المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعأين كان موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم - مقام إبراهيم - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الفصل الرابعأين كان موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

‌الفصل الرابع

أين كان موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

في هذا ثلاثة أقوال:

الأوّل: أنّه كان في موضعه الذي هو به الآن. والأدلة الصحيحة الواضحة تردّ هذا القول، كما يأتي في القول الثالث. ولكنّي أذكر ما جاء في هذا، مع النظر فيه؛ ليعرف:

أخرج الأزرقيّ

(1)

عن ابن أبي مُليكة قال: "موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلاّ أنّ السيل ذهب به في خلافة عمر رضي الله عنه، فجُعِلَ في وجه الكعبة حتى قدم عمر، فردّه بمحضرٍ من الناس".

سند الأزرقي رجاله ثقات، وابن أبي مُليكة من ثقات التابعين، لكنّ الأزرقيّ نفسه لم يوثّقه أحدٌ من أئمة الجرح والتعديل، ولم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم، بل قال الفاسيّ في ترجمته من "العقد الثمين"

(2)

: "لم أر من ترجمه".

فهو ــ على قاعدة أئمة الحديث ــ مجهول الحال، وقد تفرّد بهذه الحكاية، والله أعلم.

(1)

"أخبار مكة"(2/ 35).

(2)

(2/ 49).

ص: 457

وقال الأزرقيّ

(1)

أيضًا: حدّثني جدّي، حدّثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلّب بن أبي وَداعة السَّهميّ عن أبيه عن جدّه قال: "كانت السيولُ تدخل المسجدَ الحرام

ربّما دفعت المقام عن

(2)

موضعه، وربّما نَحَّتْه إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيلٌ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقال له: سيل أمّ نَهْشل .. فاحتمل المقام من موضعه، فذهب به، حتّى وُجدَ بأسفل مكة، فأُتي به، فرُبطَ إلى أستار الكعبة في وجهها، وكُتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأقبل عمر رضي الله عنه فَزِعًا، فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غُمّي موضعُهُ وعفّاه السيل، فدعا عمر بالنّاس، فقال: أَنشُد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام، فقال المطَّلب بن أبي وَداعة السّهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه هذا، فأخذتُ قَدْرَه من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحِجْر، ومن موضعه إلى زمزم بمِقَاطٍ

(3)

، وهو عندي في البيت، فقال له عمر: فاجلسْ عندي. وأرسِلْ إليها، فأُتي بها، فمدّها، فوجدها مستويةً إلى موضعه هذا، فسأل النّاس وشاورهم، فقالوا: نعم هذا موضعه، فلمّا استثبت ذلك عمر رضي الله عنه وحُقَّ عنده أمر به، فأعلم ببناء رَبَضِه تحت المقام ثم حوّله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم".

جدُّ الأزرقي وداود وابن جريج وكثير بن كثير: ثقاتٌ، لكن له عدّة علل:

الأولى: حال الأزرقي كما مرّ.

(1)

"أخبار مكة"(2/ 33).

(2)

في المطبوعة: "من"، والتصويب من المخطوط وكتاب الأزرقي.

(3)

المقاط: الحبل الصغير الشديد الفتل يكاد يقوم من شدة فتله.

ص: 458

الثانية: أنّ ابن جريج ــ على إمامته ــ مشهورٌ بالتدليس، ولم يُصرّح هنا بالسماع من كثير بن كثير.

الثالثة: أنّه قد صحّ عن ابن جريج قولُه: "سمعت عطاء وغيره من أصحابنا

" فذكر ما سيأتي في القول الثالث، على وجهٍ يُشعِر باعتماده له.

الرابعة: أنّ كثير بن المطلب مجهول الحال

(1)

، ولا يُخرِجه عن ذلك ذِكْرُ ابن حبان له في "الثقات" على قاعدته التي لا يوافقه عليها الجمهور.

وقد روى ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جدّه حديثًا، فذكر ابن عيينة أنّه سأل كثير بن كثير عنه، فقال: ليس من أبي سمعتُه، ولكن من بعض أهلي عن جدّي

(2)

.

وروى غير ابن عيينة عن ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جده حديثًا قريبًا من الأوّل، ولعلّه هو. راجع "المسند"(ج 6 ص 399)

(3)

. فإن كان حديثًا واحدًا فليس لكثير بن المطلب في الكتب الستّة و"المسند" شيء.

