الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النساء
وآياتها 176 نزلت بعد الممتحنة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه السورة مدنية، وآياتها ست وسبعون ومائة. نزلت بعد الممتحنة. وسميت سورة النساء؛ لاشتمالها على أحكام كثيرة تتعلق بالنساء.
أهم مقاصد السورة:
1 -
افتتحت هذه السورة باستهلال عظيم التأثير في الضمائر والقلوب، حتى يتلقى ما تشتمل عليه من أحكام بالطاعة والإذعان. فقد نادى الله الناس وأمرهم بالتقوى، وحثهم على امتثال أمره، والبعد عن معاصيه.
2 -
وذكر مبدأ الإنسان وما يجب على أفراده من التناصر والتعاطف، والتعاون ورعاية ذوي الأرحام، وأتبع ذلك ما يلي:
3 -
رعاية حقوق الضعفاء من اليتامى والنساء والسفهاء.
4 -
العناية بالأحكام المتعلقة بالأسرة من: النكاح، والميراث، ووجوب العدل بين النساء عند التزوج بأكثر من واحدة.
5 -
الأمر بالمحافظة على الأموال والأعراض، وبيان ما أُحل منها وما حرم.
6 -
بيان العقوبات الرادعة عن الاعتداء على الأعراض والأموال والأنفس.
7 -
تعرضت السورة لكثير من شئون المنافقين ومآلهم في الآخرة. ثم جاء فيها ما يلي:
8 -
المجادلة مع أهل الكتاب وذكر بعض أخبارهم ومعتقداتهم.
9 -
والأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، والعدل في الأحكام بين الناس، وبالرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع.
10 -
ثم ورد فيها آية التيمم، وصلاة الخوف، وصلاة المسافر وبعض أحكام الجهاد.
11 -
وفيها الأمر بالإحسان إلى الوالدين وذوي الأرحام ورعاية حقوق الجار وابن السبيل والرقيق. إلى غير ذلك، من المقاصد الكريمة، والأحكام النافعة.
المفردات:
{بَثَّ} : نشر وفرّق.
{تَسَاءَلُونَ بِهِ} : أصلها تتساءَلون. والمراد: يسأل بعضكم بعضا بالله تعالى.
{وَالْأَرْحَامَ} : جمع رحم، والمراد بها: القرابة.
{رَقِيبًا} : الرقيب؛ هو الحفيظ المطلع.
التفسير
1 -
هذا خطاب يعم جميع المكلفين، من الذكور والإناث، منذ نزول الآية إلى يوم القيامة.
والمعنى: احذروا عقاب الله بأداءِ حقوقه، وحقوق العباد.
وفي ذكر اسمه تعالى، بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين - تأْكِيدٌ للأمر بإيجاب الامتثال؛ وفاءً بحق نعمه عليكم.
وفي قوله:
{الَّذِي خَلَقَكُمْ} : تنبيه إلى القدرة التامة، والنعمة الشاملة، حثاً على التقوى، وخوفا من العقاب، وشكراً للنعمة؛ وطلباً للثواب.
{مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} : هي نفس آدم عليه السلام وليس هناك سوى آدم واحد، وهذا ما عليه جمهور المحدثين والفقهاء.
{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : أي وخلق من هذه النفس الواحدة زوجها: حواء.
{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} : أي ونشر وفرق من آدم وزوجه رجالا كثيراً ونساءً كثيرات، بطريق التوالد والتناسل.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : أعاد الأمر بالتقوى؛ لعظم شأنها وجليل خطرها، في المأمورين في هذه السورة.
{الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} : أي الذي يسأل بعضكم بعضا بالله، فيقول أحدكم لصاحبه: أسأَلك بالله، أن تفعل كذا. على سبيل الاستعطاف.
{وَالْأَرْحَامَ} : أي واتقوا قطيعة الأرحام. وقرأ حمزَةُ {وَالْأَرْحَامِ} بالجر عطفا على الضمير في (بِهِ) أي واتقُوا الله الذي تساءَلون به وبالأرحامِ، فقد كان أجدهم يقول لصاحبه: أسألك باللهِ وبالرحم: أن تفعل أو لا تفعل.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} : أي احْذروا مخالفته بالتمسك بتقواه، لأنه رقيب عليكم وحفيظ لأعمالكم، فلا تخفى عليه خافية منكم.
فالجملة تحذير للناس وتخويف لهم، من بأس الله الذي أُمروا بتقواه، ببيان أنه تعالى رقيب عليهم، قد أحصى عليهم أَعمالهم، وسيحاسبهم عليها.
والمراد من أنه كان عليهم رقيبا: أن رقابته عليهم موجودة منذ نشأتهم، كما أنها باقية إلى فنائهم. فلم يفلت منها أحد. ولن يغيب عنها إنسان، إلى أن تقوم الساعة.
المفردات:
{وَآتُوا} : المراد بإتيانها أن يحافظوا عليها، ولا يتعرضوا لها بسوء، حتى يسلموها لليتامى عند البلوغ والرشد كاملة. إلا ما صرف منها في ضرورات اليتامى وحاجاتهم.
{الْيَتَامَى} : جمع يتيم؛ وهو من مات أبوه. وخصه العرف والشرع بالصغير دون البلوغ.
{تَتَبَدَّلُوا} : يقال: تبدل الشيءُ بالشيء واستبدله به إذا أخذ الأول بدل الثاني. فالباءُ داخلة على المتروك.
{الْخَبِيثَ} : الحرام، أو الرديء.
{بِالطَّيِّبِ} : بالحلال، أَو بالجيد.
{حُوبًا} : إثما وذنبا.
التفسير
2 -
بعد أن أمر الله الناس جميعاً بتقواه، أمر الأولياء والأوصياء على اليتامى، بأن يحفظوا أموالهم ولا يتعرضوا لها بسوء، حتى تسلَّم إليهم - بعد البلوغ - كاملة غير منقوصة، فإيتاءُ الأموال يراد به: الحفظ والصيانة لها. واليتامى باقية على معناها العرفي والشرعي.
أو المراد بالإيتاء: الإعطاء.
والمعنى: وأعطوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد منهم، ولا تحبسوها عنهم. وتسميتهم يتامى؛ لقرب عهدهم بالصِّغَر.
وفيه إشارة إلى تسليمهم أموالهم عند البلوغ مباشرة، من غير مماطلة. قبل أن يزول وصف اليتيم عنهم.
والأول أرجح؛ لأن دفع الأموال إِلى اليتامى بعد البلوغ، سيأتي قريبا في قوله تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1).
{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} :
أي ولا تأخذوا الحرام - وهو أموال اليتامى - بدل الحلال وهو أَموالكم.
أو المعنى: ولا تستبدلوا بالرديء من أموالكم الجيد من أموال اليتامى، فقد كان بعض الأوصياء يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم، ويضع بدلا منها شاة مهزولة، ويقول: شاة بشاة. ويأخذ الدرهم الجيد، ويضع مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم.
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} :
أي ولا تأخذوا أموال اليتامى مضمومة إلى أموالكم، وتسَوُّوا بينهما في الإنفاق منهما. من غير مبالاة. مع أن أحدهما حرام والآخر حلال.
{إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} :
أي إن أخذ الخبيث لليتيم بدل الطيب، وأَكل ماله على الصفة المذكورة - ذنب عظيم، وإثم كبير. وسيظل كذلك.
وفي الآية دليل على أن ذلك من كبائر الذنوب. وفيها عدة تأكيدات للمحافظة على أموال اليتامى. حيث وصّى بالمحافظة عليها حتى يتسلموها كاملة سليمة، ونهى عن استبدال غيرها بها، وعن ضمها لأموالهم، وأكلها من غير مبالاة بما يلحقهم من جراء ذلك. ثم ختم ذلك ببيان أَن هذا إثم كبير، وذنب عظيم.
(1) النساء من الآية: 6.
المفردات:
{أَلَّا تُقْسِطُوا} : أي أَلَّا تعدلوا، من: أَقسط أي عدل. وأما قسط، فمعناه: ظلم.
{فِي الْيَتَامَى} : المراد: اليتيمات.
{فَانْكِحُوا} : تزوجوا.
{مَا طَابَ} : ما حل. أو ما مالت إليه نفوسكم.
{مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} : أي اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثاً، وأربعاً أربعاً.
{أَلَّا تَعْدِلُوا} : ألا تجوروا وتظلموا.
التفسير
3 -
لما عَظَّم الله حق اليتامى في أموالهم فأمر الأولياءَ بحفظها، وعدم التفريط فيها. إلى أن تؤَدى إليهم، وجعل أَكلها ذنبا عظيما. أَتبع ذلك التوصية بحقوق اليتيمات: في أنفسهن، وفي أموالهن.
وقد صح في سبب نزول هذه الآية. ما رواه البخاري وغيره: "عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: أنه قد سألها عروة عن هذه الآية: فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليِّها: تشركه في حاله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن
يتزوجها، بغير أن يُقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساءِ"
…
الحديث رواه البخاري في كتاب التفسير.
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
…
}:
وإن خفتم عقاب الله، بسبب ما علمتموه - أو غلب على ظنكم من عدم العدل في تزوجكم من يتامى النساء اللائي تحت ولايتكم، بعدم إعطائهن صداق مثيلاتهن: أو بسوء معاملتهن - فاتركوا التزوج بهن، وانكحوا ما حل أو ما مالت إليه نفوسكم من النساء غيرهن. ولكل واحد منكم الخيار في أن يتزوج اثنتين أَو ثلاثًا أو أربعًا. بحيث لا يزيد العدد الذي في عصمته على أربع، فِإن ظننتم عدم العدل - عند تعدُّد الزوجات في شأن القسم والعشرة والمؤنة - فتزوجوا واحدة فقط. أو تمتعوا بما شئتم من الإماء بملك اليمين. فإن ذلك أقرب إلى عدم الجَوْر. إِذ الواحدة تستقل بزوجها والإماءُ لا حق لهن في القسم.
هذا وقد أجمع فُقَهاءُ الأمصار: على عدم جواز الزيادة على أربع.
وقد ثبت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لغيلان الثقفي حين أسلم وتحته عشر نسوة:"أمْسِكْ أربَعًا، وفارِقْ سَائِرَهُنَّ" رواه أحمد والترمذي. وابن ماجه.
وقد قال الشافعي: "دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبينة عن الله: أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة".
وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه.
وقد أبيح للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، لحكم كثيرة أهمها:
1 -
أن الحروب تقع كثيرا. والرجال هم الذين يخوضون غمارها، ويموت الكثير منهم وتتأَيَّم النساء، وتتيتم، ويفقدن العائل والمعين، فيصبحن في حاجة إلى من يقوم بشئونهن. فلو لم يجز التعدد، لكثر عدد الأيامى منهن. وفي ذلك ما يعرضهن للفساد.
2 -
عدد النساء أكثر من عدد الرجال في كثير من بلاد العالم. فإباحة التعدد علاج لهذه الحالة، حتى لا يتعرضن لعبث العابثين، ومذلة الفقر والحاجة، فزواج إحداهن برجل متزوج بأخرى، إبعاد لها عن الشقاء. وأخذ بيدها إلى ما يصون كرامتها وعفتها.
3 -
وقد تمرضُ الزوجة أو تكون عقيما، ويأبى زوجها مفارقتها برًّا بها، ووفاءً لها. فهل نمنعه من الزواج بغيرها فيقع في الحرج؟ أو نلزمه بتطليقها ليتزوج بأخرى فيزيد ألمها وتحرم من العطف والحنان؟ أو نبيح له أن يتزوج معها غيرها؟ إذا حكمنا العقل في ذلك، نرى أن الخصلة الأخيرة هي الجديرة بالرجحان.
وهذا هو الذي شرعه الله.
4 -
للمرأة في شبابها فترات لا تصلح فيها للتمتع الجنسي، كفترة الحيض والنفاس والولادة. فإذا كان زوجها قويا لا يصبر عن النساء. فهل نبيح له الزواج بأُخرى، كما تقضى به الشريعة، أو يدنس نفسه بالحرام كما يريده من يبغون حظر التعدد؟.
5 -
إذا فقدت الزوجة ما يحببها إلى زوجها، من وسامة وجمال، أو حسن عشرة ولين خلق، فليس من الحكمة منع الرجل من الزواج بغيرها، مع إبقائه عليها رعاية لماضي العشرة بينهما، وحفاظا على بقائها مع أولادها منه، حتى يتربوا بين والديهم، فإن منعه من الزواج بغيرها حينئذ، يفضي إلى انحراف الزوج، وكراهته لأولاده، وفي ذلك شر كبير.
هذه بعض حكم إباحة الزواج بأكثر من واحدة.
وقد وضع الشارع له قيودا. فحرم الزيادة على أربع، وأوجب العدل على الرجل، إذا تزوج بأكثر من واحدة. فإن وقع جور على إحداهن - فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم ليرفع عنها ما وقع عليها أو يخففه. فإن استحكم الخلاف وتعذر الوفاق فللحاكم أن يفرق بينهما:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (1).
(1) النساء الآية: 120.
المفردات:
{وَآتُوا} الإيتاءُ: للإعطاء والمناولة، أو الالتزام.
{صَدُقَاتِهِنَّ} : جمع صدقة بضم الدال. وهو المهر.
{نِحْلَةً} : عطية من غير عوض. وفسرها بن عباس بالفريضة، فهي عطية من الله مفروضة على الأزواج.
{هَنِيئًا مَرِيئًا} : صفتان من هُنؤ الطعام ومرؤ. والهنيء ما يلذ للأكل. والمريءُ ما سهل هضمه، وحسنت عاقبته. والمراد: أنه لا تبعة ولا عقاب عليه: أي حلالاً طيباً.
التفسير
4 -
بعد ما بين الله في الآية السابقة، ما يحل الزاج بهن من النساء، وما يجب على الزوج من العدل بين الزوجيتين أو الزوجات - بين في هذه الآية، ما يجب على الزوج لزوجته. من دفع صداق لها أو إلزام نفسه به فقال:
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} : الخطاب في الآية للأزواج، لأن الضمائر في الآية السابقة لهم، وهذه معطوفة على ما سبق.
والمعنى: وأعطوا النساء اللاتي تعقدون عليهن مهورهم نحلة: أي عطية من الله مفروضة عليكم. والصداق: آية من آيات المودة، وتوثيق لعرى الصلة بين الزوجين، كي تدوم الألفة وتعظم المحبة، وهو دليل على صدق رغبة الزوج في زوجته.
ويرى البعض: أن الخطاب للأولياء، فقد كان الولي - في الجاهلية - يزوج ابنته أو أخته، ويأخذ الصداق لنفسه. فأنزل الله الآية لمنع ذلك.
ولا مانع من أن يجعل الخطاب عامًا للمسلمين، فيشمل الأزواج والأولياء، الزوج مطالب بإعطاء الزوجة صداقها. والولي مطالب بدفعه لها، بعد تسلمه من الزوج. وهي كاملة التصرف فيه بعد ذلك.
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} : أي فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئًا من هذا الصداق - قل أو كثر - فلا مانع من أخذه والانتفاع به. بشرط أن يكون ذلك عن طيب نفس منهن: من غير إكراه ولا إلجاء بسوء العشرة، أو الإضرار بهن. وإلا كان حرامًا. كما سيأتي بيانه في الآية (20) من هذه السورة.
{فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} : أي فخذوه وانتفعوا به أخذا لا ضرر ولا تبعة عليكم فيه. فليس المراد خصوص الأكل. إنما المراد: حل التصرف فيه. وخص الأكل بالذكر؛ لأن أكثر وجوه الانتفاع بالمال، عن طريق الأكل.
المفردات:
{السُّفَهَاءَ} : جمع سفيه. والمراد هنا: الذي لا يحسن التصرف في المال.
{قِيَامًا} : ما تقوم به أموركم، وتصلح شئونكم.
التفسير
5 -
لما بينت الآيات السابقة، وما يجب على الأولياء من المحافظة على أموال اليتامى، وأمرهم بالزواج من غير اليتيمان، عند خوف عدم العدل معهن، مع بيان وجوب المهر للزوجة، رجع السياق - في هذه الآية - إلى بيان ما بقي من الأحكام المتعلقة باليتامى. وبيانها ما يلي:
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} : أي ولا تعطوا - أيها الأولياء - اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم؛ لأنهم لا يحسنوا التصرف فيها، ولا القيام على حفظها واستثمارها.
وقد جعل الله تلك الأموال، قيامًا لليتامى: منها يتعيشون، وعليها يعتمدون فيما يحتاجون إليه في معاشهم وحياتهم.
وإنما أُضيفت الأموال إلى الأولياء مبالغة في حملهم على المحافظة عليا، حيث نَزَّلَ أموال اليتامى منزلة أموال الأولياء، لأنهم متحدون في الجنس والنسب غالبًا. وذلك نظير قوله تعالى في هذه السورة {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (1): أي لا يقتل بعضكم بعضا. فعبر عن النوع بالنفس؛ مبالغة في الزجر عن القتل. كأنَّ من قتل غيره، فلقد قتل نفسه.
وقد ذهب إلى تفسير الآية بما ذكر: عكرمة، وابن جبير، وكثير من المفسرين.
هذا وفي الآية دلالة قوية على النهي عن إضاعة المال، والأمر بالمحافظة عليه، والعمل على حسن التصرف فيه، والتدبير له، لأن الله تعالى - قد جعله سببًا في إصلاح المعاش، وانتظام الأمور.
{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} : أي اجعلوا الأموال مكانًا لرزقهم وكسوتهم. وذلك بالاتجار فيها واستثمارها، فتكون نفقاتهم من غلتها وربحها، لا من أصل المال. وإلا أكله الإنفاق، وهذا هو سر التعبير بقوله:{فِيهاَ} . ولم يقل: منها.
وقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ألَا مَنْ وَلِيَ يتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِر فِيهِ، ولا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأكُلَهُ الصَّدَقَةُ".
(1) سورة النساء من الآية: 29.
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} : أي وليقل كل من ولي أمر سفيه أو يتيم، قولًا ليِّنًا تَطيب به نفسه. مثل أن يقول له: المال مالك، وما أنا إلا خازن عليه أحفظه لك من الضياع، وعند الكبر - أو الرشد والتدبر للأمر - سأسلمه لك، ونحو ذلك من العبارات التي فيها دلالة على الرفق والرحمة، والعناية بشئونهم.
المفردات:
{وَابْتَلُوا} الابتلاء: الاختبار والتجربة.
{بَلَغُوا النِّكَاحَ} : بلغوا الحلم وهو حد التكليف.
{آنَسْتُمْ} : أبصرتم، وتبينتم.
{رُشْدًا} : أي حسن تصرف في الأموال.
{إِسْرَافًا} : الإسراف؛ مجاوزة الحد المعتاد في التصرف.
{وَبِدَارًا} البدار؛ المسارعة في الشيء.
{فَلْيَسْتَعْفِفْ} : العفة؛ ترك ما لا ينبغي من الشهوات، والمراد فليتنزه عن الأكل من مال اليتيم.
التفسير
6 -
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا
…
} الآية.
أي اختبروا اليتامى - أيها الأولياء - قبيل البلوغ، بالإذن لهم في التصرف في بعض أموالهم، لتعرفوا حسن تصرفهم فيها وضبطهم لها. فإن تبينتم منهم رشدا - بعد البلوغ، وهداية إلى حسن التصرف - فادفعوا إليهم أموالهم التي تحت أيديكم. وإلا فاستمروا على الابتلاء والتجربة، حتى تعرفوا منهم ذلك.
وقد ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الاختبار قبل البلوغ.
ويدل على هذا قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} .
وقد فَرَّعَ أبو حنيفة على هذا: أن تَصَرُّفَ الصبي العاقل المميز صحيح، متى كان بإذن الولي.
وقال الشافعي: لا يباشر الصبي العقد بنفسه، وإِنما يباشره وليه، فإذا تمت الصفقة، قام الولي بالتعاقد.
وظاهر الآية: دال على أَن أَموال اليتامي، لا تدفع إليهم، إلا إذا بلغوا راشدين.
والبلوغ: إما بالاحتلام للذكور، وبالحيض للإناث. وإما بالسن، وهو عند الشافعي والحنابلة: خمس عشرة سنة. وعند المالكية. سبع عشرة سنة. وفرق الحنفية بين الذكور والإناث: فجعلوه للذكور ثمانية عشر عاما، وللإناث سبعة عشر عاما. وكل ذلك بالحساب القمري.
فإذا بلغ غير رشيد، فلا يسلَّم له ماله، عند جمهور الفقهاء. ومنهم صاحبا أبي حنيفة. وقال أبو حنيفة: يُسَلَّم له إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة وإن لم يثبت رشده؛ لأنه يصلح أَن يكون جدًا، وهو يستحيى أن يحجر على مثله، ولكن النص لا يساعد مذهبه. فقد قال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} .
{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} :
هذا نهي للأولياء والأوصياء، عن أكل أموال اليتامى: مسرفين في الإنفاق منها، ومتعجلين أكلها، مخافة أن يكبروا فينتزعوها من أيديهم. فإن الكثير من الأولياء، يستعجل بعض التصرفات التي يكون لهم فيها منفعة، حتى لا تفوتهم إذا كبر اليتيم وتسلَّم ماله.
{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} :
نهى الله الأولياء - في الجملة السابقة - عن أكل مال اليتامى مسرفين ومبادرين كبرهم، حتى يظفروا بما يريدون.
وفي هذه الجملة من الآية، يرشد الأولياء، إلى أن من كان منهم ذا مال ويسار، فليكف نفسه عن الأكل من أموال اليتيم التي تحت يده، وليبالغ في إعفاف نفسه وإِبعادها عنه. فلا يأكل منه شيئًا. ومن كان منهم فقيرا فليأخذ من مال اليتيم، بقدر حاجته من سد الجوعة وستر العورة
…
لا يزيد عن ذلك.
ومن هذا يتبين جواز انتفاع الوصي والولي بقدر حاجته، من غير إسراف. أما إذا أسرف، فإنه يكون ظالما. وفاعله يدخل تحت مَنْ قال الله فيهم، في هذه السورة بعد ثلاث آيات:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (1).
وقد روى الإمام أحمد والنسائي، وأبو داود، عن ابن عمر: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ليس لي مال. وإني وليٌّ يتيم. أفآكل من ماله؟ فقال: "كُلْ مِنْ مَالِ يتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُتأثِّلٍ مَالًا (2): وَمِنْ غَيْرِ أنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ".
وإِلى هذا الظاهر، ذهب عطاء وقتادة، وهو أحد الروايات عن ابن عباس.
وقال سعيد بن جبير، ومجاهد والزهري، وآخرون: ما يأخذه الفقير - بقدر حاجته - يكون قرضا. وعليه أن يرده إذا أيسر.
(1) سورة النساء من الآية: 10.
(2)
تأثل المال: اكتسابه.
وعن عمر، أنه قال: أنْزَلْتُ نفسي من هذا المال بمنزلة وليِّ اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت (1).
وقد ذهب جماعة إلى أنه ليس للولي أن ينتفع من مال اليتيم بشيء. وأن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (2)، وقد أنكر أبو بكر بن العربي القول بالنسخ، لان الله تعالى يقول:{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} فكيف ينسخ الظلم المعروف؟.
والحق من هذه الآراء: أن للولي الفقير، أن يأخذ من مال اليتيم، ما يفي بحاجته، من غير إسراف ولا تبذير، وليس عليه ردُّ ما أخذه؛ لأنَّ ما أخذه نظير نظره ورعايته المال .. وأما الغني، فلا ينبغي أن يأْخذ من مال اليتيم شيئًا؛ لأن الله تعالى، أمره بالعفة، والكف عنه.
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} : أي فإذا أديتم - أيها الأولياء - أموال اليتامى إليهم فأحضروا شهودا عليهم، بأنهم تسلموها، وأبرئوا ذمتكم منها، كيلا يكون بينكم وبينهم نزاع؛ لأن الإشهاد أبعد عن التهمة، وأنفى للريبة والخصومة، وأدخَلُ في الأمانة.
{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} : أي وكفى الله محاسبا وشهيدا ورقيبا على الأولياء، في حال تسليمهم الأموال لليتامى، هل هي كاملة، أو منقوصة؟.
وفي هذه الجملة، تحذير للمسلمين، من أخذ شيء من أموالى اليتامى - وأن الإشهاد - وإن أسقط الدعوى في الدنيا أمام القضاء - فهو لا يحل ما أخذه الولي من مال اليتيم، عند الله في الآخرة، فإذا كان الولي خائنا، فإن الله سيحاسبه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية.
(1) نقلًا عن ابن كثير يرويه عن ابن أبي الدنيا.
(2)
سورة النساء الآية: 10.
التفسير
7 -
بعد أن بين الله تعالى، الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى - التي آلت إليهم بالميراث - شرع في الكلام - على أحكام المواريث. فأجملها في هذه الآية الكريمة، إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من حرمان الصغار والنساء منه، وسَيفصلها فيما يأتي:
سبب النزول:
نزلت هذه الآية في شأن زوجة أوس بن ثابت وأولاده وابني عمه.
فقد روى ابن مردويه وغيره، عن جابر: أن أوس بن ثابت، مات عن زوجته أم كحة وابنتين، وابن صغير، وابني عمه - وهما وصياه - فأخذا ماله: ولم يعطيا أولاده وزوجته منه شيئا، كعادتهم في الجاهلية. فقالت الزوجة للوصيين: تزوجا بالبنتين وكانت بهما دمامة فأبيا. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرته الخبر. فدعاهما. فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كَلاًّ (1) ولا ينكأُ عدوًا (2). فصرفهم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يَنزلَ حكمُ الله في شأنهم، فأنزل الله هذه الآية. فأرسل إلى ابن العم. وقال لهما: لا تحركا من الميراث شيئًا، فإِنه قد أنزلَ عَليّ فِيه شيء
(1) يطلق الكل على السيف والعيال والثقل.
(2)
أي لا يقتل عدوًا ولا يجرحه.
أخبرت أن للذكر وأنثى نصيبًا. ثم نزلت بعد ذلك الآيات في تفصيل الميراث. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم الباقي بين الأولاد، للذكر مثل حظ الأنثيين. ولم يعط ابني العم شيئًا.
وفي بعض طرق الحديث: أن الورثة كانوا زوجة وابنتين وابني العم، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني العم ما بقي بعد نصيب الزوجة والبنتين.
ومن هذا يتبين: كيف أنصف الإِسلام المرأة، وحفظها من الضياع.
والمقصود من الرجال والنساء: الذكور والإناث، وإن كانوا صغارا. أي للذكور نصيب مما تركه آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم، كالإِخوة والأخوات، والأعمام والعمات. وللإناث نصيب مما ترك آباؤُهن وأمهاتهن وأقاربهن.
وبهذا، بطل ما كان عليه أهل الجاهلية، من توريث البالغين من الرجال فقط، حيث جعل للجميع حظًا ونصيبا في الإرث. وكان يكفى أن يقال: لكل واحد نصيب مما ترك. الوالدان والأقربون. ولكنه تعالى، شاء أن يفصل فيجعل للرجال نصيبا وللنساء نصيبا مما تركه الوالدان والأقربون، إيذانا بأصالة النساء في استحقاق الميراث، ومنعًا من صرف هذا المجمل إلى الرجال وحدهم، على ما كانت عليه عادة الجاهلية، ومبالغةً. في إبطال هذه العادة الظالمة.
{مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ}
أي لكل من الصنفين - الرجال والنساء - نصيب من المتروك. سواء أكان المتروك قليلًا أم كثيرا، عظيم القيمة أو حقيرها، عقارًا ثابتا أو منقولا. فلا يحق لبعض الورثة أن يستأثر ببعض الميراث دون الآخرين، كالسلاح والخيل، وغير ذلك. كما كان شائعًا في الجاهلية.
وتقديم القليل على الكثير - في الآية - للتنبيه على وجوب دخوله في الميراث ببن المستحقين، لأنه مظنَّة التهاون فيه.
{نَصِيبًا مَفْرُوضًا} :
أي فرض الله ذلك حظًا مفروضا مقدرًا، تجب مراعاته، وتحرم مخالفته.
المفردات:
{أُولُو الْقُرْبَى} : أصحاب القرابة غير الوارثين.
{فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} : فأعطوهم من المال الموروث.
التفسير
8 -
بعد أن بين الله - فيما سبق - استحقاق الوارثين من الرجال والنساء، بين في هذه الآية: أن من لا يرث من أقارب المتوفى، ومن اليتامى والمساكين الأجانب، يُسْتَحَبُّ إعطاؤُهم شيئًا من التركة إذا حضروا قسمة التركة، تطييبا لنفوسهم وجبرًا لخواطرهم.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} :
أي وإذا حضر قسمة الميراث، أصحاب القرابة ممن لا حق لهم في الميراث، أو حضرها اليتامى والمسا كين من الأجانب.
{فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} : أي فأَعطوهم من المال المتروك شيئًا، تطيب به نفوسهم، ويجبر خاطرهم ويدفع ما قد يسرى في نفوسهم من حسد الورثة على ما ورثوه.
{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} : أَي قولًا لينا جميلا. مثل وددنا لو أَعطيناكم أَكثر من هذا، ودعائكم لهم بالبركة، وعدم مَنِّكم عليهم.
وقد ذهب جمهور فقهاء الأمصار، إلى أن هذا الإعطاء على سبيل الاستحباب، إذ لو كان واجبًا، لبينه الله، كما بين سائر الحقوق، ولتوفرت الدواعي على نقله. ولكنه لم ينقل. فدل ذلك على عدم وجوبه.
وعلى ذلك فالآية محكمة لا نسخ فيها.
وقد نقل عن ابن عباس أنه قال: والله ما نسخت هذه الآية، ولكن الناس تهاونوا بها.
ومن العلماء من قال: إن الإعطاء كان واجبا قبل نزول آيات المواريث. ثم نسخ.
والأول هو الصحيح المعوَّل عليه؛ لأن نص الآية مشعر بتقدم آيات المواريث عليها، فمعنى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ}: أي قسمة الميراث على أربابه، ولا يقسم الميراث، ما لم تعلم أنصباء الورثة، والأمر بالرزق في قوله:{فَارْزُقُوهُمْ} : إنما هو في نصيب البالغين من الورثة، أما الصغار فلا يعطى من نصيبهم شيء.
المفردات:
{وَلْيَخْشَ} الخشية: الخوف والحذر.
{قَوْلًا سَدِيدًا} : عَدْلًا وصوابًا.
التفسير
9 -
يأمر الله تعالى الأولياء في هذه الآية الكريمة: بأن يخافوا ربهم ويتقوه في رعاية اليتامى الذين يَلُونَ أمورهم. فعليهم أن يعاملوهم بمثل ما يحبون أن يُعَامَلَ بهِ أبناؤُهم الضعفاء من بعدهم. وذلك بحفظ أموال اليتامى ورعايتها.
أخرج هذا المعنى ابن جرير، عن ابن عباس، حيث قال: يعني بذلك: الرجل يكون له أولاد صغار يَخشَى عليهم الضياع، ويخاف عليهم ألا يحسن إليهم من يلي أمرهم. يقول: فإن وَلي ضعافا يتامى مثل ذريته، فليحسِنْ إليهم، ولَا يأكُل أموالهم.
وخلاصة المعنى: عاملوا اليتامى بما تحبون أن يُعَامَلَ به أولادكم من بعدكم.
{وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} :
أي وليقولوا لليتامى قولًا لينا، تظهر فيه الشفقة والحنان، مع العناية بتهذيب خلقهم وتوجيههم إلى الرشاد.
المفردات:
{يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} : أَي يأكلون ما يؤَدى بهم إلى النار، ليعاقبوا فيها على ما أكلوه.
{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} : أي وسيدخلون نارا هائلة. من صَلِي النار - بكسر اللام - أي قاسى حرها. والسعير: النار الموقدة. من سَعَرت النار أوقدتها وألهبتها.
التفسير
101 -
سيقت هذه الآية؛ لتأكيد الأوامر والنواهي، التي سبقت في شأن اليتامى. وهي وعيد شديد، لمن يتعدى على أموالهم، بأخذها ظلما وعدوانا. أما إذا أخذ منها الولي
الفقير، بمقدار حاجته، كما سيق - في قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} - من هذه السورة، فلا إثم فيه.
