الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: اختلافات في تأليف الغريب
اختلف مؤلفو كتب الغريب القرآني - بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين غيرهم- في مسائل كثيرة، من أبرزها ما يلي:
أولاً: اختلافهم في مناهج الترتيب لغريب القرآن:
تعد حركة التأليف، في غريب القرآن الكريم: الحركة العلمية الأولى في الإسلام، وقد نشأت - في هذا الوقت - للحاجة إليها، كما أسلفت القول، ولذلك بدأت في عصر مبكر، لا يعدو النصف الأول من القرن الأول للهجرة (1) ، على هيئة روايات، كالروايات المنسوبة لابن عباس رضي الله عنهما، ثم دونت عقب هذا التاريخ بقليل.
والملاحظ: أن الباكورة الأولى - في هذا المجال - لم تسر على طريق معين، من طرق التأليف، لأنه لم يُقصد فيها التأليف لذاته، وإنما قُصد فيها سد حاجة الناس، إلى تفسير ما يعسر عليهم فهمه، من ألفاظ القرآن الكريم.
ومن أوضح الأمثلة لذلك: ماروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في مسائل نافع بن الأزرق، المذكورة سابقاً، فإنها لم تتبع ترتيباً معيناً (2) . وإن كانت بعض مرويات ابن عباس رضي الله عنهما التفسيرية - وبخاصة تلك
(1) انظر: المعجم العربي - نشأته وتطوره - د. حسين نصار: 1/48 ط2 - 1968م - نشر: دار مصر للطباعة.
(2)
انظر: الإتقان: 2/56-88.
التي رواها: علي بن أبي طلحة، في صحيفته - قد نُقحت، ورُتبت، حسب السور في القرآن الكريم، ثم روعي فيها: ترتيب الآيات في كل سورة.
فمثلاً: فُسر الغريب في سورة آل عمران، كما يلي (1) :
1-
{مُتَوَفِّيكَ} [آية 55] : مُمِيتُك.
2-
{رِبِّيُّونَ} [آية 146] : جُموُعٌ.
ولم يفسر غيرهما في هذه السورة.
ثم فُسر الغريب في سورة النساء، كما يلي:
1-
{حُوباً كَبِيراً} [آية 2] : إثماً عظيماً.
2-
{نِحْلَةً} [آية 4] : مَهْراً.
3-
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [آية 6] : اختبروا. الخ.
وقد بلغت تفسيراته للغريب، في هذه السورة: 37 تفسيراً (2) .
ولم يكن هذا الترتيب من صنع ابن عباس رضي الله عنهما ولكنه كان من صنع صاحب الصحيفة: علي بن أبي طلحة، لأنها نسبت إليه، ولم تنسب إلى ابن عباس.
ثم: إن من ترجموا لابن عباس رضي الله عنهما لم ينسبوا إليه كتاباً ألفه، وإنما نسبوا إليه أقوالاً كثيرة، في التفسير وحده، وكانت مروية، لا مدونة (3) .
وحين تطور التأليف في غريب القرآن، وأصبح مقصوراً لذاته: سار فيه المؤلفون على طرق مختلفة (4)، وصلت إلى أربعة طرق:
(1) الإتقان: 2/7.
(2)
الإتقان: 2/8-10.
(3)
المعجم العربي: 1/39.
(4)
انظر: المعجم العربي: 1/48، ومقدمة تحقيق: العمدة في غريب القرآن: ص 19.
الطريق الأول: ترتيب الكلمات الغريبة المفسرة، وفقاً للسور، ثم وفقاً للآيات داخل كل سورة، مثل ما حدث في المثال الذي سقته آنفاً، من صحيفة علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهذا الترتيب: يُعد أقدم نظام في حركة التأليف، في غريب القرآن الكريم، وقد سار على دربه كثير من المؤلفين فيه، ومنهم:
1-
الفرّاء (ت207هـ) في: معاني القرآن.
2-
ابن قتيبة (ت276 هـ) في: غريب القرآن.
3-
الزجاج (ت311هـ) في: معاني القرآن.
4-
المارديني (ت750هـ) في: بهجة الأريب في تفسير الغريب.
5-
ابن الهائم (ت815هـ) في: التبيان في غريب القرآن.
الطريق الثاني: ترتيب الألفاظ المفسرة، حسب ترتيب الحروف الألفبائية، فما يبدأ بحرف الهمزة: يوضع في باب الهمزة، وما يبدأ بحرف الباء: يوضع في باب الباء، وهكذا إلى باب الياء.
