الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
وتعليم الناس دين الله.
3-
والجهاد لإعلاء كلمة الله.
4-
والصبر على الأذى والمشاق في سبيل الله.
فتخرج على أيدي هؤلاء الأئمة الأعلام تلاميذ نجباء كانوا على حمل الرسالة من بعد أشياخهم أمناء، وهكذا خرّج كل جيل جيلاً بعده يحمل الرسالة ويؤدي الأمانة، وهذا من حفظ الله لهذا الدين، الذي ختم به الأديان.
وكان من يهتدي بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده ويسلك منهجهم في كل صغيرة وكبيرة يُعرفون بأهل السنة والجماعة ومن هؤلاء أهل الحديث المشتغلون بالسنة النبوية وخدمتها قولاً وعملاً، بل أصبحت لفظة أهل الحديث ترادف كلمة "أهل السنة والجماعة" إذا أطلقت وخاصة من نهاية القرن الثالث وما بعده1، وإن كان يدخل فيها غير المحدثين ممن نهج نفس المنهج من الفقهاء والأصوليين وأهل اللغة وغيرهم.
ومن خالف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام عُرفوا بأصحاب الأهواء أو "المبتدعة"، وعلى رأس هؤلاء الخوارج والروافض والجهمية والقدرية والمرجئة والمعتزلة وغيرهم من تلك الطوائف المنحرفة عن ذلك المنهج القويم.
وكلمة "أهل الحديث" أصبحت علماً- في القرون الثلاثة المفضلة- على من اتصف بهذه الصفات:
1 انظر رسالة "عقيدة السلف أصحاب الحديث للإمام أبي عثمان الصابوني رحمه الله". ط. الدار السلفية، بالكويت.
1-
الاشتغال بخدمة السنة النبوية سنداً ومتناً حيث ظهر على أيديهم علم الرجال وعلم مصطلح الحديث الذي امتازت به الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم.
2-
الالتزام بالكتاب والسنة قولاً وعملاً، عقيدة وعبادة، معاملات وسلوكاً، سياسة واجتماعاً، مع فهمها الفهم الصحيح على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
3-
عدم تأويل آيات وأحاديث الصفات أو صرفها عن ظاهرها بغير دليل.
4-
عدم تحكيم العقل والهوى في النصوص بدون دليل صحيح، كما فعل المبتدعة من جهمية ومعتزلة وغيرهم ممن إنحرف عن منهج أهل السنة والجماعة.
5-
فضح أهل البدع والأهواء وهتك استارهم ببيان ضلالهم وانحرافهم وتحذير الأمة منهم ومن ضلالتهم، كل ذلك نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
6-
الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله وذلك بالسنان والبيان كما فعل سلفهم الصالح من الصحابة رضي الله عنهم.
وقد وصف الحافظ ابن حبان في مقدمة صحيحه أهل الحديث فقال: "
…
ثم اختار طائفة لصفوته، وهداهم للزوم طاعته، من إتباع سبل الأبرار، في لزوم السنن والآثار، فزين قلوبهم بالإيمان، وأنطق ألسنتهم بالبيان، من كشف أعلام دينه واتِّباع سنن نبيه بالدؤوب في الرحل والأسفار، وفراق الأهل والأوطار في جمع السنن ورفض
الأهواء، والتفقه فيها بترك الآراء فتجرد القوم للحديث وطلبوه، ورحلوا فيه وكتبوه، وسألوا عنه وأحكموه، وذاكروا به ونشروه، وتفقهوا فيه وأصّلوه، وفرّعوا عليه وبذلوه" 1
وسأعرض تحت هذا العنوان "من أعلام أهل السنة والجماعة" نماذج من أولئك الأئمة الأعلام مبيناً حسب الإمكان جهودهم العلمية والعملية في خدمة هذا الدين وتعلُّمه وتعليمه للناس، لعل شباب الإسلام اليوم يجدّون في الاقتداء بهؤلاء الأئمة ويحذون حذوهم فيحيون منهج أهل السنة والجماعة بين الناس ويكونون النموذج العملي لمبادئ تلك الرسالة كما كان أسلافهم من أهل القرون المفضلة.
1 - 1/ 84-85 من مقدمة صحيح ابن حبان، ط. مؤسسة الرسالة.
عبد الله بن المبارك
وأول ما أبدأ به من هؤلاء الأعلام إمام أهل السنة في خراسان في زمانه وقدوة المتقين في وقته العالم الرباني المجاهد عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم التركي الأب الخوارزمي الأم، ولد سنة ثماني عشرة بعد المئة، وقيل بعدها بسنة وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة1.
قال الإمام الذهبي:.... الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته، طلب العلم وهو ابن عشرين سنة.
فأقدم شيخ لقيه هو الربيع بن أنس الخراساني، قيل: تحيّل ودخل إليه في السجن، فسمع منه نحواً من أربعين حديثاً، ثم ارتحل في سنة إحدى وأربعين ومئة، وأخذ عن بقايا التابعين وأكثر من الترحال والتطواف إلى أن مات في طلب العلم وفي الغزو وفي التجارة والإنفاق على الأخوان في الله، وتجهيزهم معه إلى الحج 1.