والمراد من قوله تعالى: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أنهم يأْكلون من أموال اليتامى في الدنيا، ما يؤَدى بهم إلى النار في الآخرة. أو أن من يأكل مال اليتيم في الدنيا، يجازى في الآخرة على ذلك، بأن يأكل النار حقيقة. كما أخرجه ابن جرير في حديث الإسراء. وفيه: أن الرسول صلى الله عليه "رَأى أنَاسًا تُلْقىَ في أفْوَاهِهِم صخُورٌ مِنَ النارِ، وَتَخْرُج مِنْ أدبَارِهِمْ. فَسَألَ: مَن هَؤُلَاءِ يَا جبْرِيلُ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: هَؤُلَاء هُمُ الذِينَ يَأكُلونَ أمْوَالَ الْيَتَامى ظُلمًا".
والآية عامة في كل من يأكل مال اليتيم ظلما وعدوانا: وَلِيًّا كَان أَو غيره. وفيها من المبالغة في الوعيد على ذلك والتحذير ما لا يخفى.
التفسير
11 -
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ
…
} الآية.
لقد بيَّن الله عز وجل فيما سبق - أن لكل من الرجال والنساء، نصيبًا في الميراث. وكان بيانًا مجملًا.
وفي هذه الآية - وما يليها - بين الله من يستحق الميراث تفصيلا.
ولقد ذُكرت المواريث في ثلاث آيات من سورة. وهي الآيتان (11، 12) والآية التي ختمت بها هذه السورة، وهي قوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وقد قرر الله - في هذه الآيات الثلاث - الميراث للرجال والنساء: كبارهم وصغارهم. وأعطى كل واحد نصيبه. وأبْطل ما كانَ عليه أهل الجاهلية من حرمان الإناث والصغار من الذكور. وتوريث من ليس له حق في الميراث. فقد كانت أسباب الميراث في الجاهلية:
1 -
النسب: مع قَصْرِه على البالغين من الرجال: القادرين على الضرب والطعن، وركوب الخيل.
2 -
التَّبَنِّي: فكان للمتبنى ما للابن الحقيقي في الميراث وغيره. وأبطل الإسلام ذلك.
3 -
الحلف والعهد: فكان الرجل يقول للآخر: دمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وترثُني وأَرثُكَ. فإِذا مات أَحدهما قبل الآخر، ورث الحي الميت.
وبقى هذا الأخير مَعمولا به في صدر الإِسلام، إِلى أَن نزلت آيات المواريث.
وقد كان من أَسباب الميراث، في صدر الإِسلام: الهجرة والمؤاخاة. أول العصر المدني. فقد كان المهاجري يرث الأنصاري، دون قرابته وذوي رحمه، للأخوَّة التي آخى بينهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قال ابن عباس. ثم نسخ الله ذلك، واستقر الأمر - عند جميع المسلمين - بعد نزول آيات الميراث، على أسباب ثلاثة هي:
1 -
النسب. 2 - النكاح. 3 - الولاء (1).
والحكمة في تشريع ما كان في صدر الإِسلام ظاهرة. لأن أَقارب المسلمين. كان أغلبهم كفارًا. وكان المسلمون - لقلتهم وفقرهم - في حاجة إلى التكافل والتناصر والتعاون بينهم. ولا سيما: المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأَموالهم.
سبب النزول:
أخرج الإِمام أحمد، وأبو داود والترمذي. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. قال: "جاءَت امرأة سعد بن الرّبيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتِلَ أبوهما معك في أحُدٍ شهيدًا. وإنَّ عمَّهما أخذَ مالَهما فلم يَدَعْ لهما مالًا. ولا تُنكَحانِ إلا ولهما مالٌ. فقال: يقضِي اللهُ في ذلك. فنزلتْ آيةُ الميراثِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
…
} الآية. فأرسل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلى عمِّهما فقال له: أَعْطِ ابْنَتَي سَعْدٍ الثلثين، وَأمهُمَا الثمُن. وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ".
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} :
أي يأمركم الله في ميراث أولادكم أَمرًا مؤَكدًا: بأن يكون للذكر، مثل حظ الأنثيين. والولد: يطلق على الذَّكر والأنثى. ويدخل أولاد الابن في الأولاد، لأنهم يرثون عند عدم وجود الأولاد. فإذا مات الميت، وترك أولادًا ذكورا وإناثا، كان للذكر مثل نصيب اثنتين من الإناث.
(1) المراد: ولاء العتق. فالمعتق يرث عتيقه بعد موته، إن لم يكن له وارث آخر. كالقرب والزوجة بحيث يستنفدون الميراث. أما إن بقي بعد هؤلاء شيء، فهو للمولى المعتق.
والحكمة في جعل حظ الذكر - في الميراث - ضعف حظ الأنثى: أن الرجل مكلف بأعباء وواجبات مالية، لا تلزم بها المرأَة.
فهُوَ الذي يدفع المهر، وينفق على الزوجة والأولاد - بعد ذلك - نفقة شاملة.
أما المرأة، فهي تأْخذ المهر: لا تُلزم بأي نفقة: لنفسها أو أولادها ولو كانت غنية. وبذلك ترى أن العدالة تقضى بأن يكون نصيبها في الميراث أقل من نصيب الرجل. وأن الإسلام كان معها كريما، حينما أعطاها نصف نصيب الرجل، وجعل لها فيه كامل التصرف. فلا مجال لما يقال من أن الإِسلام بخسها حقها. ولا عدالة فيما يطالبون به من مساواتها بالرجل في الميراث.
أفلا يذكر هؤلاء: أن المرأة كانت - قديمًا - محرومةً من الميراث عند العرب وغيرهم، وأن بعض الشعوب - إلى الآن - تحرم على الزوجة كل تصرف في مالها، وتجعل حق التصرف فيه لزوجها، ولو بغير إذن منها؟!
{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} :
أي فإن كانت الأولاد إناثا لا ذكر معهن، وكان عددهن أكثر من اثنتين، فلهن ثلثا التركة، مهما بلغ عددهن.
{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} :
أي إن ترك الميت بنتا واحدة: لا أَخ لها ولا أخت. فلها نصف الميراث. بالغا ما بلغ. والنصف الآخر على باقي الورثة، حسب أَنصبتهم في الميراث.
وهذا الذي تقدم، هو نصيب الذكور مع الإناث من الأولاد، ونصيب البنات إذا كن أكثر من اثنتين، ونصيب البنت الواحدة إذا انفردت.
أما نصيب البنتين، فلم يذكر في الآية الكريمة. وقد اختلف فيه العلماءُ:
1 -
فقال الجمهور: للبنتين الثلثان. فحكمهما حكم الثلاث فأَكثر. ودليلهم ما يأتي:
(أ) قياس البنتين على الأُختين، حيث قال الله فيهما:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (1) والبنت أقرب إلى الميت من الأخت. فإذا حازت الأختان الثلثين، فأولى أن يكون ذلك للبنتين.
(ب) أن البنت تأخذ مع أخيها الثلث. فأولى أن تخذه مع أختها.
(ج) ما ورد عن ابن مسعود، من أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل للبنت مع بنت الابن الثلثين. فأولى أن يكون الثلثان للبنتين.
(د) الحديث المذكور في سبب النزول، فهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعطى لابنتي سعد بن الربيع الثلثين.
وعلى ذلك، يكون المعنى المراد من الآية: فإن كن نساء: اثنتين فما فوق.
2 -
وقال ابن عباس: إن البنتين: كالبنت الواحدة. نصيبهما النصف. لأن الله جعل لما زاد على الاثنتين الثلثين. فلا تعطى البنتان الثلثين. وإِنما تأخذان النصف. والراجح ما ذهب إليه الجمهور، لقوة أدلته.
هذا، وأولاد الابن كأولاد الصلب - في كل ما تقدم - عند عدم وجودهم. وتعرف أَحوال ميراثهم من كتب الفقه.
{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} :
بعد أن بين الله نصاب الأولاد: ذكورا أو إناثًا أو مجتمعين، شرع في بيان ميراث الأب وإلام. فإن كان الميت قد ترك أبويه وولدا ذكرا أو أنثى: واحدًا أو أكثر، فلأبويه السدس. ولأمه السدس. والباقي يعطى للأولاد على النظام المتقدم في بيان نصيبهم. فان كان الميت قد ترك بنتًا واحدة - مع الأب والأم - أخذت البنت النصف، ولكل من
(1) النساء من الآية: 176.
الأبوين: السدس. والباقي من التركة يأخذه الأب تعصيبًا. لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأهْلِهَا. فَمَا بقِيَ فَلَأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (1) ".
{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} : أي إذا مات الميت ولم يترك ولدًا: ذكرًا كان أو أنثى، وورثه أبوه وأمه، أخذت أمه ثلث التركة، والباقي للأب. وهو الثلثان. لأن الميراث انحصر فيهما. فبعد أن أخذت الأم فرضها، يأخذ الأب الباقي.
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} :
أي: أن نصيب الأم يصير سدسًا. لو كان الميت قد ترك عددًا من الإخوة من أي نوع: اثنين فأكثر، ولو كانوا غير وارثين. أما إذا كان للميت أخ واحد أو أخت واحدة، فلا يحجب الأم من الثلث إلى السدس، بل يبقى لها الثلث.
هذا الذي تقدم، هو مذهب الجمهور. من أن الاثنين من الإِخوة يُصيِّران نصيب الأم السدس، بدلا من الثلث.
ويرى ابن عباس: أَن نصيبها لا ينقص عن الثلث مع الاثنين من الإِخوة والأخوات. أخذًا من قوله تعالى: {إِخْوَةٌ} وأقل الجمع ثلاثة.
والجمهور يقولون: الاثنان جمع، فقد ورد إطلاق الجمع على الاثنين. قال تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (2). وقال: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} (3).
وأَيضًا، فقد رأى الجمهور: أن كلًا من البنتين والأختين. كالثلاث في الميراث. فيكون الاثنان من الأخوة كالثلاثة، في الحجب من الثلث إلى السدس.
(1) رواه الشيخان وغيرهما، وأحمد، والترمذي.
(2)
التحريم. من الآية: 4.
(3)
ص. من الآية: 21، 22.
ومن مسائل ميراث الأبوين: ما إذا كانا موجودين مع أحد الزوجين. فإذا ماتت امرأة عن زوجها وأبيها وأمها، فلو أَعطينا الزوج النصف كما سيأتي، وأعطينا ألام الثلث لعدم وجود ولد ولا عدد من الأخوة، لكان الباقي للأب هو السدس. فيكون نصيب الأم - وهي أنثى - ضعف نصيب الأب وهو رجل. وهذا لم يعهد في الميراث .. وقعت هذه المسألة في عهد الصحابة: فقضى فيها عمر، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وجمهور من الصحابة: بأن نصيب الأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج، وللأب ثلثا الباقي.
وخالف ابن عباس في ذلك. وقال: للأُم ثلث المال، وتناظر زيد بن ثابت فيها مع ابن عباس. فقال ابن عباس لزيد: لا أجد في كتاب الله أن للأم ثلث الباقي. فقال زيد ليس في كتاب الله إعطاؤُها الثلث مع وجود الزوج. وكأن زيدًا يريد أَن يقول: أن الله تعالى، أعطاها الثلث - إن كان الميراث منحصرًا في الأَبوين، وإلا كان قول الله - تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} عدم الفائدة.
ومثل المسألة المتقدمة: ما إذا كان الميت الزوج، وترك زوجة وأبًا وأمًّا. فللزوجة الربع وللأم ثلث الباقي، وللأب ثلثاه.
وتعرف هاتان المسألتان في الميراث، بالعُمَرِيتين؛ لقضاءِ عمر فيهما بذلك. وقد وافقه جمهور الصحابة على ذلك.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} :
أي تقسيم الميراث على النحو المتقدم: للأَولاد والأبوين، لا يكون إلا بعد أداءِ وصية قد أوصى بها قبل موته أَو بعد سداد دين كان عليه قبل موته.
فلا يأخذ أي وارث شيئًا من الميراث، إلا بعد سداد الديون، وتنفيذ الوصايا؛ لأنهما حق لغير الورثة. فلا يورث.
هذا، والحقوق المتعلقة بالتركة: ما يأتي، على هذا الترتيب:
(1)
ما يتعلق بتجهيز الميت ودفنه.
(2)
سداد ديونه حتى تبرأ ذمته.
(3)
ما يكون قد استدركه من أعمال الخير قرب وفاته، كالوصايا، في حدود الثلث. ويقدم سداد الديون على تنفيذ الوصية، إذا لم يتسع المال الموروث لهما.
وإِنما قدم الله الوصية في الآية الكريمة على الدين، اهتمامًا بشأنها؛ لأنها مظنة للتفريط في أدائها.
{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} :
أي: هؤُلاء الذين أوصاكم الله بهم، وبين أنصباءَهم في المال الموروث هم:: آباؤكم وأَبناؤكم. والله يَعلَمُ أقربهم لكم نفعًا. وأنتم لا تدرون ذلك. ولهذا تولى قسمة المال بينهم حسب علمه. ولم يتركه لكم، لعدم علمكم بمن يستحق الأكثر، ومن يستحق الأقل.
أي فَرَضَ الله ذلك الذي تقدم، فريضة عليكم، وألزمكم به.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} :
فهو يعلم ما به صلاح خلقه، وهو ذو حكمة: يضع كل شيء في موضعه. ويقضي بما يراه حقا.
فعليكم أن تنفذوا وصيته، وأَن تستسلموا لما قضى به من قسمة المواريث. فهو العليم بمواضع المصلحة، دون سواه.
المفردات:
{كَلَالَةً} : مصدر من فعل"كَلَّ" بمعنى الكلال. وهو العجز والإعياء، وكَلَّ الرجلُ كلالة، إذا مات وليس له والد أو ولد يرثه؛ لأنه عجز عن بلوغ القرابة القوية.
{غَيْرَ مُضَارٍّ} : أي غير مدخلٍ الضررَ على الورثة، في وصيه أو دين. كأن يوصى بأكثر من الثلث. أو يقر بدَيْن ليس عليه.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} حدود الله: شرائعه وأحكامه. وأَطلق عليها الحدود، لشبهها بالحدود والحواجز، من حيث إن المكلف: لا يجوز له أن يتعداها إلى غيرها.
التفسير
12 -
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
…
} الآية.
المعنى: {وَلَكُمْ} أيها الأزواج. {نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} : أي نساؤُكم، بعد وفاتهن من أموال منقولة وغير منقولة.
{إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} : أي ولد من بطنها أو من صلب بنيها، أو أولاد بنيها .. نزولًا إلى غير حد: ذكرا كان أو أنثى، واحدًا أَو أكثر، منكم أو من غيركم. كما فهم من إضافته إِلى الزوجات في قوله تعالى:{لَهُنَّ} والباقي بعد النصف الذي استحقه الزوج يعطَى لذوى الفروض والعصبات، الذين لهم حق ميراث الزوجات. ولبيت المال، إِن لم يكن لهن وارث أصلًا.
{فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} : على النحو المذكور {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} : من المال. والباقي لسائر الورثة. والنصيبان المذكوران للأزواج من زوجاتهم.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} : فالباقي من مال الزوجة المتوفاة - بعد تنفيذ وصيتها وقضاء دينها - يأخذ منه الزوج النصف تارة، والربع تارة أخرى. حسب التفصيل السابق.
ويفهم من الآية: وجوب تقديم الوصية والدَّين على قسمة الميراث. فإن استوعبا التركة، فلا ميراث لأحد منها. وإن كانت التركة تكفي الدَّين وحده أو الوصية وحدها، قُدِّم الدَّين على الوصية.
وقد أجمع العلماءُ: على أن نصيب الزوج من زوجته النصف أو الربع، على النحو الذي بينته الآية الكريمة.
{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} : أي ولزوجاتكم الربع مما تركتم - أيها الأزواج - من المال. والباقي لسائر ورثتكم، أو لبيت المال، إن لم يكن لكم وارث:{إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} منهن أو من غيرهن: ذكرًا كان أو أنثى. واحدًا أو أكثر.
{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ} : على النحو المذكور. {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} : من المال. ويقوم ولد الابن مقام ولد الصلب في كل ذلك. وما بقي، فالشأن فيه كما تقدم {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}: كما سبق بيانه.
وقد أجمع العلماء: على أن كلا من الربع أو الثمن، يكون للزوجة إِن انفردت، وللزوجتين أو الثلاث أو الأربع إذا اجتمعن: يقسم الربع بينهن بالسوية، عند عدم الولد للزوج. والثمن كذلك عند وجوده. وقد فرض الله تعالى، للرجل - بحق الزواج - ضعف ما فرض للمرأة. كما في النسب. ذلك بما فضله الله به، إذ جعله قوَّامًا عليها.
ثم شرع في بيان أحكام من يحتمل السقوط من الورثة - بعد بيان أحكام الآباء والأولاد، والأزواج والزوجات، وهم لا يسقطون بحال - فقال، جل شأنه:
{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} الكلالة هو من لم يكن له والد ولا ولد عند موته. {أَوِ امْرَأَةٌ} : تورث كلالة كذلك.
{وَلَهُ} أي للرجل الذي يورث كلالة {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} لأمه، وكذلك إذا كان للمرأة التي تورث كلالة، أخ أو أخت لأمها {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}: أي من الأخ أَو الأخت لأم {السُّدُسُ} : يستوي فيه ذَكَرُهم وأنثاهم {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} : أي فإن زاد الإخوة لأم عن الواحد، فهم جميعًا: شركاء في الثلث - وإِن كثر عددهم - يقتسمونه بينهم بالسوية. لا فرق بين ذَكَرِهم وأنثاهم.
وقد أجمع العلماءُ: على أن المراد من الإخوة - هنا - الإخوة لأم لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} : والإخوة للأبوين أو للأب، لا يرثون هكذا. إِذ هم المعنيون بما جاء في قوله تعالى في آخر هذه السورة:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وإن كانوا أيضًا يسمون: كلالة. مثل الإخوة لأم، لقوله تعالى في صدر
…
الآية.
وفي كل حال من أحوال ميراث الكلالة، يأخذ الأخوة لأم نصيبهم {مِنْ بَعْدِ} تنفيذ {وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} من الرجل أو المرأة صاحبي التركة {أَوْ دَيْنٍ} ثبت على كل منهما أو أوصى به، وكذا الحكم في مثله فيما تقدم:{غَيْرَ مُضَارٍّ} : أي غير جَالب لورثته الضرر بعد موته، بالزيادة على الثلث في الوصية. أو بقصد الإضرار بهم، دون التقرب بها إلى الله تعالى. أو بالإقرار بِدَين لا يلزمه.
{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} : أي يوصيكم الله بكل ذلك، وصية مؤَكدة، صادرة من عنده، واجبة الرعاية والتنفيذ.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بكل شيء: عِلْمَ إحاطةٍ وشمول. فيعلم جميع أحوالكم ونياتهم: حسنة كانت أو سيئة فيجزيهم عليها.
{حَلِيمٌ} : لا يعاجل المخالفين بعقوبته، إمهالا؛ لعلَّهم يتوبون، وليس إهمالا، فكل سيلقى جزاءه.
واستيفاء الكلام على ميراث الإخوة لأم وأحكام الوصية، مبسوط في كتب الفقه.
13، 14 - {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}:
بعد أن أوضحت الآيات السابقة، طائفة من أهم أحكام الوصية والميراث وحقوق اليتامى والنساء - جاءت هاتان الآيتان: تشددان في الالتزام بها بترغيب الطائعين، وتحذير المخالفين.
والمعنى: {تِلْكَ} الأحكام العظيمة الشأْن، التي مضت في شئون النساء واليتامى والمواريث والوصايا وسواها.
{حُدُودُ اللَّهِ} : شرائع الله: الكثيرة النفع، التي هي كالحدود والحواجز، التي لا يجوز تجاوزها.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : بامتثال كل التكاليف، وفي جملتها تلك الحدود.
{يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} : عظيمة النعيم، عالية الدرجات. ومن عظمها أنها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}: لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها: قال تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (1). وقال تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (2).
{وَذَلِكَ} : الجزاءُ الكريم بتلك الجنات العالية هو {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : فقد حصلوا به على أَسمى المطالب، ونجوا من كل المكاره. ولا فوز يدنو من ذلك الفوز، الذي نالوه بطاعة ربهم وجزيل كرمه.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} : أي من يتجاوز شرائعه المحدودة في جميع الأحكام، مستحلا مخالفَتها، أو مستهينًا بها، عاصيًا بتركها - ويدخل في هذا الوعيد العام - المخالفون لما بينته الآيات السابقة.
{يُدْخِلْهُ} الله. {نَارًا} هائلة: شديدة الإحراق حال كون الداخل إلى تلك النار.
{خَالِدًا فِيهَا} : لا يبرحها.
{وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} : أي وله فوق عذاب الحريق الجسماني، عذاب روحاني، مهين: مذل. لا يعرف كنهه إلا الله تعالى.
(1) الدخان من الآية: 56.
(2)
الحجر الآية: 48.
المفردات:
{الْفَاحِشَةَ} : معناها لغة؛ الفعلة الشديدة القبح. والمراد منها هنا: الزنى. لأنه من أقبح الفواحش.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ} : احبسوهن.
{سَبِيلًا} السبيل: الطريق الموصل؛ سواء أكان سهلا أم صعبًا.
التفسير
15 -
بعد أن قررت الآيات السابقة، حقوقًا للنساء في الميراث - كان أهل الجاهلية ينكرونها عليهم ولا يعترفون لهم بها جاءَت هذه الآية، والتي تليها - ببيان ما عليهن من واجب العفة، وصيانة العرض، وتوضحان: أنهن ارتكبن الفاحشة، عوقبن؛ صيانة لهن من الخزي، وللأسرة من العار، والضياع؛ وللمجتمع من الفساد والانحلال. وللإيذان بأن باب التوبة مفتوح أمام الزناة، حضا على تطهير القلوب، والرجوع إلى الله: بالإقلاع عن الجريمة النكراء.
والمعنى:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} : أي والنساء اللاتي يفعلن ويرتكبن فاحشة الزنى القبيحة - حال كونهم من إناثكم أيها المسلمون، سواء أكن ثيبات أم أبكارا.
{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} : أي فاطلبوا ممن قذفهن أي يُشهِدَ على زناهم - عند عدم إقرارهن به - أربعة رجال عدول منكم أيها المؤمنون. فلا تصح شهادة النساء، ولا تقبل شهادة غير المسلمين، ولا غير العدول.
ولخطورة الادعاء بالزنى. اختص - وحده - بشهادة هذا العدد: تغليظًا على المدعي وسترًا على العباد، وصيانة للأنساب.
{فَإِنْ شَهِدُوا} : أي فإن أدى الأربعة الشهادة عليهن، برؤيتهم للجريمة رؤية واضحة محققة، أثناء التلبث الكامل بها.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} : أي فاحبسوهن في البيوت؛ عقوبة لهن طول خيانتهن.
{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} : أي حتى ينهي الموت حياتهن، بقبض أرواحهن.
{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} : أو إلى أن يجعل الله لهن طريقًا آخر لعقوبتهن على اقتراف جريمة الزنا.
وهكذا شأن الله تعالى، في علاج الجرائم الاجتماعية؛ المنتشرة بين الطبقات، الجارية منهم مجرى الغرائز: لا يعالجها بالحسم من أول الأمر، ولكنه يتدرج في علاجها، فيبدأ بالأخف، وينتهي بالأشد، حتى لا يكون الحسم - من أول الأمر - صعبًا على النفوس. وقد حدث مثل ذلك في عقوبة الخمر وسواها. فسبحانك أنت الحكيم العليم.
16 -
المعنى: والرجل والمرأة اللذان يرتكبان فاحشة الزنى القبيحة منكم - أيها المسلمون - {فَآذُوهُمَا} : بالتقريع والتوبيخ، وبيان أن ما ارتكباه جريمة في حق المجتمع وحق أنفسهما، وأنهما تعديا حدود الله بما اقترفاه.
ورأى ابن عباس: أَن يضاف إلى ذلك الضرب، وهذا الإيذاءُ عقوبة للزناة من الرجال: أبكارًا كانوا أو غير أبكار. وكذا للزانيات من النساء، ثيبات وأبكارًا، فوق عقوبة الحبس الخاصة بهن.
فالإيذاء: عقوبة مشتركة بين الجنسين، بعد ثبوت الزنى عليهما بأربعة شهداء استكملوا الشروط السابقة، ومثل ثبوته بهؤُلاء الشهود، ثبوته بالإقرار. فهو سيد الأدلة. وقد ثبت بالسنة.
{فَإِنْ تَابَا} : أي إن رجع الزانيان من الفريقين عن جريمتهما بعد الإيذاء. {وَأَصْلَحَا} : عملهما وسلوكهما، وظهرت الاستقامة عليهما. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}: فاقْبَلوا توبتَهما، وكفُّوا الإيذاءَ عنهما. وتبقى عقوبة الحبس على الزانيات بعد توبتهن؛ احتياطًا للأعراض.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} : أي إن الله كان ولا يزال، عظيم التوبة على عباده، واسع الرحمة بهم.
وإنما اختص النساءُ - أول الإِسلام - بعقوبة الحبس دون الرجال؛ لأن الرجل هو عائل الأسرة، والقَوَّام عليها. فلو حُبِس حتى يموت، لكان في ذلك ضياعٌ واسع المدى لأسرته. والله لا يرضى بذلك.
وقد بقيت عقوبة الزنى على النحو السابق: الإيذاءُ للرجال والنساء. والحبس للنساء خاصة حتى الموت. حتى جعل الله لهن السبيل الذي وعد به. فيما رواه الإِمام أحمد، وأبو داود ومسلم والترمذي، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه رسم، قال:"خُذُوا عَنِّي. خُذُوا عَنِّي .. قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ البِكْرُ بِالْبكْرِ: جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام. وَالثَّيِّبُ بِالثيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ".
وقد نسخ جلد الشيب الوارد في الحديث بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز والغامدية، فإنه رجمهما ولم يجلدهما مع أنهما ثيبان وبقيت على الثيب عقوبة الرجم.
وبذا، تكون عقوبة الحبس - التي شرعت أول الإسلام - قد انتهت بتشريع الرجم للمحصن والجلد لغيره، ذكرا كان أم أنثى.
المفردات:
{السُّوءَ} : القبح والمراد هنا: المعاصي مطلقًا.
{بِجَهَالَةٍ} الجهالة: الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعقلاء. وليس المراد بها عدم العلم، فإن من لا يعلم. لا يحتاج إلى التوبة.
التفسير
17 -
بعد أن أوضحت الآيتان السابقات، عقاب من أتى بالفاحشة من النساء والرجال، وأن باب التوبة مفتوح - جاءت الآيتان تؤكدان ذلك، وتذكران الشروط التي تجعل التوبة مظنونة القبول.
أي: إنما قبول التوبة ثابت ومتحقق من الله - فاء بوعده الصادق - للذين يعملون المعصية: صغيرة كانت أو كبيرة، جاهلين - أي سفهاء غير متدبرين - عاقبة ما يصنعون.
ثم يتوبون إلى الله من ذنوبهم - توبة صادقة، ويستيقظون من غفلتهم - في وقت قريب، قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وتظهر أسباب الموت وأماراته.
{فَأُولَئِكَ} : التائبون قبل فوات الأوان {يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} : أي يقبل توبتهم تفضلًا منه، تحقيقًا لوعده الذي لا يتخلف.
{وَكَانَ اللَّهُ} : ولا يزال {عَلِيمًا} : يحيط علمه بكل شيء. فيعلم الصادق في توبته وغيره {حَكِيمًا} : عظيم الحكمة في التدبير كل الأمور، وتصريف جميع الشئون ومن حكمته: أن فتح باب التوبة أمام العصاة جميعًا؛ حسمًا لمادة الفساد.
وقد اتفقت الأمة، على أن التوبة من الذنب، واجبة على المؤمنين. لقوله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} : صحيحة ولا مقبولة {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} : ويستمرون عليها. {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} : فإن توبة هؤلاء لا يقبلها الله تعالى؛ لأنها جاءت في وقت اليأس من الحياة.
أما التوبة المقبولة، فهي التي تكون في وقت الأمل في الحياة، مع الرغبة في إصلاح الحال بعدها.
{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} : أي وليست التوبة أيضًا للذين يقربون من الموت وهم كفار. فيقولوا آمنا في وقت الغرغرة، فإنها توبة مردودة على صاحبها. كما رد الله توبة فرعون لما أدركه الغرق.
{أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} : أي أولئك جميعًا هيأنا لهم عذابًا عظيمًا شديد الإيلام، يتفاوتون في تفاوتهم في الكفر والمعاصي.
(1) النور، من الآية:31.
المفردات:
{كَرْهًا} : مكرهين بدون رضاهن.
{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} العضل: المنع والحبس والتضييق.
{بِفَاحِشَةٍ} : كل ما فحش قبحه قولًا أو فعلا. والمراد بها هنا: نحو الزنى والنشوز.
{مُبَيِّنَةٍ} : واضحة ظاهرة.
التفسير
19 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
…
} الآية.
فيما تقدم من الآيات، أبطل الله - سبحانه - عادات كانت للجاهلية، في شأن اليتامى وأموالهم. وميراث النساء. واستطرد الحديث، إلى وجوب الحفاظ على عفتهن وتأديبهن، إن ارتكبن الفاحشة، استكمالًا لعناصر إصلاح الأسرة.
وفي هذه الآية، ينهى عن عادات جاهلية أخرى، تتعلق بالنساء في أنفسهن وأموالهن.
سبب النزول:
روى البخاري، عن ابن عباس، قال:"كانوا إذا مات الرجلُ كانَ أولياؤُه أحقّ بامرأته: إن شاءَ بعضهم تزوجها، وإِن شاءُوا زوّجوها، وإن شاءُوا لم يزوجوها. فهم أحق بها من أهلها". فنزلت هذه الآية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ} :
أي: لا يحل لكم أيها المؤمنون: أن ترثوا من أقاربكم زوجاتهم بعد وفاتهم، كما تورث الأموال والعقارات. وتقولوا: نرثهن كما نرث أموالهم.
{كَرْهًا} : كارهات لذلك، بأن تتزوجوهن أو تزوجوهن من غيركم، بدون رضاهن، أو تمنعوهن من الزواج. كأنما تتصرفون في أموال ورثتموها. فإن ما كان من أفعال الجاهلية المنكرة، لا يليق بكم أيها المؤمنون.
{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} : أي ولا تضيقوا أيها الأزواج، على زوجاتكم اللاتي كرهتموهن لدمامة أو سآمة وملل، وتحبسوهن لديكم، مع سوء العشرة؛ ليفتدين أنفسهن منكم ببعض صداقكم لهن، فتأْخذوه منهن بدون رضاهن.
{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} : أي إلا أن يرتكبن فعلةً واضحة القبح، ظاهرة الشناعة تجعلها - وحدها - المسئولة عن هدم الحياة الزوجية: كالزنى، أو النشوز. وعندئذ، يكون من العدل: أن يأخذ الزوج المظلوم، بعض ما أداه لها صداقًا ليخالعها عليه، إذْ هي التي هدمت بيته بظلمها، وعدوانها.
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} : أي بما عُرِفَ في الشرع حسنُه، من الإنفاق قدر طاقتكم، من غير إسراف. ومن القسم بالعدل، والقول اللين، وانبساطة الوجه؛ لتعيشوا سعداء.
{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} : وسئمتم عشرتهن لدمامتهن، أو سوء في خلقهن يمكن احتماله، فلا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس، وذهاب الحب، واصبروا على معاشرتهن {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}: فلعلكم تكرهون شيئًا بحكم النفس والهوى،
ويجعل الله تعالى فيه خيرًا كثيرًا: دنيويًا كان أو أخرويًا. وأَنتم لا تعلمون ذلك الخير ولا تدركونه. بسبب كراهتكم لهن! فأحسنوا إليهم وعاشروهن بالمعروف، لتَرَوْا ثمرة ذلك. فإن المعروف يتعقب الخير دائمًا.
المفردات:
{قِنْطَارًا} : هو مائة رطل كما في القاموس والعرف. والمراد منه: الشيء الكثير.
{بُهْتَانًا} البهتان: الكذب الذي يواجه به المكذوب عليه فيحيره. والمراد به هنا: الظلم الذي يتحير في ارتكابه.
{أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} الإِفضاءُ إلى الشيء: الوصول إليه بالملامسة. والمراد به هنا: الاتصال الجنسي. أو ما يكون بين الزوجين في خلوة.
{مِيثَاقًا غَلِيظًا} : عهدًا وثيقًا قويًّا.
التفسير
20 -
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا
…
} الآية.
بعد أن تحدثت الآية السابقة. عن حكم الفراق الذي سببه الزوجة، وأنه يتيح للزوج أن يأخذ من زوجته، بعض ما أعطاها من ماله؛ تعويضًا عما لحقه من الضرر،
جاءَت هذه الآية لتبين أنه إن طلقها - دون أن يكون منها نشوز وإساءة - فليس له أن يأخذ مما أصدقها إياه شيئًا، ولو كان قليلًا، وإن كان الذي أعطاها إياه مالًا كثيرًا.
