الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسندٍ صحيح عن ابن عيينة قال: "كان المقام في سُقع البيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوّله عمر، فجاء سيلٌ فذهب به، فردّه عمر إليه"، قال سفيان:"لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا؟ ".
هذا بغاية من الصحة عن سفيان بن عيينة؛ كما تقدم أواخرَ الكلام على القول الأول.
تمحيص هذه الأقوال
قد يُنتصر للأوّل بأنّ عمر رضي الله عنه لم يكن ليخالف النبي صلى الله عليه وسلم.
وما معنى تقدير المطَّلب وتحرّي عمر؟
فالظاهر أنّ المقام لم يزل بموضعه اليوم، فقدّره المطّلب منه، فذهب به السيل، وطمس موضعه، فجُعل بجنب الكعبة حتى يقدم عمر، فقدم وتحرّى، وردّه حيث كان.
وكأنّ هذه القضية بلغت بعضَ الناس مجملةً أنّه كان بجنب الكعبة، وأنّ عمر نقله إلى موضعه اليوم، فتوهّموا أنّه كان بجنب الكعبة منذ قديم، فراحوا يخبرون بذلك.
ويُنتصَر للثاني بأنّ أولئك الأئمة لم يكونوا ليتوهموا بدون أصل، فلعلّ النبي صلى الله عليه وسلم حوّل المقام أخيرًا، ولم يبلغهم ذلك، وثبت عندهم أنّه قد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بجنب الكعبة، فاستصحبوا ذلك، والباقي كما مرّ.
ويُنتصَر للثالث بأنّه قد يقع من عمر رضي الله عنه ما هو في الصورة مخالفة، وهو في الحقيقة موافقة بالنظر إلى مقاصد الشرع واختلاف الأحوال، وقد يخفى علينا وجه ذلك، ولكنّا نعلم أنّ الصحابة رضي الله عنهم
لا يُجمعون إلاّ على حقّ.
وتقدير المطَّلب وتحرّي عمر ــ إن صحّ ــ فقد يخفَى علينا سببه.
وإذا كان ذلك محتملاً؛ فليس لنا أن نجعل جهلنا به حجةً على توهيم أولئك الأئمة وهم هم، ومنهم عطاء وقَدمُه وفضلُ علمه بالمناسك، ومجاهد وقَدمُه وفضلُ علمه بالتفسير، ومالك وابن عيينة، وهما هما.
ولم تكن قضية المطّلب لِتخفَى على أئمة مكة: عطاء ومجاهد وابن عيينة، بل قد ذكرها الأخيران فيما روي عنهما، والمخالف لهؤلاء ليس مثلَهم، ولا قريبًا منهم؛ فهو أحقُّ بالوهم.
أقول: قد أغنانا الله ــ وله الحمد ــ عن هذا الضرب من الاحتجاج بثبوت النقل عمّن لا يمكن أن يُظنَّ به التوهم.
أخرج البيهقي
(1)
من طريق أبي ثابت ــ وهو محمد بن عبيدالله المدني
(2)
، ثقة من شيوخ البخاري في "صحيحه" ــ عن الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه
(3)
عن عائشة رضي الله عنها، أنّ المقام كان زمانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمانَ أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت، ثمّ أخَّره عمر رضي الله عنه".
(1)
في "دلائل النبوة"(2/ 63). وعزاه السيوطي في "الدر المنثور"(1/ 629) إلى "سننه"، ولا يوجد فيه.
(2)
انظر "تهذيب التهذيب"(9/ 324).
(3)
"عن أبيه" ساقطة من المطبوع، وزيدت من مخطوطة المؤلف، وكذا في "الدلائل" و"تفسير ابن كثير".
ذكره ابن كثير في "تفسيره"
(1)
بسند البيهقي، ورجاله ثقات. وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح. وذكره ابن حجر في "الفتح"
(2)
، وقال: بسند قوي.
وذكر الفاسي في "شفاء الغرام"
(3)
: أنّ الفاكهيّ روى عن يعقوب بن حُمَيد بن كاسب قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه ــ قال عبد العزيز: أُراه عن عائشة ــ: "أنّ المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُقع البيت".
يعقوب بن حُميد متكلَّم فيه، ووثّقه بعضهم
(4)
. والاعتماد على حديث أبي ثابت.
