الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الغريب اللغوي والغريب القرآني
الغريب اللغوي:
كل ما ورد في مادة (غ ر ب) يفيد البُعد، ومنه: رجل غريب: بعيد عن أهله، ليس من سائر القوم.
ومنه: كلمة غريبة: أي بعيدة عن الفهم (1) .
وذكر الخطَّابِي (2)(ت 388هـ) أن الغريب - من الكلام - يقال به على وجهين: أحدهما: أن يُراد به: بعيد المعنى، غامضه، لا يتناوله الفهم إلا عن بُعد، ومعاناة فكر.
والآخر: أن يراد به: كلام من بَعُدت به الدار، من شواذِّ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم: استغربناها! وإنما هي كلام القوم وبيانهم.
ويزيد الزجّاجي (ت377هـ) أمر الغريب اللغوي وضوحاً، حين يُعرِّفه بأنه (3) :"ما قل استماعه من اللغة، ولم يَدُرْ في أفواه العامّة، كما دار في أفواه الخاصّة، كقولهم: صَمَكْتُ الرجُل، أي: لَكَمْتُه، وقولهم للشمس: يُوحُ"(4)
(1) انظر: لسان العرب (غ ر ب) وغريب الحديث للخطابي - تح. عبد الكريم العزباوي: 1/70 - نشر جامعة أم القرى 1402هـ / 1982م.
(2)
غريب الحديث: 1/70،71.
(3)
الإيضاح في علل النحو - تح. مازن مبارك: ص 92 - نشر: دار النفائس ببيروت 1393هـ/ 1973م
(4)
من أسماء الشمس - اللسان (ي وح) .
ثم ينبهنا إلى أنه "ليس كل العرب يعرفون اللغة كلها، غريبها وواضحها، ومستعملها وشاذها، بل هم - في ذلك - طبقات، يتفاضلون فيها، كما أنه: ليس كلهم يقول الشعر، ويعرف الأنساب كلها، وإنما هو في بعض دون بعض"! (1)
وقريب من هذا: ما ذهب إليه ابن الأثير (ت606هـ) حين قسَّم الألفاظ المفردة إلى قسمين (2) : أحدهما: خاص، والآخر: عام.
أما العام: فهو ما يشترك في معرفته، جمهور أهل اللسان العربي، مما يدور بينهم في الخطاب، فهم - في معرفته - سواء، أو قريب من السواء، تناقلوه فيما بينهم، وتداولوه، وتلقفوه من حال الصغر - لضرورة التفاهم - وتعلموه.
وأما الخاص: فهو ما ورد فيه من الألفاظ اللغوية، والكلمات الغريبة الحوشيّة، التي لا يعرفها إلا من عُني بها، وحافظ عليها، واستخرجها من مظانها، وقليل ما هم!
وذهب ابن الهائم (ت 815هـ) إلى "أن الغريب يقابله المشهور، وهما أمران نِسبِيَّان، فربَّ لفظ يكون غريباً عند شخص، مشهورا عند آخر"(3) .
(1) الإيضاح في علل النحو: ص 92.
(2)
النهاية في غريب الحديث - تح. طاهر الزاوي ومحمود الطناحي: 1/4 -نشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - بمصر.
(3)
التبيان في غريب القرآن - تح. د. فتحي الدابولي: ص 485- نشر: دار الصحابة للتراث بطنطا: 1412هـ/1992م
الغريب القرآني:
أما الغريب في القرآن الكريم: فهو الألفاظ القرآنية، التي يُبْهَم معناها على القارئ، والمفسر وتحتاج إلى توضيح معانيها، بما جاء في لغة العرب، وكلامهم (1) .
وذلك: لأن ألفاظ القرآن - أو لغاته، كما يقول أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) – "على قسمين (2) :
قسم: يكاد يشترك في معناه، عامة المستعربة، وخاصتهم، كمدلول السماء، والأرض، وفوق، وتحت.
وقسم: يختص بمعرفته، من له اطلاع وتبحُّر في اللغة العربية، وهو الذي صَنّف أكثر الناس فيه، وسمَّوه: غريب القرآن".
أهمية معرفة غريب القرآن:
ومعرفة غريب القرآن - بالنسبة للمفسر - من أهم أدواته، لأنها من أوائل المُعَاوِن، لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللَّبِنِ، في كونه من أول المُعاوِن، في بناء ما يريد أن يبنيَه.
وليس ذلك نافعاً في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع! فألفاظ القرآن: هي لُبُّ كلام العرب، وزُبْدتُه، وكرائمُه، وعليها اعتماد الفقهاء، والحُكام في أحكامهم، وحِكَمِهم، وإليها مفزع حُذّاق الشعر، والبلغاء، في نظمهم وشعرهم، وما عداها - وعدا الألفاظ المتفرعات
(1) انظر: معجم مصنفات القرآن الكريم – د. على شواخ: 3/291- نشر دار الرفاعي بالرياض: 1404هـ/ 1984م، والعمدة في غريب القرآن - لمكي بن أبي طالب - تح. د. يوسف المرعشلي: ص 14 من مقدمة التحقيق - نشر مؤسسة الرسالة - ط2: 1404هـ / 1984 م.
(2)
تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب - لأبي حيان الأندلسي - تح.سمير المجذوب: ص 40 - ط1- نشر: المكتب الإسلامي: 1403هـ / 1983م.