وقد بدأ هذا النظام عند العُزَيْزِي (ت330هـ) في كتابه: نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن.
ولم يكن نظامه هذا مثالياًّ، لأنه فصل بين الكلمات التي تبدأ بحرف واحد، بسبب حركاتها! فما كان مفتوحاً: جعله في ناحية، وما كان مضموماً: جعله في ناحية، وما كان مكسوراً جعله في ناحية أخرى!
كما أنه لم يفرق - في الحرف الأول - بين الأصلي والزائد!
وإن كان - عدم تفريقه بينهما - مُسِّهلا لكثير من الناس، الوصول إلى طلبتهم في الكتاب، حيث لم يكن هذا النظام قد عُرف حتى على مستوى المعاجم اللغوية العربية.
وقد وصل هذا النظام إلى قمته: عند الراغب الأصفهاني (ت في حدود: 425هـ) في كتابه: مفردات ألفاظ القرآن حيث قسم هذا الكتاب إلى كتب، بدأها بكتاب الألف (الهمزة) وحشاه بالكلمات التي تبدأ بحرف الهمزة، ثم رتبها داخل الباب، مراعياً ترتيب الحرف الأول، ثم الثاني، ثم الثالث غالباً (1) .
ثم ثنى بكتاب الباء (2) ، ثم بكتاب التاء (3)، وهكذا إلى: كتاب الياء (4) .
وممن ساروا على منهجه هذا: العراقي (ت806هـ) في كتابه: ألفية في تفسير ألفاظ القرآن، والسمين الحلبي (ت756هـ) في عمدة الحفاظ (5) .
الطريق الثالث: ترتيب الكلمات حسب أواخرها أولاً، ثم حسب أوائلها، كطريقة الجوهري (ت في حدود 400هـ) في ترتيبه لمعجم: الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) .
حيث قُسم الكتاب إلى أبواب حسب أواخر الكلمات، ثم قسم كل باب إلى فصول، حسب أوائل هذه الكلمات.
وقد اتبع الرازي (ت بعد 666 هـ) هذا النظام، في كتابه: روضة الفصاحة في غريب القرآن (6) .
الطريق الرابع: ترتيب الألفاظ حسب حرفها الأول، ثم الأخير، دون مراعاة لترتيب الحشو، ودونما اعتبار للحروف الزائدة (7) .
(1) انظر: مفردات ألفاظ القرآن - تح. صفوان داوودي: ص 57.
(2)
انظر: المرجع السابق: ص 106.
(3)
السابق: ص 162.
(4)
السابق: ص 889.
(5)
انظر: المعجم العربي: 1/48، ومقدمة تحقيق عمدة الحفاظ: ص 5.
(6)
انظر: المعجم العربي: 1 /48.
(7)
المرجع السابق: نفسه.
وقد سار على هذا الطريق: أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) في كتابه: تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب.
فقد ذكر - في حرف الشين (1) - مواده، حسب الترتيب التالي:
شنأ - شطأ
شوب - شعب - شهب - شرب - شيب.
شمت - شتت.
شحح، ثم: شمخ، ثم: شرد - شدد - شيد.
شكر - شطر - شجر - شعر.
وهكذا، إلى آخر مواد الشين (2) .
وقد كان نظامه هذا: نظاماً غريباً، لم يَرُقْ أحداً ممن جاءوا بعده، ولذلك لم ينسج أحد منهم على منواله.
ثانياً: اختلاف أهل الغريب في معالجتهم وشرحهم لألفاظه:
واختلف أهل غريب القرآن الكريم - فيما بينهم - اختلافا بيّنا، في شرح اللفظ القرآني الغريب، وسوق المعلومات عنه!.
فمنهم: من مال إلى الاختصار الشديد، مثل أبي حيان الأندلسي، في كتابه: تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب، حيث اقتصر على الشرح اللغوي السريع، للفظ القرآني، دون أن يبين الآية التي ورد فيها، أو يذكر
(1) تحفة الأريب: ص 181.
(2)
المرجع السابق: ص 190.
السورة التي احتوته، أو يذكر أحداً من اللغويين أو المفسرين، أو يستشهد بأية شواهد (1) .
وإليك نموذجاً من تفسيره المختصر، يوضح لك صدق ما قيل حوله:
من حرف الميم (2) :
ملأ: {الْمَلأِ} (البقرة: 246) : الأشراف.
