الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: "منهج ابن الأثير في النهاية
"
أ - مقدمته:
كتب الإمام ابن الأثير مقدمة لكتابه"النهاية"تحدَّث فيها عن أهمية علم الحديث والأثر، وذهب إلى أنه لا خلاف بين أولي الألباب والعقول، ولا ارتيابَ عند ذوي المعارف والمحصول أنَّ علم الحديث والآثار (1) من أشرف العلوم الإسلامية قَدْراً، وأحسنِها ذكراً، وأكملها نفعاً، وأعظمها أجراً، وأنه أحد أقطاب الإسلام التي يدور عليها، ومعاقده التي أُضيف إليها، وأنه فرضٌ من فروض الكفايات يجب التزامه، وحقٌّ من حقوق الدين، يتعيَّن إحكامه واعتزامه.
وكان ابن الأثير يرى أنَّ علم الحديث والآثار ينقسم إلى قسمين، أحدهما: معرفة ألفاظه، والثاني: معرفة معانيه.
ويرى أنَّ معرفة ألفاظه مقدمة في الرتبة؛ لأنها الأصل في الخطاب، وبها يَحْصُل التفاهمُ، فإذا عُرِفَتْ تَرَتَّبَتْ المعاني عليها، فكان الاهتمام ببيانها أولى. ويقسم بعد ذلك الألفاظ إلى: مفردة ومركبة، ويرى أنَّ معرفة المفردة مقدمة على معرفة المركبة؛ لأنَّ التركيب فرعٌ عن الإفراد (2)، ثم يقسم الألفاظ المفردة إلى قسمين: أحدهما خاص، والآخر عام.
أمَّا العامُّ فهو: ما يشترك في معرفته جمهور أهل اللسان العربي، ممَّا يدور بينهم في الخطاب، وتناقلوه.
(1) النهاية: 1 / 3.
(2)
النهاية: 1 / 4.
وأمَّا الخاصُّ فهو: ما ورد فيه من الألفاظ اللغوية والكلمات الغريبة التي لا يعرفها إلا من عُني بها، فكان الاهتمام بمعرفة هذا النوع الخاص من الألفاظ أهمَّ ممَّا سواه، إذ الحاجة إليه ضروريةٌ في البيان.
ثم يقسم معرفة هذا الخاص إلى معرفة ذاته وصفاته (1) . أما ذاته فهي معرفة وزن الكلمة وضبطها، وتأليف حروفها؛ لئلا يتبدلَ حرفٌ بحرف أو بناءٌ ببناء، وهذه المعرفة استقلَّ بها علماء اللغة. وأماصفاته فهي معرفةُ حركاته وإعرابه ونحو ذلك؛ لئلا تختلَّ المعاني التي يكون فَهْمُ الحديث مبنياً عليها، وهذه المعرفة استقلَّ بها علماء النحو والتصريف.
ثمّ يبيّن المؤلف في مقدمته أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفصح العرب لساناً وأعرفهم بمواقع الخطاب، وكان في موقع العناية الربانيَّة، وكان يخاطب العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم، كلاً منهم بما يفهمون، فكأنَّ الله عز وجل قد أعلمه ما لم يكن يَعْلَمُه غيرُه، وكان أصحابه يعرفون أكثر ما يقوله، وما جهلوه سألوه عنه فيوضحه لهم.
واستمر عصره (2) صلى الله عليه وسلم إلى حين وفاته على هذا السنن، ثم جاء العصر الثاني -وهو عصر الصحابة- جارياً على هذا النمط، فكان اللسان العربي عندهم صحيحاً، لا يتطرَّق إليه الزَّلَلُ، إلى أن فُتِحت الأمصار، وخالط العربُ غيرَ جنسهم من الأمم، فامتزجت الألسن، ونشأ بينهم الأولاد، فتعلَّموا من اللسان العربي مالا بُدَّ لهم في الخطاب منه، وتركوا ما
(1) النهاية: 1 / 4.
(2)
النهاية: 1 / 4.
عداه لعدم الحاجة إليه، فصار بعد كونه من أهمِّ المعارف مهجوراً، وتمادَت الأيام على سَنَنٍ من الصلاح إلى أن انقرض عصر الصحابة -رضوان الله عليهم.
