إيمانًا كاملًا، واملأ به قلوبنا، آمين.

وأحسن ما نُقل عن أهل اللغة في تفسير "الإيمان" ما ذكره ابن منظور، فقال: وحَدّ الزَّجّاج الإيمانَ، فقال: الإيمان: إظهار الخضوع، والقبول للشريعة، ولِمَا أَتَى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، واعتقاده، وتصديقه بالقلب، فمن كان على هذه الصفة، فهو مؤمنٌ مسلمٌ، غير مُرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، وفي التنزيل العزيز:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]: أي بمصدّق، فالإيمان: التصديق. وقال في "التهذيب": وأما الإيمان، فهو مصدر آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمنٌ، واتّفق أهل العلم من اللغويين، وغيرهم أن الإيمان: معناه التصديق، قال الله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]، قال: وهذا موضع يحتاج إلى تفهيمه، وأين ينفصل المؤمن من المسلم،

ص: 199

وأين يستويان، والإسلام: إظهار الخضوع، والقبول لما أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه يُحْقَن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهارِ اعتقادٌ، وتصديقٌ بالقلب، فذلك الإيمانُ الذي يقال للموصوف به هو مؤمنٌ مسلمٌ، وهو المؤمن بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، غير مرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجبٌ عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، فهو المؤمن، وهو المسلم حقّا، كما قال الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]: أي أولئك الذين قالوا إنا مؤمنون، فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول الشريعة، واستسلم لدفع المكروه، فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مصدّق، فذلك الذي يقول: أسلمت؛ لأن الإيمان لا بدّ من أن يكون صاحبه صِدِّيقًا؛ لأن قولك: آمنت بالله، أو قال قائل: آمنت بكذا وكذا، فمعناه: صدّقت، فأخرج الله هؤلاء من الإيمان، فقال {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]: أي لم تُصدّقوا، إنما أسلمتم تعوّذًا من القتل، فالمؤمن مُبطنٌ من التصديق مثل ما يُظهر، والمسلم التامّ الإسلامِ، مظهر للطاعة، مؤمن بها، والمسلم الذي أظهر الإسلام تعوّذًا غير مؤمن في الحقيقة، إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين.

وقال الله تعالى حكايةً عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]: لم يختلف أهل التفسير أن معناه: ما أنت بمصدّق لنا، والأصل في الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه، كما صدّق بلسانه، فقد أدّى الأمانة، وهو مؤمنٌ، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه، فهو غير مؤدٍّ للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وهو منافقٌ، ومن زعم أن الإيمان هو إظهار القول، دون التصديق بالقلب، فإنه لا يخلو من وجهين:

[أحدهما]: أن يكون منافقًا يَنضَح عن المنافقين، تأييدًا لهم، أو يكون جاهلًا، لا يعلم ما يقول، وما يُقال له، أخرجه الجهل، واللَّجَاج إلى عناد الحقّ، وترك قبول

ص: 200

الصواب، أعاذنا الله من هذه الصفة، وجعلنا ممن علم، فاستعمل ما علم، أو جهل، فتعلّم ممن علم، وسلّمنا من آفات أهل الزيغ، والبدع بمنّه، وكرمه.

وفي قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ما يُبيّن لك أن المؤمن هو المتضمّن لهذه الصفة، وأن من لم يتضمّن هذه الصفة، فليس بمؤمن؛ لأن "إنما" في كلام العرب تجيء لتثبيت شيء، ونفي ما خالفه، ولا قوّة إلا بالله. انتهى ما ذكره ابن منظور (1).

وقد ذكرت في "شرح صحيح مسلم" في هذا الموضع مسائل جامعة، وفوائد نافعة، فراجعها تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

57 -

(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلِ ابْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْإِيمَانُ بِضْع وَسِتُّونَ، أَوْ سَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيْمَانِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ) -بفتح الطاء المهملة، وتخفيف النون، وبعد الألف فاء- هو: علي بن محمد بن إسحاق بن أبي شدّاد، ويقال: بإسقاط إسحاق، ويقال: اسم جده شروى، ويقال: عبد الرحمن، ويقال: نُباتة أبو الحسن الطنافسي الكوفي، مولى آل الخطاب، سَكَن الرَّيَّ، وقَزْوِين، ثقة عابدٌ [10].

رَوَى عن خاليه: محمد، ويعلى ابني عبيد الطنافسي، وابن إدريس، وحفص بن غياث، وأبي معاوية، ووكيع، وغيرهم. ورَوَى عنه ابن ماجه، وروى النسائي في "مسند

(1) راجع "لسان العرب" 13/ 23 - 24.

ص: 201

علي" عن زياد بن أيوب الطُّوسي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن وَارَةَ، وابنه الحسين ابن علي بن محمد الطنافسي، قاضي قزوين، وغيرهم.

قال أبو حاتم: كان ثقة صدوقًا، وهو أحب إلي من أبي بكر بن أبي شيبة في الفضل والصلاح، وأبو بكر أكثر حديثًا وأفهم. وقال الخليلي: إمام هو وأخوه الحسن بقزوين، ولهما مَحَلّ عظيم، وارتحل إليهما الكبار، وتوفي الحسن سنة (222) وعلي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (35) أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل. وله في هذا الكتاب (507) حديث.

2 -

(وَكِيعٌ) بن الْجَرّاح الرؤاسيّ الكوفيّ الثقة الحافظ العابد [9] تقدم في 1/ 3.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام الثقة الحجة [7] تقدّم في 5/ 41.

4 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر حفظه بآخره، روى له البخاريّ مقرونًا وتعليقًا [6].

رَوَى عن أبيه، وسعيد بن المسيب، والحارث بن مخلد الأنصاري، وأبي الحباب سعيد بن يسار، وعبد الله بن دينار، وعطاء بن يزيد الليثي، وخلق كثير.

وروى عنه ربيعة، والأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصار، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، ومالك، وشعبة، وابن جريج، والسفيانان، وخلق كثير.

قال ابن عيينة: كنا نَعُدّ سهلا ثبتا في الحديث. وقال حرب عن أحمد: ما أصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد: محمد -يعني بن عمرو- أحب إلينا، وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم. وقال الدُّوري عن ابن معين: سهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بحجة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر -يعني من العلاء-. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إلي من العلاء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لسهيل نُسَخ، وقد رَوَى عنه الأئمة، وحدث عن أبيه، وعن جماعة عن أبيه، وهذا يدل على تمييزه، كونُهُ مَيَّزَ ما سمع من أبيه، وما سمع من غير أبيه،

ص: 202

وهو عندي ثبت، لا بأس به، مقبول الأخبار. روى له البخاري مقرونا بغيره. وعاب ذلك عليه النسائي، فقال السُّلَمي: سألت الدارقطني: لِمَ ترك البخاري حديث سهيل في كتاب "الصحيح"؟ فقال: لا أعرف له فيه عذرًا، فقد كان النسائي إذا مَرّ بحديث سهيل، قال: سهيل والله خير من أبي اليمان، ويحيى بن بكير، وغيرهما. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء، مات في ولاية أبي جعفر، وكذا أرّخه ابن سعد، وقال: كان سهيل ثقة كثير الحديث. وأرّخه ابن قانع سنة (138).

أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره، وتعليقًا، والباقون، وله في هذا الكتاب (36) حديثًا.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقة [4].

رَوَى عن ابن عمر، وأنس، وسليمان بن يسار، ونافع مولى ابن عمر، وأبي صالح السمان، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عبد الرحمن، ومالك، وسليمان بن بلال، وشعبة، وصفوان بن سليم، وعبد العزيز بن الماجشون، وابن عجلان، وموسى بن عقبة، وسهيل بن أبي صالح، والسفيانان، وجماعة.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة مستقيم الحديث. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي: ثقة، زاد ابن سعد: كثير الحديث، وقال العجلي: ثقة. وقال ابن عيينة: لم يكن بذاك ثم صار. وقال الليث عن ربيعة: حدثني عبد الله بن دينار، وكان من صالحي التابعين، صدوقًا ديّنًا. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال الساجي: سئل عنه أحمد، فقال: نافع أكبر منه، وهو ثبت في نفسه، ولكن نافع أقوى منه. وقال الْعُقيليّ: في رواية المشايخ عنه اضطراب. وفي "العلل" للخلال أن أحمد سئل عن عبد الله بن دينار الذي رَوَى عنه موسى بن عُبيدة النهي عن بيع الكالىء بالكالىء، فقال: ما هو الذي رَوَى عنه الثوري، قيل: فمن هو؟ قال: لا أدري. وجزم

ص: 203

الْعُقيليّ بأنه هو، فقال في ترجمته: رَوَى عنه موسى بن عُبيدة، ونظراؤه أحاديث مناكير، الحمل فيها عليهم، ورَوَى عنه الأثبات حديثه عن ابن عمر في النهي عن بيع الولاء وعن هبته، ومما انفرد به حديثُ شعب الإيمان، رواه عنه ابنه، وسهيل، وابن عجلان، وابن الهاد، ولم يروه شعبة، ولا الثوريّ، ولا غيرهما من الأثبات.

وفي "رجال الموطإ" لابن الْحَذَاء: قيل: لا نعلم له رواية عن أحد إلا عن ابن عمر. انتهى.

وهذا قصور شديد ممن قاله، فقد سبق آنفًا أنه روى عن غيره.

قال ابن سعد، وعمرو بن علي: مات سنة سبع وعشرين ومائة. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

6 -

(أبو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات الثقة الثبت [3] تقدّم في 1/ 1.

7 -

(أَبِو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخه، فقد تفرّد به هو، والنسائيّ في "مسند عليّ رضي الله عنه".

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلى سفيان، وبالمدنيين بعده.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الله بن دينار عن أبي صالح، وهي من رواية الأقران، فإن وُجدت رواية أبي صالح عن عبد الله صار من المدبّج. قاله في "الفتح"(1).

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رأس المكثرين من الرواية، فقد روى (5374) حديثًا.

[تنبيه مهمّ جدّا]: علي بن محمد في شيوخ المصنّف اثنان، وكلاهما يرويان عن

(1) راجع "الفتح" 1/ 69.

ص: 204

وكيع، وغيره:

[أحدهما]: الطنافسيّ هذا، وقد أكثر عنه المصنّف، فروى عنه في هذا الكتاب (507) أحاديث، كما سبق بيان ذلك في ترجمته، ويعبّر المصنّف إذا روى عنه بقوله: حدّثنا عليّ بن محمد، وروى له أيضًا النسائيّ في "مسند عليّ" فقط.

والثاني: علي بن محمد بن أبي الْخَصِيب، وإذا روى عنه المصنّف لا يذكر أباه، بل يقول: حدثنا عليّ بن أبي الْخَصِيب، وقد روى عنه في هذا الكتاب في سبعة مواضع برقم 3446 و 3483 و 3494 و 3512 و 3515 و 3531 و 3543 وفي كلّ هذه المواضع يقول: حدثنا عليّ بن أبي الخصيب، ولم ينسبه إلى أبيه، فتنبّه لهذا الفرق المهمّ، فقد رأيت كثيرًا من طلاب العلم يستشكلونه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْإِيمَانُ") قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الإيمان في هذا الحديث يُراد به الأعمال، بدليل أنه ذكر فيه أعلى الأعمال، وهو قول:"لا إله إلا الله"، وأدناها: أي أقربها، وهو إماطة الأذى، وهما عملان، فما بينهما من قبيل الأعمال، وقد قدّمنا القول في حقيقة الإيمان شرعًا ولغةً، وأن الأعمال الشرعيّة تسمّى إيمانا مجازًا، وتوسّعًا؛ لأنها عن الإيمان تكون غالبًا. انتهى. "المفهم" 1/ 216.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "مجازًا" فيه نظر؛ بل الحقّ أنها تسمّى إيمانًا حقيقة، لا مجازًا؛ حيث إن الشرع سمّى الكلّ إيمانًا، فلا مجال لدعوى المجاز، فتبصّر. والله تعالى أعلم.

(بِضْعٌ) بكسر أوله، وحُكِي الفتح لغةً، وهو عدد مبهم، مقيد بما بين الثلاث إلى التسع، كما جزم به القزاز، وقال ابن سِيدَهْ: إلى العشر، وقيل: من واحد إلى تسعة، وقيل: من اثنين إلى عشرة، وقيل: من أربعة إلى تسعة، وعن الخليل: البضع: السبع، ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى:{فَلَبِثَ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 41]، وما رواه الترمذي بسند صحيح: أن قريشا قالوا ذلك لأبي

ص: 205

بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعا، ونقل الصغاني في "العباب": أنه خاص بما دون العشرة، وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع، قال: وأجازه أبو زيد، فقال: يقال: بضعة وعشرون رجلا، وبضع وعشرون امرأة، وقال الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، ولا بضع وألف، ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث، ويحتاج إلى تأويله.

وقال القرطبيّ: البضع، والبضعة واحدٌ، وهو من العدد بكسر الباء، وقد تُفتح، وهو قليلٌ، فأما من بضع اللحم، فبفتح الباء لا غير، والْبَضْعة من اللحم بالفتح: القطعة منه. واستعملت العرب البضع في المشهور من كلامها فيما بين الثلاث إلى العشر. وقيل: إلى التسع. وقال الخليل: البضع سبع. وقيل: هو ما بين اثنين إلى عشر، وما بين عشر إلى عشرين، ولا يقال في أحد عشر، ولا في اثني عشر. وقال الخليل أيضًا: هو ما بين نصف العقد، يريد من واحد إلى أربع. انتهى.

(وَسِتُّونَ، أَوْ سَبْعُونَ) هكذا في رواية سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار بالشكّ، في رواية "سبعون شعبة" بدون شكّ، ووقع في رواية البخاريّ:"بضع وستّون"، بدون شكّ أيضًا.

قال في "الفتح": لم تختلف الطرق عن أبي عامر، شيخ شيخ البخاريّ في ذلك، وتابعه يحيى الحِمّاني -بكسر المهملة، وتشديد الميم- عن سليمان بن بلال، أخرجه أبو عوانة، من طريق بشر بن عمرو، عن سليمان بن بلال، فقال:"بضع وستون، أو بضع وسبعون"، وكذا وقع التردد في رواية مسلم، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة (1)، من طريقه، فقالوا:"بضع وسبعون"، من غير شك، ولأبي عوانة في "صحيحه" من طريق:"ست وسبعون، أو سبع وسبعون"، ورجح البيهقي رواية البخاري، لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر؛ لما

(1) هم أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ.

ص: 206

ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه، فتردد أيضا، لكن يرجح بأنه المتيقن، وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذي بلفظ:"أربع وستون"، فمعلولة، وعلى صحتها لا تخالف رواية البخاري، وترجيحُ روايةِ:"بضع وسبعون"؛ لكونها زيادة ثقة؛ كما ذكره الحلِيمِيّ، ثم عياض، لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد المُخرَج، وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري، وقد رجح ابن الصلاح الأقل؛ لكونه المتيقن. انتهى ما ذكره في "الفتح"(1).

(بَابًا) أي نوعًا، وهكذا وقع عند المصنّف، والترمذيّ بلفظ "بابًا"، ووقع في رواية الشيخين وغيرهما بلفظ:"شعبةً"، وهي بمعناه، و"الشعبة" -بضم، فسكون-: القطعة، والمراد الخصلة، أو الجزء. قاله في "الفتح". وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم": والشعبة في أصلها واحدة الشُّعَب، وهي أغصان الشجرة، وهي بضمّ الشين، فأما شَعب القبائل، فواحدها شَعْب بفتحها. وقال الخليل: الشعب: الاجتماع، والافتراق. وفي "الصحاح": هو من الأضداد، فيراد بالشّعبة في الحديث الخصلة، ويعني أن الإيمان ذو خصال معدودة.

قال: ومقصود هذا الحديث أن الأعمال الشرعيّة تُسمّى إيمانًا على ما ذكرناه آنفًا، وأنها منحصرة في ذلك العدد، غير أن الشرع لم يُعيّن ذلك العدد لنا، ولا فصّله، وقد تكلّف بعض المتأخّرين تعديد ذلك، فتصفّح خصال الشريعة، وعدّدها، حتى انتهى بها في زعمه إلى ذلك العدد، ولا يصحّ له ذلك؛ لأنه يمكن الزيادة على ما ذكر، والنقصان مما ذكر ببيان التداخل، والصحيح ما صار إليه أبو سليمان الصخّابيّ وغيره: أنها منحصرة في علم الله تعالى، وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم، وموجودة في الشريعة مفصّلة فيها، غير أن الشرع لم يوقفنا على أشخاص تلك الأبواب، ولا عيّن لنا عددها، ولا كيفيّة انقسامها، وذلك لا يضرّنا في علمنا بتفاصيل ما كُلّفنا به من شريعتنا، ولا في عملنا، إذ

(1) راجع "الفتح" 1/ 75.

ص: 207

كلّ ذلك مفصّلٌ مبيّنٌ في جملة الشريعة، فما أُمرنا بالعمل به عملناه، وما نُهينا عنه انتهينا، وإن لم نُحط بحصر أعداد ذلك. والله تعالى أعلم. انتهى قول القرطبيّ رحمه الله (1).

وسيأتي البحث في أقوال أهل العلم في عدد الشعب مستوفًى في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.

(أَدْنَاهَا) أي أقلّ هذه الشعب الستين، أو السبعين رتبة، وفي رواية النسائيّ:"وأوضعها" وهي بمعنى الأولى (إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) أي إزالة الأذى، و"الإماطة" -بكسر الهمزة-: مصدر أماط الشيء: إذا أزاله، قال في "القاموس": ماطَ يَميط مَيْطا -أي من باب باع-: جارَ، وزَجَرَ، وعنّي ميطًا وميَطانًا: تنحّى، وبَعُدَ، ونَحّى، وأبعد، كأماط فيهما. انتهى. فأد أن ماط يتعدّى ويلزم كأماط.

و"الأذى": بالفتح: مصدر أَذِيَ به، كبقِي بالكسر، وتأذّى، والاسم الأَذِيّةُ، والأَذَاةُ، وهي المكروه اليسير. قاله في "القاموس".

والمعنى هنا: تنحية ما يؤذي المسلمين، كالشوك، والحجر، والشجر، والنجاسة، ونحوها عن طريقهم؛ رفقًا بهم، وعطفًا عليهم.

(وَأَرْفَعُهَا) أي أرفع الشعب المذكورة قدرًا، ودرجةً (قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّه) فيه أن كلمة التوحيد أفضل أنواع الإيمان، كما أن الإيمان أفضل أنواع العمل، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل "أي العمل أفضل؟ "، فقال: "إيمان بالله ورسوله

" الحديث، متّفق عليه.

(وَالحيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ")"الحياء" -بالمد- هو في اللغة: تغير، وانكسار، يَعتَرِي الإنسانَ من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه، وفي الشرع: خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر:"الحياء خير كله". انتهى "فتح" 1/ 76.

(1) راجع "المفهم" 1/ 216 - 217.

ص: 208

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الحياء: انقباض، وحشمة يجدها الإنسان من نفسه عند ما يُطّلع منه على ما يُستقبح، ويُذمّ عليه، وأصله غريزيّ في الفطرة، ومنه مكتسبٌ للإنسان، كما قال بعض الحكماء في العقل:

رَأَيْتُ الْعَقْلَ عَقْلَيْنِ

فَمَطْبُوعٌ وَمَصْنُوعُ

وَلَا يَنْفَعُ مَصْنُوعٌ

إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ

كمَا لَا تَنْفَعُ الْعَيْنُ

وَضَوْءُ الشَّمْس مَمْنُوعُ

وهذا المكتسب هو الذي جعله الشرع من الإيمان، وهو الذي يُكلّف به، وأما الغريزيّ، فلا يُكلّف به، إذ ليس ذلك من كسبنا، ولا في وُسعنا، ولم يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها، غير أن هذا الغريزيّ يَحمل على المكتسب، ويُعين عليه، ولذلك قال رضي الله عنه:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، "والحياء خير كلّه". وأول الحياء، وأولاه: الحياء من الله تعالى، وهو أن لا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومراقبة له حاصلة، وهي المعبّر عنها بقوله صلى الله عليه وسلم:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك".

وقد روى الترمذيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله حقَّ الحياء"، فقالوا: إنا نستحيي، والحمد لله، فقال:"ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حقّ الحياء أن تحفظ الرأس، وما حوى، والبطن وما وعى، وتذكر الموت والبِلَى، فمن فعل ذلك، فقد استحى من الله حقّ الحياء"(1).

قال: وأهل المعرفة في هذا الحياء منقسمون، كما أنهم في أحوالهم متفاوتون، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم جُمع له كمال نوعي الحياء، فكان في الحياء الغريزيّ أشدّ حياء من العذراء في خِدرها، وفي حيائه الكسبيّ في ذِرْوتها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (2).

[فإن قيل]: الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟.

[أجيب]: بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقا، ولكن استعماله على وفق

(1) حديث حسن أخرجه أحمد، 1/ 387 والترمذيّ 2460.

(2)

راجع "المفهم" 1/ 217 - 219.

ص: 209

الشرع، يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثا على فعل الطاعة، وحاجزا عن فعل العصية، ولا يقال: رُبَّ حياء يمنع عن قول الحق، أو فعل الخير؛ لأن ذاك ليس شرعيا.

[فإن قيل]: لِمَ أفرده بالذكر هنا؟.

[أجيب]: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الْحَيِيُّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر، وينزجر. ذكره في "الفتح"(1). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند، والسند الذي يليه، و (البخاريّ) من طريق سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، و (مسلم)(1/ 46) و (النسائيّ)(8/ 110) و (ابن منده) في "الإيمان"(144) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(167) و (190).

وأخرجه (مسلم)(1/ 46) بسند المصنّف، و (ابن حبّان)(166) و (ابن منده) في "الإيمان"(147) و (البغويّ) في "شرح السنّة"(17) والآجرّيّ في "الشريعة"(110).

وأخرجه (أحمد) 2/ 445 و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(598) و (الترمذيّ)(2614) و (النسائيّ) 8/ 110 و (ابن حبّان)(191) من طريق الثوريّ، عن سهيل بسند المصنّف.

(1) راجع "الفتح" 1/ 68.

ص: 210

وأخرجه (ابن أبي شيبة) في "مصنفه" 11/ 40 و (النسائيّ) 8/ 110 و (ابن منده)(147) و (171) و (172) من طريق ابن عجلان، عن عبد الله بن دينار المذكور عند المصنّف في السند التالي.

وأخرجه (الطيالسيّ)(2402) من طريق وُهيب، عن سهيل به.

وأخرجه (أحمد) 2/ 379 و (الترمذيّ)(2614) من طريق عمارة بن غَزِيّة، عن أبي صالح.

(الترمذيّ)(2614) و (النسائيّ) 8/ 110 و (أحمد) 2/ 445 و (ابن حبّان)(191). وأخرجه (مسلم) 1/ 46 و (ابن حبّان)(166) و (ابن منده) في "الإيمان"(147) و (البغويّ) في "السنة"(17) من طريق جرير التالية.

وأخرجه (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(665) عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان الإيمان.

2 -

(ومنها): أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهو الحقّ الذي عليه أهل السنة والجماعة، وخالف فيه بعضهم، ولا اعتداد به، كما بينت ذلك مفصَّلا في شرح "صحيح مسلم".

3 -

(ومنها): بيان عظم شأن الحياء، وأنه من أفضل الشعب إذ يدعو إلى بقية الشعب، فمن كان حييّا فإن حياءه يدعوه إلى أن يعمل بمقتضى إيمانه، ويتجنب ما يناقضه.

4 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: في قوله: "أعلاها قول إلى إلا الله": ما يَستدلّ به من يقول: إن هذه الكلمة أفضل الكلام مطلقًا، وإنها أفضل من كلمة الحمد، وفي ذلك اختلاف، ذكره ابن عبد البرّ، وغيره. انتهى.

5 -

(ومنها): أن في قوله: "أعلاها لا إله الا الله، وأدناها إماطة الأذي عن

ص: 211

الطريق": إشارةً إلى أن مراتبها متفاوتة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف الحفّاظ في إسناد هذا الحديث:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بعد أن أورد رواية البخاريّ بلفظ: "الإيمان بضع وستون شعبة": ما نصه: وخرّجه مسلم من هذا الوجه، ولفظه:"بضع وسبعون". وخرّجه مسلم أيضًا من رواية جرير، عن سُهيل، عن عبد الله بن دينار به، وقال في حديثه:"بضع وسبعون، أو بضع وستون" بالشكّ، وهذا الشكّ من سُهيل، كذا جاء مصرّحًا به في "صحيح ابن حبّان"، وغيره. وخرّجه مسلم أيضًا من حديث ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار به، وقال في حديثه:"الإيمان سبعون، أو اثنان وسبعون بابًا"(1). ورواه ابن عجلان، عن عبد الله بن دينار، وقال:"ستون، أو سبعون". ورُوي عنه أنه قال في حديثه: "ستون، أو سبعون، أو بضع وأحد من العددين"، أخرجه ابن أبي شيبة في "الإيمان" 67 ومن طريقه ابن ماجه 57. ورُوي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه بهذا اللفظ أيضًا. أخرجه ابن منده في "الإيمان" 1/ 296. وروي عنه بلفظ آخر، وهو: "الإيمان تسعة، أو سبعة وسبعون شعبة". وخرجه الترمذيّ من رواية عُمارة بن غَزِيّة، وقال فيه:"الإيمان أربعة وسبعون بابًا". وقد رُوي عن عمارة بن غزيّة، عن سُهيل، عن أبيه، وسهيل لم يسمعه من أبيه، إنما رواه عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح. فمدار الحديث على عبد الله بن دينار، لا يصحّ عن غيره.

وقد ذكر العيقليّ أن أصحاب عبد الله بن دينار على ثلاث طبقات: أثبات، كمالك، وشعبة، وسفيان بن عيينة. ومشايخ: كسهيل، ويزيد بن الهاد، وابن عجلان.

(1) هكذا نصّ ابن رجب، وعلق عليه المحقق، فقال: بهذا الطريق أخرجه ابن منده في "الإيمان" 1/ 296 ولم نجده في مسلم من المطبوع، ولا عزاه في "التحفة" إليه من هذا الطريق، فإن لم يكن في بعض نسخ "صحيح مسلم"، فلعله وهم من المصنّف رحمه الله تعالى. انتهى. (1/ 30).

ص: 212

قال: وفي رواياتهم عن عبد الله بن دينار اضطراب، وقال: إن هذا الحديث لم يُتابع هؤلاء المشايخ عليه أحد من الأثبات عن عبد الله بن دينار، ولا تابع عبد الله بن دينار، عن أبي صالح عليه أحد. والطبقة الثالثة: الضعفاء، فيروون عن عبد الله بن دينار المناكير، إلا أن الحمل فيها عليهم.

قال ابن رجب: قد رواه عن عبد الله بن دينار سليمان بن بلال، وهو ثقة ثبتٌ، قد خُرّج حديثه في "الصحيحين"، انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في الاختلاف الواقع في لفظ الحديث، واختلاف أهل العلم في تعداد شُعب الإيمان:

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما الاختلاف في لفظ الحديث فالأظهر أنه من الرواة، كما جاء التصريح في بعضه بأنه شكّ من سُهيل بن أبي صالح، وزعم بعض الناس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذا العدد بحسب ما ينزل من خصال الإيمان، فكلما نزلت خصلة منها ضمّها إلى ما تقدّم، وزادها عليها. وفي ذلك نظر. وقد ورد في بعض روايات "صحيح مسلم" عدد بعض هذه الخصال، ولفظه:"أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(2).

فأشار إلى أن خصال الإيمان منها ما هو قولٌ باللسان، ومنها ما هو عملٌ بالجوارح، ومنها ما هو قائم بالقلب، ولم يزد في شيء من هذه الروايات على هذه الخصال.

(1) راجع "شرح البخاري" للحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى 1/ 30/ 32.

(2)

هو الرواية التالية للنسائي، ولكن بلفظ:"أفضلها لا إله إلا الله، وأوضعها إماطة الأذى عن الطريق".

ص: 213

وقد انتدب لعدّها طائفة من العلماء، كالْحَلِيميّ (1)، والبيهقيّ، وابن شاهين، وغيرهم، فذكروا كلّ ما ورد تسميته إيمانًا في الكتاب والسنّة من الأقوال والأعمال، وبلغ بها بعضهم سبعا وسبعين، وبعضهم تسعًا وسبعين.

وفي القطع على أن ذلك هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الخصال عسر، كذا قاله ابن الصلاح، وهو كما قال. انتهى كلام ابن رجب (2)، وقد أشبعت الكلام في نقل ما ذكره العلماء فيما يتعلّق في عدد شعب الإيمان في "شرح مسلم"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:

[فإن قيل]: فأهل الحديث والسنة عندهم أن كلّ طاعة، فهي داخلة في الإيمان، سواء كانت من أعمال الجوارح، أو القلوب، أو من الأقوال، وسواء في ذلك الفرائض، والنوافل، هذا قول الجمهور الأعظم منهم، وحينئذ، فهذا لا ينحصر في بضع وسبعين، بل يزيد على ذلك زيادة كثيرةً، بل هي غير منحصرة.

[قيل]: يمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة:

[أحدها]: أن يقال: إن عدد خصال الإيمان عند قول النبيّ صلى الله عليه وسلم كان منحصرًا في هذا العدد، ثم حدثت الزيادة فيه بعد ذلك، حتى كملت خصال الإيمان في آخر حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي هذا نظر.

[والثاني]: أن تكون خصال الإيمان كلّها تنحصر في بضع وسبعين نوعًا، وإن كانت أفراد كل نوع تتعدّد تعدّدًا كثيرًا، وربّما كان بعضها لا ينحصر. وهذا أشبه، وإن كان الوقوف على ذلك يعسر، أو يتعذّر.

[والثالث]: أن ذكر السبعين على وجه التكثير للعدد، لا على وجه الحصر، كما في

(1) هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاريّ الشافعيّ، المولود سنة (338 هـ) في شهر ربيع الأول، والمتوفى سنة (403 هـ).

(2)

راجع "فتح الباري شرح البخاريّ" للحافظ ابن رجب 1/ 32 - 34.

ص: 214

قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، والمراد تكثير التعداد من غير حَصْرٍ لَهُ في هذا العدد، ويكون ذكره للبضع يُشعر بذلك، كأنه يقول: هو يزيد على السبعين المقتضية لتكثير العدد، وتضعيفه. وهذا ذكره بعض أهل الحديث من المتقدّمين، وفيه نظر.

[والرابع]: أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها، وهو الذي تدعو إليه الحاجة منها. قاله ابن حامد من الحنابلة. انتهى كلام ابن رجب (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني أظهر الأقوال، وأقربها إلى الفهم، كما سبق ميل ابن رجب إليه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

57 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ ح وحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) هو سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطىء [8] تقدّم في 1/ 11.

3 -

(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد بن عجلان، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ، اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5] تقدّم في 2/ 19.

4 -

(عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ) بن الفُرات بن رافع البجليُّ، أبو حُجْر -بضمّ المهملة،

(1) راجع "شرح البخاريّ" 1/ 34 - 35.

ص: 215

وسكون الجيم- الحافظ الْقَزْوينيّ الْبجليّ، ثقة ثبتٌ [10].

رَوَى عن جرير بن عبد الحميد، والفضل بن موسى، وابن عيينة، وابن المبارك، ومروان بن معاوية، وهشيم، وعُمَرَ بن هارون الْبَلْخيّ، وابن عليّة، ويحيى بن زكريّا ابن أبي زائدة، وسليمان بن عامر الكِنْديّ، وأبي يحيى الزَّمقيّ، ونُعيم بن ميسرة، ومحمد ابن عُبيد، وعليّ بن عاصم الواسطيّ، وعِدَّة. ورَوَى عنه ابن ماجه، وأبو زرعة، وابن الضُّرَيس، ومحمد بن عبد الله بن رُسْتة، وأبو العباس أحمد بن جعفر بن نصر الْحَمّال، وعلي بن سعيد بن بَشِير الرازي، وأبو السريّ منصور بن محمد بن عبد الله الأسديّ الملقّب أسد السنّة، ويعقوب بن يوسف القزوينيّ، ومحمد بن إبراهيم بن زياد الطيالسيّ، ومحمد بن مسعود بن الحارث الأسديّ القزوينيّ وآخرون.

قال أبو حاتم: سمعت إبراهيم بن موسى يقول: ما بقي أحدٌ ممن كان يطلُب معنا العلم غير عَمرو بن رافع. قال أبو حاتم: قَلَّ من كتبنا عنه أصدق لهجةً، وأصحّ حديثًا منه، حدثنا عليّ الطَّنَافسيّ عنه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث جدّا. قال الخليليّ: تُوفي سنة سبع وثلاثين ومائتين. تفرّد به المصنّف، وروى عنه في هذا الكتاب (39) حديثًا.

[تنبيه]: عمرو بن رافع هذا ثقة بلا خلاف، وهو من أفراد المصنّف، وهذا يفَنِّد قول من زعم أن كلّ من انفرد به ابن ماجه من الرجال ضعيف، وكذا قول من قال: كل ما انفرد به ابن ماجه عن الكتب الخمسة من الأحاديث ضعيف أيضًا، فقد تفرّد بأحاديث صحيحة، وحسان، سننبّه عليها في مواضعها، إن شاء الله تعالى، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

5 -

(جرير) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة صحيح الكتاب [8] تقدّم في 1/ 2.

والباقون تقدّموا في السند السابق، وكذا شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به في الحديث الماضي.

ص: 216

[تنبيه]: وقع في هذا الإسناد كتابة (ح) وهو إشارة إلى الانتقال إلى سند آخر، وهي مأخوذة من "صحّ"، وقيل: من "التحويل"، وقيل: من "الحائل"، وقيل: من "الحديث"، ويَنطِق بها القارىء كما كُتبت، ويستمرّ في قراءة ما بعدها، وإلى هذا أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" بقوله:

وَكَتبُوا (ح) عِنْدَ تَكرِيرِ سَنَدْ

فَقِيلَ مِنْ "صَحَّ" وَقِيلَ ذَا انْفَرَدْ

مِنَ الْحَدِيثِ أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ

أَوْ "حَائِلٍ" وَقَوْلهُا لَفْظًا أَسَدْ

وقد تقدّم البحث بأتمّ مما هنا في 2/ 22 فراجعه تزدد علمًا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قوله: "نحوه" أي نحو حديث سفيان عن سهيل، يعني أن رواية ابن عجلان، وجرير بن عبد الحميد عن سهيل بمعنى رواية سفيان الثوريّ، عن سهيل، فيه أن لفظ روايتهما ليس كلفظه، وقد تقدّم بيان الفرق بين قوله:"نحوه"، وقوله:"مثله" مستوفًى فيما سبق، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

58 -

(حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ يَزِيدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالم، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَعِظُ أَخَاهُ في الْحَيَاءِ، فَقَالَ: "إِنَّ الْحَيَاءَ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ) واسمه زَنْجَلة ابن أبي الصّغْديّ، وابن أبي السُّفْديّ، أبو عمرو الرازيّ الخيّاط الأشتر الحافظ، صدوق [10].

رَوَى عن حفص بن غياث، وأبي أسامة، وابن عيينة، وابن نمير، والدَّرَاورديّ، والوليد بن مسلم، ووكيع، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن ماجه، وأبو حاتم، وموسى بن هارون، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وعلي بن سعيد بن بشير الرازي، وأبو يعلى

ص: 217

أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وكناه أبا عثمان. وقال مسلمة: رازيّ ثقة. وسئل أبو إسحاق الحربي عن حديث رواه سهل بن زنجلة، عن مكي بن إبراهيم، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صَلّى على النجاشي، فأنكره، قال الخطيب: وقد قال مكي: حدثتهم بالبصرة عن مالك، عن نافع -يعني بهذا الحديث- وهو خطأ، إنما حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة. انتهى.

قال أبو بكر الخطيب: قدم بغداد سنة (231). تفرّد به المصنّف روى عنه في هذا الكتاب (43) حديثًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت مما سبق آنفًا أن سهلًا ثقة، وهو أيضًا من أفراد المصنّف، وبه أيضًا يردّ على الزعم الذي ذكرناه، من أن من تفرّد بهم ابن ماجه كلهم ضعاف.

ولا ينافي هذا إنكار أبي إسحاق الحربيّ لحديثه المتقدّم؛ لأن الخطأ ليس منه، وإنما هو من شيخه مكيّ بن إبراهيم، كما بينه كلامه المتقدّم، فسهل حدّث به كما سمعه من شيخه مكيّ، فلا يُلحق به اللوم. فتنبّه، والله تعالى أعلم.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ) القرشي العدوي مولى آل عمر، أبو يحيى بن أبي عبد الرحمن المقريء المكيّ، ثقة [10].

رَوَى عن أبيه، وابن عيينة، ومروان بن معاوية، وأيوب بن النجار اليمامي، وسعيد بن سالم القَدّاح، وعبد الله بن رَجاء المكي، وعبد الله بن الوليد العدني، وعثمان ابن عبد الرحمن الطرائفي، وغيرهم.

ورَوَى عنه النسائيّ، وابن ماجه، وابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد، وأبو حاتم الرازي، وإبراهيم بن أبي طالب، وحرمي بن أبي العلاء المكي، نزيل بغداد، وإسحاق بن إبراهيم البستي، وأبو عروبة، وعبد الله بن زيدان، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي، والمفضل بن محمد الْجَنَديّ، ويحيى بن محمد بن صاعد، وأبو قريش محمد بن

ص: 218

جُمْعَة الحافظ، ومحمد بن عبد الله بن عبد السلام مكحول البيروتيّ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وإبراهيم بن عبد الصمد الهاشميّ، وأحمد بن عمير بن جَوْصاء، وأحمد بن سليمان بن داود الطوسيّ، وآخرون.

قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي سنة (255)، وهو صدوق ثقة، سئل عنه أبي، فقال: صدوق. وقال النسائيّ: ثقة. وقال الخليليّ: ثقة متفق عليه. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال مسلمة بن قاسم: ثقة حَجّ سبعين حجة. قال أبو بشر الدولابيّ وغيره: مات سنة ست وخمسين ومائتين. تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، روى عنه في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا 58 و 2473 حديث: "ثلاث لا يُمنعنَ الماء والكلأ

" الحديث، و4209 حديث: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل

" الحديث.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، أبو محمد المكي الإمام الحجة الثبت [8] تقدّم في 2/ 13.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الحافظ [4] تقدّم في 2/ 15.

5 -

(سَالِمٌ) بن عبد الله العدويّ المدنيّ الثقة الثبت الفقيه [3] تقدّم في 2/ 16.

6 -

(أبوه) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم في 1/ 4. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخيه، فالأول من أفراده، والثاني تفرّد به هو والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وسهل رازيّ، والباقيان مكيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وقد سبق ذكرهم.

ص: 219

6 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم. وقد تقدّم هذا كلّه، وإنما أعدته تذكيرًا. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عِن سَالمٍ) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا) وفي رواية الشيخين: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ عَلَى رَجُلٍ"، ولمسلم من طريق معمر عن الزهريّ:"مر برجل"، و"مر" بمعنى: اجتاز يُعَدى بـ "على"، وبالباء، قال الحافظ: ولم أعرف اسم هذين الرجلين: الواعظ، وأخيه (يَعِظُ أَخَاهُ) من الوعظ: وهو النصح، والتذكير بالعواقب، وقال ابن فارس: هو التخويف، والإنذار. وقال الخليل بن أحمد: هو التذكير بالخير فيما يُرقّ القلب. قاله في "عمدة القاري" 1/ 200 - 201.

وقال في "الفتح": أي يَنصَح، أو يُخَوِّف، أو يُذَكِّر، كذا شرحوه، والأولى أن يُشرح بما جاء عند البخاريّ في "الأدب" من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن ابن شهاب، ولفظه:"يُعاتِب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحي، حتى كأنه يقول -قد أضَرّ بك". انتهى.

ويحتمل أن يكون جمع له العِتاب، والوعظ، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن الْمُخْرَج مُتَّحِد، فالظاهر أنه من تصرف الراوي، بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر. قاله في "الفتح" 1/ 105.

وجملة "يعظ أخاه" في محلّ جرّ صفة لـ "رجل". وقوله: (في الْحَيَاءِ) متعلّق بـ "يعِظ"، و"في" سببية، فكأن الرجل كان كثير الحياء، فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك.

(فَقَالَ) له النبيّ صلى الله عليه وسلم "فَإِنَّ الْحَيَاءَ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" أي جزء من أجزاء الإيمان، ولفظ الشيخين:"دَعْهُ، فإن الحياء من الإيمان": أي اتركه على هذا الخلق السَّنِيّ، ثم

ص: 220

علّل أمره بالترك بما ذكره بالفاء التعليليّة، فقال:"فإن الحياء إلخ". أي وإذا كان الحياء، يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه، جر له ذلك تحصيلَ أجر ذلك الحقّ، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقا.

وقال ابن قتيبة: معناه إن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسُمّي إيمانا، كما يُسَمَّى الشيءُ باسم ما قام مقامه.

وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز (1)، والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية في نفسها مما يهتم به، وإن لم يكن هناك منكر.

قال الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان؛ ليرتدع عن ارتكاب كل ما يَشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب من جُبن وعفة، فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقَلَّما يكون الشجاع مُسْتَحِيًا، وقد يكون لمطلق الانقباض، كما في بعض الصبيان. انتهى ملخصا.

وقال غيره: هو انقباض النفس، خشية ارتكاب ما يُكرَه، أعم من أن يكون شرعيا، أو عقليا، أو عرفيا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أَبْلَهُ، قالط: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان": أي أثر من آثار الإيمان.

وقال الحليمي: حقيقة الحياء: خوف الذم بنسبة الشر إليه. وقال غيره: إن كان في مُحَرَّم فهو واجب، وإن كان في مكروه، فهو مندوب، وإن كان في مباح، فهو العرفي، وهو المراد بقوله:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع، إثباتا ونفيا. وحُكِي عن بعض السلف: رأيت المعاصي مَذَلَّةً، فتركتها مروءة، فصارت ديانةً. وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه، فيستحي

(1) كونه مجازًا فيه نظر؛ لأنه جزء من أجزاء الإيمان، وجزء الشيء لا يسمى مجازًا، وإنما هو جزء حقيقة، فتنبّه.

ص: 221

العاقل أن يستعين بها على معصيته.

وقد قال بعض السلف: خَفِ اللَّهَ على قَدْرِ قُدْرَته عليك، واستحي منه على قَدْر قُرْبه منك. قاله في "الفتح"(1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا الإسناد فقط، و (البخاريّ)(1/ 12 و 8/ 35) و (مسلم) في "الإيمان"(1/ 46) و (مالك) في "الموطإ"(565) و (أحمد) 2/ 9 و 2/ 56 و 2/ 147 و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(602) و (أبو داود)(4795) و (الترمذيّ)(2615) و (النسائيّ) 8/ 121 و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(20146) و (ابن منده) في "الإيمان"(174) و (عبد بن حميد) في "مسنده"(725) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(610)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كون الحياء شعبة من شعب الإيمان.

2 -

(ومنها): أن فيه بيان عظم شأن الحياء، وأنه من أعلى الصفات الحميدة التي يتحلّى بها المؤمن، وقد ورد في مدحه أحاديث كثيرة، منها هذا الحديث، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي:"والحياء شعبة من الإيمان"، وحديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي رواية عنه: "الحياء

(1) راجع "الفتح" 105 - 106.

ص: 222

خير كلّه"، رواه مسلم.

3 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: والحياء نوعان:

[أحدهما]: غريزيّ، وهو خُلُقٌ يمنحه الله تعالى العبد، ويَجبُلُهُ عليه، فيكُفّه عن ارتكاب القبائح، والرذائل، ويحثّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله تعالى للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثّر ما يؤثّره الإيمان من فعل الجميل، والكفّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان، فهو وسيلة إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: من استحيى اختفَى، ومن اختفى اتّقَى، ومن اتّقى وُقي. وقال بعض التابعين: تركت الذنوب حياءً أربعين سنةً، ثم أدركني الورع. وقال ابن سَمْعُون: رأيت المعاصي نَذَالةً، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانةً.