سمع ابن المبارك من هشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد، وسليمان الأعمش وسليمان التيمي وحميد الطويل ويحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة ومعمر بن راشد وابن جريج ومالك بن أنس والثورى وشعبة وخلق كثير.
وروى عنه داود العطار وابن عيينة وأبو إسحاق الفزارى ومعتمر بن
1 - سير أعلام النبلاء: 8/336 الطبعة الأولى.
سليمان ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدى وعبد الله بن وهب وعبد الرزاق الصنعاني وخلق غيرهم1.
مكانته العلمية:
قال الخطيب البغدادى: كان ابن المبارك من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ ومن المذكورين بالزهد.
وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى يحيى بن آدم قال: كنت إذا طلبت الدقيق من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك آيست منه.
وبإسناده أيضاً إلى أبي أسامة، قال: ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين في الناس.
وبإسناده أيضاً إلى عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأيت أعلم بالحديث من سفيان الثورى، ولا أحسن عقلاً من مالك، ولا أقشف من شعبة، ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك.
وقال الأسود بن سالم: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، وكان من أثبت الناس في السنة إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام.
وقال سفيان بن عيينة: نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه.
وقال العباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء والتجارة والحجة عند الفرق.
1 - تاريخ بغداد: 10/152-153، طبعة الكتبة السلفية بالمدينة.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.
وقال الحسن بن عيسى الماسرجس مولى ابن المبارك: اجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى ومخلد بن الحسين فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والشجاعة والفروسية والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف وقلة الخلاف على أصحابه1.
هذه شهادات أئمة عدول تبين لنا تلك المكانة العالية التي كان يحتلها هذا الإمام المجاهد والعالم الرباني بين علماء الأمة، هذه المكانة لم يكن ينالها ابن المبارك لو أنه آثر أن يعيش كما يعيش غيره من الناس على هامش الحياة آثراً الدعة والراحة على الجد والجهاد والتضحية والبذل.
بل كان همه رحمه الله وشغله الشاغل نصرة هذا الدين وإعلاء كلمة الله فكان يبذل في سبيل ذلك نفسه وماله وعلمه وصحته ووقته رحمه الله ورضي عنه.
جهوده في خدمة منهج أهل السنة والجماعة:
تلقى الإمام ابن المبارك هذا المنهج الصافي عن شيوخه من التابعين وهم تلقوه عن الصحابة رضوان الله عليهم، فبذل رحمه الله في سبيل
1 انظر تاريخ بغداد: 10/ 156-163، سير أعلام النبلاء: 8/ 336-346 هذا، وهناك أقوال كثيرة في الثناء عليه وبيان مكانته آثرت الاقتصار هنا على أهمها وأجمعها.
تأصيل ونشر منهج أهل السنة والجماعة كل غال ونفيس لديه.
ولقد كانت حياته رحمه الله كلها خدمة لهذا المنهج وتطبيقاً عملياً لمبادئ منهج أهل السنة والجماعة، وقد عبَّر عن ذلك الأسود بن سالم فيما رواه الخطيب بإسناده إليه قال: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به وكان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام1. أ. هـ
هكذا كان ابن المبارك وهكذا كان السلف الصالح كل حياتهم وحركاتهم وسكناتهم لدينهم الذي يدينون به لله لا مجال لغير ذلك في حياتهم، كلها وليس في حياتهم مجال لازدواج الشخصية.
وهذه نماذج من تلك الجهود التي قام بها ابن المبارك في سبيل تأصيل هذا المنهج والدعوة إليه:
أولاً: في مجال العقيدة:
ا- نظم ابن المبارك قصيدة- من عيون شعره- بيَّن فيها مجمل اعتقاده مع تضمنها الرد على أصحاب الأهواء والمبتدعة من رافضة وخوارج ومعتزلة وفلاسفة وغيرهم.
قال الذهبي: روى إسحاق بن سنين لابن المبارك قوله:
إني امرؤ ليس في ديني لغامزِهِ
…
لينٌ ولستُ على الإسلام طعانا
فلا أسب أبا بكرٍ ولا عمراً
…
ولن أسُبَّ معاذ الله عثمانا
1 تاريخ بغداد: 10/167-168 ط. المكتبة السلفية بالمدينة.
ولا ابن عم رسول الله أشتمه
…
حتى ألبس تحت التراب أكفانا
ولا الزبيرَ حَوَارىَّ الرسول ولا
…
أُهْدي لطلحة شتماً غَرّ أو هانا
ولا أقول عليّ في السحاب إذن
…
قد قلت والله ظُلْماً ثم عدوانا
ولا أقول بقول الجهم إنّ له
…
قولاً يضارع أهلَ الشركِ أحيانا
ولا أقول تَخلّى من خليقتِهِ
…
ربُّ العباد ووليّ الأمرِ شيطانا
ما قال فرعون هذا في تمرُدِهِ
…
فرعون موسى ولا هامان طغيانا
الله يدفع بالسلطان مُعْضِلَةً
…
عن ديننا رحمةً منه ورضوانا
لولا الأئمةُ لم تأمَنْ لنا سُبُلٌ
…
وكان أضعفنا نهباً لأقوانا1
2-
كان لابن المبارك رحمه الله موقف من أهل البدع والأهواء.