مقت: {مَقْتاً} (الصف: 3) : بغُضاً
مشج: {أَمْشَاجٍ} (الإنسان: 2) : أخلاط، واحدها: مَشَجٌ، ومَشِيجٌ ومِشْجٌ، وهو هنا: اختلاط النطفة بالدم.
مرج: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} (الفرقان: 53) : خلَّى بينهما / مرجْت الدابّة: خليتها ترعى.
وقيل: خلطهما.
{مَرِيجٍ} (ق: 5) : مختلط.
ومنهم من مال إلى الإطالة، وجمع المادة العلمية، عن اللفظ القرآني المفسر، حتى أضحى كتابه "موسوعة علمية صغيرة، فقد حوى: اللغة، والنحو، والصرف، والتفسير، والقراءات، والفقه، والمنطق، والحكمة، والأدب، والنوادر، وأصول الفقه، والتوحيد"(3) .
ورأْس هذا الاتجاه: هو الراغب الأصفهاني (الحسين -ت: في حدود 425هـ على الأرجح)(4) . في كتابه: مفردات ألفاظ القرآن.
(1) المعجم العربي: 1/46.
(2)
تحفة الأريب: ص 280.
(3)
مفردات ألفاظ القرآن - للراغب الأصفهاني - تح. صفوان داووي: ص 26 من مقدمة التحقيق.
(4)
انظر: المرجع السابق: ص 38.
وعلى الرغم من هذا الإسهاب، وهذا الإطناب: فقد عده بعض المعجميين (1) قمة التأليف في غريب القرآن الكريم، من حيث الترتيب والعلاج، واعتبره رائداً - في ترتيبه وعلاجه - لم يجد من يسير خلفه (2) !
ولكني - بعد البحث والتنقيب- وجدت من يحتذيه، ويسير على منهجه، ويتخذه مثالا، بل وينقل عنه، ويعتمد على مواده اعتماداً كلياً!
وقد تمثل ذلك في السمين الحلبي (ت756هـ) في كتابه: عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ (3) .
وإليك نموذجاً من كتاب المفردات للراغب الأصفهاني، تلمس منه صدق ما وصف به الكتاب:
في مادة (مرد) قال (4) :
قال الله تعالى: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} (الصافات: 7)
والمارد، والمَرِيد - من شياطين الإنس والجن - المتعرِّى من الخيرات، من قولهم: شجرٌ أمْرَد، إذا تَعَرَّى من الورق.
ومنه قيل: رَمْلَةٌ مَرْداء: لم تُنْبِت شيئا.
ومنه: الأمَرَد، لتجرُّده عن الشَّعْرِ.
ورُوِى: "أَهْلُ الجَنَّة مُرْدٌ" فقيل: حُمِلَ على ظاهِرِه، وقيل معناه: مُعْرَوْن من الشَّوَائب، والقَبَائِح.
(1) د. حسين نصار - المعجم العربي: 1/49.
(2)
المرجع السابق: ص 44.
(3)
تح. محمد باسل عيون السود: مقدمة التحقيق: ص 15.
(4)
مفردات ألفاظ القرآن: ص 764، 765.
ومنه قيل: مَرَدَ فُلَانٌ عن القبائِح، ومَرَدَ عن المحاسِنِ، وعن الطاعة، قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101)، أي: ارْتَكَسُوا عن الخير، وهم على النفاق.
وقوله: {مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} (النمل: 44) أي: مُمَلَّسٌ، من قولهم: شجرة مَرْداء، إذا لم يكن عليها ورق، وكأن المُمرّد: إشارة إلى قول الشاعر:
في مَجْدَلٍ شُيِّدَ بُنْيانُه
…
يَزِل عَنْه ظُفُرُ الظَّافِرِ
ومَارِدٌ: حِصُن معروف.
وفي الأمثال: تمرّدَ مارِدٌ، وعَزَّ الأَبْلَقُ، قاله مَلِكٌ امتنع عليه هذان الحِصْنَان.
ومنهم: من توسط بين الأمرين - حيث عَدل عن الاختصار الشديد، وتجاوز الإطالة-:ومثال ذلك: ابن قتيبة (ت276هـ) في كتابه: تفسير غريب القرآن.
فعلى الرغم من أن منهجه وُصف (1) بأنه "خليط من منهجي كتب اللغة وكتب التفسير، فهو يضم ظواهرهما معاً، فبينما يفسر الألفاظ لغوياً، ويستشهد عليها كثيراً، بالأشعار، والأحاديث، وأقوال العرب، ويبين وزنها حيناً يفسرها قرآنياً، فيبين - في السور- المدني، والمكي، أحياناً، ويقتبس أقوال مشهوري المفسرين".