[والنوع الثاني]: أن يكون مُكتسبًا، إما من مقام الإيمان، كحياء العبد من مقامه بين يدي الله تعالى يوم القيامة، فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو من مقام الإحسان، كحياء العبد من اطّلاع الله تعالى عليه، وقربه منه، فهذا من أعلى خصال الإيمان. وفي حديث مرسل:"استحي من الله، كما تستحي من رجلين من صالحي عشيرتك، لا يفارقانك"، ورُوي موصولًا (1). وسُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خاليًا؟ فقال:"الله أحقّ أن يُستحيى منه من الناس"(2).

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه المرفوع: "الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس، وما وعَى، والبطن، وما حوى، وأن تذكر الموت، والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا،

(1) رواه الطبرانيّ في "الكبير" 8/ 229 من طريق أبي عبد الملك علي بن يزيد الألهانيّ، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه عليّ بن يزيد ضعيف.

(2)

علقه البخاريّ في "كتاب الغسل" 278 وأخرجه أحمد 5/ 4 وأبو داود 4017 والترمذيّ 2794 والحاكم 4/ 179.

ص: 223

فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حقّ الحياء". رواه الترمذيّ، وغيره (1).

وأخرج البخاريّ في "التفسير" عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} الآية [هود: 5] إنها نزلت في قوم كانوا يُجامعون نساءهم، ويتخلّون، فيستحيون من الله، فنزلت الآية. وكان الصّدّيق رضي الله عنه يقول: استحيوا من الله، فإني أذهب إلى الغائط، فأظلّ متقنّعًا بثوبي حياء من ربّي عز وجل. وكان موسى عليه السلام إذا اغتسل في بيت مظلم لا يُقيم صلبه حياء من الله عز وجل. قال بعض السلف: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك. وقد يتولّد الحياء من الله من مطالعة النعم، فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح البخاري"(2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

59 -

"حَدَّثَنَا سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَينُ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ.

(ح) وحَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ".

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الحدثانيّ، صدوقٌ، عمي، فصار يتلقّن، من قدماء

(1) رواه الترمذي 2458 وأحمد 1/ 387 من طريق الصباح بن محمد، عن مرة الهمدانيّ، عن ابن مسعود رضي الله عنه، والصباح ضعيف، واستنكروا عليه هذا الحديث، وصوّبوا وقفه على ابن مسعود رضي الله عنه، ولكن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى حسّنه، انظر "صحيح الجامع الصغير" 1/ 222 رقم 935.

(2)

راجع "شرح البخاريّ" للحافظ ابن رجب 1/ 102 - 104.

ص: 224

[10]

4/ 30.

2 -

(عِليُّ بْنُ مَيْمُونٍ الرَّقِّيُّ) أبو الحسن العطّار، ثقة [10].

رَوَى عن ابن عيينة، وحفص بن غياث، وخالد بن حيان الرَّقّيّ، وعبد المجيد بن أبي رَوّاد، وأبي معاوية الضرير، ومخلد بن يزيد الرقي، ومعن بن عيسى القزاز، وعثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، وغيرهم.

وروى عنه النسائي، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عبد الملك الدقيقي، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وابن أبي عاصم، وعبدان الأهوازي، والمعمري، والحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فِيل، وأبو عروبة الحرانيّ، وآخرون.

قال أبو حاتم: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (45) وقال أبو علي الحراني: مات سنة ست وأربعين ومائتين، وقال غيره: مات سنة (47). تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، روى عنه في هذا الكتاب (17) حديثًا.

3 -

(عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصِل، ثقة له غرائب بعد ما أضرّ [8] 4/ 34.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ) بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأمويّ، ويقال: مسلمة بن أُمية بن هشام، كان ينزل الجزيرة، ضعيف [8].

رَوَى عن إسماعيل بن أمية، وجفر الصادق، ومحمد بن عجلان، وهشام بن عروة، والأعمش، وغيرهم.

ورَوى عنه الشافعي، ومحمد الجرجرائي، وعمر بن إسماعيل بن مجالد، وعلي بن ميمون العطار، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس بشيء. وقال الدُّوري عن ابن معين: كان عنده كتاب عن منصور، فقيل له: سمعت هذا من منصور، فقال حتى يجيء ابني فأسأل. وقال البخاريّ: منكر الحديث، فيه نظر. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن

ص: 225

عديّ: أرجو أنه ممن لا يُترَك حديثه. وقال الدارقطني: ضعيف يُعتَبر به. وقال ابن حبان في "الثقات": يُخطىء، وذكره في "الضعفاء"، فقال: فاحش الخطإ، منكر الحديث جدًّا. وقال الساجي: صدوق، منكر الحديث. تفرّد به الترمذيّ، والمصنّف، وله عنده في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا 59، وأعاده في "كتاب الزهد" برقم 4173، و 99 حديث:"هكذا نُبعث"، و 3453 حديث: "الكمأة من المنّ

" الحديث، و 3712 حديث: "إذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه"، و 4173 حديث:".

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفيّ الإمام الحجة الحافظ [5] تقدّم في 1/ 1.

6 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن ذُهْل النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقة يرسل كثيرًا [5].

رَوَى عن خاليه: الأسود، وعبد الرحمن ابني يزيد، ومسروق، وعلقمة، وأبي معمر، وهمام ابن الحارث، وشريح القاضي، وسهم بن منجاب، وجماعة.

ورَوَى عنه الأعمش، ومنصور، وابن عون، وزبيد اليامي، وحماد بن سليمان، ومغيرة بن مقسم الضبي، وخلق.

قال العجليّ: رأى عائشة رؤيا، وكان مفتي أهل الكوفة، وكان رجلًا صالحًا فقيهًا متوقيًّا قليل التكلف، ومات وهو مختف من الحجاج. وقال الأعمش: كان إبراهيم صَيْرَفِيّ الحديث. وقال الشعبي: ما ترك أحدًا أعلم منه. وقال ابن معين: مراسيل إبراهيم أحب إلي من مراسيل الشعبي. وقال الأعمش: قلت لإبراهيم أَسْنِد لي عن ابن مسعود، فقال إبراهيم: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله، فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله. وقال أحمد عن حماد بن خالد، عن شعبة: لم يسمع النخعي من أبي عبد الله الْجَدَليّ حديث خزيمة بن ثابت في المسح. وفي "العلل الكبير" للترمذي: سمع إبراهيم النخعي حديث أبي عبد الله الجدلي من إبراهيم التيمي، والتيمي لم يسمعه منه. وقال ابن المديني: لم يلق النخعي أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: فعائشة؟، قال: هذا لم يروه غير سعيد بن أبي عروبة،

ص: 226

عن أبي معشر، عن إبراهيم، وهو ضعيف. وقد رأى أبا جحيفة، وزيد بن أرقم، وابن أبي أوفى، ولم يسمع من ابن عباس. وقال ابن المديني أيضًا: لم يسمع من الحارث بن قيس، ولا من عمرو بن شُرَحبيل. انتهى. ورواية سعيد عن أبي معشر ذكرها ابن حبان بسند صحيح إلى سعيد، عن أبي معشر أن إبراهيم حدثهم أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، فرأى عليها ثوبًا أحمر.

وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: هو مكثر من الإرسال، وجماعةٌ من الأئمة صححوا مراسيله، وخَصَّ البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو نعيم: مات سنة (96)، وقال غيره: وهو ابن (49) سنة، وقيل: ابن (58).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (59) حديثًا.

7 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهل، ويقال: ابن كُهيل بن بكر بن عوف، ويقال: ابن المنتشر بن النخع، أبو شِبْل النخعيّ الكوفيّ، ثقة ثبت فقيه عابدٌ [2].

ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وسعد، وحذيفة، وأبي الدَّرداء، وابن مسعود، وأبي مسعود، وأبي موسى، وغيرهم.

ورَوى عنه ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس، وابن أخته إبراهيم بن يزيد النخعي، وإبراهيم بن سُويد النخعي، وعامر الشعبي، وأبو الرُّقَاد النخعي، وجماعة.

قال مغيرة عن إبراهيم: كان علقمة عقيمًا. وقال أبو طالب عن أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال عثمان بن سعيد: قلت لابن معين: علقمة أحب إليك، أو عبيدة؟ فلم يُخَيِّر. قال عثمان: كلاهما ثقة، وعلقمة أعلم بعبد الله. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال ابن المديني: أعلم الناس بعبد الله علقمة، والأسود، وعَبِيدة، والحارث. وقال أبو المُثَنَّى رِيَاح: إذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتًا وهديًا، وإذا رأيت إبراهيم فلا يضرك أن لا ترى علقمة. وقال الأعمش عن عمارة بن عمير: قال لنا أبو معمر: قوموا بنا إلى أشبه الناس هديًا وسمتًا ودلًّا بابن

ص: 227

مسعود، فقمنا معه حتى جلس إلى علقمة. وقال داود بن أبي هند: قلت لشعبة: أخبرني عن أصحاب عبد الله، قال: كان علقمة أبطنَ القومِ به. وقال ابن سيرين: أدركت الناس بالكوفة، وهم يُقَدِّمون خمسة، من بدأ بالحارث ثَنَى بعَبِيدة، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة الثالث، لا شك فيه.

قال أبو نعيم: مات سنة إحدى وستين. وقال ابن معين وغير واحد: مات سنة (62). وقيل: سنة (3)، وقيل: سنة (5)، وقيل: سنة (72)، وقيل: سنة (73). وقال هارون بن حاتم عن عبد الرحمن بن هانىء: مات وله تسعون سنة. وكان الأسود وعبد الرحمن ابنا يزيد بن قيس ولدا أخي علقمة أسن منه.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

8 -

(عَبْدُ اللَّه) تقدّم 2/ 19. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخيه، وابن مسلمة.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من ثقات التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة.

4 -

(ومنها): أن فيه عبد الله غير منسوب، فهو ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن الراوي عنه كوفيّ، وذلك أنه إذا أُطلق في الصحابة عبد الله يُنظر إلى الراوي عنه، فإن كان مدنيا فهو ابن عمر، وإن كان مكيّا فهو ابن الزبير، وإن كان بصريّا فهو ابن عبّاس، وإن كان مصريّا، أو شاميّا فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّه) بن مسعود رضي الله عنه، أنه "قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ" مِثْقَالُ الشيء بالكسر: ميزانُهُ من مثله، ويقال: أعطِهِ ثِقْله وزانُ

ص: 228

حِمْلٍ: أي وزنه. قاله الفيّوميّ (1).

وقال القرطبيّ: المثقال مِفْعالٌ من الثقل، ومثقالُ الشيء: وزنه، يقال: هذا على مثقال هذا: أي على وزنه. انتهى (2).

"والذرّة": واحد الذّرّ، وهي صغار النمل، ومائة منها زِنَة حبّة شعير. قاله في "القاموس"(مِن خَرْدَلٍ) بفتح، فسكون: حَبّ شجر معروف. قاله في "القاموس" أيضًا (مِنْ كِبْرٍ) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الِكِبْر والكبرياء في اللغة: هو العظمة، يقال فيه: كَبُر الشيء بضمّ الباء، أي عَظُم، فهو كبير وكِبَار، فإذا أفرط قيل: كبّار بالتشديد، وعلى هذا فيكون الكبر والعظمة اسمين لمسمّى واحد.

وقد جاء في الحديث ما يُشْعِر بالفرق بينهما، وذلك أن الله تعالى قال:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قصمته"(3)، فقد فرّق بينهما، بأن عبّر عن أحدهما بالإزار، وعن الآخر بالرداء، وهما مختلفان، ويدلّ أيضًا على ذلك قوله:"فمن نازعني واحدًا منهما"، إذ لو كانا واحدًا لقال: فمن نازعنيه، فالصحيح إذن الفرق، ووجهه أن جهة الكبرياء يستدعي متكبّرًا عليه، ولذلك لمّا فسّر الكبر قال:"الكبر: بطر الحقّ، وغمط الناس"(4)، وهو احتقارهم، فذكر المتكبّر عليه، وهو الحقّ أو الخلق، والعظمة لا تقتضي ذلك، فالمتكبّر يلاحظ ترفّع نفسه على غيره بسبب مزيّة كمالها، فيما يراه، والمعظم يلاحظ كمال نفسه من غير ترفّع لها على غيره.

وهذا التعظيم هو المعبّر عنه بالعجب في حقّنا إذا انضاف إليه نسيانُ منّة الله تعالى علينا فيما خصّنا به من ذلك الكمال، وإذا تقرّر هذا، فالكبرياء والعظمة من أوصاف

(1)"المصباح" 1/ 83. "ق" ص 875.

(2)

"المفهم" 1/ 289.

(3)

رواه مسلم (2620) وأبو داود (4090) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وأبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم في "صحيحه"(91).

ص: 229

كمال الله تعالى، واجبان له، إذ ليست أوصاف كمال الله وجلاله مستفادة من غيره، بل هي واجبة الوجود لذواتها بحيث لا يجوز عليه العدم، ولا النقص، ولا يجوز عليه تعالى نقيض شيء من ذلك، فكماله وجلاله حقيقة له بخلاف كمالنا، فإنه مستفاد من الله تعالى، ويجوز عليه العدم، وطروء النقيض والنقص، وإذا كان هذا فالتكبّر والتعاظم خَرَقٌ منّا، ومستحيلٌ في حقّنا، ولذا حرّمهما الشرع، وجعلهما من الكبائر؛ لأن من لاحظ كمالَ نفسه ناسيًا منّة الله تعالى عليه فيما خصه به كان جاهلًا بنفسه وبربّه، مغترّا بما لا أصل له، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، وصفة فرعون الحاملة له على قوله:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ولا أقبح مما صارا إليه، فلا جَرَمَ كان فرعون وإبليس أشدّ أهل النار عذابًا، نعوذ بالله من الكبر والكفر.

وأما من لاحظ من نفسه كمالًا، وكان ذاكرًا فيه منّة الله تعالى عليه به، وأن ذلك من تفضّله تعالى ولطفه، فليس من الكبر المذموم في شيء، ولا من التعاظم المذموم، بل هو اعترافٌ بالنعمة، وشكرٌ على المنّة.

والتحقيق في هذا أن الخلق كلهم قوالَب وأشباح، تجري عليهم أحكام القدرة، فمن خصّه الله تعالى بكمال، فذلك الكمال يرجع للمكمّل الجاعل، لا للقالب القابل، ومع ذلك فقد كمل الله الكمال بالجزاء، والثناء عليه، كما قد نقص النقص بالذمّ والعقوبة عليه، فهو المعطي، والمثني، والمبتلي، والمعافي، كيف لا وقد قال العليّ الأعلى:"أنا الله خالق الخير والشرّ، فطوبى لمن خلقته للخير، وقدّرته عليه، والويل لمن خلقته للشرّ، وقدّرته عليه"(1). فلا حيلة تعمل مع قهر، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

ولمّا تقرّر أن الكبر يستدعي متبَّرًا عليه، فالمتكبَّرُ عليه إن كان هو اللَّهَ تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الحقّ الذي جاءت به رسله، فذلك الكبر كفرٌ، وإن كان غير ذلك، فذلك الكبر معصيةٌ وكبيرة، يُخاف على المتلبّس بها المصرّ عليها أن تُفضي به إلى الكفر، فلا

(1) أخرجه ابن شاهين في "شرح السنّة" عن أبي أمامة بإسناد ضعيف.

ص: 230

يدخل الجنّة أبدًا، فإن سلم من ذلك، ونفذ عليه الوعيد عوقب بالإذلال والصَّغَار، أو بما شاء الله من عذاب النار، حتى لا يبقى في قلبه من ذلك الكبر مثقال ذرّة، وخلص من خُبْث كبره حتى يصير كالذرّة، فحينئذ يتداركه الله برحمته، ويُخلّصه بإيمانه وبركته، وقد نصّ على هذا المعنى النبيّ صلى الله عليه وسلم في المحبوسين على الصراط لمّا قال:"حتى إذا هُذِّبُوا، ونُقّوا أُذن لهم في دخول الجنّة"(1). والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ (2).

وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقد اختُلِف في تأويله، فذكر الخطابي فيه وجهين:

[أحدهما]: أن المراد التكبر عن الإيمان، فصاحبه لا يدخل الجنة أصلًا إذا مات عليه.

[والثاني]: أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة، كما قال الله تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47]، وهذان التأويلان فيهما بُعْدٌ، فإن هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف، وهو الارتفاع على الناس، واحتقارهم، ودفع الحقّ، فلا ينبغي أن يُحمَل على هذين التأويلين المُخرِجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين، أنه لا يدخل الجنة دون مجازاة إن جازاه.

وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه، وقد يتكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بُدّ أن يدخل كل الموحدين الجنة إمّا أوّلًا وإمّا ثانيًا بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مُصِرّين عليها، وقيل: لا يدخلها مع المتقين أَوّلَ وَهْلَة. انتهى (3).

[تنبيه]: زاد في رواية مسلم من طريق فضيل الْفُقَيميّ، عن إبراهيم النخعيّ: قال رجل: إن الرجل يُحِبّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً، قال: "إن الله جميل يحب

(1) رواه البخاريّ في "صحيحه"(6535) وأحمد في "مسنده" 3/ 13 و63 و 74.

(2)

"المفهم" 1/ 286 - 288.

(3)

راجع "شرح مسلم" 2/ 91.

ص: 231

الجمال، الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس"، وسيأتي شرح هذه الزيادة في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

"وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" المراد به دخولَ الكفّار، وهو دخولُ الخلود. قاله النوويّ رحمه الله.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: المراد بالإيمان في هذا الحديث التصديق القلبيّ المذكور في حديث جبريل عليه السلام، ويُستفاد منه أن التصديق القلبيّ على مراتب، ويزيد وينقص. وهذه النار المذكورة هنا هي النار المعدّة للكفّار التي لا يَخرُج منها من دخلها؛ لأنه قد جاء في أحاديث الشفاعة أن خلقًا كثيرًا ممن في قلبه ذرّات كثيرة من الإيمان يدخلون النارَ، ثم يخرجون منها بالشفاعة، أو بالقَبْضة ووجه التلفيق أن النار دركات كما قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وأهلها في العذاب على مراتب ودركات كما قال الله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وأن نار من يُعذّب من الموحّدين أخفّها عذابًا، وأقربها خروجًا، فمن أُدخل النار من الموحّدين لم يدخل نار الكفّار، بل نارًا أخرى يموتون فيها، ثم يُخرجون منها، كما جاء في الأحاديث الصحيحة. انتهى كلام القرطبيّ (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (59) وفي "كتاب الزهد"(4173) بهذا السند فقط،

(1)"المفهم" 1/ 289.

ص: 232

وأخرجه (مسلم) في "الإيمان"(1/ 65) و (أبو داود)(4091) و (الترمذيّ)(1998) و (1999) و (أحمد) في "مسنده" 1/ 412 و 416 و 451، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده (1):

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان الإيمان، أي بيان فضله، وأنه سبب لدخول صاحبه الجنة، وتحريمه على النار.

2 -

(ومنها): بيان زيادة الإيمان ونقصانه.

3 -

(ومنها): تحريم الكبر، وأنه من الكبائر التي توجب لصاحبها دخول النار.

4 -

(ومنها): أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًا، وإن كان عمله قليلًا، كما قال عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]. (ومنها): أنه يدلّ على أن الجميل اسم من أسماء الله تعالى، وقال به جماعة، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف قريبًا إن شاء الله تعالى.

5 -

(ومنها): إباحة التجمّل بلبس الثياب الجميلة، والنعال الجميلة، لكن بشرط أن يخلو ذلك من المخيلة، والإسراف؛ لما أخرجه أحمد، والنسائيّ، والمصنّف بإسناد صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا، وتصدقوا، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في شرح الزيادة التي تقدّمت عن "صحيح مسلم" رحمه الله في روايته من طريق فُضَيل الْفُقَيميّ، عن إبراهيم النخعيّ، ولفظها:

قال رجل: إن الرجل يُحِبّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً، قال:"إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس".

فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جَمِيل يُحِبُّ الجمال" قال القرطبيّ رحمه الله: الجمال لغةً هو

(1) المراد الفوائد التي اشتمل عليها الحديث برواياته، لا بخصوص سياق المصنّف، فتنبّه.

ص: 233

الحسن، يقال: جَمُل الرجل يَجمُلُ بالضمّ جَمَالًا فهو جميلٌ، والمرأة جميلة، ويقال: جَمْلاءُ عن الكسائيّ.

وهذا الحديث يدلّ على أن الجميل من أسماء الله تعالى، وقال بذلك جماعة من أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في معناه، فقيل: معناه معنى الجليل، قاله القشيريّ. وقيل: معناه ذو النور والبهجة: أي مالكهما، قاله الخطابيّ. وقيل: جميل الأفعال بكم، والنظر إليكم، فهو يُحبّ التجمّل منكم في قلّة إظهار الحاجة إلى غيره، قاله الصيرفيّ. وقال: الجميل: المنزّه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال الآمر بالتجمّل له بنظافة الثياب والأبدان، والنزاهة عن الرذائل والطغيان. انتهى (1).

وقال النوويّ في "شرحه": اختلفوا في معناه، فقيل: إن معناه أن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل، وله الأسماء الحسنى، وصفات الجمال والكمال. وقيل: جميل بمعنى مُجْمِل، ككريم وسميع، بمعنى مُكْرِم، ومُسْمِع. وقال الإمام أبو القاسم القشيرى رحمه الله: معناه جليل. وحَكَى الإمام أبو سليمان الخطابيّ أنه بمعنى ذي النور والبهجة، أي مالكهما. وقيل: معناه جميل الأفعال بكم، باللطف والنظر إليكم، يُكَلِّفكم اليسير من العمل، ويُعين عليه، ويثيب عليه الجزيل، ويشكر عليه. انتهى (2).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وغَمط الناس" هو بفتح الغين المعجمة، وإسكان الميم، وبالطاء المهملة، هكذا هو في نسخ "صحيح مسلم" رحمه الله، قال القاضي عياض رحمه الله: لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا، وفي البخاريّ إلا بطاء، قال: وبالطاء ذكره أبو داود في "مصنفه"، وذكره أبو عيسى الترمذي وغيره "غمص" بالصاد، وهما بمعنى واحد، ومعناه: احتقارهم واستصغارهم لما يَرَى من رفعته عليهم، يقال في الفعل منه: غَمَطَهُ بفتح الميم يَغْمِطه بكسرها، وغَمِطَهُ بكسر الميم يَغْمَطُهُ بفتحها. أما "بَطَرُ الحقّ"

(1)"المفهم" 1/ 288.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 90.

ص: 234

فهو دفعه، وإنكاره ترفعًا وتجبرًا. (1).

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد، وورد أيضا في حديث الأسماء الحسنى، وفي إسناده مقال، والمختار جواز إطلاقه على الله تعالى، ومن العلماء من منعه، قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين رحمه الله تعالى: ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نَقْضِ فيه بتحليل ولا تحريم، فإن الأحكام الشرعية تُتَلَقَّى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحليل أو تحريم، لكنا مُثبتين حكما بغير الشرع، قال: ثم لا يُشترط في جواز الإطلاق وُرود ما يُقطَع به في الشرع، ولكن ما يقتضي العملَ، وإن لم يوجب العلم، فإنه كاف، إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بهن في تسميه الله تعالى ووصفه.

قال النوويّ: هذا كلام إمام الحرمين ومحله من الإتقان والتحقق بالعلم مطلقًا، وبهذا الفن خصوصًا معروف بالغاية العليا.

وأما قوله: لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم؛ لأن ذلك لا يكون إلا بالشرع، فهذا مبنيّ على المذهب المختار في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، فإن المذهب الصحيح عند المحققين من الشافعيّة أنه لا حكم فيها لا بتحليل ولا تحريم ولا إباحة، ولا غير ذلك؛ لأن الحكم عند أهل السنة لا يكون إلا بالشرع. وقال بعض الشافعيّة: إنها على الإباحة. وقال بعضهم: على التحريم. وقال بعضهم: على الوقف لا يُعلم ما يقال فيها، والمختار الأول. والله أعلم.

وقد اختَلَفَ أهل السنة في تسمية الله تعالى، ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يَرِد به الشرع، ولا مَنَعَه، فأجازه طائفةٌ، ومنعه آخرون، إلا أن يرد به شرع مقطوع به، من نَصِّ كتاب الله، أو سنة متواترة، أو إجماع على إطلاقه، فإن ورد خبر

(1)"شرح مسلم" 2/ 90. و"المفهم" 1/ 289.

ص: 235

واحد فقد اختلفوا فيه، فأجازه طائفة، وقالوا: الدعاء به والثناء من باب العمل، وذلك جائز بخبر الواحد، ومنعه آخرون؛ لكونه راجعا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع، قال القاضي: والصواب جوازه؛ لاشتماله على العمل، ولقوله الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ جواز تسمية الله تعالى ووصفه بما ورد في خبر الآحاد، مثل هذا الحديث، وأن خبر الآحاد الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يوجب العلم والعمل معًا، والقول بأنه لا يوجب العلم قول ضعيف، وإن كان كثُر القائلون به، وقد ذكرتُ تحقيقه في "التحفة المرضيّة" و"شرحها"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه]: اختُلِف في الرجل الذي قال: "إنّ الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنًا": قيل: هو مالك بن مُرارة الرّهَاويُّ، قاله القاضي عياض، وأشار إليه أبو عمر بن عبد البر رحمهما الله، وقد جمع أبو القاسم خَلَف بن عبد الملك بن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالا من جهات، فقال: هو أبو رَيحانة، واسمه شمعون، ذكره ابن الأعرابيّ، وقال عليّ ابن المدينيّ في الطبقات: اسمه ربيعة بن عامر. وقيل: سَوَاد -بالتخفيف- ابن عمرو، ذكره ابن السكن. وقيل: معاذ بن جبل، ذكره ابن أبي الدنيا في "كتاب الخمول والتواضع". وقيل: مالك بن مُرَارة الرّهَاويّ، ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث". وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاصي، ذكره معمر في "جامعه". "وقيل: خُرَيم بن فاتك. هذا ما ذكره ابن بشكوال.

وقولهم: "ابن مُرَارة الرُّهاويّ: هو مُرارة -بضم الميم، وبراء مكررة، وآخره هاء- و"الرّهَاويّ": هنا نسبة إلى قبيلة، ذكره الحافظ عبد الغنيّ بن سعيد المصريّ -بفتح

(1)"شرح صحيح مسلم" 2/ 90 - 91.

ص: 236

الراء-، ولم يذكره ابن ماكولا، وذكر الجوهريّ في "صحاحه" أن الرّهَاويّ نسبة إلى رُهَا بضم الراء حيّ من مَذْحِج. وأما "شمعون": فبالعين المهملة، وبالمعجمة، والشين معجمة فيهما. انتهى كلام النوويّ رحمه الله (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

60 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَلَّصَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّارِ وَأَمِنُوا، فَمَا مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ لِصاحِبِهِ في الحقِّ يَكُوَنُ لَهُ في الدُّنْيَا، أَشَدَّ مُجَادَلَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ في إِخْوَانِهِمِ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ، قَالَ: يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا، فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا، فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ، فَيَأْتُونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ، لَا تَأْكُلُ النَّارُ صُوَرَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كَعْبَيْهِ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرَجْنَا مَنْ قَدْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُوُل: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنَ الْإِيَمانِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ هَذَا، فَلْيَقْرَأْ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) بن عبد الله خالد الذهليّ النيسابوريّ الثقة الحافظ الحجة الثبت [11] تقدّم في 2/ 16.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام الحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظٌ مصنّف، عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9] تقدّم في 2/ 16.

(1)"شرح مقدّمة مسلم" 2/ 92.

ص: 237

3 -

(مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُرْوة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبتٌ فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عُروة شيئًا، وكذا فيما حدّث به بالبصرة، من كبار [7] تقدّم في 2/ 16.

4 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العَدَويّ مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقة فقيه يرسل [3] تقدّم في 2/ 13.

5 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ القاصّ، مولى ميمونة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أخو سليمان، وعبد الملك، وعبد الله بني يسار، ثقة فاضلٌ صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3].

رَوَى عن معاذ بن جبل، وفي سماعه منه نظر، وعن أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبادة ابن الصامت، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدريّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، ومحمد بن عمر بن عطاء، ومحمد بن عمرو بن حَلْحَلة، وهلال بن عليّ، وزيد بن أسلم، وغيرهم.

قال البخاري، وابن سعد: سمع من ابن مسعود. وقال أبو حاتم: لم يسمع منه. وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، سمع من أبي عبد الله الصنابحي، وأما مالك فقال: عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي. رَوَى الواقديّ أنه مات سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقال غيره: سنة (94).

وقال ابن سعد: وهو أشبه، وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة (103)، وهو ابن (84) سنة، وجَزَم ابن يونس في "تاريخ مصر" بأنه تُوُفّي بالإسكندرية. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قدم الشام، فكان أهل الشام يَكْنُونه بأبي عبد الله، وقَدِم مصر فكان أهلها يَكنونه بأبي يسار، وكان صاحب قِصَص وعبادة وفضل، كان مولده سنة (19) ومات سنة (103) وكان موته بالإسكندرية. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.

6 -

(أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي

ص: 238

الله عنهما، تقدم في 4/ 37، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من زيد، وشيخه نيسابوريّ، والباقيان يمنيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء، وهما للاتّصال على الأصحّ في "عن" من غير مدلّس، إن حصل لقاء وسماع، واكتفى مسلم بالعاصرة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه، أنه "قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَلَّصَ اللَّه المُؤْمِنينَ مِنَ النَّارِ" أي نجّاهم بإبعادهم منها (وَأَمِنُوا) أي من الدخول فيها (فَمَا) نافية، حجازيّة تعمل عمل "ليس"، واسمها قوله (مُجَادَلَةُ) أي مخاصمة (أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ في الحَقِّ) الجارّان متعلّقان بـ "مجادلة"(يَكُونُ لَهُ) أي يثبت ذلك الحقّ لذلك الأحد على صاحبه (في الدُّنْيَا) متعلّق بخبر "يكون"، والجملة صفة لـ "الحقّ"، أو حال منه، وقوله (أَشَدَّ) منصوب على أنه خبر "ما"، وفي رواية:"بأشدّ" بزيادة الباء في خبر "ما"، كما قال في الخلاصة:

وَبَعْدَ "مَا" وَ"لَيْسَ" جَرَّ الْبَا الْخَبَرْ

وَبَعْدَ "لَا" ونَفْي "كَانَ" قَدْ يُجَرْ

(مُجَادَلَةً) منصوب على التمييز، قال السنديّ: وفيه مبالغة، حيث جعل المجادلة ذات مجادلة، ولا يجوز جرّ "مجادلة" بإضافة اسم التفضيل إليها؛ لأنه يلزم الجمع بين الإضافة و"من"، واسم التفضيل لا يُستعمل بهما، وأيضًا التنكير يأبى احتمال الإضافة. انتهى.

وقوله (مُجَادَلَةً) منصوب على التمييز (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من مجادلة المؤمنين، وهو

ص: 239

متعلّق بـ "أشدّ"، وفيه -كما الطيبيّ- وضع المظهر موضع الضمر، إذ الظاهر أن يقول:"منكم". أي بأشدّ مجادلة منكم (لِرَبِّهِمْ) متعلّقٌ بـ "مجادلة"، وكذا قوله (في إِخْوَانِهِمِ الَّذِينَ أُدْخِلُوا النَّارَ) ببناء الفعل للمفعول: أي الذين أدخلهم الله تعالى النار بسبب أعمالهم السيّئة.

والمعنى إنّ مجادلةَ المؤمنين بعضِهم لبعضٍ في الدنيا بسبب حقّ يثبت لهم، لا تكون أشدّ من مجادلة المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى في الآخرة، حين يؤذن لهم بدخول الجنة، وقد أُدخِل إخوانهم النار بسبب سيّئاتهم، فيناشدون الله سبحانه وتعالى أن يُخرِج إخوانهم من النار، فيدخلوا معهم الجنة، كما يشير إلى هذا قوله:"يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلّون معنا إلخ". وهذا المعنى واضح.

ووقع عند مسلم في "صحيحه بلفظ": "فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدّ مناشدةً لله في استقصاء الحقّ من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار".

قال النوويّ في "شرحه": [اعلم]: أن هذه اللفظة -يعني استقصاء- ضُبِطت على أوجه: أحدها: "استيضاء" بتاء مثناة من فوقُ، ثم ياء مثناة من تحتُ، ثم ضاد معجمة. والثاني:"استضاء" بحذف المثناة من تحتُ. والثالث: "استيفاء" بإثبات المثناة من تحت، وبالفاء بدل الضاد. والرابع:"استقصاء" بمثناة من فوقُ ثم قاف، ثم صاد مهملة.

فالأول: موجود في كثير من الأصول ببلادنا.

والثاني: هو الموجود في أكثرها، وهو الموجود في "الجمع بين الصحيحين" للحميدي.

والثالث: في بعضها، وهو الموجود في "الجمع بين الصحيحين" لعبد الحق الحافظ.

والرابع: في بعضها، ولم يذكر القاضي عياض غيره، وادّعى اتفاق النسخ عليه، وادّعى أنه تصحيف ووهم، وفيه تغيير، وأن صوابه ما وقع في كتاب البخاري، من رواية ابن بُكير "بأشدّ مُناشدةً لي في استقصاء الحق" -يعنى في الدنيا- من المؤمنين لله

ص: 240

يوم القيامة لإخوانهم، وبه يتم الكلام ويتوجه. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله (1).

وليس الأمر على ما قاله، بل جميع الروايات التي ذكرناها صحيحة، لكل منها معنى حسن، وقد جاء في رواية يحيى بن بكير عن الليث:"فما أنتم بأشدّ مناشدةً في الحق، قد تبين لكم، من المؤمنين يومئذ للجبار تعالى وتقدس، إذا رأوا أنهم قد نَجَوا في إخوانهم"، وهذه الرواية التي ذكرها الليث تُوضح المعنى، فمعنى الرواية الأولى والثانية: إنكم إذا عَرَضَ لكم في الدنيا أمر مُهِمّ، والتبس الحال فيه، وسألتم الله تعالى بيانه، وناشدتموه في استيضائه، وبالغتم فيها، لا تكون مناشدةُ أحدكم بأشدّ من مناشدة المؤمنين لله تعالى في الشفاعة لإخوانهم.

وأما الرواية الثالثة والرابعة: فمعناهما أيضًا: ما منكم من أحد يناشد الله تعالى في الدنيا في استيفاء حقه، أو استقصائه، وتحصيله من خصمه، والمُعْتَدِي عليه بأشد من مناشدة المؤمنين الله تعالى في الشفاعة لإخوانهم يوم القيامة. والله أعلم. انتهى كلام النوويّ (2).

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُونَ) أي المؤمنون (رَبَّنَا) بتقدير حرف النداء: أي يا ربّنا (إِخْوَانُنَا) خبر لمحذوف، أي هم إخواننا، أو هو مبتدأ، خبره جملة قوله:(كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَحُجُّونَ مَعَنَا) أي كانوا يفعلون هذه العبادات في الدنيا، كما كنّا نفعلها، فليس المراد اجتماعهم على فعلها، فإنه لا يشترط ذلك (فَأَدْخَلْتَهُمُ النَّارَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَيَقُولُ) أي الله سبحانه وتعالى (اذْهَبُوا، فَأَخْرِجُوا) هذه الرواية صريحة في كون الإخراج للمؤمنين، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ:"أمر الملائكة أن يُخرِجوهم".

وفي حديث أنس رضي الله عنه عنده قوله صلى الله عليه وسلم: "فَيَحُدّ لي حدّا، فأخرجهم"، ويُجمع بأن الملائكة يُؤمرون على ألسنة الرسل بذلك، فالذين يباشرون الإخراج هم الملائكة. قاله

(1)"إكمال المعلم" 1/ 560.

(2)

"شرح صحيح مسلم" 3/ 30 - 31.

ص: 241

في "الفتح" 13/ 284.

(مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ) أي من إخوانكم الموصوفين بما ذكرتم (فَيَأْتُونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ) وقوله: (لَا تَأْكُلُ النَّارُ صُوَرَهُمْ) جملة في محلّ تعليل: أي لأن النار لا تأكل صورهم، ولا تغيّرهم، والمراد مواضع سجودهم، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين:"حرّم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود"، وآثار السجود تكون في أعضائه السبعة.

(فَمِنْهُمْ) أي من إخوانهم الذين شفعوا لهم (مَنْ) بفتح الميم موصولة (أَخَذَتْهُ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) بفتح الهمزة: جمع نِصف (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى كعْبَيْهِ).

[فإن قيل]: هذا نصّ على أن النار قد أخذت بعض أعضاء السجود، وهو يخالف قوله:"لا تأكل النار صُوَرهم"، وقوله:"حرّم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود"، فكيف الجواب؟.

[قلت]: أجيب بأنا نقول: تأخذ النار، فتغيّرُ، ولا تأكل، فتذهب، ولا يبعد أن يقال: إن تحريم الصور على النار إنما يكون في حق هذه الطائفة المشفوع لهم أوّلًا لعلوّ رتبتهم على من يخرج بعدهم، فتكون النار لم تقرب صورهم، ولا وجوههم بالتغيير، ولا الأكل. قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم" 1/ 448 - 449.

وقال في "الفتح" عند شرح قوله: فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود: ما حاصله:

هذا جواب عن سؤال مقدر، تقديره: كيف يَعرِفون أثر السجود، مع قوله في حديث أبي سعيد، عند مسلم:"فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فَحْمًا أَذِن الله بالشفاعة"، فإذا صاروا فحما كيف يتميز محل السجود من غيره؟ حتى يُعرف أثره.

وحاصل الجواب تخصيص أعضاء السجود، من عموم الأعضاء التي دل عليها هذا الخبر، وأن الله منع النار أن تُحْرِق أثر السجود من المؤمن، وهل المراد بأثر السجود نفس العضو، الذي يَسجُد، أو المراد مَن سَجَد؟ فيه نظر، والثاني أظهر.

ص: 242

قال القاضي عياض: فيه دليل على أن عذاب المؤمنين المذنبين مخالف لعذاب الكفار، وأنها لا تأتي على جميع أعضائهم، إما إكراما لموضع السجود، وعظم مكانهم من الخضوع لله تعالى، أو لكرامة تلك الصورة التي خُلق آدم والبشر عليها، وفُضِّلوا بها على سائر الخلق.

قال الحافظ: الأول منصوص، والثاني محتمل، لكن يشكل عليه أن الصورة لا تختص بالمؤمنين، فلو كان الإكرام لأجلها لشاركهم الكفار، وليس كذلك.

قال النووي: وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة، وهي: الجبهة، واليدان، والركبتان، والقدمان، وبهذا جزم بعض العلماء. وقال عياض: ذِكر الصورة، ودارات الوجوه، يدل على أن المراد بأثر السجود الوجه خاصة، خلافا لمن قال: يشمل الأعضاء السبعة، ويؤيد اختصاص الوجه أن في بقية الحديث:"إن منهم من غاب في النار إلى نصف ساقيه"، وفي حديث سمرة عند مسلم:"وإلى ركبتيه"، وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد:"وإلى حِقْوه".

قال النووي: وما أنكره هو المختار، ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الآخر في مسلم:"إن قوما يخرجون من النار، يحترقون فيها إلا دارات وجوهم"، فإنه يُحمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار، فيكون الحديث خاصا بهم، وغيره عاما، فيُحمل على عمومه، إلا ما خص منه.

قال الحافظ: إن أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها، وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة، وهو الجبهة سَلِمَ من الاعتراض، وإلا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع، إلا هؤلاء، وإن كانت علامتهم الغُرّة كما تقدم النقل عمن قاله، وما تعقبه بأنها خاصة بهذه الأمة، فيضاف إليها التحجيل، وهو في اليدين والقدمين، مما يصل إليه الوضوء، فيكون أشمل مما قاله النووي، من جهة دخول جميع اليدين والرجلين، لا تخصيص الكفين والقدمين، ولكن ينقص منه الركبتان. وما استدل به القاضي من بقية الحديث، لا يمنع سلامة هذه الأعضاء، مع الانغمار؛ لأن

ص: 243

تلك الأحوال الأخروية خارجة عن قياس أحوال أهل الدنيا.

ودل التنصيص على دارات الوجوه أن الوجه كله لا تؤثر فيه النار، إكراما لمحل السجود، ويحمل الاقتصار عليها على التنويه بها لشرفها.

وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلما، ولكنه كان لا يصلي لا يخرج، إذ لا علامة له، لكن يُحمل على أنه يخرج في القبضة، لعموم قوله:"لم يعملوا خيرا قط"، وهو مذكور في حديث أبي سعيد المذكور عند البخاريّ في "كتاب التوحيد". وهل المراد بمن يَسلَم من الإحراق من كان يسجد، أو أعم من أن يكون بالفعل، أو القوة؟، الثاني أظهر؟ ليدخل فيه من أسلم مثلا وأخلص، فبغته الموت قبل أن يسجد. انتهى "فتح" 13/ 285 - 286.

(فَيُخْرِجُونَهُمْ) أي من النار (فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا) أي يا ربّنا (قَدْ أَخْرَجْنَا مَنْ أَمَرْتَنَا) أي بإخراجه ممن له علامة يُعرَف بها، وهو مواضح السجود، كما سبق آنفًا (ثمّ يَقُولُ) أي الله سبحانه وتعالى، (أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنَ الْإِيَمانِ) أي زيادة على التوحيد؛ لما ثبت في حديث آخر:"أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، وعمل من الخير ما يزن ذرّة"(ثُمَّ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ وَزْنُ نِصْفِ دِينَارٍ، ثمّ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مثقال حَبّة) أي وزنُ حبّة، و"مثقالُ" بالرفع اسم "كان"، وقوله:(من خَرْدل) بيان لـ "مثقال"، و"الْخَرْدَل" -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح الدال المهملة، آخره لام- قال في "اللسان": الْخَرْدَل: ضربٌ من الْحُرْف (1) معروف، الواحدة خَرْدَلةٌ. انتهى (2).

ووقع في رواية مسلم بلفظ: "مثقال ذَرَّةٍ من خير" بفتح المعجمة، وتشديد الراء المفتوحة، قيل: معناها: أقلّ الأشياء الموزونة. وقيل: هي الهباء الذي يظهر في شُعاع الشمس، مثل رءوس الإبر. وقيل: هي النملة الصغيرة. ويُروى عن ابن عبّاس رضي

(1)"الْحُرْ" بضم، فسكون: حَبُّ كالخردل، قاله الأزهريّ، وقال أبو حنيفة: هو الذي تسميه العامة حبّ الرَّشَاد. أفاده في "اللسان".

(2)

"لسان العرب" 11/ 203.

ص: 244

الله تعالى عنهما، أنه قال: إذا وضعت كفّك في التراب، ثم نفضتها، فالساقط هو الذّرّ.

ويقال: إن أربع ذرّات وزن خَرْدلة.

وعند البخاريّ في أواخر "كتاب التوحيد" من حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، ثم من كان في قلبه أدنى شيء"، قال في "الفتح": وهذا معنى الذّرّة. انتهى 13/ 145.

[تنبيه]: ضبط "ذَرَّة" بالذال المعجمة، والراء-: هو الصواب، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: كذا صحّت روايتنا فيه بفتح الذال المعجمة، وتشديد الراء: وهي الصغيرة من النمل، ولم يُختلف أنه كذلك في هذا الحديث، وقد صحّفه شعبة في حديث أنس رضي الله عنه-أي عند مسلم- فقال:"ذُرَة" بضم الذال المعجمة، وتخفيف الراء، على ما قيّده أبو عليّ الصدفيّ، والسمرقنديّ، وفيما قيّده الْعُذريّ، والْخُشنيّ "دُرّة" بالدال المهملة، وتشديد الراء: واحدة الدُّرّ، وهو تصحيف التصحيف. انتهى "المفهم" 1/ 449.

(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (فَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ هذا) أي بهذا الذي ذُكر في هذا الحديث من خروج الموحّدين الذين عندهم شيء من الإيمان من النار بشفاعة إخوانهم المؤمنين الصالحين.

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا ليس على معنى أنهم اتّهموه، وإنما كان منه على معنى التأكيد، والعَضْد. انتهى. "المفهم" 1/ 449.

(فَلْيَقْرَأْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]. هكذا الآية عند المصنّف، وهي التي في "الصحيحين"، وهي الظاهرة في استدلال أبي سعيد رضي الله عنه على ما قاله.