وقال البخاري في "صحيحه"
(5)
في أبواب القبلة: باب في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، ثمّ ذكر حديث ابن عمر
(6)
رضي الله عنهما لمّا سُئل عن رجلٍ طاف بالبيت للعمرة، ولم يَطُفْ بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فطاف بالبيت سبعًا، وصلّى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة" الحديث.
(1)
(1/ 612).
(2)
(8/ 169).
(3)
(1/ 207). والنصّ عن الفاكهي (1/ 455) والأزرقي (2/ 35).
(4)
انظر "تهذيب التهذيب"(11/ 383).
(5)
(1/ 499) مع "الفتح".
(6)
رقم (395).
ثم حديث ابن عمر
(1)
وحديث ابن عباس
(2)
رضي الله عنهم في دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة.
وفي الأوّل: "ثم خرج فصلّى في وجه الكعبة ركعتين".
وفي الثاني: "فلمّا خرج ركع ركعتين في قُبُلِ الكعبة، وقال: "هذه القبلة".
والقدوم الذي ذكره ابن عمر في حديثه الأول كان في عمرة؛ لأنّ ابن عمر أجاب به السائل عن العمرة، وأُراها عمرة القضية.
وفي "المسند"(ج 4 ص 355)
(3)
من حديث ابن أبي أوفى: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، وطفنا معه، وصلى خلف المقام وصلينا معه
…
".
وسنده بغاية الصحة. وقد أخرجه البخاري مختصرًا في "باب عمرة القضية" من المغازي
(4)
.
وذكر ابن حجر
(5)
هناك مَنْ صرّح فيه بقوله: "في عمرة القضية"، وسياقه واضحٌ في ذلك.
ولفظ "وجه الكعبة" ورد في عدة أخبارٍ تقدّمت.
وفي "القِرَى"(ص 315) عن ابن عمر: "البيت كلُّه قبلة، قبلته وجهه".
(1)
رقم (397).
(2)
رقم (398).
(3)
رقم (19131).
(4)
رقم (4255).
(5)
في "الفتح"(7/ 509).
نسبه إلى سعيد بن منصور.
والمراد به في تلك الأخبار ــ كما يقضي به سياقُها ــ تارةً: جدارُها المقابل لموضع المقام الآن، وتارةً: ما بجانب هذا الجدار من المطاف.
والأخبار التي أطلقته على هذا تُبيّن أنه ليس منه موضع المقام الآن، بل هو الموضع الذي كان فيه المقام قبل أن يُحوِّله عمر رضي الله عنه إلى موضعه الآن.
ولفظ "قُبُل الكعبة" في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هو أيضًا ذاك الموضع.
وابن عباس إنّما سمع هذا الحديث من أسامة رضي الله عنه كما بيّنه ابن حجر في "الفتح"
(1)
، وراويه عن ابن عباس عطاء، يرويه عطاء تارة عن ابن عباس عن أسامة، وتارة عن أسامة نفسه.
وقد تقدّم قول عطاء: "إنّ عمر رضي الله عنه أوّل من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنّما كان في قُبُل الكعبة".
بل ثبت في حديث عطاء عن أسامة عند النسائي
(2)
بسند رجالُه ثقات: "
…
ثمّ خرج فصلّى خلف المقام ركعتين، وقال:"هذه القبلة".
ويؤيد ذلك ما في "السيرة" عن ابن إسحاق
(3)
: حدّثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة أنّ
(1)
(1/ 501).
(2)
(5/ 220).
(3)
انظر "سيرة ابن هشام"(2/ 411).
رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل مكة واطمأنّ الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف على راحلته، يستلم الرُّكن بمِحْجَنٍ في يده، فلمّا قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها
…
".
محمد بن جعفر وعبيدالله من رجال "الصحيح". وابن إسحاق حسن الحديث.
فهذا الخبر يدلُّ على أنّ صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خروجه كانت ركعتي الطواف، ومن سنته صلى الله عليه وسلم أن يصلّيهما خلف المقام.
فأمّا صلاتُه في الكعبة ــ على القول بها ــ فهي تحيّتها.
ثبت بما تقدم أنّ صلاته صلى الله عليه وسلم عقبَ خروجه من الكعبة كانت خلف المقام، وأنّ المقام حينئذٍ كان عند جدار الكعبة.
لمّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة كان ابن عمر غائبًا، فبلغه ذلك، فأقبل "يركبُ أعناقَ الرجال"، "المسند"(ج 6 ص 13)
(1)
، فجاء وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم ، وبلال في الكعبة لمّا يخرج، فكان هَمُّ ابن عمر أن يزاحم ليسأل بلالاً: ماذا صنع النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟
وفي تلك الأثناء صلّى النبي ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ خارج الكعبة.
فكأنّ ابن عمر اشتغل بالمزاحمة والمساءلة، فلم يُحقّق أإلى المقام صلّى النبي صلى الله عليه وسلم أم عن يساره، أم عن يمينه؟ فاقتصر على قوله:"في وجه الكعبة".
(1)
رقم (23897). وإسناده ضعيف، لضعف عثمان بن سعد أحد رجال الإسناد.
فأمّا ما في أكثر روايات حديث أسامة رضي الله عنه: "في قُبُل الكعبة"، فيظهر أنّ ذلك مراعاة لقوله عقب ذلك: وقال: "هذه القبلة".
خشي أن يتوهّم أنّ الإشارة إلى المقام، مع قول الله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ؛ فعدل إلى قوله: "في قُبُل الكعبة"؛ ليعلم أنّ الإشارة إليها، أو إلى ذلك الموضع منها، كما يأتي.
في "صحيح مسلم"
(1)
عن جابر ــ في حجّة الوداع، بعد ذكر الطواف ــ: "ثم نفذَ إلى مقام إبراهيم
…
فجعل المقام بينه وبين القبلة".
هكذا في عدة نسخ من "الصحيح" وكتب أخرى
(2)
.
وذكره الطبري في "القِرَى"(ص 310) بلفظ: "ثم تقدّم"
(3)
، وكذا نقله الفاسيّ
(4)
عنه.
(1)
رقم (1218).
(2)
انظر "المنتقى" لابن الجارود (469).
(3)
هذا اللفظ في كثير من مصادر السنة، انظر:"سنن أبي داود"(1905)، والدارمي (1857) و"صحيح ابن حبان"(3944) و"مسند عبد بن حميد"(1135) و"مصنف ابن أبي شيبة"(ص 378، 427 ــ من الجزء المفقود) و"السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 7، 91) و"دلائل النبوة"(5/ 534). وهو بلفظ "عمد" في "مسند أحمد"(14440) و"صحيح ابن خزيمة"(2754) و"منتقى ابن الجارود"(465). وبلفظ "قام" في "سنن النسائي"(5/ 235، 241) وابن ماجه (3074). وبلفظ "أتى" في "سنن الترمذي"(856) والنسائي (5/ 228) وابن ماجه (1008، 2960) و"صحيح ابن خزيمة"(2755) و"مصنف ابن أبي شيبة"(ص 422). وبلفظ "انطلق" عند ابن حبان (3943)، وبلفظ "ذهب" عند البيهقي (5/ 90).
(4)
في "شفاء الغرام"(1/ 206).
وزعم الطبري أنّه يُشعِر بأنّ المقام لم يكن حينئذٍ ملصقًا بالكعبة. ولم يصنع شيئًا.
أمّا كلمة "تقدّم" ــ إن صحّت ــ فدلالتها على الملاصقة أقرب؛ لأنّه كان في الطواف، فأنهاه عند الرّكن، فإذا واصل مَشْيه بعد ذلك إلى يَمْنة الباب فهذا تقدُّم، ولو كان المقام حينئذ في موضعه الآن لكان المشي إليه مشيًا عن الكعبة، فكان حقُّه أن يقال:"تأخَّر".
وأمّا قوله: "فجعل المقام بينه وبين الكعبة" فلا يخفى أنّ المصلِّي إلى المقام إذ كان بِلِصْقِ الكعبة إمّا أن يكون عن يمينه، أو يساره، أو خلفه، فإذا كان خلفه فقد جعله بينه وبين الكعبة.
فقد ثبت بما تقدّم ــ لا سيّما حديث عائشة رضي الله عنه ــ صحّةُ القول الثالث الذي عليه أئمة مكّة: عطاء ومجاهد وابن عيينة، مع أنّ الإنصاف يقضي بأنّ قولهم مجتمعين يكفي وحده للحجّة في هذا المطلب، والله أعلم.
* * * *