على الرغم من هذا الوصف فإنني أذهب إلى أن ابن قتيبة كان معتدلاً في تفسير غريبه، ولم يحدث منه توسع إلا في بابين ساقهما في أول الكتاب:
الباب الأول: اشتقاق أسماء الله الحسنى، وصفاته، وإظهار معانيها [صفحة6-20]
(1) المعجم العربي: 1/42.
والباب الثاني: تأويل حروف [كلمات] كثرت في الكتاب [صفحة 21-27]
وقد كان توسعه - في هذين البابين - معتدلا، وعلى قدر الحاجة، حيث لم يسق خلافات لا داعي لها.
أما تفسيره لغريب القرآن، بعد هذين البابين (من أول سورة الحمد: صفحة 28، إلى آخر سورة الناس: صفحة 543) فقد كان تفسيراً متوسطاً، لايمكننا أن نصفه بالطول، أو بالقصر، وقصارى ما نستطيع أن نقوله - في هذا المجال -: هو أن الرجل حافظ على وعده الذي وعدنا به في مقدمة كتابه، حين قال (1) :
"وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا: أن نختصر ونكمل، وأن نوضّح، ونُجمل، وأن لا نستشهد على اللفظ المبتذل، ولا نكثر الدلالة على الحرف المستعمل، وأن لا نحشُوَ كتابنا بالنحو، وبالحديث، والأسانيد". إلخ.
ثم علل منهجه المعتدل هذا، قائلاً (2) : إنه فعل ذلك، حتى لا يسهب في القول، ويطيل الكتاب، وبذلك يقطع منه: طمع المتحفظ، ويباعده من بغية المتأدب.
وإليكم نموذجاً من تفسيره لغريب القرآن (3) .
سورة الحمد: [الفاتحة]
1-
{بِسْمِ اللَّهِ} اختصار، كأنه قال: أبدأ باسم الله، أو: بدأت باسم الله.
2-
و (العَالَموُن) أصناف الخلق الرُّوحانيين، وهم: الإنس، والجن، والملائكة، كل صنف منهم: عالَم.
(1) تفسير غريب القرآن - تح. السيد أحمد صقر: ص3 - نشر: دار الكتب العلمية ببيروت: 1398هـ/1978م.
(2)
تفسير غريب القرآن: ص 3.
(3)
ص 38.
4-
و {يَوْمِ الدِّينِ} يوم القيامة، سُمى بذلك: لأنه يوم الجزاء، والحِساب، ومنه يقال: دِنتُه بما صنع، أي: جازيته.
ويقال - في مَثَلٍ-: "كما تَدِينُ تُدَانُ" يراد: كما تَصنع، يُصنَع بك، وكما تُجَازِي، تُجَازَى.
6-
و {الصِّرَاطَ} ال طريق، ومثله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (الأنعام: 153)، ومثله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52)
7-
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يعني: الأنبياء والمؤمنين.
و {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} : اليهود.
و {الضَّالُّونَ} : النصارى
ثالثاً: اختلاف عناوين كتب الغريب القرآني.
اختلفت عناوين كتب الغريب القرآني، اختلافاً واضحاً!
فإلى جوار العنوان المعروف: غريب القرآن، وما يتصل به، رأيتُ - في هذا المجال- عناوين مغايرة.
فقد ألفت كتب - في الغريب - تحت عنوان: مجاز القرآن، لأبي عبيدة (ت210هـ)
وأخرى تحت عنوان: معاني القرآن، مثل:
1-
معاني القرآن - للفراء (ت207هـ)
2-
معاني القرآن - للأخفش (ت215هـ)
3-
معاني القرآن وإعرابه - للزجاج (ت311هـ)
وثالثة تحت عنوان: كتاب الحروف في معاني القرآن - للمبرد (ت286هـ)
ورابعة تحت عنوان: مفردات ألفاظ القرآن - للراغب الأصفهاني (ت في حدود 425هـ)
وغير ذلك من العناوين المختلفة.
ولكن: على الرغم من اختلاف هذه العناوين، فإن الاهتمام - فيها - منصب على تفسير غريب القرآن، حيث تحمل بين طياتها: شرحاً للكلمة الغريبة في القرآن الكريم، والاستدلال عليها، وتوضيح معانيها (1) .
ولذلك أذهب مذهب من قال (2) : إن هذه الأسماء: "مترادفة، أو كالمترادفة، في عرف المتقدمين".