وهو موقف المؤمن الواعي لما يدور حوله وما يحاك من الدس والتشويه والتحريف لعقيدة هذه الأمة عقيدة أهل السنة والجماعة، لذلك نجده يوصي أحد تلاميذه فيقول: ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة 2.
1 سير أعلام النبلاء: 8/ 413- 414، ط. الأولى.
2 المرجع السابق: 8/ 353، ط. الأولى.
وهذه بعض تلك المواقف:
- روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية بإسناده إلى ابن المبارك أن رجلاً قال له: يا أبا عبد الرحمن، قد خفت الله تعالى من كثرة ما أدعو على الجهمية، قال: لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء 1.
- وأخرج الذهبي بإسناده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت ابن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية 1.
- وعنه أيضا قال: قلت لعبد الله بن المبارك: كيف يُعرَف ربنا عز وجل؟ قال: في السماء على العرش، قلت له: إن الجهمية تقول هذا، قال: لا تقول كما قالت الجهمية: هو معنا هاهنا 1.
قال الذهبي- معقباً- قلت: الجهمية يقولون: إن الباري في كل مكان، والسلف يقولون: إن علم الباري في كل مكان، ويحتجون بقوله تعالى:{وهو معكم أينما كنتم} (الحديد 4) ، يعني بالعلم، ويقولون: إنه على عرشه استوى، كما نطق به القرآن والسنة.
وقال الأوزاعي وهو إمام وقته: كنا- والتابعون متوافرون- نقول:
إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقة، لا مثل لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة، لا مثل لها 1.
1 سير أعلام النبلاء، للذهبي: 8/ 355-356، ط. الأولى.
- وأخرج الذهبي بإسناده إلى أحمد بن يونس قال: سمعت ابن المبارك قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: من زعم أن هذا مخلوق، فقد كفر بالله العظيم1.
- وفي كتاب السنة لأبي عبد الله أحمد بن حنبل وتذكرة الحفاظ للذهبي عن ابن المبارك قال: من قال أن القرآن مخلوق فهو زنديق2.
- وعن علي بن الحسن بن شقيق أن ابن المبارك قال: القرآن كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق3.
- روى أبو عثمان الصابوني بإسناده إلى ابن المبارك قال: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن، ومن قال: لا أومن بهذا الكلام فقد كفر4.
- وأخرج أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى عمار بن عبد الجبار قال: سمعت ابن المبارك يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: الجهمية كفار والقدرية كفار، فقلت لابن المبارك: فما رأيك؟، قال: رأي رأي سفيان5.
- وفي كتاب السنة للإمام أحمد، عن إبراهيم بن شماس قال: سمعت ابن المبارك يقول: الإيمان قول وعمل، الإيمان يتفاضل6.
- وفي كتاب الصلاة لابن القيم، عن يحيى بن معين قال: قيل لعبد اللة
1 سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/ 355-356، ط. الأولى.
2 السنة لأحمد بن حنبل: 1/7، 24، ط. مكة المكرمة، وتذكرة الحفاظ: 1/279.
3 المصدر السابق.
4 عقيدة أصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني: 13، ط. السلفية بالكويت.
5 حلية الأولياء: 7/28.
6 كتاب السنة: 1/75، ط. السلفية بمكة، سنة 1349 هـ.
ابن المبارك: إن هؤلاء يقولون: من لم يصم ولم يصل بعد أن يقرَّ به فهو مؤمن مستكمل الإيمان، فقال ابن المبارك: لا نقول نحن ما يقول هؤلاء، من ترك الصلاة متعمداً من غير علة حتى أدخل وقتاً في وقت فهو كافر1.
وقوله هذا والذي قبله وما سيأتي هو رد على المرجئة القائلين: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
- روى أبو عثمان الصابوني عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي- ابن راهوية- قال: قدم ابن المبارك الري، فقام إليه رجل من العُّباد- الظن أنه يذهب مذهب الخوارج- فقال له:
يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر، قال: لا أخرجه من الإيمان.
فقال: يا أبا عبد الرحمن على كبر السن صرت مرجئياً، قال: لا تقبلنا المرجئة، المرجئة تقول: حسناتنا مقبولة، وسيئاتنا مغفورة، ولو علمت أني قبلت مني حسنة لشهدت أني في الجنة2.
- قال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: السيف الذي وقع بين الصحابة فتنة ولا أقول لأحد منهم مفتون3.
هذا هو موقف عبد الله بن المبارك من أصحاب البدع والأهواء المنحرفة.
إنه موقف العالم المجاهد العارف لدينه، والناقد البصير لتلك
1 كتاب الصلاة: 63، ط. المكتب الإسلامي.
2 عقيدة أصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني: 70.
3 سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/358.