وجاء التابعون لهم بإحسان فسلكوا سبيلهم، ولكنهم قَلُّوا في الإتقان، فما انقضى زمانُهم إلا واللسان العربي قد كاد يستحيل أعجمياً، فلا ترى المحافِظَ عليه إلا الآحاد، فلما أعضل الداءُ وعزَّ الدواءُ أَلْهم اللهُ عز وجل جماعةً من ذوي البصائر؛ أن صرفوا إلى هذا الشأن طرفاً من عنايتهم؛ حراسةً لهذا العلم الشريف من الضياع.
ثم يتحدَّث المؤلف (1) عمن يراه أوَّلَ من جمع في هذا الفن من غريب الحديث والأثر، وكان يرى أنه أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى، إذ جمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتاباً صغيراً ذا أوراق معدودات. ويبيّن ابن الأثير أنَّ قلة صفحات الكتاب لم تكن لجهله بغيره من غريب الحديث، وإنما سبب ذلك أنَّ كلَّ مبتدئ لشيء يكون قليلاً، ثم يكثر، ثم إنَّ الناس يومئذٍ كان فيهم بقيةٌ من معرفة.
ويتابع ابن الأثير الحديث عن أوائل حركة التصنيف، فيشير إلى أنَّ النَّضْر ابن شُميل وضع كتاباَ بعد ذلك أكبر من كتاب أبي عبيدة، ثم يأتي كتاب الأصمعي عبد الملك بن قريب، ويصف كتابه بأنه "أحسن فيه الصنع وأجاد". ثم يأتي كتاب قطرب.
ويلحظ ابن الأثير أنَّ حركة التأليف في هذا العلم ما تزال تحبو: "ولم يكن
(1) النهاية: 1 / 5.
أحدهم ينفرد عن غيره بكبير حديث لم يذكره الآخر" (1) . واستمرت الحال إلى زمن أبي عبيد القاسم بن سلام الذي وضع كتاباً مهماً في هذا العلم"لِما حواه من الأحاديث والآثار الكثيرة والمعاني اللطيفة والفوائد الجمَّة" (2) .
ثم يتحدث المؤلف عن كتاب "غريب الحديث" لأبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري فيقول: "ولم يُودِعْه شيئاً من الأحاديث المودعة في كتاب أبي عبيد إلا مادَعَتْ إليه حاجة من زيادةِ شرحٍ وبيان أو استدراك أو اعتراض".
ثم يشير إلى كتاب إبراهيم بن إسحاق الذي"بسط القول وشرح، واستقصى الأحاديث بطرق أسانيدها وأطاله بذكر متونها وألفاظها".
وكثرت المصنفات بعد ذلك، فأدلى أهل اللغة بدَلْوهم، من أمثال شَمِر ابن حَمْدَوَيْه، وثعلب، والمبرد، والأنباري، والزاهد، وغيرهم. إلى أن جاء الإمام أبو سليمان حَمْد بن محمد الخطَّابي البُسْتي الذي سلك منهج أبي عبيد وابن قتيبة، وأضاف إلى أقوالهما المزيد.
ويرى ابن الأثير (3) أنَّ هذه الكتب الثلاثة هي المعوَّل عليها. بيد أنَّه ينتقد منهج التأليف في هذا العلم، ويوضِّح حاجته إلى تيسير تناوله بالترتيب المعجمي: "إلا أنها وغيرها لم يكن فيها كتاب صُنِّف مرتباً ومُقفَّى، يرجع الإنسان عند طلب الحديث إليه إلا كتابُ الحربيِّ، وهو على طوله وعُسْر ترتيبه لا يوجد الحديث فيه إلا بعد عَناء، مع ما فيه من كون الحديث
(1) النهاية: 1 / 6.
(2)
النهاية: 1 / 6.
(3)
النهاية: 1 / 7.
المطلوب لا يُعرف في أيّ واحد من هذه الكتب هو".