ووقع في رواية النسائيّ بلفظ: فليقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، إِلَى {عَظِيمًا} [النساء: 48]). ولا يبعُد الاستدلال لأبي سعيد بهذه الآية أيضًا ووجه ذلك أن الله تعالى ذكر أنه يغفر ما دون الشرك، فمن عَرَف أنه سبحانه وتعالى يغفر جميع الذنوب كبيرها، وصغيرها، غير الشرك، لا

ص: 245

يستبعد ما ذُكر في هذا الحديث من شفاعة المؤمنين لإخوانهم، وإخراجهم لهم من النار، وإن كانوا ليست لهم أعمال صالحة، بل هم أصحاب كبائر، بحيث تكون أعمالهم الصالحة لقلّتها بمقدار وزن ذرّة. والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا اختصره المصنّف، وكذا عند النسائيّ رحمهما الله تعالى، وهو حديث طويل ساقه الشيخان في "صحيحيهما" بطوله، وهذا لفظ البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب التوحيد" رقم (7440) قال:

حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر، إذا كانت صحوا؟، قلنا: لا، قال:"فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما"، ثم قال: ينادي مناد، ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، وغُبَّرات (1) من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيرًا ابن الله، فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بَرّ، أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم؟ وقد ذهب الناس فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار صورة غير صورته التي رأوه فيها

(1) أي بقاياهم.

ص: 246

أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟، فيقولون: الساق فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا، ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: "مَدْحَضَة، مَزَلَّة، عليه خَطاطيف (1)، وكلاليب، وحَسَكة (2) مُفَلطْحَة، لها شوكة عُقَيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يُسحَب سحبا، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق، قد تبين لكم، من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا، في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان، فأخرجوه، ويُحَرِّم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيُخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار، فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا.

قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرءوا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]، فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون، فيقول الجبار بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيُخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد

(1) جمع خُطّاف بضم الخاء، وتشديد الطاء، وهي الحديدة المعوجّة، كالكلّوب، يُختطف بها الشيء.

(2)

بفتحتين جمع حسكة، وهي شوكة صلبة.

ص: 247

رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيُجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه". انتهى.

ولفظ مسلم رحمه الله في "كتاب الإيمان" رقم (183):

183 -

وحدثني سُوَيد بن سعيد، قال: حدثني حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، أن ناسا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال:"هل تضارّون في رؤية الشمس بالظهيرة صَحْوًا ليس معها سحاب؟، وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صَحْوًا ليس فيها سحاب؟ "، قالوا: لا يا رسول الله، قال: "ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يومُ القيامة أَذَّنَ مؤذن، لِيَتَّبعْ كلُّ أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب، إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يَبْقَ إلا من كان يعبد الله من بَرٍّ وفاجرٍ وغُبَّرِ (1) أهل الكتاب، فَيُدعَى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تَبْغُون؟ قالوا: عَطِشنا يا ربنا فاسقنا، فيشار إليهم أَلَا تَرِدُون؟ فيُحشَرون إلى النار كأنها سَرَابٌ يَحطِم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار، ثم يُدْعَى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عَطِشنا يا ربنا فاسقنا، قال فيشار إليهم ألا تردون، فيُحشَرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار، حتى إذا لم

(1) أي بقاياهم.

ص: 248

يَبْقَ إلا من كان يعبد الله تعالى من بَرٍّ وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون؟ تتبع كلُّ أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثا، حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فَيَكْشِف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أَذِنَ الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقةً واحدةً كُلَّما أراد أن يسجد خَرَّ على قفاه، ثم يرفعون رءوسهم، وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يُضْرَب الجسر على جهنم، وتَحُلُّ الشفاعة، ويقولون: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ، قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دَحْضٌ مَزَلَّة، فيه خَطاطيف (1)، وكَلاليب، وحَسَكٌ (2) تكون بنجد فيها شُويكة، يقال لها: السَّعْدَان، فيَمُرُّ المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، ومَكْدُوسٌ في نار جهنم، حتى إذا خَلَصَ المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشَدَّ مناشدةً لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أَخْرِجوا مَنْ عَرَفتم، فتُحَرَّم صورهم على النار، فَيُخْرِجون خلقًا كثيرًا، قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقالَ دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نَذَر فيها أحدًا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف

(1) جمع خُطّاف بضم الخاء، وتشديد الطاء، وهي الحديدة المعوجّة، كالكلّوب، يُختطف بها الشيء.

(2)

بفتحتين جمع حسكة، وهي شوكة صلبة.

ص: 249

دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نَذَر فيها ممن أمرتنا أحدًا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نَذَر فيها خيرًا، وكان أبو سعيد الخدريّ يقول: إن لم تُصَدِّقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} ، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فَيَقْبِض قَبْضَةً من النار، فيُخرِج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حُمَمًا، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فَيَخْرُجون كما تخرج الحبَّة في حَمِيل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أُصَيفِر وأُخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض، فقالوا: يا رسول الله كأنك كنت تَرْعَى بالبادية، قال: فَيَخْرُجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يَعْرِفهم أهل الجنة، هؤلاء عُتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قَدَّموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أَيُّ شيء أفضل من هذا، فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا.

قال مسلم: قرأت على عيسى بن حماد زُغْبَةَ المصري هذا الحديث في الشفاعة، وقلت له: أُحَدِّث بهذا الحديث عنك أنك سمعت من الليث بن سعد؟ فقال: نعم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (9/ 60) بهذا الإسناد فقط، و (البخاريّ) (6/ 56 و 198

ص: 250

و9/ 158) و (مسلم)(1/ 114 و 117) و (الترمذيّ)(2598) و (النسائيّ)(8/ 112) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 16 و 94)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان تفاوت الإيمان زيادةً ونَقْصًا.

ووجه ذلك ظاهر في قوله: "وزن دينار"، و"وزن نصف دينار"، و"وزن حبّة من خردل"، فإنه يدلّ على أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وقد تقدّم في أول الباب أن مذهب المحدّثين، والمحققين من أهل العلم أن الإيمان قول، وفعل، ويزيد، وينقص.

2 -

(ومنها): إثبات الشفاعة للمؤمنين.

3 -

(ومنها): فضل المحبّة في الله تعالى، فإن هؤلاء المؤمنين الذي يجادلون عن إخوانهم ما حملهم على ذلك إلا المحبة التي ربطت بينهم، فقد نفعوهم في يوم لا ينفع فيه مال، ولا بنون.

4 -

(ومنها): تفاوت أهل النار على قدر تفاوت أعمالهم السيّئة.

5 -

(ومنها): سعة رحمة الله تعالى، وواسع جوده وكرمه، حيث إنه لا يُضيع أعمال عباده، وإن قلّت، وكانت مثقال ذرّة، بل يضاعفها، ويؤت من عنده أجرًا عظيمًا {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

61 -

(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ، وَكَانَ ثِقَةً، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِتْيَانٌ، حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن إسحاق الطنافسيّ الثقة العابد المذكور في حديث أول

ص: 251

الباب.

2 -

(وَكيعٌ) بن الجرّاح الحافظ الحجة المذكور أول الباب أيضًا.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ) الإسكاف السدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [9].

رَوَى عن أبي رَجَاء الْعُطَارديّ، وأبي عمران الْجَوْنيّ، ومحمد بن سيرين، وأبي التَّيّاح. وروى عنه وكيع، وعثمان بن عمر بن فارس، وعبد الصمد، وزيد بن الْحُبَاب، وأبو داود الطيالسي، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم.

قال أحمد: ثقة، مقارب الحديث. وقال أبو حاتم: لا بأس به ثقة. وقال إسحاق ابن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال علي بن محمد: ثنا وكيع، ثنا حماد بن نَجيح: وكان ثقة. وذكره ابن عديّ في "الكامل"، ثم قَوّاه. وذكره ابن حبان في "الثِّقات".

أخرج له البخاري تعليقًا، وله عند النسائي حديثٌ واحدٌ في أكثر أهل الجنة والنار، وعند المصنّف في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: قوله: "وكان ثقة" الظاهر أنه من كلام وكيع، والله تعالى أعلم.

4 -

(أبو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ، ويقال: الكنديّ البصريّ، أحد العلماء، مشهور بكنيته، ثقة، من كبار [4].

رَأَى عمران بن حصين، ورَوى عن جندب بن عبد الله البجلي، وأنس، وأبي فِرَاس، ربيعة بن كعب الأسلمي، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عبيد، وسليمان التيمي، وابن عون، وأبو عامر الخزاز، وشعبة، وأبان، وأبو قُدامة الحارث بن عبيد، وهمام بن يحيى، والحمادان، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال عمرو بن علي: مات سنة ثمان وعشرين ومائة، واسمه عبد الرحمن، كذا قال. وقال غيره: سنة تسع. وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة ثلاث وعشرين، وقد قيل: سنة ثمانية. وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث. وقال الحاكم: لم يصح سماعه من عائشة، وصح سماعه من أنس. وفي الطبراني بإسناد صحيح، عن حماد بن سلمة، عن

ص: 252

أبي عمران الجونيّ، قال: بايعت ابن الزبير على أن أقاتل أهل الشام، فاستفتيت جندبا.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم 61 و186 و 295 و 1256 و 2862 و 3362 و 3958 و 4225.

[تنبيه]: قوله: "الجَوْنيّ" -بفتح الجيم، وسكون الواو-: نسبة إلى جَوْن بطن من الأزد. قاله في "لبّ اللباب" 1/ 223.

5 -

(جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن سفيان الْبَجَليّ، ثمّ الْعَلَقيّ -بفتحتين، ثم قاف- أبو عبد الله، وربّما نُسِب إلى جدّه، ويقال: جندب بن خالد بن سفيان. رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن حذيفة، وروى عنه الأسود بن قيس، وأنس بن سيرين، والحسن البصري، وأبو مجْلَز، وأبو عمران الجوني، وأبو تميمة الْهُجَيميّ، وصفوان بن مُحرِز، وغيرهم. وقال البغوي عن أحمد: جندب ليست له صحبة قديمة. قال البغوي: وهو جندب بن أم جندب. وقال ابن حبان: هو جندب الخير. وقال خليفة: مات في فتنة ابن الزبير، وذكره البخاري في "التاريخ" فيمن توفي من الستين إلى السبعين. أخرج له الجماعة، وله (43) حديثًا، اتفق الشيخان على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة أحاديث، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم 61 و 3152 و 4016 و 4207. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم ثقات، ومن رجال الجماعة، إلا شيخه، فمن أفراده، وحماد بن نَجِيح، فتفرّد به هو والنسائيّ، وعلّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه التحديث في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضعين.

4 -

(ومنها): أن حمادًا، وأبا عمران، والصحابيّ هذا أول محلّ ذكرهم في الكتاب، أما حماد فليس له ذكر في غير هذا المحلّ، وأما أبو عمران، فله في هذا الكتاب ثمانية مواضع، وأما الصحابيّ، فله أربعة مواضع، كما نبّهنا على ذلك في ترجمتهم، والله تعالى أعلم.

ص: 253

شرح الحديث:

(عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) البجليّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِتْيَانٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من اسم "كان". و"الفتيان" -بكسر، فسكون-: جمع فَتًى -بفتحتين، والقصر- قال في "القاموس": الْفَتَاءُ كسَمَاء: الشَّبَاب، والْفَتَى: الشابُّ والسَّخِيُّ الكريم، وهما فَتيَانِ، وفَتَوَان، والجمع فِتْيَانٌ، وفِتْوَةٌ، وفُتُوٌّ، وفُتِيٌّ، وهي فَتَاةٌ، جمعها فَتيَات، وكغنيّ: الشابّ من كلّ شيء، وهي فتيّةٌ، جمعها فِتَاءٌ. انتهى (1).

ونحوه في "اللسان"، قال: والفِعلُ فَتُوَ يَفْتُو فَتَاءً، وقد فَتِي -بالكسر- يَفْتِي فَتًى، فهو فَتِيُّ السّنّ بَيِّنُ الفَتَاء. انتهى (2). وقال في "المصباح": الفَتَى: العبد، وجمعه في القلّة فِتْيةٌ، وفي الكثرة فِتْيان، والأمة فَتَاةٌ، وجمعها فَتيَاتٌ، والأصل فيه أن يقال للشابّ الحديث فَتًى، ثم استُعير للعبد، وإن كان شيخًا مجازًا باسم ما كان عليه. انتهى (3).

(حَزَاوِرَةٌ) -بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الزاي، وكسر الواو، ويقال: حَزَاورُ بلا هاء، قال ابن الأثير: جمع حَزْوَر، وحَزَوّر، وهو الذي قارب البلوغ، والتاء فيه لتأنيث الجمع. انتهى (4). وقال ابن منظور:"الحزْوَرُ -أي كجعفر- و" الحزَوَّر بتشديد الواو: الغلام الذي قد شبّ، وقَوِي، قال الراجز:

لَنْ يَعْدَمَ الْمَطِيُّ مِنِّي مِسْفَرَا

شَيْخًا بَجَالًا وَغُلَامًا حَزْوَرَا

وقال:

لجَنْ يَبْعَثُوا شَيْخًا وَلَا حَزَوَّرَا

بِالْفَاسِ إِلَّا الأَرْقَبَ المُصَدَّرَا

والجمع حَزَاوِرُ، وحَزَاوِرَةٌ، زادوا الهاء لتأنيث الجمع (5).

(1) راجع "القاموس" ص 1188.

(2)

"لسان العرب" 15/ 145.

(3)

"المصباح" 2/ 462.

(4)

راجع "النهاية" 1/ 380.

(5)

"لسان العرب" 4/ 186.

ص: 254

وقال في "القاموس": "الحَزَوّرُ كعَمَلَّسٍ: هو الغلام القويّ، والرجل القويّ، والضعيف، ضدّ. قاله في "القاموس" (1).

(فَتَعَلَّمْنَا الْإِيَمانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي تلاوته، ومعناه (ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِه) أي بسبب القرن (إِيمَانًا) وهذا معنى قوله عز وجل: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه هذا صحيحٌ، قال البوصيريّ: هذا إسناد صحيحٌ، رجاله ثقات، رواه البيهقيّ في "سننه" من طريق الحسين بن حُريث، عن وكيع به. انتهى. وهو من أفراد المصنّف أخرجه هنا (9/ 61) بهذا الإسناد فقط. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن الإيمان يزيد وينقص، كما أسلفت تقريره في أول "باب الإيمان".

2 -

(ومنها): أنه يُستفاد منه أن تعلّم علم العقائد قبل تعلّم الفقه والقرآن.

3 -

(ومنها): أن القرآن يزيد الإيمان، ويتنوّر به القلب، وينشرح به الصدر، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال سبحانه وتعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 23]، وقال سبحانه وتعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) راجع "القاموس" ص 338.

ص: 255

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجة رحمه الله في أول الكتاب قال:

62 -

(حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ نِزَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "صِنْفَانِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَيْسَ لُهَما في الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: المُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوَان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ رمي بالتشيّع [9] تقدّم في 2/ 21.

3 -

(عَليُّ بْنُ نِزَارٍ) بن حيّان الأسديّ الكوفيّ، مولى بني هاشم، ضعيفٌ [6].

روى عن أبيه، وزياد بن أبي زياد، وعكرمة مولى ابن عباس. وروى عنه يونس ابن أبي يعفور العبدي، والمفضل بن يونس الجعفي، ومحمد بن بشر العبدي، ومحمد بن فضيل، وغيرهم.

قال الدُّوريُّ عن ابن معين: ليس حديثه بشيء، وكذا قال ابن عَدِيّ. وقال الأزدي: ضعيف جدّا. وذكره يعقوب بن سفيان في "باب من يُرغَب عن الرواية عنهم"، وسمعتُ أصحابنا يضعفونه.

تفرد به الترمذي، والمصنّف بهذا الحديث فقط.

4 -

(أَبوه) نِزار بن حيّان الأسديّ مولى بني هاشم، ضعيف [6].

روى عن أبيه، وعكرمة، وعنه ابنه علي، وعبد الله بن محمد الليثي، والقاسم بن حبيب التمار، وعبد الغفار بن القاسم، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. ذكره ابن حبان في "الضعفاء"، وقال: يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه، حتى يَسبِق إلى القلب أنه المتعمد لذلك، لا يجوز الاحتجاج به. وذكر ابن عديّ في "الكامل" في ترجمة ابنه علي بن نِزَار حديث الباب، ثم قال: هذا الحديث أحد ما أُنكِر على علي بن نزار، وعلى والده.

تفرد به الترمذيّ، والمصنّف بهذا الحديث، وأعاده المصنّف برقم (75).

ص: 256

5 -

(عِكْرِمَة) مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدنيّ، أصله من البربر، كان لِحُصين ابن أبي الْحُرّ العنبريّ، فوهبه لابن عباس لمّا وَلِيَ البصرة لعلي رضي الله عنه، ثقة ثبتٌ عالم بالتفسير، ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبتُ عنه بدعة [3].

روى عن مولاه، وعلي بن أبي طالب، والحسن بن علي، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي سعيد، وعقبة بن عامر، وجماعة من الصحابة والتابعين.

وروى عنه إبراهيم النخعي، ومات قبله، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والشعبي وهما من أقرانه، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير، وقتادة، وخلق كثير.

قال عباس الدوري عن ابن معين: مات ابن عباس، وعكرمة عبد لم يعتقه فباعه علي بن عبد الله بن عباس، ثم استردّه، وفي رواية غيره واعتقه. وقال عبد الصمد بن معقل: لمّا قَدِم عكرمة الْجَنَدَ أهدى له طاوس نَخِيبًا بستين دينارًا، فقيل له؟ فقال: أتروني لا أشتري علم ابن عباس لعبد الله بن طاوس بستين دينارًا. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة: قرأ ابن عباس هذه الآية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 174] قال ابن عباس: لم أَدْر نجا القوم أو هلكوا؟ قال: فما زلت أبين له حتى عرف أنهم قد نجوا، فكساني حُلّة. وقال عمر بن فضيل عن عثمان بن حكيم: كنت جالسا مع أبي أمامة بن سهل بن حنيف، إذ جاء عكرمة، فقال: يا أبا أمامة أُذَكِّرُك الله هل سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عكرمة عني فصدقوه، فإنه لم يكذب علي؟ فقال أبو أمامة: نعم.

وقال عمرو بن دينار: دَفَع إلَيَّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة، وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه. وقال ابن عيينة: كان عكرمة إذا تكلم في المغازي فسمعه إنسان قال: كأنه مشرف عليهم يراهم. وقال جرير عن مغيرة: قيل لسعيد بن جبير: تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: نعم عكرمة. وقال إسماعيل بن أبي خالد: سمعت الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: كان أعلم التابعين أربعةً: عطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة،

ص: 257

والحسن. وقال سلام بن مسكين عن قتادة: أعلمهم بالتفسير عكرمة. وقال أيوب: اجتمع حفّاظ ابن عباس، فيهم سعيد بن جبير، وعطاء، وطاوسٌ على عكرمة، فأقعدوه، فجعلوا يسألونه عن حديث ابن عباس.

وقال البخاري ويعقوب بن سفيان عن علي بن المديني: مات بالمدينة سنة (104). وقال عمرو بن علي وغير واحد: مات سنة خمس ومائة. وقال الواقدي: حدثتني ابنته أم داود أنه تُوفي سنة مائة، وهو ابن ثمانين سنة. وقال أبو عمر الضرير والهيثم بن عدي: مات سنة ست ومائة. وقال عثمان بن أبي شيبة وغير واحد: مات سنة (107). وقيل: إنه مات سنة (11) وذلك وَهَمٌ.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (95) حديثًا.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطّلب رضي الله عنهما، تقدّم في 3/ 27، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "صِنْفَانِ) بكسر، فسكون: أي نوعان، وهو مبتدأ خبره قوله: "ليس لهما إلخ"، وقوله (مِنْ هَذ الْأُمَّةِ) متعلّق بصفة لـ "صنفان": أي من أمة الإجابة (لَيْسَ لُهَما في الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ) أي حظّ.

(الْمُرْجِئَةُ) بالرفع بدل من "صنفان"، أو خبر لمبتدأ محذوف: أي هما، ويجوز نصبه مفعولًا لفعل مقدّر: أي أعني، وجوّز بعضهم جرّه بدلًا من الضمير المجرور في "لهما".

وهو اسم فاعل من الإرجاء، وهو التأخير. قال ابن الأثير رحمه الله: المرجِئة هم فِرْقَةٌ من فِرَق الإسلام، يَعتقِدون أنه لا يضرّ مع الإيمان معصيةٌ، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سُمُّوا مرجِئةً لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي: أي أخّره عنهم، والمرجئة تُهمز ولا تُهمز، وكلاهما بمعنى التأخير، يقال: أرجأت الأمر، وأرجيته: إذا أخّرته، فتقول من الهمز رجلٌ مرجىءٌ، وهم المرجئةُ، وفي النسب مرجئيٌّ، مثلُ مُرْجِع، ومرجعةٍ، ومرجعيّ، وإذا لم تَهْمِز قلتَ: رجلٌ مُرجٍ، ومرجية، ومرجيٌّ،

ص: 258

مثلُ مُعْطٍ ومعطيةٍ، ومُعطيٌّ. انتهى (1).

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أرجأته بالهمز: أخّرته، والمرجئة اسم فاعل من هذا؛ لأنهم لا يَحكُمون على أحد بشيء في الدنيا، بل يؤخّرون الحكم إلى يوم القيامة، وتُخَفَّفُ، فتُقبل الهمزة ياء مع الضمير المتّصل، فيقال: أرجيته، وقرىء بالوجهين في السبعة. انتهى (2).

وقال السيّد محمد مرتضى في "شرح القاموس": والمرجئة طائفة من المسلمين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، كأنهم قدّموا القول، وأرجؤوا العمل: أي أخّروه؛ لأنهم يرون أنهم لو لم يُصلّوا، ولم يصوموا لنجّاهم إيمانهم. انتهى (3).

وقيل: المرجئة هم الجبريّة القائلون بأن إضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات، سُمّوا بذلك لأنهم يؤخّرون أمر الله ونهيه عن الاعتداد بهما، ويرتكبون الكبائر. وقيل: هم الذين يقولون: الإيمان قول وتصديق بلا عمل، فيؤخّرون العمل عن القول والتصديق.

وقال الشهرستانيّ: الإرجاء على معنيين:

[أحدهما]: التأخير، {قَالُوا أَرْجِهْ}: أي أمهله وأخّره.

[والثاني]: إعطاء الرجاء، أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخّرون العمل عن النيّة والقصد. وأما بالمعنى الثاني فظاهر؛ فإنهم كانوا يقولون: لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى القيامة، فلا يُقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار، قال: والرجئة أصنافٌ أربعة: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدريّة، والمرجئة الخالصة، ثم ذكر مقالات المرجئة الخالصة، من شاء الوقوف

(1)"النهاية في غريب الحديث" 2/ 206.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 221 - 222.

(3)

"تاج العروس" 1/ 69.

ص: 259

عليها رجع إلى "الملل والنحل"، والظاهر أن المراد في الحديث مرجئة الجبريّة. قاله في "المرعاة"(1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ثم إن حكم المرجئة أنهم لا يُكفّرون، بل يبدّعون، ويضلّلون ببدعتهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: بعد أن ذكر المرجئة، وأقوالهم: ما نصّه: ثم إن السلف والأئمة اشتدّ إنكارهم على هؤلاء، وتبديعهم، وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحدًا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متّفقون على أنهم لا يُكفّرون في ذلك، وقد نصّ أحمد وغيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة، ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرًا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم، فقد غَلِط غلطًا عظيمًا، والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما تكفير الجهميّة المشبّهة، وأمثال هؤلاء، ولم يكفّر أحمد الخوارج، ولا القدريّة، إذا أقرّوا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال، وعموم المشيئة، لكن حُكي عنه في تكفيرهم روايتان.

وأما المرجئة فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أن أحمد لم يكفّر أعيان الجهميّة، ولا كلّ من قال: إنه جهميّ كفّره، ولا كلّ من وافق الجهميّة في بعض بدعهم، بل صلّى خلف الجهميّة الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يُكفّرهم أحمد وأمثاله، انتهى (2).

(وَالْقَدَرِيَّةُ") بفتحتين، أو بفتح، فسكون: نسبة إلى القدَر -بفتح القاف، والدال المهملة، وبسكونها- وهم: قوم يَجحدون القدر، مولّدة (3).

وقال الأزهريّ في "التهذيب": القدريّة قوم يُنسبون إلى التكذيب بما قدّر الله من الأشياء، وقال بعض متكلّميهم: لا يلزمنا هذا اللقب؛ لأنا ننفي القدر عن الله عز وجل،

(1)"المرعاة شرح المشكاة" 1/ 193.

(2)

راجع "مجموع الفتاوى" 7/ 507 - 508.

(3)

راجع "تاج العروس في شرح القاموس" 3/ 482.

ص: 260

ومن أثبته فهو أولى به، قال: وهذا تمويه منهم؛ لأنهم يُثبتون القدّر لأنفسهم، ولذلك سُمُّوا، وقول أهل السنّة: إن علم الله سبق في البشر، فعلم كُفْرَ من كَفَر منهم، كما علم إيمان من آمن، فأثبتَ علمَهُ السابق وكتبه، وكلّ ميسّر لما خُلق له، وكُتب عليه. انتهى (1).

وقال في "المرعاة": القدّريّة هم الذين يقولون: إن العبد خالق لأفعاله، والأمر أُنُف من غير سبق قضاء وتقدير، واشتهر بهذا الاسم من لا يقول بالقدر لأجل أنهم تكلّموا في القدر، وأقاموا الأدلّة بزعمهم على نفيه، وتوغّلوا في هذه المسألة حتى اشتهروا بهذا الاسم، وبسبب توغّلهم، وكثرة اشتغالهم صاروا هم أحقّ بهذه النسبة من غيرهم، فلا يَرِدُ أن المثبت أحقّ بهذه النسبة من النافي، على أن الأحاديث صريحة في أن المراد ها هنا النافي، فاندفع توهّم القدريّة أن المراد في هذا الحديث المثبت للقدر لا النافي.

وربّما يتمسّك بالحديث من يُكّفّر الفريقين، قال ابن حجر الهيتميّ الشافعيّ: من أطلق تكفير الفريقين أخذًا بظاهر الحديث، فقد استروح، بل الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف أنا لا نُكَفِّر أهل البدع والأهواء، إلا إن أتوا بكفر صريح، لا استلزاميّ؛ لأن الأصحّ أن لازم المذهب ليس بلازم، ومن ثَمَّ لم يزل العلماء يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم، والصلاة على موتاهم، ودفنهم في مقابر المسلمين؛ لأنهم وإن كانوا مخطئين غيرَ معذورين حقّت عليهم كلمة الفسق والضلال، إلا أنهم لم يقصدوا بما قالوه اختيار الكفر، وإنما بذلوا وسعهم في إصابة الحقّ، فلم يحصل لهم، لكن لتقصيرهم بتحكيم عقولهم وأهويتهم وإعراضهم عن صريح السنّة والآيات من غير تأويل سائغ، وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع، فإن خطأهم إنما هو لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم مقاوم لدليل غيرهم من جنسه، فلم يُقصّروا، ومن ثَمَّ أُثيبوا على اجتهادهم. انتهى.

(1)"لسان العرب" 5/ 74 - 75.

ص: 261

وهذا أي عدم تكفيرهم قول المحقّقين من علماء الأمة احتياطًا، فيجري قوله:"ليس لهما في الإسلام نصيب" مجرى الاتّساع في بيان سوء حظّهم، وقلّة نصيبهم من الإسلام، نحو قولك: ليس للبخيل من ماله نصيب". انتهى.

وقال السنديّ: في صلاحية هذا الحديث للاستدلال به في الفروع نظرٌ كما ستعرف، فضلًا عن الأصول، والمطلوب فيها القطع، فكيف يُتمسّك به في التكفير؟ انتهى (1).

وقال صاحب "المرعاة": أحاديث الباب ما بين الصحاح والحسان والضعاف غير الساقطات تدلّ بمجموعها على أن الإيمان بالقدر من غير بحث ومنازعة من ضروريّات الدين، وركن من أركان الإسلام، فالظاهر أن إنكار القدر، وتكذيبه من البدع المكفّرة. انتهى (2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا ضعيف؛ لضعف عليّ بن نِزار، وأبيه، كما سبق في ترجمتهما.

[تنبيه]: حكم الحافظ سراج الدين القزوينيّ على حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا بأنه موضوع، فرد عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: ما نصّه: قلت: أخرجه الترمذيّ وابن ماجه، ومداره على نزار بن حيّان، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ غريبٌ. ونزارٌ هذا بكسر النون، وتخفيف الزاي، وآخره راء ضعيفٌ عندهم، ورواه عنه ابنه عليّ بن نزار، وهو ضعيفٌ، لكن تابعه

(1)"شرح السنديّ" 1/ 46 - 47.

(2)

"المرعاة" 1/ 193 - 194.

ص: 262

القاسم بن حبيب، وإذا جاء الخبر من طريقين كلٌّ منهما ضعيفٌ قوي أحد الطريقين بالآخر، ومن ثَمَّ حسّنه الترمذيّ، ووجدنا له شاهدًا من حديث جابر، ومن طريق ابن عمر، ومن طريق معاذ، وغيرهم، وأسانيدها ضعيفة، ولكن لم يوجد فيه علامة الوضع، إذ لا يلزم من نفي الإسلام عن الطائفتين إثبات كفر من قال بهذا الرأي؛ لأنه يُحمل على نفي الإيمان الكامل، أو المعنى أنه اعتقد اعتقاد الكافر لإرادة المبالغة في التنفير من ذلك لا حقيقة الكفر، وينصره أنه وصفهم بأنهم من أمته. انتهى كلام الحافظ (1). وهو بحث نفيس جدّا. والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: هذا الحديث ثبت من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ آخر، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، ونصّه:

حدّثنا عليّ بن عبد الله الفرغانيّ، قال: نا هارون بن موسى الفرويّ، قال: نا أبو ضمرة أنس بن عياض، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي لا يردان الحوض، ولا يدخلان الجنّة: القدريّة، والمرجئة"، وفي لفظ:"القدريّة مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم".

قال الطبرانيّ: لم يرو هذين الحديثين عن حميد الطويل إلا أنس بن عياض، تفرّد بهما هارون بن موسى الفرويّ. انتهى.

ورجال هذا الإسناد رجال الصحيح، غير هارون بن موسى، وهو -كما قال الحافظ أبو بكر الهيثميّ-: ثقة، وقال في "التقريب": لا بأس به، وشيخ الطبرانيّ، وقد وثقه بعضهم، فالحديث حسن، راجع ما كتبه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" 6/ 563 - 565. والله تعالى أعلم.

(1)"أجوبة الحافظ ابن حجر العسقلانيّ عن أحاديث المصابيح" المطبوعة في آخر "كتاب المشكاة" 3/ 1778 - 1779.

ص: 263

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند، وأعاده برقم (73) من طريق عبد الله بن محمد الليثيّ، عن نِزار، عن عكرمة، عن ابن عبّاس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنه، وأخرجه (الترمذيّ) (2149) وقال: حسن غريب (1). و (عبد بن حميد) في "مسنده"(579)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله كلامًا حسنًا فيما يتعلّق بالمرجئة والقدريّة، ونحوهم من أهل الأهواء، أحببت إيراده هنا لنفاسته، وتكميلًا للفوائد، ونشرًا للعوائد:

سئل رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة" ما الفِرَق؟ وما معتقد كلّ فرقة من هذه الصنوف؟.

فأجاب رحمه الله: الحمد لله الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد، كسنن أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، ولفظه:"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدةً، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدةً، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً كلها في النار إلا واحدة"، وفي لفظ:"على ثلاث وسبعين ملّةً".

وفي رواية: قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، وفي رواية قال:"هي الجماعة، يد الله على الجماعة".

ولهذا وَصَف الفرقةَ الناجيةَ بأنها أهل السنّة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم.

وأما الفرق الباقية، فإنهم أهل الشذوذ، والتفرّق، والبدع، والأهواء، ولا تبلغ

(1) هكذا في "تحفة الأشراف" 5/ 169 الحديث رقم (6222)، ووقع في النسخ المطبوعة:"غريب حسنٌ صحيح".

ص: 264

الفرقة من هؤلاء قريبًا من مبلغ الفرقة الناجية فضلًا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلّة، وشعار هذه الفِرَق مفارقة الكتاب والسنّة والإجماع، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة.

وأما تعيين هذه الفرق، فقد صنّف الناس فيهم مصنّفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة (1) هي إحدى الثنتين والسبعين لا بدّ له من دليل، فإن الله حرّم القول بلا علم عمومًا، وحرّم القول عليه بلا علم خصوصًا، فقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا في الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:168 - 169]، وقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وأيضًا فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظنّ" والهوى، فيجعل طائفته، والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنّة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحقّ والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جعل شخصًا من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة -كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في (2) الكلام في الدين، وغير ذلك- كان من أهل البدع

(1) كتب في الهامش: ما نصّه: كلمة لم تظهر.

(2)

هكذا النسخة.

ص: 265

والضلال والتفرّق.

وبهذا يتبيّن أن أحقّ الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصّبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتّباعها، تصديقًا، وعملًا، وحبّا، وموالاةً لمن والاها، ومعاداةً لمن عاداها، الذين يروون (1) المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يجعلون ما بُعث به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه، ويعتمدون عليه، وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردّونه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ويُفسّرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل الفرق والاختلاف، فما كَانَ معانيها موافقًا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظنّ، وما تَهوَى الأنفس، فإن اتّباع الظنّ جهل، واتّباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم، وجماعُ الشرّ الجهل والظلم، قال الله تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] إلى آخر السورة، وذكر التوبة لعلمه سبحانه وتعالى، أنه لا بدّ لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم، ثم يتوب الله على من يشاء، فلا يزال العبد المؤمن دائمًا يتبيّن له من الحقّ ما كان جاهلًا به، ويرجع عن عمل كان ظالمًا فيه، وأدناه ظلمه لنفسه، كما قال تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9]، وقال تعالى:{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1].

(1) هكذا النسخة، ولعله "يردّون" بالدال، فليحرر.

ص: 266

ومما ينبغي أيضًا أن يُعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.

ومن يكون قد ردّ على غيره من الطوائف الذين هو أبعد عن السنة منه فيكون محمودًا فيما ردّه من الباطل، وقاله من الحقّ، لكن يكون قد جاوز العدل في ردّه بحيث جحد بعض الحقّ، وقال بعض الباطل، فيكون قد ردّ بدعةً كبرة ببدعة أخفّ منها، وردّ بالباطل باطلًا بباطل أخفّ منه (1)، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه، ويعادون عليه كان من نوع الخطإ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة، بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر، وفسّق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرّق والاختلاف.

ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون، وقد صحّ الحديث في الخوارج عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه، خرّجها مسلم في "صحيحه"، وخرّج البخاريّ منها غير وجه، وقد قاتلهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفّين؛ إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا، وجاءت النصوص بترجيح هذه الحال.

فالخوارج لمّا فارقوا جماعة المسلمين، وكفّروهم، واستحلّوا قتالهم جاءت السنّة بما جاء فيهم، كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يَحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم،

(1) هكذا النسخة، ولعل الصواب:"وردّ باطلًا بباطل أخفّ منه"، فليُحرر.

ص: 267

وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يُجاوز حناجرهم، يَمرُقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة".

وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى قسمة النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد اعدِل، فإنك لم تعدل، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل"، فقال له بعض أصحابه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه يخرُج من ضئضىء هذا أقوامٌ يَحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم

" الحديث.

فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظنّ والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه.

وأما تعيين الفِرَق الهالكة، فأقدم من بلغنا أنه تكلّم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدريّة، والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهميّة؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهميّة.

وهذا الذي قاله اتّبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهميّة كفّار، فلا يدخلون في الاثنين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يُبطنون الكفر، ويُظهرون الإسلام، وهم الزنادقة.

وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهميّة داخلون في الاثنين والسبعين فرقةً، وجعلوا أصول البدع خمسةً، فعلى قول هؤلاء يكون كلّ طائفة من المبتدعة الخمسة اثنتا عشرة فرقةً، وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمان عشرة فرقة.

وهذا ينبني على أصل آخر، وهو تكفير أهل البدع، فمن أخرج الجهميّة منهم لم

ص: 268

يُكفّرهم، فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفسّاق والعُصاة، ويجعل قوله:"هم في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] الآية.

ومن أدخلهم فيهم، فهم على قولين:

منهم من يكفّرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المتأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلّمين، وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضِّلَة، ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفّر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حَكَى في تكفير جميع أهل البدع من هؤلاء وغيرهم خلافًا عنه، أو في مذهبه حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلطٌ على مذهبه، وعلى الشريعة.

ومنهم من لم يكفّر أحدًا من هؤلاء إلحاقًا لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفّرون أحدًا بذنب، فكذلك لا يكفّرون أحدًا ببدعة.

والمأثور عن السلف، والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهميّة المحضة الذين يُنكرون الصفات، وحقيقة قولهم: إن الله لا يتكلم، ولا يُرَى، ولا يباين الخلق، ولا له علم، ولا قدرة، ولا سمعٌ، ولا بصرٌ، ولا حياةٌ، بل القرآن مخلوقٌ، وأهل الجنّة لا يرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات.

وأما الخوارج، والروافض، ففي تكفيرهم نزاعٌ وتردّد عن أحمد وغيره.

وأما القدريّة الذين يَنفُون الكتابة والعلم، فكفّروهم، ولم يكفّروا من أثبت العلم، ولم يُثبت خلق الأفعال.

وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:

[أحدهما]: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا، فإن الله منذ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة

ص: 269

أصناف: مؤمنٌ به، وكافرٌ به مظهر الكفر، ومنافقٌ مستخف بالكفر، ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفّار، وبضع عشرة آيةً في المنافقين، وقد ذكر الله الكفّار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى:{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1].

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، وقوله:{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 15]، وعطفهم على الكفّار ليميّزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شرّ من الكفّار، كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وكما قال:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 84]، وكما قال:{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 53 - 54].

وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر هذا في الروافض والجهميّة، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا، وكذلك التجهّم، فإن أصله زندقة ونفاق، ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنيّة المتفلسفة، وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم.

ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولًا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين.

[والأصل الثاني]: أن المقالة تكون كفرًا، كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحجّ، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد

ص: 270

يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا (1) لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يُحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلم أنه أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومقالات الجهميّة هي من هذا النوع، فإنها جحد لا هو الربّ تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتُغلّظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه:

[أحدها]: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنّة والإجماع كثيرة جدّا مشهورة، وإنما يردّونها بالتحريف.

[الثاني]: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يَعلَم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله، فأصل الكفر الإنكار لله.

[الثالث]: أنهم يخالفون ما اتّفقت عليه الملل كلّها، وأهل الفطر السليمة كلها لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظنّ أن الحقّ معهم؛ لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنا وظاهرًا، وإنما التبس عليهم، واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفّارًا قطعًا، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطىء المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه.

وأصل قول أهل السنّة الذي فارقوا به الخوارج والجهميّة والمعتزلة والمرجئة أن الإيمان يتفاضل ويتبعّض، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان"، وحينئذ فتتفاضل ولاية الله، وتتبعّض بحسب ذلك.

وإذا عُرف أصل البدع، فأصل قول الخوارج أنهم يكفّرون بالذنب، ويعتقدون ذنبًا ما ليس بذنب، ويرون اتّباع الكتاب دون السنّة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن

(1) هكذا النسخة، ولعل الصواب:"وهذا"، فليحرّر.

ص: 271

كانت متواترةً، ويكفّرون من خالفهم، ويستحلّون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلّونه من الكافر الأصليّ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم:"يقتلون أهل الإسلام، ويدَعُون أهل الأوثان"، ولهذا كفّروا عثمان وعليّا وشيعتهما، وكفّروا أهل صفّين الطائفتين في نحو ذلك من المقالات الخبيثة.

وأصل قول الرافضة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نصّ على عليّ نصّا قاطعًا للعذر، وأنه إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النصّ، وكفروا بالإمام المعصوم، واتّبعوا أهواءهم، وبدّلوا الدين، وغيّروا الشريعة، وظلموا، واعتدوا، بل كفروا إلا نفرًا قليلًا، إما بضعة عشر، أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين، وقد يقولون: بل آمنوا، ثم كفروا، وأكثرهم يكفّر من خالف قولهم، ويُسمّون أنفسهم المؤمنين، ومن خالفهم كفّارًا، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تُظهَر فيها أقوالهم دار رِدّة أسوأ حالًا من مدائن المشركين والنصارى، ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين، ومعاداتهم، ومحاربتهم، كما عُرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين.

ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنة وأمثالهم، ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنّة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضدّ السنيّ إلا الرافضيّ، فإذا قال أحدهم: أنا سنّيّ، فإنما معناه لست رافضيّا، ولا ريب أنهم شرّ من الخوارج، لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة، وموالاتهم الكفّار أعظم من سيوف الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيليّة ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم، وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب، والخوارج مَرَقُوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام.

وأما القدريّة المحضة، فهم خير من هؤلاء بكثير، وأقرب إلى الكتاب والسنّة،

ص: 272

لكن المعتزلة وغيرهم من القدريّة هم جهميّة أيضًا، وقد يكفّرون من خالفهم، ويستحلّون دماء المسلمين، فيقربون من أولئك.

وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلّظة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يُعَدُّون إلا من أهل السنّة حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلّظة.

ولمّا كان قد نُسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متَّبَعون تكلّم أئمة السنة المشاهير في ذمّ المرجئة المفضّلة تنفيرًا عن مقالتهم، كقول سفيان الثوريّ: مَن قدّم عليّا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وما أدري يصعد له إلى الله عمل مع ذلك، أو نحو هذا القول، قاله لما نُسب إلى تقديم عليّ بعضُ أئمة الكوفيين، وكذلك قول أيوب السختيانيّ: من قدّم عليّا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين، وقد روي أنه رجع عن ذلك، وكذلك قول الثوريّ ومالك والشافعيّ وغيرهم في ذمّ المرجئة لما نُسب إلى الإرجاء بعض المشهورين.

وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جارٍ على كلام من تقدّم من أئمة الهدى، ليس له قولٌ ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبيّنها، وذبّ عنها، وبيّن حال مخالفيها، وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها لمّا أُظهرت الأهواء والبدع، وقد قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك قُرنت باسمه الإمامة في السنة ما شُهر به، وصار متبوعًا لمن بعده، كما كان تابعًا لمن قبله.

وإلا فالسنّة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقّاه عنهم التابعون، ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم، وعليها أصبر. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله (1).

(1) راجع "مجموع الفتاوى" 3/ 345 - 358.

ص: 273

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام شيخ الإسلام هذا تحقيق نفيس، وبحث أنيس، فتمسّك به، فإنك لا تجده مجموعًا محقّقا عند غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

63 -

(حَدَّثَنَا عِليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ كهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: كُنَا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ شَعَرِ الرَّأْسِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ سَفَرٍ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَهُ إِلَى رُكْبَتِهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ الْبَيْتِ"، فَقَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا مِنْهُ، يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِيَمانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَكُتُبِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَير وَشَرِّهِ"، قَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا مِنْهُ، يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا ترَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قَالَ: فَمَا أَمَارَتُهَا؟ قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا"، قَالَ وَكِيعٌ -يَعْني تَلِدُ الْعَجَمُ الْعَرَبَ- وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ، الْعُرَاةَ، الْعَالَةَ، رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ في الْبِنَاءِ"، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: "أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ؟ "، قُلْتُ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ مَعَالِمَ دِينِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَليُّ بْنُ مُحَمَّدٍ) الطنافسيّ المذكور في السند الماضي.

2 -

(وَكِيعٌ) بن الجرّاح المذكور في السند الماضي أيضًا.

3 -

(كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ) التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقة [5].

رَوَى عن أبي الطفيل، وعبد الله بن بريدة، وعبد الله بن شقيق، وأبي السَّلِيل

ص: 274

ضُريب بن نُقَير، ويزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عون، والقطان، وابن المبارك، ووكيع، ومعتمر بن سليمان، وسفيان بن حبيب، ومعاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد: ثقة وزيادة. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين، وأبو داود: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن سعد: ثقة. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة. وقال الساجي: صدوق يَهِم، ونَقَلَ أن ابن معين ضعّفه، وتبعه الأزدي في نقل ذلك. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وأربعين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم 63 و1162 و 1874 و3850 و 4220.