نعم أخرج ابن حبّان في "صحيحه"

(4)

الحديث الثاني من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن كثير بن كثير. وفيه ما يقتضي أنّه

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(8/ 429) و"الثقات"(5/ 331).

(2)

انظر "مسند أحمد"(27243) و"سنن أبي داود"(2016) و"معاني الآثار" للطحاوي (1/ 461) و"مشكل الآثار"(2608) و"السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 273).

(3)

رقم (27244).

(4)

رقم (2364).

ص: 459

حديثٌ آخر، لكنّ الوليد شاميّ، ورواية أهل الشام عن زهير أنكرها الأئمة؛ لأنّ زهيرًا حدّثهم من حفظه، فغلط وخلّط

(1)

.

الخامسة: أنّه لمّا جرى ذكر المطَّلب في القصة ذُكِر بما ظاهره أنّ المُخبِر غيرُه: "فقال له المطلب بن أبي وداعة السهميّ

فقال له عمر

".

وهذا يَرِيب في قوله في السند: "عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السّهمي عن أبيه عن جده"؛ ويُشعِر بأنّ الحكاية منقطعة.

وقال الأزرقي

(2)

: حدثني ابن أبي عمر قال: حدثنا ابن عيينة عن حبيب بن أبي الأشرس قال: "كان سيلُ أمّ نهشل قبل أن يعمل عمر رضي الله عنه الرّدمَ بأعلى مكة، فاحتمل المقام من مكانه، فلم يُدْرَ أين موضعه، فلمّا قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل: من يعلم موضعه؟ فقال المطّلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين! قد كنتُ قدّرتُه وذَرعتُه بمقاط ــ وتخوفتُ عليه هذا ــ من الحِجر إليه، ومن الركن إليه، ومن وجه الكعبة إليه، فقال: ائْتِ به، فجاء به، ووضعه في موضعه هذا، وعمِلَ عمرُ الردمَ عند ذلك".

قال سفيان: فذلك الذي حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه: "أنّ المقام كان عند سُقْع

(3)

البيت، فأمّا موضعه الذي هو موضعه: فموضعه الآن، وأمّا ما يقوله الناس: إنّه كان هنالك موضعه، فلا".

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(3/ 349، 350).

(2)

"أخبار مكة"(2/ 35).

(3)

في كتاب الأزرقي: "سفع" وهو تصحيف. وفي المخطوطة: "صُقْع"، والسُّقع والصُّقع بمعنى الناحية. انظر "القاموس"(سقع).

ص: 460

قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوًا من حديث ابن [أبي]

(1)

الأشرس هذا، لا أُميّز أحدهما عن صاحبه.

الأزرقي قد تقدّم حاله.

لكن قال الفاسيّ في "شفاء الغَرام"(ج 1 ص 206): وروى الفاكهيّ

(2)

عن عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة مثل ما حكاه عنهما الأزرقيّ بالمعنى.

أقول: ليته ساق خبر الفاكهيّ؛ فإنّ الفاكهيَّ وإن كان كالأزرقيّ في أنّه لم يوثّقه أحدٌ من المتقدمين ولا ذكره، فقد أثنى عليه الفاسيّ في ترجمته من "العقد الثمين"

(3)

، ونزّهه عن أن يكون مجروحًا، وفضّل كتابه على كتاب الأزرقي تفضيلاً بالغًا، ومع هذا فالأخبارالتي يتفقان في الجملة على روايتها نجد الفاسيّ ومِن قبلِه المحب الطبري يُعنَيانِ غالبًا بنقل رواية الأزرقيّ، ويسكتان عن رواية الفاكهي، أو يشيران إليها إشارة فقط.

وأحسب الحامل لهما على ذلك حسن سياق الأزرقي.

وقد قيل لشعبة رحمه الله: مالك لا تحدّث عن عبد الملك بن أبي سليمان، وقد كان حسن الحديث؟ قال: مِنْ حُسْنها فررتُ

(4)

.

ويَرِيبني من الأزرقي حسنُ سياقه للحكايات وإشباعُه القولَ فيها، ومثل ذلك قليلٌ فيما يصح عن الصحابة والتابعين.