المبادئ الهدامة التي يدعو إليها أصحاب الأهواء، والمتيقظ لخطر تلك العقائد الدخيلة على الإسلام والمسلمين، والتي أدخلها عليهم أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، وما تؤدي إليه من فساد في الاعتقاد وفساد في الدين وفساد في الأخلاق.
إنه في تلك الأبيات الوجيزة يتبرأ من عقائد الرافضة والخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية والفلاسفة، ويبين فساد مقالاتهم ومذاهبهم وفيما نقلناه من النصوص عنه يصرح ببطلان هذه العقائد المنحرفة، ويتبع ذلك بحكمه بكفر أهلها ممن قامت عليهم الحجة، فهو كغيره من السلف يصرح بتكفير الجهمية والرافضة وغلاة القدرية وغلاة المرجئة.
ثم هو في أثناء ذلك لا يغفل عن بيان منهج أهل السنة والجماعة في الإيمان بالله بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، والوقوف عند نصوص الكتاب والسنة والتسليم لهما، وعدم تقديم العقل عليهما، أو تحكيمه فيهما، وفي احترام الصحابة والترضي عنهم وعدم الخوض فيما جرى بينهم، وكان يحذر من الرواية عمن يسبهم رضي الله عنهم، روى ذلك الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن علي بن شقيق قال: سمعت ابن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو بن ثابت، فانه كان يسب السلف1.
ثانياً: جهاده:
كانت حياة ابن المبارك كلها جهاداً في سبيل الله بنفسه وماله وعلمه. فكان رحمه الله يرابط في الثغور كثيراً، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً،
1 مقدمة صحيح مسلم: 1/16، وعمرو بن ثابت هو ابن أبي المقدام ضعيف، رمي بالرفض، مات سنة 172 هـ، (التقريب: 257) ، ط. الباكستانية.
وما نزل بلداً في رحلته لطلب العلم ثم سمع منادي الجهاد إلا تجهز وخرج للغزو.
وكان رحمه الله يدعو إلى الجهاد ويحث الناس عليه لنصرة دين الله وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
كما كان ينعي على النَّساك القاعدين عن الجهاد كسلهم وخمولهم وسوء فهمهم لمعنى العبادة، ومن ذلك:
ما رواه الخطيب البغدادي بإسناده- إلى ابن المبارك قال: يذم النَّاسك الذي يسكن بغداد:
أيها الناسك الذي لبس الصو
…
ف وأضحى يعد في العباد
الزم الثغر والتعبد به
…
ليس بغداد مسكن الزهاد
إن بغداد للملوك محل
…
ومناخ للقارئ الصياد1
وروى الخطيب أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن محمد قاضي نصيبين قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال: أملى عليَّ ابنُ المبارك سنة سبع وسبعين ومائة هذه الأبيات، وكان مرابطاً بطرسوس، وأنفذها إلى الفضيل بن عياض:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
…
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه
…
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
…
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
…
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا
…
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في
…
أنف امرئ ودخان نار تلهب
1 تاريخ بغداد: 1/ 21، ط. السلفية بالمدينة النبوية.
هذا كتاب الله ينطق بيننا
…
ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأها الفضيل ذرفت عيناه، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح1.
وكان أبن المبارك فارساً شجاعاً ذا خبرة في فنون القتال والمبارزة مع حرصه أن لا يرى موقعه من القتال، كل ذلك ورعاً وحسبة لله سبحانه وتعالى.
روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه ابن المبارك فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس فكنت فيمن ازدحم إليه، فإذا هو يلثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا!! 2.
وأخرج الذهبي بإسناده إلى محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن سنان قال: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان- بطرسوس- فصاح الناس النفير، النفير
…
فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج علج رومي فطلب البراز فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله
…
حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك، فقال: يا فلان إن قتلت فافعل كذا وكذا.
1 تاريخ بغداد: 0 1/ 68 1، سير أعلام النبلاء: 8/.363-364.
2 تاريخ بغداد: 10/167، ط. السلفية بالمدينة النبوية.
ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج معه ساعة، فقتل العلج، وطلب المبارزة فبرز له علج آخر، فقتله، حتى قتل ستة علوج، وطلبه البراز فكأنهم كاعوا- أي جبنوا- عنه، فضرب دابته وطرد بين الصفين، ثم غاب فلم نشعر بشيء، فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله لئن حدثت بهذا أحداً وأنا حي
…
فذكر كلمة..!! 1.
قال صاحب مفتاح السعادة:
كان ابن المبارك يقضي جل وقته في الجهاد في سبيل الله، وكان يقاتل ويبلى بلاء حسناً، فإذا جاء وقت القسمة غاب، فقيل له في ذلك، فقال: يعرفني الذي أقاتل له2.
هكذا تكون النية في الجهاد، إنه لأجل إعلاء كلمة الله وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى لا لمنصب ولا لجاه، ولا لمال، إنما يكون الجهاد لنشر دين الله بين الناس، وإقامة العدل في الأرض بتحكيم الكتاب والسنة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، لا لمجرد تسلم السلطة لذاتها ولا من أجل تغلب حزب على حزب أو فئة على فئة.