عنها، والمشتقات منها - هو - بالإضافة إليها - كالقشور والنوى، بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتبن، بالإضافة إلى لُبوب الحنطة! (1)
ومن أجل ذلك: فقد نبه الزركشي (2)(ت794هـ) إلى ضرورة معرفة الغريب، والإحاطة باللغة، بالنسبة للمفسر، وساق - في هذا المجال - قول الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) :"لا أُوتَى برجل يفسّر كتاب الله، غيرَ عالم بلغة العرب، إلا جعلته نكالا"
ثم قولَ مجاهد (3)(ت104هـ) : "لا يحل لأحد- يُؤمن بالله واليوم الآخر – أن يتكلم في كتاب الله، إذا لم يكن عالماً بلغات العرب".
كما ذكر (الزركشي)(4) : أن الكاشف عن معاني القرآن، يحتاج “إلى معرفة علم اللغة: اسما، وفعلاً، وحرفاً، فالحروف - لقلتها - تكلم النحاة على معانيها، وأما الأسماء والأفعال: فيؤخذ ذلك من كتب اللغة“.
تفاوت نظرة المفسرين إلى الغريب:
ولم ينظر علماء اللغة، والمهتمون بأمر غريب القرآن، إلى ذلك الغريب، نظرة واحدة، بل تفاوتت نظراتهم إليه، فما يعده بعضهم غريباً، قد يكون عند غيره: غير غريب!
ولذلك: لم تتفق كتب الغريب، فيما أوردته من ألفاظه، فبعضها: يذكر ألفاظا على أنها من الغريب، وبعضها: يُهمل بعض هذه الألفاظ، ويذكر ألفاظاً أخرى، هي - في رأي مصنفي تلك الكتب - من الغريب! (5)
(1) مفردات ألفاظ القرآن - للراغب الأصفهاني - تح. صفوان داوودي: ص 55 - ط1 - نشر دار القلم بدمشق، والدار الشامية ببيروت: 1412هـ / 1992م.
(2)
البرهان في علوم القرآن - تح. محمد أبو الفضل إبراهيم: 1/292 - دار التراث بمصر.
(3)
هو: مجاهد بن جبر المكي - انظر: طبقات المفسرين: 2/308.
(4)
البرهان: 1/291.
(5)
بهجة الأريب في بيان ما في كتاب الله العزيز من الغريب - لابن التركماني - تح.د. محمد رياض كريم: ص 16 من مقدمة التحقيق - ط1 مط. التركي بطنطا: 1419هـ / 1998م
وهذا مما يتفق مع ما قاله ابن الهائم (1) : "لا شك أن الغريب يقابله المشهور، وهما أمران نسبيان، فربّ لفظ يكون غريباً عند شخص، مشهوراً عند آخر".
وقد ظهر ذلك واضحاً، في الكتب الأوائل، التي ألفت في الغريب، حيث كان صغر حجمها، وقلة موادها، لافتاً للنظر!
ويتجلى ذلك: في وصف حاجي خليفة (ت1067هـ) لكتاب أبي عبيدة (ت210هـ) في الغريب، حيث أخبر (2) : أنه جمع كتاباً صغيراً، ثم استدرك قائلاً: "ولم تكن قلته لجهله بغيره، وإنما ذلك لأمرين:
أحدهما: أن كل مبتدئ بشيء لم يُسبق إليه يكون قليلاً ثم يكثر.
والآخر: أن الناس كان فيهم - يومئذ- بقية، وعندهم معرفة، فلم يكن الجهل قد عمّ".
ومن أجل ذلك أقول: إن حركة التأليف في غريب القرآن، قد تطورت تطوراً كبيراً، من بدايتها، إلى عصرنا الحاضر، وسيظهر هذا واضحاً جلياً، عندما نستعرض مؤلفات غريب القرآن.
ولكن السمين الحلبي (ت756هـ) لم يفطن إلى هذه الحقيقة العلمية، التي تتعلق بتفاوت نظرات أهل الغريب، إلى الغريب، ولذلك نجده قد أخذ على الراغب الأصفهاني (ت في حدود: 425هـ) إغفاله بعض ألفاظ الغريب القرآني، في كتابه:(مفرادات ألفاظ القرآن) حيث قال (السمين الحلبي)(3) :
(1) التبيان في غريب القرآن: ص 485.
(2)
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - لحاجي خليفة: 2/1203 - نشر دار الفكر: 1402هـ/ 1982م.
(3)
عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ - للسمين الحلبي - تح. محمد باسل عيون السود: ص 38 -ط1 -نشر دار الكتب العلمية ببيروت: 1417هـ / 1996م.
(قد أغفل في كتابه ألفاظاً كثيرة، لم يتكلم عليها، ولا أشار في تصنيفه إليها، مع شدة الحاجة إلى معرفتها، وشرح معناها، ولغتها) ثم أورد بعض المواد التي أغفلها الأصفهاني (1) .
وأعتقد - في ضوء ما عرفنا، من تفاوت نظرات أهل الغريب إلى الغريب - أن ما أخذه السمين الحلبي، على الراغب الأصفهاني، ليس مأخذا يلتفت إليه، لأن المسافة الزمنية بينهما، أو بين عصريهما: طويلة، حيث تزيد على ثلاثة قرون، وهذه المسافة الزمنية: كفيلة بتغير اللغة، والعلم بها، حتى إنه ما كان معروفا في عصر الأصفهاني (القرن الخامس الهجري) ولا يحتاج إلى تفسير، أضحى مجهولاً في عصر السمين (القرن الثامن الهجري) ويحتاج إلى تفسير!
(1) المرجع السابق: ص 39.