4 -

(عَبْدِ اللَّه بْنِ بُرَيْدَةَ) بن الحصيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ، قاضي مرو، أخو سليمان، وكانا توأمين، ثقة [3].

رَوى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وعبد الله بن مغفل، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم.

وروى عنه بشير بن المهاجر، وسهل بن بشير، وحُجير بن عبد الله، وحسين بن ذكوان، وحسين بن واقد المروزي، وداود بن أبي الفرات، وقتادة، وكهمس بن الحسن، ومالك بن مغول، ومحارب بن دثار، وغيرهم.

قال الأثرم عن أحمد: أما سليمان فليس في نفسي منه شيء، وأما عبد الله، ثم سكت، ثم قال: كان وكيع يقول: كانوا لسليمان أحمد منهم لعبد الله. وقال في رواية أخرى عن وكيع: كان سليمان أصحهما حديثًا. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: عبد الله ابن بُريدة الذي رَوَى عنه حسين بن واقد ما أنكرهما، وأبو المنيب أيضًا. وقال ابن معين، والعجلي، وأبو حاتم: ثقة. وقال أبو تميلة، عن رُميح الطائي، عن عبد الله بن بريدة: وُلِدتُ لثلاث خلون من خلافة عمر. وقال أحمد بن سيار المروزي: مات بقرية من قرى مرو، وكان بينه وبين موت أخيه سليمان عشر سنين، وتوفي عبد الله في ولاية

ص: 275

أسد بن عبد الله على القضاء. وقال ابن حبان: ولد عبد الله سنة (15) وهو وأخوه سليمان توأم، ومات سليمان وهو على القضاء بمرو سنة (100) وولي أخوه بعده القضاء إلى أن مات سنة خمس وعشرة ومائة، فعلى هذا يكون عمر عبد الله مائة سنة، وقد قيل: إنهما ماتا في يوم واحد، وليس بشيء.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا.

5 -

(يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ) -بفتح التحتانيّة، والميم، بينهما مهملة ساكنة- البصريّ، أبو سليمان، ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو عَدِيّ الْقَيْسِيّ الْجَدَلِيُّ، قاضي مرو، ثقة فصيح، وكان يرسل [3].

روى عن عثمان، وعلي، وعمار، وأبي ذر، وأبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد، وعائشة، وسليمان بن صُرَد، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبي الأسود الديلي، وجماعة.

وروى عنه سليمان التيمي، وعبد الله بن بريدة، وقتادة، وعكرمة، وعطاء الخرساني، والرُّكَين بن الرَّبِيع، والأزرق بن قيس، وإسحاق بن سُويد، وغيرهم.

قال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة. وقال الآجري: قلت لأبي داود: سمع من عائشة؟ قال: لا. وقال الحسين بن الوليد، عن هارون بن موسى: أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر. وقال قيس بن الربيع، عن عبد الملك بن عمير: فُصَحاء الناس ثلاثة: موسى بن طلحة، ويحيى بن يعمر، وقَبِيصة بن جابر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من فصحاء أهل زمانه، وأكثرهم علما باللغة، مع الورع الشديد، وكان على قضاء مرو وَلَّاه قتيبةُ بن مسلم. وقال الدارقطني: لم يَلْقَ عمارًا إلا أنه صحيح الحديث عمن لقيه. وقال أبو داود: بينه وبين عمار رجل. وقال ابن سعد: كان نحويا، صاحب علم بالعربية والقرآن، ولي القضاء بمرو، وكان يقضي باليمين والشاهد، وكان ثقة. وقال الحاكم: يحيى بن يعمر فقيه أديب نحوي مروزي تابعيّ، وأكثر روايته عن التابعين، وأخذ النحو عن أبي الأسود الديلي، نفاه الحجاج إلى مرو، فقبله قتيبة بن

ص: 276

مسلم، وقد قضى في أكبر مدن خراسان، وكان إذا انتقل من بلد استُخلِف على القضاء بها. وقال أبو الحسن علي بن الأثير الجزري في "الكامل": مات سنة تسع وعشرين ومائة، كذا قال، وفيه نظر. وقال غيره: مات في حدود العشرين. وقال أبو الفرج بن الجوزي: مات سنة تسع وثمانين. وقيل: إن قتيبة عزله لما بلغه أنه يشرب المُنَصَّف.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم 63 و 2319 و 3683.

6 -

(ابْنِ عُمَرَ) هو: عبد الله رضي الله عنهما 1/ 4.

7 -

(عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنه 3/ 28، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الصحيح، غير شيخه، وهو ثقة.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: كهمس، عن ابن بُريدة، عن يحيى بن يعمر.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن ابن عمر هو أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم.

6 -

(ومنها): أن عمر رضي الله عنه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وقد شهد له النبيّ رضي الله عنه بأن الحقّ يجري على لسانه، وأنه مُلْهَم، وسماه الفاروق؛ لفرقه بين الحقّ والباطل، وأنه لا يسلك فجّا إلا سلك الشيطان غير فجّه، وهو جمّ المناقب رضي الله عنه، والله تعالى أعلى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ) رحمه الله تعالى (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ)(قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) رضي الله تعالى عنه.

ص: 277

[تنبيهان]:

(الأول): حديث عمر رضي الله عنه هذا لم يخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فذكر في "الفتح" سبب ذلك، فقال: إنما لم يخرجه؛ للاختلاف فيه على بعض رواته، فمشهوره رواية كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، رواه عن كهمس جماعة من الحفاظ، وتابعه مطر الوراق، عن عبد الله بن بريدة، وتابعه سليمان التيمي، عن يحيى بن يعمر، وكذا رواه عثمان بن غياث، عن عبد الله بن بريدة، لكنه قال: عن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن معا، عن ابن عمر، عن عمر، زاد فيه حميدا وحميد له في الرواية المشهورة ذكر، لا رواية، وأخرج مسلم هذه الطرق، ولم يسق منها إلا متن الطريق الأولى، وأحال الباقي عليها، وبينها اختلاف كثير، سنشير إلى بعضه، فأما رواية مطر، فأخرجها أبو عوانة في "صحيحه" وغيره، وأما رواية سليمان التيمي، فأخرجها ابن خزيمة في "صحيحه" وغيره، وأما رواية عثمان بن غياث، فأخرجها أحمد في "مسنده"، وقد خالفهم سليمان بن بريدة، أخو عبد الله، فرواه عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر، قال: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله من مسند ابن عمر، لا من روايته عن أبيه، أخرجه أحمد أيضا، وكذا رواه أبو نعيم في "الحلية" من طريق عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، وكذا رُوِي من طريق عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمر، أخرجه الطبراني.

وفي الباب: عن أنس، أخرجه البزار، والبخاري في "خلق أفعال العباد"، وإسناده حسن، وعن جرير البجلي، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، وفي إسناده خالد ابن يزيد، وهو العمري، ولا يصلح للصحيح، وعن ابن عباس، وأبي عامر الأشعري، أخرجهما أحمد، وإسنادهما حسن، وفي كل من هذه الطرق فوائد، سنذكرها -إن شاء الله تعالى- في أثناء الكلام على حديث الباب، وإنما جمعت طرقها هنا، وعزوتها إلى مخرجيها؛ لتسهيل الحوالة عليها، فرارا من التكرار، المباين لطريق الاختصار. انتهى كلام صاحب "الفتح" 1/ 158 - 159.

ص: 278

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وأنا -بعون الله تعالى- سألخّص ما ذكره صاحب "الفتح" وغيره من اختلاف هذه الطرق، وما احتوت عليه من الفوائد في شرح هذا الحديث -إن شاء الله تعالى- والله تعالى وليّ التوفيق.

(الثاني): هذا الحديث في أوله قصّة ساقها مسلم في "صحيحه"، فقال: حدثني أبو خيثمة، زهير بن حرب، حدثنا وكيع، عن كهمس، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، وهذا حديثه، حدثنا أبي، حدثنا كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: كان أولَ من قال في القدر، بالبصرة مَعْبَد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري، حاجين، أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُفٌ، قال: فإذا لقيت أولئك، فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه، حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي، عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر

" الحديث.

(قَالَ) عمر رضي الله عنه (كُنَّا جُلُوسًا) بضم الجيم جمع جالس (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مسلم: "قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجلٌ إلخ"(فَجَاءَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ شَعَرِ الرَّأْسِ) بفتح العين المهملة، وسكونها، زاد في رواية ابن حبّان:"شديد سواد اللحية"(لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ سَفَرٍ) ببناء الفعل للمفعول، قال النوويّ: ضبطناه بالياء المثنّاة، من تحتُ المضمومة، وكذلك ضبطناه في "الجمع بين الصحيحين"، وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العُذْريّ هنا بالنون

ص: 279

المفتوحة، وكذا هو في مسند أبي يعلى الموصليّ، وكلاهما صحيح. انتهى.

وقال القرطبيّ: هكذا مشهور رواية هذا اللفظ "يُرى" مبنيّا لما لم يُسمّ فاعله بالياء باثنين من تحتها، "ولا يعرفه" بالياء أيضًا، وقد رواه أبو حازم العُذْريّ:"لا نَرى عليه أثر السفر، ولا نعرفه" بالنون فيهما، مبنيّا للفاعل، ونون الجماعة، وكلاهما واضحٌ المعنى. انتهى.

وفي البخاريّ في "التفسير": "إذ أتاه رجل يمشي"، وفي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ الآتي:"وإنا لجلوس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه، إذ أقبل رجل، أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلّم في طرَف البساط، فقال: السلام عليكم يا محمد".

(وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتهُ إِلَى رُكْبَتِهِ) أي ركبتي النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لسليمان التيميّ: "ليس عليه سَحْناء السفر، وليس من البلد، فتخطّى، حتى برك بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يجلس أحدنا في الصلاة".

(وَوَضَعَ يديه عَلَى فَخِذَيْهِ) قال النوويّ: معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه، وجلس على هيئة المتعلّم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصحيح أن معناه أنه وضع كفه على فخذي النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ للتصريح به في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله تعالى عنهما، ولفظه:"حتى وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال في "الفتح": وكذا في حديث ابن عبّاس، وأبي عامر الأشعري:"ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم"، فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله:"على فخذيه" يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وبه جزم البغوي، وإسماعيل التيمي؛ لهذه الرواية، ورجحه الطيبي بحثا؛ لأنه نَسَقُ الكلام، خلافا لما جزم به النووي، ووافقه التوربشتي؛ لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلم، بين يدي من يتعلم منه، وهذا وإن كان ظاهرا من السياق، لكن وضعه يديه على فخذ النبي صلى الله عليه وسلم وسلم مُنَبِّه للإصغاء إليه، وفيه إشارة لما ينبغي للمسئول من التواضع، والصَّفْح عما يبدو من جفاء

ص: 280

السائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره؛ ليقوى الظن بأنه من جُفَاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس، حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس من أهل البلد، وجاء ماشيا، ليس عليه أثر سفر.

[فإن قيل]: كيف عَرَف عمر رضي الله عنه أنه لم يعرفه أحد منهم.

[أجيب]: بأنه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه، أو إلى صريح قول الحاضرين، وهذا الثاني -كما قال الحافظ- أولى، فقد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث، فإن فيها:"فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا".

وأفاد مسلم، في رواية عمارة بن القعقاع، سبب ورود هذا الحديث، فعنده في أوله: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني، فهابوا أن يسألوه، قال: فجاء رجل

"، ووقع في رواية ابن منده، من طريق يزيد بن زريع، عن كهمس: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ جاءه رجل، فكأن أمره لهم بسؤاله، وقع في خطبته، وظاهره أن مجيء الرجل، كان في حال الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها، أو كان ذكر ذلك القدر جالسا، وعبر عنه الراوي بالخطبة. انتهى "فتح" 1/ 159 - 160.

(ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ) قيل: كيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟. أجيب: بأنه يحتمل أن يكون ذلك مبالغةً في التعمية لأمره، أو ليبين أن ذلك غير واجب، أو سلم فلم ينقله الراوي.

وهذا الثالث هو الصواب، فقد ثبت في رواية حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ الآتي، ففيه:"حتى سلم من طرف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام، قال: أدنو يا محمد؟ قال: ادن، فما زال يقول: أدنو؟ مرارا، ويقول له: ادن"، ونحوه في رواية عطاء، عن ابن عمر، لكن قال:"السلام عليك يا رسول الله"، وفي رواية مطر الوراق:"فقال: يا رسول الله أدنو منك؟ قال: ادن"، ولم يذكر السلام، فاختلفت الروايات، هل قال له: يا محمد، أو يا رسول الله، وهل سلم، أو لا، فأما السلام فمن ذكره مقدم على من سكت عنه.

ص: 281

وقال القرطبي، بناء على أنه لم يسلم، وقال: يا محمد: إنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب.

قال الحافظ: ويجمع بين الروايتين، بأنه بدأ أولا بندائه باسمه، لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأقرب أن يُحْمَل على تصرّف الرواة، فيقال: إنه قال: يا محمد، فعبر بعض الرواة بقوله: يا رسول الله؛ لأن هذا أقرب إلى التعمية المذكورة. والله تعالى أعلم.

ووقع عند القرطبي: أنه قال: "السلام عليكم يا محمد"، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام، ثم يخصص من يريد تخصيصه. انتهى.

قال الحافظ: والذي وقفت عليه من الروايات، إنما فيه الإفراد، وهو قوله:"السلام عليك يا محمد".

(مَا الْإِسْلَامُ؟) وفي رواية لمسلم: "أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ". وإنما بدأ بالإسلام، لأنه يتعلّق بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان، لأنه يتعلّق بالأمر الباطن، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ:"فقال: ما الإيمان"، فبدأ بالإيمان؛ لأنه الأصل، وثَنَّى بالإسلام؛ لأنه يُظهر مِصداق الدعوى، وثَلّث بالإحسان؛ لأنه مُتَعَلِّق بهما. ورجح الطيبي الأول؛ لما فيه من الترقّي، ولا شك أن القصة واحدة، اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق، فإنه بدأ بالإسلام، وثَنَّى بالإحسان، وثَلَّث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، والله تعالى أعلم. قاله الحافظ.

وقال القرطبيّ: الإسلام في اللغة: هو الاستسلام، والانقياد، ومنه قوله تعالى:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: 14]: أي انقدنا، وهو في الشرع: الانقياد بالأفعال الظاهرة الشرعيّة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه عنه:

ص: 282

"الإسلام علانية، والإيمان في القلب" ذكره ابن أبي شيبة في "مصنّفه" 11/ 11 (1). انتهى "المفهم" 1/ 139.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن سؤاله (شَهَادَةُ) بالرفع على أنه خبر لمحذوف: أي هو شهادة (أَنْ) هي "أن المخفّفة من الثقيلة، واسمها مقدّر، وخبرها جملة "لا إله إلا الله"، والأصل "أنه لا إله إلا الله"، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة"، حيث قال:

وَإِنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتكَنْ

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ "أَنْ"

(لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنِّي) وفي رواية: "وأن محمدًا"(رَسُولُ اللَّهِ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "الإسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به". قال النووي في "شرحه": يحتمل أن يكون المراد بالعبادة، معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها؛ لإدخالها في الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا، فيدخل فيه جميع الوظائف، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها، من عطف الخاص على العام.

قال الحافظ: أما الاحتمال الأول فبعيد؛ لأن المعرفة من متعلقات الإيمان، وأما الإسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عبر في حديث عمر رضي الله عنه هنا بقوله:"أن تشهد أن لا إله الا الله وأن محمد رسول الله"، فدل على أن المراد بالعبادة في حديث الباب، النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني، ولمّا عبر الراوي بالعبادة، احتاج أن يوضحها بقوله:"ولا تشرك به شيئا"، ولم يحتج إليها في رواية عمر؛ لاستلزامها ذلك.

ثم إنه ليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم، وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين ذلك بقوله في آخره:"يعلم الناس دينهم".

(1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وزاد:"ثم يشير إلى صدره، ويقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا". وفي سنده علي بن مسعدة، ضعفه البخاريّ وغيره، ووثقه آخرون، وضعف بعضهم هذا الحديث بسببه، وعندي أنه حسن الحديث انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 3/ 192 .. والله تعالى أعلم.

ص: 283

(وَإِقَامُ الصَّلَاةِ) زاد في حديث أبي هريرة عند مسلم "المكتوبة": أي المفروضة، وإنما عبر بالمكتوبة للتفنن في العبارة، فإنه عبر في الزكاة بالمفروضة، ولا تباع قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].

وقال القرطبيّ: والصلاة في اللغة: الدعاء، ومنه قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]: أي ادع، وقال الأعشى:

عَلَيْكِ مِثْلَ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي

نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا

وقيل: إنها مأخوذة من الصَّلَا، والصلا: عِرْقٌ عند أصل الذنب، ومنه قيل للفرس الثاني في الحلبة: مصَلٍّ؛ لأن رأسه عند صلا السابق، قال الشاعر:

فَصَلَّى أَبُوهُ لَهُ سَابِقُ

بِأَنْ قِيلَ فَاتَ الْعِذَارُ الْعِذَارَا (1)

والأول أولى وأشهر، وهي في الشرع: أفعال مخصوصةٌ، بشروط مخصوصة، الدعاء جزء منها. انتهى.

(وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ) زاد في أبي هريرة: "المفروضة". قال القرطبيّ: الزكاة لغة: هي النماء، والزيادة، يقال: زكا الزرع والمالُ، وسُمّي أخذ جزء من مال المسلم الحرّ زكاةً؛ لأنها إنما تؤخذ من الأموال النامية، أو لأنها قد نمت، وبلغت النصاب، أو لأنها تنمي المال بالبركة، وحسنات مؤديها بالتكثير. انتهى.

(وَصَوْمُ رَمَضَانَ) الصوم: هو الإمساك مطلقًا، ومنه قوله تعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} الآية [مريم: 26]: أي إمساكًا عن الكلام، وقال الشاعر:

خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ

تَحْتَ الْعَجَاج وَأُخْرَى تَعْلِكُ اللُّجُمَا

أي ممسكة عن الحركة. وهو في الشرع: إمساك جميع أجزاء اليوم عن أشياء مخصوصة، بشرط مخصوص. قاله القرطبيّ.

واستُدل به على جواز قول "رمضان" من غير إضافة "شهر"، إليه. قاله في

(1)"العذار": هو ما سال على خدّ الفرس من اللجام.

ص: 284

"الفتح". وسيأتي تمام البحث في هذا في "كتاب الصيام" -إن شاء الله تعالى- وبالله تعالى التوفيق.

(وَحَجُّ الْبَيْتِ) الحجّ: هو القصد المتكرّر في اللغة، قال الشاعر [من الطويل]:

وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً

يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا

وهو في الشرع: القصد إلما بيت الله المعظّم؛ لفعل عبادة مخصوصة، والحجّ بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وقُرىء بهما:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية [آل عمران: 97].

[تنبيه]: زاد في رواية مسلم وغيره: "إن استطعت إليه سبيلًا" والاستطاعة: هي القوّة على الشيء، والتمكّن منه، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]. وسيأتي بيان كلّ ذلك مستوفًى في محلّه من "كتاب المناسك " -إن شاء الله تعالى- وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه آخر]: قد اختلف الرواة في ذكر الحجّ هنا، فمنهم من ذكره، ومنهم من أسقطه، إما غفلة، أو نسيانًا.

قال في "الفتح": [فإن قيل]: لم لم يذكر الحج؟ أجاب بعضهم باحتمال أنه لم يكن فُرِض. وهو مردود بما رواه ابن منده في "كتاب الإيمان" بإسناده الذي على شرط مسلم، من طريق سليمان التيمي، في حديث عمر رضي الله عنه أوله: أن رجلا في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطوله، وآخر عمره صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع، فأنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل، دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام، لتقرير أمور الدين التي بَلّغها متفرقة، في مجلس واحد؛ لتنضبط. ويُستنبط منه جواز سؤال العالم، ما لا يجهله السائل؛ ليعلمه السامع.

وأما الحج فقد ذُكِر لكن بعض الرواة إما ذَهِل عنه، وإما نسيه، والدليل على ذلك اختلافهم في ذكر بعض الأعمال دون بعض، ففي رواية كهمس:"وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"، وكذا في حديث أنس، وفي رواية عطاء الخراساني لم يذكر

ص: 285

الصوم، وفي حديث أبي عامر ذَكَر الصلاة، والزكاة حسب، ولم يذكر في حديث ابن عباس مزيدا على الشهادتين، وذَكَر سليمان التيمي في روايته الجميع، وزاد بعد قوله:"وتحج": "وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتمم الوضوء"، وقال مطر الوراق في روايته:"وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة"، قال: فذكر عُرَى الإسلام، فتبين ما قلناه: إن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره. انتهى "فتح" 1/ 163 - 164.

(قَالَ) الرجل السائل (صَدَقْتَ) أي فيما أخبرتني به من أركان الإسلام (فَعَجِبْنَا مِنْهُ) ولفظ مسلم: "له"، وللنسائيّ:"إليه"(يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ) أي يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام كأنه جاهل، ثم يصدّق ما أجاب به كأنه عالم. وفي حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ "فلما سمعنا قول الرجل: صدقت أنكرناه"، وفي رواية مطر الوراق: "انظروا إليه كيف يسأله، وانظروا إليه كيف يصدقه"، وفي حديث أنس: "انظروا وهو يسأله، وهو يصدقه، كأنه أعلم منه"، وفي رواية سليمان بن بريدة قال القوم: "ما رأينا رجلًا مثل هذا، كأنه يُعَلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول له: صدقت صدقت".

قال القرطبي: إنما عجبوا من ذلك؛ لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لا يُعرَف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عُرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف، محقّق مصدّق؛ فتعجبوا من ذلك، تعجب المستبعد لأن يكون أحد يعرف تلك الأمور المسؤول عنها من غير جهة النبيّ. انتهى (1).

(ثُمَّ قَالَ) الرجل (يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِيمَانُ؟) وفي رواية: "أخبرني عن الإيمان"(قَالَ صلى الله عليه وسلم: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّه) قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: الإيمان بالله: هو التصديق بوجوده، وأنه لا يجوز عليه العدم، وأنه تعالى موصوفٌ بصفات الجلال والكمال، من العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، والحياة، والرضا، والمحبّة، وغيرها، وأنه منزّه عن صفات النقص التي هي أضداد تلك الصفات، وعن صفات الأجسام،

(1) راجع "المفهم" 1/ 151.

ص: 286

والمتحيّزات، وأنه واحد، صمد، فردٌ، خالق جميع المخلوقات، متصرّف فيها بما يشاء من التصرّفات، يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه ما يشاء. انتهى. بزيادة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في "العقيدة الواسطيّة" حينما يصف اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة: ومن الإيمانِ بالله الإيمانُ بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يُحرّفون الكلم عن مواضعه، ولا يُلحدون في أسمائه، وآياته، ولا يكيّفون، ولا يمثّلون، صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى لا سميّ له، ولا كفء له، ولا ندّ له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه أعلم بنفسه، وبغيره، وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا من خلقه، ثم رسله صادقون، مصدّقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافّات: 180]، فسبّح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلّم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو قد جمع فيما وصف، وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنّة والجماعة عمّا جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين. انتهى كلامه مختصرًا.

وقال في "الفتح": قوله: "قال: الإيمان: أن تؤمن بالله

إلخ": دل الجواب على أنه عَلِم أنه سأله عن متعلقات الإيمان، لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب الإيمان: التصديق.

وقال الطيبي: هذا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله:"أن تؤمن بالله"، مُضَمَّن معنى أن تعترف به، ولهذا عداه بالباء: أي أن تصدق، معترفا بكذا.

قال الحافظ: والتصديق أيضا يعدى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين. وقال الكرماني: ليس هو تعريفا للشيء بنفسه، بل المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن

ص: 287

الحد الإيمان اللغوي.

قال الحافظ: والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان؛ للاعتناء بشأنه، تفخيما لأمره، ومنه قوله تعالى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] في جواب {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]: يعني أن قوله: "أن تؤمن" ينحل منه الإيمان، فكأنه قال: الإيمان الشرعي: تصديق مخصوص، وإلا لكان الجواب الإيمان: التصديق، والإيمان بالله: هو التصديق بوجوده، وأنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص. انتهى.

(وَمَلَائِكَتِهِ) معنى الإيمان بالملائكة: هو التصديق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى:{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26 - 27]{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] و {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وأنهم سفراء الله بينه وبين رسله، والمتصرّفون كما أذن لهم في خَلْقه.

وقَدَّم الملائكة على الكتب والرسل؛ نظرًا للترتيب الواقع؛ لأنه سبحانه وتعالى، أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه مُتَمَسَّك لمن فَضَّل الملك على الرسول. قاله في "الفتح".

(وَرُسُلِهِ) هكذا وقع في رواية المصنّف تقديم "ورسله" على "وكتبه"، ووقع في رواية مسلم وغيره بالعكس، ولا تنافي لأن الواو لا ترتيب فيها، ووقع في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ "وملائكته، والكتاب، والنبيين"، وكل من السياقين في القرآن، في البقرة، والتعبير "بالنبيين" يشمل "الرسل"، من غير عكس.

ومعنى الإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، وأن الله تعالى أيّدهم بالمعجزات الدّالّة على صدقهم، وأنهم بلّغوا عن الله تعالى رسالاته، وبيّنوا للمكلّفين ما أمرهم الله تعالى بيانه، وأنه يجب احترامهم، وألا يُفرَّق بين أحد منهم. قاله القرطبيّ.

ص: 288

وقال في "الفتح": ودل الإجمال في الملائكة، والكتب، والرسل على الاكتفاء بذلك، في الإيمان بهم، من غير تفصيل، إلا من ثبت تسميته، فيجب الإيمان به على التعيين انتهى.

(وَكُتُبِهِ) معنى الإيمان بكتب الله تعالى: التصديق بأنه كلام الله تعالى غير مخلوق، وأن ما تضمّنته حقّ وصدق.

[تنبيه]: زاد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ بعد قوله: "وكتبه": قولَهُ: "وبلقائه": قال في "الفتح" كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من الطريقين، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة، لأنها داخلة في الإيمان بالبعث، والحقّ أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيامُ من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك، ويدل على هذا رواية مطر الوراق، فإن فيها:"وبالموت، وبالبعث بعد الموت"، كذا في حديث أنس وابن عباس رضي الله عنهم، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطابي، وتعقبه النووي بأنّ أحدًا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنا، والمرء لا يدري بم يختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان؟.

وأجيب بأن المراد الإيمانُ بأن ذلك حقّ في نفس الأمر، وهذا من الأدلة القوية؛ لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، إذ جعلت من قواعد الإيمان. انتهى (1).

(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ: "وتؤمن بالبعث"، زاد في "التفسير":"الآخر"، قال في "الفتح": فأما البعث الآخر، فقيل: ذُكر "الآخر" تأكيدا، كقولهم: أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة، والْعَلَقَة إلى الحياة الدنيا، والثانية البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار، وأما اليوم الآخر، فقيل له: ذلك؛ لأنه آخر

(1) راجع "الفتح" 1/ 161.

ص: 289

أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة.

ومعنى الإيمان باليوم الآخر: هو: التصديق بيوم القيامة، وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت، والنشر، والحشر، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، وأنهما دار ثوابه، وجزائه للمحسنين، والمسيئين، إلى غير ذلك، مما صحّ نصّه، وثبت نقله. قاله القرطبيّ رحمه الله (1).

(وَالْقَدَرِ) -بفتحتين، أو بفتح، فسكون- هو: القضاء، والحكم. وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الْقَدَر: مصدر قَدَرتُ الشيء، خفيفة الدال، أقدِره، وأقدُره -من بابي ضرب، ونصر- قَدْرًا -بفتح، فسكون- وقَدَرًا -بفتحتين، وقُدُرًا: إذا أحطت بمقداره، ويقال فيه: قدّرتُ أُقدّر تقديرًا -مشدّد الدال- للتضعيف، فإذا قلنا: إن الله تعالى: قدّر الأشياء، فمعناه: أنه تعالى علم مقاديرها، وأحوالها، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا مُحْدَث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادر عن علمه تعالى، وقدرته، وإرادته. انتهى (2).

وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو كلام القرطبيّ هذا: ما نصّه: هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة، وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة رضي الله عنهم، وقد رَوَى مسلم القصة في ذلك، من طريق كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، قال: فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الْحِمْيَري، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه بَرِيء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عملا.

(1) راجع "المفهم" 1/ 145.

(2)

راجع "المفهم" 1/ 132.

ص: 290

وقد حَكَى المصنفون في المقالات، عن طوائف من القدرية إنكار كون البارىء عالما بشيء من أعمال العباد، قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قالوا: لأنه لا فائدة لعلمه بها قبل إيجادها، وهو عبثٌ، وهو على الله محالٌ.

قال القرطبي وغيره: وقد روي عن مالك رحمه الله تعالى أنه فسّر القدريّة بنحو ذلك، وهذا المذهب هو الذي وقع لأهل البصرة، وهو الذي أنكره ابن عمر، ولا شكّ في تكفير من يذهب إلى ذلك، فإنه جحد معلومٍ من الشرع ضرورةً، ولذلك تبرّأ منهم ابن عمر، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم، ولا نفقاتهم، وأنهم كما قال الله تعالى فيهم:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 54].

وهذا المذهب هو مذهب طائفة منهم تُسمّى السُّكْبيّة، وقد تُرك اليوم، فلا يُعرف من يُنسب إليه من المتأخّرين، من أهل البدع المشهورين. والقدرية اليومَ مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد، قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلًا أخفّ من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم، فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد؛ فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سلم القدري العلمَ خُصِم -يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم، فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك (1).

وقال القرطبيّ أيضًا: والإيمان بالقدر: هو التصديق بما تقدّم ذكره، وحاصله هو ما دلّ عليه قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وقوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]. وإجماع السلف والخلف على صدق قول القائل: ما شاء الله كان، وما لم

(1)"المفهم" 1/ 132 - 133 و"الفتح" 1/ 162 - 163.

ص: 291

يشأ لم يكن، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس". رواه مسلم.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في "العقيدة الواسطيّة": ما نصّه: الإيمان بالقدر على درجتين، كلّ درجة تتضمّن شيئين:

فالدرجة الأولى بأن الله تعالى عليم بالخلق، وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان، لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفّت الأقلام، وطُويت الصحف، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ في كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الْأَرْضِ وَلَا في أَنْفُسِكُمْ إِلَّا في كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه وتعالى يكون في مواضع جملة وتفصيلًا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ، أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غُلاة القدريّة قديمًا، ومنكروه اليوم قليل.

وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات، وما في الأرض من حركة، ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون ملكه ما لا يُريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات، والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض، ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره، ولا ربّ سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه وتعالى يحبّ المتّقين، والمحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يُحبّ الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحبّ الفساد. والعباد فاعلون حقيقة، والله

ص: 292

خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن، والكافر، والبرّ، والفاجر، والمصلّي، والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم، وقدرَتهم، وإرادَتَهم، كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29].

وهذه الدرجة من القدَر يُكذّب بها عامّة القدريّة الذين سمّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته، واختياره، ويُخرجون عن أفعال الله، وأحكامه حكمها، ومصالحها. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو تحقيق نفيسٌ جدّا. والله تعالى أعلم.

وقوله: (خَير وَشَرِّهِ) بالجرّ بدلًا عن قوله: "القدر". ووقع في رواية غير المصنّف بلفظ: "كلّه خيره وشرّه"، قيل: وإنما أكّده بـ "كله" لكثرة مَن ينكر القدر من الكفّار، ولهذا كثر تكراره في القرآن، وللتنويه بذكره، ليحصل الاهتمام بشأنه، ثم قرّر ذلك بما أبدل منه، بقوله "خَير وَشَرِّهِ"، وزاد في رواية:"حُلْوِه، ومُرِّه"، وزاد في أخرى:"من الله".

[تنبيه]: ظاهر السياق يقتضى أن الإيمان، لا يُطلق إلا على من صَدَّق بجميع ما ذُكر، وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان على من آمن بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا اختلاف أن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم المراد به الإيمان بوجوده، وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك (1).

(قَالَ) الرجل (صَدَقْتَ) قال الصحابة الحاضرون (فَعَجِبْنَا مِنْهُ) أي من حال هذا السائل (يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ) تقدّم معناه قريبًا (ثُمَّ قَالَ) الرجل (يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِحْسَانُ؟) قال في "الفتح": هو مصدر أحسن يُحسن إحسانا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا: إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان: إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد؛ لأن المقصود إتقان العبادة، وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسانُ العبادة:

(1) راجع "الفتح" 1/ 163.

ص: 293

الإخلاص فيها، والخشوع وفراغ البال حالَ التلبس بها، ومراقبة المعبود.

وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الإحسان هو مصدر أحسن يُحسن إحسانًا، ويقال على معنيين:

[أحدهما]: متعدّ بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، وفي كذا: إذا حسّنته، وكمّلته، وهو منقول بالهمزة من حسُن الشيءُ.

[وثانيهما]: متعدّ بحرف جرّ، كقولك: أحسنت إلى كذا: أي أوصلت إليه ما ينتفع به، وهو في هذا الحديث بالمعنى الأول، لا بالمعنى الثاني، إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات، ومراعاة حقوق الله تعالى فيها، ومراقبته، واستحضار عظمته، وجلاله حالةَ الشروع، وحالة الاستمرار فيها.

وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين:

[أحدهما]: غالب عليه مشاهدة الحقّ، فكأنه يراه، ولعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله:"وجُعلت قُرّة عيني في الصلاة"(1)، رواه أحمد، والنسائيّ.

[وثانيهما]: لا ينتمي إلى هذه الحالة، لكن يغلب عليه أن الحقّ سبحانه وتعالى مطّلع عليه، ومشاهد له، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219] وبقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]، وهاتان الحالتان ثمرة معرفة الله تعالى، وخشيته، ولذلك فسّر الإحسان في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بقوله:"أن تخشى الله كأنك تراه"، فعبّر عن المسبب باسم السبب توسّعًا، والألف واللام اللذان في "الإحسان" المسؤول عنه للعهد، وهو الذي

(1) كان في نسخة القرطبيّ: "وجعلت قرة عيني في عبادة ربي"، والذي في مسند أحمد 3/ 128 و 199 و 285 و"سنن النسائي" 7/ 62 بلفظ:"وجعلت قرة عيني في الصلاة"، فليُتنبّه.

ص: 294

قال الله تعالى فيه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآية [يونس: 26]، وقوله:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

ولمّا تكرّر الإحسان في القرآن، وترتّب عليه هذا الثواب العظيم، سأل عنه جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأجابه ببيانه؛ ليعمل الناس عليه، فيحصل لهم هذا الحظّ العظيم. انتهى (1).

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَعْبُدَ اللَّه)"أن" مصدريّة، والجملة في تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هو عبادة الله تعالى (كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إن لا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) ولفظ مسلم: "فإن لم تكن تراه، فإنه يراك".

قال في "الفتح": أشار في الجواب إلى حالتين، أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه، حتى أنه يراه بعينه، وهو قوله:"كأنك تراه": أي وهو يراك، والثانية أن يستحضر أن الحق مُطّلِع عليه، يَرَى كل ما يعمل، وهو قوله:"فإنه يراك"، وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله، وخشيته، وقد عبر في رواية عمارة بن القعقاع بقوله:"أن تخشى الله كأنك تراه"، وكذا في حديث أنس رضي الله عنه.

وقال النووي: معناه إنك إنما تراعي الآداب المذكورة، إذا كنت تراه ويراك؛ لكونه يراك، لا لكونك تراه، فهو دائما يراك، فأحسن عبادته، وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه، فاستمر على إحسان العبادة، فإنه يراك، قال: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم، من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين؛ ليكون ذلك مانعا من التلبس بشيء من النقائص؛ احتراما، واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعا

(1) راجع "المفهم" 1/ 143 - 144.

ص: 295

عليه، في سره وعلانيته. انتهى. وقد سبق إلى أصل هذا القاضي عياض وغيره.

[تنبيه]: دلّ سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وأما رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فذاك لدليل آخر، وقد صرّح مسلم في روايته من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:"واعلموا أنكم لن تروا ربّكم حتى تموتوا"(1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قيل، ومسألة رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، قد وقع فيها خلاف، فأنكرته عائشة، وجاء مثله عن أبي هريرة، وجماعة رضي الله عنهم، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلّمين، وروي عن ابن عباس أنه رآه بعينه، ومثله عن أبي ذرّ، وكعب رضي الله عنهم والحسن وكان يحلف على ذلك، وحكي مثله عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأحمد بن حنبل، وتوقّف فيه بعضهم، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائزٌ (2)، والاستدلال لهذه الأقوال يحتاج إلى مزيد بسط، والذي يظهر لي أن التوقّف أسلم؛ لعدم ما يُقطع به لأحد الأقوال، ولحديث مسلم المذكور. والله تعالى أعلم.

قال في "الفتح": أقدم بعض غلاة الصوفيّة على تأويل الحديث بغير علم، فقال: فيه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لم تكن: أي فإن لم تصر شيئًا، وفَنِيتَ عن نفسك حتى كأنك لست بموجود، فإنك حينئذ تراه، وغفل قائل هذا للجهل بالعربيّة عن أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله:"تراه" محذوف الألف؛ لأنه يصير مجزومًا؛ لكونه على زعمه جواب الشرط، ولم يَرِد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادّعى إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس، فلا يُصار إليه، إذ لا ضرورة هنا.

وأيضًا فلو كان ما ادّعاه صحيحًا لكان قوله: "فإنه يراك" ضائعًا؛ لأنه لا ارتباط له بما قبله.

(1) أخرجه مسلم في "كتاب الفتن" في حديث الدجال الطويل، برقم (2931) بلفظ:"تعلّموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت".

(2)

راجع "شرح النوويّ لصحيح مسلم" 3/ 4.

ص: 296

ومما يُفسد تأويله رواية كهمس عند مسلم وابن ماجه، فإن لفظها:"فإنك إن لا تراه، فإنه يراك"، وكذلك في رواية سليمان التيميّ، فسلّط النفي على الرؤية، لا على الكون الذي حمل على ارتكاب التأويل المذكور. وفي رواية أبي فروة:"فإن لم تره، فإنه يراك"، ونحوه في حديث أنس، وابن عبّاس رضي الله عنهم، وكلّ هذا يُبطل التأويل المتقدّم. انتهى ما في "الفتح"(1). وهو بحث نفيسٌ جدّا. والله تعالى أعلم.

(قَالَ) الرجل السائل (فَمَتَى السَّاعَةُ؟) أي متى تقوم الساعة؟ وقد صرّح به في رواية عمارة بن القعقاع، واللام للعهد، والمراد يوم القيامة (2).

وقال القرطبيّ: الساعة: هي في أصل الوضع: مقدارٌ من الزمان، غير معيّن، ولا محدود؛ لقوله تعالى:{مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] وفي عرف الشرع: عبارة عن يوم القيامة، وفي عرف المعدّلين (3): جزء من أربعة وعشرين جزءًا من أوقات الليل والنهار انتهى (4).

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا)"ما" نافيةٌ، وزاد في حديث أبي هريرة، وأبي ذرّ رضي الله عنهما الآتي: "قال: فنكّس، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يُجبه شيئًا، ثم أعاد، فلم يجبه شيئًا، ورفع رأسه، فقال: ما المسؤول

" (بِأَعْلَمَ) هذا وإن كان مشعرا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها؛ لقوله بعدُ: "في خمس لا يعلمها إلا الله". وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فقال: "سبحان الله، خمس من الغيب، لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا الآية".

(مِنَ السَّائِلِ) متعلّق بـ "أعلم"، وإنما عدل عن قوله: لست بأعلم منك، إلى لفظٍ يُشعر بالتعميم؛ تعريضا للسامعين: أي أن كل مسئول، وكل سائل، فهو كذلك.

(1) راجع "الفتح" 1/ 164 - 165.

(2)

راجع "الفتح" 1/ 165.

(3)

"المعدّلون": هم المشتغلون بالحساب، وتقدير الزمن. انتهى من هامش "المفهم" 1/ 147.

(4)

راجع "المفهم" 1/ 147.

ص: 297

[فائدة]: هذا السؤال والجواب، وقع بين عيسى ابن مريم وجبريل عليهم الصلاة والسلام، لكن كان عيسى سائلا، وجبريل مسؤولا، قال الحميدي، في "نوادره": حدثنا سفيان، حدثنا مالك بن مِغْول، عن إسماعيل بن رجاء، عن الشعبي، قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل، عن الساعة؟ قال: فانتفض بأجنحته، وقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل". ذكره في "الفتح" (1).

(قَالَ) السائل (فَمَا أَمَارَتُهَا؟) هكذا في حديث عمر رضي الله عنه أن السائل هو الذي سأله صلى الله عليه وسلم: عن أماراتها، لكن وقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ في "الإيمان":"وسأخبرك عن أشراطها"، وفي "التفسير":"ولكن سأحدثك"، وفي رواية للنسائيّ:"ولكن لها علامات، تعرف بها".

ويجمع بين هذه الاختلافات بأنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ بقوله: "وسأخبرك"، فقال له السائل:"فأخبرني"، ويدل على ذلك رواية سليمان التيمي، ولفظها:"ولكن إن شئت، نَبّأتك عن أشراطها، قال: أجل"، ونحوه في حديث ابن عباس، وزاد:"فحدثني".

ويُستفاد من اختلاف الروايات: أن التحديث، والإخبار، والإنباء، بمعنى واحد، وإنما غاير بينها أهل الحديث اصطلاحا.

و"الأمارات": جمع أمارة بالفتح، كالعلامة وزنًا ومعنًى. و"الأشراط" -بفتح الهمزة- جمع شَرَط -بفتحتين- كقَلَم وأَقْلام: هي الأمارات، والعلامات، ومنه قوله تعالى:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] وبها سُمّي الشُّرَط؛ لأنهم يُعلّمون أنفسهم بعلامات يُعرفون بها.

وإنما اقتصر على هذا النوع من أمارات الساعة، وإن كانت أماراتها كثيرة، كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وغير ذلك؛ لأن تلك الأمارات مقارِنة لها، أو مضايقة، والمراد هنا العلامات السابقة على ذلك.

(1) راجع "الفتح" 1/ 166.

ص: 298

وقال القرطبي: وقد اقتصر في هذا الحديث على ذكر بعض الأشراط التي يكون وقوعها قريبًا من زمانه، وإلا فالشروط كثيرة، وهي أكثر مما ذُكر هنا، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة، ثم إنها منقسمة إلى ما يكون من نوع المعتاد، كهذه الأشراط المذكورة في هذا الحديث، وكرفع العلم، وظهور الجهل، وكثرة الزنا، وشرب الخمر إلى غير ذلك، وأما التي ليست من النوع المعتاد، فكخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، والدخان، والنار التي تسوق الناس، وتحشرهم (1).

قَالَ صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا) هو في تأويل المصدر خبر لمحذوف: أي هي: أي الأمارات ولادة الأمة ربتها.

قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الأمة هنا: هي الجارية المستولدة، وربّها سيّدها، وقد سُمّي بعلًا في الرواية الأخرى، كما سمّاه الله تعالى بعلًا في قوله تعالى:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصّافّات: 125] في قول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وحُكي عنه أنه قال: لم أدر ما البعل؟ حتى قلت لأعرابيّ: لمن هذه الناقة؟ فقال: أنا بعلها، وقد سُمي الزوج بعلًا، ويُجمع على بُعُولة، كما قال تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ} [البقرة: 228]، {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]. و"ربّتها": تأنيث ربّ. انتهى (2).

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ بلفظ: "إذا ولدت الأمة ربها"، بالتذكير، قال في "الفتح": وفي "التفسير": "ربتها" بتاء التأنيث، وكذا في حديث عمر، ولمحمد بن بشر مثله، وزاد:"يعني السرارى"، وفي رواية عمارة بن القعقاع:"إذا رأيت المرأة تلد ربها"، ونحوه لأبي فَرْوة، وفي رواية عثمان بن غياث:"الإماء أربابهن" بلفظ الجمع،

(1) راجع "المفهم" 1/ 155.

(2)

راجع "المفهم" 1/ 148.

ص: 299

والمراد بالرب: المالك، أو السيد.

