الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج ابن الأثير الجَزَري في مصنفه النهاية في غريب الحديث والأثر
إعداد الأستاذ الدكتور: أحمد محمد الخراط
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:
فقد نهض السلف رحمهم الله لخدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ وقت مبكر، وتنوَّعت اتجاهاتهم العلمية في ذلك، وكانوا يعدُّون هذه الخدمة عبادة جليلة تملي عليهم بَذْل الإمكانات العالية والأوقات النفيسة؛ لتحقيق هذا الغرض والوفاء به، وكانت خدمة غريب الحديث والأثر مظهراً من مظاهر هذه الحركة العلمية التي بذلها السلف، رحمهم الله تعالى.
ويُعَدُّ كتابُ "النهاية في غريب الحديث والأثر" للإمام ابن الأثير الجَزَري أحد المصنفات التي يشار إليها بالبنان، فذاعت شهرتُه، وتداوله أهل العلم فيما بينهم، وكان له أثر واضح في سيرة هذا الفن الجليل. ويسرني أن أقدم هذا البحث العلمي لهذه الندوة المباركة، ندوة:"عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية"، التي ينظمها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، وأسأل الله لجميع العاملين في تنظيم هذه الندوة التوفيق والسداد.
وقد بدأتُ البحث ب
مقدمة
عامة تحدَّثتُ فيها عن معنى الغريب وأسباب نشأته، ثم جاء المبحث الأول عن حركة التأليف في غريب الحديث من حيث نشأتها وتطورها، وأهم مناهج العلماء فيها.
أما المبحث الثاني فقد كان عن التعريف بـ مجد الدين بن الأثير، وجاء المبحث الثالث عن التعريف بمنهج ابن الأثير في النهاية، وتضمن بيان مقدمته ومعالم منهجه، وأوجه عنايته بالغريب، ثم يأتي المبحث الرابع عن أهمية كتاب"النهاية"، وخصصتُ المبحث الخامس للحديث عن بعض المآخذ التي
أخذتُها على الإمام ابن الأثير في مصنفه. وختمتُ البحث بخاتمة سجَّلت فيها بعض التوصيات، ثمَّ سردتُ مراجع البحث.
أسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، والحمد لله ربِّ العالمين.
مقدمة في معنى الغريب وأسباب نشأته:
إذا تتبعنا نصوص اللغويين نلتمس معاني مادة (غَرَبَ) واستعمالاتها (1) فإننا نجد"الغَرْبَ"هو الذّهاب والتنحِّي عن الناس. وقد غَرَب عنَّا يَغْرُب غَرْباً، وغَرَّب، وأغْرَب، وغرَّبه وأغربه إذا نحّاه. والغَرْبة والغَرْب: النوى والبعد، والخبر المُغْرِب: الذي جاء غريباً حادثاً طريفاً.
وقيل: "العلماء غرباء"لقلتهم فيما بين الجُهَّال.
والغريب هو البعيد عن وطنه، وسُمِّي الغُرابُ غراباً لكونه مُبعِداً في الذهاب، والغريب من الكلام: الغامضُ. وأغرب الرجل إذا جاء بشيء غريب. والشعرة الغريبة حَدَث في الرأس لم يكنْ من قبلُ، وأتى في كلامه بالغريب إذا كان بعيداً عن الفهم. وغاية مُغْرِبة: بعيدة الشَّأْو، والغَرْب: شجر لا يثمر لتباعده من الثمرات. وأغرب الرجل في مَنطِقِه: إذا لم يُبْقِ شيئاً إلا تكلَّم به، وشَأْْوٌ مُغَرِّب ومُغَرَّب: بعيد، وغَرُبَتِ الكلمةُ: غَمُضَتْ، وتكلَّم فَأَغْرَبَ: جاء بغريب الكلام ونوادره.
والغَرْبُ هو التمادي واللَّجاجةُ في الشيء. وكُفَّ من غَرْبِك أي: من حِدَّتِك. واستغرب الرجل: إذا لَجَّ في الضَّحِكِ، والتغريب: الإمعان. وفي لسانه غَرْب أي: حِدَّة.