ثالثاً: في مجال العلم:
تلقى ابن المبارك العلم على مشايخ بلده ثم رحل في طلب العلم على غيرهم، كعادة الأئمة من السلف الصالح في طلب العلم3.
وكان سنه آنذاك عشرين سنة عند رحلته، وأخذ العلم عمن أدرك عن التابعين ومن بعدهم، وأكثر من الترحال والتطواف إلى أن مات في
1 سير أعلام النبلاء: 8/ 361، ط. الأولى، بيروت.
2 مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 2/248، ط. الأولى بالقاهرة.
3 قال يحيى بن معين: أربعة لا تؤنس منهم رشداً: حارس الدرب ومنادى القاضي وابن المحدث ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث. معرفة علوم الحديث للحاكم، ص:9.
طلب العلم والغزو.
قال الذهبي: روى العباس بن مصعب في تاريخه عن إبراهيم بن إسحاق عن ابن المبارك قال: حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف منهم1.
قال الذهبي: وحدث عنه خلق لا يحصون من أهل الأقاليم، فإنه من صباه ما فتر عن السفر1
…
وقال الحافظ ابن معين: كانت كتب ابن المبارك التي حدث بها نحواً من عشرين أو إحدى وعشرين ألف حديث1.
وقد كان لابن المبارك جهود ومشاركات في خدمة منهج أهل السنة والجماعة من خلال مجال العلم والتعلم، ويمكن إيجاز تلك الجهود والمشاركات فيما يلي:
ا- منهج التعلم والتعليم.
2-
علوم الحديث.
3-
مؤلفاته.
أولاً: منهج التعلم والتعليم:
لسلفنا الصالح منهج في تعلم العلم، إذ لم يكن عندهم فوضى علمية، كما نشاهدها في عالمنا اليوم ضاربة أطنابها.
وهذا المنهج يقوم على أسس ومبادئ ثابتة، ومن لم يسلكها يكون تعلمه ناقصاً قاصراً وربما كان علمه حجة عليه لا له، وهذه بلية كثير من طلبة العلم اليوم نسأل الله العافية.
1 تذكرة الحفاظ: 1/ 275-276.
وهذا الإمام العالم الرباني عبد الله بن المبارك رحمه الله أحد مؤسسي ذلك المنهج وواضعي مبادئه الثابتة- يوضح لنا ذلك المنهج قولاً وعملاً1.
- قال ابن المبارك: طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم2.
- قيل له- بالشام-: إلى كم تطلب العلم؟. فقال: أرجو أن تروني فيه إلى أن أموت، أليس يقال له -طالب العلم- يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء، أفلهذا مترك؟ 2.
- وقال أيضاً: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا3.
- قال أبو صالح الفراء: سألت ابن المبارك عن كتابة العلم فقال: لولا الكتابة ما حفظنا4.
- وقال نعيم بن حمادة: سمعت ابن المبارك يقول: عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة5.
- قال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟. قال: أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما
1 كتب في بيان منهج التعلم عند السلف كتب كثيرة من أجودها وأجمعها كتاب "تذكرة السامع والمتكلم " لابن جماعة وهو مهم في هذا الباب.
2 غاية النهاية في طبقات القراء لأبي الخير محمد الجزري: 1/446.
3 صفة الصفوة: 4/ 120، وفيات الأعيان: 3/ 34.
4 الجرح والتعديل: 1/ 269- 274.
5 سير أعلام النبلاء: 8/352.
أصنع معكم؟، أنتم تغتابون الناس1.
- وقال ابن المبارك: إن أول العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ ثم النشر2.
هذه أوجز وأدق عبارة تضمنت الأسس والمبادئ الأساسية الثابتة لمنهج التعلم والتعليم عند السلف، وهي نفسها عبارة الإمام سفيان الثوري- أمير المؤمنين في الحديث- حيث قال- وهو يوجه تلاميذه-: تعلموا هذا العلم، فإذا تعلمتوه فتحفظوه، فإذا حفظتموه فاعملوا به، فإذا عملتم به فانشروه3.
ولا غرو فابن المبارك والثوري كلاهما تلقيا هذا المنهج عن السلف الصالح، والسلف تلقوه عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي بعث معلماً للخير ومتمماً لمكارم الأخلاق، وكل منهج للتعلم يخالف ذلك المنهج فهو منهج خاطئ.
- قال ابن المبارك: كاد الأدب يكون ثلثي العلم4.
ومر من قبل قوله "طلبت الأدب ثلاثين سنة والعلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم".
وهذه ركيزة من ركائز العلم الأساسية عند السلف وهي البدء بالأدب أولاً ثم العلم ثانياً وهذا معنى قول الحسن البصري وابن سيرين والشافعي "كانوا يتعلمون الهدى أولاً ثم العلم "5.
1 المصدر السابق: 8/353.
2 مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده: 2/248، الذيباج المذهب: 1/408.
3 التبصرة والتذكرة للعراقي: 2/ 200.
4 صفة الصفوة لابن الجوزي: 4/ 120.
5 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة: 2، ط. بيروت.