وقد وهم كثير من الباحثين المتأخرين، فقالوا:"إن (مجاز القرآن) من كتب البلاغة! وهو خطأ شائع! ".
فليس المراد بالمجاز - في هذا العنوان - المجاز المصطلح عليه عند البلاغيين، وإنما المراد منه: معرفة معاني ألفاظه.
ويدل على ذلك: أن صاحب الكتاب (أبا عبيدة - ت210هـ) يستعمل في تفسيره هذه العبارات: مجازه كذا، وتفسيره كذا، ومعناه كذا، وغريبه كذا، وتأويله كذا. وكلها عبارات تؤدي إلى معرفة معاني الألفاظ (3) .
وقد تحرّج الدكتور حسين نصار، من إدخال الكتب، التي تحمل اسم: معاني القرآن، ضمن كتب الغريب، وذهب إلى أنها: النواة الأولى للتفسير، كما أنها - في رأيه - أقرب إلى كتب الشروح منها، إلى الكتب اللغوية.
ثم ذكر الفرق بينها، وبين كتب التفسير، قائلاً:(4) » إن كتب المعاني: كانت تختار من الآيات، أما كتب التفسير: فكانت تحاول أن لاتترك شيئاً بغير شرح «
(1) انظر: تحفة الأريب: مقدمة التحقيق: ص 25، 26.
(2)
هو: السيد أحمد صقر - تفسير غريب القرآن - لابن قتيبة - مقدمة التحقيق: ص: ج.
(3)
انظر: مجاز القرآن - لأبي عبيدة - تح. د. محمد فؤاد سزكين - مقدمة التحقيق: ص 18،19 - نشر مكتبة الخانجي بمصر، والعمدة في غريب القرآن- لمكى بن أبي طالب -تح. يوسف المرعشلي: ص 18.
(4)
المعجم العربي: 1/49.
ولكن المهتمين بأمر غريب القرآن - من السلف والخلف - يذهبون - كما ذكرت سابقاً - إلى أن كتب معاني القرآن، هي من كتب الغريب، وإن كانت قد توسعت بعض الشيء.
وهذا التوسع: اقتضته الظروف الثقافية، والعلمية للمسلمين، وتغيرها من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، مما جعلهم يحتاجون إلى مزيد من الشرح، والإيضاح، لغريب القرآن الكريم.
وتعالوا معي نطل على منهج أحد كتب الغريب القرآني، التي تُوجت بعنوان: معاني القرآن، وليكن كتاب (معاني القرآن وإعرابه) للزجاج (1)(ت311هـ) حتى نستطيع أن نحكم في هذا الأمر، حكماً سليماً!
يقول محقق الكتاب (2) :
ومنهج الزجاج في تفسيره أن يبدأ عقب ذكر الآية القرآنية، باختيار ألفاظ منها، ليحللها على طريقته هو، في الاشتقاق اللغوي، فيذكر أصل الكلمة، والمعنى اللغوي، الذي تدل عليه، ثم يورد الكلمات التي تشاركها في حروفها، أو بعضها، ليردها جميعاً إلى أصل واحد.
ويستشهد على رأيه، بما يؤيده من كلام العرب، شعراً أو غير شِعر.
وقد يستطرد: فيشرح الأمثلة التي يستشهد بها، ثم يعود لإعراب الآية، إن كان فيها ما يحتاج إلى إعراب - إلخ.
ثم يقول المحقق (3) :
(1) شرح وتحقيق د. عبد الجليل شلبي - ط1 - نشر عالم الكتب ببيروت: 1408هـ / 1988 م.
(2)
المرجع السابق: ص 22 من مقدمة التحقيق.
(3)
معاني القرآن الكريم وإعرابه: ص26،27
وإذا كان الزجاج قد جعل همه الأول: هو الناحية اللغوية، متحملاً - وحده- مسؤوليتها، وألقى على المفسرين: مسؤولية التفسير النقلي: فإنه لم يتخل عن الدفاع عن الإسلام، وشرح بعض مسائله بإطالة، كلما سنحت فرصة، أوْ وُجِدَ داع.
فهو أفاض في شرح مسائل من الميراث، ودافع ضد الرافضة، والشيعة دفاعاً يستحق التقدير، إذ لم يترك فيه لهما منفذاً، ولا وجهة نظر يؤيدان بها آراءهما.
ولكنه - حتى في هذا الدفاع - معتمد على اللغة، واستخراج دقائقها.