والمعنى: وإن أردتم - أيا الأزواج - تزوج امرأة ترغبون فيها، لتقوم مكان زوجة ترغبون عنها، وتريدون طلاقها، وقد كنتم أعطيتم من قبل ذلك من تريدون فراقها مالًا كثيرًا:
{فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} : فلا تستردوا من الكثير الذي أعطيتموه لها شيئًا ولو قليلًا، فضلا عن أن تأخُذُوا مِنه كثيرًا.
وقد استدل بظاهر الآية، على جواز المغالاة في المهور.
روي أن عمر رضي الله عنه، قال على المنبر: لا تُغاَلوا في مُهور نسائكم. فقامت امرأة فقالت: يا ابن الخطاب، الله يعطينا وأنت تمنع؟ وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر، ورجع عن النهي عن المغالاة (1).
ومع سكوت عمر عن النهي عنها، فالقصد في المهور أفضل.
ففي الحديث: "أعْظَمُ النِّسَاء بَرَكَةً أيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً (2) ".
وذهب العلماءُ إلى أنه لا حد لأكثر الصداق.
واختلف في أقله. وقد تكفلت كتب الفقه ببيان الآراء في ذلك.
وبعد النهي الصريح عن أخذ شيء من صداق من يراد طلاقها، انتقلت الآية إلى تأكيد هذا النهي - بطريق الإنكار - على من يسترد شيئًا من الصداق، وتوبيخه على ذلك، بقوله تعالى:
{أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} : أي أتأخذون هذا الصداق - أو شيئًا منه - ظالمين للزوجات بهذا الأخذ، وآثمين به إثمًا بينًا واضحًا!
(1) رواه الإِمام أحمد.
(2)
رواه أحمد في مسنده.
كان أحدهم إِذا أراد التزوج بامرأة، رمى الزوجة التي عنده بفاحشة ظلمًا، كي يلجئها إلى الافتداء منه بصداقها أو ببعضه، فَنُهوا عن ذلك (1).
21 -
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ
…
} الآية.
هذا إنكار على الأخذ من صداق الزوجة، بعد إنكار في الآية قبلها، وتنفير منه إثر تنفير. وتعجيب من حال هذا الذي يظلم زوجته بغير حق!
والمعنى: بأي وجه، ولأي سبب تفعلون هذا، وتتناسون أنه - جرى بينكم وبينهن ما يؤَكد حقهن فيما أخذنه صداقًا! فقد بذلت المرأة نفسها لزوجها، وجعلت ذاتها موضع تمتعه، وحصلت الألفة التامة، والمودة الكاملة بينهما. فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئًا بذله لها بطيب نفس! إن هذا لا يليق بمن له طبع سليم، وذوق مستقيم.
{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} : يوم تزوجتموهن على ما أخذه الله للنساء على الرجال، من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. قال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2). ومن ألجأ زوجته إلى الافتداء بصداقها، لم يكن تسريحه لها بإحسان، بل بالإساءة.
وقد أكدت السنة ما جاءت به الآية.
قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "وَاستَوصُوا بِالنِّسَاء خَيْرًا، فَإنَّكُمْ أخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ الله وَاستَحْلَلتُمْ فرُوجَهُن بِكَلِمَةِ الله (3) ".
(1) رواه الطبراني عن ابن عباس.
(2)
البقرة. من الآية 229.
(3)
رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
المفردات:
{سَلَفَ} : مضى وتقدم.
{فَاحِشَةً} : فعلة شديدة القبح.
{مَقْتًا} : بغضًا شديدًا.
{وَسَاءَ سَبِيلًا} : وقبح طريقًا.
{وَرَبَائِبُكُمُ} : جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره.
{فِي حُجُورِكُمْ} الحِجْرُ: الحضن. والمراد في كفالتكم وتحت رعايتكم.
{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} : زوجات أبنائكم. وسميت الزوجة حليلة؛ لحلها للزوج.
التفسير
22 -
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
…
} الآية.
بعد أن بينت الآية السابقة ما يحل للزوج أَخذه من الصداق وما يحرم، جاءت هذه الآية - والآيتان بعدها - لبيان من يحرم نكاحهن من النساء ومن يحل.
سبب النزول:
قال الآلوسي: أخرج ابن سعد، عن محمَّد بن كعب، قال:
كان الرجل إذا تُوُفي عن امرأته. كان ابنه أحق بها أن ينكحها - إن شاء - إن لم تكن أمه - أو ينكحها من شاء. فلما مات أبو قيس بن الأسلت، قام ابنه حصْن، فورث نكاح امرأته، ولم ينفق عليها، ولم يورثها من المال شيئًا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له. فقال: ارجعي، لعل الله ينزل فيك شيئًا، فنزلت {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
…
} الآية.
ونزلت {
…
لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا
…
} الآية.
وقال الآلوسي أيضًا: وذكر الواحدي، وغيره، أَنها نزلت في حِصن المذكور. وفي الأسود بن خلف: زوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف. تزوج امرأة أبيه: فاختة بنت الأسود، وفي منظور بن ريان: تزوج امرأة أَبيه؛ مليكة بنت خارجة.
وقال القرطبي: كان في العرب قبائل، قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أَبيه. وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة. وكانت في قريش مباحة مع التراضي .. الخ.
ولشيوع هذا المنكر بينهم، أفرد الله تحريمه بآية خاصة، لم يدرجه ضمن المحرمات في الآيتين التاليتين؛ اهتمامًا بشأن تحريمه، ومبالغة في الزجر عنه، والتنفير منه؛ لشدة قبحه.
المعنى: ولا تتزوجوا مَن تزوجهن آباؤُكم من النساءِ بعد فراقهم لهن بموت أو طلاق؛ لشدة قبحه. لكن ما قد مضى وسبق من هذا الزواج - قبل نزول تحريمه في هذه الآية - فإنه معفو عنه. ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج، عند نزول هذه الآية. ويثبت النسب به، وعليكم أن تمتنعوا عن وطئهن، فإنهن أصبحن محرماتٍ عليكم.
{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} :
أي أن نكاح زوجات الآباء، الذي حرمه الله في هذه الآية، كان - ولا يزال في حكم الله - فعلة قبيحة، وأمرًا ممقوتًا بغيضًا. وَقَبُحَ هذا الطريق عند الله، وعند أصحاب المروءَات، طريقًا إلى الزواج.
والنكاح: حقيقة لغوية في كل من العقد والوطء.
واختلف في معناه شرعًا في آيات القرآن الكريم.
فالشافعية يقولون: المراد منه العقد. ولذلك يحلون للابن المرأة التي زنى بها أبوه. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يحرم على الرجل أن يتزوج بمن زنى بها أبوه. إذ النكاح عنده: عبارة عن الوطء ولو كان محرمًا.
23 -
المعنى: جاءَت هذه الآية - مع التي قبلها والتي بعدها - بتحريم نكاح خمسة عشر صنفًا من النساء. وهن: سبع من النسب، وسبع من جهة الرضاعة والمصاهرة، وواحدة ما دامت زوجة. وهي المحصنة.
وقد تقدم في الآية السابقة، بيان تحريم ما نكح الآباءُ من النساء. ويأتي في الآية التالية، بيان تحريم المحصنات من النساء. فتكون هذه الآية وحدها، اشتملت على تحريم ثلاثة عشر نوعًا. وفيما يلي بيانها:
سبعٌ يحرم نكاحهن من النسب، أي القرابة. وهن: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت.
وستّ أخريات يحرم نكاحهن من الرضاعة والمصاهرة وهن: الأمهات، والأخوات من الرضاعة، وأمهات الزوجات وبناتهن، وحلائل الأبناء، والجمع بين الأختين. قال تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} : أي حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم. والمراد من الأمهات: ما يشمل الأم والجدات لأب أو لأم.
{وَبَنَاتُكُمْ} : أي بنات الصلب، وبنات الأولاد: ذكورا كانوا أَو إناثًا. {وَأَخَوَاتُكُمْ} من الجهات الثلاث: شقيقاتٍ أو لأب، أو لأم.
{وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} : من الجهات الثلاث، في كل نوع من هذه الأنواع: أي شقيقاتٍ، أو لأب، أَو لأم. والعمة تشمل أخت الأب أو الجد وإن علا. والخالة تشمل أخت الأم وأخت الجدة وإن علت. وبنات الأخ وبنات الأخت، تتناول القربى والبعدى.
وبعد بيان الحرمات من النسب، انتقلت الآية، إِلى بيان ما يحرمه الرضاع، فقالت:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} : لقد أَثبت فيما الجزء من الآية الكريمة أن الرَّضاعة تمنح المرضعة وصف الأُمومة، فتسمى بذلك أمًّا للرضيع. وتمنح أَولادها وصف الأخوة للرضيع: ذكورًا وإناثًا ولو من أَزواج متعددين. ويسمَّوْن بذلك إخوة وأخوات. وينتقل التحريم - بحكم ذلك - من المرضعة إلى أصولها وفروعها، وإخوتها وأخواتها. وينتقل كذلك، إِلى صاحب اللبن - وهو زوج المرضعة - وأصوله وفروعه، وإخواته وأخواته فأبو المرضعة، جدّ للرضيع، وأمها جدَّة له. وبنها وبنتها أُخته، وأخوها خاله، وابنة بنتها ابنة أخته. وهكذا. وكذلك زوج المرضعة - صاحب اللبن - أبو الرضيع، وأبواه جداه من الرضاع، وبنته - ولو من غير المرضعة - أخته، وأخته عمته. وعلى كل، فالأَمر في الرضاع، كما في الحديث "يَحْرُمُ مِنَ الرضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ"(1).
والمراد من أَخوات المرء من الرضاعة: بناتُ من أرضعته، وبنات صاحب اللبن، وإن لم يَرْضعْنَ معه، بأَن وُلدْنَ قبله أَو بعده.
والرضاع المحرم: يكون بوصول لبن المرأة إلى الجوف. مصًّا من الثدي، أو شربا من نحو إناء، أو مطبوخًا.
وَرَضْعَةٌ واحدةٌ ولو مصَّة، تكفى في التحريم عند أكثر العلماء.
(1) الفتح الكبير 3 - 415 رواه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة وأحمد في مسنده ومسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس.
ولا تحريم عند الشافعي إلا بخمس رضعات متفرقات. لحديث ثبت عنده بذلك (1) والرضاع بعد الحولين، عند أكثر العلماء لا يحرم. والمراد: الحول القمري.
واعتبر أبو حنيفة في إثبات حكم الرضاع: ستة أشهر بعد الحولين.
واعتبر مالك - بعد الحولين - شهرًا أو نحوه.
وقال الأوزاعي: إذا فطم لسنة، واستمر فطامه، فلا يعتبر الرضاع بعده.
وعند الإمام الليث: أن الرضاع يحرم ولو للرجل الكبير. وهو مذهب عائشة.
والفتوى على خلافه. ولكل دليله.
وتفصيل الكلام على ذلك، في كتب الفقه.
وبعد بيان المحرمات من جهة الرضاعة، التي لها لحمة كلحمة النسب، شرعت الآية في بيان المحرمات من جهة المصاهرة. في قوله تعالى:
والمراد من هذا الجزء من الآية الكريمة: أن الرجل إذا عقد على البنت فإن أُمها تحرم عليه بمجرد العقد، حرمة أبدية. وإن لم يدخل بها. فلا تحل له بحال، وإذا عقد على امرأة لا تحرم عليه بنتها إِلا إِذا دخل بأُمها، فإنها حينئذ تحرم أبدًا، فإن لم يدخل بالأم، فلا تحرم عليه بنتها أبدًا. بل له أن يتزوجها بعد طلاق أمها.
وليس المراد بالتعبير بربائبكم اللاتي في حجوركم، تقييد التحريم لبنت الزوجة، بكونها تتربى في حماية الزوج، وفي حضانته ورعايته - بل هو تعبير عما هو الغالب. وهو أن يكن في حضانة الأزواج مع أمهاتهن. كما يستفاد منه تأكيد معنى الحرمة، بتقوية الشبه بينهن وبين الأولاد.
{وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} :
أي وحرم عليكم نكاح زوجات أبنائكم تحريمًا أبديًا. سواءٌ حصل الدخول أم لم يحصل والمراد بالابن من انتسب إليك بالولادة. فيشمل ابن الابن وإِن نزل. فزوجة ابن الابن، وابن البنت، تحرم كذلك على الجد.
(1) رواه مسلم عن السيدة عائشة.
وقد أجمع العلماءُ على ذلك. كما أَجمعوا على تحريم زوجة الأب على أبنائه وحفدته، وإِن لم يدخل بها. وسميت الزوجة حليلة؛ لحلها للزوج.
وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} : لإخراج زوجات الأبناء بالتبني. فيجوز التزوج بهن بعد طلاقهن.
أما حرمة زوجات الأبناء من الرضاع، فثابتة بحديث:"يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النسَبِ (1) ".
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} : أي وَحُرِّمَ على الرجل أَن يجمع بين أختين في النكاح. فلا يتزوج الرجل امرأة، ثم يضم إليها أختها بطريق الزواج.
وهذا بإجماع العلماء.
واختلف في الجمع بينهما في الوطءِ بملك اليمين. فجمهور العلماء يحرمه، قياسًا على النكاح.
وأهل الظاهر يجيزونه، كما جاز الجمع بينهما في الملك. عملا بقوله تعالى: في الآية التالية {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ولم يلتفت أهل الفتوى لهذا الرأي. وقالوا بحرمة ذلك، لأن سبب التحريم وهو البغضاءُ والنفور. والتقاطع بسبب الغير، حاصل في الوطء بملك اليمين - كالنكاح.
{إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} : أي لكن ما قد مضى قبل النهي، لا تؤاخذون به. ويجب التفريق بينهما، إن وُجِدَ مثل ذلك، حين نزول الآية.
وكما يحرم الجمع بين الأختين، يحرم الجمع بين المرأَة وعمتها. أو خالتها. وكذلك يحرم الجمع بين أكثر من أربع حرائر.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} :
أي إن الله كان - ولا يزال - عظيم الغفران لذنوب مَنْ تاب إلى الله وأَناب، واسع الرحمة، فلا يؤَاخذ إلا بعد النهي والإرشاد.
(1) رواه الشيخان وأحمد وغيرهم.
المفردات:
{الْمُحْصَنَاتِ} : جمع محصنة. وقد ورد الإحصان في القرآن الكريم بمعانٍ مختلفة منها: التزويج والحرية، والعفة. والمراد هنا: ذوات الأزواج.
{مُحْصِنِينَ} . من الإحصان بمعنى العفة.
{مُسَافِحِينَ} : زانين.
{اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} : تمتعتم بهن.
{أُجُورَهُنَّ} : مهورهن التي فرضت لهن.
التفسير
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
…
} الآية.
المعنى: وحرمت عليكم - مع من ذكر في الآية السابقة - النساءُ المتزوجات بالفعل.
فلا يحل لكم أَن تعقدوا عليهن قبل مفارقة أزواجهن وانقضاء عدتهن: سواءٌ كُنَّ حرائرَ أم إماءٌ، وسواء كُنَّ مسلماتٍ أم كتابيات.
ويستثنى من ذلك الحكم، ما ملكت أيمانكم بسبب السبي الواقع لزوجات الكفار المحاربين. فَهُنَّ حلال لكم مطلقًا - بعد استبرائهن والتأَكد من عدم حملهن من أزواجهن الكافرين - لأَنه لا حرمة لهذا الزواج. وبهذا حل وطؤهن.
ويرى بعض الفقهاء: أنه لا يحل وطؤُها إذا سبيت مع زوجها.
ثم أكد الله تحريم من حرم من النساءِ في هاتين الآيتين، بقوله:
{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} :
أي كَتَبَ الله عليكم كتابًا وفرضه فرضا. وهو تحريم جميع من ذكر من أصناف النساء، لتلتزموا به وتتبعوا تعاليمه.
والمعنى: إن الله أحل لكم نكاح من عدا المذكورات ومن في حكمهن، مما فهم من الآيتين استنباطًا، ووضحته السنة، لأجل أن تبتغوا بأموالكم المحللات من ترغبون فيهن، حالة كونكم تريدون - بذلك - تحصين أنفسكن من الوقوع في السفاح، الذي لا يراد منه سوى قضاء الشهوة المحرمة، التي لا تليق بالإنسان الذي كرمه الله، وخلقه في أحسن تقويم.
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} :
معناه: فمن استمتعتم به ممن أحل الله لكم - عن طريق النكاح الصحيح - فآتوهن مهورهن التي اتفقتم عليها. أو ما يعادل مهر المثل إِذا لم يكن هناك اتفاق بخصوصه. وذلك حق مفروض عليكم لهن. لا بد من أَدائه إِذا تمسك كلٌّ بحقه.
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} :
بأن قبل أَحد الطرفين أن يكون كريما مع صاحبه. فزاد الزوج مثلًا على قيمة المهر الواجب، أو تنازلت الزوجة عن بعض حقها أَو كله .. فلا حرج في ذلك: لا حرج عليكم في الزيادة، ولا حرج عليهن في الحط. قال تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1).
(1) سورة النساء، آية:4.
ثم ختمت الآية بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} :
لإفادة أن ما شرع الله من الأحكام، إنما هو لمصلحة عباده. فهو: العليم بما ينفعهم ويقيم حياتهم على الجادة، الحكيم فيما يدبره لهم ويشرعه من أجلهم. ومن جملته هذه الأحكام السابقة.
المفردات:
{طَوْلًا} : غنى وسَعَة. والمراد هنا: المال الذي يعين على دفع المهر والإنفاق على الزوجة.
{الْمُحْصَنَاتِ} : الحرائر.
{مُحْصَنَاتٍ} : عفيفات.
{غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} : غير زانيات.
{أَخْدَانٍ} : جمع خدن، وهو الصاحب في السر.
{فَإِذَا أُحْصِنَّ} : فإذا تزوجن.
{بِفَاحِشَةٍ} : الفاحشة، الزنى.
{الْعَنَتَ} : المشقة.
التفسير
25 -
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
…
} الآية.
المعنى: ومن لم يجد منكم - أيها الأحرار المؤمنون - سعة من المال، تمكنه من القيام بتكاليف الزواج من إحدى الحرائر المؤمنات - فلينكح أمَةً من الإماء المؤمنات، لخفة تكاليف الزواج منهن، ويتخذْ منها زوجة، دون غضاضة في ذلك الزواج. فقد يكون - في قوة إيمان الأمة - ما يعوضه خيرًا مما فاته من نكاح الحرة. والله - وحده - هو الذي يعلم حقيقة إيمانكم، الذي هو أَساس التفاضل بينكم عنده سبحانه. فأنتم جميعًا - أَحرارٌ وأرقَّاء - من جنس واحد: في الدين، وفي النسب. وأنتم جميعًا - أَمام الله - سواءٌ من هذه الناحية. أكرمكم عند الله أتقاكم.
معناه: فإذا رغب أحدكم أَن يتزوج إحدى الإِماء المسلمات، فليكن نكاحه إياها بإِذن وليها ومالكها. وليؤَدّ لها مهرها، من غير مطل أَو إضرار أَو نقص. بل المهر المتعارف لأمثالهن. واختاروهن عفيفات عن الزنى.
{غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} :
أي غير مجاهرات به، ولا مسرات، باتخاذهن الأخدان والأصحاب.
المعنى: فإذا أُحصِنَت الأمَة بالزواج، وزنت بعد ذلك، فَحَدُّها على النصف من حد المرأة الحرة البكر، التي لم تتزوج: وهو خمسون جلدة.
وعلى هذا، فقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} ليس جاريا مجرى الشرط في تنصيف الجلد، كما فهمه البعض. وبنى عليه أن الأمَةَ لا تحد إلا إِذا زنت بعد زواجها، وإِنما هو لدفع توهم أن التزوج بغير حدهن من الجلد إِلى الرجم كالحرائر.
والذي يدل على ذلك، ما رواه البخاري ومسلم، عن زيد بن خالد الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن الأمَة إذا زنت ولم تُحْصَنْ، فقال:"اجلِدُوهَا، ثُمَّ إن زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُم إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا. ثُم بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" أي بحبل مضفور من الشعر.
وإِنما كان حد الأمة المتزوجة الجلد، وعلى النصف من حد البِكر الحرة؛ لأن جريمة الزنى عن الأمة أخف منها بالنسبة للحرة؛ لأن الأمَة ضعيفة، ولا تستطيع الوصول إِلى تحصين نفسها كما تصل إليه الحرة.
{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} :
معناه: أن الزواج بالأمة المملوكة للمسلم الحر - عند عدم الطول - إنما هو لمن خاف الوقوع فيما يشق عليه. وهذا بخلاف من لا يخشى المشقة من الأحرار المسلمين.
ويؤخذ من منطوق هذه الآية الكريمة: أن زواج الحر بالأمة مباح، بشروط ثلاثة:
1 -
أن يخاف على نفسه المشقة إذا لم يتزوج.
2 -
وألا يجد من المال، ما يمكنه من تحمل تكاليف الزواج بالحرة.
3 -
وأن تكون الأمَة مؤمنة.
وبهذا الظاهر أَخذ جماعة من العلماءَ، منهم الشافعي، رضي الله عنهم.
ومن العلماء من قال بعدم اشتراط شيء من ذلك. ومنهم أبو حنيفة رضي الله عنه فهو يرى أَن هذه الشروط الثلاثة، إنما هي لمجرد الإرشاد إلى ما هو الأَفضل والأولى بالمؤمنين.
ثم ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى:
{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} :
أي وصبركم عن زواج المملوكات وعن الوقوع في الزنى - خير لكم، لئلا يصير الولد رقيقا. ونكاحها لأجنبي يقطع الطريق على سيدها أن يشتهيها فتلد منه الحر، وتضع أول خطواتها على طريق الحرية باعتبارها أم ولد.
والإِسلام يتشوق إلى تحرير الرقاب، وتقليل الأرقاءِ.
وإن لم تصبروا، وضعفت نفوسكم عما هو خير لكم، فلا تثريب عليكم.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ} : لمن يقع في الزلل.
{رَحِيمٌ} : واسع الرحمة بالتيسير عليكم، وتخفيف المشقة. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1).
المفردات:
{سُنَنَ} : جع سُنَّة، وهي الطريقة.
(1) الحج، من الآية:78.
التفسير
26 -
يريد الله تعالى - بذكر ما سبق في هذه السورة من الأحكام والتشريعات - أَن يبين لكم ما فيه إرشادكم، ويهديكم إلى نهج مَنِ اصطفاهم من عباده من الأنبياء، في أصول ما شرعه الله لهم. فاتبعوهم واقتفوا أثرهم، وانسجوا على منوالهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1). ويريد كذلك فيما أَباحه لكم: أن يرشدكم إلى ما يكفكم عن المعاصي ويحملكم على التوبة منها. والله عليم بما خَلَقَ ومن خَلق
…
فيشرع لكم ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم. والله حكيم في كل ما يأْمر به، وما يبيح فعله، وما ينهى عن ارتكابه.
27 -
المعنى: والله سبحانه، يريد أن يتوب عليكم، فيفتح لكم باب التوبة لتُقْبلوا عليها، فيتجاوز عن سيئاتكم. بل إنه يفرح بتوبتكم أشد من فرحكم بقبولها، لأنه أرحم بكم من أنفسكم. فشأنه الرحمة دائما. فاطرقوا بابه، والزموا رحابه. فإنما يريد المبطلون الذين يتبعون شهواتهم، ويصيرون وراءَ ضلالاتهم: أن تعدلوا عن الاستقامة، وتنحرفوا إلى الضلالة انحرافا عظيما. حتى تكونوا مثلهم. وهذا شأن المنحرفين دائما: يريدون أَن يكون الناس على طريقتهم، حتى يسلموا من ذمهم ولومهم. كما في قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (2) وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (3).
(1) الأنعام. من الآية: 90.
(2)
القلم. الآية: 9.
(3)
النساء. من الآية: 89.
28 -
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} :
المعنى: يريد الله أن يخفف عنكم - أَيها المؤمنون - ويسهل عليكم أحكام شريعته، لتسهل عليكم طاعته سبحانه.
وهنا مقتضى الحكمة، ومناط الرحمة
…
فما فعل الله ذلك إِلا لعلمه أن الإنسان خلق ضعيفًا أمام رغباته وشهواته. فرحمةً به، خفف عنه التكاليف ورخص له في كثير من الأحكام، وفتح أمامه باب التوبة.
التفسير
بعد أَن بين الله - سبحانه - لعباده ما أحل لهم من النساء، وما حرم عليهم، شرع في بيان بعض الحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس، وبيان الوسائل المشروعة في الحصول عليها. فقال:
والمعنى: نادَى الله عباده - بوصف الإيمان - حفزا لهم على مراعاة تعاليمه، والاستماع إليه، والانتفاع بما شرعه لهم سبحانه، وعدم اقتراف ما يجردهم من صفة الإيمان المحببة
إلى نفوسهم. ثم نهاهم - جل شأنه - عن محاولة حصول بعضهم على أموال بعض، بأي وسيلة غير مشروعة: كالربا، والسرقة، والغصب، والرشوة، واليمين الكاذبة، وشهادة الزور
…
ونحو ذلك مما حرمه الله.
وبيَّن وسيلةً من وسائل الكسب الحلال، وهي التجارة القائِمة عن تراضٍ يتعامل الناس فيها معًا، ويقيمونها بينهم، كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلها الفقهاء في كتبهم.
ويلحق بالتجارة كل أسباب التملك التي أباحها الشارع. كالهبة، والصدقة، والإرث.
وإِنما اختصت التجارة بالذكر من بين هذه الأسباب؛ لأن كسب الإنسان واضح فيها أَكثر من الطرق الأخرى، ولنفى ما قد يتوهم من أنها تشبه الربا.
وعبّر سبحانه، عن الحصول على الأموال وأَخذها بالأكل؛ لأنه هو المقصود الأول للإنسان من جمع المال، أيًا كانت وسيلته.
والتعبير بلفظ {أَمْوَالَكُمْ} - للدلالة على أن المال المأكول هو مال الآكل. فمال أَخيك هو مالك، باعتبار أن الجماعة المؤْمنة، متضامنة في السراء والضراء، وأَن ما يصيب أحد أعضائِها من الألم - يصيب الآخر لا محالة.
فعندما تتفكك الأواصر بين أفراد جماعة ما، بسبب ظلم بعض أفرادها للبعض الآخر - تتولد الكراهية بينهم وتنمو.
وفي ذلك فناءٌ للجماعة كلها
…
لا فرق بين ظالم ومظلوم.
وقد عبرت الآية الكريمة عن هذا المعنى - بوضوح وجلاءٍ - في قوله عز وجل:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} :
أي لا تكونوا سببا في هلاك جماعتكم، فهو هلاك لكم. ولا ترتكبوا من الآثام ما يؤَدي إِلى ذلك. بل ابتغوا - لأنفسكم وجماعتكم - الحياة الكريمة التي يسودها الوفاق والحب: باتباع معالم الهدى، والوقوف عندما أحل الله لكم. ففيه وحده صلاحكم في دنياكم وآخرتكم، لأنه سبحانه. رحيم بكم في نهيه إياكم عن ذلك.
30 -
المعنى: بعد هذا البيان الحكيم المنبعث من الرحمة الإِلهية التي وسعت كل شيء، توعّد الله كل من تسوّل له نفسه: أن يرتكب ما يفسد رباط الجماعة المؤْمنة، متجاوزا بذلك حَدّ الشرع: ظالما لنفسه ولغيره
…
توعده سبحانه وتعالى بعذاب أليم في نار تلظّى: يصلى حرها، ويقاسي سعيرها. وذلك أمر هيِّنٌ على الله.
ثم رغب الله في اجتناب ما نهاهم عنه، وحبَّبه إليهم ببيان ما يترتب على اجتناب الكبائر من تكفير صغائر الذنوب، والفوز بالجنة ونعيمها. فقال جَلَّ شأْنه:
31 -
المعنى: إِن تبتعدوا - أيها المسلمون - عن الذنوب الكبائر التي نهى الله عنها، وتوعدكم على فعلها، فأَطعتم الله ورسوله - كان ثمرة ذلك، أن نكفر عنكم سيئاتكم، ونستر عليكم معاصيَكم التي لم تبلغ حدَّ الكبيرة - بسبب هذه الطاعة، وندخِلَكُم دار النعيم حيث تقيمون فيها مكرمين، وتحْيَون فيها حياة لا يشوبها كدر ولا عناءٌ.
وهذا مظهر آخر من مظاهر الرحمة الإلهية الشاملة، يتمثل في هذا الوعد الكريم من الله لعباده المتقين .. وفي إِسباغ فضله عليهم بالثواب الجزيل، الذي يزيد أضعافا على ما يستحقون.
هذا، وقد قيل في تعريف الكبيرة كلام كثير. أظهره أنها: كل ما رتَّب الشارع عليه حَدًّا، أو صرح بالوعيد فيه نصًّا.
وقد تكفلت السنة النبوية بذكر أمثلة واضحة لكبائر الذنوب.
فقد روى الشيخان عن أَنس بن مالك رضي الله عنه قال: "ذكر لنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الكبائرَ فقال: الشِّرْكُ بالله. وعُقوقُ الوالدَيْن، وقتلُ النفسِ. وقال: ألا أنبِّئكم بأكبرِ الكبائر: قَوْل الزور. أو قال: شهادة الزور".
وروى الشيخان أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"اجتنبوا السبعَ الموبِقات. قيل: يا رسول اللهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّرْكُ باللهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النفسِ التي حرم الله إلا بالحق، وأكْلُ مالِ اليتيمِ، والزنى، والتَّوَلِّي يومَ الزحفِ، وقذْفُ المحْصناتِ الغافِلاتِ المؤْمناتِ".
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الكبائرُ: الإشراك بالله، وعقوق الوالِدَيْن، وقَتْل النفس، واليمينُ الغَمُوسُ".
وروى الشيخان، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ مِنْ أَكبر الكبائر: شَتْمَ الرجل والِدَيْه، قالوا: وهل يشتمُ الرجل والِديْه؟ قال: نعم. يسبُّ الرجلُ أبا الرجلِ أَو أمَّه، فيسب أَباهُ وأمَّهُ".
المفردات:
{تَتَمَنَّوْا} : من التمني. وهو إرادة ما يُعلم أو يُظَن ألا يكون. أَو هو التعلق بحصول أمْر في المستقبل.
التفسير
32 -
لما نهى الله المؤمنين - في آية سابقة - عن أكل أموال الناس بالباطل، وبيَّن أثر ذلك في هلاك الجماعة، نهاهم - في هذه الآية - عن التطلع إلى ما فضل الله به بعض الناس على بعض في الرزق.
سبب النزول:
روى في سبب نزول هذه الآية - وما بعدها - روايات منها:
أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجالِ، فيكون لنا من الأجر مثلهم".
ومنها: أنه لما جعل الله تعالى، للذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، قالت النساء: نحن أحوج أن يكون لنا سهمان، وللرجال سهم؛ لأنا ضعفاءُ وهم أقوياءُ. وأقدر على طلب المعاش: فنزلت الآية.
المعنى: ولا يتمنَّ أحدكم أن يكونَ له ما أَنعم الله به على أخيه دونه، مما يتعلق بأمور الدنيا ومتاعها، من مال أَو جاه. فللرجال نصيب مما اكتسبوه في حياتهم. وللنساء نصيب مما اكتسبن. وهذا التفاوت المادي، الذي جعله الله بين الرجل والمرأة في الميراث وبعض التكاليف - وإن أشعر بالتفاضل في الدنيا - فهو لحكمة اقتضاها اختلاف طبيعة كل من الرجل والمرأة، ومسئولية كل منهما. وهو ليس مقياسا للتفاضل في الآخرة. بل التفاوت فيها مبني على التفاضل في الأعمال الصالحة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) راجع تفسير الآيتين:(11، 12) من هذه السورة.
(1) الحجرات. من الآية: 13.
{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} : إذا رغبتم المزيد من نعمه، فإن خزائن الله لا تنفد. وذلك خير من الطمع فيما أنعم الله به على فريق من عباده {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (1).
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} : فيعطى كل واحد من عباده ما يناسب استعداده، وتصلح به - في نظره - أمور حياته.
وبهذا البيان الحكيم المعجز، عالج القرآن الكريم، ما يعتمل في نفوس كثير من الناس، حين يرون التفاوت الواضح: فيما أنعم الله به على عباده، وفضل بعضهم على بعض، في كثير من وجوه الرزق.