أما نحن اليوم فأحسننا حالاً الذين يعكسون هذا المبدأ، أي أنهم بعد أن يفرغوا من طلب العلم يبدأون بطلب الأدب والغالبية العظمى لا يعرفون أدب الطلب ولا أدب العلم والتعلم فضلاً عن أدب الخلاف وأدب الفتوى وطرق الاستنباط والاستدلال، فقد دفن أصحاب ذلك الأدب وذلك المنهج منذ قرون خلت رحمهم الله وأجزل لهم الثواب.
- وعن محجوب بن الحسن قال: سمعت ابن المبارك يقول: من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: أما موت يذهب علمه، وأما ينسى، وأما يلزم السلطان فيذهب علمه1.
- وعن ابن المبارك قال: من أستخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن أستخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن أستخف بالأخوان ذهبت مروءته2.
- وسئل ابن المبارك من الناس؟، قال: العلماء، قيل فمن الملوك؟، قال: الزهاد، قيل: فمن الغوغاء؟، قال: خزيمة وأصحابه- يعني من أمراء الظلمة-، قيل: فمن السفلة؟، قال: الذين يأكلون بدينهم3.
ثانياً: جهوده في علوم الحديث:
يعتبر ابن المبارك أحد الجهابذة النقاد المعتد بقولهم في الجرح والتعديل.
وله اجتهادات في علوم الحديث ومعرفة في علم الرجال والعلل.
1 سير أعلام النبلاء: 8/ 352-353، ط. أولي.
2 سير أعلام النبلاء، ط. أولي: 8/ 359.
3 المصدر السابق: 8/353.
ولقد عبر عن ذلك الخليفة هارون الرشيد عندما أتى بأحد الزنادقة ليقتله، فقال الزنديق: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟، فقال الرشيد: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك، ينخلانها ويخرجانها حرفاً حرفا1.
ولكثرة حفظه للسنة وعظيم درايته بها قال عبد الله بن إدريس: كل حديث لا يعرفه ابن المبارك فنحن منه براء 2.
وهذه جملة من أخباره وآرائه في هذا المجال:
- كتب الرجال مملوءة بآراءه في الرواة جرحاً وتعديلاً وهي تفوق الحصر.
- قال الحافظ علي بن المديني: انتهى العلم إلى رجلين: إلى ابن المبارك ثم من بعده إلى يحيى بن معين3.
- وقال فضالة النسائي: كنت أجالسهم بالكوفة، فإذا تشاجروا في حديث قالوا: مروا بنا إلى هذا الطبيب حتى نسأله- يعنون ابن المبارك- 4.
- وقال علي بن المديني- أيضاً-: ابن المبارك أوسع علماً من ابن مهدي ويحيى بن آدم5.
- وقال الإمام أحمد: لم يكن أحد في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه6.
1 تذكرة الحفاظ: 1/273.
2 سير أعلام النبلاء: 8/356 ط. أولى.
3 تاريخ بغداد: 10/ 164.
4 سير أعلام النبلاء: 8/357.
5 تاريخ بعداد: 10/ 164.
6 سير أعلام النبلاء: 8/ 351.
- قال ابن المبارك رحمه الله: في صحيح الحديث شغل عن سقيمه1.
- قال عبدان بن عثمان: سمعت ابن المبارك يقول: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء2.
- وعنه قال: بيننا وبين القوم القوائم- يعني الإسناد- 2
- وعنه أيضاً قال: طلب الإسناد المتصل من الدين 2.
- وعنه أيضاً قال: الذي يطلب دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم 3.
- وقيل له: الرجل يطلب الحديث لله يشتد في سنده؟، قال: إذا كان لله فهو أولى أن يشتد في سنده 4.
- وقال ابن المبارك: ليكن الذي تعتمدون عليه هذا الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث 5.
- وقال أيضاً: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوىء على المحاسن لم تذكر المحاسن 6.
- وسئل عبد الله بن المبارك عمن نأخذ؟، قال: من طلب العلم لله وكان في إسناده أشد، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة، وتلقى الرجل غير ثقة وهو يحدث عن ثقة، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة 7.
1 المصدر السابق: 8/ 357.
2 مقدمة صحيح مسلم: 1/15، معرفة علوم الحديث للحاكم:6.
3 الكفاية للخطيب البغدادي: 492.
4 سير أعلام النبلاء ة 8/353.
5 سير أعلام النبلاء: 8/352-353.
6 سير أعلام النبلاء: 8/ 352-353.
7 تذكرة الحفاظ: 1/ 277.
ما أحوجنا اليوم نحن طلبة العلم إلى هذه الوصية وهذا التوجيه الكريم من الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك، إنه ليرسم منهجاً يجب أن يلتزم به طلبة العلم في كل حياتهم.