وقدرته - على إفحام هؤلاء - ترتكز على أسس من اللغة، أكثر مما تعتمد على أي شيء آخر. أ. هـ.
فها أنتم ترون: أن الزجاج - في معاني القرآن وإعرابه - قد توسع في شرحه، وتناول قضايا فقهية، أملتها عليه الظروف الثقافية، والسياسية، في زمانه، الذي كانت تنتشر فيه فرق الرافضة، والشيعة.
كما رأيتم أنه كان - في دفاعه عن الإسلام، ضد الفرق المنحرفة - يعتمد على اللغة، واستخراج دقائقها.
وقد كان - في كل أموره - ملتزماً حدود التفسير اللغوي، ولم يجاوزه إلى غيره، حيث ترك أمر التفسير النقلي، إلى المفسرين، الذين يُعنون بكل ما يتصل بالقرآن من شؤون.
وهاهو السيوطي (ت911هـ) يفسر الحديث: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه"(1)
فيقول: (2)"ليس المراد: الإعراب المصطلح عليه عند النحاة، بل المراد: معرفة معاني ألفاظه".
أما الزركشي (ت794هـ) - في برهانه - فقد قال (3) :
النوع الثامن عشر: معرفة غريبه، وهو معرفة المدلول.
وقد صنف فيه جماعة، منهم أبو عبيدة (4)(كتاب المجاز) - إلخ
ثم ذكر قول الشيخ أبي عمرو بن الصلاح (عثمان بن عبد الرحمن - ت643هـ)
"وحيث رأيت - في كتب التفسير - قال أهل المعاني: فالمراد به:
مصنفوا الكتب، في معاني القرآن، كالزجَّاج، ومَن قَبله"
وكل ما سبق ذكره: يدعوني إلى أن أسلك كتب الغريب القرآني، التي جاءت تحت عناوين: مجاز القرآن، أو معاني القرآن، ضمن الكتب، التي اهتمت بالغريب القرآني، وجعلته محور القول فيها، إلى جانب الكتب، التي نصت - في عناوينها- على معالجتها للغريب.
(1) هذا الحديث: قال عنه الشيخ الألباني: " أخرجه ابن أبي شيبة، في المصنف (12/57/1) وأبو يعلى، في مسنده (ق 306/1) وأبو عبيد، في فضائل القرآن - ولكنه حديث ضعيف جداً ". - انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة - المجلد الثالث: ص 522- نشر مكتبة المعارف بالرياض: 1408هـ/1988م.
(2)
الإتقان: 2/3.
(3)
البرهان في علوم القرآن: ص 291.
(4)
في المرجع السابق - نفسه: أبو عبيد، وهو تصحيف.
رابعاً: اختلاف أهل الغريب - في التأليف - عن أهل التفسير
اختلف أهل الغريب القرآني - في تآليفهم - عن أصحاب تفسير القرآن الكريم، اختلافاً كبيراً:
فأهل الغريب: لهم طرقهم الخاصة، في حشد الألفاظ المفسرة، وترتيبها - كما سبق ذكره - ليسهل الوصول إلى كل لفظ مفسر في محله، حسب منهج كل كتاب.
وبالإضافة إلى ذلك: فإنهم يختلفون عنهم، في مجال الاهتمامات، والألفاظ التي تعالج تفسيرياً.
فأهل الغريب: يعنون بتفسير مفرداتٍ، يرى كل مؤلف - حسب مقاييس معينة -أنها غريبة، أو تحتاج إلى إيضاح لغوي، أو نحوي، أو غيره.
أما أهل التفسير: فإنهم - في غالبهم - يعنون بآيات القرآن كلها، وبمفرداته جميعها، وبأدواته، وجُمله، وتراكيبه.
كما يجمع المفسر كل ما قيل حول الآية، من ناحية: أسباب النزول، واللغة، والنحو، واللهجات، والقراءات، والأحكام الشرعية، وغير ذلك، مما له تعلق بتفسير الآيات القرآنية (1) .
وهناك فارق جوهري آخر، هو: أن كتب التفسير تتصل جميعها باللغة، وتعتمد عليها، ولكن بدرجة أقل من صلة كتب غريب القرآن بها (2) .
(1) انظر: تفسير المشكل من غريب القرآن - لمكي بن أبي طالب - تح.د. علي حسين البواب: ص 7 من مقدمة التحقيق - نشر مكتبة المعارف بالرياض: 1406هـ / 1985م.
(2)
انظر: المعجم العربي: 1/49.