(1) انظر: العين / 709، تهذيب اللغة: 8/ 112، جمهرة اللغة: 1/268، الصحاح (غرب) 1/191، المفردات: 604، اللسان (غرب) 1/637، التاج:(غرب) 3/ 456، الوسيط (غرب)653.
ممَّا تقدم يتبين لنا أنَّ دلالة المادة تنحصر فيما يلي:
1 -
القلة والنُّدرة. وقد فسَّر الأزهري (1) حديث"بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء"بقوله: "أراد أنَّ أهلَ الإسلامِ حين بدأ كانوا قليلاً، وهم في آخر الزمان يَقِلُّون، إلا أنهم أخيارٌ".
2 -
البُعد: وقد فَسَّر ابن دريد (2) حديث عمر: "هل من مُغَرِّبة خبرٌ"فقال: "أي: هل من خبر جاء من بُعْدٍ. وأحسَبُ أنَّ اشتقاق الغريب من هذا".
3 -
الحِدَّة: كما في حديث عائشة رضي الله عنها: "كلُّ خِِلالها محمودٌ ما خلا سَوْرةً من غَرْبٍ كانت فيها (3) ".
4 -
الطُّروء والحداثة: وقد ورد في المثل"ضربه ضَرْب غرائب الإبل"(4) وذلك أنَّ الغريبةََ تزدحم على الحياض عند الورود، وصاحبُ الحوضِ يَطْرُدها ليحفظ الماء وفيراً أمام إبله.
وقد تحدَّث الإمام الخطابي في مقدمة كتابه"غريب الحديث (5) عن أسباب نشأة الغريب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بُعِث مُبَلِّغاً ومُعَلِّماً، فهو لا يزال في كلّ مَقامٍ يقومُه وموطنٍ يشهده، يأمر بمعروف، وينهى عن منكر، ويُفتي في نازلة،
(1) تهذيب اللغة: 8/ 118.
(2)
الجمهرة: 1 / 268.
(3)
انظر: التاج: (غرب) 3 / 456.
(4)
مجمع الأمثال: 2 / 260.
(5)
غريب الحديث له: 1 / 68.
والأسماع إليه مُصْغِية. وقد تختلف في ذلك عباراتُه، ويتكرَّر بيانُه، ليكون أوْقَعَ للسامعين. وأولو الحفظ والإتقان من فقهاء الصحابة يُرْعون كلامه سمعاً ويستوفونه حِفْظاً، ويُؤَدُّونه على اختلاف جهاته، فيجتمع لذلك في القضية الواحدة عدةُ ألفاظ تحتها معنى واحد.
وقد يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض النوازل وبحضرته أخلاطٌ من الناس، قبائلُهم شتى، ولغاتُهم مختلفة، ومراتبُهم في الحفظ والإتقان غير متساوية، وليس كلهم يتيسر له ضبط اللفظ وحَصْره، وإنما يستدرك المرادَ بالفحوى، ويتعلَّق منه بالمعنى، ثم يؤدِّيه بلغتِه التي نشأ عليها، ويعبر عنه بلسان قبيلته، فيجتمع في الحديث الواحد إذا انشعَبتْ طرقُه عدة ألفاظ مختلفة، مُوجِبُها شيءٌ واحدٌ، ولكثرة ما يَرِدُ من هذا ومن نظائره. يقول أبو عبيدة:"أعيانا أن نعرف -أو نحصي- غريبَ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وكان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون جُلَّ حديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وما خَفِيَ عليهم منه سألوه عنه، وأزالوا الإشكال عنه. وبعد انقضاءِ عصرهم، مضى المسلمون فاتحين يُبَلِّغون رسالة الله في الأرض، ومن الطبيعي أن يختلطوا ويختلط أولادهم بالأمم الأخرى، فتمتزج الألسنة، ويغيب عصرُ الفصاحة، وتَضْعُفَ سبُلُ المحافظة عليها، مع استمرار الاتصال بالأمم الأخرى، ودواعي امتزاج الألسنة والشعوب.