(1)

الزيادة من الأزرقي. وهو حبيب بن أبي الأشرس كما سبق.

(2)

في "أخبار مكة"(1/ 456).

(3)

(1/ 411).

(4)

انظر "تهذيب التهذيب"(6/ 397).

ص: 461

ويَرِيبني أيضًا منه تحمُّسُه لهذا القول؛ فقد روى (ج 2 ص 23)

(1)

عن ابن أبي عمر بسندٍ واهٍ إلى أبي سعيد الخدري، أنّه سأل عبدا لله بن سلام عن الأثر الذي في المقام، فقال: "كانت الحجارة

وذكر الخبر، وفيه في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم :"فصلّى إلى الميزاب وهو بالمدينة، ثمّ قدم مكة، فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة".

وقد روى الفاكهي

(2)

هذا الخبر كما ذكره الفاسيّ في "شفاء الغرام"(ج 1 ص 206)، ولم يَسُقْ الفاسيّ سنده ولا متنه بتمامه، إنّما ذكر قطعة منه، هي بلفظها في رواية الأزرقي. ثم قال:"وفيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة من المدينة، فكان يصلّي إلى المقام، وهو مُلْصَقٌ بالبيت، حتّى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

أسقط الأزرقيّ في روايته قوله: "وهو ملصق بالبيت حتّى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وجعل موضعها:"ما كان بمكة".

وقال في (ج 2 ص 27)

(3)

: حدّثني محمد بن يحيى قال: حدّثنا سُليم بن مسلم عن ابن جريج عن محمد بن عبّاد بن جعفر عن عبدا لله بن صفوان قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن السائب العابديّ ــ وعمر نازلٌ بمكة في دار ابن سباع ــ بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، قال: فحوَّلَه ثم صلّى المغرب، وكان عمر قد اشتكى رأسه، قال

(1)

(2/ 30) ط. رشدي ملحس.

(2)

في "أخبار مكة"(1/ 442). وفي إسناده شيخ الفاكهي: عبد الله بن شبيب الربعي، أخباري ضعيف. انظر "لسان الميزان"(4/ 499).

(3)

(2/ 35).

ص: 462

[عبد الله بن السائب]

(1)

: فلمّا صليتُ ركعةً جاء عمر فصلّى ورائي، قال: فلمّا قضى صلاته، قال عمر: أحسنتَ، فكنتُ أوّل من صلّى خلف المقام حين حُوّل إلى موضعه". عبد الله بن السائب القائل.

ولم تَرُقْ الأزرقيَّ كلمةُ "حُوّل" فعقّبه بقوله: "حدثني جدّي قال: حدثنا سليم بن مسلم عن ابن جريج عن محمد بن عبّاد بن جعفر عن عبد الله بن السائب ــ وكان يصلّي بأهل مكة ــ فقال: "أنا أوّل من صلّى خلف المقام حين رُدّ في موضعه هذا

".

هذا؛ وأمّا بقية السند بعد الأزرقيّ: فشيخه ابن أبي عمر سيأتي. وسفيان بن عيينة إمام. وحبيب بن أبي الأشرس ضعيف، راجع ترجمته في "الميزان" و "لسانه"

(2)

.

وعمرو بن دينار ثقةٌ جليل، لكن لا يُدرَى ما قال. نعم يستفاد إجمالاً أنّه قد ذكر ما يتعلّق بالتقدير.

فأمّا ما ذكر في هذه الرواية من رأي ابن عيينة فقد ثبت عنه

(3)

ما يناقضه برواية ابن أبي حاتم الرازي وهو إمام، عن أبيه، وهو من كبار الأئمة المتثبتين، عن ابن أبي عمر شيخ الأزرقي، عن ابن عيينة نفسه. وسيأتي.

وأبو حاتم هو القائل في ابن أبي عمر هذا ــ شيخه وشيخ للأزرقي ــ: "كان شيخًا صالحًا، وكان به غفلة، رأيت عنده حديثًا موضوعًا حدّث به عن

(1)

هذه الزيادة من المؤلف على نصّ الأزرقي، لتوضيح القائل.

(2)

"الميزان"(1/ 450، 454) و"اللسان"(2/ 544).

(3)

"عنه" ساقطة من المطبوع. وهي مثبتة في المخطوط.

ص: 463