وقد يصعب على الناس فهم الحكمة في ذلك. ولكن حياتهم في هذه الدنيا لن تستقيم إلا بهذا التفاوت فيما بينهم.
وصدق الله العظيم حيث يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (2).
المفردات:
{مَوَالِيَ} : جمع مَوْلَى؛ وهو يطلق على من يتولى شئون غيره. كما يطلق على من يتولاه غيره. والمراد هنا: ورثة.
(1) النساء. من الآية: 54.
(2)
الزخرف. من الآية: 32.
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} :
أي من حالفتموهم وعاهدتموهم. والأيَمان: جمع يمين. ويراد منه القسم، أو اليد اليمنى، لأَن المتحالفين يضع كل منهما يمينه في يمين الآخر عند التعاقد.
التفسير
33 -
هذا شروع في بيان ما من شأنه أن يقوي بنيان الأسرة، ويحفظ عليها مالها.
والمعنى: ولكل ميراث تركه الوالدان والأقْربون، جعلنا ورثةً متفاوتين في الأنصباء، تبعا لتفاوتهم في درجات قرابتهم من الميت: كلٌّ يرث ما قدَّره الله له من حق.
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} :
أي: والذين عاقدتموهم، وتحالفتم معهم على النصرة والنصيحة والعطاء: بأن توصوا لهم بما لا يتجاوز الثلث مما تتركونه من أموال - فعليكم الوفاء بما عاهدتموهم عليه. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (1).
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} :
إِن الله عليم بكل شيء من الأشياء - التي منها المنع والعطاءُ - شهيدٌ عليها، مطلع على أفعالكم. فيعلم منكم الوفاءَ أو عدمه.
ثم أخذ يبين نوع الصلة التي يجب أن تكون بيت الزوجين، باعتبارهما حجر الأساس في استقرار الأسرة، وشيوع السعادة بين أَفرادها فقال:
(1) النحل. الآية: 91.
المفردات:
{قَوَّامُونَ} : جمع قَوَّام. وهو القائم بالتدبير والحفظ.
{قَانِتَاتٌ} : مطيعات لله بطاعتهن لأَزواجهن.
{تَخَافُونَ} : الخوف؛ حالة تحصل في القلب عن حدوث أمر مكروه شرعا. أو عند الظن أَو العلم بحدوثه. وهو يختلف باختلاف الحالات.
{نُشُوزَهُنَّ} : عصيانهن، وترفعهن عن مطاوعتكم. من النشز. وهو المرتفع من الأرض.
{وَاهْجُرُوهُنَّ} : الهجر، الترك عن كراهية.
{الْمَضَاجِعِ} : أَماكن الاضطجاع. وهي المراقد.
{فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} : تبغوا؛ إِما من البغي بمعنى الطلب، وإِما من البغي بمعنى الظلم.
{خِفْتُمْ} : الخوف لغة؛ توقع مكروه عن أَمارة مظنونة أو معلومة. كما قال الراغب. والمراد به هنا؛ العلم.
{شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} : أي اختلافًا بين الزوجين.
التفسير
34 -
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
…
} الآية.
فضل الله سبحانه وتعالى الرجال على النساء، بأمور منها:
الإِمامة، والولاية، الميراث، والشهادة، والجهاد، والجمعة، والجماعات.
{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} :
أي: ولما أنفقوا على النساء في النفقة والمهر، جعل الله لهم قوامة على زوجاتهم. وهي قوامة رابطه ومحبة: تقوم على التعاون بينهما. والمعاشرة بالمعروف، بحيث يقوم كل منهما بواجبه نحو صاحبه. وهو ما يبدو واضحًا في قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1).
ولا شك في أَن حقوق كلٍّ من الزوجين وواجباته، تختلف عن حقوق الآخر وواجباته تبعًا لاختلاف التكوين الفطري لكل منهما.
ولا شك أَن مصالح الأسرة: ودوام استقرارها. يتطلب قيام كل منهما بوظيفته التي تلائم طبيعته. مع التعاون التام، والاحترام، المتبادل.
والرجل أقدر - بطبيعته - على السعي والكدح في سبيل تحصيل رزقه، ورزق أسرته، ليهيئ لها حياة سعيدة هانئة.
ولهذا ناط به الشارع رعاية الأسرة، وحَمَّلَهُ مسئوليتها. وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله سبحانه:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (2).
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} :
هذا بيان للناس من الله تعالى، بأَن النساء أَمام هذه القوامة نوعان:
نوع يفهمها على وجهها الصحيح، ويقوم برسالته كما ينبغي.
ونوع يتمرد عليها، ويحاول التهرب من التزاماتها.
(1)، (2) البقرة. من الآية:228.
وقد عبر القرآن عن النوع الأول بقوله تعالى:
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} :
فوصفهن بالصالحات، لأنهن يمتثلن أَمر الله، فيطعن أَزواجهن، ويقمن بواجباتهن، ويحفظن على الأزواج أموالهم وأعراضهم في جميع الحالات، ويقوم بهن المجتمع الإسلامي الأمثل، تحقيقًا لشرع المدبر الأعلى.
أما النوع الثاني، فالحديث عنه في قوله تعالى:
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} :
فقد بين الله الطريقة المثلى في إرجاعهن إلى الصواب، حتى تؤَدي الأسرة رسالتها المنوطة بها، وكان الله رحيمًا بها. على الرغم من تمردها.
وجعل سبحانه وتعالى علاج الشقاق بين الزوجين على مرحلتين:
الأولى: يتولاها الزوج. فيقوم أوَّلًا بوعظها. فإن لم يفد، انتقل إِلى هجرها في المضاجع عَلَّها تثوب إلى رشدها، فإن لم يجْدِ ذلك، انتقل إلى ضربًا غير مبرح مع اتقاء الوجه، والمواضع التي يظهر فيها أثر الضرب غير المبرح: علاجًا لمرض النشوز، والتماسا للطاعة وحياة الاستقرار والهدوء.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} :
أي: إِن شفين مما عرض بهن ورجعن لكم مطيعات - فلا تظلموهن بأي طريق من طرق الظلم. وعَاشروهن بالمعروف.
وعلى الذين يهاجمون القرآن وتشريعه في جعل الضرب وسيلة تأديب الناشز، أن يلاحظوا:
أولًا: أن القرآن جعل هذا التأديب المادي، آخر وسيلة يلجأ إليها الزوج، بعد أَن يفشل الوعظ، ويفشل التأديب العاطفي بالهجر في المضجع ولم يبق إلا آخر الدواء وهو الضرب غير المبرح.
ثانيا: أن الضرب المباح للزوج، أَوضحه الرسول الكريم بقوله:"غيرَ مُبَرِّحٍ"(1)، فليس المقصود منه الإِيذاء، بل هو لإِيقاظ صوابها وضميرها، بتخويفها هذا، حتى لا يهدم البيت من أساسه.
(1) من خطبة للرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. رواها ابن ماجه والترمذي.
ثالثا: أن التأديب المادي لأرباب الشذوذ، معترف به، ومطبق عمليا، في البلاد التي بلغت في الحضارة شأوًا بعيدا.
وعليهم بعد هذا: أن يوازنوا بين مرارة الوسيلة التي لا يمكن إنكارها، وبين ما يترتب على إلغائِها من هدم الأسرة وتخريب البيت، وتشريد الأطفال. فإذا كان الضرب ينتج تقويم المعوج، ويرجع الزوجة الناشز عن غَيِّها، ويردها إلى صوابها - والضرب هنا أنْفَى للضرب - فستحمده هي عندما ترى نفسها، وقد استعادت مكانتها كزوجة وربة بيت.
وما من شك في أن الزوجة العاقلة الصالحة، لن تَدَعَ الأمر يصل بها إلى هذا الحدِّ من العقاب.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} بعد قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} تحذير من الله لعباده من ظلمهم لزوجاتهم. فهو سبحانه، قوي قادر على أن ينتصف لهن منكم إِن بغيتم عليهن، ولم تتقوا الله فيهن أيها الأزواج.
35 -
هذه هي المرحلة الثانية في علاج الشقاق بين الزوجين. فقد يشتد الخلاف بينهما.
وربما الْتَبَسَ أمره فلا يعرف المحق من المبطل، ولا المسالم من المشاكس، لادِّعاء كل منهما عدوان الآخر عليه - لمَّا كان الأمر كذلك - أَمر الله سبحانه ولاة الأمر - في هذه الحالة - أن يقيموا حَكَما من أهل الزوج، وحَكَما من أهل الزوجة، للتعرف على أسباب الشقاق والخلاف والقضاء عليها، والعمل على إعادة الحياة الزوجية بين الزوجين المتنازعين: نقيّة من كل ما يكدر صفوها. فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا
…
} الآية.
والمعنى: وإِن علمتم أن بين الزوجين شقاقا قد استفحل خطره، فوجِّهوا إليهما حَكَما من أهل الزوج وحَكَمًا من أهل الزوجة، لينظرا فما بينهم من نزاع وشقاق، فإذا خَلَصَت
نية الحَكَمين، وقصدا - بصدق - إلى التوفيق بين الزوجين، وفقهما الله سبحانه، إِلى إزالة أسباب الخلاف والشقاق، وأعانهما على إِعادة الحياة الزوجية، نقية من مكدراتها صافية من منغصاتها، لأنه - مع إِخلاص النية وصدق الطوية - يكون توفيق الله.
والله سبحانه عليم خبير بكل شيء.
ومن ذلك الذي يعلمه ولا يخفى عليه - نيةُ الحَكَمين، وما تنطوى عليه سرائرهما من رغبة في التوفيق أو الإفساد والتفريق.
وفي ذلك ترغيب من الله تعالى، لمن حسنت نيته، وصفت سريرته، وترهيب لمن ساءت نيته، وانطوت على غشِّ سريرته.
وظاهر الأمر ببعث الحَكَمين: الوجوب.
وبه قال الشافعي .. لأنه من باب رفع المظالم. وهو من الفروض العامة التي فرضها الله على ولي الأمر.
وظاهر وصف الحَكَمين بأن أحدهما من أهل الزوج، والثاني من أهل الزوجة: أَن ذلك يشبه أن يكون شرطا، ولكنه شرط على وجه الاستحباب فقط. فلو بعث وليُّ الأمر - أَو القاضي - حَكَمين أجنبيين عن الزوج والزوجة فذلك جائز .. ولكن كون الحَكَمين من الأقرباء أولى وأوفق. ذلك لأن نية القريب ورغبته في فض النزاع، وإحلال الوفاق محله، أصدقُ وأقوى من نية البعيد.
ثم إِن هناك من دواعي الشقاق ما لا يليق أن يطلع عليه الغرباء، ولا تطاوع نفس الزوج أو الزوجة أن يبوح به، إلا لقريب يركن إليه.
فمن هنا، كان اختيار الحَكَمين من أهل الزوج والزوجة، أسلم وأوفق من اختيارهما من بين الغرباء.
وقد اختلف العلماء فيما يليه الحكمان (1)؛ فذهب مالك: (وهو مذهب علي وابن عباس، ورراية عن الشافعي) إِلى أَن الحكمين حاكمان موليان من قبل الإِمام. فلهما أن يلزما الزوجين - بدون إذنهما - بما يريان فيه المصلحة؛ مثل أن يطلق حَكَمُ الزوج أو يفتدى حَكَمُ الزوجة. عصمتها بشىءٍ من المال.
وذهب أبو حنيفة - وأحد قولي الشافعي - إلى أن الحكمين وكيلان عَن الزوجبن.
فليس لهما أن يبرما أمرا إلا برضاهما. فلا يطلِّق حكمُ الزوج إلا بإذنه، ولا يفتدي حَكَمُ الزوجة إلا بِإذنها.
وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين. والمسألة اجتهادية. ولكل مذهب أدلته. وهي مبسوطة في كتب الفقه.
والمتأمل في هاتين الآيتين، يرى: أن القرآن لم يذكر الطلاق كوسيلة لفض النزاع. وذلك دليل على حرص الإِسلام على بقاءِ الحياة الزوجية: ومحاولة إصلاح ما يقع من النزاع بين الزوجين: بشتى الوسائل، حرصًا على الأسرة.
المفردات:
{وَبِذِي الْقُرْبَى} : ذي القربى، صاحب القرابة من قِبَلِ الأَب أَو الأم.
{وَالْيَتَامَى} : جمع يتيم، وهو الصغير الذي مات أَبوه، ويستمر يتمه إلى البلوغ.
{وَالْمَسَاكِينِ} : جمع مسكين، وهو من يقل كسبه عن الوفاءِ بحاجته. فيشمل الفقير.
(1) أي في دائرة اختصاصهما.
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} : وهو الذي قرب جواره، أو من له مع الجوار قرب أَو اتصال بنسب.
{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} : أي الذي بعد جواره، أو الجار الذي لا قرابة له.
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} : وهو الرفيق في أَمر حسن، كتعليم وصناعة وسفر .. إلخ.
وقيل: الزوجة.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} : وهو الغريب الذي سافر فانقطع عن بلده وماله.
{مُخْتَالًا فَخُورًا} المختال: هو المتكبر المعجب نفسه. المتعالي على غيره.
والفخور: الذي يزعم لنفسه الفضل على من عداه.
التفسير
36 -
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
…
} الآية.
بعد أن بيّن الله - في الآيتين السابقتين - الوسائل التي يعالج بها ما قد يتطرق إِلى العلاقات الزوجية من وَهنٍ، بيّن في هذه الآية. ما يقوي صلة الناس بربهم، وما يقوي الصلات بين بعضهم البعض.
فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} :
يأْمر الله الناس جميعًا بعبادتة تعالى وحده. أَي بالخضوع والتذلل له، مع الإخلاص واليقين. وأَلا يتخذوا معه في ذلك شريكًا من خلقه.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} :
أمر بالإحسان إلى الوالدين. أي: أحسنوا بهما إحسانًا، بأن تكونوا بارين بهما، كارهين ناكرين لعقوقهما، شاكرين لهما ما لقيا في سبيل تربيتكم.
وقَرَن حقهما بحقه سبحانه؛ إِعظاما لحقهما، وإعلاءً لقدرهما.
{وَبِذِي الْقُرْبَى} :
أي: وأحسنوا بصاحب القرابة، من قِبَلِ الأب أَو الأم، كالإخوة والأخوات، والأَعمام والعمات، والأَخوال والخالات، وما تناسل من هؤلاء جميعًا.
{وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} :
أي وأَحسنوا أَيضا إلى الضعفاءِ من الناس، الذين هم في حاجة إلى العون، سواء أَكان مبعث هذه الحاجة فَقْدَ العائل قبل البلوغ وهم اليتامى أم القصور في الكسب عما يفي بضرورات الحياة، وهم الفقراء والمساكين.
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} :
أي: وأَحسنوا إلى الجار الذي قرب مكانا أَو دينا أو نسبا. وإلى الجار البعيد مكانا أو دينا أَو نسبا.
ومدى بُعد المكان، إلى أربعين جارا من كل جانب.
ومما ورد في أَنواع الجيران. ما رواه البزار بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الجِيرانُ ثَلاثةٌ: جَارٌ لَهُ حَق وَاحِدٌ، وَهُوَ أدْنى الجِيرانِ حَقًّا. وجارٌ لَهُ حَقَّانِ. وَجارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ. وهُو أفْضَلُ الْجِيرَانِ حقًّا.
فأَما الجارُ الذي له حَقُّ واحدٌ، فجارٌ مُشرِكٌ لا رَحِمَ له: له حَقُّ الجِوَارِ.
وأما الجارُ الذي له حَقانِ، فجار مسلمٌ: له حقُّ الإسلام وحقُّ الجِوارِ.
وأما الذي له ثلاثةُ حُقُوقٍ، فجارٌ مُسلم ذُو رَحِمٍ: لَهُ حقُّ الجِوارِ، وحق الإسلامِ، وحَقُّ الرَّحِمَ".
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار، فقاق:"ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجَارِ حتى ظَنَنْتُ أَنه سَيُوَرِّثُهُ"، رواه أَحمد والشيخان.
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} :
أي: وأَحسنوا إلى الصاحب بالجنب. وهو الرفيق مطلقا. كالجليس في الحضر، والرَّفيق في السفر، والزوجة.
وبذلك يتم التعاون وتصفو النفوس.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} :
أي وأحسنوا إلى ابن السبيل. وهو الغريب البعيد عن بلده وماله. وذلك بإعطائه ما يخفف عنه متاعب الطريق: ويعينه عل بلوغ غايته، والرجوع إلى بلده.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} :
من الأرِقَّاء، وذلك بالإحسان إليهم، ومعاونتهم على بلوغ حريتهم.
فالإِسلام يحض على تحرير الرقيق في كثير من أحكامه .. ويلحق بذلك الخدم.
وقد امتد الأمر بالإحسان حتى شمل الحيوان.
{إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} :
هذا تعليل للأمر بالإحسان إلى من ذُكورا. كأنه قيل: أحسنوا إِلى هؤلاء ولا تتغالَوْا عليهم؛ لأن الله لا يحب المختال المتكبر على غيره، ولا الفخورَ المتباهيَ بحسب قدمه من معونة وإِحسان.
المفردات:
{رِئَاءَ النَّاسِ} : أي مرائين لهم التماسًا للجاه، وطلبا لثناء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله.
{قَرِينًا} : صاحبا وخليلا ورفيقا.
التفسير
38،37 - {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}:
هاتان الآيتان الكريمتان، بيان لحال من لا يحبهم الله من المختالين الفخورين. وهم - على ما صرحت به الآيتان - صنفان:
الأول: صنف أَحب المال لذاته، فبخلَ به وأَمر غيره بالبخل، فلم يعط منه فقيرًا ولم يصل به رحمًا ولم يفرِّج به عن مكروب. وبالغ فأَمر الناس بذلك أَيضا.
وفي هذا يقول الله تعالى:
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ
…
} الآية.
أي الذين يبخلون بأَموالهم فلا ينفقونها في وجوه البر والإِحسان، ولا يكتفون بهذا، بل يأمرون غيرهم بالبخل، ويحرضونهم عليه.
{وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} :
أي: يخفون ما أَنعم الله به عليهم، حتى لا يطمع الناس في نوالهم وإِحسانهم.
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} :
أي: وأَعددنا لهم عذابًا مخزيا مذِلا لكبريائهم.
وسماهم الله كفارًا، وإِشعارًا بأَن من هذا شأْنه، فهو كافر بنعم الله. وله - جزاء ذلك - عذاب يهينه ويخزيه.
روى الإِمام أَحمد بسنده أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أَنعَمَ الله عَلَى عَبْدِهِ نِعْمةً أَحَبَّ أَن يُظْهِرَ أَثَرَهَا عَلَيهِ".
أما الصنف الثاني: فهم الذين ينفقون أَموالهم للفخار وطلب الثناءِ من الناس، لا ابتغاءَ وجه الله. وفيهم يقول الله تعالى:
38 -
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ
…
} الآية.
أي ولا يحب الله - كذلك - الذين ينفقون أَموالهم للرياء وللسمعة، لا شكرًا لله على نِعَمه، ولا اعترافا بما أَوجب الله عليهم من حق في أموالهم.
{وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} :
أي لَا يؤْمنون بالله، ولا يصدقون بوُقوع اليوم الآخر، وما فيه من ثواب وعقاب.
لأَنهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، لتحرَّوْا مرضاة الله، ولما راءَوْا أَحدًا أَبدًا.
{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} :
وفي هذه الجملة، أن مقارنة الشيطان ومخالطته هي السبب في البخل وفي الأمر به، وكتمان النعمة، ومرءَاة الناس بالإِنفاق، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر - كما قال تعالى:
وقد ذم الله مقارنتهم للشيطان، واتِّباعهم طريقه بقوله:
{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} :
أي: ومن يكن الشيطان له صاحبا، فبئس هذا الصاحب صاحبا: لأنه يضله ويقوده إلى الهلاك.
التفسير
39 -
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ
…
} الآية.
في هذه الآية، ذم وتوبيخ للصنفين السابقين، على غفلتهم عما يفيدهم، وانصرافهم عما فيه مصلحتهم. وإِقبالهم على ما فيه هلاكهم في الدنيا والآخرة.
والاستفهام: للتعجب والإِنكار.
(1) البقرة من الآية: 268.
والمعنى: أيُّ ضرر كان يلحقهم لو آمنوا - حقيقة - بالله، وعملوا ليوم الجزاءِ، فأنفَقوا مما رزقهم الله: ابتغاءَ مرضاته، ونزولا على حكمه وامتثالا لأَمره؟!
ما كان عليهم في ذلك أي ضرر .. بل إِن الضرر - كل الضرر - فيما هم عليه.
{وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا} :
فيجازيهم بما عملوا.
فعلى المؤْمن أن يعتقد أَن الله مطلع على كل الناس، وسيحاسبهم على ما قدموا من أعمال.
المفردات:
{لَا يَظْلِمُ} الظلم: النقص، ووضع الشيءِ في غير موضعه.
{مِثْقَالَ} المثقال: المقدار. مأخوذ من الثقل. كما أن المقدار مأْخوذ من القدر.
{ذَرَّةٍ} الذرة: هي النملة الصغيرة. أو الهباء الصغير، الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة. والمراد: أدنى ما يكون من الأعمال.
{يُضَاعِفْهَا} : أي يضاعف ثوابها، ويزيد أَجرها.
{لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} : أي أن يوارَوْا فيها، ويدخلوا في باطنها، أو أن يكونوا من جنسها، حتى يَهْربُوا من العقاب.
التفسير.
40 -
لما توعد الله العصاة بأنه سيجازيهم على أعمالهم، حسبما تضمنه قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} - بين هنا، أن هذا الجزاءَ يقوم على العدل، ولا يكون فيه أدنى ظلم.
والمعنى: أن الله لا يظلم الناس شيئًا وإن قل؛ لأنه تعالى منزه عن النقص. والظلم نقض لا يليق به سبحانه. فهو لا يبخس الناس شيئًا من الأَجر، ولا يحملهم ما لم يرتكبوا من الوزر، ولو كان أقل القليل.
واقتضت رحمته ألا يجزىَ على السيئة إلا بمثلها، وأن يضاعف ثواب الحسنة إلى عشر أمثالها، إِلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، حسبما يعلم من حال العبد. والله يختص برحمته من يشاء.
{وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} :
أي: أنه يعطي عبده ثوابا عظيمًا، لا يعرف مقداره إِلا هو سبحانه.
41 -
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} :
المعنى: في هذه الآية تهويل تعجبي، وتحذير من أَهوال يوم القيامة.
أي: كيف يكون حال هؤُلاءِ، إِذا جاءَ ذلك اليوم، وجيء بالنبيين ليشهدوا على أممهم بما فعلوا في الدنيا، وجئنا بك - يا محمَّد - على هؤُلاء، أو على أمتك شهيدًا، وعلى هؤُلاءِ الرسل: بأن تزكى شهادتهم، وتقرر أنهم قاموا بتبليغ أممهم، حسبما أخبرك الله فيما أوحاه إليك!!
لا شك أنهم يكونون في حال يُرثى لها.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ عَلَيَّ. قُلْتُ: أَقْرَأ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أنزِلَ؟ قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غيري، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءَ حَتى بَلَغْتُ قَوْلَه تَعَالَى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: أمْسِكْ
…
فَإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (1) ".
(1) رواه الشيخان والترمذي.
42 -
{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ
…
}:
بيان لسوء حالهم في ذلك اليوم. بأنهم يتمنون أن تواريهم الأرض وتبتلعهم، لينجوا من العذاب. أو أن يكونوا من جنسها. كما قال تعالى في آية أخرى:{وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (1).
{وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} :
أي: يودون ذلك. والحال أنهم لا يستطيعون أن يخفوا على الله شيئًا مما فعلوا. حيث يشهد عليهم كل شيء حتى الجوارح: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2).
ويمكن أن يكون قوله تعالى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} : استئنافًا مبينا لبعض أهوال ذلك اليوم ورجح هذا بعض العلماء.
المفردات:
{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} : مسافرين، أو عابرين المسجد من جانب إلى جانب.
{الْغَائِطِ} : المكان المنخفض من الأرض. وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة.
{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} : اتصلتم بهن جنسيًا، أو مجرد لمس.
{صَعِيدًا طَيِّبًا} : الصعيد: وجه الأرض أو التراب. والطيب: الطاهر.
(1) النبأ، من الآية:40.
(2)
النور، الآية:24.
التفسير
43 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
…
} الآية.
في الآيات السابقة، أمرنا الله بعبادته وحده، وبين جزاء الطائعين. وعقاب العاصين.
وفي هذه الآية، نهيٌ صريح عن الدخول في الصلاة في حال السكر، حتى يفيق السكران من سكره، ويدرك ما يقول.
ومقتضى هذا: أن الإنسان لا يقبل على الصلاة. إلا وهو في حالة صحو كامل. بحيث يعرف ما يقول، لأنه يناجي الخالق سبحانه وتعالى.
وفي أسلوب الكتاب الكريم، حيث نهى عن قربان الصلاة في حالة السكر، ما يؤكد على هذا المعنى.
وفي قوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ما جعل بعض العلماء يمنع كل من كان في حالة لا تمكنه من معرفة ما يقول - كغلبة النوم - من قربان الصلاة كذلك.
واستأنس هؤلاء بما جاء في الصحيحين، عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لا يدري لعله يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه"!!
وكما أوجب القرآن على المسلم ألا يقدم على الصلاة إلا وهو في حالة وعي تام، فقد أوجب عليه كذلك، ألا يدخل المسجد وهو جنب، إلا إذا كان مجتازًاً للمسجد - مارًا به من جانب إلى جانب - فإنه يجوز له ذلك، وهو معنى قوله:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} .
والطهارة للصلاة، حددها الله في كتابه؛ بالوضوء في حالة الحدث الأصغر، وبالاغتسال في حالة الحدث الأكبر، وذلك أخذا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا
…
} (1) الآية.
وغني عن البيان، أَلَّا وضوءَ ولا غسل إلا بالماء.
ولما كان كثير من الناس، عرضة لبعض الأمراض التي تمنع من استعمال الماءِ. ومنهم من تضطره ظروف الحياة إِلى التنقل من بلد إلى بلد. وفي الأَسفار يصعب وجود ما يكفي من الماء عادة. كما أَن هناك حالاتٍ لا يجد المقيم سبيلا إلى الماءِ: لفقده أَو لعسر الوصول إِليه لسبب أَو لآخر - فلهذا كله - جاءَ التشريع الحكيم بإيجاب التيمم بالصعيد الطاهر، فيمسح الإِنسان به وجهه ويديه، بالطريقة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك تخفيفٌ من الله على عباده، ورفعٌ للحرج عنهم، إذ الصعيد الطاهر موجود في أي مكان يوجد الإِنسان فيه.
يقول الله تبارك وتعالى في هذا كله:
قال بعض العلماء: {عَفُوًّا} بالترخيص والتيسير .. {غَفُورًا} عن الخطإِ والتقصير.
وصدق الله العظيم، حيث يقول في سورة المائدة - تعقيبا على إيجاب التيمم بدلا من الوضوء والغسل - في الحالات المذكورة - {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
والنهي عن الصلاة في حال السكر، كان قبل تحريم الخمر نهائيا في جميع الأوقات (2).
وسيأتي تتمة تفصيل ذلك في تفسير الآية (90) من المائدة إن شاء الله تعالى.
(1) المائدة: من الآية 6.
(2)
راجع الآية: 219 من سورة البقرة.
المفردات:
{رَاعِنَا} : كلمة ذات وجهين، تحتمل المدح والذم. وكان اليهود يقصدون بها الذم والتهكم.
{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} : أي صرفا للكلام عن ظاهره ونهجه.
التفسير
44 -
بعد أَن أَرشد الله عباده المؤْمنين - في الآيات السابقة - إِلى كثير من الأحكام والتكَاليف، جاءَت هذه الآيات للتعجيب من حال أَهل الكتاب - الذين غيروا أحكام الله؛ تحذيرا لنا من الوقوع فيما يريدونه بِنا، من الضلال عن سواء السبيل.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} :
أي ألمْ تنظر - يا محمد - إلى هؤُلاءَ الذين أوتوا حظا من علم الكتاب، لأنهم يستحقون أَن تشاهدهم وتتعجب من شناعة أَعمالهم، حيث يستبدلون الضلالة بالهدى؛ مع أنهم أوتوا حظا من الكتاب، كان كفيلا بهدايتهم إلى الصواب ولم يكتفوا بذلك بل أَرادوا أن تضلوا أَنتم السبيل كما ضلوا؟!.
قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (1) وحقًّا أن أَمرهم لعجيب؟!
45 -
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} :
معنى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} : أي هو أَعلم منكم بهم
…
فاحذروهم، والتزموا التمسك بأَحكام الله وطاعته، واستعينوا به.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} : أَي وحسبكم الله وليًا، تلجأون إِليه في جميع أموركم.
{وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} في كل المواطن، فاعتمدوا عليه، واكتفوا بولايته ونصرته. ولا تتولوا غيره، ولا تبالُوا بأعدائكم.
46 -
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ
…
} الآية.
هذا بيان لنوع من أَنواع ضلال أهل الكتاب: الذين اشتروا الضلالة. فإِنهم يتأَولون الكلام على غير تأْويله، ويفسرونه بغير مراد الله تعالى كذبًا منهم وافتراءً وتضليلًا للمسلمين. وإِنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم:{سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} : أي سمعنا قولك: ولا نطيعك فيه، عنادا وتحقيقًا للمخالفة. وذلك أبلغ في عنادهم وكفرهم. ويقولون أيضًا مخاطبين له عليه السلام:{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} .
(1) النساء من الآية: 89.
وهذا كلام يحتمل وجهين: الشر والخير
…
وذلك بحمله على معنى: اسمع لا سمعت
…
ويكون دعاء عليه بالصمم أَو الموت. أَو هو على معنى: اسم لا سمعت مكروها. وهذا - وإن كان ظاهره الدعاءَ له - إلا أَنه في حقيقة باطنهم استهزاءٌ منهم واستهتار برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك كانوا يقولون أَيضًا: {رَاعِنَا} وهي كلمة ذات وجهين: تحتمل الخير على معنى: انظرنا وتمهل علينا نكلمك. وتحتمل الشر على معنى: أَنها رمي له بالرعونة والحمق.
فكانوا يظهرون التوقير والاحترام، ويضمرون الإِهانة والاستهزاءَ.
{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} :
أي صرفًا للكلام عن ظاهره، إِلى إرادة الشتم والسب، وقدحًا في الدين. بالاستهزاء والسخرية.
هذا بيان لما كان ينبغي عليهم أن يقولوه. أي ولو أنهم - عندما سمعوا شيئًا من أَوامر الله ونواهيه - قالوا مخلصين: سمعنا وأطعنا، بدل قولهم: سمعنا وعصينا. وقالوا أيضًا: اسمع وانظرنا، بدلا من قولهم: اسمع غير مُسْمَعٍ وراعنا - لكان خيرًا لهم مما قالوه. وأعدلَ وأصْوَبَ.
{وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} :
أي ولكنهم لم يقولوا ذلك. واستمروا على الكفر والضلال. فأبعدهم الله - بسبب كفرهم - عن الهدى. فهم لا يصدقون إلا تصديقًا قليلًا. لا ينتفع به إلا عدد قليل منهم. مثل من آمن من أحبارهم.
المفردات:
{نَطْمِسَ وُجُوهًا} : نزيل معالمها. وأصل الطمس: إِزالة الأعلام المنصوبة لهداية المارة وقد يطلق على إِزالة الصورة، ومطلق التغيير والقلب.
{فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} : أي نجعلها على هيئة الأَقفاء، أو نحولها إلى الوراء حقيقة في المحسوسات، ومجازا في المعنويات.
{أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} : المراد بأَصحاب السبتِ، اليهود المتمردون على أوامر الله بالصيد يوم السبت، بعد أن نهاهم الله عن الصيد فيه. واللعن: الطرد من رحمة الله.
التفسير
47 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
…
} الآية.
بعد أن ندد الله بقبائح أهل الكتاب في الآيتين السابقتين، أَتبع ذلك دعوتهم إلى الإقلاع عن غَوايتهم، وتهديدهم بأَشد العذاب إن لم يقلعوا عما هم عليه من الغَيِّ والضلال. فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
…
} الآية.