إن آفة الأخبار رواتها، وما أقل الثقات في رواة الأخبار في عصرنا وأخص بالذكر طلبة العلم، فهم قدوة الأمة وهم المخاطبون بوصية ابن المبارك، والمفترض فيهم التوثق، ودقة الفهم وتمحيص الأخبار والنظر فيمن يرويها: في دينه وعقله وضبطه وعدله في سيرته واتجاهه الذي يسير عليه في حياته، لكن الواقع خلاف ذلك، إذ أن مجتمع طلبة العلم اليوم أصبح في الغالب مرتعاً خصباً للأشاعات والأراجيف التي لا أساس لها من الصحة- وآفتها من مروجوها بينهم- ولا سيما تلك الإشاعات التي تتعلق بعرض أحدهم، فإنها تنتشر بينهم إنتشار النار في الهشيم أو أسرع.
وكان الأولى بطلبة العلم وعلى وجه أخص من يزعمون أنهم دعاة إلى الخير أن يلتزموا منهج المحدثين في التثبت في الرواية والتمحيص للأخبار والنظر في أحوال الرجال، فإن ذلك هو الموافق لمنهج الكتاب والسنة وهدى السلف الصالح، وهذا المنهج هو منقبة للأمة الإسلامية، وميزة لها عن سائر الأمم.
ثالثاً: مؤلفاته:
قال الإمام الذهبي: دوَّن ابن المبارك العلم في الأبواب والفقه وفي الغزو، والزهد، والرقائق وغير ذلك1.
1 تذكرة الحفاظ: 1/ 275.
وهذه جريدة بأسماء مؤلفات ابن المبارك التي وقفت عليها فيما اطلعت عليه من المصادر:
ا- تفسير القرآن.
2-
السنن في الفقه.
3-
كتاب التاريخ.
4-
كتاب الزهد- طبع باسم: كتاب الزهد والرقائق بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي-
…
5-
كتاب البر والصلة.
6-
رقاع الفتاوى.
7-
الرقائق.
8-
الجهاد- طبع بتحقيق الدكتور نزيه حماد1.
9-
الأربعين في الحديث.
رابعاً: في مجال الإنفاق في سبيل الله:
كما كان ابن المبارك جواداً بنفسه في سبيل الله، كان أيضاً كريماً جواداً بماله منفقاً في سبيل الله.
ولا غرو فقد ورث ذلك من القدوة الحسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ابن عباس- كما في الحديث الصحيح- بأنه كان أجود من الريح المرسلة، وأجود ما كان في رمضان أو كما قال رضي الله عنه.
وهذه نبذ من أخباره رحمه الله في هذا المجال:
- روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال:
1 قدم له الدكتور نزيه بمقدمة عن حياة ابن المبارك جيدة وقد استفدت منها في هذا البحث كثيراً فجزاه الله عني خيراً.
كان ابن المبارك ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم، وإنه قال مرة للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرت1.
- وبإسناده أيضاً إلى علي بن الفضيل بن عياض قال: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، كيف ذا؟.
فقال ابن المبارك: يا أبا علي: إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال له الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا1.
- وبإسناد الخطيب أيضاً إلى حبان بن موسى المروزي. قال: عوتب ابن المبارك فيما يفرق من الأموال في البلدان، ولا يفعل في أهل بلده، قال: إنني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق وطلبوا الحديث فأحسنوا الطلبة للحديث، بحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا علمهم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم1.
هكذا يكون الفهم الصحيح لوظيفة المال في الحياة الدنيا، إنه لصون الوجه والعرض وإعانة طلبة العلم والصالحين والإستعانة به على مرضاة الرب، هذا هو فهم سلفنا الصالح لوظيفة المال، فهل يقتدي بهم أرباب الأموال من أثرياء المسلمين اليوم، فينفقون أموالهم في وجهها الصحيح.
إن الإمام ابن المبارك يرسم لنا بسيرته العملية في ماله منهجاً بيناً
1 تاريخ بغداد: 10/ 59 ا- 160، ط. السلفية بالمدينة النبوية.
واضحاً.
إن هذا المنهج ليبين لأرباب الأموال الطريقة الصحيحة لتوزيع صدقاتهم وأموالهم التي ينفقونها في سبيل الله، في هذا المنهج يبدأ بالإنفاق على من نفعه لدينه ولأمته أكبر أولئك هم طلبة العلم العاملون بعلمهم المشتغلون بنشر العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عن طلب الرزق ثم الصالحون المشتغلون بالعبادة الزاهدون في الدنيا وحطامها الفاني، ثم عامة الناس.
إنه من المؤلم حقاً أن نرى أموالاً كثيرة- تعد بالملايين- تنفق سنوياً من قبل أثرياء المسلمين ثم لا تؤدي هذه الأموال الأثر المطلوب من إنفاقها، إنها تنفق دون تخطيط ودون هدف من إنفاقها سوى إرادة أصحابها أداء الحق الشرعي في أموالهم وكفى.
إن أموال اليهود تنفق لتخدم عقيدتهم وهدفهم الذي يسعون من أجل تحقيقه.
وأموال الرافضة تنفق لنشر العقيدة الرافضية بين أهل السنة في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وأموال النصارى قد أدت دوراً مهما في تنصير أبناء المسلمين في أفريقيا وآسيا.
أما أموال أثرياء المسلمين فغالبيتها العظمى تنفق ولا تؤدي دوراً مهما لأنها تنفق بدون وعي وبدون تخطيط، وغالبها يوضع في غير محله.