وقال أيضًا: "التعبير بـ "إذا" للإشعار بتحقق الوقوع، ووقعت هذه الجملة بيانا للأشراط، نظرًا إلى المعنى، والتقدير: ولادةُ الأمة، وتطاول الرعاة.

[فإن قيل]: الأشراط جمع، وأقله ثلاثة على الأصح، والمذكور هنا اثنان، أجاب الكرماني بأنه قد تستقرض القلة للكثرة، وبالعكس، أو لأن الفرق بالقلة والكثرة، إنما هو في النكرات، لا في المعارف، أو لفقد جمع الكثرة للفظ "الشرط".

قال الحافظ: وفي جميع هذه الأجوبة نظر، ولو أُجيب بأن هذا دليل القول الصائر إلى أن أقل الجمع اثنان، لمَا بَعُد عن الصواب، والجواب المرضيّ أن المذكور من الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر على اثنين منها؛ لأنه هنا -يعنى في حديث أبي هريرة عند البخاريّ في "الإيمان"، ومثله في حديث عمر عند النسائيّ هنا- ذكر الولادة، والتطاول، وفي "التفسير" ذكر الولادة، وتَرَؤُّس الحفاة، وفي رواية محمد بن بشر التي أخرج مسلم إسنادها، وساق ابن خزيمة لفظها، عن أبي حيان، ذكر الثلاثة، وكذا في "مستخرج الإسماعيلي"، من طريق ابن علية، وكذا ذكرها عُمارة بن القعقاع، ووقع مثل ذلك في حديث عمر رضي الله عنه، ففي رواية كهمس -يعني رواية ابن ماجه هنا- ذكر الولادة والتطاول فقط، ووافقه عثمان بن غياث، وفي رواية سليمان التيمي ذكر الثلاثة، ووافقه عطاء الخراساني، وكذا ذُكِرت في حديث ابن عباس، وأبي عامر رضي الله عنهم. انتهى "فتح" 1/ 166 - 167.

(قَالَ وَكِيعٌ) هو ابن الجرّاح الراوي عن كهمس مفسّرًا لقوله: "أن تلد الأمة ربتها"(يَعْنِي تَلِدُ الْعَجَمُ الْعَرَبَ) هذا التفسير الذي ذكره المصنّف عن وكيع رحمه الله أحد التفاسير التي ذكرت في هذا الحديث، وهي أربعة أقوال:

[الأول]: قال الخطابي: معناه اتساع الإسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك، وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية، واستولدها، كان الولد منها بمنزلة ربها؛ لأنه ولد سيدها. قال النووي، وغيره: إنه قول الأكثرين. قال الحافظ: لكن في كونه المراد

ص: 300

نظر؛ لأن استيلاد الإماء كان موجودا، حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك، وسبي ذراريهم، واتخاذهم سراريّ، وقع أكثره في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع، مما سيقع قرب قيام الساعة.

قال: وقد فسره وكيع في رواية ابن ماجه، بأخصّ من الأول، قال: أن تلد العجم العرب، ووجهه بعضهم بأن الإماء، يلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية، والملك سيد رعيته، وهذا لإبراهيم الحربي، وقَرَّبَهُ بأن الرؤساء في الصدر الأول، كانوا يستنكفون غالبا من وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكس الأمر، ولا سيما في أثناء دولة بني العباس، ولكن رواية:"ربتها" بتاء التأنيث، قد لا تساعد على ذلك، ووجهه بعضهم بأن إطلاق ربتها على ولدها مجاز؛ لأنه لما كان سببا في عتقها بموت أبيه، أطلق عليه ذلك، وخصه بعضهم بأن السبي إذا كثر، فقد يُسبَى الولد أولا، وهو صغير، ثم يُعتَق، ويكبر، ويصير رئيسا، بل ملكا، ثم تُسبى أمه فيما بعدُ، فيشتريها عارفا بها، أو وهو لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها، أو يتخذها موطوءة، أو يُعتقها ويتزوجها، وقد جاء في بعض الروايات:"أن تلد الأمة بَعْلها"، وهي عند مسلم، فتُحمل على هذه الصورة، وقيل: المراد بالبعل المالك، وهو أولى؛ لتتفق الروايات.

[الثاني]: أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك، فيتداول الملاك المستولدة، حتى يشتريها ولدها، ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية.

[فإن قيل]: هذه المسألة مختلف فيها، فلا يصلح الحمل عليها؛ لأنه لا جهل، ولا استهانة عند القائل بالجواز.

[قلنا]: يصلح أن يحمل على صورة اتفاقية، كبيعها في حال حملها، فإنه حرام بالإجماع. [الثالث]: وهو من نمط الذي قبله، قال النووي: لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يُتصور في غيرهن، بأن تلد الأمة حرا من غير سيدها، بوطء شبهة، أو رقيقا بنكاح، أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي،

ص: 301

حتى يشتريها ابنها، أو ابنتها، ولا يعكُر على هذا تفسير محمد بن بشر، بأن المراد السراري؛ لأنه تخصيص بغير دليل.

[الرابع]: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه، معاملة السيد أمته، من الإهانة بالسب، والضرب، والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازا لذلك، أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة. قال الحافظ: وهذا أَوْجَهُ الأَوْجُه عندي؛ لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة، تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال، مستغربةَ.

ومُحَصَّله الإشارة إلى أن الساعة، يقرب قيامها عند انعكاس الأمور، بحيث يصير المُرَبَّى مُرَبِّيًا، والسافل عاليا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى:"أن تصير الحفاة ملوك الأرض".

(وَأَنْ ترَى الْحُفَاةَ) بالضمّ: جمع حاف، وهو الذي لا يلبس في رجله شيئًا (الْعُرَاةَ) بالضمّ أيضًا: جمه عار: وهو الذي لا يلبس على جسده ثوبًا (الْعَالَةَ) بتخفيف اللام: جمع عائل، وهو الفقير، والعَيْلة: الفقر، يقال: عال الرجل يَعِيل عَيْلةً: إذا افتقر، وأعال يُعيل: إذا كثُر عياله (رِعَاءَ الشَّاءِ) بالكسر: جمع راع، وأصل الرعي: الحفظ، و"الشاء": جمع شاة، وهو من الجمع الذي يفرّق بينه وبين واحده بالهاء، وهو كثير فيما كان خِلْقةً لله تعالى، كشجرة وشجر، وثمرة وثمر، وإنما خصّ رعاء الشاء بالذكر؛ لأنهم أضعف أهل البادية. قاله القرطبيّ (1).

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "إذا رأيت الرعاء البهم"، وعند البخاريّ:"وإذا تطاول رعاة الإبل البهم".

قال في "الفتح": قوله: "تطاول": أي تفاخروا في تطويل البنيان، وتكاثروا به.

قوله: "رعاة الإبل": هو بضم الراء جمع راع، كقضاة وقاض. و"البهم": بضم الموحدة، ووقع في رواية الأصيلي بفتحها، ولا يتجه مع ذكر الإبل، وإنما يتجه مع ذكر الشياه، أو

(1) راجع "المفهم" 1/ 15.

ص: 302

مع عدم الإضافة، كما في رواية مسلم:"رعاء البهم"، وميم "البهم" في رواية البخاري، يجوز ضمها على أنه صفة "الرعاة"، ويجوز الكسر على أنها صفة "الإبل"، يعني الإبل السُّود، وقيل: إنها شر الألوان عندهم، وخيرها الأحمر التي ضرب بها المثل، فقيل:"خير من حمر النعم"، ووصف الرعاة بالبهم: إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه أُبهِم الأمر، فهو مبهم: إذا لم تعرف حقيقته. انتهى.

وقال القرطبي و"البهم" بفتح الباء-: جمع بهيمة، وأصلها صغار الضأن والمعز، وقد يختصّ بالمعز، وأصله من استبهم عن الكلام، ومنه البهيمة. ووقع في البخاريّ:"رعاة الإبل البهم" -بضم الباء-: جمع أبهم، وهو الأسود الذي لا يُخالطه لون آخر، وقُيّدت ميم البهم بالكسر، والضمّ، فمن كسرها جعلها صفة للإبل، ومن رفعها جعلها صفة للرعاء. وقيل: معناه لا شيء لهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"يُحشَر الناس حُفاة، عُراة، بُهما"، قال: وهذا التأويل فيه نظر، لأنه قد نسب له إبلًا، وظاهرها الملك. وقال الخطّابيّ: هو جمع بهيم، وهو المجهول الذي لا يُعرف.

قال: والأولى أن يُحمَل على أنهم سُود الألوان؛ لأن الأُدْمة غالبة على ألوانهم. انتهى كلام القرطبيّ.

وأجاب الحافظ عن قول القرطبيّ: فيه نظر الخ بأنه يُحمل على أنها إضافة اختصاص، لا ملك، وهذا هو الغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك، فقَلَّ أن يباشر الرعي بنفسه. انتهى.

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "وإذا رأيت الحفاة العراة الصمّ البكم ملوك الأرض". وقيل لهم: ذلك مبالغةً في وصفهم بالجهل: أي لم يستعملوا أسماعهم، ولا أبصارهم في شيء من أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة.

والمراد بهؤلاء: هم أهل البادية، كما صرح به في رواية سليمان التيمي وغيره، قال:"ما الحفاة العراة؟ "، قال:"الْعُرَيب"، وهو بالعين المهملة على التصغير، وفي الطبراني من طريق أبي جمرة، عن ابن عباس، مرفوعا: "من انقلاب الدين تَفَصُّح النَّبَط،

ص: 303

واتخاذهم القصور في الأمصار".

وقال القرطبيّ: وقد وصفهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بأنهم صمّ بُكم، عُميٌ، ويعني بذلك -والله تعالى أعلم- أنهم جَهَلةٌ رعاع، لم يستعملوا أسماعهم، ولا كلامهم في علم، ولا في شيء من أمر دينهم، وهذا نحو قوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] أطلق ذلك عليهم، مع أنهم كانت لهم أسماع، وأبصارٌ، ولكنهم لمّا لم تحصُل لهم ثمرات تلك الإدراكات، صاروا كأنهم عَدِموا أصلها، وقد أوضح هذا المعنى قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

قال: ومقصود هذا الحديث: الإخبارُ عن تبدل الحال، وتغيّره، بأن يستولى أهل البادية الذين هذه صفاتهم على أهل الحاضرة، ويتملكوا بالقهر والغلبة، فتكثر أموالهم، وتتسع في حُطام الدنيا آمالهم، فتنصرف هممهم إلى تشييد المباني، وهدم الدين، وشريف المعاني، وأن ذلك إذا وُجد، كان من أشراط الساعة، ويؤيد هذا ما ذُكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تقوم الساعة، حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لُكَع ابن لُكَع"، ومنه الحديث الآخر، ومنه:"إذا وُسِّد الأمر": أي أُسند- "إلى غير أهله، فانتظروا الساعة"، وهو في الصحيح، وقد شُوهد هذا كلّه عيانًا في هذا الزمان، فكان ذلك على صدق رسول الله، وعلى قرب الساعة، حجةً، وبرهانًا. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف (1).

(يَتَطَاوَلُونَ في البناء) أي يتفاخرون في تطويل البناء، ويتكاثرون به.

(قَالَ) الظاهر أن الضمير لابن عمر رضي الله عنهما (ثم قال) أي عُمَرُ بن الخطّاب رضي الله عنه (فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ثَلَاثٍ) أي بعد ثلاث ليال.

وفي رواية النسائيّ: "قال عمر: فلبثت ثلاثًا"، وهو بكسر الباء الموحّدة: أي

(1) راجع "المفهم" 1/ 150 - 151.

ص: 304

مكثتُ، يقال: لبِث بالمكان لَبَثًا، من باب تعب، وجاء في المصدر السكون للتخفيف، واللَّبْثة بالفتح: المرّة، وبالكسر: الهيئة، والنوع، والاسم: اللُّبْث بالضمّ، واللَّبَاث. قاله في "المصباح"(ثَلَاثًا) أي ثلاث ليال.

وفي رواية مسلم: "فلبثت مليّا"، قال النوويّ: معنى: "مليّا" بتشديد الياء: وقتًا طويلًا، وفي رواية أبي داود، والترمذيّ أنه قال ذلك بعد ثلاث، وفي "شرح السنّة" للبغويّ:"بعد ثالثة"، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بعد هذا: "ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رُدُّوا عليّ الرجلَ، فأخذوا ليردّوه، فلم يروا شيئًا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل

الحديث.

فيحتمل الجمع بينهما أن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر رضي الله عنه بعد ثلاث، إذ لم يكن حاضرًا وقت إخبار الباقين. انتهى كلام النوويّ (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجمع هو الأحسن، وسيأتي وجه آخر في الجمع في عبارة الفتح" قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(فَقَالَ: "أَتَدْرِي) أي أتعلم (مَنِ الرَّجُلُ؟) وفي رواية مسلم: "من السائل؟ "(قُلْتُ: اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ذَاكَ جِبْرِيلُ) عليه السلام (أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ مَعَالم دِينِكُمْ) بفتح الميم جمع مَعلَم، قال في "القاموس": مَعْلَم الشيء كمَقْعَد: مَظِنّته، وما يُستدلّ به، كالْعُلَّامَة، كرُمَّانَة. انتهى (2).

والمراد به هنا أمور الدين، وفي رواية مسلم:"ليعلّمكم دينكم"، وللنسائيّ:"أمر دينكم": أي قواعد دينكم، أو كلّيّات دينكم. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"هذا جبريل جاء يعلّم الناس دينهم".

وللإسماعيلي: "أراد أن تعلموا، إذ لم تسألوا"، وفي رواية للنسائيّ: "والذي بعث

(1) راجع "شرح مسلم" 1/ 160.

(2)

"القاموس" ص 1028.

ص: 305

محمدا بالحق، ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل"، وفي حديث أبي عامر: "ثم وَلَّى، فلما لم نر طريقه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، هذا جبريل، جاء ليعلم الناس دينهم، والذي نفس محمد بيده، ما جاءني قط، إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة"، وفي رواية سليمان التيمي: "ثم نَهَض، فوَلَّى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"علي بالرجل"، فطلبناه كل مطلب، فلم نقدر عليه، فقال:"هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل، أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده، ما شُبِّه عليّ منذ أتاني، قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى وَلَّى"، قال ابن حبان تفرد سليمان التيمي بقوله:"خذوا عنه".

قال الحافظ: وهو من الثقات الأثبات، وفي قوله:"جاء ليعلم الناس دينهم": إشارة إلى هذه الزيادة، فما تفرد إلا بالتصريح، وإسناد التعليم إلى جبريل مجازيّ؛ لأنه كان السبب في الجواب، فلذلك أمر بالأخذ عنه.

واتفقت هذه الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر الصحابة بشأنه، بعد أن التمسوه، فلم يجدوه، وأما ما وقع عند مسلم، وغيره، من حديث عُمَر رضي الله عنه -رواية كهمس:"ثم انطلق، قال عمر: فلبثت، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل".

فقد جَمَع بين الروايتين بعضُ الشراح بأن قوله: "فلبثت مليّا": أي زمانا بعد انصرافه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم بذلك، بعد مضيّ وقت، ولكنه في ذلك المجلس، لكن يَعكُر على هذا الجمع قوله في رواية النسائي، والترمذي:"فلبثت ثلاثا"، لكن ادَّعَى بعضهم فيها التصحيف، وأن "مليا" صُغّرت ميمها، فاشبهت "ثلاثا"، لأنها تكتب بلا ألف، وهذه الدعوى مردودة، فإن في رواية أبي عوانة: فلبثنا ليالي، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ثلاث"، ولابن حبان: "بعد ثالثة"، ولابن منده: "بعد ثلاثة أيام".

وجمع النووي بين الحديثين بأن عمر، لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم، في المجلس، بل كان ممن قام، إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل، أو لشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع؛ لعارض عَرَض له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر، إلا بعد

ص: 306

ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله:"فلقيني"، وقوله: فقال لي: "يا عمر"، فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن. قاله في "الفتح"(1).

[تنبيه]: دلت الروايات التي تقدّم ذكرها، على أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما عرف أنه جبريل، إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل، حسن الهيئة، لكنه غير معروف لديهم، وأما ما وقع في رواية النسائي، من طريق أبي فروة، في آخر الحديث:"وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي"، فإن قوله:"نزل في صورة دحية الكلبي"، وَهَمٌ؛ لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر رضي الله عنه: ما يعرفه منا أحد، وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في "كتاب الإيمان" له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي، فقال في آخره:"فإنه جبريل، جاء ليعلمكم دينكم"، حَسْبُ، وهذه الرواية هي المحفوظة؛ لموافقتها باقي الروايات. قاله في "الفتح"(2)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته: حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (9/ 63) بهذا السند فقط، وأخرجه (مسلم) في "الإيمان"(1/ 29 و 30) و (أبو داود) في "السنّة"(4695) و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2610)، و (النسائيّ) في "الإيمان"(8/ 97) و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(11/ 44 و 45) و (أحمد) في "مسنده"(1/ 27 و 28 و51 و 52 و 2/ 107) و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(26) و (ابن منده) في "الإيمان"(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 8 و 9 و 10 و11 و 12 و 13 و 185 و 186)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2504)، و (ابن حبّان) في

(1) راجع "الفتح" 1/ 170.

(2)

راجع "الفتح" 1/ 170 - 171.

ص: 307

"صحيحه"(167) و (173)، و (البغويّ) في "شرح السنة" 2، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أمور الإيمان، ووجه ذلك أننا قدّمنا في أول "باب الإيمان" أن غرض المصنّف رحمه الله بيان حقيقة الإيمان، وشعبه، وأنه قول وفعل، ويزيد وينقص، وغير ذلك مما اشتملت عليه الأحاديث التي ساقها في الباب.

2 -

(ومنها): أن فيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي صلى الله عليه وسلم، فيراه، ويتكلم بحضرته، وهو يسمع، وقد ثبت عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أنه كان يسمع كلام الملائكة.

3 -

(ومنها): أنّ فيه دليلًا على أن الله تعالى مَكّن الملائكة من أن يتمثّلوا فيما شاءوا من صور بني آدم، كما نصّ الله عز وجل على ذلك في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وقد كان جبريل عليه السلام يتمثّل للنبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبيّ رضي الله عنه، وقد كان لجبريل صورة خاصّة، خُلق عليها، لم يره النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها غير مرّتين، كما صحّ الحديث بذلك (1).

4 -

(ومنها): استحباب تحسين الثياب والهيئة، والنظافة عند الدخول على العلماء، والفضلاء، والملوك، فإن جبريل عليه السلام أتى معلّمًا للناس، كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون تعليمه بحاله، ومقاله.

5 -

(ومنها): ابتداء الداخل بالسلام على جميع من دخل عليهم، وإقباله على رئيس القوم، فإن جبريل عليه السلام قال:"السلام عليكم"، فعمّ، ثم قال:"يا محمد"، فخصّ.

6 -

(ومنها): جواز الاستئذان في القرب من الإمام مرارًا، وإن كان الإمام في موضع مأذون في دخوله.

(1) راجع "المفهم" 1/ 152.

ص: 308

7 -

(ومنها): ترك الاكتفاء بالاستئذان مرّة، أو مرّتين على جهة التعظيم، والاحترام.

8 -

(ومنها): جواز اختصاص العالم بموضع مرتفع من المسجد، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لضرورة التعليم، أو غيره؛ لما في رواية النسائيّ:"فبنينا له دكّانًا من طين، كان يجلس عليه".

9 -

(ومنها): أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجةً إلى مسألة، لا يسألون عنها، أن يسأل هو عنها؛ ليحصل الجواب للجميع.

10 -

(ومنها): أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل، ويُدنيه منه؛ ليتمكّن من سؤاله، غير هائب، ولا منقبض، وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله.

11 -

(ومنها): أنه ينبغي للعالم إذا سئل عما لا يعلم، أن يصرح بأنه لا يعلمه، ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته، بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه. قاله النوويّ رحمه الله تعالى.

12 -

(ومنها): نسبة العلم إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في حياته، وأما بعد وفاته، فنقول: الله أعلم؛ لحديث: "لَيَرِدّن عليّ -يعني الحوض- أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم، قال: فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك

" الحديث.

13 -

(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله تعالى، بل علم الغيب مما استأثر الله تعالى به، قال عز وجل:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} الآية [النمل: 65].

14 -

(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على تحريم بيع أمهات الأولاد، وغلّطوه في ذلك، قال النووي في "شرح مسلم": ليس فيه دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا على جوازه، وقد غَلِطَ مَنِ استَدَلَّ به لكلٍّ من الأمرين؛ لأن الشيء إذا جُعل علامةً على شيء آخر، لا يدل على حظر، ولا إباحة.

ص: 309

15 -

(ومنها): أن فيه إطلاق الرب على السيد المالك، لكن قد ورد النهي عن ذلك، وقد أجيب عن ذلك، قال في "الفتح": يُجمَع بين ما في هذا الحديث، من إطلاق الرب على السيد المالك، في قوله:"ربها"، وبين ما في الحديث الآخر، وهو في "الصحيح":"لا يَقُل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّىء ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، ومولاي"، بأن اللفظ هنا خرج على سبيل المبالغة، أو المراد بالرب هنا المربي، وفي المنهي عنه السيد، أو أن النهي عنه متأخر، أو مختص بغير الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى (1).

16 -

(ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى: مقصود هذا السؤال كَفُّ السامعين عن السؤال، عن وقت الساعة؛ لأنهم قد أكثروا السؤال عنها، كما ورد في كثير من الآيات، والأحاديث، فلما حصل الجواب بما ذُكر هنا، حصل اليأس من معرفتها، بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة، ليتعلمها السامعون، ويعملوا بها، ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته، مما لا يمكن.

17 -

(ومنها): ما قاله ابن المُنَيِّر رحمه الله تعالى: في قوله: "يعلمكم دينكم"، دلالة على أن السؤال الحسن، يُسَمَّى علمًا، وتعليمًا؛ لأن جبريل عليه السلام لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه النبيّ صلى الله عليه وسلم معلما، وقد اشتهر قولهم: حُسنُ السؤال نصف العلم، ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث؛ لأن الفائدة فيه انبنت على السؤال والجواب معا.

18 -

(ومنها): ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى: هذا الحديث يصلح، أن يقال له: أم السنة؛ لما تضمنه من جُمَل علم السنة، كما سُمّيت الفاتحة أم الكتاب؛ لِمَا تضمّنته من جُمل معاني القرآن. وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي، كتابيه "المصابيح"، و"شرح السنة"؛ اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة؛ لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا.

وقال القاضي عياض قد اشتمل هذا الحديث، على جميع وظائف العبادات، الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، ابتداء، وحالا، ومآلا، ومن أعمال الجوارح، ومن

(1) راجع "الفتح" 1/ 167 - 168.

ص: 310

إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه. قال: وعلى هذا الحديث، وأقسامه الثلاثة، ألّفنا كتابنا الذي سمّيناه بـ "المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان"، إذ لا يشذّ شيء من الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات عن أقسامه الثلاثة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد ذكرت في "شرح النسائيّ" في هذا المحلّ مسائل مهمّة، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

64 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّه، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهَ مَا الْإسْلَامُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهَ مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْغَنَمِ في الْبُنْيَانِ، فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، في خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّه، فَتَلا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. الآيَةَ" [لقمان: 34]).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد الحافظ الثقة [10] تقدّم في 1/ 1.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم الحافظ الثبت [8] تقدّم في 7/ 47.

ص: 311

3 -

(أَبُو حَيَّانَ) -بمهملة مفتوحة، وتحتانيّة مشدّدة- هو: يحيى بن سعيد بن حَيّان التيميّ، من تيم الرَّبَاب، الكوفيّ، ثقة عابدٌ [6].

روى عن أبيه، وعمه يزيد بن حيان، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير، والشعبي، والضحاك بن المنذر، وعَبَاية بن رِفَاعة بن رافع بن خَدِيج، وغيرهم.

وروى عنه أيوب السختياني، ومات قبله، والأعمش، وهو من أقرانه، وشعبة، والثوري، ووهيب، وابن علية، وهشيم، وابن المبارك، ويحيى القطان، وابن فضيل، وأبو أسامة، ومحمد بن عبيد الطنافسي، وآخرون.

قال الْخُرَيبيّ: كان أبو حيان عند سفيان الثوري -يعني كان يعظمه ويوثقه-.

وقال محمد بن عمران الأخنسي عن محمد بن فضيل: ثنا أبو حيان التيمي، وكان صدوقًا. وقال ابن معين: ثقة. وقال العجليّ: ثقة صالح مُبَرِّز صاحب سنة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال مسلم: كوفي من خيار الناس. وقال النسائيّ: ثقة ثبت. وقال الفلاس: ثقة. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة مأمون. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة خمس وأربعين ومائة، وكان من المتهجدين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم 64 و 160 و 2503 و 3307 و 4017 و 4044 و 4069.

4 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم.

وقيل: عبد الله. وقيل: عبد الرحمن. وقيل: عمرو. قاله النسائي. وقيل: جرير. قاله الواقدي، ثقة [3].

رأى عليا، وروى عن جده، وأبي هريرة، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثابت بن قيس النخعي، وخَرَشَة بن الْحُرّ، وعبد الله بن يحيى الحضرمي، وأرسل عن عمر بن الخطاب، وأبي ذر.

وروى عنه عمه إبراهيم بن جرير، وحفيداه: جرير، ويحيى ابنا أيوب بن أبي زرعة، وابن عمه جرير بن زيد، وإبراهيم النخعي، والحارث الْعُكْلي، وطلق بن

ص: 312

معاوية، وعبد الله بن شُبْرُمة الضبي، وأبو حيان التيمي، وعلي بن مُدْرِك، وغيرهم.

قال الواقديّ: كان لجرير ابنٌ يقال له: عمرو، وبه كان يُكنَى، هلك في إمارة عثمان، فولد عمروٌ ابنًا سَمّاه جريرًا باسم أبيه، وغَلَب عليه أبو زرعة، رأى عليا، وكان انقطاعه إلى أبي هريرة، وسمع من جده أحاديث، وكان من علماء التابعين. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال ابن خِرَاش: صدوق ثقة. وقال جرير عن عمارة بن القعقاع: قال لي إبراهيم: إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة، فإني سألته عن حديثٍ مَا، سألته بعد ذلك بسنة أو سنتين، فما أَخْرَم منه حرفًا.

وقال البخاري في "تاريخه": هَرِم أبو زرعة سمع ثابت بن قيس، وعنه الحسن بن عبيد الله. وقال في "الأوسط": قال لي علي بن عبد الله: هرم أبو زرعة هذا ليس هو عمرو بن جرير، إنما أبو زرعة آخر. قال بعضهم: إنه غَلَّابيّ. وقال ابن عساكر: فرق ابن المديني بين أبي زرعة بن عمرو بن جرير وبين هرم أبي زرعة، صاحب أبي قيس. وذكر ابن حبان في "الثقات" أبا زرعة بن عمرو بن جرير فيمن اسمه هرم، ثم قال: ويقال: اسمه وكنيته.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (21) حديثًا.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم 1/ 1.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير إسماعيل، فبصريّ، والصحابيّ فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

ص: 313

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ) أي ظاهرًا غير محُتجِبٍ عنهم، ولا ملتبس بغيره، والبروزُ: الظهورُ، وقد وقع في رواية أبي فروة عند النسائيّ بلفظ:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب، فلا يَدرِي أيّهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دُكّانًا من طينٍ كان يجلس عليه". انتهى.

واستنبط منه القرطبي استحبابَ جلوس العالم بمكان يختص به، ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك؛ لضرورة تعليم ونحوه.

(فَأَتَاهُ رَجُلٌ) أي ملك في صورة رجل، وللبخاريّ في "التفسير":"إذ أتاه رجل يمشي"، وللنسائيّ من رواية أبي فروة:"فإنا لجلوسٌ عنده، إذ أقبل رجل أحسنُ الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لم يَمَسَّها دَنَسٌ".

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه) أي بعد السلام، لما في رواية أبي فَرْوة عند النسائيّ:"حتى سَلّمَ من طَرَف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فَرَدّ عليه السلام، قال: أَدنو يا محمد؟ قال: ادْنُ، فما زال يقول: أَدنو مرارًا؟ ويقول له: ادن". وقد تقدّم تحقيق ذلك في الحديث الماضي.

(مَا الْإِيمَانُ؟) قيل: قَدَّمَ السؤال عن الإيمان؛ لأنه الأصل، وثَنَّى بالإسلام؛ لأنه يُظهِر مِصْدَاق الدعوى، وثَلَّثَ بالإحسان، لأنه مُتَعَلِّق بهما. وفي رواية عُمارة بن القعقاع بدأ بالإسلام؛ لأنه بالأمر الظاهر، وثَنَّى بالإيمان؛ لأنه بالأمر الباطن، ورجح هذا الطيبي؛ لما فيه من الترقِّي، ولا شك أن القصة واحدة، اختَلَفَ الرواةُ في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق عند أبي عوانة في "صحيحه"، فإنه بدأ بالإسلام، وثَنَّى بالإحسان، وثَلَّث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة. قاله الحافظ (1).

(1) المصدر السابق 1/ 143.

ص: 314

(قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ) دل الجواب أنه عَلِمَ أنه سأله عن مُتَعَلِّقَاته، لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب الإيمانُ التصديق. (وَمَلَائِكَتِهِ) أي تُصدّق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} . (وَكُتُبِهِ) أي تصدّق بأنها كلام الله، وليست مخلوقة، وأن ما تضمنته حقّ وصدق.

(وَرُسُلِهِ) قال في "الفتح": وللأصيلي: "وبرسله"، ووقع في حديث أنس، وابن عباس:"والملائكة، والكتاب، والنبيين"، وكُلٌّ من السياقين في القرآن في البقرة، والتعبير بالنبيين يَشمَل الرسل من غير عكس.

(وَلقَائِهِ) قيل: هذا مكرّر؛ لأنه داخل في الإيمان بالبعث، والحقّ أنه غير مكرّر، فقيل: المراد بالبعث القيام من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك، ويدلّ على ذلك قوله بعده:"وتؤمن بالبعث الآخر"، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطابيّ، وتعقّبه النوويّ بأن أحدًا لا يَقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يُختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان؟ وأجيب بأن المراد الإيمان بأن ذلك حقّ في نفس الأمر.

وهذا من الأدلّة القويّة لأهل السنّة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة؛ إذ جُعلت من قواعد الإيمان. قاله في "الفتح"(1)(وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الْآخِرِ) قيل: ذكرُ "الآخر" تأكيدٌ، كقولهم:"أمس الذاهب"، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة، والْعَلَقة إلى الحياة الدنيا، والثانية البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار.

وأما اليوم الآخر، فقيل له ذلك؛ لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة.

(قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا الْإِسْلَامُ؟) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ما معناه: إن سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان بلفظ "ما" يدلّ على أنه إنما سأل عن حقيقتهما عنده،

(1)"فتح" 1/ 156 - 157.

ص: 315

لا عن شرح لفظهما في اللغة، ولا عن حكمهما؟ لأن "ما" في أصلها إنما يُسأل بها عن الحقائق، والماهيّات، ولذلك أجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تؤمن بالله، وبكذا، وكذا، فلو كان سائلًا عن شرح لفظهما في اللغة لما كان هذا جوابًا له؛ لأن المذكور في الجواب، هو المذكور في السؤال. انتهى (1).

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَعْبُدَ اللَّه) أي توحّده بلسانك على وجه يُعتدّ به، فشمل الشهادتين، فيوافق هذا الحديث حديث عمر رضي الله عنه المذكور قبله، وكذا حديث بُني الإسلام على خمس المتّفق عليه، وقوله:(وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) تأكيد لجملة "أن تعبد الله"(وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ المكتوبة) أي المفروضة على العباد (وتؤدّي الزَّكَاةَ المفروضة) على الأغنياء، زاد في رواية النسائيّ من طريق أبي فروة عن أبي زرعة في "وتحج البيت"(وَتَصُومَ رَمَضَانَ) فيه جواز إطلاق رمضان من إضافة شهر إليه، وهو القول الصحيح، وكرهه بعضهم.

وزاد في رواية النسائيّ المذكورة: "قَالَ: إِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَقَدْ أَسْلَمْتُ؟، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: صَدَقْتَ، فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ، أَنْكَرْنَاهُ".

(قَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) تقدّم شرح هذه الجملة مستوفًى في الحديث الماضي، وزاد في رواية النسائيّ:"قَالَ صَدَقْتَ"(قَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللَّه مَتَى السَّاعَةُ؟) أي متى يقوم يوم القيامة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا) وفي رواية أبي فروة المذكورة: "قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَنَكَسَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، وَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ إلخ".

(بِأَعْلَمَ) الباء زائدة لتأكيد النفي (مِنَ السَّائِلِ) يعني أن الناس كلهم في وقت الساعة سواء، فكلهم غير عالمين به على الحقيقة، ولهذا قال:"في خمس لا يعلمهنّ إلا الله".

قال في "الفتح": وهذا وإن كان مُشعرًا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي

(1) راجع "المفهم" 1/ 144.

ص: 316

في العلم بأن الله تعالى استأثر بها؛ لقوله بعدُ: "خمس لا يعلهمنّ إلا الله الخ".

(وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا) بفتح الهمزة، جمع شَرَط بفتحتين، كقَلَم وأقلام: أي علاماتها (إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَتَهَا) التعبير بـ "إذا" يُشعر بتحقّق الوقوع، وقوله:(فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) -أي من علامات الساعة- جواب "إذا"، وقد سبق بيان اختلاف العلماء في معنى "ولدت الأمة ربتها" مستوفًى في شرح حديث عمر رضي الله عنه، فراجعه تستفد.

(وَإِذَا تَطَاوَلَ) أي تفاخر، وتكاثر (رِعَاءُ الْغَنَمِ) بكسر الراء: جمع راع (في الْبُنْيَانِ) أي في تشييد البنيان (فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) أي من علاماتها (في خَمْسٍ) قال في "الفتح": أي علم وقت الساعة داخل في جملة خمس، وحَذْفُ متعلق الجار سائغ، كما في قوله تعالى:{في تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]: أي اذهب إلى فرعون بهذه الآية، في جملة تسع آيات (1). وفي رواية عطاء الخراساني:"قال: فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس من الغيب، لا يعلمها إلا الله". انتهى.

وقال القرطبيّ: قوله: "في خمس الخ": فيه حذف، وتوسّعٌ: أي هي من الخمس التي قد انفرد الله بعلمها، أو في عددهنّ، فلا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس، ولقوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] فلا طريق لعلم شيء من ذلك، إلا أن يُعْلِم الله تعالى بذلك، أو بشيء منه أحدًا ممن شاءه، كما قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجنّ: 26 - 27]، فمن ادّعى علم شيء من هذه الأمور كان في دعواه كاذبًا، إلا أن يُسند ذلك إلى رسول بطريق تفيد العلم القطعيّ، ووجود ذلك متعذّر، بل ممتنعٌ، وأما ظنّ الغيب، فلم يتعرّض شيء من الشرع لنفيه، ولا لإثباته، فقد يجوز أن

(1) وقال الطيبيّ: ويجوز أن يتعلّق بـ "أعلم" يعني ما المسؤول عنها بأعلم في خمس، أي في علم الخمس، فكما عمّ في المسئول عنه أولًا عم في المسئول عنه ثانيًا: أي لا ينبغي لأحد أن يسأل أحدًا في علم الخمس؛ لأن العلم بها مختصّ باللَّه تعالى. انتهى "الكاشف" 2/ 435.

ص: 317

يظنّ المنجّم، أو صاحب خط الرمل، أو نحو هذا شيئًا مما يقع في المستقبل، فيقع على ما ظنّه، فيكون ذلك ظنّا صادقًا، إذا كان عن موجب عاديّ، يقتضي ذلك الظنّ، وليس بعلم، فيُفهم هذا منه، فإنه موضع غَلِطَ بسببه رجالٌ، وأُكلت به أموالٌ.

[ثم اعلم]: أن أخذ الأجرة، والْجُعْل، وإعطائها على ادّعاء علم الغيب، أو ظنّه لا يجوز بالإجماع، على ما حكاه أبو عمر ابن عبد البرّ رحمه الله. انتهى (1).

وقال في "الفتح": وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أُوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم علم كل شيء، سوى هذه الخمس. وعن ابن عمر مرفوعًا نحوه، أخرجهما أحمد. وأخرج حميد بن زنجويه، عن بعض الصحابة، أنه ذُكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره، فأنكر عليه، فقال: إنما الغيب خمس، وتلا هذه الآية، وما عدا ذلك غيب، يعلمه قوم، ويجهله قوم.

(لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّه) أي لا يعلم تلك الخمس إلا الله سبحانه وتعالى. قال الطيبيّ رحمه الله: فيه إشارة إلى إبطال الكهانة والنجامة وما شاكلها، قال لبيد [من الطويل]:

لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى

وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ

وإرشاد للأمة، وتحذير لهم عن إتيان من يَدّعي علم الغيب، فإذًا الجواب من الأسلوب الحكيم، أجاب عن سؤاله في ضمن أشياء مهمّة، لا بدّ من بيانها إرشادًا للأمّة، وتنبيهًا للمعلم عليها، كأنه قيل: سؤالك يقتضي أن لا يُقتَصَر على جواب واحد، بل يُجاب مع هذه الأمور المهمّة، فإن اهتمامها كاهتمامه.

أو يقال: كان يجب عليك أيها المعلّم أن لا تقتصر على سؤال واحد، بل تسأل عن هذه الأشياء المهمّة.

[فإن قيل]: أليس إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة من قبيل قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} ؟ [لقمان: 43].

[قلت]: إذا أَظهَر بعضُ المرتضَينَ من عباده بعض ما كوشف له من الغيوب

(1) راجع "المفهم" 1/ 155 - 156.

ص: 318

لمصلحة ما لا يكون إخبارًا بالغيب، بل يكون تبليغًا له، قال الله تعالى:{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجنّ: 26]. انتهى (1).

(فَتَلَا) أي قرأ (رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم) تصديقًا لقوله: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، فقوله ({إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}) مفعول به لـ "تلا" محكيّ؛ لقصد لفظه، أي علم وقت وقوعها.

{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} قرىء بالتشديد، من التنزيل، والتخفيف من الإنزال: أي وهو ينزل المطر الذي يُغيث الناس في أمكنة، وأزمنة لا يعلمها إلا هو {وَيَعْلَمُ مَا في الْأَرْحَامِ} أي وهو يعلم تفاصيل ما في أرحام الإناث، من ذكر أو أنثى، وواحد ومتعدّد، وكامل وناقص، ومؤمن وكافر وطويل وقصير، وغير ذلك، قال الله عز وجل في آية أخرى:{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} [الرعد: 8]: أي تنقص وما تزداد، أي من مدّة الحمل، والجثّة والعدد {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] أي بقدر واحد لا يتجاوزه.

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} برةً كانت أو فاجرة {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} من خير أو شرّ، وربّما كانت عازمةً على خير، فعملت شرّا، وعازمةً على شرّ فعملت خيرًا {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي أين تموت، فربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت: لا أبرحها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها (2).

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} أي بهذه الأشياء من جزئياتها وكلياتها خصوصًا، وبغيرها عمومًا {خَبِيرٌ} أي عالم بباطنها، كما أنه عالم بظاهرها.

[فإن قيل]: كيف يطابق تفسيره صلى الله عليه وسلم الآية بقوله: "في خمس لا يعلمهن إلا الله"، وليس في الآية أداة حصر، كما في الحديث؟.

(1) راجع "الكاشف" 2/ 435.

(2)

راجع "تفسير النسفي" 3/ 286.

ص: 319

[قلت]: فيه وجهان:

[أحدهما]: أن يكون {عِلْمُ السَّاعَةِ} فاعلًا للظرف؛ لاعتماده على اسم "إنّ"، ويُعطف {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} وما بعده من الجمل على الظرف، وفاعلِهِ على تأويل الجملتين المنفيتين بإثبات ما نُفي فيهما عن الغير لله سبحانه وتعالى: أي يعلم ماذا تكسب كل نفس غدًا، ويعلم أن كل نفس بأيّ أرض تموت.

قال أبو البقاء: هذا العطف يدلّ على قوّة شبه الظرف بالفعل. وقال صاحب "الكشّاف": جاء بالظرف، وما ارتفع به، ثم قال:{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ، فعطف الجملة على الجملة، ومثله قوله تعالى:{نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} ، فصدّر بالفعل والفاعل، ثم عطف بالظرف، وما ارتفع به.

وإذا تقرّر هذا فنقول: إذا كان الفعل عظيم الخطر، وما بُني عليه الفعل عليَّ القدر، رفيع الشأن، فُهم منه الحصر على سبيل الكناية.

[فإن قلت]: إذا عُطف {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} على الجملة، كيف دلّ على العلم؟.

[أجيب]: بأنه إذا نُفي إنزال الغيث عما كانوا يُنسبون إليه من طلوع الأنواء اختصّ بالله تعالى، فيلزم منه اختصاص علم الله تعالى.

[وثانيهما]: أن يذهب إلى أن الظرف خبر مقدّم على المبتدإ لإفادة الحصر، ويُعطف {يُنَزِّلُ} على المضاف إليه، يعني عنده علم الساعة، وعلم تنزيل الغيث على تقدير أن ينزل، فحذف "أن"، فارتفع الفعل، نحو قوله:"أَحْضُرَ الْوَغَى"، ويُعطف {وَيَعْلَمُ مَا في الْأَرْحَامِ} ، وما بعده على المضاف، أي إن الله عنده علم ما في الأرحام، وعلم ماذا تكسب كلّ نفس غدًا على التقدير المذكور.

[فإن قلت]: فأيّ نكتة دعت إلى العدول عن المثبت إلى المنفي في قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ} الآية [لقمان: 34]، وما فائدة تكرير نفس، وتنكيرها، وإيثار الدراية على العلم، فإنها إدراك الشيء بالحيلة.

[أجيب]: إذا نُفيت الدراية لما فيها من معنى الحيلة في اكتساب العلم من كلّ

ص: 320

نفس على سبيل الاستغراق لوقوع النكرة في سياق النفي، أفاد أن كلّ نفس منفوسة من الإنسان وغيره إذا أَعمَلت حيلتها في معرفة ما يختصّ، ويلصق بها، ولا شيء أخصّ من الإنسان من كسب نفسه، وعاقبة أمره، ولا يَقِف على شيء من ذلك، فكيف يقف على ما هو أبعدُ وأبعدُ خصوصًا من معرفة وقت الساعة، وإبّانِ إنزال الغيث، ومعرفة ما في الأرحام.

والفائدة في بيان الأمارات هي أن يتأهب المكلّف المسير إلى المعاد بزاد التقوى.

انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا (9/ 64) و"الفتن"(4044) و (البخاريّ) في "الإيمان"(1/ 19 رقم 50) و"التفسير"(6/ 144) رقم (4777) و (مسلم) في "الإيمان"(1/ 30)(9 و 10) و (أبو داود) في "السنّة"(4698) و (النسائيّ) 8/ 101 و (أحمد) في "باقي مسند المكثرين" 9217 و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2244) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(159) و (ابن منده) في "الإيمان" 15 و 16، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) راجع "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 434 - 435.

ص: 321

وبالسند المتّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

65 -

(حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِح، أَبُو الصَّلْتِ الْهُرَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِليِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الْإِيَمانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ".

قَالَ أَبُو الصَّلْتِ: لَوْ قُرِىءَ هَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى مَجْنُونٍ لَبَرَأَ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ) هو: سهل بن زَنْجَلة أبو عمرو الرازيّ، صدوق [10] 9/ 58.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) بن سَمُرَة الأَحْمَسيّ -بمهملتين- أبو جعفر السّرّاج، ثقة [10].

رَوَى عن أبي معاوية، وابن عيينة، والمحاربي، وجعفر بن عون، وعثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، ووكيع، وغيرهم.

وروى عنه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والقاسم بن زكريا، وابن أبي داود، وابن أبي حاتم، وآخرون.

قال ابن أبي حاتم سئل أبي عنه، فقال: صدوق، وسمعت منه مع أبي، وهو صدوق ثقة. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو القاسم: مات سنة ستين ومائتين في جمادى الأولى، ويقال: سنة (58) وأرخه ابن المنادي، ومسلمة، والقراب سنة ستين، زاد مسلمة: وكان صدوقا.