ناداهم سبحانه وتعالى بوصف كونهم أهل كتاب - ليحملهم على الإِقلاع عما هم عليه؛ وليزيد في تقريعهم والتشنيع عليهم، فإِن كونهم أهل كتاب، يقتضى مسارعتهم إلى الهداية، لا تماديهم في الضلال. كما وصف المُنْزَلَ - وهو القرآن الكريم - بأنه مصدق لما معهم، وموافق لما في كتابهم، مما يدعو إلى المبادرة بتصديقه، لا إِلى الطعن فيه، والوقوع في تكذيبه، فإِذا عاندوا بعد ذلك، وخرجوا على حكم العقل والنقل، كانوا مستحقين لأَشد العذاب. ولذا هددهم بقوله:
{مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} :
أي من قبل أن نضلهم إضلالًا لا يهتدون بعده. وهو مثلٌ ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق، وردهم إِلى الباطل، ورجوعهما عن الطريق الواضح المستقيم، إِلى الطريق المعوج.
فالطمس والوجه والرد على الأدبار، لإيراد بها حقيقتها، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (1).
{أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} :
أي أو أَن نطردهم من رحمة الله، كما طردنا أصحاب السبت من اليهود، بسبب عصيانهم بالصيد يوم السبت، وقد نهوا عنه.
ثم أكد الله هذا الوعد والوعيد بقوله:
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} :
أي كان كل ما أَراده واقعا لا محالة. وقد تحقق ذلك في الأمم السابقة، فاحذروا غضبه وخافوا عقابه.
48 -
لما كانت جرائم أهل الكتاب - لشناعتها وكثرتها - مظِنة عدم المغفرة، ولو تابوا منها، جاءَت هذه الآية الكريمة، لإبعاد اليأس من رحمة الله ومغفرته عمن آمن، وتهديد من لم يؤْمن. فقال تعالى:
(1) محمد. الآية: 25.
{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
…
} الآية.
والمراد بالشرك هنا: مطلق الكفر الشامل لما عليه أَهل الكتاب، من اليهود والنصارى، وما عليه غيرهم.
وفي هذا أيضًا، ردٌّ عليهم فيما زعموه من أن الله سيغفر لهم ما يرتكبونه من المعاصي، مع استمرارهم على الكفر. كما أخبر الله عنهم بذلك في قوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} (1).
وإنما استحالت مغفرة الشرك بالله تعالى، لأَنه الغطاءُ الكثيف: الذي يمنع نور الإِيمان من الوصول إلى القلب .. وهو أَحط ما تنتهي إِليه عقول البشر .. ومنه تتولد جميع الرذائل التي تهدم الفرد والمجتمع.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} :
أي ومن يشرك بالله، فقد اختلق كذبا، وارتكب إِثمًا عظيما، إِذ تتضاءَل جميع الذنوب بالنسبة إِلى ذنب الشرك.
هذا، ومن المقرر شرعا: أَن من أَشرك باللهِ، وتاب عن الشرك، قبلت توبته، ويغفر الله له. قال الله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2).
المفردات:
{يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} : يمدحونها. وأَصل التزكية: التطهير.
{فَتِيلًا} : الفتيل؛ هو الخيط الذي يُبَطِّنُ نواة التمر، والمراد: لا يظلمون أَدنى ظلم.
(1) الأعراف. من الآية: 169.
(2)
الأنفال. من الآية: 38.
التفسير
49 -
في هذه الآية الكريمة، تعجيب من حال أَهل الكتاب، حيث كانوا يرتكبون الكفر والطغيان، ويأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قائلين: نحن أَبناءُ الله وأحباؤه.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد، إلى هؤُلاء الذين يثنون على أنفسهم، ويمدحونها بما ليس فيهم، مدعين أنهم على الحق، وأنهم مقربون إلى الله؟!
{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} :
أي أن ما مدحوا به أَنفسهم ليس صحيحًا؛ لأن الإِنسان ليس له أن يزكىَ نفسه؛ لأنه قد ينحاز إليها ويمدحها بالباطل .. ومدار التزكية على التقوى، وهذه لا يعلمها إلا الله كما قال - عز من قائل -:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1).
{وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} :
أي ولا يَنقص من ثواب أَحد شيئًا وإِن قل. فهو سبحانه، يؤْتي كل ذي فضل فضله، ولا يبخس الناس شيئًا. فلو كان لهم من الأعمال ما يستحقون عليه الثناءَ، لما ظلمهم الله!!
50 -
{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
…
} الآية.
تعجيب آخر من مزاعمهم، حيث كانوا يدَّعون أنهم أبناءُ الله وأَحباؤُه، ويقولون:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (2). ويقولون: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (3) ويزعمون - إلى اليوم - أَنهم شعب الله المختار. والكذب في ذاته رذيلة، فما بالك بمن يختلق الكذب على الله!.
(1) النجم، من الآية:32.
(2)
البقرة، من الآية:111.
(3)
آل عمران، من الآية:24.
{وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} :
أي وكفى بصنيعهم هذا ذنبا واضحًا ظاهرًا.
المفردات:
{بِالْجِبْتِ} : الجبت، كل ما عُبِدَ من دون الله، ويطلق أيضًا على الكاهن والساحر والسحر.
{وَالطَّاغُوتِ} : الطاغوت في الأصل؛ كثير الطغيان. ويطلق على كل رأْس في الضلال يصرف عن طريق الخير، ويغرى بالشر.
{نَقِيرًا} النقير في الأَصل: هو النقرة التي تكون في ظهر النواة. ويضرب به المثل في القلة والضَآلة. فالمراد به أَقل القليل.
{يَحْسُدُونَ النَّاسَ} : الحسد؛ تمني زوال نعمة الغير.
{وَالْحِكْمَةَ} : العلم النافع، أَو النبوة.
{صَدَّ عَنْهُ} : انصرف عنه، وأَعرض.
{سَعِيرًا} : نارًا مسعرة يعذبون فيها.
التفسير
51 -
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
…
} الآية.
روى ابن أبي حاتم، عن عكرمة: أن حيي بن أَخطب، وكعب بن الأشرف اليهوديين، خرجا إِلى مكة في جماعة من اليهود؛ ليحالفوا قريشًا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه. فقال لهم كفار قريش: أنتم أهل كتاب، وأنتم أَقرب إلى محمَّد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا، حتى نطمئن إليكم .. ففعلوا
…
فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت؛ لأنهم سجدوا للأصنام، وأطاعوا إبليس فيما فعلوا.
وقال أَبو سفيان لكعب: إنك امرؤٌ تقرأ الكتاب، وتعلم ونحن أُميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا: نحن أم محمد؟! فقال: ماذا يقول محمَّد؟ قال: يأْمر بعبادة الله وحده، وينهي عن الشرك. قال: وما دينكم؟. قالوا نحن ولاة البيت: نسقي الحاج، ونقري الضيف، ونفك العاني. وذكروا أفعالهم. فقال: أنتم أهدى سبيلا. فنزلت.
وروى - من غير وجه - نحو ذلك.
وهذه الآية: تعجيب من حال أخرى من أحوال أهل الكتاب، وتوبيخ لهم على ارتكابهم جريمة من أشنع الجرائم، وهي سجودهم للأصنام، وشهادتهم بأن عَبَدَةَ الطاغوت أحسن دينا من أهل الإِسلام. على الرغم من أنهم أهل كتاب، وأَعْرَف من غيرهم بالدين الصحيح.
والمعنى: أَلم ينته علمك يا محمد - أو كل من يستحق أن يخاطب - إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، ورزقوا حظا منه، وإلى حالتهم العجيبة الداعية إلى الدهشة والعجب، وهي أنهم - مع كونهم أهل كتاب - يؤْمنون بالأَصنام، ويطيعون الشيطان، ويقولون في شأْن الذين آمنوا للذين كفروا - من أَجل محالفتهم - هؤُلاء الكفار الجاهليون: أهدى سبيلا، وأقوم طريقًا من الذين آمنوا بمحمد؟!.
فبين بذلك مناط التعجيب من حالهم.
يالَلْعجب من قوم: أهل كتاب، وأتباع رسل، يقولون عن المؤْمنين بمحمد: إن الكفار - من مشركي مكة - أَهدى منهم سبيلا؟!
وإِنما وصفهم الله بأنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب، ولم يصفهم بأنهم أوتوا الكتاب؛ لأَن حالهم تتنافى مع الكتاب كله، حيث يؤْمنون ببعضه، ويكفرون ببعضه.
52 -
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} :
بعد أَن ذكر الله أَحوالهم المثيرة للدهشة والعجب، عقب ذلك بتقريعهم، وبيان العقاب المستحق لهم، فقال:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
…
} الآية
والمعنى: أولئك الموصوفون بالصفات السابقة، المرتكبون لهذه الجرائم البشعة، هم الذين حكم الله عليهم بالطرد من رحمته، بسبب كفرهم وعصيانهم. ومن يلعنه الله ويبعده من رحمته، فلن تجد له نصيرا ينصره من عذاب الله الذي ينزل به.
53 -
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} :
أي ليس لهم نصيب من الملك، حتى يكون لهم الحق في الإِعطاءِ والمنع، والحكم بالهداية وغيرها. فقد زال ملكهم قبل بعثة محمَّد عليه السلام، بمئات السنين. ولو بقي لهم من الأَمر شيء، لما أَعطوا أَحدا أَقل قليل من الخير.
ثم بين الله تعالى سر هذا العناد والتمادي في الضلال، فذكر أَنه يرجع إلى حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وسيطرة الحقد على نفوسهم، فوبخهم على ذلك بقوله:
54 -
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
…
} الآية.
أي أَنهم ليس لهم دليل يستندون إليه، وسبب يتمسكون به في تكذيبهم. بل هم يحسدون الناس، وهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤْمنين - على ما آتاهم الله من فضله، وأنعم به عليهم حيث: أَعطاهم النبوة والكتاب والحكمة.
ولا غرابة في هذا، ففضل الله واسع. وقد آتى الله آل إبراهيم - أي إبراهيم ومن معه - الكتاب والحكمة والنبوة، وآتاهم الله مع ذلك ملكا عظيما واسعا.
ومن ذلك ما أَعطاه الله تعالى ليوسف عليه السلام، من السلطان في مصر.
وما أعطاه الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام من النبوة والملك العظيم. فلا غرابة - بعد
هذا - أن يؤْتي الله محمدًا عليه السلام وهو من أولاد إبراهيم - مثلما أعطى إخوانه الأَنبياءَ.
55 -
{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} :
في هذه الآية بيان لموقف أهل الكتاب من شريعة إبراهيم عليه السلام، والتصديق برسالته.
أي: فمن أهل الكتاب، مَن آمن بإِبراهيم وما أنزل عليه، ومنهم من كفر به وصد عنه.
وقد أعد الله للكفار الجزاء المناسب لهم، وهو أنهم يصلون سعيرًا: أي يقاسون نارا مسعرة ملتهبة، وكفى بجهنم سعيرا. ولا حاجة بعدها إلى ما هو أشد منها، إذ ليس هناك ما هو أقوى منها حرارة، وأَكثر اضطراما، وأشد تعذيبا.
المفردات:
{نُصْلِيهِمْ نَارًا} : نذيقهم حرها، ونشويهم بها.
{نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} : احترقت وذابت.
{ظِلًّا ظَلِيلًا} : ظلًّ وارفًا مستديمًا: لا يصاحبه حر ولا برد.
التفسير
56 -
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
…
} الآية.
بعد أن عدد الله جرائم أهل الكتاب وأحوالهم المقتضية للتعجيب، وهددهم عليها بالسعير - أَتبع ذلك بيان جزاءَ الكفار على وجه العموم: الشاملين لأهل الكتاب وغيرهم. فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا
…
}:
والمعنى: إنَّ الَّذِينَ جحدوا آياتنا الدالَّةَ على ألوهيتنا، والمنزلة على أنبيائنا عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتها القرآن الكريم: الذي هو آخر الكتب وأوفاها، وأوضحها دلالة.
أي سوف ندخلهم نارا هائلة يوم القيامة.
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} :
أي كلما احترقت جلودهم، وتعطلت عن الإِحساس بِالألم.
{بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} :
أي جلودا جديدة أخرى؛ ليستمر عذابهم، ويدوم لهم بها، وذوقهم لها؛ لأنهم كانوا مصرين على الكفر، إلى ما لا يتناهى.
فحكم الله تعالى عليهم بالعذاب الشديد الذي لا يتناهى. {جَزَاءً وِفَاقًا} (1).
وأكد الله هذا الوعيد بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} :
أي هو - في ذاته - قوي: لا يعجزه شيء، ولا يستعصى عليه أمر، حكيم في أفعاله. ومن حكمته: تعذيب العاصي على قدر ذنبه.
(1) النبأ، الآية:26.
57 -
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
…
} الآية.
بعد أن ذكر الله عذاب الكفار - أَتبعه بيان ثواب المؤْمنين، جريا على عادة القرآن الكريم، في اتباع الترهيب بالترغيب، وقَرْنِ الوعد بالوعيد، إظهارا للفرق بين الحالين، وتقريرا للعدل بين الفريقين. فقال:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} :
باللهِ ورسله إيمانا صحيحا.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} :
أي عملوا الأعمال النافعة لهم. وللناس جميعًا، في الدنيا والآخرة.
{سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} :
أي سندخلهم يوم القيامة جنات عالية تجرى الأنهار عن تحت أشجارها وقصورها، وتفيض الخيرات في كل أنحائها. {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (1).
فلا يعتريهم خوف من زواله.
{لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} :
أي ويتنعمون فيها بزوجات طاهرات من الأَدناس الحسية والمعنوية.
{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} .
أي وسيدخلهم اللهُ - الكريم القادر - ظلا ظليلا، لا يعتريه ضيق الحر، ولا مس البرد.
ولهم فيها الثواب العظيم، والنعيم المقيم.
وشتان بين هذا وبين ما يقاسيه الكفار، مما بيَّنته الآية السابقة.
(1) الحجر، الآية:48.
(2)
فاطر، الآيات: 19 - 21.
المفردات:
{أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} : جمع أمانة. وهي ما يؤْتمن عليه الإِنسان: لله أو للناس.
وأَداؤُها: ردها وحملها إلى أصحابها.
التفسير
58 -
{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
…
} الآية.
إِن الله عز وجل، قد ذكر - في الآيات السابقة - أن بعض علماء أهل الكتاب، خانوا أمانة العلم، وقالوا لكفار مكة: أنتم أهدى سبيلا من محمَّد ودينه. فجاءَت هذه الآية، آمرة الناس بردِّ ما ائتمنوا عليه، والحكم بالعدل بين الناس.
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل مكة يوم الفتح، ثم طلب من عثمان بن طلحة بن أَبي طلحة: من بني عبد الدار، مفتاح الكعبة، فأتاه به. فلما بسط يده إليه، قام العباس، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي: اجعله لي مع السقاية. فكفَّ عثمان يده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرني المفتاح يا عثمان" وتكرر الطلب من العباس والكفُّ من عثمان، إلى أَن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عثمانُ، إن كنتَ تؤْمن بالله واليوِم الآخرِ، فهاتِني المفتاح" فقال: هاك بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة ودخلها
…
ثم خرج وطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل بهذه الآية. فدعا عثمانَ بنَ طلحةَ بن أَبي طلحة - فأَعطاه المفتاح.
وفي تفسير ابن كثير: أن عثمان دفع المفتاح - بعد ذلك - إلى أَخيه شيبة بن أبي طلحة. فهو في يد وُلده إِلى اليوم.
وكان عثمان أَحد الذين أَسلموا مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص بين الحديبية والفتح.
أَما رواية - أَنه لم يسلم إِلا يوم الفتح - بعد أَن رَدَّ إِليه الرسول صلى الله عليه وسلم المفتاح - وكان عليُّ قد أَخذه منه عَنْوة - فغير صحيحة.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} :
الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤْمنين في جميع العصور: يأْمرهم فيه - ومن كان معه وَمَن بَعْدَه - بأَداءَ جميع الأَمانات إلى أَصحابها. سواءٌ: أكانت لله تعالى، مثل التكاليف الذي كلفنا بها، من فعل المأمورات، وترك المنهيات. أَو كَانت للناس كالودائع وغيرها. أو كانت للإِنسان نفسه: كالمال المستَخْلَفِ فيه: وكسائر أعضائه التي أمرنا باستعمالها فيما خلقت له: من لسان، ويد، وسمع، وبصر، وغير ذلك
…
فكلها أَمانات يجب أَداؤُها. وذلك باستعمالها في الطاعة، والبُعْد بها عن المعصية، شكرًا لله عليها.
ومن ذلك: العمل بما تَعلَّمَه العلماء وتبليغه للناس، وعدم كتمانه .. كما ذلك أمانات يطالبنا الله عز وجل بحفظها وردها.
وقد عظم القرآن شأن الأمانة وشأن من يرعاها. وجعل ذلك مناطًا للمدح في كتابه العزيز، حيث قال في وصف المؤمنين المستحقين للفلاح:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (1).
وفي الحديث ما رواه البغوي. عن أنس مرفوعًا "لا إيمان لمن لا أمانة له. ولا دين لمن لا عهد له".
(1) المؤمنون الآية: 8.
وروى الترمذي، وأبو داود، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أدِّ الْأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".
ولما أمر الله سبحانه جميع المكلفين بأداء الأَمانات إلى أهلها، أمرهم كذلك. بالحكم بالعدل بين الناس فقال:
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} : أي يأْمركم الله - تعالى - إذا حكمتم بين الناس مطلقًا - مؤْمنين وغير مؤْمنين - {أَنْ تَحْكُمُوا} : بينهم {بِالْعَدْلِ} : دون إجحاف، أو ميل إلى أحد المتخاصمين لقرابة أو دين.
قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (1).
والحكم بين الناس بالعدل. أمر قد انعقد عليه الإِجماع، وتكرر ذكره في القرآن الكريم قال تعالى:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (2). وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (3).
والسنة النبوية، حافلة بالحث على العدل والتنفير من الظلم.
وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لأَبي موسى الأشعري، حين ولاه القضاءَ:"آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ في جَوْرِكَ، وَلَا يَيْأسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدلِكَ"(4).
ثم أَكد سبحانه، وجوب هذه الأَوامر فقال:
{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} :
أي نعم الشيء الذي يعظكم به الله: وهر تأدية الأَمانة، والحكم بين الناس بالعدل، لأنهما من الأمور المحمودة.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} :
أي سميعا لما يقال، وما يجِري من الأَحكام بين الناس {بَصِيرًا}: بما يحدث .. ومنه أداء الأَمانات إلى أَهلها، فهو عليم بكل شيء: مسموعا كان أَو مبصرا: محيط بكل شيء مجاز كلا بما يعمل من خير أَو شر.
(1) المائدة، من الآية:8.
(2)
الأنعام، من الآية:152.
(3)
النحل، من الآية:90.
(4)
كتاب الخراج: 140، وصبح الأعشى 1/ 193.
وذلك وعد وبشرى للطائعين، ووعيد وإنذار للواعظين.
المفردات:
{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} : أصحاب الحل والعقد، من الرؤساء والعلماء.
{تَنَازَعْتُمْ} : اختلفتم.
{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} : أي ارجعوا في معرفته إلى كتاب الله، وسنة رسوله.
{تَأْوِيلًا} : مآلًا ومرجعًا وعاقبة. أو أحسن تأويلًا من تأويلكم.
التفسير
59 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
…
} الآية.
لما أمر الله الولاة بالعدل في الحكم بين الناس، أمر سائر المؤمنين بطاعة هؤلاء الولاة العدول، في ضمن طاعة الله ورسوله. فطاعة أولى الأمر من الحكام العدول، هي طاعة مترتبة على طاعة الله وطاعة رسوله. وأمرهم بذلك، هو بتأسِّيهم بنور الكتاب والسنة في كل تشريعاتهم.
وبذلك يستقيم منهج الحياة على أساس من الكتاب والسنة، والارتباط بأصول التشريع.
وطاعة أولى الأمر من الولاة والرؤساء والعلماء وغيرهم، هي طاعة مرتبطة بهذا الأصل من التشريع أيضًا. وهي - كما سبق - مقيدة ومشروطة بطاعة الله. إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وبذلك تتحقق المصلحة العامة، من وراء ارتباط أولي الأمر بأصول التشريع، وارتباط المسلمين جميعًا بأولي الأمر قال تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (1).
ولأن الكتاب الكريم والسنة النبوية، هما دعامتا التعاليم التي يهدى بها لتحقيق حياة سعيدة وآخرة مرضية. قال تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} :
أي إن اختلفتم في حكم شيء: لم يرد فيه نص صريح في كتاب الله - تعالى - ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فارجعوه إلى هذين الأصلين، وليكن حكمكم فيه بالقياس إلى حكم كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيما يشتبهه من الأمور فإن ذلك خير ما يصار إِليه: لفض التنازع وإزالة الخلاف بين المؤمنين باللهِ واليوم الآخر.
وبذلك، فتح القرآن الكريم للمسلمين، باب الفهم والبحث والاجتهاد في دين الله.
حيث أمرهم أن يردوا ما اختلفوا فيه، إلى الكتاب والسنة.
{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} :
أي إن كنتم تصدقون باللهِ وبمجيء اليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب - فردوا ما تتنازعون فيه إلى حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وقيسوا الأمور بأشباهها، وارْضَوْا بذلك حكمًا.
{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} :
أي الرد إِلى كتاب الله وسنة رسوله، عند التنازع والتمادى في الخصومة، خير لكم وأَصلح من التمادي في الخصومة، وأحسن تأويلا من تأْويلكم، أَو مرجعا وعاقبة.
(1) النساء، من الآية:83.
المفردات:
{الطَّاغُوتِ} : الطاغوت في الأصل؛ كثير الطغيان. ويطلق على كل رأس في الضلال، يصرف عن الخير، ويغرى بالشر.
{يَصُدُّونَ} : يعرضون.
{وَعِظْهُمْ} : خوّفهم.
{وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ} : أي واعظًا لهم - بينك وبينهم - ليكون أَدعى للقبول.
أو في شأْن أنفسهم: كاشفا عن خبثها.
{قَوْلًا بَلِيغًا} : مؤَثرا واصلا إلى حقيقة المراد.
التفسير
60 -
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
…
} الآية.
روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنه تخاصم يهودي ومنافق، ودعا اليهودي المنافق إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف .. فنزلت الآية.
والمعنى: ألم ينته علمك يا محمَّد، إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بالقرآن وبالكتب التي أنزلت على مَنْ قَبْلَكَ من الرسل؟!
إن شأن هؤلاء لعجيب؛ لأنهم - مع زعمهم الإيمان بذلك - يريدون أن يتخذوا من كاهن اليهود - رأس الضلال - حاكمًا في قضاياهم. وقد أمرهم الله أن يكفروا بمن يدعوهم إلى الشر ويبعدهم عن الخير، ويريد الشيطان أين يوقعهم في ضلال بعيد، لا خلاص لهم منه بإتباعهم دعاة الشر!!
61 -
أي ومن عجيب أمر هؤلاء المنافقين: أنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أصروا على الكفر، وأعرضوا عما تدعوهم إليه، إعراضًا شديدًا.
62 -
هذا بيان لسوء عاقبتهم جزاء جنايتهم ومخالفتهم، وتعجيب من حالهم.
أي فيا عجبا .. كيف يكون حال هؤلاء المنافقين - وقت نزول المصائب بهم - بسبب ذنوبهم، ثم جاءوك ملتجئين إليك في ذلك، يعتذرون عن قبائح أعمالهم، ويحلفون بالله ما أردنا بذهابنا على غيرك، وتحاكُمِنَا إلى من عداك، إلا الإحسان والتوفيق. أي المداراة والمصانعة. لا اعتقادًا منّا صحة تلك الحكومة. كما أخبر الله عنها بقوله:
(1) المائدة. الآية: 52.
63 -
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا في قُلُوبِهِمْ} :
أي أولئك هم المنافقون الموغلون في الكفر والنفاق، الذين لا يخفى على الله أمرهم، ويعلم ما انطوت عليه صدورهم من الشر والفساد، وسيجزيهم على ذلك.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} :
أي أعرض عن قبول معذرتهم. وازجرهم عما في قلوبهم من الكيد والنفاق.
{وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}
أي انصحهم - فيما بينك وبينهم بعيدًا عن الناس - ليكون ذلك أدعى إلى قلوبهم - بكلام بليغ رادع لهم. أو قل لهم في شأن أنفسهم وما انطوت عليه من الخبث والقبائح قولًا مأثورًا يردهم عن غَيّهم، ويعود بهم إلى رشدهم.
المفردات:
{فَلَا وَرَبِّكَ} : اللام لتأكيد القسم.
{شَجَرَ بَيْنَهُمْ} : اختلط عليهم من الأمور.
{حَرَجًا} : ضيقًا.
التفسير
64 -
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
…
} الآية.
أي. وما أرسلنا رسولًا من الرسل، لأمر من الأمور، إلا ليطيعه الناس بسبب إذنه تعالى لهم في طاعته، وأمْرِه لهم بأن يتبعوه، فإِن طاعة الرسول طاعة لله
…
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1).
في هذا بيان لما كان يجب عليهم أن يفعلوه حين ظلموا أنفسهم. أي ولو أنهم حين ظلموا أَنفسهم - بترك طاعة الله تعالى - بادروا بالمجيء إليك، معتذرين عن جرائِمهم مبالغين في التضرع إلى الله، والتوبة إليه من ذنوبهم، حتى تقوم شفيعًا لهم إلى ربك، طالبا منه المغفرة لهم.
{لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} :
أي لو أنهم فعلوا ذلك - لوجدوا أبواب التوبة مفتحة لهم، ورحمتَه تعالى محيطةً بهم.
وفي هذه الآية، إرشاد لسائر العصاة والمذنبين، إذا وقع منهم ذنب أو خطيئة، أن يبادروا بالتوبة والندم، كي يفوزوا بغفران الله لهم.
65 -
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
…
} الآية.
روى البخاري بسنده، قال: خاصم الزبير رجلًا في شَرْج (2) من الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اسق يا زبيرُ، ثم أرسل الماء إِلى جارك" فقال الأنصارى: يا رسول اللهِ، لِأَن كان ابنَ عمتك؟ فَتَلوَّنَ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبِسِ الماءَ حتى يرجع إلى الجُدُر، ثم أرسل الماءَ إلى جارك
…
" (3) فاستوفى النبي صلى الله عليه وسلم، للزبير حقه كاملا في الحكم، حين أحفظه الأنصارى، وكان أشار عليهما، صلى الله عليه وسلم بمأمر لهما فيه سعة .. قال الزبير: فما أحسِب هذه الآية إلا نزلت في ذلك.
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
…
} الآية.
(1) النساء. من الآية: 98.
(2)
الشرج: مسيل الماء.
(3)
ابن كثير ج1 ص520.
لقد أقسم الله - سبحانه - بذاته، وهو الذي تولى تربيتك أيها الرسول، وأنعم عليك بنعمة النبوة، وأَدَّبك بأدب القرآن - أقْسَمَ: أن هؤُلاء الذين أَعرضوا عن التحاكم إليك فيما اختلط عليهم، لا يدخلون في عداد المؤْمنين الصادقين، حتى تتحقق فيهم صفات ثلاث:
أولاها: أن يهْرَعوا إليك - أيها الرسول - لتحكم بينهم فيما اختلط عليهم.
ثانيها: أن ترضى نفوسهم - وتستمر راضية دون حرج أو ضيق - بحكمك وقضائك.
ثالثها: أن يسلِّموا بحكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسلينا كاملا، ويذعنوا له إِذعانا صادقا، ويقوموا على تنفيذه بنفوس راضية.
المفردات:
{كَتَبْنَا} : قدرنا.
{مَا يُوعَظُونَ بِهِ} : ما يؤْمرون يه من طاعة الله.
{تَثْبِيتًا} : تحقيقًا لإيمانهم.
التفسير
66 -
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ
…
} الآية.
أي: ولو أَنا كتبنا على هؤلاء الذين أعرضوا عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ما أوجبناه عل بني إسرائيل من قتلِهم أنفسَهم، أو خروجهم من
ديارهم؛ حين طلبنا منهم التوبة - لشق ذلك عليهم، وما نفذه إلا نفر قليل منهم، وهم المخلصون من المؤمنين.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} : من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد لحكمه ظاهرًا وباطنًا.
{لَكَانَ} : فعلهم ذلك.
{خَيْرًا لَهُمْ} : أي أنفع لهم في الدنيا والآخرة.
{وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} : أي تحقيقًا لإيمانهم.
67 -
{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} :
أي: ولو نفذوا ما أمرتهم به، واستجابوا لك، وتحقق منهم صادق الإيمان - لأعطيناهم من عندنا فضلًا لا يحد، ومنحناهم من خزائن رحمتنا أجرًا عظيمًا، بالغًا غاية العظم .. وهو الجنة.
68 -
{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} :
أي: ولأرشدناهم في دنياهم إلى طريق مستقيم استقامة تامة، يقودهم إلا صالح الأعمال، ويوصلهم إلى جزاء الأبرار.
المفردات:
{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} : تفضل الله عليهم بنعمه.
{رَفِيقًا} : مرافقا ومؤنسًا.
التفسير
69 -
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
…
} الآية.
أي: والذين يعملون بما أمر به الله ورسوله، ويتركون ما نهى الله ورسوله عنه، مع التصديق والإذعان والقبول.
{فَأُولَئِكَ} : الموصفون بما ذكر.
{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} : أي مع الذين تفضل الله عليهم بنعم وإحسانه.
وقد بين المنعم عليهم بقوله:
{مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} : أي الذين يبالغون في تصديق أهل الصدق واليقين، والذين قتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمته.
{وَالصَّالِحِينَ} : أي الذين صلحت أعمالهم وسلمت صدورهم، فقاموا بحقوق الله، وحقوق عباده.
{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} :
أي: وحسن أولئك المذكورون رفقاء - في دار النعيم - لأولئك الطائعين.
70 -
{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} :
أي: ذلك الفوز برفقه هؤلاء في أعلى درجات الجنة، هو الفضل العظيم، الذي لا غاية وراءه: تفضل به عليهم. فكل عمل صالح يكسبه العبد، لا يوازي هذا الفضل.
{وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} :
أي: يكفي علم الله في الإحاطة بكل شيء، فيعلم من هو أهل لهذا الفضل، فيجازيه به.
المفردات:
{حِذْرَكُمْ} : الحِذْرُ والحَذَرُ: بمعنى واحد. والمراد: تَيَقَّظُوا واحترِزوا من مكائد عدوكم.
{فَانْفِرُوا} : اخرجوا إلى الجهاد.
{ثُبَاتٍ} : جمع ثُبَة، وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة. والمراد: انفروا جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة.
{أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} : أي اخرجوا مجتمعين غير متفرقين.
{لَيُبَطِّئَنَّ} : أي يتباطأ ويتثاقل.
{شَهِيدًا} : أي حاضر الموقعة.
{مَوَدَّةٌ} : علاقة وصلة.
التفسير
71 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} :
لقد نادى الله المؤمنين بوصف الإيمان، ليثير في نفوسهم دواعي الاستجابة إلى ما أمروا به. فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : أي يا مَن صَدَّقُوا وأذعنوا لله والرسول.
{خُذُوا حِذْرَكُمْ} : أي خذوا حيطتكم من عدوكم، وكونوا مِنْهُ على حذَر. وتيقظوا له حتى لا يباغتكم بالهجوم عليكم.
ومن الحيطة: استطلاع حال العدو، وتعرُّفُ أسراره وخططه الحربية، ومدى قوته
…
ونحو ذلك.
{فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} : أي اخرجوا لقتاله جماعة بعد جماعة، وسرية بعد سرية. إِذا اقتضت الحرب ذلك.
{أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} : أي أو اخرجوا لقتاله مجتمعين إذا لزم الأمر.
ولا شك أن الخروج للقتال، يستلزم التأهب بإعداد الجيش المدرب، وإعداد السلاح الكافي، حسبما يستدعيه حال العدو.
ومن الواضح أنه يجب على الأمة: أن تظاهر جيشها، وتحمى ظهره: بالعمل والإنتاج، والتماسك والاتحاد، ورفض الإشاعاِت الكاذبة، وتحمُّل التضحيات.
72 -
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ
…
} الآية.
بعد أن أَمر الله المؤمنين، بأخذ الحذر والحيطة من الأعداء، والخروج لقتالهم: مجتمعين أو متفرقين - حسبما تدعو إليه ظروف الحرب - كشف الله حال طائفة تتباطأ عن الجهاد، وتتثاقل عن الخروج إليه ذَمًّا لهم، وتحذيرا منهم، فإنهم منافقون، فقال:
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} :
أي: وإن من بينكم - معشر المسلمين - لمن يتباطأ عن الخروج للقتال.
{فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} :
أي فإن نزلت بكم هزيمة، ولحقت بكم نائبة.
{قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} :
أي: قال فرحًا مسرورًا، قد أَنعم الله عليَّ، حيث لم أحضُر القتال، ولم أتعرض لما تعرض له جيش المسلمين من أهوال القتال وشدته.
73 -
أي: وإن تفضل الله عليكم بالنصر، وأنعم عليكم بالغنيمة، عَضَّ أصابع الندم، واستولت عليه الحسرة قائلًا - كأن لم يكن بينكم وبينه سابق معرفة -: يا ليتني كنت معهم في ساحة القتال. فأغنم مغانم كثيرة، وآخذ أموالًا وفيرة. وهذا الفريق أخطر على الأمة من عدوها الخارجي: المعلن لعداوته.
المفردات:
{يَشْرُونَ} : يبيعون؛ لأن شرى: من كلمات الأضداد. كذا في الصِّحاح.
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} : المستذلين.
{وَالْوِلْدَانِ} : جمع وليد، وهو الصبي، أو العبد.
{وَلِيًّا} : معينًا.
{الطَّاغُوتِ} : في الأصل كثير الطغيان. ويطلق على كل رأس في الضلال. وقيل: الشيطان.
التفسير
74 -
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ
…
} الآية.
ذكرت الآيتان السابقتان، طائفة من المنافقين: يثبطون ويخذلون المؤمنين عن القتال، فإذا انهزم المؤمنين فرحوا، وإذا انتصروا ندموا على تخلفهم عن القتال؛ لحرمانهم من الغنائم.
وفي هذه الآيات يأمر الله المؤمنين بالقتال في سبيله.
والأمر موجّه إلى من باعوا الحياة الدنيا، طلبًا لثواب الآخرة، وجادوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ونشر الدعوة الإسلامية، والدفاع عن المسلمين، وعن الوطن الإسلامي.
وتقدير الكلام: إذا تباطأ المنافقون عن الجهاد. فليسرع إليه المؤمنون الصادقون.
وقد فرض الله الجهاد في سبيل الله على المؤمنين الصادقين. قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (1).
{وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} :
أي: ومن قاتل في سبيل الله - لا طلبًا للغنائم، ولا طمعًا في الحكم والسلطان - فقد أعد الله له ثوابًا جزيلًا.
والمقاتل في سبيل الله بين غايتين: الاستشهاد في سبيل الله، أو النصر على الأعداء .. ولا ذكر للهزيمة في الآية الكريمة؛ لأن المؤمن المجاهد: لا يرتد على عقبيه، ولا يستسلم
(1) الحجرات. الآية: 15.
للهزيمة بأي حال. وقد وعده الله - في كلتا الحالتين - بالأجر الجزيل، والثواب العظيم: أجر الشهداء في الآخرة، أَو ثمرات النصر في الدنيا، ورضاء الله في الآخرة.
وفي تنكير الأجر، ثم وصفه بالعظمة - إظهارٌ لمضاعفته، وإبرازٌ لعظمته.
75 -
{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
…
} الآية.
يحرِّض القرآن المؤْمنين على القتال في سبيل إعلاء كلمة الله، وفي سبيل خلاص الضعفاء المستذلين: من الرجال والنساء والصغار من المسلمين. المحبوسين بمكة.
والمعنى أي شىءٍ لكم حتى لا تقاتلوا؟!! أي لا عذر لكم في ترك القتال؟!!
فالاستفهام في الآية الكريمة، لإنكار واستقباح النخلف عن الجهاد.
وقد استدعاه باعثان قويان:
الأول: الدفاع عن الإِسلام.
والثاني: تخليص المستضعفين من المسلمين المستذلين بمكة. الذين يتعرضون لأنواع العذاب والنكال. وهم ضعفاء: لا يستطيعون مقاومة المعتدين الطغاة.
وكلا الباعثين جدير بأن يحفز المؤمنين حفزا إلى القتال. وكلاهما جهاد في سبيل الله
…
ولكنه أفرد المستضعفين، استثارةً للحمية والأنفة والغيرة، لما لها - في نفوس العرب - من مكان مكين.
أي لا عذر لكم في ترك القتال؛ لتخليص المستضعفين الذين عذبهم المشركون بمكة، ومنعوهم من الهجرة أَو حرية العبادة. فاتجهوا إلم الله عز وجل، ضارعين قائلين: يا إلهنا المنعم، المتفضل علينا بنعمة الإِسلام - هيئ لنا الخروج من مكة، والهجرة منها، فِرارا بديننا من أَهلها الطغاة الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، وظلمونا بتعذيبنا، ومَنْعِنَا من الهجرة ومن حرية العبادة، وهيئ لنا - بفضلك - وليًّا يتولى أمورنا ويحمينا منهم، وهيئ لنا - من عندك - من ينصرنا عليهم وييسر لنا طريق الهجرة إلى إخواننا المسلمين.
قال ابن عباس - فيما رواه البخاري عنه:
"كنت أَنَا وأمي مِنَ المستَضْعَفِينَ".
ونسبة الظلم إلى أَهل مكة: تشريف لها وصيانة عن نسبة الظلم إليها، فهو مقصور على أهلها المشركين.
76 -
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
…
} الآية.
وازنت هذه الآية الكريمة بين فريق المؤمنين، وفريق الكافرين.
فالمؤمنين يقاتلون في سبيل الدفاع عن عقيدتهم، وعن أوطانهم، وعن إخوانهم المستذلين. وهذا كله في سبيل الله. وقد وعد الله المجاهدين في سبيله بإحدى الحسنيين: الشهادة وما وراءَها من أَجر جزيل، أو النصر وما يتبعه من عز وتمكين.
أما الكفار، فهم يقاتلون في سبيل الطغيان والظلم والاستعلاء.
وشتان بين مَن يجاهد في سبيل المبادىء والمثل العليا، ومَن يقاتل عدوانا وظلما، وتمكينا للطغاة الجبارين.
ولا شك أن العاقبة للمتقين، وأن الظلم مرتعه وخيم.
{فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} :
أي: فقاتلوا أيها المؤمنون - في سبيل الله - أنصار الشيطان وأعوانه، وكونوا واثقين من نصر الله لكم، وثوابه العظيم. ومن خذلان أعوان الشيطان، فإنكم أنصار الله وحماة الحق، الذي أنزلة إليكم. والحق لا بد أَن ينتصر. فإنهم أعوان الباطل والباطل إلى زوال {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (1). والله سبحانه - غالب عَلى أمره.
أما الشيطان وأنصاره، فهم المخذولون: {
…
أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2).
(1) الأنبياء من الآية: 18.
(2)
المجادلة من الآية: 19.
المفردات:
{كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} : اقبضوها وامنعوها عن القتال.
{مَتَاعُ الدُّنْيَا} : ما يتمتع به من زخرفها وزينتها ولذائذها.
{فَتِيلًا} الفتيل: الخيط الموجود في شق النواة، يضرب به المثل في القلة والحقارة.
{بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} حصون مرتفعة منيعة محكمة.
{يَفْقَهُونَ} : يفهمون فهمًا دقيقًا.
{شَهِيدًا} : شاهدا على صدق رسالتك، أو مُطَّلِعًا بصيرًا.
{تَوَلَّى} : أعْرَض.
{حَفِيظًا} : رقيبًا، أو مسيطرًا.
التفسير
77 -
روى ابن أبي حاتم بسنده. عن ابن عباس، أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أَتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا يا نبي الله: كُنَّا في عِزَّةٍ ونحن مشركون، فلما آمنا صِرْنَا أذِلَّةً، قال:"إنى أُمِرْت بِالعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا القَوْمَ". فلما حوَّله الله إلى المدينة، أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ
…
} الآية.
أي: ألم ينته إلى علمك - يا محمَّد - حال أولئك الذين كانوا يتمنون القتال - وهم بمكة - قبل أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم فيه، رغبة في التخلص من ايذاء المشركين المستمر لهم؟!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستمهلهم ويقول لهم - وهم بمكة: كُفُّوا أيديَكم عن قتال المشركين حتى يأْذن الله فيه، وتفرغوا لتطهير أنفسكم وتزكيتها: بإِقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (1)، وإِعدادها للجهاد حين يأذن الله به فيه؟!.
والاستفهام لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه، وكل من يتأتى منه ذلك إلى يوم القيامة - تعجيب لهم - من حال هؤلاء الذين تحدثت الآية عن شأنهم.
(1) كانت الزكاة غير محددة المقادير في مكة - قبل الهجرة - وكان ذلك متروكا لتقدير المسلمين، ثم تم تحديدها بالمدينة.
أي: فلما فرض الله القتال على المؤمنين - بعد الهجرة - استولى الخوف - من قتال الكفار - على نفوس فريق منهم، وهم المنافقون، وتهيبوا قتال الناس خشية القتل أو الأسر، وملأ الرعب قلوبهم فأصبحوا يخافون قتال الكفار كخوف المتقين من الله. بل أصبح خوفهم من الناس أَشد من خوف المتقين من ربهم.
{وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} :
أي: وقالوا - في ضيق ورعب وجزع من الموت - يا ربنا، لم فرضت علينا القتال؟ هلَّا أخرت فرضه علينا إلى مدة قريبة؟ حُبًّا في التمتع بالدنيا. والمدة القريبة غير محدودةٍ فهي - عندهم - انتهاء آجالهم دون قتال: أَوْ يَا رَبَّنَا هلَّا زدتنا في مدة الكف إلى وقت آخر: قابل للتجديد؟ حذرا من الموت وهربا من الجهاد. فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} :
أي: قل لهم يا محمد: متاع هذه الدنيا - الذي تودّون العيش من أجله - قصير الأمد، لأن الآجال فيها منتهية. وكلُّ آيلٍ إلى الفناء قليل. وما كان كذلك، فهو لا يستحق الحرص عليه أَو الحزن على فواته. ونعيم الآخرة خير لمن خاف عقاب الله بترك معصيته، ولم يخف من لقاء الأعداءِ. وكان هذا خيرا، لأَنه النعيم المقيم، الدائم لمن أَحسن عملا في هذه الحياة الدنيا، وجاهد في سبيل الله حق الجهاد، واتقى الله، ولم يخش إِلَّا الله. ولن تنقصوا في الدار الآخرة - دار الحساب والجزاء - من جزاء أعمالكم شيئًا وإن قل وكان قدر الفتيلة في شق النواة.
ففي الآخرة، ينال المحسنون والمسيئون جزاءَ ما عملوا. ولا يقع على أَحدهم أي ظلم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (1) والفتيل يضرب به المثل في القلة.
(1) الزلزلة الآيتان: 7، 8.
78 -
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ
…
} الَايةّ.
جاءَت هذه الآية ردًّا على كراهيتهم فرض القتال عليهم، لاعتقادهم أَنه يعرضهم للموت الذي يكرهونه، وأن القعود عنه يجعلهم بمنجاة منه.
والمعنى: في أي مكان تكونون فيه - في ساحة القتال، أَو بين أهليكم في مواطن أمنكم أَو خوفكم - ينزل بكم الموت عند انتهاء آجالكم ولو كنتم في حصون منيعة، أَو قصور عالية: تظنونها مانعة لكم من الموت الذي تخافونه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (1).
وفيه تأنيب لهؤُلاء المنافقين، الذين ضاقوا بما فرض الله عليهم من قتال، وإبراز لحماقة تفكيرهم، فإِن الجبن لا يطيل عمرا، وإنما يجلب ذُلًّا. والشجاعة لا تنقص أجلا، وإنما تورث عِزًّا.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
هذا بيان لنقيصة أخرى من نقائص هؤلاءَ المنافقين. فقد كانوا يقولون - إذا حلت بهم نعمة من سعة في الرزق، وكثرة في الأَموال والأولاد - هذا الذي أصابنا من النعم من عند الله. قالوا ذلك، لا عن إِيمان بالله، واعتراف بفضله، بل قالوه؛ تهوينًا لشأْن النبي صلى الله عليه وسلم، وإِشارة إلى أنه لا يأْتيهم بخير .. يدل على ذلك ما حكاه القرآن عنهم بقوله:
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} :
أي: وإن يُصيبهم جدب وقحط، ونقص في الأَموال أو الأولاد، ونحو ذلك.
قالوا: أصابنا ذلك بشؤْمك الذي لحقنا ..
(1) الجمعة، من الآية:8.
فردَّ الله عليهم بقوله:
{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
أي: قل لهم يا محمد: إن كل ما يصيبكم من حسنات وسيئات، إنما هو من عند الله: بقضائه وقدره. فهو - وحده - الذي يملك النفع والضر، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد.
{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} :
تعبير لهم بالجهل، وتعجيب من كمال غباوتهم، وتقبيح لحالهم.
والمعنى: فما شأن هؤُلاء القوم؟ وماذا أصاب عقولهم، حتى أصبحوا بعيدين عن الفهم والإِدراك لما يسمعون، ولما يقولون. ولا يفهمون أن كُلًّا من الخير والشر، من عند الله وحده!
79 -
{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
…
} الآية.
بعد أن تحدثت الآية السابقة، عن فرية من مفتريات المنافقين - وما أكثر ما افتروا، حينما قالوا: إن البلية تصيبنا بشؤْم هذا الرجل، يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن ذكرت أَمره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم. بالرد عليهم، ودحضها في قوله:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . جاءَت هذه الآية بتفصيل هذا الرد وتأْكيد معناه:
{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} :
أي: ما أصابك - أَيها الإِنسان - من نعمة فهي من عند الله جاءَتك تفضلا منه وإحسانا.
{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} :
أي: وما نزل بك - أَيها الإِنسان - من بلية ونقمة تسوءك فهي من عند نفسك، بسبب ما ارتكبت من الذِنوب والآثام، أتتك ونزلت بك عقوبة لك على شؤم معاصيك.
وقد تنزل البلية بالمؤمن ابتلاءً واختبارًا ورفعًا لدرجاته. كما في الحديث: "أشَدُّ الناسِ بَلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتَلَى الرجلُ على حسبِ دينه، فإِن كان في دينه صُلْبا، اشتد بلاؤُه، وان كان في دينه رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ على قَدْرِ دينه. فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ، حتى يتركه يمشي علَى الأرضِ وما عَلَيْه خَطِيئَةٌ"(1).
وقد تنزل المصائب بالمؤْمن: تكفيرا لما عساه يكون قد وقع من الذنوب؛ كما جاءَ في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلمَ: من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أَذى، ولا غمٍّ - حتى الشوكة يُشاكُها - إِلا كفَّر اللهُ بها من خَطَاياه"(2).
وقد أُضيفت السيئة إلى الله تعالى في قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، على جهة خلقه لها. وإيجاده إياها، وأُضيفت إلى العبد في قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . على جهة تسببه فيها بما اقترفه من المعاصي والآثام - وإِن كانت مخلوقة لله تعالى.
وبهذا التوجيه تلتقي الآيتان الكريمتان في معنى واحد.
والخطاب في هذه الآية، عام موجه إلى كل واحد من الناس، كما أَن المراد: جميع الحسنات وكل السيئات.
وليس في أسلوب الآية، ما يدل على أَن النعمة لا تصيب إلا المحسنين، فقد يصيب الله بنعمته من يشاء من غير المؤْمنين. كما قال تعالى: {
…
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ
…
} (3) إذ المراد بالرحمة: النعمة التي لا تكون في مقابلة عمل من الأعمال. وليس فيها أَيضا، ما يفيد أَن المعصية تستلزم نزول البلية ممن عصى حتما. فإِن الله يعفو عن كَثِير. كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (4)، بل إن كثيرا من الكفار يعيشون في الدنيا في رغد من العيش مترفين منعمين، دون أن تنزل بهم أية مصائب طول حياتهم. قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (5).
(1) رواه أحمد في مسنده، والبخاري، والنسائي، وابن ماجة عن سعد.
(2)
رواه أحمد في مسنده، والبخارى ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة معا.
(3)
يوسف، من الآية:56.
(4)
الشورى، الآية:30.
(5)
محمَّد، من الآية:12.
وفي هذا - من كمال رحمته بعباده، وعظيم عفوه عنهم - ما لا يخفى.
{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} :
هذا بيان لعظم مكانته صلى الله عليه وسلم، وجلال قدره، وعلو شأْنه.
والمعنى: وأرسلناك يا محمد، رسولًا مبلغًا - للناس كافة - رسالة ربك، ولم نرسلك لبعضهم.
{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} :
أي: شهيدا على صدق رسالتك، وأَنك أبلغت ما أنزل إليك من ربك، وأَديت واجبك أَكمل أداءٍ: بإخلاص ويقين: تبشر الناس وتنذرهم. والله تعالى خير شهيد على ذلك. فليس لهؤُلاء المنافقين - ولا لغيرهم - أن يتطيروا بك ويقولوا لك: ما نزل بنا من البلاء فمن عندك. وبسبب شؤمك.
وفي تقرير رسالته صلى الله عليه وسلم على هذا النحو - تطمين لقلبه، وتقوية لعزمه، وإِزالة ما عسى أن يكون قد علق بنفسه من الألم مما قالوه، من نسبة ما نزل بهم من البلاء إِليه صلى الله عليه وسلم كما أَن فيه زيادة كبتٍ لهم، وتأكيدا لغاية جهلهم، وعدم فقههم.
80 -
هذه الآية موصولة السياق بما قبلها.
فهي تتضمن: مرضاة الرسول، وتطييب خاطره، وتزيد من رفعة قدره، وعلو منزلته.
ففي الآية السابقة، قرر سبحانه وتعالى: رسالته صلى الله عليه وسلم. ورفَع عنه تحمّلَ مسئولية ما يقولون؛ لأنه ليس إِلا رسولًا: مهمته تبليغ رسالة ربه. وقد أداها أَكمل أداء.
وفي هذه الآية يؤَكد هذا المعنى، ويبين أحكام رسالته، بأن من أعرض عنه فلن يضره، فإنه رسولٌ عليه البلاغ. وليست السيطرة عليهم من رسالته، فقد بعثه الله إلى الناس رسولًا: يدعوهم إلى الخير، ويحذرهم من الشر، ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
وطاعة الرسول فيما يبلغه عن ربه - بوصف كونه رسولًا يبلغ ما يؤْمر بتبليغه إلى الناس - واجبة. فمن أَطاعه في ذلك، فقد أَطاع الله؛ لأنه - صلوات الله وسلامه عليه - لا ينطق عن الهوى
…
فليس لمسلم أن يخالفه فيما يبلغه عن أمر ربه. قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
وأما ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور الخارجة عن دائرة التبليغ والرسالة مما هو خاص بشئون الدنيا، فليست أوامر، بل إرشادات. ولذا راجعه المسلمون في بعض الآراءِ. كما حدث في تأبير النخيل، فرجع صلى الله عليه وسلم، ونزل على رأْيهم، وقال:"أَنتم أَعلَمُ بأَمرِ دُنْيَاكم"(2).
{وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} :
أي: ومن أعَرض عن طاعتك، وعن اتباع الحق الذي جئت به، فاترك أمره إلينا - فسنجازيه - ولا يحزنك أمره، فإنما أرسلناك مبلغا، وقد بلَّغْت ما أنزل إِليك من ربك، على أتم الوجوه وأكملها. والله خير شهيد على صدقك، ولم نبعثك عليهم مسيطرا، ولا رقيبا على أعمالهم:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (3).
(1) النور، من الآية:63.
(2)
رواه مسلم.
(3)
الغاشية، الآيتان: 21، 22.
المفردات:
{بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} : خرجوا من مجلسك ظاهرين.
{بَيَّتَ طَائِفَةٌ} : دبَّروا ليلًا أو في السِّر. في أي وقت من ليل أو نهار.
{يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} : يتأملون فيه، ويتفكرون في معناه.
{اخْتِلَافًا كَثِيرًا} : تناقضا في معانيه، وتباينا في نظمه.
التفسير
81 -
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
…
} الآية.
هذه الآية الكريمة، تحكى شأْنا آخر من شئون المنافقين. وهو إِعلانهم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بألسنتهم - حينما يكونون معه، فإذا انصرفوا من مجلسه، وذهبوا بعيدا عنه، دبر زعماؤُهم خفية في السِّر - في الليل أو النهار - مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، ونقض الذي قالوه - بألسنتهم - في مجلسه، معتقدين أن هذا التدبير الخفي لن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم. وفاتهم أن الله يعلم كل ما يتآمرون عليه، وقد سجَّله عليهم، وأنه سيكشفه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه سيعاقبهم على هذا النفاق - في الآخرة - أشدَّ العقاب، كما ينبئ عنه قوله تعالى:
وفي هذا - من التعنيف لهم، وبث الرعب في قلوبهم - ما لا يخفى.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} :
أي: فتوَلَّ عنهم - يا محمَّد - ولا تهتم بتدبيرهم وكيدهم، ولا تأْبَهْ بهم ولا بمؤَامراتهم، وفوض أمرك إلى الله - وحده - فهو يكفيك أمرهم، ويجنبك شرهم. وكفى بالله ولِيًا، وكفى بالله نصيرا:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (1).
والأسلوب ظاهر الدلالة على تحقير شأْنهم، والاستهانة بمؤامراتم التي عصم الله - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم منها.
وليس معنى التوكل على الله، أن يترك الإِنسان الأخذ بالأسباب. فهذا هو التواكل، وهو مذموم. وإِنما المراد به، الأخذ بالأَسباب مع تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد عليه.
82 -
تثبت هذه الآية: أن القرآن من عند الله، وتطالبهم أن يتدبروه بيقظة وانتباه، وتنكر عليهم عدم تفكرهم فيما فيه من موجبات الإِيمان به، وتحضهم على التأَمل فيه.
والمعنى: أَيعرض هؤلاء المنافقون عن القرآن، فلا يتأَملون فيه، ليعلموا أَنه من عند الله؟!. فلو تدبروه وتبصروا ما اشتمل عليه من المعاني الصادقة، لأيقنوا أَنه من عند الله لا من عند غيره؛ لأَنه كتاب أُحْكِمَتْ آياتُه، لا عِوَجَ فيه. وهو فوق طاقة البشر أَجمعين. فأخباره كلها صادقة: سواءٌ ما يتناول منها الغابر السحيق، أو المستقبل البعيد، أَو ما كشف به كيد المنافقين.
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} :
أي: ولو كان هذا القرآن من كلام البشر: مؤَلفا من عندهم - كما كانوا يدعون حين قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (2) - لوجد الناس فيه تناقضا كثيرا. ذلك لأن طاقة البشر، لا تستطيع الإِتيان بهذا الكمال، في بيان العقائد والعبادات، والمعاملات والأخلاق، والإخبار الصادق عن الماضي والمستقبل، وعالَم الغيب، وما يجرى فيه
…
كل ذلك في أُسلوب بديع متقن، بلغ الغاية في الكمال والتحدي.
(1) الطلاق، من الآية:3.
(2)
النحل، من الآية:103.
إن العلوم التي تقوم على التجارب، قد تنقض اليوم، ما أبرمته بالأمس، وتهدم غدا ما بنته اليوم.
أما القرآن الكريم، فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه كتابٌ أحكِمَت آياتُه؛ ولأنه تنزيل من حكيم حميد.
والمعهود في كبار الأُدباء: أن تتفاوت آثارهم قوة وضعفًا، وَسُمُوًا وَضَعَةً. ولا يسلم أحد من هذا، وإن كان عبقري الموهبة، رائع البيان.
وقد تناول النقد الأدبي هذه الظاهرة البشرية بالدراسة والتسجيل.
أما القرآن الكريم، فجميع آياته طبقة عليا من البلاغة التي تفوق طاقات الإنس والجن، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
المفردات:
{أَمْرٌ} : خبرٌ عن سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم.
{الْأَمْنِ} : النصر.
{الْخَوْفِ} : الهزيمة.
{أَذَاعُوا بِهِ} : نشروه وأَفشَوْه.
{يَسْتَنْبِطُونَهُ} : يستخرجون حقائقه المستورة الخفية، ومقاصده البعيدة.
التفسير
83 -
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} الآية.
كان المسلمون في جهاد دائم مع أعدائهم من الكفار واليهود. وطبيعة الجهاد تقتضي كتمان أخبار القتال، وصيانة أسراره، إذا ما أريد له النجاح، وبخاصة ما يستفيد منها الأعداءُ.
ومن أخطر الأمور التي تضر بالمسلمين - وبجيشهم المقاتل - إذاعة ما يسمعه المرء من أخبار النصر أو الهزيمة، قبل أن يعرضه على أولِي الأمر. فإنهم - بوقوفهم على حقائق الأمور - أعلم بما إذا كان إفشاءُ هذه الأخبار مما يضر الصالح العام أَمْ لا.
لهذا، فإِن الآية منهج عظيم، من مناهج تربية الشعوب الإِسلامية على الروح العسكرية، وتوجيهٌ لتلك الشعوب: أن يسوسوا أنفسهم ويروضوها على صيانة أخبار أمن الدولة، وكل ما يتعلق بالجانب العسكري من معلومات. ذلك لأن إفشاء أخبار الدولة، يسهل للعدو مهمة التجسس، ومعرفة مواطن الضعف والقوة لدى المسلمين، ويكشف عن عيوبهم.
فواجب كل مسلم أن يرد هذه الأخبار إلى أُولِي الحل والعقد من المسلمين.
فإنهم هم الذين يستطيعون تقييم هذه الأخبار، وتقدير ما إذا كان من المصلحة العامة للدولة إِذاعتها أو كتمانها، حتى لا يحدث اضطراب في صفوف المسلمين.
كذلك هم - باطلاعهم على خفايا الأمور - أعرف بصحة تلك الأخبار أو فسادها. وسواء كانت هذه الأخبار: التي كانوا يتلقونها فيذيعونها، متعلقه بالنصر أَو بالهزيمة؛ لأن أخبار النصر، قد تؤدي إلى التواكل والإهمال فلا يأخذ المسلمون حذرهم. وبهذا يكونون فريسة سهلة لأعدائهم.
وأخبار الهزيمة قد تلقي الرعب في قلوب ضعفاء الإيمان، فتنهار الروح المعنوية. ولا يستطيع الجيش ملاقاة الأعداءِ. قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (1).
وقد جاء في الحديث الشريف: "كفَى بالرء إثْما: أن يحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِع (2) ".
من أَجل هذا، دعت الآية الكريمة المسلمين، ووجهتهم: أن يرجعوا فيما سمعوه من أخبار النصر أَو الهزيمة، إلى الرسول وإلى أولى الأمر من أَهل الحل والعقد، في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
…
}: والذين يستنبطون الحقائق، هم الذين يطلعون على خفايا الأمور. أو المراد بهم الذين رجعوا بهذه الأخبار - حينما سمعوها - إلى الرسول وأصحابه، فإنهم يعرفون - عن طريقهم - ما خفى عليهم أمره من هذه الأخبار.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} :
هذا امتنان من الله تعالى، على عباده المؤمنين، بحفظهم من شر هذا السلوك الشائن، من المنافقين وضعفاءِ الإِيمان. حيث تفضل عليهم بالنصر، ورحمهم بالحفظ من تصديق ما يذيعه الأَعداء، وضعاف الإِيمانِ، وذوو الغفلة.
أي لولا هذا الفضل وتلك الرحمة من لله بهذه الأمة. لضل الكثير من أبنائِها: باتباع سبيل الشيطان، ولكان مصيرها الضياع والانهزام، وضعف الثقة في النفوس.
وعلى هذا، يكون المراد بالقلة في قوله تعالى:{إِلَّا قَلِيلًا} : القلة الممتازة من المسلمين بقوة العزيمة، وثبات الإيمان، فإنهم هم الذين يكونون بمنجاة من التأَثر بهذه الأخبار، فلا يصدقونها ولا يذيعونها.
ويصح أَن يكون المراد بقوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} إلا في قليل من أعمالكم.
(1) الأحزاب، الآيتان: 60، 61.
(2)
أخرجه أبو داود والحاكم.
وبالتأمل فيما تضمنته الآية الكريمة من إرشادات حكيمة، يتضح أَن القرآن الكريم، قد سبق جميع النظم الحربية، في وضع أقوى الوسائل لمواجهة ما يسمى الآن: الحرب النفسية، أو حرب الأعصاب. وهي التي تدير الحرب العسكرية.
المفردات:
{لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} : لا تكلف إلا فعل نفسك.
{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} : وحُثَّهم ورغِّبهم.
{تَنْكِيلًا} : تعذيبا وإيلاما.
التفسير
84 -
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ
…
} الآية.
أمرٌ من الله بالقتال، مُفَرَّع على ما سبق، من بيان حال المنافقين وضعاف الإِيمان، وأَنهم مخذولون بإذاعتهم ما يسمعون، قبل التثبت من صحته.
أمر من الله لرسوله - يشمل كل قائد، وكل قادر على القتال من المؤمنين المخلصين - عند إعلان النفير - أن يندفع ولو منفردا، إلى الجهاد في سبيل الله، فإنه غير مسئول في الجهاد إلا عن نفسه، وعن حض المؤمنين عليه، غير ملتفت إلى هؤُلاء المثبطين الذين يظهرون الطاعة، ويضمرون العصيان، ولا إلى من يذيعون الأخبار قبل التثبت من صحتها. أَو يصدقونها، فيتقاعدون - بسببها - عن القتال.
ويفهم من الآية: أن على القائد أن يتقدم جندَه، وأن يضرب لهم المثل بنفسه عمليا -، وأن يُحَرِّضَ المؤمنين على الجهاد ويحثهم عليه.
لا ريب أن استعداد المؤمنين للقتال في سبيل الله، وإقدامهم عليه - بقوة وعزم وتصميم - يحقق الرَّجاء في أن يوهن الله عزم الكفار، ويضعف قوتهم، ويبدد شملهم. ذلك لأن استعداد المسلمين وتصميمهم، يحمل الكفار على التفكير والتروي، قبل مواجهة المسلمين، فيتوقفون عن قتالهم، ويكف الله بهذا عن المسلمين شر قوتهم، وشدة بأسهم.
وأشعر قوله عز وجل: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} : بأن الكافرين - إذا لم تمنعهم قوة المسلمين واستعدادهم، وأقدموا على قتالهم - فإن الله سيتولى نصر المؤمنين وتأييدهم، ويمكنهم من التنكيل بأعدائهم، فإنه - سبحانه - أشد قوة من كل ذي قوة، وأشد تعذيبًا من كل قادر على التعذيب، وأَنه القدير عل إِيقاع العذاب الأليم بأعداء أَوليائه، وتمزيقهم شر تمزيق.
المفردات:
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً} : الشفع في الأصل؛ الضم. ومنه الشُّفعة. وهي ضم ملك الشريك. ومن الشفع: الشفاعة: كأن المشفوع له كان فردا، فجعله الشفيع شفعا.
وتطلق الشفاعة على التوسط لإيصال شخص إلى منفعة دنيوية أو أخروية، أو خلوص من مضرة ما.
{نَصِيبٌ} : النصيب، الحظ. وهو قابل للزيادة، وأكثر ما يستعمل في الخير.
{كِفْلٌ} : الكفل؛ الوزر والإثم، أو المقدار المساوي، وأكثر ما يستعمل في الشر.
{مُقِيتًا} : مقتدرا، أو حافظًا وشاهدا.
{حَسِيبًا} : محاسبا ومجازيا، أو كافيا، أو حفيظا.
التفسير
85 -
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا
…
} الآية.
المراد منه: بيان أن من يسعى في أمر، فيترتب عليه خير - لفرد أو لجماعة - كان له نصيب من أجر ذلك الخير، الذي ترتب على سعيه.
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} :
أي: ومن يَسْع أمر، فيترتب عليه شر، كان عليه وزرٌ مِن ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه وشفاعته.
وهذا عام في الأمرين. فيدخل في الأول التحريض على القتال في سبيل الله، فإن لمن يقوم به نصيبا من أجر المقاتلين، دون أَن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا. ويدخل في الثاني: التثبيط والتخذيل، وإذاعة الأخبار قبل عرضها على أولي الأمر، وإشاعة الأراجيف بين الناس، فإن على من يقوم بذلك وِزرًا مثل وِزْرِ القاعدين عن القتال بدون عذر: لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا.
والتعبير في جانب الحسنة بالنصيب، وفي جانب السيئة بالكفل لكثرة استعمال النصيب في الخير. وكثرة استعمال الكفل في الشر.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} :
أي: وكان الله على تحقيق كل شيء من الأشياء مقتدرا.
ومن ذلك قدرته على جزاء كل من المحسنين والمسيئين، بما يستحقونه من جزاء.
86 -
من أقوى أسباب المودة والألفة، تبادلُ التحية بين الناس.