إن أعداداً كثيرة من خريجي الجامعات العربية والإسلامية من أبناء المسلمين في أفريقيا وآسيا بحاجة ملحة إلى من ينفق عليهم ليتفرغوا للدعوة إلى الله ونشر العقيدة الصحيحة بين المسلمين وغيرهم في تلك
الديار المقفرة من الدعاة إلا من النزر اليسير، إنهم بحاجة إلى عشرات من أمثال عبد الله بن المبارك ليتفقدوا أحوالهم ويعينوهم على بث العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لشدة حاجة الأمة إلى علمهم لاسيما وهي تصارع الشرك والخرافة والتنصير والمبادئ الهدامة من علمانية وقاديانية وبهائية ورافضة وباطنية وغيرها.
- أخرج الذهبي بإسناده إلى المسيب بن واضح قال: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سد بها فتنة القوم عنك 1.
- قال الذهبي: قال علي بن خشرم: قلت لعيسى بن يونس: كيف فضلكم ابن المبارك ولم يكن بأسن منكم؟، قال: كان يقدم ومعه الغلمة، من الخرسانية والبزة الحسنة فيصل العلماء ويعطيهم، وكنا لا نقدر على هذا 1.
- وأخرج الخطيب البغدادي بإسناده إلى إسماعيل بن عياش قال:
ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن اللخ خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم 2.
- وبإسناده أيضاً إلى محمد بن عيسى، قال: كان ابن " المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان 3، فكان شاب
1 سير أعلام النبلاء: 8/ 362- ط. أولى.
2 تاريخ بغداد: 10/157.
3 هو: الجانوت وصاحبه وخان التجار معروف. القاموس مادة خون.
يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث، قال: فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب، وكان مستعجلاً فخرج في النفير، فلما قفل من غزوته ورجع الرقة سأل عن الشاب، فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه، فقال عبد الله وكم مبلغ دينه؟، فقالوا: عشرة آلاف درهم، فلم يزل يستقصي حتى دل على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلَّفه أن لا يخبر أحداً مادام عبد الله حياً، وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس وأدلج عبد الله، فأخرج الفتى من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج، فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة، فقال: يا فتى إن كنت لم أرك في الخان؟، قال: نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً، قال: كيف كان سبب خلاصك، قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أعلم به حتى خرجت من الحبس، فقال له عبد الله: يا فتي أحمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك، فلم يخبر ذلك الرجل أحداً حتى مات عبد الله1.
وهذه منقبة أخرى لهذا العالم المجاهد عبد الله بن المبارك- وما أكثر مناقبه- وهي تفقده لأحوال تلاميذه وقضاؤه حاجاتهم حتى لا يعرضوا أنفسهم للذل بانتظارهم فتات موائد السلاطين والأمراء، وهذه حال كثير من أئمة السلف رحمهم الله مع تلاميذهم2.
وقدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يتفقد أحوال أصحابه
1 تاريخ بغداد: 10/ 159.
2 انظر ما كتبه ابن جماعة في تذكرة السامع والمتكلم الباب الثاني الفصل الثالث وخاصة النوع الثالث عشر منه.
فيقضي حاجاتهم ويعين فقيرهم ويعود مريضهم
…
ويعينهم جميعا على نوائب الحق.
فهل من مشايخنا وعلمائنا اليوم من يفعل ذلك مع تلاميذه 1؟؟
كم تخرج على أيديهم في الجامعات الإسلامية من أبناء أفرقيا وآسيا وغيرها.
فهل سألوا عنهم بعد تخرجهم، هل عرفوا شيئا من أخبارهم؟!!.
إنهم يعانون في بلادهم من الفقر والفاقة ومن اضطهاد طواغيت بلادهم، كما يعانون من هجوم أعدائهم من مبشرين وفاديانيين ورافضة وعلمانين على عقائدهم وعلى أخلاقهم وسلوكهم، لقد شاهدت ذلك بأم عيني أثناء زياراتي لغرب أفريقيا وجنوب شرق آسيا، إنهم يحتاجون إلى مد يد المساعدة بالمال والنصح والتوجيه والكتب العلمية النافعة، وهم بحاجة إلى بناء مدارس لأبنائهم ليحفظوا عليهم دينهم وعقيدتهم، وليحموهم من مدارس المبشرين والعلمانيين والباطنيين.
فهل يتعاون علماؤنا مع أرباب الأموال في بلادنا الإسلامية لتقديم يد المساعدة إلى هؤلاء؟، فقد سبقهم إلى ذلك علماء رافضة إيران وتجار رافضة لبنان في أفريقيا منذ زمن!!
1 - لا يفوتني أن أنوه هنا بجهود سماحة شيخنا الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وبارك فيما بقي من عمره فهو من بقية السلف الصالح له جهود طيبة في هذا المجال، رأينا آثارها في أفريقيا حيث يرعى كثيرا من خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية بإعانتهم من ماله الخاص، ومما يجمعه من المحسنين أسأل الله له دوام التوفيق إلى كل ما فيه خير الإسلام والمسلمين.