وله في هذا الكتاب (36) حديثًا.

3 -

(عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ، أَبُو الصَّلْتِ الهرَوِيُّ) هو: عبد السلام بن صالح بن سليمان بن أيوب بن ميسرة القرشي مولاهم، سكن نيسابور، ورحل في الحديث إلى الأمصار، وخدم علي بن موسى الرضا، صدوق له مناكير، وكان يتشيّع، وأفرط فيه

ص: 322

العقيليّ، فقال: كذّاب [10].

ورَوَى عن عبد السلام بن حرب، وعبد الله بن إدريس، وعباد بن العوام، وحماد ابن زيد، ومالك بن أنس، وغيرهم.

وروى عنه ابنه محمد، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي، وسهل بن زَنْجَلة، ومحمد بن رافع النيسابوري، والدوري، وغيرهم.

قال أحمد بن سيار: ذُكر لنا أنه من موالي عبد الرحمن بن سمرة، وقد لقي وجالس الناس، ورحل في الحديث، وكان صاحب قَشَافة وزهد، ولم أره يُفرط في التشيع، وناظر بشر المريسي، ثم المأمون، وكان الظفر له، ورأيته يُقَدِّم أبا بكر وعمر، ويترحم على علي وعثمان رضي الله عنهما، ولا يذكر الصحابة إلا بجميل، إلا أن ثَمَّ أحاديث يرويها في المثالب، وسألت إسحاق بن إبراهيم عنها، فقال: أَمّا من رواها على طريق المعرفة فلا أكره ذلك، وأما من يرويها ديانة، فلا أرى الرواية عنه. وقال القاسم بن عبد الرحمن الأنباريّ: سألت يحيى بن معين عن حديث حدثنا به أبو الصلت، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا: "أنا مدينة العلم

" الحديث، فقال: هو صحيح، وقال الخطيب: أراد أنه صحيح عن أبي معاوية، إذ قد رواه غير واحد عنه.

وقال المرّوذيّ: سئل أبو عبد الله عن أبي الصلت، فقال: روى أحاديث مناكير، قيل له: روى حديث مجاهد: "أنا مدينة العلم

" قال: ما سمعنا بهذا، قلت: هذا الذي يُنكَر عليه؟ قال: غير هذا، أما هذا فما سمعنا به. ورَوَى عن عبد الرزاق أحاديث لا نعرفها أو لا نسمعها. وقال الحسن بن علي بن مالك: سألت ابن معين عن أبي الصلت، فقال: ثقة صدوق، إلا أنه يتشيع.

وقال ابن الجنيد عن ابن معين: قد سمع، وما أعرفه بالكذب، قلت: فحديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس؟ قال: ما بلغني إلا عنه، وما سمعت به قط. وقال مرة أخرى: ولم يكن أبو الصلت عندنا من أهل الكذب. وقال الدوري: سمعت ابن معين يوثق أبا الصلت، وقال في حديث:"أنا مدينة العلم": قد حدث به محمد بن جعفر

ص: 323

الْفَيْديّ، عن أبي معاوية. وقال ابن محُرِز عن ابن معين: ليس ممن يكذب، فقيل له في حديث أبي معاوية هذا، فقال: أخبرني ابن نمير، قال حدث به أبو معاوية قديمًا، ثم كَفَّ عنه، وكان أبو الصلت مُوسِرا يطلب هذه الأحاديث، ويُكرم المشايخ، فكانوا يحدثونه بها. وقال صالح بن محمد: رأيت ابن معين يحسن القول فيه. وقال زكريا الساجي: يحدث مناكير، هو عندهم ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لم يكن بصدوق، وهو ضعيف، ولم يحدثني عنه، وضرب أبو زرعة على حديثه، وقال: لا أحدث عنه، ولا أرضاه. وقال الجوزجاني: كان مائلا عن الحق. وقال ابن عدي: له أحاديث مناكير في فضل أهل البيت، وهو متهم فيها. وقال الْبَرْقاني عن الدارقطني: كان رافضيا خبيثًا. قال لي دَعْلَج: إنه سمع أبا سعيد الهروي، وقيل له: ما تقول في أبي الصلت؟ قال: نعم الْهَيْصَم (1) ثقة، قال: إنما سألتك عن عبد السلام، فقال: نعم ثقة، ولم يزد على هذا. قال أبو الحسن: وروى حديث "الإيمانُ إقرار بالقول

"، وهو مُتَهَمٌ بوضعه، لم يُحَدِّث به إلا من سرقه منه، فهو الابتداء في هذا الحديث. وقال البرقاني: وحَكَى لنا أبو الحسن أنه سُمِع يقول: كلبٌ للعلوية خير من جميع بني أمية (2)، فقيل: إن فيهم عثمان، فقال: فيهم عثمان. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وقال الحاكم والنقاش وأبو نعيم: رَوَى مناكير. وقال الحاكم: وثقه إمام أهل الحديث يحيى بن معين. وقال الآجري عن أبي داود: كان ضابطًا، ورأيت ابن معين عنده. وقال محمد بن طاهر كذاب.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

4 -

(عَليُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا) -بكسر الراء، وفتح الضاد المعجمة- هو: عليّ بن

(1) في "القاموس": الهيصم كحيدر: ضرب من الحجارة أملس، والرجل القويّ، والأسد. انتهى.

(2)

"سبحانك هذا بهتان عظيم".

ص: 324

موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، أبو الحسن يُلقّب بالرضا صدوقٌ، والخلل ممن روى عنه، من كبار [10].

رَوَى عن أبيه، وعبيد الله بن أرطاة بن النذر. وروى عنه ابنه محمد، وأبو عثمان المازني النحوي، وأيوب بن منصور النيسابوري، وأبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، والمأمون بن الرشيد، وعلي بن مهدي بن صدقة، له عنه نسخة، وأبو أحمد داود ابن سليمان بن يوسف الغاري القزويني، له عنه نسخة، وعامر بن سليمان الطائي، له عنه نسخة كبيرة، وأبو جعفر محمد بن محمد بن حبان التمار، وآخرون.

قال أبو الحسن يحيى بن جعفر النسابة الْعَلَويّ، عقد له المأمون وَلِيّ عَهْد، ولبس الناس الخضرة في أيامه. وقال المبرد عن أبي عثمان المازني: سئل علي بن موسى الرِّضَى، يُكَلِّف الله العباد ما لا يطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك، قال: يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك. وقال الحاكم في "تاريخ نيسابور": أشخصه المأمون من المدينة إلى البصرة، ثم إلى الأهواز، ثم إلى فارس، ثم إلى نيسابور إلى أن أخرجه إلى مَرْوَ، وكان ما كان -يعني من قصة استخلافه-.

قال: وسمع علي بن موسى أباه، وعمومته: إسماعيل، وعبد الله، وإسحاق، وعلي بني جعفر، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، وغيرهم من أهل الحجاز، وكان يفتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن نَيِّف وعشرين سنة، روى عنه من أئمة الحديث آدم بن أبي إياس، ونصر بن علي الجهضمي، ومحمد بن رافع القشيري، وغيرهم، استُشْهِد علي بن موسى بسِنْدِ أباد من طوس لتسع بقين من شهر رمضان ليلة الجمعة من سنة (203) وهو ابن (49) سنة وستة أشهر، ثم حكى من طريق أخرى أنه مات في صفر.

وقال أبو سعد بن السمعاني في "الأنساب": قال أبو حاتم بن حبان: يروي عن أبيه العجائب، كأنه كان يَهِم ويُخطىء، ومات يوم السبت آخر يوم من صفر وقد سُمَّ في ماء الرُّمان وسُقِي. قال ابن السمعاني والخلل في رواياته عن رُواته، فإنه ما رَوَى عنه إلا متروك، والمشهور من روايته الصحيفة، وراويها عنه مطعون فيه، وكان الرضا من أهل

ص: 325

العلم والفضل، مع شرف النسب انتهى، تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

5 -

(أَبُوه) هو: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي أبو الحسن المدني العروف بالكاظم، صدوقٌ عابدٌ [7].

روى عن أبيه، وعبد الله بن دينار، وعبد الملك بن قُدامة الْجُمَحي. وروى عنه أخواه: علي ومحمد، وأولاده: إبراهيم، وحسين، وإسماعيل، وعلي الرضا، وصالح بن يزيد، ومحمد بن صدقة العنبري.

قال أبو حاتم: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين. وقال يحيى بن الحسن بن جعفر النسابةُ: كان موسى بن جعفر يُدْعَى العبد الصالح من عبادته واجتهاده. وقال الخطيب: يقال: إنه وُلد بالمدينة في سنة ثمان وعشرين ومائة (1)، وأقدمه المهدي إلى بغداد، ثم رده إلى المدينة، وأقام بها إلى أيام الرشيد، فقدم هارون منصرفا من عمرة رمضان سنة تسع وسبعين، فحمله معه إلى بغداد، وحبسه بها إلى أن تُوفي في محبسه.

وقال محمد بن صدقة العنبري: توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. وقال غيره: في رجب، ومناقبه كثيرة.

تفرّد به أبو داود، والمصنّف، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عليّ بن الحسين المعروف بالصادق، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ إمام [6] تقدّم في 7/ 44.

7 -

(أبوه) محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشميّ المعروف بالباقر، أبو جعفر المدنيّ، ثقة فاضل [4] تقدّم في 1/ 4.

8 -

(عَليُّ بْنُ الحُسَيْنِ) بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله المدنيّ، زين العابدين، ثقة ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ

(1) قال الحافظ رحمه الله: قلت: إن ثبت أَنَّ مولده سنة ثمان، فروايته عن عبد الله بن دينار منقطعة؛ لأن عبد الله بن دينار تُوفي سنة سبع وعشرين. انتهى "تهذيب التهذيب" 4/ 173.

ص: 326

فاضلٌ مشهور [3].

روى عن أبيه، وعمه الحسن، وأرسل عن جده علي بن أبي طالب، وروى عن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وأبي هريرة، وعائشة، وصفية بنت حيي، وأم سلمة، وبنتها زينب بنت أبي سلمة، وأبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وابنه عبيد الله بن أبي رافع، وغيرهم.

وروى عنه أولاده: محمد، وزيد، وعبد الله، وعمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وطاووس بن كيسان، وهما من أقرانه، والزهري، وأبو الزناد، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعاصم بن عبيد الله، والقعقاع بن حكيم، وزيد بن أسلم، وغيرهم.

قال ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعيّ أهل المدينة: أمه أُمُّ ولد، وكان ثقة مأمونا كثير الحديث، عاليا رفيعا ورعا. قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل من علي بن الحسين، وكان مع أبيه يوم قُتِلَ، وهو مريضٌ فَسَلِم. وقال ابن عيينة عن الزهري أيضًا: ما رأيت أحدًا كان أفقه منه، ولكنه كان قليل الحديث. وقال مالك: قال نافع بن جبير بن مطعم لعلي بن الحسين: إنك تجالس أقواما دُونًا، فقال علي بن الحسين: إني أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني. قال: وكان علي بن الحسين رجلا له فضل في الدين.

وقال ابن وهب عن مالك: لم يكن في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن الحسين. وقال الحاكم: سمعت أبا بكر بن دَارِم عن بعض شيوخه، عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: أصح الأسانيد كلها: الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي. وقال حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد: سمعت علي بن الحسين، وكان أفضل هاشمي أدركته. وقال الآجري: قلت لأبي داود: سمع علي بن الحسين من عائشة؟ قال: لا، سمعت أحمد بن صالح يقول: سِنّ علي بن الحسن وسن الزهري واحد. ويُروَى أن سعيد بن المسيب قال: ما رأيت أورع منه. وقال العجلي: مدني تابعيّ ثقة.

قال يعقوب بن سفيان: وُلد علي بن الحسين سنة ثلاث وثلاثين. وقال ابن عيينة

ص: 327

عن الزهري: كان علي بن الحسين مع أبيه يوم قُتل وهو ابن (23) سنة، وكذا قال الزبير عن عمه. وقال يعقوب بن سفيان عن إبراهيم بن المنذر عن مَعْن بن عيسى: تُوفي أنس ابن مالك، وعلي بن الحسين، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث سنة (93).

وقال أبو نعيم وغيره: سنة (92). وقال ابن نمير، وعمرو بن علي، ويحيى بن معين، وجماعة: سنة (4).

وقال المدايني: مات سنة (1). وقيل: سنة (99). وقال ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه: مات علي بن الحسين، وهو ابن (58) سنة. قال الحافظ: مقتضاه أن يكون مات سنة (94) أو (95) لأنه ثبت أن أباه قُتل وهو ابن (23) سنة، وكان قتل أبيه يوم عاشوراء سنة (61)، وأما ما تقدم عن أحمد بن صالح أن سِنَّه وسِنَّ الزهري واحد، فليس بصحيح؛ لأن الزهري مولده سنة (50) فعلي بن الحسين أكبر منه بثلاث عشرة سنة. والله أعلم. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث برقم 65 و 491 و 657 و 1779 و 1999 و 2729 و 2730 و 2942 و3010 و 3554.

9 -

(أبوه) هو: الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المدني، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، رَوَى عن جده صلى الله عليه وسلم، وأبيه، وأمه، وخاله هند بن أبي هالة، وعمر بن الخطاب.

وروى عنه أخوه الحسن، وبنوه: علي، وزيد، وسكينة، وفاطمة، وابن ابنه أبو جعفر الباقر، والشعبي، وعكرمة، وكُرز التيمي، وسِنَان بن أبي سنان الدُّؤلي، وعبد الله ابن عمرو بن عثمان، والفرزدق، وجماعة.

قال الزبير بن بكار: وُلد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع، وقال جعفر بن محمد: كان بين الحسن والحسين طهر واحد. وأخرج البخاريّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين رضي الله عنه، فجُعِل في طست، فجعل يَنكُت، وقال في حسنه

ص: 328

شيئًا، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوبا بالوسمة (1).

وأخرج أبو يعلى بسند حسن عن جابر رضي الله عنه قال: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله (2).

وأخرج أحمد في "مسنده" بسند صحيح عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بنصف النهار، أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم يلتقطه، أو يتتبع فيها شيئًا، قال: قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم، قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قُتل ذلك اليوم.

وأخرج المصنّف برقم (658) بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حامل الحسين بن علي على عاتقه، ولُعابه يسيل عليه.

وأخرج أحمد، والنسائيّ بسند صحيح عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة"(3).

وأخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الحسن والحسين، عليهما قميصان أحمران، يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما، فصعد بهما المنبر، ثم قال:"صدق الله: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 8] رأيت هذين، فلم أصبر"، ثم أخذ في الخطبة (4). ومناقبه جمّة، وسيذكر المصنّف في الفضائل بعض الأحاديث الواردة في فضلهما برقم (142 - 145). أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم 65 و 657 و 1512 و 1600 و 3296.

10 -

(عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم تقدّم في 2/ 2، والله تعالى أعلم.

(1)"صحيح البخاريّ" 7/ 94.

(2)

رواه أبو يعلى في "مسنده" 3/ 397.

(3)

"المسند" 3/ 3 و"الخصائص" للنسائيّ ص 150.

(4)

حديث صحيح أخرجه أبو داود 3/ 358.

ص: 329

شرح الحديث:

(عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بالْقَلْبِ) أي التصديق به (وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ) أي النطق بالشهادتين (وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ) أي عمل الطاعات بالجوارح، كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ. وقوله:(قَالَ أَبُو الصَّلْتِ) هو عبد السلام بن صالح (لَوْ قُرِىءَ هَذَا الْإِسْنَادُ) ببناء الفعل للمفعول (عَلَى مَجْنُونٍ لَبَرَأَ) بفتح الموحّدة، والراء، أو بفتح، فكسر، من بابي نفع وتَعِب، ويقال أيضًا بَرُأ بالضم من باب قَرُب: إذا تعافى من المرض.

وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "لبرأ" أي من جنونه؛ لما في الإسناد من خيار العباد، وهم خلاصة أهل بيت النبوّة رضي الله عنه، وهو من برأ المريض من الداء، لا من برئتُ من الأمر بكسر الراء: أي تبرّأت، فإن أبا الصلت هو القائل لهذا القول، ولا يستقيم عنه أن يقول هذا القول بهذا المعنى، لا بالنظر إلى نفسه، ولا بالنظر إلى من بعده. انتهى (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الكلام فيه مبالغة لا مسوّغ لها شرعًا، لكن القائل أبو الصلت رافضيّ لا يُستغرب منه أن يصدُر منه مثل هذا القول، فإن عند الرافضة ما هو أطمّ وأطمّ من الأقوال الساقطة، والمعتقدات الزائفة، نسأل الله تعالى أن يعصمنا بمنه وكرمه من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله أخرجه هنا بهذا السند فقط.

ثم إنه قيل بوضعه، فقد أورده ابن الجوزيّ وغيره في الموضوعات، وقال: فيه أبو الصلت متّهَمٌ ممن لا يجوز الاحتجاج به، وتابعه على ذلك جماعة، وقال البوصيريّ في "الزوائد": إسناد هذا الحديث ضعيفٌ؛ لاتّفاقهم على ضعف أبي الصلت الهروي.

(1) راجع "شرح السنديّ" 1/ 52.

ص: 330

وقال السيوطيّ: والحقّ أنه ليس بموضوع، وأبو الصلت وثّقه ابن معين، وقال: ليس ممن يكذب. وقال في "الميزان": رجلٌ صالح، إلا أنه شيعيّ جَلْدٌ، تابعه عليّ بن غُراب، وقد روى له النسائيّ، وابن ماجه، ووثّقه ابن معين، والدارقطنيّ، وقال أحمد: أراه صادقًا. وقال الخطيب: كان غاليًا في التشيّع، وأما في روايته فقد وصفوه بالصدق، ثم ذكر له بعض المتابعات. قاله السنديّ (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كذبه العقيليّ، وقال: رافضيّ خبيث، وقال ابن عديّ: متّهم، وقال الدارقطنيّ: متّهم بوضع هذا الحديث، لم يُحدّث به إلا من سرَقَه منه، فهو الابتداء في هذا الحديث. وقال عبد الحقّ الإشبيليّ في "أحكامه": وعبد السلام هذا ضعيف، لا يُحتجّ به، وقد رواه عن عليّ بن موسى الهيثمُ بن عبد الله، وهو مجهول، وداود بن سليمان القزوينيّ، وعليّ بن الأزهر السرخسيّ، وهما ضعيفان، ورواه الحسن ابن عليّ العدويّ، عن محمد بن صدقة، ومحمد بن تميم، وهما مجهولان، عن موسى بن جعفر والد عليّ، والحسن هو ابن عليّ بن زكريا بن صالح، أبو سعيد البصريّ، وكان يضع الحديث، ولا يتيسّر هذا الحديث من وجه يصح.

والحاصل أن الحديث واهٍ لا يَثبُتُ، فلا يُلتفَت إلى تساهل بعضهم حيث قوّاه، وقد استوفى الكلام فيه وخرّج المتابعات المذكورة وغيرها الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى في "السلسلة الضعيفة" 5/ 295 - 299 رقم الحديث (2271) فأجاد وأفاد، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1) راجع "شرح السنديّ" 51 - 52.

ص: 331

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

66 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ"، "أَوْ قَالَ: لجِارهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) العبديّ أبو بكر البصريّ المعروف ببندار، ثقة ثبت [10] 1/ 6.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَّنَى) بن عُبيد بن قيس بن دينار الْعَنَزي، أبو موسى البصري الحافظ المعروف بالزَّمِنِ، مشهور بكنيته، وباسمه، ثقة ثبتٌ [10].

روى عن عبد الله بن إدريس، وأبي معاوية، وخالد بن الحارث، ويزيد بن زريع، ومعتمر، وحفص بن غياث، وابن مهدي، والقطان، وغندر، وخلق كثير.

ورَوَى عنه الجماعة، وروى النسائي أيضا عن زكريا السجزي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والذهلي، وخلق كثير.

قال عبد الله بن أحمد عن ابن معين: ثقة. وقال أبو سعد الهروي: سألت الذهلي عنه، فقال: حجة. وقال صالح بن محمد: صدوق اللهجة، وكان في عقله شيء، وكنت أُقَدِّمه على بندار. وقال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوق. وقال أبو عروبة: ما رأيت بالبصرة أثبت من أبي موسى، ويحيى بن حكيم. وقال النسائي: لا بأس به، كان يُغَيِّر في كتابه. وقال أبو الحسين السمناني: كان أهل البصرة يُقَدِّمون أبا موسى علي بندار، وكان الغرباء يقدمون بندارا.

وقال ابن عقدة: سمعت ابن خِرَاش يقول: ثنا محمد بن المثنى، وكان من الأثبات. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان صاحب كتاب، لا يقرأ إلا من كتابه. وقال الذهليّ: حجة. وقال السُّلَمِيُّ عن الدارقطني: كان أحد الثقات، وقَدَّمه علي بندار، قال: وقد سئل عمرو بن علي عنهما، فقال: ثقتان، يُقبل منهما كلُّ شيء إلا ما

ص: 332

تكلم به أحدهما في الآخر، قال: وكان في أبي موسى سلامة. وقال مسلمة: ثقة مشهور من الحفاظ. وقال الخطيب: كان ثقة ثبتًا، احتج سائر الأئمة بحديثه، وُلد سنة سبع وستين ومائة، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائتين، في ذي القعدة، ويقال: مات سنة إحدى وخمسين، ويقال: سنة خمسين.

وفي "الزهرة": روى عنه البخاريّ مائة حديث وثلاثة أحاديث، ومسلم سبعمائة واثنين وسبعين حديثًا (1). انتهى. وله في هذا الكتاب (49) حديثًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أبو عبد الله البصريّ المعروف بغندر، ثقة صحيح الكتاب [9] تقدم في 1/ 6.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج البصريّ الإمام الحجة الثبت [7] 1/ 6.

5 -

(قَتَادَةَ) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ الحجة الثبت [4] 1/ 10.

6 -

(أنس بن مالك) الصحابي الخادم الشهير رضي الله عنه تقدّم في 3/ 24. والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين.

4 -

(ومنها): أن شيخيه من مشايخ الأئمة الستة دون واسطة، وقد تقدّموا غير مرة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وأنه آخر

(1) هكذا نقله في "تهذيب التهذيب" 4/ 687 والذي في (برنامج الحديث صخر) أن البخاريّ روى عنه (106) أحاديث، ومسلمًا روى عنه (720) حديثًا. فلعل الاختلاف للتكرار، فليحرّر.

ص: 333

من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، مات سنة (2)(39)، وهو من المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) وقع في رواية النسائيّ تصريع قتادة بسماعه من أنس رضي الله عنه، ولفظه:"عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) وفي رواية لمسلم: "أحدٌ"، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان.

[فإن قيل]: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملًا، وإن لم يأت ببقية الأركان.

[أجيب]: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله:"لأخيه المسلم"، ملاحظة بقية صفات المسلم، وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي، عن حسين المعلم بالمراد، ولفظه:"لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان"، ومعنى الحقيقة هنا الكمال؛ ضرورةَ أن من لم يتصف بهذه الصفة، لا يكون كافرا. قاله في "الفتح"(1).

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: "لا يؤمن": أي لا يكمل إيمانه؛ إذ من غشّ المسلم، ولا ينصحه مرتكب كبيرة، ولا يكون كافرًا بذلك، كما بيّنّاه غير مرّة، وعلى هذا فمعنى الحديث: أن الموصوف بالإيمان الكامل من كان في معاملته للناس ناصحًا لهم، مريدًا لهم ما يريده لنفسه، وكارهًا لهم ما يكره لنفسه، وتتضمّن أن يفضّلهم على نفسه؛ لأن كلّ أحد يحبّ أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحبّ لغيره ما يُحبّ لنفسه، فقد أحبّ أن يكون غيره أفضل منه، وإلى هذا المعنى أشار الفضيل بن عياض لمّا قال لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس مثلك، فما أدّيت لله

(1) راجع "الفتح" 1/ 83.

ص: 334

الكريم النصيحة، فكيف، وأنت تودّ أنهم دونك؟. انتهى (1).

(حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ) بنصب "يحب"، لأن "حتى" جارة، و"أن" بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع، فتكون "حتى" عاطفة، فلا يصح العنى، إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبة.

[فإن قيل]: قوله: "لأخيه" ليس له عموم، فلا يتناول سائر المسلمين.

[وأجيب]: بأن معنى قوله: "لأخيه" للمسلمين، تعميمًا للحكم، أو يكون التقدير: لأخيه من المسلمين، فيتناول كل أخ مسلم. قاله العينيّ (2).

(أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لجِارِهِ) بدل "أخيه"(مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) أي "من الخير" لما في رواية النسائيّ من طريق حسين المعلّم عن قتادة: "من الخير".

و"الخير": كلمة جامعة تعم الطاعات، والمباحات الدنيوية، والأخروية، وتخرج المنهيات؛ لأن اسم الخير لا يتناولها، والمحبة إرادة ما يعتقده خيرا. قال النووي: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه، كحسن الصورة، أو بفعله، إما لذاته، كالفضل والكمال، وإما بإحسانه، كجلب نفع، أو دفع ضرر. انتهى ملخصا.

والمراد بالميل هنا الاختياري، دون الطبيعي، والْقَسْريّ، والمراد أيضا أن يحب أن يحصل لأخيه نظيرُ ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة، أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له، لا مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر، أو العرض بمحلين محال. قاله في "الفتح".

وقال في "عمدة القاري" 1/ 160 - : ما حاصله: المحبّة مطالعة المنّة من رؤية إحسان أخيه، وبرّه، وأياديه، ونعمه المتقدّمة التي ابتدأ بها من غير عمل استحقّها به، وستره على معايبه، وهذه محبة العوامّ قد تتغيّر بتغيّر الإحسان، فإن زاد الإحسان زاد الحبّ، وإن نقصه نقصه. وأما محبّة الخواصّ، فهي تنشأ من مطالعة شواهد الكمال؛

(1) راجع "المفهم" 1/ 227.

(2)

راجع "عمدة القاري" 1/ 161.

ص: 335

لأجل الإعظام والإجلال، ومراعاة حقّ أخيه المسلم، فهذه المحبّة لا تتغيّر؛ لأنها لله تعالى، لا لأجل غرض دنيويّ. ويقال: المحبّة هاهنا هي مجرّد تمنّي الخير لأخيه المسلم، فلا يعسر ذلك إلا على القلب السقيم، غير المستقيم.

وقال القاضي عياض: المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" أن يحب لأخيه من الطاعات والمباحات، وظاهره يقتضي التسوية، وحقيقته التفضيل؛ لأن كلّ واحد يحبّ أن يكون أفضل الناس، فإذا أحبّ لأخيه مثله، فقد دخل هو من جملة المفضولين، وكذلك الإنسان يحب أن ينتصف من حقّه، ومظلمته، فإذا كانت لأخيه عنده مظلمة، أو حقّ بادر إلى الإنصاف من نفسه، وقد روي هذا المعنى عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أنه قال لسفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك، فما أدّيت لله الكريم نصحه، فكيف، وأنت تودّ أنهم دونك. انتهى.

وتعقّب الحافظ على القاضي عياض قوله: لأن كل واحد يحب أن يكون أفضل الناس، فقال: وفيه نظر، إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة؛ لأن المقصود الحث على التواضع، فلا يحب أن يكون أفضلِ من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ويستفاد ذلك من قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد، والغل، والحقد، والغش، وكلها خصال مذمومة. انتهى "فتح" 1/ 83.

[فائدة]: قال الكرماني: ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه، من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء، مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه؛ اكتفاء. والله أعلم. قاله في "الفتح" 1/ 83. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.

ص: 336

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ) في "الإيمان"(1/ 10) و (مسلم)(1/ 49) و (الترمذيّ)(2515) و (النسائيّ) 8/ 115 و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2004) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 176 و 206 و 251 و 272 و 278 و 289) و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1175) و (أبو عوانة) في "مسنده" 1/ 33 و (ابن حبّان) في "صحيحه"(234) و (235) و (ابن منده) في "الإيمان" 294 و 295 و 296 و 297 و (ابن المبارك) في "الزهد"(677). و (الدارميّ) في "الرقاق" من "سننه"(2623)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان علامة الإيمان، ووجه ذلك ما قدّمناه في أول الباب من أن المصنف إنما عقد هذا الباب لبيان حقيقة الإيمان، وشعبه، فهذا الحديث فيه بيان أن محبّة الإنسان لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه شعبة من شعب الإيمان، وعلامة على أنه مؤمن كامل الإيمان.

2 -

(ومنها): أن فيه دلالة على التواضع، لأنه إذا أحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه كان دليلًا على أنه بريء من الكبر، والحسد، والحقد، والغلّ، والغشّ، وغيرها من الأخلاق الدنيئة، والخصال الذميمة، بل هو متحل بالتواضع، واللين، والرفق، وإيثار إخوانه على نفسه، وغيرها من الأخلاق الكريمة، والشيم العظيمة.

3 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: لمّا نفى النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يُحب لأخيه ما يُحبّ لنفسه، دلّ على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته، فإن الإيمان لا يُنفَى إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قال: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمنٌ

" الحديث. وإنما يُحب الرجل لأخيه ما يُحبّ لنفسه إذا سلم من الحسد، والغلّ، والغشّ، والحقد، وذلك واجبٌ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا"، رواه مسلم برقم (54)، ويأتي للمصنّف بعد

ص: 337

حديث، فالمؤمن أخو المؤمن، يحبّ له ما يُحبّ لنفسه، ويحزنه ما يحزنه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر"، متفقٌ عليه.

فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلةً من دين، أو غيره أحبّ أن يكون لأخيه نظيرها، من غير أن تزول عنه، كما قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: إني لأمرّ بالآية من القرآن، فأفهمها، فأودّ أن الناس كلَّهم فهموا منها ما أفهم. وقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: ودِدتُ أن الناس كلّهم تعلّموا هذا العلمَ، ولم يُنسب إليّ منه شيء.

فأما حبّ التفرّد عن الناس بفعل دينيّ، أو دنيويّ، فهو مذموم، قال الله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} الآية [القصص: 83]، وقد قال عليّ رضي الله عنه وغيره: هو أن لا يُحبّ أن يكون نعله خيرًا من نعل غيره، ولا ثوبه خيرًا من ثوب غيره. وفي الحديث المشهور في "السنن":"من تعلّم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوّأ مقعده من النار".

وأما الحديث الذي فيه أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحبّ الجمال، وما أحبّ أن يفوقني أحدٌ بشراك نعلي، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليس هذا من الكبر"، فإنما فيه أنه أحبّ أن لا يعلو عليه أحدٌ، وليس فيه محبة أن يعلو هو على الناس، بل يصدق هذا أن يكون مساويًا لأعلاهم، فما حصل بذلك محبّة العلوّ عليهم، والانفراد عنهم، فإن حصل لأحد فضيلة خصّصه الله تعالى بها عن غيره، فأخبر بها على وجه الشكر، لا على وجه الفخر، كان حسنًا، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"أنا سيّد ولد آدم، ولا فخر، وأنا أول شافع، ولا فخر" رواه مسلم، ورواه البخاريّ بلفظ مغاير لهذا.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه الإبل، لأتيته. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى (1)، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب،

(1) راجع "شرح البخاريّ" 1/ 45 - 47.

ص: 338

وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

67 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وهم المذكورون في السند الماضي. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) ووقع عند النسائيّ بلفظ: "عن قتادة، أنه سمع أنسًا يقول، فصرّح قتادة بالسماع (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) أي إيمانًا كاملًا، وفي رواية الإسماعيليّ:"لا يؤمن الرجل"، قال في "الفتح": وهو أشمل من جهة، و"أحدكم" أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيليّ:"لا يؤمن أحدٌ". انتهى.

(حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ) هو أفعل تفضيل بمعنى المفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله:(إِلَيْهِ) لأن الممتنع الفصل بأجنبيّ (مِنْ وَلَدهِ، وَوَالِدهِ) قُدّم الولد في رواية المصنّف على الوالد لمزيد الشفقة، وقدّم الوالد في رواية البخاريّ؛ نظرًا للأكثريّة؛ لأن كلّ أحد له والد من غير عكس (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) من عطف العام على الخاصّ.

قال في "الفتح": وذِكرُ الولد والوالد، أدخلُ في المعنى؛ لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وهل تدخل الأم في لفظ "الوالد"؟، إن أريد به من له الولد فيعم، أو يقال: اكتُفِيَ بذكر أحدهما كما يُكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذُكر على سبيل التمثيل، والمراد الأعزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته، وذكرُ الناس بعد الوالد والولد،

ص: 339

من عطف العام على الخاص، وهو كثير، وقدم الوالد على الولد في رواية؛ لتقدمه بالزمان والإجلال، وقدّم الولد في أخرى؛ لمزيد الشفقة.

وهل تدخل النفس في عموم قوله: "والناس أجمعين"، الظاهر دخولها. وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام الآتي قريبًا.

والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار، لا حب الطبع، قاله الخطابي، وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمّارة، والمطمئنة، فإن من رجّح جانب المطمئنة، كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحًا، ومن رَجّحَ جانب الأمّارة، كان حكمه بالعكس.

وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال.

وتعقبه صاحب "المفهم" بأن ذلك ليس مرادا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية، ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته، قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل، لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يوميء قول عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاريّ في "الأيمان والنذور" من حديث عبد الله بن هشام، كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء، إلا من نفسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر"(1)، انتهى.

(1) قال في "الفتح" 13/ 375 - : أي الآن عرفت، فنطقت بما يجب، وأما تقرير بعض الشرّاح: الآن صار إيمانك معتدّا به، إذ المرء لا يُعتدّ بإيمانه حتى يقتضي عقله ترجيح جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيه سوء أدب في العبارة، وما أكثر ما يقع مثل هذا في كلام الكبار عند عدم التأمل، والتحرّز، لاستغراق الفكر في المعنى الأصليّ، فلا ينبغي =

ص: 340

فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا.

ومن علامة الحب المذكور: أن يَعرِض على المرء أن لو خُيِّر بين فقد غرض من أغراضه، أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، أن لو كانت ممكنةً، فإن كان فقدها، أن لو كانت ممكنة أشد عليه، من فقد شيء من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصورا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند فقط، وأخرجه (البخاريّ)(1/ 10) و (مسلم)(1/ 49) و (النسائيّ)(8/ 114) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 177 و 275) و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1176) و (الدارميّ) في "سننه"(2744)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن حبّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علامة على كمال إيمان العبد.

2 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": في هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن

= التشديد في الإنكار على من وقع ذلك منه، بل يُكتفى بالإشارة إلى الردّ، والتحذير من الاغترار به؛ لئلا يقع المنكر في نحو مما أنكره. انتهى.

ص: 341

الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان: إما نفسه، وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها، سالمة من الآفات، وهذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه، فإنما هو بسبب تحصيل نفعٍ مَا على وجوهه المختلفة، حالًا ومآلا، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة، وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه، البقاءَ الأبدي في النعيم السرمدي، وعَلِم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يُثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك، بحسب استحضار ذلك، والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم، من هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم. وبالله تعالى التوفيق. انتهى (1).

3 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: يجب تقديم محبّة الرسول صلى الله عليه وسلم على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكين، وغير ذلك مما يُحبّه الإنسان غاية المحبّة، وإنما تتمّ المحبّة بالطاعة، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]. وسُئل بعضهم عن المحبّة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال، فعلامة تقديم محبّة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبّة كلّ مخلوق أنه إذا تعارضت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره، وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدّم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتثال أوامره على ذلك الداعي، كان دليلا على صحة محبّته للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقديمها على كلّ شيء، وإن قدّم على طاعته، وامتثال أوامره شيئًا من هذه الأشياء المحبوبة طبعًا، دلّ ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التّامّ الواجب عليه. وكذلك القول في تعارض محبّة الله، ومحبّة داعي الهوى والنفس، فإن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تبعٌ لمحبّة مُرسله عز وجل. هذا كلّه في امتثال الواجبات، وترك

(1) راجع "الفتح" 1/ 86.

ص: 342

المحرّمات.

فإن تعارض داعي النفس، ومندوبات الشريعة، فإن بلغت الحبّة إلى تقديم المندوبات على دواعي النفس، كان ذلك علامة كمال الإيمان، وبلوغه إلى درجة المقرّبين المحبوبين المتقرّبين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المحبّة إلى هذه الدرجة، فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبّتهم الواجبة، ولم يزيدوا عليها.

انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى، وهو تحقيق نفيس جدّا. (1).

4 -

(ومنها): ما قاله أبو العبّاس القرطبي رحمه الله: هذا الحديث على إيجازه يتضمّن ذكر أصناف المحبّة، فإنها ثلاثة: محبة إجلال وإعظام، كمحبّة الوالد، والعلماء، والفضلاء، ومحبة رحمة، وإشفاق، كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة، واستحسان، كمحبة غير من ذكرنا، وإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بدّ أن تكون راجحة على ذلك كلّه، وإنما كان ذلك؛ لأن الله تعالى قد كمّله على جميع جنسه، وفضّله على سائر نوعه بما جبله عليه من المحاسن الظاهرة، والباطنة، وبما فضّله من الأخلاق الحسنة، والمناقب الجميلة، فهو أكمل مَن وطِىء الثرى، وأفضل من ركب ومشى، وأكرم من وافى القيامة، وأعلاهم منزلة في دار الكرامة.

قال القاضي أبو الفضل: فلا يصحّ الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنزلته على كلّ والد، وولد، ومحُسنٍ، ومُفَضَّل، ومن لم يعتقد هذا، واعتقد سواه، فليس بمؤمن.

قال القرطبيّ: وظاهر هذا القول أنه صرف محبة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اعتقاد تعظيمه، وإجلاله، ولا شكّ في كفر من لا يعتقد عليه (2)، غير أن تنزيل هذا الحديث على ذلك المعنى غير صحيح؛ لأن اعتقاد الأعظميّة ليس بالمحبّة، ولا الأحبيّة، ولا مستلزمًا لها،

(1) راجع "شرح البخاريّ" لابن رجب 1/ 49.

(2)

هكذا عبارة "المفهم"، وفيها ركاكة، ولعل الأولى:"ولا شك في كفر من لا يعتقد ذلك"، والله تعالى أعلم.

ص: 343

إذ قد يجد الإنسان من نفسه إعظام أمر، أو شخص، ولا يجد محبّته؛ ولأن عمر رضي الله عنه لمّا سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه، وولده، ووالده، والناس أجمعين"، قال عمر: يا رسول الله أنت أحبّ إليّ من كل شيء، إلا نفسي، فقال:"ومن نفسك يا عمر"، قال: ومن نفسي، فقال:"الآن يا عمر"(1). وهذا كلّه تصريحٌ بأن هذه المحبّة ليست باعتقاد تعظيم، بل ميل إلى المعتقد، وتعظيمه، وتعلّق القلب به، فتأمّل هذا الفرق، فإنه صحيح، ومع ذلك فقد خفي على كثير من الناس.

وعلى هذا المعنى الحديث (2) -والله أعلم-: أن من لم يجد من نفسه ذلك الميل، وأرجحيّته للنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكمل إيمانه.

قال: على أني أقول: إن كل من صدّق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وآمن به إيمانا صحيحا، لم يخل عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، غير أنهم في ذلك متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، كما قد اتّفق لعمر رضي الله عنه حتى قال: من نفسي، ولهند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، حين قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد كان وجهك أبغض الوجوه كلّها إليّ، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلها إليّ

الحديث.

وكما قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: لقد رأيتني، وما أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه (3). ولا شك في أن حظّ أصحابه صلى الله عليه وسلم من هذا المعنى أعظم؛ لأن معرفتهم لقدره أعظم؛ لأن المحبّة ثمرة المعرفة، فتقوى، وتضعف بحسبها.

ومن المؤمنين من يكون مستغرقًا بالشهوات، محجوبا بالغفلات عن ذلك المعنى

(1) رواه أحمد 4/ 336. وقد تقدم من رواية البخاريّ بنحوه.

(2)

-هكذا وقع في النسخة: "ولعل الصواب: وعلى هذا معنى الحديث -والله أعلم- أن من لم إلخ.

(3)

رواه مسلم (121).

ص: 344

في أكثر أوقاته، فهذا بأخسّ الأحوال، لكنه إذا ذُكِّر بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بشيء من فضائله اهتاج لذكره، واشتاق لرؤيته بحيث يؤثر رؤيته، بل رؤية قبره، ومواضع آثاره على أهله، وماله، وولده، ونفسه، والناس أجمعين، فيخطُر له هذا، ويجده وجدانًا لا شكّ فيه، غير أنه سريع الزوال والذهاب، لغلبة الشهوات، وتوالي الغفلات، ويُخاف على من كان هذا حاله ذهاب أصل تلك المحبّة حتى لا يوجد منها حَبّة. فنسأل الله تعالى الكريم أن يمُنّ علينا بدوامها، وكمالها، ولا يحجبنا عنها. انتهى كلام القرطبيّ (1)، وهو بحث نفيس جدّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

68 -

(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَى تَحَابُّوا، أَوَ لَا أَدُلُّكمْ عَلَى شَيْءٍ، إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد الكوفي الحافظ الثبت [10] 1/ 1.

2 -

(وَكِيعٌ) بن الجرّاح الكوفيّ الحافظ الثبت العابد [9] 1/ 3.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ الثقة الحافظ، من كبار [9] 1/ 3.

4 -

(الْأَعْمَش) هو: سليمان بن مِهْران الأسديّ الكوفيّ الحجة الثبت [5] 1/ 1.

5 -

(أَبُو صَالِحٍ) هو: ذكوان السمّان الزّيّات المدنيّ الحجة الثبت [3] 1/ 1.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الدَّوْسيّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه 1/ 1. والله تعالى أعلم.

(1) راجع "المفهم" 1/ 225 - 227.

ص: 345

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى الأعمش، والباقيان مدنيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش، وكذلك الأعمش أحفظ من روى عن أبي صالح السمان، يقال: روى عنه ألف حديث.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) هذا إقسام من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أقسم بالله سبحانه وتعالى الذي نفسه صلى الله عليه وسلم بيده، ففيه إثبات اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى (لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ) هكذا رواية المصنّف بحذف النون هنا، وفي قوله: "ولا تؤمنوا"، قال السنديّ رحمه الله: لا يخفى أنه نفيٌ لا نهيٌ، فالقياس ثبوت النون فيهما، فكأنها حذفت للمجانسة والازدواج، وقد جاء حذفها للتخفيف كثيرًا. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حذف نون الرفع من دون جازم وناصب لغة، وليس ضرورة، فقد ذكر ذلك ابن مالك في شرح "الكافية" حيث قال: ما حاصله: حُكي حذف نون الرفع دون اتصال نون الوقاية بها، ومثال ذلك في النثر ما رُوي من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة

" فذكر الحديث.

قال: والأصل: لا تدخلون، ولا تؤمنون، لأن "لا" نافية، و"لا" النافية لا تعمل في الفعل شيئًا، ومثال ذلك في النظم قول الراجز:

أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي

والأصل "تبيتين"، و"تدلكين"، فحذف النون دون جازم وناصب، ومنه قول أبي الطيّب:

ص: 346

فَإِنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ

سَيَحْتَلِبُوهَا لَاقِحًا غَيْرَ بَاهِلِ

وإلى هذا أشار في "الكافية" بقوله:

وَدُونَ "ني" في الرَّفْع حَذْفَهَا حَكَوْا

في النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا

أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي

انتهى كلام ابن مالك رحمه الله بتصرّف (1).

فتبيّن بهذا أن رواية المصنّف بحذف النون في الموضعين صحيح لغةً، كما صحّ نقلًا. والله تعالى أعلم.

(حَتَّى تُؤْمِنُوا) أي لا تستحقّون دخول الجنة أوّلًا حتى تؤمنوا إيمانًا كاملًا.

وقال النوويّ رحمه الله: هو على ظاهره، وإطلاقه، فلا يدخل الجنة إلا من مات مؤمنًا، وإن لم يكن كامل الإيمان، فهذا هو الظاهر من الحديث، وقال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: معنى الحديث: لا يكمل إيمانكم إلا بالتحابّ، ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها، إذا لم تكونوا كذلك، قال النووي: وهذا الذي قاله محتمل. انتهى (2).

(وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا) بحذف إحدى التاءين، إذ أصله: تتحابّوا. أي حتى يُحبّ بعضكم بعضًا.