وأصل التحية: الدعاءُ بالحياة وطولها. ثم استعملت في كل دعاء. وكانت العرب تقول عند لقاء بعضهم بعضا: حيَّاك الله. ثم استعملها الشرع في السلام، وهو تحية الإسلام قال تعالى:{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (1) وقال: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (2).
{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} :
أي: وإذا سلَّم أحد المسلمين على فرد أو جماعة بقوله: السلام عليكم - وهو أقل ما يكفى في البدء بالسلام - فعلى من سُلِّم عليه أن يَرُدَّ التحية بأحسن منها. ويتحقق ذلك بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله - وله أن يزيد بإِكمالها وهو: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وفي الآية: إرشاد حكيم، إلى آداب السلام، كي ننعم بآثاره النافعة في: جمع القلوب، وتوحيد الصفوف، وتأْمين الخائف. فأَمرتْ من حُيِّيَ بتحية: أن يرد على من حيَّاه بأحسن منها أو بمثلها.
روى: أن رجالا قال أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبا على هذه التحية: "وعليك السلام ورحمة الله": وقال الآخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال:"وعليك السلام ورحمة الله وبركاته". وقال الآخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: "وعليك". فقال الرجل: نقصتني، فأين ما قال الله - تعالى - وتلا الآية؟ فقال عليه الصلاة والسلام:"إنك لم تترك لي فضلا. فرددت عليك مثله" كذا في تفسير أبي السعود.
(1) يونس، الآية:10.
(2)
النور، من الآية:61.
والرد على تحية الإِسلام واجب. وإنما التخيير بين الزيادة وتركها.
فعن ابن عباس، رضي الله عنهما: الرد واجب. وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه - إلا نزع الله منهم روح القدس، رردت عليه الملائكة.
ولا يُرَدُّ على من سَلَّم: أثناءَ الخطبة، وتلاوة القرآن جهرا، ورواية الحديث، وعند دراسة العلم، وعند الأَذان والإقامة.
ولا يسلم على لاعب النرد، والشطرنج، والمغنِّي، والقاعد لقضاء حاجته، والعاري في الحمام.
ويسلم الرجل على امرأَته، لا على الأَجنبية.
والسُّنَّة: أن يُسَلِّمَ الماشي على القاعد، والراكبُ على الماشي، وراكبُ الفرس على على راكب الحمار، والصغيرُ على الكبير، والعددُ القليلُ على العدد الكثير. وإِذا التقيا بَادَرَ كُلٌّ منهما إلى إِلقاء السلام على صاحبه. وخيرُهما الذي يبدأُ.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم، "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". - أي وعليكم ما قلتم. حيث إِن بعضهم كان يقول. السَّامُ عليكم.
وروى: "لا تبدأ اليهودِيَّ بالسلام. وإذا بدأك فقل: وعليك".
وعن الحسن: أَنه يجوز أَن يقول للكافر: وعليك السلام دون الزيادة.
ذكر هذه الأَنباء الثلاثة، أبو السعود في تفسيره.
والسلام: معناه الأَمان، وفي بدء السلام ورده: أَمان للمُسَلِّم، ولمن سُلم عليه. فكأَن كل واحد منهما يؤمن صاحبه من شره، ويزيل الخوف من قلبه: ويؤْنسه بهذه التحية.
وقد نهى القرآن عن نفى الإِيمان عمن أَلقى السلام إِلى المسلمين في قوله: {
…
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
…
} (1). ونهى عن معاجلته بالقتال.
(1) النساء، من الآية:94.
وقد وردت أحاديث كثيرة. تدعو إلى إفشاء السلام: منها: ما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، "لَا تَدخُلُوا الجَنَّةَ حَتى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، ألَا أدُلُّكُم عَلَى شَيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَاببْتُم؟ أفْشُوا السَّلامَ بَينَكُم".
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} :
وختمت الآية بما يحرك وجدان المسلم نحو الامتثال، والمحافظة على ما يوطد روابط المحبة والمودة بين الناس، والحرص على إفشاء السلام، وعلى ما يملأُ القلب خوْفًا من الله وحَذَرًا من عقابه، إذ أفاد ذلك: أَن الله تعالى، سيحاسب الناس على كل ما يأتون ويذرون، على كل صغير وكبير، من الأعمال والأقوال.
87 -
أي: الله الواحد القادر على كل شيءٍ، الحسيب على كل شيء، هو الذي يجمع الناس - بعد قيامهم من قبورهم - يوم القيامة، ليجازي كلا بما قدمت يداه. وهذا الجمع لا ريب فيه، أَو هذا اليوم آت لا شك في مجيئه.
وأسلوب الآية يؤَكد - بقوة - وقوع المحاسبة، ومجازاة كل بما يعمل.
والمقصود، تحريض المسلمين على الالتزام بتنفيذ ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه.
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} :
هذا إنكار أَن يتطرق إِلى النفوس غير الحقيقة التي تقررت في قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ
…
} الآية. إِذ الذي تحدث عن حتمية مجيء الحساب والجزاء، واليوم الذي يقعان فيه - هو الإله الذي لا يوجد حديث أصدق من حديثه، ولا محدث أصدق منه - وهو الله - {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ؟!!.
المفردات:
{فِئَتَيْنِ} : فرقتين.
{أَرْكَسَهُمْ} : ردَّهم إلى الكفر ونكَسَهم.
{أَوْلِيَاءَ} : أعوانا ونصراءَ، توالونهم.
{مِيثَاقٌ} : عهد.
{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} : ضاقت صدورهم.
{اعْتَزَلُوكُمْ} : تركوا قتالكم.
{وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} : وأَلقَوا إليكم الأنقيادَ والاستسلام.
التفسير
88 -
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا
…
} الآية.
ذكر العلماءُ في سبب نزول هذه الآية: أن قوما قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يظهرون الإِسلام، فأقاموا بالمدينة ما شاء الله، ثم قالوا: يا رسول الله، نريد أن نخرج إلى الصحراء، فَأذَنْ لنا؛ فأذِن لهم. فلما خرجوا، لم يزالوا يرحلون مرحلة بعد مرحلة؛ حتى لحقوا بالمشركين.
فتكلم المؤْمنون فيهم.
فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا، لبَقوا معنا، وصبروا كما صبرنا.
وقال قوم: هم مسلمون، وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر، إلى أن يظهر أمرهم.
وعن ابن عباس، وقتادة: أن قوما أظهروا الإِسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين. فاختلف المسلمون في شأنهم؛ فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية الكريمة:
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} :
والخطاب فيها: عام لجميع المؤمنين. والاستفهام: لإنكار مَا وقع من الخلاف في أمر هؤُلاء المنافقين، بعد أن رجعوا إلى المشركين، وأظهروا كفرهم، أو كانوا عونًا لهم على المؤمنين.
والإنكار: مُوَجَّه إلى مَنْ كانوا يدافعون عنهم من المسلمين، وليس إلي جميع المخاطبين.
والمعنى: لِمَ تختلفون في القول بكفر هؤُلاء المنافقين، وتفترقون في هذا الأمر فرقتين، وقد ردهم الله إلى الكفر، كما كانوا بسبب ما اقترفوه من الاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديعته. أَو معاونة المشركين في إيذاء المسلمين بمكة - حيث بيتوا الشر وأَضمروا الردة؟!
ظهر ذلك جليا، حينما رجعوا إلى مكة ولحقوا بالمشركين وأظهروا الكفر. أو حين أظهروا الإسلام بمكة بلسانهم، وكانوا - في واقع الأمر - عونا للمشركين علي المسلمين.
ليس لكم أَن تختلفوا فيه
…
بل كان يجب عليكم - أيها المؤمنون - أَن تتفقوا على القطع بكفرهم؛ لظهور أدلة هذا الكفر، وذلك النفاق.
لقد يسّر الله لِهؤُلاءِ المنافقين طريق الإيمان الصادق. ولكنهم تنكبوا الصراط المستقيم، وحادوا عن النهج السليم، واختاروا الضلالة على الهدى، فسلبهم الله معونته وتوفيقه، وردهم إلى الكفر بسبب ما عملوا: فكانوا في عداد الكافرين.
{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} ؟!
أَنكر هذا النص القرآني على هؤُلاء المدافعين: أن يجعلوا - في عداد المؤمنين - مَنِ اختاروا لأَنفسهم طريقَ الكفر، فلم ييسر الله لهم طريقا إلى الإِيمان، وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وحيث توجه الإِنكار إلى إِرادة هؤُلاء المدافعين، فانتفاءُ قدرتهم على تحقيق الهداية لأُولئك المنافقين، آكَدُ وألْزَمُ.
وفي قوله تعالى:
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} : تقرير لنفي ذلك وتأكيد له.
أَي ومَن سلب الله عنه معونته على الإِيمان. وتيسيرَ الوصولِ إِليه: فلن يستطيع أيُّ واحد من الناس أَن يجدَ له طريقا ما إِلى الهدى والرشاد. قال تعالى:
{
…
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (1).
89 -
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
…
} الآية.
هذا القول الكريم، يبين للناس غُلُوَّ هؤُلاءِ المنافقين في الكفر، وتماديَهُم في الضلال.
إذ لم يقفوا عند رجوعهم إِلى الكفر الذي ردَّهم الله إِليه، بسبب سوءِ أعمالهم - كما بينته الآية السابقة - بل أَحبوا أَن تكفروا - أَنتم - كفرا مثل كفرهم، وتمنَّوْا لكم إن تَضِلوا ضلالا مثل ضلالهم، فتكونوا - أَنتم وهم في الكفر والضلال - سواءً، على
(1) الرعد، من الآية:33.
عقيدة واحدة. فكيف تختلفون في القول بكفرهم، وتفترقون في الحكم بِرِدَّتِهِم، ويحاول بعضكم التماس المعاذير لهم؟!
بعد أن بين الله - تعالى - للمؤْمنين كفر هؤُلاء المنافقين وشدة غلوهم في ذلك الكفر، شرح لهم كيفية التعامل معهم، فقال:
{فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} :
والمعنى: إذا كان شأن هؤُلاءِ المنافقين ما قد عرفتم: ردة إلى الكفر. ومحبة منهم لإِضلال غيرهم، فلا يجعل أي واحد منكم لنفسه منهم نصيرا، حتى يَهْجُرُوا شعار الكفر إلى شعار الإيمان، ثم يتركرا دار الكفر إلى دار الإِسلام. لا لغرض من أَغراض الدنيا: وإنما طاعةً لأَمر الله، وفي سبيل الله، ويقطعوا ما بينهم وبين الكفار من صِلاتٍ، وينحازوا إلى صفوف المسلمين بقلوبهم، وواقع سلوكهم، فإِن هؤُلاءِ ليسوا معذورين بالخطإِ أو الغفلة: وإنما هم عامدون قاصدون، فلا يصح أَن يختلف المسلمون في أَمرهم.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} :
أي: فإِن أعْرَضوا عن الإِيمان الصادق، والهجرة الصحيحة، والتمسك بالدين، ولزموا مواضعهم ولم يهجروا دار الكفر، وسائر ما نهى الله عنه - فذلك هو الدليل المادي على أَنهم لا يريدون إِلا الكيد والشر والبقاء على الكفر .. فَأْسِرُوهم إن قدرتم عليهم، واقتلوهم إذا تمكنتم منهم، في أي مكان تجدونهم فيه: دفعًا لشرهم، وردًّا لكيدهم.
{وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} :
أي: ولا تجعلوا منهم - في هذه الحالة - وليًّا يتولى شيئًا من مهام أموركم، ولا نصيرا تستنصرون به على أعدائكم. واقطعوا ما بينكم وبينهم من صلات. إذ العلاقات مع الخبيثين مداخل هادئة لتعشيش الكيد وتفريخه.
وهذا الحكم ليس عاما في كل المنافقين. فلقد كان منهم من يعيشون بين ظهراني المسلمين: وإِنما هو خاص بهذه الفئة التي بدا منها التعبير العملي عن الخيانة والكيد والخديعة، وبكل من يكون على شاكلتها.
90 -
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
…
} الآية.
في الآية السابقة، أمر الله - تعالى - بقتل هؤُلاءِ الكفار الذين بدت منهم العداوة والخيانة والبغضاءُ.
وفي هذه الآية الكريمة. استثناء طائفتين من القتل:
الطائفة الأولى: بَيَّنَهَا القرآن الكريم في قوله:
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} :
وهم الذين يتصلون بقوم، بينكم أَيها المسلمون وبينهم عهد وميثاق. فإنهم لا يُقتَلُون ولا يؤسَرُون.
والمعنى: أن من دخلوا في عهد قوم - بحلف أو جوار - بينكم وبينهم عهد وميثاق، كانوا أيضًا، داخلين في عهدكم أَيها المسلمون. فلهم حق الأمن من القتل أو الأَسر؛ لأن هذا العمل منهم - في ظاهره - يدل على ميلهم إلى عدم الخيانة والكيد، وعلى تمسكهم بالعهد الذي بينكم وبين مَن يحالفونهم.
وهذا. ما دام الميثاق الذي بين المسلمين وبين هؤلاء القوم قائمًا: لم يُنْقَضْ بوجه من الوجوه.
وهكذا، نرى الإِسلام - في وفائه وسماحته - يحترم العهود والمواثيق، ولو كان فيها حيف بالمسلمين كنا قبلناه وقت المعاهدة. كما حدث في صلح الحديبية.
والطائفة الثانية: هي التي يقول الله - تعالى - في بيانها {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} :
أي: هم الذين أَتَوْا إليكم: تضيق صدورهم وتنقبض نفوسهم، ويتحرجون من قتالكم أَيها المسلمون، ومن قتال قومهم، فلا يريدون قتالكم، ولا يريدون قتال قومهم الذين يعادونكم
…
فاختاروا موقف الحياد.
فهؤُلاءِ ليس للمسلين تسلُّط عليهم، وليس لهم سبيل إلى التحكم فيهم؛ لأن الله كف المسلمين عن قتالهم بما ألقى في قلوبهم من الميل إلى الموادعة.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} :
أي: ولولا ذلك الذكر ألقاه الله في نفوسهم من الميل إلى الموادعة والرغبة في الحياد، لكانوا قوةً تضاف إلى قوة الأعداءِ، ويكون لها تأثيرها في إلحاق الأذى بكم أيها المسلمون، ومساعدة الأعداءِ عليكم، ولكن الله - بفضله ورحمته - صرفهم إلى اختيار موقف الحياد والموادعة: رحمة بالمؤمنين، وتخفيفا لضغط الكفار عليهم، وتقوية لجانبهم عند لقاء عدوهم.
والمقصود من هذا: بيان أن الله مَنَّ على المسلمين بما تفضَّل به عليهم: من كف بأس هؤُلاء عنهم، باختيارهم الحياد والمسالمة.
أي: وما دام هؤُلاء الذين جاءُوكم متحرجين من قتالكم وقتال قومهم، قد اختاروا العُزْلةَ وعدم القتال، وسَارعوا إلى السَّلْمِ، فليس لكم عليهم - أيها المسلمون - أيُّ سبيل أَو أَدنى تسلط.
ذلك لأن الإِسلام يرحب - دائمًا - بكل بادرة تدعو إلى السلام، ما دام غير المسلين لا يعتدون.
وما شُرِع القتالُ في الإِسلام،، إِلا لضرورة تأمين الحق، وصيانةِ العقيدة، وتعميم الخير.
المفردات:
{أُرْكِسُوا} : انقلبوا.
{ثَقِفْتُمُوهُمْ} : وجدتموهم.
{سُلْطَانًا مُبِينًا} : حجةً ظاهرة.
التفسير
91 -
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ
…
} الآية.
ينبّه الله - سبحانه - المسلمين في هذه الآية الكريمة، إلى طائفة أُخرى من المنافقين يلقَوْنَ المسلمين بوجه، ويلقون كفارَ قومِهِم بوجهٍ آخر .. يقصدون بذلك أن يظفَرُوا بالأمن من الجانبين. وهذا الفريق من المنافقين لا يترك قتال المسلمين تحرُّجا، ولكن يتركه مراوغة لتحقيق مآربه.
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} :
أي ستجدون - أيها المسلمون - جماعةً أخرى من المنافقين يسلكون طريقا ملتوية، - هي طريق المواجهة - إذا جاءُوكم أَسلموا وعاهدوكم، يريدون بذلك أن يظفَروا منكم بالأمن؛ ليحققوا مصالحهم لديكم .. فإذا رجعوا إلى قومهم، كفروا ونقضوا عهودهم معكم، وقصْدهم أن يفوزوا كذلك بالأمن من قومهم؛ ليقضُوا بذلك حاجاتِهِمْ، ويصلوا إِلى غاياتِهم عند قومهم أيضًا.
{كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} :
أي: كلما دعاهم قومُهُم إلى قتال المسلمين والكيد لهم، انقلبوا في فتنة القتال والكيد مع قومهم عليكم، معلنين - بذلك - عما أَضمروه في قلوبهم، كاشفين عن حقيقة أَمره.
أي: فإِن لم يتجنب هؤُلاء قتالكم: ويطلبوا الصُّلْحَ معكم، ويَمُدُّوا يَدَ السلام والأمان إليكم، ويكُفُّوا شرهم وأذَاهم عنكم، ويقفوا موقف الحياد ويعلنوه - فخذوهم بالقوة أَسرى لديكم، واقتلوهم في أي مكان تدركونهم وتظفرون بهم عنده، لأَن هذا الصنف من المنافقين خطر: يجب القضاءُ عليه. إذ ليس هناك ما يدعوكم إلى أن تقفوا منهم موقف الأمان والاطمئنان، بعد أَن أعلنوا عداءَهم لكم، وأَظهروا ما تُكِنُّهُ صدورهم نحوكم.
{وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} :
أي وهؤُلاءَ المنافقون: قد جعل الله لكم الحجة الواضحة عام جواز أخذهم وقتْلهم؛ بسبب ظهور عداوتهم لكم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر بكم، والخيانة والكيد لكم.
المفردات:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} : فَعِتْقُ رقبة.
{يَصَّدَّقُوا} : يتصدقوا بالدية؛ بالتنازل عنها.
{مِيثَاقٌ} : عهد.
{خَالِدًا فِيهَا} : ماكثًا فيها زمنا طويلًا.
التفسير
92 -
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
…
} الآية.
بعد أَن بينت الآيات السابقة أُسس المعاملة بين المسلمين وغيرهم، وقد اتضح منها أن القتال شرع في الإِسلام لدفع الظلم، ورد العدوان في مختلف صوره، وتعميم الخير الذي جاء به الإِسلام لإسعاد بني البشر جميعًا، وأَن الأصل هو احترام دم الإنسان، - بعد هذا البيان - جاءَت هاتان الآيتان تقرران حكم وقوع القتل بين المؤمنين: بعضهم مع بعض.
روى عروة بن الزبير: أَن حذيفة بن اليمان، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد فأخطأ المسلمون، وظنوا أن أباه "اليمان" واحدٌ من الكفار، فأخذوه وضربوه بأسيافهم، وحذيفة يقول: إنه أبي
…
فلم يفهموا قوله إِلا بعد أَن قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .. فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ازداد وقع حذيفة عنده. فنزل قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} (1):
أي: وما صح وما استقام لمؤمن صادق الإِيمان فيما أتاه. من ربه في شريعة الإسلام، أن يقتل إِنسانا مؤمنا بغير حق، إلا خطأً.
لأن إيمان المؤمن زَاجِرٌ له عن ذلك، وربما وقع لأَنه احتراز عن الخطإِ، مما لا يكاد يدخل تحت الطاقة البشرية، فيكون الواجبُ ما بُيِّنَ في قوله تعالى:
أي: ومن وقع منه القتل الخطأ، فالواجب عليه في هذه الحالة، أَن يعتق نفسًا مومنةً، وأَن يؤَدي إلى ورثة القتيلِ ديةً: يقتسمونها كما يقتسمون الميراث.
(1) رواه البخاري.
والدية: عوضٌ عن دم القتيل. وهي مائة من الإبل أَو قيمتها بالدراهم أَو الدنانير.
وقد قدَّرها عمر رضي الله عنه بألف دينار على من يتعاملون بالذهب، واثنى عشر ألف درهم على من يتعاملون بالفضة.
رَوَى أَبو داود عن عمر رضي الله عنه: على أهل الإِبل مائة بَدَنة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل الحلل مائتا حلة. وتتحمل عشيرة القاتل عنه دفع الدية، فإن لم تكن له عاقلة، وجبت على بيت المال، فإن لم يكن فيه، وجبت في مال القاتل .. ولا تسقط هذه الدية. إلا في حالة تنازل أهل القتيل عنها.
وهذا التنازل نوع من المعروف. وكل معروف صدقة؛ ولذا قال تعالى:
{إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} : أي تجب الدية إلا أن يَعْفُوَ أهلُ القتيل بالتنازل عنها، وسُمِّيَ هذا التنازلُ صدقةً. حَثًّا لن يستحقون الدية على التنازل عن الديات، وتنبيها على فضل العفو.
هذا إذا كان المقتول خطأ مؤمنًا: من قوم مؤمنين.
{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} :
أي: فإِن كان المقتول خطأً من قوم كفار معادين للمؤمنين - وهو مؤمن - فالواجب في هذه الحالة: عتق رقبة مؤمنة، وفِكَاكها من قيد الرق، وإطلاق حريتها: كفارة عن هذا القتل الخطأ. ولا دية
…
لأنها تعود على أعداء المسلمين المحاربين. ولا يجوز أن يدفع المسلمون أموالهم إِلى عدوهم ليتقوى عليهم بسببها ويحاربهم بها. وفي تحرير النفس المؤمنة تعويض للمسلمين عن ذلك القتيل؛ لأن الرق غُلٌّ في عنق الرقيق: يمنعه من العمل النافع له وللمجتمع، من حيث إنه لا يملك نفسه، فكان في حكم الميت. وفي إطلاق حريته بالعتق إحياءٌ له.
أي: وإِن كان المقتول خطأ، من قوم كفار بينكم - أَيها المسلمون - وبينهم عهد وميثاق، وليسوا أَعداءٌ لكم، فالواجب - في هذه الحالة - المبادرةُ بأداءِ ديةٍ تسلم إلى أَهل القتيل: تعويضًا عن دمه، كما يجب - كذلك - عتق نفس مؤمنة؛ لأن دماء هؤُلاء قد عُصِمت، بحكم ما بينهم وبين المسلمين من ذمة وميثاق.
وفي هذا القسم من أقسام القتل الخطإِ، لم يوصف المقتول بالإيمان أو الكفر، مما يشعر بأن وجود عهد وذمة بين المسلمين، يسوّى بين الجميع في الدية والفدية.
وبذلك يرتفع الإِسلام إلى أعلى مستوًى من رعاية حقوق المعاهدين والذميين. وهو تشريعٌ في رعاية العهد وحرمة الدم، لا يسَامىَ أبدًا.
وحرمة الدم الإنساني، واضحة في إيجاب عتق الرقيق في جميع حالات القتل، عَدَا العداوة والتحفز والكيد، الأمر الذي يهدر الدم معه، وإذا أُهدر الدم فلا حرمة له.
وعتق الرقيق واجب إذا ملكه، أو ملك ما يوصله إليه.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} :
أي: فمن لم يجد الرقيق بأن لم يملكه، ولا يملك ما يوصله إليه، بأن عجز عن ثمنه، أو عجز عن شرائه مع اليسار بثمنه، فالواجب على القاتل - في هذه الحالة - الانتقال إلى البدل: وهو صيام شهرين متتابعين: لا يقع بين أَيامهما إِفطار بغير عذر يبيح الفطر.
أي: شرع الله هذا الصيام، رجاءَ قبول توبة القاتل؛ لأنه - بأَداء هذا الصوم - يقدِّم دليلًا - عمليًا - على صدق توبته ورجوعه إِلى ما أمر الله به من احترام الدماء، وتطهير نفسه بحبسها عن الشهوات شهرين متتابعين: يتوجه المرءُ فيهما إِلى الله، صادقا مخلصا في توبته من الذنوب والآثام.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} :
أي: وكان الله - ولا يزال - عظيم العلم بما انطوت عليه النفوس، وأضمرته القلوب، في جميع الأحوال: بالغ الحكمة في كل ما شرعه من الأحكام.
ومما تجدر الإشارة إليه: أَن العلماء اختلفوا فيمن عجز عن الصيام:
فقال بعضهم: يجب عليه إِطعام ستين مسكينا، كما في كفارة الظهار. وإنما لم يذكر التكفير بالإطعام هنا؛ لأن هذا مقام تخويف وتهديد وتحذير، فلا يناسب أَن يذكر فيه الإطعام؛ لما فيه من التسهيل والترخيص.
وقال آخرون: لا يعدل إلى الإِطعام، لأنه لو كان واجبا، لما أخر بيانه عن وقت الحاجة.
93 -
في الآية السابقة بيان حكم القتل الخطإ بأقسامه الثلاثة.
وفي هذه الآية الكريمة بيان حكم القتل العمد في الآخرة.
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} :
أي: ومن يقتل مؤمنا قاصدا قتله، فجزاؤُه الذي يستحقه على اقتراف تلك الجريمة الشنيعة، دخولُ جهنم ماكثا فيها مكثا طويلًا، إِلى أَن يشاءَ الله إِخراجه من النار فيخرجَه منها، إذ ليس المراد من الخلود هنا دوام البقاء في جهنم أبدا، فإِن الخلود فيها أَبدا، جزاءُ الكافرين.
{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} :
أي وانتقم الله منه، وأبعده سبحانه عن رحمته.
{وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} :
أي: وقد هيأ الله في جهنم لمن تَعَمَّدَ قَتْلَ المؤمنِ، عذابًا رهيبا، لا يدرك الإِنسان غايته؛ لشدة بشاعته.
وفي هذه الآية تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن يجترئون على سفك دماءِ المسلمين بغير حق.
وقد تأيد هذا الوعيد، بأخبار كثيرة، رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
منها: ما أخرجه الأمام أَحمد والنَّسائي، عن البراء بن عازب: أَن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لَزَوَالُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، أَهوَنُ عِندَ اللهِ - تَعالى - مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ .. وَلَوْ أنَّ أهْلَ سَماواتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ اشْتَرَكُوا في دَمِ مُؤْمِنٍ، لأدخَلَهُمُ اللهُ تَعَالى، النَّار".
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد، على قتل النفس التي حَرَّمَ الله قتلها.
المفردات:
{ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : سافرتم للغَزْوِ.
{فَتَبَيَّنُوا} : فاطلبوا بيان الأمر والكشف عنه وتَثَبَّتُوا.
{أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} : حَيَّاكم بتحية الإِسلام.
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : تطلبون متاعها الزائل، ونعيمها الفاني: من مال وغيره.
التفسير
94 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
…
} الآية.
بعد أن بينت الآيتان السابقتان - حكم القتل بقسميه، وأَن أَقصى ما يُتصور صدورُه عن المؤمن، إنما هو القتل الخطأ - جاءَت هذه الآية، تحذر مما يقود إليه من التهاون وقلة المبالاة في الأمور.
روى البخاري، والترمذي، والحاكم، وغيرهم، عن ابن عباس قال: مَرَّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهو يسوق غَنما له: فسلَّم عليهم. فقالوا: ما سلَّمَ علينا إلا ليتعوَّذ مِنَّا: فعمَدوا إِليه فقتلوه: وأتَوا بغنمه النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
وهناك روايات أخرى بهذا المعنى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
…
} الآية.
أي إذا سرتم في الأرض مسرعين للجهاد في سبيل الله، فتبينوا الأمر، وابحثوا عن الحقيقة في كل ما تأتون وتذرون، وتثبتوا من حال من تقاتلونهم.
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} :
أي: ولا تقولوا - بغير تثبت وتأمل لمن حياكم بتحية الإِسلام - لست مؤمنا، وأنك إنما قلت ذلك: طلبا للنجاة بنفسك ومالك، ولست مخلصا في إسلامك.
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} :
أي: تقصدون بقولكم هذا: طلب ماله وأخذه، وهو - وإن كثر - متاع قليل زائل.
وكذلك كل ما في الدنيا.
{فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} :
أي: لا تبتغوا المال بما قلتموه لمن حياكم بتحية الإِسلام، ولا تلتفتوا إلى العرَض الزائل؛ لأن الله سبحانه وتعالى عنده الثواب الجزيل، والأجر العظيم. وخير الله عميم، ومغانمه كثيرة: يمُنُّ عليكم بها، فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتم، إن كنتم تريدون خيرا ومغنما.
{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} :
أي: وقد كنتم من قبل - في بدءِ إسلامكم - لا يظهر منكم للناس غَيْرُ ما ظهر من هذا الذي يأمركم الله بقبول ما ألقاه إليكم، من تحية الإِسلام ونحوها.
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} :
بأن قَبِل منكم هذا الظاهر، وعُصِمَتْ به دماؤُكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفتيش عما في قلوبكم، حتى شاع إسلامكُم بين الناس، وأكرمَكُم الله به.
{فَتَبَيَّنُوا} :
أي: إِذا كان الأمر كذلك، فاطلبوا بيان الحال، وتَدَبَّرُوا الأَمر، وقِيسوا حال هذا الذي ألْقَى إليكم تحية الإسلام بحالكم من قبل، وافعلوا معه ما فُعِلَ بكم في أَول أَمركم، من قبول ظاهر الأمر، من غير تنقيب عن السرائر
…
وتأَملوا .. أهل كان يرضيكم أن يقع بكم مثلُ الذي تريدون أَن توقعوه بِمَنْ أَلْقَى إليكم السلام؟
لا ريب أَن جوابكم يكون: لا
…
وأن ظاهر الحال كافٍ في عصمة الدم والمال.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} :
فيعلم ما تخبئه النفوس وتضمره القلوب، وبواعِثَهَا على العمل، وغاياتِها التي لا تنكشف للناس.
ولا ينبغي للمسلمين: أَن يجعلوا عَرَض الحياة الدنيا غايتَهم من الجهاد، إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله.
المفردات:
{الْقَاعِدُونَ} : المتخلفون عن الجهاد.
{أُولِي الضَّرَرِ} : أصحاب الأمراض والعاهات.
التفسير
95 -
{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
…
} الآية.
بعد أن أمر الله المؤمنين بالجهاد وحرضهم عليه، وذكر من أحكامه تحذيرَ المؤمنِ مِن قَتْلِ أخيه المؤمن، وبيّن أَحكامَ قتلِهِ - أتبعه بيانَ حكمٍ آخر: هو بيان فضل المجاهد على غيره؛ ليهتز له القاعد عنه، رغبةً في الحصول على فضله العظيم.
أخرج البخاري، عن زيد بن ثابت، قال:"أَمْلى عَليَّ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَستَوِى القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ) قال: فجاءَه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ، فقال: يا رسول الله: لو أَستطيع الجهاد لجاهدت - وكان رجلًا أَعمى - فأنزل الله تبارك وتعالى، على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت عَلَيَّ، حتى خِفت أَن ترض فخذى - ثم سُرِّي عنه. فأَنزل الله عز وجل {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ".
وفي رواية البراء بن عازب. فأنزل الله عز وجل {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} .
أي: لا يستوي المتخلفون من المؤمنين الأصحاءِ، الذين قعدوا عن الخروج للجهاد، بدون عذر من مرض أو غير ذلك: من فقد السلاح، وما يُحْمَلون عليه - لا يستوي هؤلاء والذين خرجوا للجهاد في سبيل الله: بأموالهم وأنفسهم، في الأجر والثواب، وعلوِّ الدرجة عند الله تعالي.
وكيف يستوي من تخلَّف - بدون أعذار - مع الذين أَنفقوا أموالهم فيما يُضعِف قوةَ الكافرين، ويذهب شوكَتَهُم، ويوهِن كيدَهم، وبذلوا في القتال أَرواحهم: راضين صابرين؛ لتكون كلمةُ الله هي العليا، وكلمةُ الذين كفورا السفلى؟!
ولما بين الله تعالى، أن المجاهِدِين والقاعِدين لا يستويان .. ولما كان عدم المساواة يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان - دفع النصُّ القرآني احتمال النقصان، بقوله تعالى:
{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} :
فالمراد بهذا: تفصيلُ ما بين الفريقين من التفاضل، حيث بين الله بذلك أَن بَذلَ الأَموالِ والأَنفس في سبيل الله، لإِعلاء كلمة الحق، ابتغاءَ مرضاة الله، سببٌ في تفضيل المجاهدين من المؤمنين على الذين قعدوا عن الجهاد، وتخلفوا عن البذل والإِنفاق بغير عذر، درجةً عظيمةً، لا يعلم قدرها إِلا الله.
{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} :
أي وكلا من فريقي المجاهدين والقاعدين من المؤمنين، وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة. لتحقُّقِ الإِيمانِ الصادق فيهما.