قال النوويّ: معناه: لا يكمل إيمانكم، ولا يصلُح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب.

وقال القرطبيّ: معناه: لا يكمل إيمانكم، ولا يكون حالكم حالَ من كمل إيمانه حتى تفشوا السلام الجالبَ للمحبّة الدينيّة، والأُلفة الشرعيّة.

وقال أيضًا: الإيمان المذكور أوّلًا هو التصديق الشرعيّ المذكور في حديث

(1) راجع "شرح الكافية الشافية" 1/ 207 - 211.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 36.

ص: 347

جبريل عليه السلام والإيمان المذكور ثانيًا هو الإيمان العمليّ المذكور في قوله: "الإيمان بضع وسبعون بابًا"، ولو كان الثاني هو الأول للزم منه أن لا يدخل الجنّة من أبغض أحدًا من المؤمنين، وذلك باطل قطعًا، فتعيّن التأويل الذي ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (1).

(أَوَ لَا) بفتح الهمزة والواو، هي "ألا" التي للعرض والتحضيض، والواو للعطف، وأصلها التقديم على الهمزة، إلا أنها أخّرت للزوم تصديرها (أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ، إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنكُمْ) بقطع الهمزة المفتوحة، ومعنى إفشاء السلام: إظهاره، وإشاعته، وإقراؤه على المعروف وغير المعروف. وقال السنديّ: والمراد نشر السلام بين الناس؛ ليُحيُوا سنته صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ: أقلّه أن يرفع صوته بحيث يسمع السلَّم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيًا بالسنّة، ذكره السيوطيّ في "حاشية أبي داود" في شرح هذا اللفظ، قال السنديّ: ظاهره أنه حمل الإفشاء على رفع الصوت به، والأقرب حمله على الإكثار. انتهى (2).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأولى حمله على المعنيين؛ إذ لا تنافي بينهما، فيكون المراد بالإفشاء رفع الصوت بالسلام، وإكثاره بين الناس. والله تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: اعلم أنه تعالى جعل السلام سببًا للمحبّة، والمحبّة سببًا لكمال الإيمان؛ لأن إفشاء السلام سبب للتحابّ والتوادّ، وهو سبب الأُلفة والجمعيّة بين المسلمين المسبب لكمال الدين، وإعلاء كلمة الإسلام، وفي التهاجر والتقاطع والشحناء التفرقة بين المسلمين، وهو سبب لانثلام الدين، والوهنِ في الإسلام، وجَعْل كلمة الذين كفروا الْعُلْيَا، قال الله عز وجل:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} الآية [آل عمران: 103]. انتهى (3)، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)"المفهم" 1/ 242.

(2)

"شرح السنديّ" 1/ 53.

(3)

"الكاشف" 2/ 3038.

ص: 348

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه مسلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند، وأعاده في "كتاب الأدب" برقم (3692)، وأخرجه (مسلم)(1/ 53) و (أبو داود)(5193) و (الترمذيّ)(2688) و (أحمد) في "مسنده"(2/ 391 و 442 و 447 و 495 و 512) و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 625) و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 30)(وابن حبّان) في "صحيحه"(236) و (ابن منده) في "الإيمان"(329 و 330 و 332) و (البغويّ) في "شرح السنة"(3300) والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف، وهو كما أسلفنا وجهه أول الباب بيان أن محبة المؤمنين بعضهم بعضًا مما يكمل به الإيمان، فهي شعبة من شعب الإيمان.

2 -

(ومنها): أن فيه إثبات اليد لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله.

3 -

(ومنها): انتفاء كمال الإيمان عمن ليست له محبة لإخوانه المؤمنين.

4 -

(ومنها): إثبات دخول الجنّة للمؤمن الذي حقّق إيمانه بالمحبّة لإخوانه، والتودّد إليهم بما يُدخل السرور عليهم كالسلام.

5 -

(ومنها): أن فيه الحثَّ العظيم على إفشاء السلام، وبذله للمسلمين كلهم المعروفين وغير المعروفين.

6 -

(ومنها): أن السلام أول أسباب التآلف، ومفتاح استجلاب المودة، وفى إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض.

7 -

(ومنها): أن في إفشاء السلام إظهار شعار المسلمين المميز لهم من غيرهم، من أهل الملل.

ص: 349

8 -

(ومنها): أن في إفشائه رياضةَ النفس، ولزومَ التواضع، وإعظامَ حرمات المسلمين، وقد ذكر البخاري رحمه الله في "صحيحه" عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال:"ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار"، وروى غير البخاريّ هذا الكلام مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلُ السلام للعالم، والسلامُ على من عرفت ومن لم تعرف، وإفشاءُ السلام كلها بمعنى واحد. قاله النوويّ رحمه الله تعالى (1).

وفيها لطيفة أخرى، وهي أنها تتضمن رفع التقاطع والتهاجر والشحناء، وفساد ذات البين التي هي الحالقة، وأن سلامه لله لا يتبع فيه هواه، ولا يخص أصحابه وأحبابه به. انتهى كلام النوويّ (2)، وهو كلام نفيس، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

69 -

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، (ح) وحَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْر) الْهَمْدانيّ الكوفيّ الحافظ الثبت [10] 1/ 4.

2 -

(هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ) السلميّ الدمشقيّ الخطيب، صدوق مقرىء، كبر، فتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، من كبار [10] 1/ 5.

3 -

(حَدَّثَنَا عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، مولى عزرة بن ثابت الأنصاري سكن بغداد، ثقة ثبت ربما وهم، من كبار [10].

(1)"شرح مسلم" 2/ 36.

(2)

راجع "شرح مسلم" 2/ 36.

ص: 350

رَوَى عن داود بن أبي الفرات، وعبد الله بن بكر المزني، وصخر بن جويرية، وشعبة، وعبد الواحد بن زياد، وغيرهم.

رَوَى عنه البخاري، وروى هو والباقون عنه بواسطة إسحاق بن منصور، وأبي قُدامة السَّرَخْسِيّ، ومحمد بن عبد الرحيم البزار، وحجاج بن الشاعر، وأبو خيثمة، والحسن بن علي الخلال، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وعمرو بن علي، وغيرهم.

قال العجليّ: عفان بصري ثقة ثبت، صاحب سنة، وكان على مسائل معاذ بن معاذ، فجُعِل له عشرة آلاف دينار على أن يَقِف عن تعديل رجل، فلا يقول: عدل، ولا غير عدل، فأبى، وقال: لا أبطل حقّا من الحقوق. وقال حنبل بن إسحاق: وأمر المأمون إسحاق بن إبراهيم الطاهري أن يدعو عفان إلى القول بخلق القرآن، فإن لم يُجِب فاقطع عنه رزقه، وهو خمسمائة درهم في الشهر، فاستدعاه، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] حتى ختمها، فقال: مخلوق هذا؟ قال: يا شيخ إن أمير المؤمنين يقول: إن لم يُجب اقطع رزقه، فقال:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وخرج ولم يُجِب. وقال الحسين بن حيان: سألت أبا زكريا إذا اختلف أبو الوليد وعفان في حديث عن حماد بن سلمة، فالقول قول من؟ قال: عفان، قلت: وفي حديث شعبة؟ قال: القول قول عفان، قلت: وفي كل شيء؟ قال: نعم عفان أثبت منه وأكيس، وأبو الوليد ثبت ثقة، قلت: فأبو نعيم؟ قال: عفان أثبت.

قال ابن أبي خيثمة: سمعت أبي، وابن معين يقولان: أنكرنا عفان في صفر سنة (19)، وفي رواية سنة عشرين، ومات بعد أيام. وقال ابن سعد: كان مولده سنة (134). وقال ابن سعد: ومات سنة عشرين، وكذا قال أبو داود، وزاد: شهدت جنازته، وفيها أرّخه غير واحد. وقيل: سنة (19) قال الخطيب: والصحيح الأول.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (29) حديثًا.

4 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، أبو عمرو، ويقال: أبو محمد الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون [8].

ص: 351

رأى جده أبا إسحاق، وروى عن أبيه، وأخيه إسرائيل، وابن عمه يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، وسليمان التيمي، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبيد الله بن عمر، وابن عون، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبوه يونس، وابنه عمرو بن عيسى، وحماد بن سلمة، وهو أكبر منه، وموسى بن أعين، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن عياش، وهو من أقرانه، وبقية بن الوليد، وعبد الله بن وهب، وعبد الله بن يوسف التنيسي، وغيرهم.

وقال أحمد بن جناب: مات سنة سبع وثمانين ومائة، وفيها أرّخه غير واحد.

وقال محمد بن المثنى، وغير واحد: مات سنة (88). وقال أبو عبيد المصيصي، ومحمد ابن سعد، وخليفة: مات سنة (91) زاد ابن سعد: وكان ثقة ثبتًا. وقال يعقوب بن شيبة. مات أول سنة (91) بالْحَدَث -يعني موضعًا من الثغر.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.

5 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج المذكور قبل حديث.

6 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران المذكور في السند الماضي.

7 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقة مخضرمٌ [2].

أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَرَه، وروى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة، وابن مسعود، وخلق كثير من الصحابة والتابعين.

وروى عنه الأعمش، ومنصور، وزُبيد اليامي، وجامع بن أبي راشد، وحُصين بن عبد الرحمن، وحبيب بن أبي ثابت، وعاصم بن بهدلة، وعبدة بن أبي لبابة، وغيرهم.

قال عاصم بن بهدلة عنه: أدركت سبع سنين من سني الجاهلية. وقال مغيرة عنه: أتانا مُصَدِّق النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته بكبش لي، فقلت: خذ صدقة هذا، فقال: ليس في هذا صدقة.

وقال يزيد بن أبي زياد: قلت لأبي وائل: أيما أكبر أنت أو مسروق؟ قال: أنا.

ص: 352

وقال الثوري عن أبيه: سمعت أبا وائل، وسئل أنت أكبر أو الربيع بن خُثَيم، قال: أنا أكبر منه سنا، وهو أكبر مني عقلًا. وقال عاصم بن بهدلة: قيل لأبي وائل: أيهما أحب إليك علي أو عثمان؟ قال: كان علي أحب إلي، ثم صار عثمان. وقال عمرو بن مرة: قلت لأبي عبيدة: مَنْ أعلم أهل الكوفة بحديث عبد الله؟ قال: أبو وائل. وقال الأعمش، عن إبراهيم: عليك بشقيق، فإني أدركت الناس، وهم متوافرون، وإنهم لَيَعُدُّونه من خيارهم. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة لا يُسأل عن مثله. وقال وكيع: كان ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث.

وقال ابن حبان في "الثقات": سكن الكوفة، وكان من عبادها، وليست له صحبة، ومولده سنة إحدى من الهجرة. وقال العجلي: رجل صالح جاهلي، من أصحاب عبد الله. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة.

قال خليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة (82). وقال الواقدي: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا.

8 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه تقدّم في 2/ 19، والله تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف بالنسبة للإسناد الأول، ومن خماسياته بالنسبة للثاني، فهو أعلى بدرجة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير شيخه الثانيّ، فدمشقيّ، وعفّان، وشعبة، فبصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أن فيه عبد الله غير منسوب، وهو ابن مسعود؛ لأن السند كوفي، والقاعدة أنه إذا أُطلق عبد الله في الصحابة أن يُنظر إلى الراوي عنه، فإن كان كوفيّا، فهو

ص: 353

ابن مسعود، وإن كان مدنيا فهو ابن عمر، وإن كان مكيا فهو ابن الزبير، وإن كان بصريا فهو ابن عباس، وإن كان مصريا أو شاميّا فهو ابن عمرو بن العاص، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث" حيث قال:

وَحَيْثُما أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ في

طَيْبَةَ فَابْنُ عَمَر وَإِنْ يَفِي

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

وأما ما اشتهر أنه إذا أُطلق عبد الله في السند فهو ابن مسعود، فغير صحيح، بل الصواب أنه على التفصيل الذي ذكرناه، فتفطّن.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد السابقين إلى الإسلام، وكان يُشبّه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في دلّه وسمته، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أقرإ الناس، فقال صلى الله عليه وسلم "من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) في الحديث قصّة ساقها البخاريّ في "صحيحه" من طريق شعبة، عن زُبيد -هو ابن الحارث- قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدّثني عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر".

قال في "الفتح": قوله: "سألت أبا وائل عن المرجئة": أي عن مقالة المرجئة، ولأبي داود الطيالسيّ:"عن شعبة، عن زُبيد، قال: لمّا ظهرت المرجئة، أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له"، فظهر من هذا أن سؤاله كان عن مُعتَقَدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة، وقد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أخرجه الترمذيّ مصححًا، ولفظه: "قتال

المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق".

ص: 354

ورواه جماعة عن عبد الله بن مسعود موقوفًا ومرفوعًا، ورواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أيضًا مرفوعًا، فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرد به. انتهى (1).

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد اتّهَم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث، أما أبو وائل فليس بمتّهم، بل هو الثقة العدل المأمون، وقد رواه معه عن ابن مسعود أيضًا أبو عمرو الشيبانيّ، وأبو الأحوص، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، لكن فيهم من وقَفَه، ورواه أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقّاص وغيره. انتهى (2).

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ) -بكسر السين، وتخفيف الموحدة- بمعنى السبّ، وهو الشتم، وهو التكلّم في عرض الإنسان بما يَعِيبه. وفي "المطالع": السباب: المشاتمة، وهي من السبّ، وهو القطع، وقيل: من السبّة، وهي حلقة الدبر، كأنها على القول الأول قطع المسبوب عن الخير والفضل، وعلى الثاني كشف العورة، وما ينبغي أن يُستَرَ. وفي "العباب": التركيب يدلّ على القطع، ثم اشتقّ منه الشتم. وقال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب، وهو أن يقول الرجل ما فيه، وما ليس فيه، يريد بذلك عيبه. وقال غيره: السباب هنا مثل القتال، فيقتضى المفاعلة (3) (الْمُسْلِمِ) كذا في معظم الروايات، ولأحمد عن غندر، عن شعبة: "المؤمن"، فكأنه رواه بالمعنى انتهى.

(فُسُوقٌ) -بضم، فسكون: مصدر فسق يفسُق بالضمّ، من باب نصر، وحكى الأخفش يَفسِق بالكسر، من باب ضرب: أي فجور. وقال في "الفتح": "الفسق" -في

(1) راجع "الفتح" 1/ 137 - 138.

(2)

راجع "فتح الباري شرح صحيح البخاريّ" للحافظ ابن رجب 1/ 201.

(3)

راجع "عمدة القاري" 1/ 319 و"فتح الباري" 1/ 138.

ص: 355

اللغة-: الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو في عرف الشرع أشدّ من العصيان، قال الله تعالى:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الآية [الحجرات: 7].

ففي الحديث تعظيم حق المسلم، والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة، وعُرف من هذا مطابق جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقّا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا انتهى.

(وَقِتَالُهُ كفْرٌ) أي من أعمال أهل الكفر، فإنهم الذين يقصدون قتال المسلم، وأما تأويله بحمله على القتال مستحلا، فيؤدّي إلى عدم صحة المقابلة؛ لكون السباب مستحلا كفرًا أيضًا.

[فإن قيل]: هذا وإن تضمن الرد على المرجئة، لكن ظاهره يُقَوِّي مذهب الخوارج الذين يُكَفّرون بالمعاصي.

[فالجواب]: أن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه؛ لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشدّ من السباب؛ لأنه مُفْضٍ إلى إزهاق الروح عَبّر عنه بلفظٍ أشدّ من لفظ الفسق، وهو الكفر، ولم يُرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدًا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يُخرِج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، أو أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر، وقيل: المراد هنا الكفر اللغوي، وهو التغطية؛ لأن حق المسلم على المسلم أن يُعِينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غَطَّى على هذا الحق، وقيل: أراد بقوله: "كفر": أي قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله على المستحل لذلك؛ لأنه لا يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يُكَفِّر أيضًا.

ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب

ص: 356

بعض"، ففيه هذه الأجوبة، ونظيره قوله تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] بعد قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 85]، فدل على أن بعض الأعمال يُطلَق عليه الكفر تغليظًا.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "لَعْنُ المسلم كقتله"، فلا يخالف هذا الحديث؛ لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير، هذا في الْعِرْض، وهذا في النفس. قاله في "الفتح"(1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا الإسناد فقط، و (البخاريّ)(1/ 19) و (8/ 18) و (9/ 63) و (مسلم)(1/ 57 و 58) و (الترمذيّ)(1983 و 2634 و 2635) و (النسائيّ)(7/ 122) و (الطيالسيّ) في "مسنده"(248 و 258 و 306) و (الحميديّ) في "مسنده"(104) و (أحمد) في "مسنده"(1/ 385 و 411 و 417 و 433 و 446 و 454 و 460) و (أبو يعلى) في "مسنده"(4988 و 4991) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5939) و (ابن منده)(653 و 654 و 655 و 656) و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 24) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 20) و (الخطيب البغدادي) في "تاريخه"(13/ 185)، والله تعالى أعلم.

(1) راجع "الفتح" 1/ 138.

ص: 357

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان أن سباب المسلم ينافي كمال الإيمان؛ لأنه فسوقٌ، وكذا قتاله؛ لأنه كفرٌ، على ما تقدّم من بيان المراد بالكفر هنا.

2 -

(ومنها): أن فيه تعظيم حقّ المسلم، والحكم على من سبّه بغير حقّ بالفسق، وعلى من قاتله بالكفر.

3 -

(ومنها): أن فيه الردّ على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضرّ مع الإيمان، وقد تقدم سبب ذكر أبي وائل هذا الحديث وهو أن زُبيدًا سأله عن المرجئة؟ فقال: حدّثني عبد الله رضي الله عنه إلخ، فكأنه قال: كيف يكون مذهبهم حقًّا، وقد خالف قول النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا، فمراده إبطال رأيهم الفاسد المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

70 -

(حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلي الجهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ للَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، مَاتَ وَاللَّه عَنْهُ رَاضٍ".

قَالَ أَنَسٌ: وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَبَلَّغُوهُ عَنْ رَبِّهِمْ قَبْلَ هَرْج الْأَحَادِيثِ، وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ في كِتَابِ اللَّهِ، في آخِرِ مَا نَزَلَ، يَقُولُ اللَّه:{فَإِنْ تَابُوا} ، قَالَ: خَلْعُ الْأَوْثَانِ وَعِبَادَتِهَا، {تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5]، وَقَالَ في آيَةٍ أُخْرَى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ} [التوبة: 11]).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَليٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقة ثبتٌ [10] 1/ 13.

2 -

(أَبُو أَحْمَدَ) هو: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمَرَ بن دِرْهم الأسديّ

ص: 358

مولاهم الزبيريّ الكوفيّ، ثقة ثبتٌ إلا أنه قد يُخطىء في حديث الثوريّ [9].

روى عن أيمن بن نابل، ويحيى بن أبي الهيثم العطار، وعيسى بن طهمان وفِطر بن خليفة، وسفيان الثوري، ومسعر، ومالك بن مغول، ومالك بن أنس، وإسرائيل بن يونس، وإبراهيم بن طهمان، وغيرهم.

وروى عنه ابنه طاهر، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وبندار، وأبو موسى، وأحمد ابن منيع، وإبراهيم بن سعيد الجوهري، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن محمد المسندي، وعمر بن محمد الناقد، ونصر بن عليّ الجهضميّ، وغيرهم.

قال نصر بن علي: سمعت أبا أحمد الزبيري يقول: لا أبالي أن يُسرَق مني كتاب سفيان، إني أحفظه كله. وقال ابن نمير: أبو أحمد الزبيري صدوق، في الطبقة الثالثة من أصحاب الثوري، ما علمت إلا خيرًا، مشهور بالطلب، ثقة، صحيح الكتاب، وكان صديق أبي نعيم، وأبو نعيم أقدم سماعا وأسنّ منه. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل: كان كثير الخطإ في حديث سفيان. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس. وقال العجلي: كوفي ثقة يتشيع. وقال بندار: ما رأيت أحفظ منه. وقال أبو زرعة، وابن خِرَاش: صدوق. وقال أبو حاتم: عابد مجتهد، حافظ للحديث، له أوهام. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن أبي خيثمة عن محمد بن يزيد: كان يصوم الدهر. قال أحمد بن حنبل وغيره: مات بالأهواز سنة ثلاث ومائتين. وفيها أرّخه ابن سعد، وقال: كان صدوقًا، كثير الحديث. وقال ابن قانع: ثقة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.

3 -

(أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ) يقال: اسمه عيسى بن أبي عيسى، ماهان، وقيل: عيسى ابن أبي عيسى، عبد الله بن ماهان، مَرْوزيُّ الأصل، سَكَن الرَّيَّ، وقيل: كان أصله من البصرة، وكان مَتْجَره إلى الريّ، فنسب إليها، مشهور بكنيته، صدوق، سيّىء الحفظ، خصوصًا عن مغيرة، من كبار [7].

ص: 359

روى عن الربيع بن أنس، وحميد الطويل، وعاصم بن أبي النَّجُود، وحُصين بن عبد الرحمن، والأعمش، ويونس بن عبيد، ومغيرة بن مقسم، ومنصور، وجماعة.

وروى عنه ابنه عبد الله، وشعبة، وهو من أقرانه، وعبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدَّشْتكِيّ، وأبو عوانة، وسلمة بن الفضل، وأبو أحمد الزبيري، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بقوي في الحديث. وقال حنبل عن أحمد: صالح الحديث. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: كان ثقة، خراسانيا انتقل إلى الريّ، ومات بها. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: يُكتَب حديثه، ولكنه يخطىء. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: صالح. وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقة، وهو يَغْلَط فيما يروي عن مغيرة. وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: هو نحو موسى بن عُبَيدة، وهو يَخلِط فيما روى عن مغيرة ونحوه. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان عندنا ثقة. وقال ابن عمار الموصلي: ثقة. وقال عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو من أهل الصدق، سيىء الحفظ. وقال أبو زرعة: شيخ يَهِم كثيرًا. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق صالح الحديث.

وقال زكريا الساجي: صدوق، ليس بمتقن. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن خِرَاش: صدوق سيىء الحفظ. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة، وقد روى عنه الناس، وأحاديثه عامتها مستقيمة، وأرجو أنه لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة، وكان يَقْدَم بغداد، فيسمعون منه. وقال ابن حبان: كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير، لا يُعجبني الاحتجاج بحديثه، إلا فيما وافق الثقات. وقال العجلي: ليس بالقوي. وقال الحاكم: ثقة. وقال ابن عبد البر: هو عندهم ثقة، عالم بتفسير القرآن.

وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي: سمعت أبا جعفر الرازي يقول: لم أكتب عن الزهري؛ لأنه كان يخضب بالسواد. وقال أبو عبد الله: فابتلي أبو جعفر حتى لَبِس السواد، وكان زميل المهديّ إلى مكة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة

ص: 360

أحاديث فقط، برقم 70 و 71 و 2168 و 3513.

4 -

(الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ) البكريّ، ويقال: الحنفيّ البصريّ، نزيل خراسان، صدوقٌ له أوهام، ورمي بالتشيّع [5].

روى عن أنس بن مالك، وأبي العالية، والحسن البصري، وصفوان بن مُحرِز، وجَدَّيه: زيد وزياد، وأرسل عن أم سلمة.

وروى عنه أبو جعفر الرازي، والأعمش، وسليمان التيمي، وسليمان بن عامر الْبُزْريّ، وعيسى بن عُبيد الْكِنديّ، ومقاتل بن حَيّان، وابن المبارك، وغيرهم.

قال العجلي: بصري صدوق. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحب إلي في أبي العالية من أبي خَلْدَة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن معين: كان يتشيع فيُفرِط.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه؛ لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا. قال ابن سعد: مات في خلافة أبي جعفر المنصور. وذكر الذهبي أنه توفي سنة (139)، أو سنة (140).

أخرج له الأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: الربيع بن أنس هذا ليس ولدًا لأنس بن مالك الصحابيّ رضي الله عنه، وإنما يروي عنه، فهو ممن اتّفق اسم أبيه مع اسم شيخه، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

أَوِ اسْمُ شَيْخ لأَبِيهِ يَأْتْسِي

رَبِيعٌ ابْنُ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ

5 -

(أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدّم في 3/ 24، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة، مبتدأ (فَارَقَ الدُّنْيَا) أي مات (عَلَى الْإِخْلَاصِ للَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِه) أي توحيده، فهو كالتفسير للإخلاص، أو طاعته مطلقًا، فذكر إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة بعدها تخصيص لأعظم العبادات (لَا شَرِيكَ لَهُ) أي على مقتضى كلمة التوحيد، من إخلاص التوحيد، ونبذ

ص: 361

الشرك (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) بالجرّ عطفًا على "الإخلاص"، وكذا ما بعده: أي أداء الصلاة بما تستحقّه من أركان، وواجبات، ومستحبّات، وإتمام الخشوع (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي إعطائها لمن يستحقّها من غير استثقال، ولا منّ، وقوله (مَاتَ) جواب "من"، وهو خبر المبتدإ على الأصحّ، وقوله (وَاللَّه عَنْهُ رَاضٍ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "مات".

(قَالَ أَنَسْ) بن مالك رضي الله عنه (وَهُوَ) أي ما ذُكر في هذا الحديث (دِينُ اللَّه الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ) أي أتت الرسل عليهم الصلاة والسلام به من عند الله سبحانه وتعالى (وَبَلَّغُوهُ) بتشديد اللام: أي أوصلوه إلى الناس (عَنْ رَبِّهِمْ) سبحانه وتعالى (قَبْلَ هَرْجِ الْأَحَادِيثِ) بفتح الهاء، وسكون الراء، قال ابن الأثير: أصل الْهَرْج: الكثرة في الشيء والاتّساع. انتهى (1).

والظاهر أنه أراد بالأحاديث الأحاديث التي تتعلّق بالملل والنِّحَل، وعليه فيكون قوله:(وَاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ) من عطف التفسير، والأهواء بالفتح والمدّ: جمع هَوًى بالفتح مقصورًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْهَوَى مقصورًا مصدرُ هَوِيته، من باب تَعِبَ: إذا أحببته، وعَلِقتَ به، ثم أُطلق على ميلِ النفس، وانحرافها نحوَ الشيء، ثم استُعمل في ميل مذموم، فيقال: اتّبَعَ هَوَاه، وهو من أهل الأهواء. انتهى (2).

وأراد بالأهواء هنا الأهواء المضلّة، من اليهوديّة، والنصرانيّة، والوثنية، وكلّ النحل الباطلة.

والمعنى: أن هذه الأمور التي اشتمل عليها هذا الحديث هي التي بعث الله سبحانه وتعالى بهما الرسل، وأمرهم أن يبلّغوها للناس، قبل أن تتشتت بهم الأهواء المضلّة، فتفرّقوا.

وقوله (وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ) أي ما يصدّق ما قلته من كون هذا هو دين الله سبحانه وتعالى، فـ "تصديقُ" مبتدأ خبره قوله (في كِتَابِ اللَّهِ) وقوله (في آخِرِ مَا نَزَلَ) بدل من الجارّ

(1)"النهاية" 5/ 257.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 643.

ص: 362

والمجرور قبله، أو متعلّق بحال مقدّر: أي حال كونه كائنًا في آخر ما نزل من الآيات، والظاهر أنه أراد بذلك أنه مما لم يُنسَخ، لا أن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن، فإن آخر ما نزل منه آية {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآية، ويحتمل أن يكون المعنى أنها في سورة هي من أواخر ما نزل من السور، فإنها من سورة التوبة، وهي من أواخر ما نزل، على ما قيل (يَقُولُ اللَّه:{فَإِنْ تَابُوا} ، قَالَ) أنس رضي الله عنه مبيّنًا معنى التوبة هنا (خَلْعُ) بفتح، فسكون: أي نزع محبتها من القلب (الْأَوْثَانِ) بالفتح: جمع وَثَن بفتحتين: هو الصنم، سواء كان من خشب، أو حجر، أو غيرهما، وقيل: الصنم هو المتّخذ من الجواهر المعدنيّة التي تذوب، والوثن: هو المتخذ من حجر، أو خشب، أو نُحاس. قاله في "المصباح" (وَعِبَادَتِهَا) أي ترك عبادتها {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وَقَالَ في آيَةٍ أُخْرَى) أي من سورة التوبة أيضًا:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ} [التوبة: 11]) يعني أن الله سبحانه وتعالى جعل من تاب عن الشرك، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة ممن ثبت له الأخوّة الإيمانية، حيث كان مؤمنًا، فله ما لهم، وعليه ما عليهم. والله تعالى أعلم بالصواب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث أنس رضي الله عنه هذا انفرد به المصنّف، أخرجه هنا بهذا السند، وهو ضعيف، لأنه من رواية أبي جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، قال ابن حبّان: الناس يتّقون حديثه ما كان من رواية أبي جعفر الرازي عنه؛ لأن في أحاديثه اضطرابًا كثيرًا. وأما قول الحاكم في "المستدرك" 2/ 331 بعد إخراجه له: صحيح الإسناد، فمن تساهلاته، وكذا موافقة الذهبيّ له عليه، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 363

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

(حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنسٍ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: هم الذين تقدّموا في السند الماضي، سوى اثنين، هما:

1 -

(أبو حاتم) هو: محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مِهْران الحنظلي الرازي الحافظ الكبير، أحد الأئمة [11].

روى عن محمد بن عبد الله الأنصاريّ، وعثمان بن الهيثم، وعفان بن مسلم، وأبي نعيم، وعبيد الله بن موسى، وعبد الله بن صالح كاتب الليث، وخلق كثير.

وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، في "التفسير"، وروى البخاري في "الصحيح" في "باب المحصر" عن محمد، عن يحيى بن صالح الْوُحَاظيّ، فذكر الكلاباذي في ترجمة يحيى بن صالح أن ابن أبي سعيد السرخسي أخبره أن محمدًا هو ابن إدريس، أبو حاتم الرازي، وذكر أنه رآه في أصل عتيق. وقال الحاكم أبو أحمد في "الكنى": أبو حاتم محمد بن إدريس، روى عنه محمد بن إسماعيل الجعفي، وابنه عبد الرحمن، وعبدة بن سليمان المروزي، والربيع بن سليمان المرادي، ويونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عوف الطائي، وهم من شيوخه، ورفيقه أبو زرعة الرازي، ومحمد بن هارون الروياني، وأبو عوانة الإسفرائيني، وابن أبي الدنيا، وأبو زرعة الدمشقي، وخلق كثير.

قال أبو بكر الخلال: أبو حاتم إمام في الحديث، روى عن أحمد مسائل كثيرة، وقعت إلينا متفرقة، كلها غريب. وقال ابن خِرَاش: كان من أهل الأمانة والمعرفة. وقال النسائي: ثقة. وقال أبو نعيم: إمام في الحفظ. وقال اللالكائي: كان إمامًا عالمًا بالحديث، حافظا له، متقنا ثبتًا. وقال ابن أبي حاتم: سمعت موسى بن إسحاق القاضي يقول: ما رأيت أحفظ من والدك، قلت له: فرأيت أبا زرعة، قال: لا. قال: وسمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان، ودعما لهما، وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمين.

ص: 364

وقال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورًا بالعلم، مذكورًا بالفضل، وكان أول كَتْبِهِ الحديثَ سنة (209)، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: أولَ سنة خرجتُ في طلب الحديث أقمت سنين أحسب ما مشيت على قدميّ زيادةً على ألف فرسخ، فلم أزل أُحصي حتى لمّا زاد على ألف فرسخ تركته. قال: وسمعت أبي يقول: أقمت سنة أربع عشرة ومائتين بالبصرة ثمانية أشهر، قد كنت عزمت على أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثيابي شيئًا بعد شيء حتى بقِيتُ بلا شيء. وقال أيضًا: سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من أغرب عليّ حديثا مسندا صحيحًا لم أسمع به، فله علي درهم يتصدق به، وهناك خلق من الخلق، أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي أن أستخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يُغرِب عليّ حديثًا.

وقال أحمد بن سلمة النيسابوري: ما رأيت بعد إسحاق ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث، ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم. وقال عثمان بن خُرَّزاذ: أحفظ من رأيت أربعة: إبراهيم بن عرعرة، ومحمد بن المنهال الضرير، وأبو زرعة، وأبو حاتم. وقال حجاج بن الشاعر، وذكر له أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن وارة، وأبو جعفر الدارميّ: ما بالمشرق قوم أَنْبَل منهم.

وقد ذكر ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" لوالده ترجمة مَلِيحَةً، فيها أشياء تدل على عِظَم قدره، وجلالته، وسعة حفظه رحمه الله، منها ما قال أبو حاتم: قَدِمَ محمد بن يحيى النيسابوري الرَّيَّ، فألقيتُ علية ثلاثة عشر حديثًا من حديث الزهريّ، فلم يَعرِف منها إلا ثلاثة، وهذا يدل على حفظٍ عظيمٍ، فإن الذُّهْلي شَهِد له مشايخه، وأهل عصره بالتبحر في معرفة حديث الزهريّ، ومع ذلك فأغرب عليه أبو حاتم.

قال ابن المنادي، وغير واحد: مات في شعبان سنة (277). وقال ابن يونس في "تاريخه": مات بالريّ سنة (79)، والأول أصح، وكان مولده سنة (195).

وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم 70 و 2431 و 2723.

ص: 365

2 -

(عبيد الله بن موسى العبسيّ) هو: عبيد الله بن موسى بن أبي المختار، واسمه بَاذَام، العبسي مولاهم، الكوفي، أبو محمد الحافظ، ثقة كان يتشيّع [9].

روى عن إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وأيمن بن نابل، ومعروف بن خَرَّبُوذ، والأعمش، والثوري، والأوزاعي، وابن جريح، وإسرائيل، وغيرهم.

وروى عنه البخاري، وروى هو والباقون له بواسطة أحمد بن أبي سريج الرازي، وأحمد بن إسحاق البخاري، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومحمود بن غيلان، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وغيرهم.

قال الميموني: ذُكر عند أحمد عبيد الله بن موسى، فرأيته كالمنكر له، وقال: كان صاحب تخليط، وحدّث بأحاديث سوء، قيل له: فابن فضيل؟ قال: كان أستر منه، وأما هو فأخرج تلك الأحاديث الرَّدِيّة. وقال معاوية بن صالح: سألت ابن معين عنه، فقال: اكتُبْ عنه.

وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، حسن الحديث، وأبو نعيم أتقن منه، وعبيد الله أثبتهم في إسرائيل، كان يأتيه فيقرأ عليه القرآن. وقال العجلي: ثقة، وكان عالمًا بالقرآن، رأسًا فيه. وقال أيضًا: ما رأيته رافعًا رأسه، وما رُئي ضاحكًا قط. وقال الآجري عن أبي داود: كان محُتَرِقًا شِيعِيّا، جاز حديثه.

وقال ابن عدي: ثقة. وقال ابن سعد: قرأ على عيسى بن عُمَر، وعلى علي بن صالح، وكان ثقة، صدوقًا -إن شاء الله تعالى- كثير الحديث، حسن الهيئة، وكان يتشيع، ويَروِي أحاديث في التشيع منكرة، وضُعِّف بذلك عند كثير من الناس، وكان صاحب قرآن. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يتشيع.

وذَكَرَ القراب أنه وُلِد سنة (128). وقال أبو حاتم: سمعت منه سنة (13).

وقال ابن سعد: مات في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة ومائتين. وكذا أَرّخه غيره. وقال يعقوب بن شيبة: مات سنة (14).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (41) حديثًا.

ص: 366

[تنبيه]: ذكر الدكتور بشّار، والشيخ علي حسن في تحقيقيهما لهذا الكتاب أن هذه الرواية من زيادات أبي الحسن ابن القطّان، ولم يذكرا مستندًا لذلك، غير أن الأول استدلّ على ذلك بأن الحافظ المزيّ لم يذكره في تحفة الأشراف إلى آخر كلامه، وعندي في هذا نظر؛ لأمور:

(الأول): أن الأصل فيما يوجد في الكتاب من الروايات أنه من صاحب الكتاب إلا أن يكون هناك بيّنة واضحة على أنه ليس منه، بل من بعض الرواة عنه، ولا يوجد أي حجة على هذا هنا.

(الثاني): أن زيادة أبي الحسن ابن القطّان معروفة واضحة، حيث يصدّرها بقوله:"قال أبو الحسن الخ"، وغيرها من العبارة، كما تقدّم برقم 22 ويأتي برقم 281 و 252 و 261 و 302 و 327 و 362 وغير ذلك، مما سيأتي رواية أبي الحسن عن أبي حاتم.

(الثالث): أن الاستدلال بعدم ذكر المزيّ لهذه الرواية غير كاف؛ لاحتمال أنه تركه نسيانًا، أو لغير ذلك، ومن طالع كتاب "الإطراف بأوهام الأطراف" للحافظ وليّ الدين العراقيّ، و"النكت الظراف" للحافظ ابن حجر علم صدق ما قلته.

ومن الغريب أن الحافظ المزيّ، وتبعه الحافظ ابن حجر لما ترجم لأبي حاتم في "تهذيب الكمال" 24/ 381 - 390 ذكر أن ابن ماجه روى عنه في "التفسير" فقط مع أن روايته هنا في ثلاثة مواضع رقم 70 و 2431 و 2723 ظاهرة في أنه روى عنه في "السنن" أيضًا.

والحاصل أن كون الرواية عن أبي حاتم للمصنّف في المواضع المذكورة هو الظاهر، فلا يُعدَل عنه، وما عدا ذلك، فهو لأبي الحسن ابن القطّان، كما أوضح ذلك بالتصريح بذكر اسمه في أولها. وقد تقدم نظير هذا البحث في 5/ 40 فلتراجعه، والله تعالى أعلم.

وقوله: "مثله" يعني أن لفظ رواية عبيد الله بن موسى مثل لفظ رواية أبي أحمد، وقد تقدّم البحث في الفرق بينه وبين قوله:"نحوه"، مستوفًى برقم 6/ 44، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 367

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

71 -

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه"، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ) بن منيع بن سليط بن إبراهيم، أبو الأزهر العبديّ النيسابوريّ، صدوقٌ، كان يحفظ، ثم كبِر، فصار كتابه أثبت من حفظه [11].

روى عن عبد الله بن نمير، ورَوْح بن عبادة، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وعبد الرزاق، وآدم بن أبي إياس، والهيثم بن جميل، وأبي عاصم النبيل، وغيرهم.

وروى عنه النسائي، وابن ماجه، والذهلي، وهو من أقرانه، والبخاري ومسلم خارج "الصحيح"، والدارمي، وأبو زرعة الرازي، وأبو عوانة الإسفرائيني، ومحمد بن جرير الطبري، وأبو حامد بن الشَّرْقي، وآخرون.

قال ابن الشَّرْقي: سمعت أبا الأزهر يقول: كتب عني يحيى بن يحيى. وقال الحاكم أبو أحمد: ما حدث من أصل كتابه فهو أصح، قال: وكان قد كَبِر، فربما يُلَقَّن. وقال ابن خِرَاش سمعت محمد بن يحيى يثني عليه. وقال أبو عمرو المستملي، عن محمد ابن يحيى: أبو الأزهر من أهل الصدق والأمانة، نَرَى أن يُكتَب عنه. وقال مكي بن عبدان: سألت مسلم بن الحجاج عن أبي الأزهر، فقال: اكتب عنه.

قال الحاكم: هذا رَسْم مسلم في الثقات. وقال إبراهيم بن أبي طالب: كان من أحسن مشايخنا حديثًا وقال أحمد بن سيّار: حسن الحديث. وقال صالح جزرة: صدوق. وقال النسائي، والدارقطني: لا بأس به. وقال الدارقطني: قد أخرج في "الصحيح" عن من هو دونه وشر منه. ولمّا ذكر ابن الشرقي بنادرة الحديث عَدّه فيهم. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن شاهين في "الأفراد" له: ثقة نَبِيل. وقال أبو الأزهر: رأيت سفيان بن عيينة، ولم يُحَدّثني. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطىء. وكان

ص: 368

ابن خزيمة إذا حدث عنه قال: ثنا أبو الأزهر من أصل كتابه.

قال أحمد بن سيار: مات أبو الأزهر في أول سنة (261). وقال حسين القباني: تُوفي سنة (63).

تفرّد به النسائيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا.

2 -

(أَبُو النَّضْرِ) هاشم بن القاسم البغداديّ، يلقب قيصر، ثقة ثبت [9] 3/ 26.

3 -

(أَبُو جَعْفَرٍ) الرازيّ المذكور في السند الماضي.

4 -

(يُونُسَ) بن عُبيد بن دينار العبديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرعٌ [5].

رأى أنسًا، وروى عن إبراهيم التيمي، وثابت البناني، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وغيرهم.

وروى عنه ابنه عبد الله، وشعبة، والثوري، ووهيب، وخلق كثير.

قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، قال ما كتبت شيئا قط، ومات سنة أربعين ومائة، فحمله بنو العباس على أعناقهم. وقال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: يونس أحب إليك في الحسن، أو حميد؟ فقال: كلاهما. وقال ابن المديني: يونس بن عبيد أثبت في الحسن من ابن عون. وقال أبو زرعة: يونس أحب إلي في الحسن من قتادة؛ لأن يونس من أصحاب الحسن، وقتادة ليس من أقران يونس، ويونس أحب إلي من هشام بن حسان. وكذا قال أبو حاتم، وزاد: هو ثقة أكبر من سليمان التيمي، ولا يبلغ التيمي منزلة يونس.

وقال سلمة بن علقمة: جالست يونس بن عبيد، فما استطعت أن آخذ عليه كلمة. وقال عارم عن حماد بن زيد: كان يونس بن عبيد يحدثنا، ثم يستغفر ثلاثًا، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من سادات أهل زمانه علمًا وفضلًا وحفظًا وإتقانًا وسنةً وبغضا لأهل البدع، مع التقشف الشديد، والفقه في الدين، والحفظ الكثير. وقال حماد بن زيد: وُلد قبل الجارف. وقال حميد بن الأسود: كان أسن من ابن عون بسنة. وقال

ص: 369

جماعة: مات سنة تسع وثلاثين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.

5 -

(الحسن) بن أبي الحسن يسار البصريّ، أبو سعيد، مولى الأنصار، وأمّه خيرةُ مولاة أم سلمة، ثقة فقيه فاضلٌ مشهورٌ، وكان يرسل كثيرًا، ويدلس [3].

قال ابن سعد: وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، ونشأ بوادي القرى، وكان فَصيحًا.

رأى عليًّا، وطلحة، وعائشة، وكتب للربيع بن زياد والي خُرَاسان في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه. روى عن عثمان، وعليّ، وأبي موسى، وأبي بكرة، وعمران ابن حُصين، وجندب البجليّ، وابن عمر، وابن عبّاس، وابن عمرو بن العاص، ومعاوية، ومعقل بن يسار، وأنس، وجابر، وخلق كثير من الصحابة والتابعين.

وروى عنه حميدٌ الطويل، وبُريد بن أبي مريم، وأيوب، وقتادة، وعوف الأعرابيّ، وبكر بن عبد الله المُزنيّ، وخلق كثير.

قال أنس بن مالك: سلوا الحسن، فإنه حفِظ، ونسينا. وقال سليمان التيميّ: الحسن شيخ أهل البصرة. وقال مطرٌ الورّاق: كان جابر بن زيد رجل أهل البصرة، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة فهو يُخبر عمّا رأى وعاين. وقال محمد ابن فُضيل، عن عاصم الأحول: قلت للشعبيّ لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت البصرة، فأقرِىءِ الحسن منّي السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة، فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينيك، وأهيبه في صدرك، فأقرئه منّي السلام، قال: فما عدا أن دخل المسجد، فرأى الحسن، والناس حوله جلوسٌ فسلّم عليه. وقال أبو عوانة، عن قتادة: ما جالست فقيهًا قطّ إلا رأيت فضل الحسن عليه. وقال أيوب: ما رأت عيناي رجلًا قطّ كان أفقه من الحسن. وقال غالبٌ القطّان، عن بكر المزنيّ: من سرّه أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه في زمانه، فلينظر إلى الحسن فما أدركنا الذي هو أعلم منه. وقال يونس بن عُبيد: إن كان الرجل ليرى الحسن، لا يسمع كلامه، ولا يري

ص: 370

عمله، فينتفع به. وقال حمّاد بن سلمة، عن يونس بن عُبيد، وحُميد الطويل: رأينا الفقهاء، فما رأينا أكمل مروءةً من الحسن. وقال الحجّاج بن أرطاة: سألت عطاء بن أبي رباح فقال لي: عليك بذاك -يعني الحسن- ذاك إمام ضخم، يُقتدى به.

وقال ابن حبّان في "الثقات": احتلم سنة (37)، وأدرك بعض صفّين، ورأى مائة وعشرين صحابيًّا، وكان يُدلّس، وكان من أفصح أهل البصرة، وأجملهم، وأعبدهم، وأفقههم. وعن ابن عون قال: سمعت الحسن يقول: من كذّب بالقدر، فقد كفر.

قال ابن عُليّة، والسّريّ بن يحيى: مات سنة (110) زاد ابن عليّة: في رجب.

وقال ابنه عبد الله: هلك أبي، وهو ابن نحو من (88) سنة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (74) حديثًا.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ) بالبناء للمفعول، والأمر هو قول القائل لمن دونه: افعل على سبيل الاستعلاء (1).

والمعنى: أمرني الله تعالى؛ لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الله عز وجل، وقياسه في الصحابي إذا قال: أُمرت، فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر؛ لأنهم من حيث إنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتَمَلَ، والحاصل أن من اشتَهَر بطاعة رئيس، إذا قال ذلك فُهِم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس. قاله في "الفتح"(2).

(أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ) أي بأن أقاتل، وحذف الجاز مع "أنّ" و"أنْ" كثير مطّرد، كما

(1) راجع "عمدة القاري" 1/ 205.

(2)

"فتح" 1/ 96.

ص: 371

قال في "الخلاصة":

وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" وَ"أَنْ" يَطَّرِدُ

مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوا

أي أُمرتُ بمقاتلة الناس (حَتَّى يَشْهَدُوا)"حتّى" غاية للمقاتلة، ويحتمل أن تكون غاية للأمر بها.

[فإن قيل]: جَعْلُ وجودِ ما ذُكِر غاية للمقاتلة، يقتضي أن من شَهِدَ بالتوحيد، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، عَصَمَ دمه، ولو جَحَدَ باقي الأحكام.

[أجيب]: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، على أن آخر الحديث، وهو قوله:"إلا بحق الإسلام" نصٌّ صريح يَدْخُلُ فيه جميعُ ذلك.

[فإن قيل]: فَلِمَ لم يَكتَفِ به، ونَصَّ على الصلاة، والزكاة.

[أجيب]: بأن التنصيص عليهما؛ لعظمهما، والاهتمام بأمرهما؛ لأنهما أُمّا العبادات البدنية والمالية (1).

(أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه)"أن" مخفّفة من الثقيلة، واسمها محذوف: أي أنه لا إله إلا الله (وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) معنى إقامة الصلاة: إما تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع زيغٌ في فرائضها، وسننها، وآدابها، من أقام العُودَ: إذا قوّمه، وإما المداومة عليها، من قامت السُّوق: إذا نَفَقَت، وإما التجلُّدُ والتشمُّر في أدائها، من قامت الحربُ على ساقها، وإما أداؤها؛ تعبيرًا عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام بعض أركانها، والصلاة هي العبادة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم. قاله العينيّ رحمه الله (2).

وقال في "الفتح": قوله: "ويقيموا الصلاة": أي يُداوموا على الإتيان بها بشروطها، من قامت السوقُ: إذا نَفَقَت، وقامت الحربُ: إذا أشتد القتال، أو المراد

(1) راجع "الفتح" 1/ 96.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 205.

ص: 372

بالقيام الأداءُ؛ تعبيرًا عن الكل بالجزء، إذ القيام بعض أركانها.

والمراد بالصلاة المفروضُ منها لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلًا، وإن صَدَقَ اسم الصلاة عليها.

وقال الشيخ محيي الدين النووي: في هذا الحديث أن من ترك الصلاة عمدًا يُقتَل، ثم ذَكَر اختلاف المذاهب في ذلك.

وسُئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب بأن حكمهما واحد؛ لاشتراكهما في الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا، والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرًا بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نَصْبِ القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، ولم يُنقَل أنه قتل أحدًا منهم صبرًا، وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظرٌ؛ للفرق بين صيغة أُقاتل وأَقتُل.

وقد أطنب ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحةُ القتل؛ لأن المقاتلة مُفَاعَلَةٌ تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل. وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القَتْل بسبيل، فقد يَحِلّ قتالُ الرجل ولا يَحِلُّ قتله. انتهى (1).

(وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) أي يُعطوها لمستحقيها، والزكاة: هي القدر المخرج من النصاب للمستحقّ.

[تنبيهان]:

(الأول): زاد في الرواية الآتية في "كتاب الفتن" برقم (3927) من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فإذا قالوها عَصَمُوا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل".

(1) راجع "الفتح" 1/ 96.

ص: 373

فقوله: "فإذا قالوها": أي إذا تكلّموا بكلمة التوحيد. وقوله: "عصموا مني" أي حفظوا وحَقَنُوا. وقوله: "إلا بحقها" الضمير لكلمة التوحيد، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"إلا بحقّ الإسلام"، والمعنى واحد، والاستثناء مفرّغ، والمستثنى منه أعمّ، والعصمة متضمّنة لمعنى النفي، ولذا صحّ تفريغ الاستثناء، إذ شرطه النفي، إما صريحًا، أو تأويلًا، كهذا المثال، والمعنى: لا يجوز إهدار دمائهم واستباحة أموالهم بسبب من الأسباب إلا بحقّ الإسلام، والحقّ المستثنى هو ما بينه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر بقوله:"زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل النفس التي حرّم الله". أخرجه الداميّ في "سننه" 2/ 171.

ومن حقّ الإسلام أيضًا سائر الحدود التي أوجبها الشرع بارتكاب جريمة، كحد السرقة، والقذف، وكذا الغرامة المالية بإتلاف مال محترم، أو نحو ذلك.

وقوله: "وحسابهم على الله" أي حساب سرائرهم على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه المطّلع عليها، فمن أخلص في إيمانه وأعماله جازاه الله عليها جزاء المخلصين، ومن لم يُخلص في ذلك كان من المنافقين، يُحكم له في الدنيا بأحكام المسلمين، وهو عند الله تعالى من أسوء الكافرين (1).

(الثاني): [إن قيل]: مقتضى الحديث قتالُ كل من امتنع من التوحيد، فكيف تُرِك قتال مؤدي الجزية، والمعاهد.

[أجيب]: بأوجه:

[أحدها]: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرًا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ} .

[ثانيها]: أن يكون من العام الذي خُصَّ منه البعض؛ لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يَقدَح في العموم.

(1)"المفهم" 1/ 189.

ص: 374

[ثالثها]: أن يكون من العام الذي أُريد به الخاصّ، فيكون المراد بالناس في قوله:"أقاتل الناس": أي المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ:"أُمرت أن أقاتل المشركين".

[فإن قيل]: إذا تَمّ هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية.

[أجيب]: بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها، لا تأخيرها مُدّةً، كما في الْهُدْنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية.

[رابعها]: أن يكون المراد بما ذُكر من الشهادة وغيرها التعبير عن إعلاء كلمة الله، وإذعانُ المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة.

[خامسها]: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها.

[سادسها]: أن يقال الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يُسلموا، أو يلتزموا مما يؤديهم إلى الإسلام، قال الحافظ: وهذا أحسن ويأتي فيه ما في الثالث، وهو آخر الأجوبة. ذكره في "الفتح"(1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا صحيح، بل هو متّفقٌ عليه.

[فإن قلت]: في سند المصنّف رحمه الله انقطاع؛ لأن الجمهور أن الحسن البصريّ لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه وإن كان الصحيح أنه سمع منه قليلًا، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"- وكذا فيه أبو جعفر الرازيّ، متكلّم فيه، كما سبق في ترجمته قريبًا، فكيف يصحّ؟.

[قلت]: لا يضرّ ذلك؛ لأن المصنّف أخرجه في "كتاب الفتن" بسند صحيح،

(1) راجع "الفتح" 1/ 97.

ص: 375

ونصّه:

3927 -

(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، وحفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل". وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيح، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا بهذا السند، وأخرجه في "كتاب الفتن" رقم (3927) بالسند المذكور في المسألة السابقة، وأخرجه (البخاريّ)(1399 و 1457 و 6924 و 7284) من طريق الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، و (مسلم)(1/ 39) من طريق عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي هريرة، و (النسائيّ)(7/ 79) و (أحمد) في "مسنده"(2/ 314 و 475 و 482 و 502 و 527).

والحديث متواترُ كما قال السيوطيّ في "الجامع الصغير"، فقد ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، فجاء في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة بطرق كثيرة، ومن حديث عبد الله ابن عمر، وأبيه عمر رضي الله عنهما، وفي البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه، وفي مسلم (21) والمصنّف (3928) والنسائيّ (3977) من حديث جابر رضي الله عنه، وفي مسلم من حديث طارق ابن أشيم الأشجعيّ، ومن حديث أوس بن أوس الثقفيّ، عند النسائيّ 2/ 218، ويأتي عند المصنّف (3929) ومن حديث معاذ بن جبل، كما في الرواية التالية للمصنف، ومن حديث النعمان بن بشير عند النسائيّ والبزّار، ومن حديث غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، فمن شاء الاطلاع على ذلك فليراجع "مجمع الزوائد" للحافظ الهيثميّ 1/ 24 - 27 و"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ 1/ 691 - 697، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله، وهو بيان أن هذه الأشياء المذكورة في الحديث من أمور الإيمان التي يُقاتَلُ الناس عليها.

ص: 376

2 -

(ومنها): أن أحكام الإسلام إنما تُدار على الظواهر الجليّة، لا على الأسرار الخفيّة.

3 -

(ومنها): الاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافًا لمن أوجب تعلّم الأدلّة، وجعله شرطًا في الإسلام، وهو مذهب كثير من المعتزلة، وقول لبعض المتكلّمين. قال النوويّ رحمه الله: قد تظاهرت الأحاديث الصحيحة التي يحصل من عمومها العلم القطعيّ بأن التصديق الجازم كاف. انتهى (1).

4 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه ترك تكفير أهل البِدَع المقرّين بالتوحيد الملتزمين للشرائع.

5 -

(ومنها): قبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن.

6 -

(ومنها): أن من أظهر الإسلام، وفعل الأركان وجب الكفّ عنه، وعدم التعرّض له.

7 -

(ومنها): أنه يستدل به على وجوب قتال تاركي الصلاة، ومانعي الزكاة، وغيرهما من واجبات الإسلام قليلا كان أو كثيرًا.

8 -

(ومنها): أن النوويّ قال: يُستدلّ به على أن تارك الصلاة عمدًا معتقدًا وجوبها يُقتل، وعليه الجمهور. وتُعُقّب بأن الاستدلال غير صحيح؛ لأن المأمور به هو المقاتلة، لا القتل، ولا يلزم من إباحة القتال إباحة القتل؛ لأن باب المفاعلة يستلزم وقوع الفعل من الجانبين، ولا كذلك القتل، فافهم.

9 -

(ومنها): اشتراط التلفّظ بكلمتي الشهادتين في الحكم بالإسلام، وأنه لا يكفّ عن القتال إلا النطق بهما.

10 -

(ومنها): أن من أتى بالشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وإن كان لا يؤاخذ لكونه معصومًا، لكنه يؤاخذ بحقّ من حقوق الإسلام، من نحو قصاص، أو

(1) راجع "عمدة القاري" 1/ 208.

ص: 377

حدّ، أو غرامة مُتْلَف، أو نحو ذلك.

11 -

(ومنها): وجوب قتال الكفار إذا أطاقه المسلمون حتى يُسلموا، أو يُعطوا الجزية إن كانوا من أهلها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

72 -

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الحُمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُّوا الزَّكَاةَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الله الفِرْيابيّ -بكسر الفاء، وسكون الراء، بعدها تحتانيّة، وبعد الألف موحّدة- نزيل قَيْسَارِيَة من ساحل الشام، ثقة فاضل، يقال: أخطأ في حديث الثوريّ، وهو مقدّم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزّاق [9].

أدرك الأعمش، ورَوَى عن فِطْر بن خَليفة، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، والأوزاعي، وجرير بن حازم، ونافع مولى ابن عمر، ومالك بن مِغْوَل، ويونس بن أبي إسحاق، والثوريّ، وعبد الحميد بن بَهْرَام، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاري، وروى هو والباقون عنه بواسطة أحمد بن حنبل، وإسحاق الكوسج، ومحمد بن يحيى، وعبد الوهاب بن نَجْدة، ومحمود بن خالد السُّلَميّ، والوليد ابن عتبة الدمشقي، ومحمد بن عوف الطائي، وأبو الأزهر، وغيرهم.

قال حرب عن أحمد: الفريابي سمع من سفيان بالكوفة، وصحبه، وكتبت أنا عنه بمكة. وقال الفضل بن زياد عن أحمد: كان رجلًا صالحًا. وقال أبو عمير بن النحاس:

ص: 378

سألت ابن معين، قلت: أيهما أحب إليك، كتاب الفريابي، أو كتاب قبيصة؟ قال: كتاب الفريابي، وقال العجلي: الفريابي ثقة، وهو ويحيى بن آدم، والزبيري، وقبيصة، ومعاوية ثقات، ووكيع، وأبو نعيم، والأشجعي، والقطان، وابن مهدي أثبت في حديث سفيان منهم.

وقال أبو بِشْر الدُّولابي عن البخاري: ثنا محمد بن يوسف، وكان من أفضل أهل زمانه. وقال النسائي: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن الفريابي، ويحيى بن يمان، فقال: الفريابي أحب إلي. قال: وسألت أبي عن الفريابي، فقال: صدوق ثقة. وقال محمد بن عبد الملك بن زَنْجويه: ما رأيت أورع من الفريابي. وقال السُّلَمِيّ: سألت الدارقطني، إذا اجتمع قبيصة والفريابي من تقدم منهما؟ قال: الفريابيّ؟ لفضله ونُسُكه. وقال محمد بن سهل بن عسكر: خرجنا مع الفريابي للاستسقاء، فرفع يديه، فما أرسلهما حتى مُطِرنا. وقال البخاري: رأيت قومًا دخلوا على الفريابي، فقيل له: يا أبا عبد الله، إن هؤلاء مُرْجئة، فقال: أخرجوهم، فتابوا ورجعوا.

قال الفريابي: وُلِدت سنة عشرين ومائة. وقال أبو زرعة: نُعِي إلينا سنة اثنتي عشرة ومائتين. وفيها أَرَّخه البخاري، وغير واحد، وزاد بعضهم: في ربيع الأول.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.

3 -

(عَبْدُ الحمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ) الْفَزَاريّ المدائنيّ، صدوقٌ [6].

رَوَى عن شهر بن حوشب، وعن عاصم الأحول حديثًا واحدًا، وروى عن عكرمة. وروى عنه ابن المبارك، ووكيع، ورَوْح بن عبادة، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وعبد الله بن رجاء الغداني، ومحمد بن يوسف الفريابي، وغيرهم.

قال علي بن حفص المدائني: سألت شعبة عنه، فقال: صدوق، إلا أنه يُحَدِّث عن شهر بن حوشب. وقال أبو موسى: ما سمعت يحيى، ولا عبد الرحمن يحدثان عن عبد الحميد شيئًا قط. وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: من أراد حديث شهر بن حوشب، فعليه بعبد الحميد، قال ابن المديني: وهو ثقة عندنا، وإنما كان يروي عن شهر

ص: 379

من كتابٍ عنده. وقال أبو طالب عن أحمد: حديثه عن شهر مقارب، كان يحفظها، وهي سبعون حديثًا.

وقال حرب عن أحمد: ثقة، كان يكون بالمدائن. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أبو داود: ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هو في شهر كالليث في سعيد المقبري، قلت: ما تقول فيه؟ قال: ليس به بأس، أحاديثه عن شهر صحاح، لا أعلم رَوَى عن شهر أحاديث أحسن منها، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: لا، ولا بحديث شهر، ولكن يُكتب حديثه. وقال صالح بن محمد الأسدي: ليس بشيء، يروي عن شهر صحيفة منكرة. وقال النسائي: ليس به بأس.

وقال ابن عدي: هو في نفسه لا بأس به، وإنما عابوا عليه كثرة رواياته عن شهر، وشهر ضعيف. قال الخطيب: الحمل في الصحيفة التي ذكر صالح على شهر، لا على عبد الحميد. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُعتَبر حديثه، إذا روى عن الثقات. وقال البزار: روى عنه جماعة من أهل العلم، واحتملوا حديثه. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح المصري: عبد الحميد بن بهرام ثقة، يعجبني حديثه، أحاديثه عن شهر صحيحة. وقال الساجي: صدوقٌ يَهِم.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، والمصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (72) و (2438) "تُوفّي ودرعه مرهونة

".

4 -

(شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ) الأشعريّ، أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو الجعد الشاميّ، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، صدوقٌ، كثير الإرسال والأوهام [3].

قال يعقوب بن شيبة: قيل لابن المديني: ترضى حديث شهر؟ فقال: أنا أُحَدِّث عنه. وكان عبد الرحمن يحدث عنه، وأنا لا أدع حديث الرجل إلا أن يجتمع عليه يحيى وعبد الرحمن على تركه. وقال حرب بن إسماعيل عن أحمد: ما أحسن حديثه، ووثقه، وأظنه قال: هو كنديّ، وروى عن أسماء أحاديث حسانًا. وقال أبو طالب عن أحمد:

ص: 380

عبد الحميد بن بَهْرام أحاديثه مقاربة، هي أحاديث شهر كان يحفظها، كأنه يقرأ سورة من القرآن. وقال حنبل عن أحمد: ليس به بأس. وقال عثمان الدارمي: بلغني أن أحمد كان يُثني على شهر.

وقال الترمذي: قال أحمد: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر. وقال الترمذي عن البخاري: شهر حسن الحديث، وقَوَّى أمره. وقال ابن أبي خيثمة، ومعاوية بن صالح، عن ابن معين: ثقة. وقال عباس الدُّوري، عن ابن معين: ثبت. وقال العجلي: شامي تابعيّ ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة، على أن بعضهم قد طَعَن فيه. وقال يعقوب بن سفيان: وشهر -وإن قال ابن عون: نزكوه- فهو ثقة. وقال ابن عمار: روى عنه الناس، وما أعلم أحدًا قال فيه غير شعبة، قيل: يكون حديثه حجة؟ قال: لا.

وقال أبو زرعة: لا بأس به، ولم يلق عمرو بن عَبَسَة. وقال أبو حاتم: شهر أحب إلي من أبي هارون، وبشر بن حرب، ولا يحتج به. وقال صالح بن محمد: شهر شاميّ، قَدِم العراق، روى عنه الناس، ولم يوقف منه على كذب، وكان يَتَنَسَّك، إلا أنه روى أحاديث ينفرد بها، لم يشاركه فيها أحد، وروى عنه عبد الحميد بن بَهْرام أحاديث طوالا عجائب، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في القراءات، لا يأتي بها غيره. وقال أبو جعفر الطبري: كان فقيهًا، قارئًا، عالما. وقال أبو بكر البزار: لا نعلم أحدًا ترك الرواية عنه غير شعبة، ولم يسمع من معاذ بن جبل.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد ذكرت في "شرح مقدّمة صحيح مسلم" ما قيل فيه من الطعن، وأمعنت في الجواب عن ذلك، وقلت: الحقّ أن شهرًا رحمه الله حسن الحديث، كما قال الحافظ الناقد الذهبيّ رحمه الله، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

قال البخاري وغير واحد: مات سنة مائة. وقال يحيى بن بكير: مات سنة (111). وقال الواقدي: مات سنة (12). أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في "صحيح مسلم" حديث واحد برقم 3821 حديث: "الكمأة من

ص: 381

المنّ

" الحديث.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، ومسلم حديثًا واحدًا كما سبق آنفًا، والأربعة، وله في هذا الكتاب (26) حديثًا.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ) بفتح الغين المعجمة، وسكون النون الأشعريّ، مختلف في صحبته، وذكره العجليّ في كبار ثقات التابعين [2] تقدم في 8/ 55.

6 -

(مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) بن عمرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجي الصحابيّ المشهور رضي الله عنه تقدم في 8/ 55. وشرح الحديث، ومسائله المتعلّقة به تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه هذا حديث حسن؛ لأن شهر بن حوشب حديثه حسنٌ، كما حقّقناه في ترجمته آنفًا، فما قاله بشار عوّاد من أنه ضعيف بسبب شهر فليس كما ينبغي، فتفطّن.

وقال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد حسن. انتهى، وهو مما تفرّد به المصنف عن أصحاب الأصول، وقد رواه الدارقطني من هذا الوجه، ورواه الشيخان من حديث ابن الخطاب رضي الله عنه، وقد تقدّم أنه متواتر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

73 -

وبالسند المتصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيُّ، أنبَأَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّيْثِيُّ، حَدَّثَنَا نِزَارُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لُهَما في الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: أَهْلُ الْإِرْجَاءِ، وَأَهْلُ الْقَدَرِ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث تقدّم برقم (62) من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما فقط، ورجاله تقدّموا سوى:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيُّ) هو: محمد بن إسماعيل بن أبي ضِرَار -بكسر

ص: 382

الضاد المعجمة، وتخفيف الراء- الضِّرَاريّ، أبو صالح الرازيّ، صدوق [11].

روى عن يونس بن محمد المؤدب، ويعلى بن عبيد، وعبد الرزاق، وعبيد الله بن موسى، وعبد الله بن يزيد القري، وأبي نعيم، والفريابي، وغيرهم.

وروى عنه ابن ماجه، وأبو حاتم، وقال: صدوق، وأبو بِشْر الدُّولابيّ، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث عليّ رضي الله عنه رقم (120) "أنا عبد الله، وأخو رسوله، وأنا الصديق

" الحديث.

2 -

(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن مسلم البغداديّ، أبو محمد الحافظ المؤدّب، ثقة ثبتٌ، من صغار [9].

روى عن داود بن أبي الفُرَات، وصالح المرّيّ، ونافع بن عمر الْجُمَحيّ، وفُليح، والحمادين، وحرب بن ميمون، وسلام بن أبي مطيع، وأبي أويس، والليث بن سعد، وعبد الواحد بن زياد، وشريك القاضي، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم.

وروى عنه ابنه إبراهيم، وأحمد، وعلي بن المديني، وابنا أبي شيبة، وعبد الله المُسْنَديّ، وأبو خيثمة، وحجاج بن الشاعر، ومجاهد بن موسى، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في صفر سنة سبع ومائتين.

وكذا قال أبو حسان الزِّيَادي. وقال خليفة، وابن سعد، ومُطَيَّن، وغيرهما: مات سنة ثمان.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.

3 -

(عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّيْثِيُّ) مجهول [7].

روى عن نِزَار بن حَيّان. وروى عنه يونس بن محمد المؤدب رَوَى له ابن ماجه في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

وأما جابر رضي الله عنه تقدّم 1/ 11، وكذا شرح الحديث تقدّم برقم (62) وتقدّم أنه حديث ضعيف بهذا السند، لكنه حسنٌ من حديث أنس رضي الله عنه، راجع ما كتبته في المسألة الأولى من مسائل الحديث المتقدّم بالرقم المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه

ص: 383

المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

74 -

(حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْبُخَارِيُّ، سَعِيدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ- عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: "الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ").

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الأثر والذي بعده ليسا من رواية ابن ماجه، وإنما هما من زيادات أبي الحسن القطّان، كما نبّه عليه الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال" 10/ 460، و"تحفة الأشراف" 5/ 221 و 8/ 231 و 10/ 318، ونصّه في "تهذيب الكمال":

قال في "الأصل" يعني "الكمال في أسماء الرجال": سعيد بن سعد، أبو عثمان البخاري، رَوَى عنه ابن ماجه، وهو مما زاده أبو موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني رحمه الله، وذكره الحافظ، أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسيّ، فيما استدركه على صاحب "الشيوخ النّبَل"، وقال: رَوَى عنه ابن ماجه في "السنن" في الجزء الأول حديثين موقوفين، والصواب في ذلك مع صاحب "النبل" حيث لم يذكره، فإنه من زيادات أبي الحسن بن سلمة الراوي عن ابن ماجه، كما تقدم بيانه، ولكنه وقع في بعض النسخ مُدْرجًا في الأصل، غير مُمَيَّز، فظنه بعض الكتبة من شيوخ ابن ماجه فكتبه، ولم يذكر أبا الحسن بن سلمة في أوله، ومن أدل دليل على صحة ما قلناه أنه ليس له ذكر في رواية إبراهيم بن دينار، عن ابن ماجه، ولو كان من أصل التصنيف لذكره إبراهيم بن دينار، كما ذكر غيره، فلما سَقَطَ من رواية ابن دينار، ولم يذكر أحد من المتقدمين أن ابن ماجه رَوَى عنه، وذكروا أن أبا الحسن بن سلمة رَوَى عنه، ووجدنا لأبي الحسن عدة أحاديث، قد زادها عن مشايخه، عَلِمنا أن هذا مما زاده. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ المزيّ رحمه الله، وهو كلام وجيهٌ، أقرّه الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 2/ 21 و"النكت الظراف" في هامش "تحفة الأشراف" 5/ 221 و 8/ 231 و 10/ 318.

والحاصل أن الأثرين من ليسا من أصل "سنن ابن ماجه" بل هما من زيادات أبي

ص: 384

الحسن القطّان، فليُتَنَبَّه، والله تعالى أعلم.

ورجال هذا الأثر: سبعة:

1 -

(أَبُو عُثْمَانَ الْبُخَارِيُّ، سَعِيدُ بْنُ سَعْدٍ) بن أيوب، نزيل الريّ، صدوق [11].

روى عن عبد الله بن مسلمة الْقَعنبيّ، وعبد الرحمن بن شَرِيك بن عبد الله النخعي، وعمرو بن مرزوق، وأبي نُعيم الفضل بن دكين، وأبي غَسَّان، مالك بن إسماعيل النَّهْدي، ومحمد بن رُوَين، ومِخْوَل بن إبراهيم، ومسلم بن إبراهيم، وأبي حُذيفة، موسى بن مسعود، والهيثم بن خارجة.

وروى عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبو الحسن، علي بن إبراهيم بن سَلَمة القطان، صاحب ابن ماجه.

قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كان صدوقًا، وذكره الحافظ أبو يعلى الخليلي الْقَزويني في مشايخ أبي الحسن بن سلمة، وقال: له معرفة بالحديث، مات قبل أبي حاتم بأشهر. انتهى (1).

وله في هذا الكتاب هذا الأثر فقط من زيادات أبي الحسن ابن القطّان، كما سبق بيانه.

2 -

(الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ) الخراساني الحافظ، أبو أحمد، ويقال: أبو يحيى الْمَرْوَزِيُّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، من كبار [10].

روى عن مالك، والليث، وحفص بن ميسرة، وخلف بن خليفة، وإبراهيم بن أدهم، وإسماعيل بن عياش، والجرّاح بن مَلِيح، ورشدين بن سعد، وغيرهم.

وروى عنه البخاري، وروى له النسائي، وابن ماجه بواسطة عمرو بن منصور النسائي، ومحمد بن يحيى الذهلي، وحدث عنه أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله بن أحمد، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبيد الله بن سعد الزهري،

(1)"تهذيب الكمال" 10/ 460.

ص: 385

وعباس الدُّوري، وموسى بن هارون، وغيرهم.

قال صالح بن محمد: سمعت هشام بن عمار يقول: كنا نسميه شُعبة الصغير، قال صالح: وكان أحمد يُثني عليه، وكان يتزهد، وكان سيء الْخُلُق مع أصحاب الحديث. وقال عبد الله بن أحمد: كان أبي إذا رَضِي عن إنسان، وكان عنده ثقة حدث عنه، وهو حَيّ، فحدثنا عن الهيثم بن خارجة وهو حي. وقال معاوية بن صالح: قال لي أحمد: اكتُبْ عنه. وقال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن قانع ثقة. وقال الخليلي: ثقة متفق عليه.

وقال البخاري: مات في ذي الحجة سنة سبع وعشرين ومائتين. وفيها أَرَّخَه غير واحد. وقال محمد بن إسحاق السَّرّاج عن حاتم بن الليث الجوهري، وإسماعيل بن أبي الحارث: رأينا الهيثم بن خارجة أبيض الرأس واللحية، ومات ببغداد في المحرم سنة ثمان وعشرين.

قال الحافظ: لعله مات في آخر يوم من ذي الحجة، وكان ذلك اليوم هو أول المحرم، فإن ابن أبي خيثمة قال في "تاريخه": مات في آخر ذي الحجة سنة سبع.

تفرّد به البخاريّ، والنسائيّ، والمصنّف، وله عنده حديث واحد يأتي برقم (1221) فقط، وهو حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"من أصابه قيء، أو رُعاف، أو قَلَس، أو مذي، فلينصرف، وليتوضأ" الحديث (1). وأما هذا الأثر فإنه من زيادات أبي الحسن القطّان، وليس من رواية المصنّف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنَ عَيَّاشٍ) بن سُلَيم الْعَنْسيّ -بالنون- أبو عُتْبة الحمصيّ، صدوق في روايته عن أهل بلده، مُخَلِّطٌ في غيرهم [8].

(1) وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، وهو من الحجازيين، وإسماعيل ضعيف فيهم.

ص: 386

روى عن محمد بن زياد الأَلْهَانيّ، وصفوان بن عمرو، وضَمْضَم بن زُرْعة، وعبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير، والأوزاعيّ، وهشام بن الغاز، وغيرهم.

وروى عنه محمد بن إسحاق، والثوريّ، والأعمش، والليث بن سعد، وبقيّة، والوليد بن مسلم، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم.

قال عباس الدُّوري: سمعت يحيى بن معين يقول: إسماعيل بن عياش ثقة، وكان أحب إلى أهل الشام من بقية. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: هو ثقة، والعراقيون يكرهون حديثه. قيل ليحيى: أيما أثبت، بقيّة، أو إسماعيل؟ قال: صالحان. وقال البخاريّ: ما روى عن الشاميين أصح.

وقال عمرو بن عليّ: إذا حدث عن أهل بلاده فصحيح، وإذا حدث عن أهل المدينة، مثل هشام بن عروة، ويحيى بن سعيد، وسهيل بن أبي صالح، فليس بشيء. وقال يعقوب بن سفيان: كنت أسمع أصحابنا يقولون: علم الشام عند إسماعيل بن عياش، والوليد بن مسلم. قال يعقوب: وتكلم قوم في إسماعيل، وهو ثقة، عدل، أعلم الناس بحديث الشام، ولا يدفعه دافع، وأكثر ما تكلموا، قالوا: يُغْرِب عن ثقات المكيين والمدنيين. وقال يحيى بن معين: إسماعيل ثقة فيما روى عن الشاميين، وأما روايته عن أهل الحجاز، فإن كتابه ضاع، فخلط في حفظه عنهم. وقال أبو حاتم: هو لين، يكتب حديثه، ولا أعلم أحدا كَفّ عنه، إلا أبا إسحاق الفزاريّ. وقال الترمذيّ: قال أحمد: هو أصلح من بقية، فإن لبقية أحاديث مناكير.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أشبعت الكلام في ترجمة إسماعيل بن عيّاش هذا في "شرح مقدّمة صحيح مسلم"، وأن أعدل الأقوال فيه أنه حجة في أحاديث الشاميين، وأما أحاديث الحجازيين، والعراقين، فليس فيها بحجة، والله تعالى أعلم.

قال محمد بن عون: كان مولده سنة (102). وقال بقية: وُلد سنة (5). وقال زيد ابن عبد ربه: وُلد سنة (6)، وكذا قال ابن عيينة، وأحمد بن حنبل، وقال أحمد وجماعة: مات سنة (181). وقال محمد بن سعد، وخليفة، وأبو عبيد: مات سنة (82).

ص: 387

أخرج له البخاريّ في "جزء رفع اليدين"، والأربعة، وله في هذا الكتاب (47) حديثًا.

4 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ) بن جبر المكيّ المخزوميّ مولاهم، متروك، وكذّبه الثوريّ [7].

روى عن أبيه، وعطاء، وروى عنه إسماعيل بن عياش، وبكر ابن الشَّرُود الصنعاني، وسُليم بن مسلم المكي، وعبد الرزاق، وعبد الوهاب الثقفي، وعبد الوهاب الْخَفّاف، والمعلى بن هلال، وعثمان بن الهيثم.

كذبه سفيان الثوريّ. وقال وكيع: كانوا يقولون: إنه لم يسمع من أبيه. وقال أحمد: ليس بشيء، ضعيف الحديث. وقال الجوزجانيّ: غير مُقْنِع. وقال ابن معين، وأبو حاتم: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يُتَابَع عليه. وقال المِزّيّ: لم أقف على رواية ابن ماجه له.

قال الحافظ: هي موجودة في بعض النسخ في كتاب "السنة".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قال الحافظ في "التهذيب" 2/ 640، وهو سهو منه، فإنه قد سبق أن وافق المزّيّ في كون هذا الأثر من زيادات أبي الحسن القطان، لا من رواية المصنّف، فكان عليه أن ينبّه على ذلك هنا، والله تعالى أعلم.

وقال علي بن المدينيّ، ويحيى بن معين: لا يُكتَب حديثه، وليس بشيء. وذكره يعقوب بن سفيان في "باب من يُرغَب عن الرواية عنهم". وقال الدارقطني: ليس بشيء ضعيف. وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث.

وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة. وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ترك حديثه.

وليس له في الكتب الستة شيء، إلا هذا الأثر هنا من زيادات ابن القطّان.

5 -

(مُجَاهِدٍ) بن جَبْر -بفتح الجيم، وسكون الموحّدة- أبو الحجّاج المخزوميّ مولاهم المكيّ، المقريء، مولى السائب بن أبي السائب، ثقة، إمام في التفسير، وفي العلم [3].

ص: 388

روى عن علي، وسعد بن أبي وقاص، والعبادلة الأربعة، ورافع بن خَديج، وأسيد بن ظهير، وأبي سعيد الخدري، وعائشة، وأم سلمة، وجويرية بنت الحارث، وأبي هريرة، وأم هاني بنت أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وخلق كثير.

وروى عنه أيوب السختياني، وعطاء، وعكرمة، وابن عون، وعمرو بن دينار، وفطر بن خليفة، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو الزبير المكي، ويونس بن أبي إسحاق، وقتادة، وعبيد الله بن أبي يزيد، وأبان بن صالح، وبكير بن الأخنس، وحبيب بن أبي ثابت، والحسن بن عمرو الفقيمي، والحسن بن مسلم بن يناق، وخلق كثير.

قال عبد السلام بن حرب، عن مصعب: كان أعلمهم بالتفسير مجاهد، وبالحج عطاء. وقال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدا يقول: عَرَضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. وقال أبو نعيم: قال يحيى القطان: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء، وكذا قال الآجري عن أبي داود. وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل: ما رأيت أحدًا أراد بهذا العلم وجه الله تعالى إلا عطاء، وطاوسًا، ومجاهدًا. وقال الأعمش عن مجاهد: لو كنت قرأت على قراءة ابن مسعود، لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن.

وعن مجاهد قال: قرأت القرآن على ابن عباس ثلاث عَرَضَات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت؟، وكيف كانت؟. وقال إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد: قال: ربما آخُذُ لابن عمر بالركاب. وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد. وقال أبو بكر بن عياش: قلت للأعمش: ما لهم يقولون: تفسير مجاهد؟ قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب. وقال علي بن المديني: لا أُنكر أن يكون مجاهد لَقِي جماعة من الصحابة، وقد سمع من عائشة. انتهى. لكن وقع التصريح بسماعه منها في "صحيح البخاريّ". وقال ابن سعد: كان ثقة فقيهًا عالمًا، كثير الحديث. وقال ابن حبان: كان فقيهًا ورعًا عابدًا متقنًا. وقال أبو جعفر الطبري: كان قارئًا عالمًا. وقال العجلي: مكي تابعيّ ثقة. وقال الذهبي في آخر ترجمته: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد، والاحتجاج به.

ص: 389

قال الهيثم بن عدي: مات سنة مائة. وقال يحيى بن بكير: مات سنة إحدى، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. وقال أبو نعيم: مات سنة اثنتين. وقال سعيد بن عفير وأحمد: مات سنة ثلاث. وقال ابن حبان: مات بمكة سنة اثنتين أو ثلاث ومائة، وهو ساجد، وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر. وقال يحيى القطان: مات سنة أربع ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (46) حديثًا، منها للمصنّف (45)، وواحد لأبي الحسن القطّان، وهو هذا الأثر. والله تعالى أعلم.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما تقدم في 3/ 27.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في 1/ 1، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الأثر مما انفرد به المصنّف، أخرجه هنا بهذا السند، وبالسند التالي، وهو ضعيف؛ لأن في سنده عبد الوهّاب بن مجاهد، وهو متروك، بل كذّبه الثوريّ، وهو من رواية إسماعيل بن عيّاش، وهو ضعيف في الحجازيين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتَّصل إلى الإمام ابن ماجه رحمه الله في أول الكتاب قال:

75 -

(حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمانَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ الْحَارِثِ، أَظُنَّهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: "الْإِيمَانُ يَزْدَادُ وَيَنْقُصُ").

رجال هذا الأثر: سبعة:

تقدّموا في السند الماضي، سوى ثلاثة:

1 -

(حريز -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، آخره زاي- ابن عثمان) بن جَبْر بن أبي أحمر بن أسعد، الرَّحَبيّ -بفتح الراء، والحاء المهملة، بعدها موحّدة- ورحبة في حمير، أبو عثمان، ويقال: أبو عون الحمصيّ، قَدِم بغداد زَمَنَ المهدي، ثقة ثبتٌ، رُمي بالنصب [5].

روى عن عبد الله بن بسر المازني الصحابي، وحبيب بن عبيد، وحِبّان بن زيد،

ص: 390

وخالد بن مَعْدان، وأزهر بن راشد، وحبيب بن صالح، وغيرهم.

وروى عنه ثور بن يزيد الرحبي، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن عياش، وبقية، وعيسى بن يونس، ويحيى بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، وغيرهم.

قال معاذ بن معاذ: حدثنا حريز بن عثمان، ولا أعلم أني رأيت بالشام أحدًا أُفَضِّله عليه. وقال الآجري عن أبي داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. قال: وسألت أحمد ابن حنبل عنه، فقال: ثقة ثقة. وقال أيضًا: ليس بالشام أثبت من حريز، إلا أن يكون بَحِير. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: حريز، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وابن أبي مريم، هؤلاء ثقات. وقال ابن المديني: لم يزل من أدركناه من أصحابنا يوثقونه. وقال دُحَيم: حمصي جيد الإسناد، صحيح الحديث. وقال أيضًا: ثقة. وقال المفضل بن غَسّان: ثبت. وقال أحمد بن أبي يحيى عن أحمد: حريز صحيح الحديث، إلا أنه يَحمِل على عليّ.

قال يزيد بن عبد ربه: مولده سنة (8) ومات سنة (163). وقال محمد بن مصفى: مات سنة (2) وقال غيره سنة (8) والأول أصح.

أخرج له البخاري حديثان فقط، والباقون سوى مسلم، وذكر اللالكائي أن مسلمًا رَوَى له، وذلك وَهَمٌ منه (1). وله عند المصنّف أربعة أحاديث، برقم 442 و 457 و 1604 و 2707. وهذا الأثر من زيادات أبي الحسن القطّان. والله أعلم.

2 -

(الحارث) لم أعرفه.

3 -

(أبو الدرداء) هو: عُويمر بن مالك، وقيل: ابن عامر، وقيل: غير ذلك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم في 1/ 5.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الأثر ضعيف كسابقه؛ لأن شيخ حَرِيز لم يُعرف، وفيه انقطاع؛ لأن مجاهدًا لا يُمكن أن يسمع من أبي الدرداء؛ لأن المشهور أنه

(1) راجع "تهذيب التهذيب" 1/ 375 - 377.

ص: 391

مات بالشام سنة (32) ومجاهد وُلد سنة (21)(1) في خلافة عمر رضي الله عنه، وهو مكيّ، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: هذان الأثرن، وإن قلنا بضعفهما بسبب ضعف إسناديهما، لكنهما ثابتان عن السلف رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يقولون: الإيمان يزيد وينقص، وقد ساق الحافظ أبو القاسم اللالكائيّ رحمه الله في كتابه "أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" الآيات والأحاديث التي تدلّ على أن الإيمان يزيد وينقص، وما روي عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، فقال:

ما دَلَّ أو فُسّر من الآيات من كتاب الله، وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء أئمة الدين أن الإيمان يزيد بالطاعة، ويَنقُص بالمعصية.

فأما من نصّ كتاب الله، فقوله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الآيتين [الأنفال: 2 - 4]. وقال تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. وقال {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]. وقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]. وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. قال: يزداد إيماني.

وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"(2). وفي حديث الشفاعة: "أخرجوا من كان في قلبه حبّة خردل من إيمان"(3). "ولا يدخل النار من كان في قلبه

(1) انظر "تهذيب التهذيب" 4/ 26.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه ابن حبّان، والحاكم.

(3)

متّفقٌ عليه.

ص: 392

مثقال حبة من خردل من إيمان" (1)، "والإيمان بضع وسبعون شعبة" (2).

وبه قال من الصحابة:

عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وعمّار، وأبو هريرة، وحُذيفة، وسلمان، وعبد الله بن رواحة، وأبو أمامة، وجندب بن عبد الله البجليّ، وعمير بن خماشة، وعائشة رضي الله عنهم.

ومن التابعين:

كعب الأحبار، وعروة بن الزبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وابن مليكة (3)،

وميمون بن مِهْران، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والحسن، والزهريّ، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، ويونس، وابن عون، وسليمان التيميّ، وإبراهيم النخعيّ، وأبو البختريّ، سعيد بن فيروز، وعبد الكريم بن مالك الجزريّ، وزُبيد بن الحارث، والأعمش، ومنصور، والحكم، وحمزة الزيات، وهشام بن حسّان، ومَعْقِل بن عبد الله الجزريّ.

ومن الفقهاء:

مالك بن أنس، والأوزاعيّ، وسفيان الثوريّ، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ونافع بن عمرو، ومحمد بن مسلم الطائفيّ، والشافعيّ، وسعيد بن عبد العزيز، ومحمد بن أبي ليلى، وشريك بن عبد الله، والحسين (4) بن صالح بن حيّ، ومعمر، ومالك بن مِغْوَل، ومفضّل بن مهَلْهَل، وأبو إسحاق الفزاريّ، وزائدة، وجرير بن عبد الحميد، وأبو شهاب عبد ربه بن نافع، وأبو

(1) أخرجه مسلم، وتقدّم للمصنف برقم (59).

(2)

أخرجه مسلم، وتقدّم للمصنف رقم (57).

(3)

هكذا في النسخة "ابن مليكة"، والظاهر أنه غلط، والصواب "ابن أبي مليكة".

(4)

وقع هكذا في النسخة، والظاهر أن الصواب: الحسن مكبّرًا.

ص: 393

زُبيد عبثر بن القاسم، والمثنّى بن الصبّاح.

ومن الطبقة الثالثة من البصريين:

حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرحمن بن مهديّ، وعبد الوهاب الثقفيّ، وابن المبارك، ووكيع.

وممن يليهم:

أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، ومحمد بن إسماعيل البخاريّ، وعبد الله بن عبد الرحمن السَّمَرْقنديّ، ومحمد بن يحيى الذهليّ، ومحمد بن أسلم الطوسيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود السجستانيّ. انتهى كلام اللالكائيّ رحمه الله باختصار (1).

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "العقيدة الواسطيّة": ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب، واللسان، والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، ويَنقُص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يُكفّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج، بل الأُخُوّة الإيمانيِّة ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه وتعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، وقال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية [الحجرات: 9]، ولا يسلبون الفاسق الإسلام بالكلية، ولا يُخلّدونه في النار، كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية [النساء: 92]، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن

" الحديث، ونقول هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسلب مطلق الاسم. انتهى

(1)"شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة" 3/ 960 - 1036.

ص: 394

كلامه (1).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن مذهب أهل السنة والجماعة، الذي جاءت النصوص من الكتاب والسنة على وفقه أن الإيمان قول وفعل، ويزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأن ما خالف هذا المذهب فهو ضلال مبين، فاحذر منه، تسلم، وتغنم، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

(1) راجع "العقيدة الواسطية" ص 103 - 104.

ص: 395