ومحل هذا، إِذا لم يكن النفير عاما، وكان التخلف لا يضر الجبهة المقاتلة من المسلمين، بأن كان فيمن خرجوا للقتال كفايةٌ للقاء العدو لإنزال الهزيمة به.
وذلك ما لم توضع نظم تجعل التجنيد إجباريا.
أما مع وجود هذه النظم، كالذي يجري عليه العمل في الدول الإِسلامية اليوم، فإنه حينئذ، لا يحل لأحد أَن يتخلف عن دوره، وإلا كان متخلفا عن الزحف لقتال الأعداء.
والمتخلف عن الزحف: مرتكب أشد الكبائر، معاقَبٌ عند الله أشد العقاب. وللحاكم أن يعزره بما يردعُ سواه من التعازير الشروعة.
{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} : كان تفضيل المجاهدين بهذا الأجر العظيم - زيادة على القاعدين من غير أولى الضرر - إكرامًا من الله لهم؛ لِمُسَارَعَتِهم إلى الجهاد، وبذْلهم أموالَهم وأنفسَهم في سبيل الله: راضين مغتبطين.
وفيه من تأْكيد أجر المقاتلين ما لا يخفى.
وقد بين الله سبحانه - هذا الأجر العظيم، بقوله تعالى:
96 -
{دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً
…
} الآية.
أي منازل عظيمةً لا يُحيط الوصف بفخامتها وجلال قدرها من عند الله .. تفضَّل الله على المجاهدين بها، لِمَا صدقوا في الجهاد. ومغفرةً لهم من الذنوب، ورحمةً يحيطهم الله بها، ويحفظهم بشمولها؛ لأن المسلم - دائما - في حاجة شديدة إلى مغفرة عظيمة من الله، ينجو بها، ورحمةٍ واسعة يَسْبَحُ في رحابها.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} :
أي وكان الله - ولا يزال على الدوام - عظيمَ الغفران لذنوب عباده، واسعَ الرحمة بكل شيء.
فلا تزهوا أيها المجاهدون بما بذلتم من أَنفس وأموال في سبيل الله. ولا تنسَوا أن الفضل كلَّه من الله.
المفردات:
{مُسْتَضْعَفِينَ} : عاجزين عن القيام بما وجب عليهم.
{وَالْوِلْدَانِ} : الصغار أَو المراهقين أو الأرقاءِ.
{لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} : لا يجدون سببا موصلا إلى الغرض.
التفسير
97 -
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
…
} الآية.
هذه الآيات بيان لحال الذين قعدوا عن الهجرة، وآثروا البقاءَ في دار الكفر. جاءت إثر بيان حال الذين تخلفوا عن الجهاد بغير عذر، وقعدوا عن القتال في سبيل الله.
عن عكرمة مولى ابن عباس. قال: "أَخبرني ابنُ عباس: أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سوادَ المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يُرمى فيصيب أحدَهم فيقتله، أَو يُضْرَبُ فَيُقْتل. فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
…
} الآية". أخرجه البخاري.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} : أي إِن الذين أسلموا، وآثروا البقاء بين ظهراني المشركين في دار الكفر، وتحملوا الذل والهوان والقهر - وهم
قادرون على التخلص مما هم فيه - من كبت وإِذلال - بالهجرة إلى بلد يأمنون فيه على دينهم وأموالهم وأنفسهم - إنَّ هؤُلاءِ تقبض الملائكة - أي ملك الموت وأعوانه - أَرواحهم بإذن الله، عند انتهاءِ آجالهم، في حال ظلمهم أَنفسَهُم، باختيارهم الاستكانة والهوانَ، مع قدرتهم على دفع الظلم بترك مساكنهم.
أي تقول لهم الملائكة - تقريعا وتوبيخا حين تقبض أرواحهم -: في أي شيء كنتم من أَمر دينكم؟ هذا الدين الذي يأمر المسلمَ أن يكون - دائمًا - مع الجماعة: يعيش مرفوع الرأْس في عزة وكرامة، ولا يرضى له أن يكون خفيف الجناح، في خسة ومهانة.
{قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} :
أي قالوا جوابا عن هذا السؤَال الذي يفيض بالتبكيت والإِيلام. إذ معناه: أَنكم لم تكونوا في شيء من أمر دينكم، حين أَقمتم بدار الكفر، وأنتم قادرون على الهجرة منها .. قالوا - معتذرين في وقت لا ينفع فيه الاعتذار -: كنا نعيش مقهورين تحت أيدي الكفار بأرض مكة بسبب ضعفنا.
{قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} :
أي تقول الملائكة - في ردهم لهذا الاعتذار وعدم قبوله منهم، وإنكارا لتحملهم إذلال الكفار إياهم -: إنكم كنتم قادرين على الهجرة: إلى مكان تستطيعون إقامة دينكم فيه، واللحاق بإخوانكم المهاجرين والانضمام إلى صفوفهم، ليزدادوا بكم قوة ومنعة، فبقيتم بين الكفار، لا عجزًا عن مفارقتهم، بل كان في وسعكم ترك ديارهم، ولكنكم لم تفعلوا. فكان جزاؤكم ما بينه الله في قوله:{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} : أي فجزاءُ هؤُلاءِ الذين تخلفوا عن الهجرة: أَن يقيموا في جهنم ويستقروا فيها: هي مأواهم ومصيرهم، وبئس هذا المأوى، وذلك المصير.
98 -
بعد أَن بينت الآية السابقة وعيد مَن كانوا يستطيعون الهجرة وتخلفوا عنها، جاءَت هذه الآية الكريمة، تستثني من هذا الوعيد: الذين لا يستطيعون ذلك. فقالت: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} : أي لكن الضعفاء من الرجال الذين لا يقدرون فعلا على المقاومة، ولا على دفع الظلم والفساد - وكذلك النساءُ والصغار - ممن {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}:
أي لا يجدون وسيلة تخلصهم مما هم فيه من القهر والذل، ولا يعرفون طريقا يستطيعون سلوكه للنجاة مما يلاقون في دار الكفر من ذل وهوان.
99 -
{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} :
أي فهؤلاء المستضعفون، لا شيء عليهم، ولا تثريب في عدم هجرتهم، ولهم أي يطمعوا في عفو الله، ويتطلعوا إلى رحمته؛ لأنه كثير العفو، واسع المغفرة.
المفردات:
{مُرَاغَمًا} : متحولا يتحول إليه: ومكانا يتنقل فيه.
{وَسَعَةً} : السعة؛ البسطة في العيش، والزيادة في الرزق.
{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} : أي ثبت ثوابه عنده.
التفسير
100 -
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً
…
} الآية.
كانت الآيات السابقة في تحذير المسلمين من القعود عن الهجرة. من مكة عند القدرة عليها، وبعث الرجاء في نفوس المستضعفين بأن الله سيعفو عنهم.
وهذه الآية جاءَت بعدها؛ للترغيب في تلك الهجرة: ببيان ثوابها ومنزلتها عند الله تعالى. وكونها طريقا للنصر. وإذلال الأعداءِ، وبابًا واسعا للرزق. وذلك جريًا عام عادة القرآنِ الكريم: من الجمع بين الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
سبب النزول:
لما نزلت الآيات السابقة في التحذير من القُعُود عن الهجرة؛ خرج ضمرة بن جندب مهاجرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أَن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
…
} الآية.
أورده ابن كثير، عن ابن عباس.
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} :
أي: ومن يعمد إلى مثل تلك الهجرة - في سبيل إِعلاء كلمة الله، والمحافظة على دينه - يجد في الأرض متسعًا لهجرته، ورحابًا فسيحة: يستطيع التنقل فيها، والتحول إليها، والاستمتاع بخيراتها. واتخاذ الموقع المناسب لضرب الأعداءِ والنجاة من شرهم.
وفي ذلك ما فيه من الإِهانة لهم، وإرغام أُنوفهم. كما يجد - إلى جانب ذلك - سعة في الرزق، وبسطة في العيش
…
فلا عذر لأَحد من الأقوياء في القعود عن الهجرة والبقاءِ في دار الكفر: مكتومَ الأَنفاس، متعرضا لأذى الكفار قال تعالى:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (1).
وليست الهجرة - بصفة عامة - للهرب من العدو، وإِنما هي ضرب من الجهاد، للقضاءِ على سيطرة الأعداءِ، وتحولٌ من موقع إِلى موقع آخر: يمكن منه ضرب العدو، وإلحاق الأذى والذل به، والتمكن من إِقامة شعائر الدين في حرية وطلاقة.
فهي في الأَصل: الانتقال من مكان إلى مكان. والمراد بها: الهجرة من أَرض الكفر إلى أي مكان يأمن فيه الإِنسان على نفسه وماله ودينه.
(1) العنكبوت، الآية:56.
وقد هاجر بعض المسلمين - في أول الإِسلام - إلى الحبشة.
ثم كانت الهجرة بعد ذلك من مكة إِلى المدينة. وكانت واجبةً قبل فتح مكة.
وهي التي نزلت فيها آيات الترغيب والترهيب.
ولما تم فتح مكة، واستقر الأَمر فيها للمسلمين، وأَعز الله فيها الإِسلام، لم تعد هناك حاجة إِلى الهجرة من مكة.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية"(1).
وتشمل الهجرة بالمعنى العام: الهجرة في طلب العلم، والهجرة في طلب الرزق، والهجرة في نشر الدعوة الإِسلامية في البلاد التي لم تصلها أو التي هي في حاجة إِليها. وكلها مما رغب الله فيه.
وقد تطلق الهجرة على هجر الذنوب والمعاصي، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"(2).
هذا، وقد تكفل الله تعالى، في هذه الآية الكريمة، بثواب الهجرة كاملا لمن خرج من بيته بنيّة الهجرة: لا يريد بذلك إلا وجه الله واللحاق برسول الله، ثم حلَّ به الموت قبل أَن يصل إلى مقصده، وإِن أَدركه أمام باب داره التي خرج منها. فقال جل شأنه:
{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : أي لإِعلاءِ كلمة الله، فهي ضرب من الجهاد.
{ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} : أي يلحقه، وينزل به قبل أن يبلغ مقصده:
{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} : أي ثبت ثوابه عنده، وكان في ضمانه تعالى بمقتضى وعده وتفضله.
(1) رواه البخارى في الحج والجهاد.
(2)
رواه البخارى وغيره.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} : أي كان - ولا يزال - عظيم المغفرة لما فرط من الذنوب، التي من جملتها: القعود عن الهجرة من غير عذر إلى وقت الخروج إليها.
{رَحِيمًا} : كثير الرحمة بعباده حيث قبل توبتهم، وغفر ذنوبهم.
فهذه الآية الكريمة: تطمئن المهاجر على رزقه في مهجره، حتى لا يتقاعس عن الهجرة، فترفع عنه جميع الأعباء، وتفتح له سُبُلَ السعادة في الدنيا، وتعده بعظيم الثواب في الآخرة، حتى لو حال الموت بينه وبين ما يتمناه: من إتمام الهجرة في سبيل الله، بعد أن شرع فيها.
المفردات:
{ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} : سافرتم.
{جُنَاحٌ} : حَرَج وإثْم.
{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} : أن تخففوها من رباعية إلى ثنائية.
{يَفْتِنَكُمُ} : يتعرض لكم بما تكرهون من الإغارة عليكم أثناء الصلاة.
التفسير
101 -
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
…
} الآية.
بعد أن رغَّبت الآية السابقة في الهجرة - وهي مبنية على السفر والخوف من العدو - جاءَت هذه الآية تبين كيفية الصلاة في السفر، وفي حال الخوف من العدو: من جواز قصرها، دفعا للمشقة، وتفضلا من الله على عباده.
والكلام عن الصلاة في هذا الموطن؛ للدلالة على أَنها وسائل الأمن عند الخوف، وعلى عظم شأنها، وبيان أنها لا تسقط بحال من الأحوال.
والمعنى: وإذا سافرتم في الأرض - أيها المسلمون -:
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} : حَرَج وإثْم.
{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} : فتصلوا الرباعية - وهي الظهر والعصر والعشاءُ - ركعتين .. أما الصبح فلا تقبل القصر؛ لأنها قصيرة بطبيعتها، وكذلك المغرب لا تقبل القصر، لأنها وتر النهار.
وظاهر الآية: إباحة القصر لمطلق السفر، طال أم قصر. . ولكن الفقهاء اختلفوا في تحديد مسافة القصر ومدته، كما اشترط بعضهم أن يكون سفرا مباحا .. وتفصيل ذلك في موضعه من كتب الفقه.
وظاهر قوله تعالى:
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : اشتراط الخوف في السفر في جواز القصر. ولكن السنّة النبوية، بينت أنه يجوز القصر في السفر مع الأمن، كما يجوز فيه عند الخوف.
وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم جوابا لمن سأله عن القصر حالة الأمن: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِها عَلَيكُم فَاقْبَلوا صَدَقَتَهُ"(1) وقد بيّن الله سبب الترخيص - في القصر في السفر - عند الخوف من العدو بقوله:
{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} : أي كانوا لكم أعداءً ظاهري العداوة، مجاهرين بها. فتنبهوا لعداوتم واحذروها، وكونوا متيقظين لهم في الصلاة وغيرها.
(1) كتاب سبل السلام (باب القصر) أول حديث فيه.
المفردات:
{طَائِفَةٌ} : جماعة.
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} : وليكونوا متيقظين للعدو، محترسين منه.
{فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ} : فيهجمون عليكم.
{مَيْلَةً وَاحِدَةً} : هجمة واحدة يقضون بها عليكم، فلا يحتاجون بعدها إلى هجمة أخرى.
التفسير
102 -
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
…
} الآية.
لما بيّن الله حكم القصر في السفر عند الخوف، عقّبه ببيان كيفية صلاة الخوف.
سبب النزول:
روى الدارقطني، عن أَبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة،
فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر. فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم صلاة هي أَحب إليهم من أبنائهم وأَنفسهم، قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (1).
ومعنى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} : وإِذا أردت أن تصلِّيَ بهم إِماما، فلتصل طائفة منهم معك، بعد أن تجعلهم طائفتين، ولتقف الطائفة الأخرى تُجاه العدو لمراقبته وحراسة المسلمين منه. {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}: أي ولتأخذ الطائفة التي تصلي معك أسلحتهم، ليتقوا بها العدو عند المفاجأة، {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}: أي فإِذا فرغت الطائفة التي تصلي معك من سجود الركعة الأُولى، فلينصرفوا للحراسة خلفكم.
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} :
أي: ولتأت الطائفة الأخرى التي كانت في مواجهة العدو للحراسة والمراقبة، والتي لم تُصلّ بعد، فليصلوا معك الركعة الثانية، وهي الأولى لهم.
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} :
أي: يجب أن يكونوا دائما متيقظين لمخادعات العدو، وليأخذوا أَسلحتهم معهم ليتقوه بها إن بادءُوهم؛ لأن الأعداءَ يتمنون أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم، فيحملوا عليكم حملة واحدة: منتهزين فرصة انشغالهم بالصلاة. كما قال تعالى:
{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} : والأمتعة ما يتمتع به المحارب من لوازمه في السفر.
والأمر هنا: للوجوب، لقوله تعالى بعده:
(1) رواه أحمد، وأصحاب السنن، واللفظ لأحمد.
أي: لا إثم عليكم في أنْ تتركوا أسلحتكم عندما يكون بكم تَأَذٍّ من المطر أو المرض.
وهذه الرخصة لا تعطَى إِلا في حال العذر الذي بينه الله في الآية في قوله تعالى:
{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} : أي كونوا على حذر دائما، وبخاصة في تلك الحالة التي وضعتم فيها أسلحتكم.
{إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} : يهينهم ويخزيهم ويذلهم، يتحقق بعضه على أيديكم بالنصر عليهم. إِذا اتبعتم النصيحة، ونهضتم بالتكاليف، وكنتم دائما على صلة باللهِ، وفي موقف اليقظة والاستعداد بما تستطيعون من قوة، ويتحقق بعضه الآخر بالعذاب الذي يلاقونه يوم القيامة من الله بسبب كفرهم ومحاربتهم أولياءَه. فاهتموا بأموركم ولا تهملوا مباشرة الأسباب.
هذا نموذج من نماذج تأدية الصلاة في الميدان حين التربص والتهيؤ.
وقد دلت الآية على أهمية الصلاة وضرورتها، وما للجاعة فيها من ميزة ومنزلة، حتى في أَشد حالات الخوف.
فالصلاة هي المدد الروحي الحافز للعزائم على النصر، إذ هي صلة باللهِ رب العالمين، القادر على كل شيء. وهو مالك الأسباب جميعها للنصر وغيره. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (1).
فعلى المسلمين أن يحرصوا على أداء الصلوات استدرارًا لِعَونِ الله.
وفي الحروب الحديثة عليهم تأدية الصلاة بالكيفية التي تناسب وضعهم من العدو، بحيث لا يعرض أَمنهم للخطر.
وقد بين الشرع طريقتها في كل حال.
ومنها: أَنه إِذا التحم الجيشان، فللجندي أن يصلي مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وعلى أية كيفية ممكنه ولو بالإِيماءِ.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (2).
(1) آل عمران، من الآية:126.
(2)
البقرة، من الآية:239.
التفسير
103 -
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ
…
} الآية.
أي: فإِذا أَديتموها على هذا النحو.
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} : يأمر الله - تعالى - بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف - وإن كان ذلك مشروعا فيه بعد غيرها أَيضا - ولكن ها هنا آكد، لما وقع فيها من التخفيف في أَركانها، ومن الرخصة في الحركات الكثيرة التي لا تباح في غيرها - وكما يذكرونه بألسنتهم يذكرونه بقلوبهم.
{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} : أي سكنت قلوبكم من الخوف، وأَمنتم بعدما وضعت الحرب أَوزارها.
{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : أي أَدوها بأَركانها وشروطها كاملة في مواقيتها.
{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} : أَي أقيموها كذلك؛ لأَنها كانت في حكم الله، ولا زالت مكتوبة مفروضة محددة الأَوقات؛ لا يجوز إِخراجها عن أَوقاتها في أَمن.
التفسير
104 -
{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ
…
} الآية.
أي: لا تضعفوا ولا تتوانَوْا في طلب الكفار أَهل الحرب. لقتالهم؛ لأنكم {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} : فليست الآلام مختصةً بكم. بل هي أَمر مشترك بينكم وبينهم. وتزيدون عليهم: أَنكم ترجون وتطمعون من الله تعالى فيما لا يخطر لهم ببال. من نصر دينه الذي أمركم بالجهاد في سبيله. ومن الثواب الجزيل. والنعيم المقيم في الآخرة. فأَنتم تنصرون الله وهو معكم على عدوكم. ومن كان الله معه فهو من المنتصرين.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} : عظيم العلم بكل شيء، فيعلم ما فيه مصلحتكم في دنياكم وأخراكم: عظيم الحكمة فيما يأمركم به وينهاكم عنه. فجدوا في الامتثال لأَمره؛ فإن عواقب الامتثال حميدة.
المفردات:
{خَصِيمًا} : مجادلا، ومدافعا.
{يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} : يخونونها بالظلم والشر، لأَن وَبَالَ ذلك يعود عليها.
{يُبَيِّتُونَ} : يدبّرون خفية.
التفسير
105 -
كانت الآيات السابقة. متعلقةً بقتال الأَعداءِ ومجاهدة الكفار، وما يتعلق بذلك من أحكام. فأَتبعها الله تعالى هذه الآيات الدالة على التزام الحق - حتى مع الأعداء - لئلا يُتوهم أَن عداوة الكفار تبيح الخروج عن دائرة الحق.
وفي ذلك من الدلالة على سموّ مباديء الإِسلام وعدالته المطلقة ما فيه.
سبب النزول:
روى ابن مردويه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أَن نفرا من الأنصار غَزَوْا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
…
} (1) الآية.
فالله يذكر نبيه عليه الصلاة والسلام، وينبهه إِلى مهمته الأصلية. وهي أن يحكم بين الناس بما أرشده الله إليه. وذلك بأن يسوي بينهم على اختلاف نزعاتهم وعقائدهم. كما قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
…
} (2).
المعنى: يقول الله لهذا النبي الكريم: إِنا أَنزلنا إِليك القرآن الكريم ناطقا بالحق، داعيا إليه وإِلى التمسك به، لتحكم بين الناس على اختلاف عقائدهم. بما عرفك الله وأَوحى به إليك. ولا تكن مجادلًا عن الخائنين، فينتصروا على البرءَاءِ.
(1) ابن كثير 1/ 551.
(2)
المائدة من الآية: 8.
106 -
{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} :
واستغفر الله للمذنبين من أُمتك، فلعل الله أَن يغفر لهم - فإِنه واسع المغفرة، كثير الرحمة يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.
107 -
{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ
…
} الآية.
أي: تدافع عن الذين يخونون أَنفسهم؛ بارتكابهم المعاصي والآثام، وادعائهم للبراءة منها؛ كذبًا وزورا.
والمقصود بهم هنا: بنو أُبيرق، الذين نزلت فيهم الآية (1)، ومَنْ على شاكلتهم.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} :
أي: لا يرضى عمن يكثرون من الخيانة والإِثم. بارتكاب المعاصي وانتهاك محارم الله، واتهام غيرهم بها بهتانًا وزورا.
108 -
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ
…
} الآية.
المعنى: يستترون من الناس، مخافة أَن يظهروا أَمامهم بالإِثم ويُعْرَفوا به، ويلامُوا عليه. ولا يستحيُون من الله: حين يبيتون ما لا يرضى من القول: عن اتهام البريء، والحلف الكاذب. وشهادة الزور. وذلك حين عزموا على اتهام من لا يدين بالإِسلام، وتبرئة المسلم، ودبروا ذلك، مع أَنه تعالى معهم بعلمه: يعرف أَسرارهم، ويجزيهم عليها، فهو أحق بأن يُسْتَحيَا منه.
والتعبير عن عدم استحيائهم من الله بالاستخفاءِ منه، جرى على أسلوب المشاكلة للعبارة السابقة المتعلقة بالبشر. وهو أسلوب بلاغي معروف.
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} :
أي: وكان الله - بجميع أَعمالهم - عليمًا شامل العلم. فلا تخفى عليه خلجات نفوسهم، وخفايا أَسرارهم. وسوف يجازيهم على أَعمالهم.
(1) رواه الترمذي وغيره.
109 -
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
…
} الآية.
خطاب للمدافعين عن طعمة بن أُبيرق ومن شاركه في جريمته. {جَادَلْتُمْ} : دافعتم {عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : محاولين تبرئتهم مما اتهموا به عن خيانة، حتى لا تطبَّقَ عليهم عقوبةٌ، ولا يُلْصَق بهم عار، واتهمتم بريئا لم يجن شيئًا.
{فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : ليدفع عنهم، يوم لا يكتمون الله حديثا، وتشهد عليهم ألسنتُهم وأَيديهم وأَرجلهم - وجميع جوارحهم - بما عملوا في الدنيا.
{أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} : بل من يكون وكيلا عليهم. يتحمل تبعاتِ جرائمهم.
والمعنى: لا أَحد يقول بأمرهم إذا أَخذهم الله بعذابه.
والمراد: بيان أَنهم أن استطاعوا خداع الحكام في الدنيا، فإنهم لن يستطيعوا أن يخدعوا الله، ولا أَن يُفْلِتوا من عقابه يوم القيامة.
المفردات:
{بُهْتَانًا} : البهتان؛ أَفحش الكذب.
{خَطِيئَةً} : صغيرة.
{إِثْمًا} : أي كبيرة.
التفسير
110 -
خلال الحديث عن أصول العدالة والمسئولية الفردية، يشير القرآن الكريم، إِلى المبدإِ الإِسلامي الذي يساير الحق والمنطق. وهو: أَن خطيئة البشر ليست لعنة أَبدية. وإنما هي كبوةٌ يمكن بعدها الاعتدال على طريق الاستقامة: بطلب المغفرة ممن يملكها وهو الله جل جلاله ولا يملكها غيره، مهما كان وضعه بين البشر، ولو كان نبيا مرسلًا؛ لأَنه بحكم بشريته - لا يملك أَمر نفسه مع الله، فمن باب أولى لا يملك لغيره مع الله شيئًا، وفاقد الشيءِ لا يعطيه.
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} : أي أَمرا قبيحا يسوءُ به غيره كما فعل طعمة باليهودي (1).
{أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} : بما يفعله من الذنوب التي يغضب بها الله، ويستحق بسببها عقابه، ولم يحاول أَن يقي نفسه ذلك فيظلمها باقترافه.
{ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} : بالتوبة الصادقة، والرجوع إِلى طاعته سبحانه وتعالى.
{يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا} : لما استغفره منه؛ كائنا ما كان الإِثم المرتكب.
{رَحِيمًا} : متفضلا عليه بقبول التوبة، واستفتاح صفحة نقية لأَعماله. وباب التوبة مفتوح، وما على المذنب إِلا أَن يتوجه إلى ربه وحده بالتوبة، دون وساطة أَو قربان.
فالتوبة في الإِسلام، اتجاه مباشر إِلى الله وحده. فإِنه هو الغفور الرحيم.
(1) رواه البخاري والحافظ ابن مردويه.
111 -
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ
…
} الآية.
ومن يقترف ذنبا، فإِنما يعود جزاؤُه على نفسه، لا يتعداه
…
فليحترز عن تعريضها للعقوبة والوبال.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} : بكل شيءٍ، ومنه اكتساب الآثام.
{حَكِيمًا} : فيما شرع من أحكام، وقرر من مباديء. ومنها مبدأ المسئولية الفردية، والتبعة الشخصية.
112 -
أي: ومن يقترف صغيرة أَو كبيرة من المعاصي، ثم يتهم بها بريئًا فقد احتمل - بما فعله - إثم هذا الكذب الذي افتراه على غيره وَبهَتهُ به، وهو منه بريء.
113 -
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
…
} الآية.
في هذه الآية الكريمة. يمتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأَنه تفضل عليه، فأَخبره بما كان من هؤُلاءِ من التآمر على الحق؛ لكيلا يفلت الجاني الحقيقي من العقاب.
والمعنى: ولولا فضل الله عليك ورحمته، بإِعلامك - عن طريق الوحي - بما دبروه، لهمت طائفة - من أُولئك الذين اختانوا أَنفسهم - أَن يضلوك عن الحق: بتصويره على غير وجهه، وهم - بعملهم هذا - لا يضلون إِلا أَنفسهم. إِذ يبعدونها عن المنهج القويم من قول الحق ولو على النفس
…
وما يعود ضرر ذلك إِلا على أنفسهم بتوريطها في الذنوب التي ارتكبوها. وما يضرونك بشيء. فالإِثم على من عصى الله. والقاضي إِنما يحكم بالظاهر. والله يتولى السرائر. فلو حكم بغير الحقيقة - وفق ما ظهر له من الأَدلة - فلا إِثم عليه، بل على المدعي والشهود الكاذبين.
روى البخاري أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخصمين اختصما لديه: "إِنما أَنَا بَشَرٌ مِثْلكُمْ. وإِنَّكُمْ تَخْتَصِمَونَ إِلَيَّ
…
" (1).
(1) يراجع البخاري في كتاب الأحكام.
وأَنزل الله عليك القرآن الجامع بين الحق والحكمة، أَو أَنزل عليك القرآن والسنة، وعلمك ما لم تعلمه من العلوم والمعارف الربانية.
{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} : لا تحويه عبارة ولا تحيط به إِشارة.
ومن ذلك النبوة والرسالة، وإِرشادك إِلى أَخْطاءِ المخطئين.
المفردات:
{نَجْوَاهُمْ} : النجوى؛ المسارَّة بالحديث بين اثنين فأَكثر. قاله الزجاج. وعرفها بعضهم: بالحديث الذي ينفرد به اثنان فأَكثر، سِرًّا أو جهرًا. وعلى كلٍّ، فضمير (نجواهم) للناس عامة؛ لأن الحكم عام.
{أَوْ مَعْرُوفٍ} : هو ما عُرِف حسنُه شرعا أَو عرفا، فينتظم أَصنافَ البرّ والخير.
{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} : طلبًا لرضاه.
{يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} : يخالفه بما أمر به، أَو نهى عنه.
{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} : حقيقة معنى {نُوَلِّهِ} : نجعله واليًا، يقال: تولاه. بمعنى تقلده واضطلع به، وولاه غيره. جله واليا، ومضطلعًا بالأمر.
والمعنى المقصود: هو أن توفيق الله تعالى - يتخلى عنه.
التفسير
114 -
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
…
} الآية.
لما بين الله تعالى - قبل هذه الآية - أنه أَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، الكتاب والحكمة، وعلَّمه ما لم يكن يعلم: أَتبعه ذكرَ بعضِ ما أَنزله عليه من الكتاب والحكمة مما يدعم أَواصر المحبة بين الناس، ويقضي على أَسباب النزاع بينهم. كما أَن فيه ردًّا على مَن كان يحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أَن يقضيَ لصالِحِ من سَرَق الدرع وخبأَها عند اليهودي، فيبرئه ويقضي على اليهودي!!
والمعنى: لا خير في أَحاديث الناس فيما بينهم، إِلا في حديث مَنْ أَمر بصدقةٍ - واجبةً كانت أَو متطوَّعًا بها، أَو أَمر بما عُرِف حسنُه شرعا أَو عرفا، ولم يعارض قاعدةً شرعية، وتقبلهُ العقول الخالصة من الهوى بالرضاء، أَو أَمر بإصلاح بين الناس، حتى يحُلَّ الوئام محل الخصام.
فهذه الجهات الثلاث، هي التي تكون النجوى - أي الحديث الجانبي فيها - خيرا مشروعا مثابا عليه.
أَما الأَحاديث الجانبية التي يتآمر فيها المتآمرون على الإِضرار بعباد الله، أَو يتناجى فيها المتناجون بالمعاصي والهذيان، فلا خير فيها ولا ثواب عليها، بل يعاقب عليها، لأنها كانت في معصية الله تعالى.
فإنما يثاب الإِنسان على المعروف، إِذا ترك الامتنان والإِعجاب به، ولا يتم المعروف - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: - "إِلا بثلاث: تعجيلِه، وتصغيرِه، وسترِه. فإذا عجّلته هنأته (1)، وإِذا صغّرته عظمته، وإِذا سترته أَتممته".
وقد دعت الآية الكريمة إلى فضيلة الإِصلاح بين الناس، وجعلتها خيرا مثابا عليه، لما لها من الأَثر العظيم فيهم، حيث تُحِلُّ الوئامَ محل الخصام، والراحةَ النفسية محل القلق، والتفكيرَ في الخير مكان التفكير في الشر، فيسودُ الأمن والسلام.
(1) أي جعلته هنيئا لأخذه مسعفا بمطلوبه.
وقد أباح الإِسلام الكذب الأَبيض في سبيل الإِصلاح، مع أَن الكذب - بصفة عامة - حرام، لأَن هذا كذب غير ضار بأَحد. وهو مؤَدٍّ إلى مصلحة مؤَكدة، كأَن تقول لِكِلا الخصمين عن صاحبه: سمعته يثنى عليك ويصفك بطيب النية، وحسن الطوية والمروءَة، ونحو ذلك مما يلين قلب الخصم نحو أخيه. في حين أَنك لم تسمع ذلك منه.
وفي ذلك يروى حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه - أم كلثوم بنت عقبة - أَنها أخبرته أَنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلحُ بين الناس، فينمي خيرا أَو يقول خيرًا - وقالت: لم أَسمعه يرخص في شىءٍ مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإِصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأَته، وحديث المرأَة زوجها"(1).
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} :
أي: ومن يَتناجَ ويتحدث مع غيره - في خَلوة - بالصدقة والمعروف والإِصلاح بين الناس، ويرشده إِليها وينصحه بها - فسوف يعطيه الله على ذلك ثوابا جزيلا: يناسب عظمة المنعم.
وإِذا كان هذا ثواب التناجي بها، والإِرشاد إليها، فثواب فعلها أعظم.
أَما أَن يأمر بها الإنسان ولا يفعلها، فذلك جرمه عظيم، ووعيده شديد، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2).
115 -
المعنى: ومن يخالف الرسول فيما أَمَر به عن الله تعالى أو نَهَى عنه، ويتبع غير طريق المؤْمنين في عقيدته أَو عمله، بأَن يكفر أَو يترك الواجباتِ، أو يفعل المنهياتِ - مِن بعد ما ظهر له ما يهديه من أَدلة اليقين واحكمام الدين - نتركْهُ وما تولاه وانصرف إليه،
(1) رواه أصحاب الصحاح سوى ابن ماجه، واللفظ للإمام أحمد.
(2)
سورة الصف، الآيتان: 2، 3.