ثمَّ يتحدث عن كتاب أحمد بن محمد الهَرَوي في الجمع بين غريب القرآن والحديث، وقد رَتَّبه على حروف المعجم، وأفاد من محاولات سابقيه، فجاء مصنّفه"جامعاً في الحسن بين الإحاطة والوضع"(1) . إلى أن جاء الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمر وصنَّف كتاب"الفائق"، وهذا الكتاب مع كونه جامعاً مستفيداً ممّا تَقَدَّمه، بيد أنه كان يشرح ما في الحديث الواحد من غريب في حرف واحد من حروف المعجم، فَتَرِدُ الكلمةُ في غير حرفها، وإذا تَطَلَّبها الإنسانُ تعب حتى يجدها، ومن هنا فإنَّ كتاب الهروي أسهل مأخذاً.
ثم يتحدث ابن الأثير عن كتاب أبي موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني الذي أفاد من كتاب الهروي في مادته ومنهجه، واستدرك ما فاته. وتَحَدَّث عن كتاب أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، الذي اقتفى أثر الهروي"ولم يزد عليه إلا الكلمة الشاذَّة واللفظة الفاذَّة".
ويأتي بعد ذلك حديث ابن الأثير عن كتاب"النهاية"فيقرُّ بأنّه ترسَّم خُطا الكتابين المتقدمين: كتاب "الغريبين" للهروي، و"المجموع المغيث" لأبي موسى المديني، ويقول (2) :"فرأيت أن أجمع َ ما فيهما من غريب الحديث، مجرداً من غريب القرآن، وأضيف كل كلمة إلى أختها في بابها تسهيلاً لكلفة الطلب، وأنعمت الفكر في اعتبار الكتابين، والجمع بين ألفاظهما". ويلحظ ابن الأثير أنَّ الكتابين قد"فاتهما الكثير الوافر"، ويقول: "فحيث عَرَفْتُ ذلك تَنَبَّهت لاعتبار غير هذين الكتابين من كتب الحديث المدوَّنة المصنَّفة في أول الزمان وأوسطه وآخره، فتتبَّعْتُها واستَقْريْتُ ما حضرني منها، وأضفت ما عثرت
(1) النهاية 1 / 9.
(2)
النهاية 1/ 10.
عليه من الغرائب، إلى ما في كتابيهما في حروفها مع نظائرها (1) ".
ثم يتحدث عن الترتيب المعجمي الذي سلكه، فقد التزم الحرف الأول والثاني من كل كلمة، وأتبع ذلك بالحرف الثالث من الكلمة على سياق الحروف.
ثم يتحدث عن المشكلة التي واجهَتْه، وهي (2)"أني وجدت في الحديث كلماتٍ كثيرة في أوائلها حروف زائدة قد بُنِيت الكلمة عليها، حتى صارت كأنها من نفسها، وكان يلتبس موضعها الأصلي على طالبها"، ورأى أنَّ حَلَّ هذه المشكلة يكمن في"أن أثبتَها في باب الحرف الذي هو في أولها، وإن لم يكن أصلياً، ونَبَّهْتُ عند ذِكْرِهِ على زيادتِه؛ لئلا يراها أحد في غير بابها، فيظنُّ أنّي وَضَعْتُها فيه للجهل بها".
وسوف نتطرق للحديث عن هذا المنهج في مبحث"مآخذ على ابن الأثير".
وينبِّه ابن الأثير القارئ على أنَّ ما اقتبسه من كتاب الهروي ميّزَه بالحرف"هـ"بالحمرة، وما اقتبسه من كتاب أبي موسى ميّزه بالحرف"س"، وما أضافه من غيرهما أهمله بغير علامة؛ ليتميز ما فيهما عمّا ليس فيهما، كما أفاد القارئ بأنَّ جميع ما في كتابه ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: مضاف إلى مُسَمَّى، وقد يكون ذلك المسمَّى هو صاحب الحديث، أو يكون راوياً للحديث، أو يكون سبباً في ذكر ذلك الحديث فأُضيف إليه، أو يكون له فيه ذِكْرٌ عُرِفَ الحديث به.
والثاني: غير مضاف إلى مُسَمَّى، والغالب عليه أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القليل الذي لا تُعْرَف حقيقته: هل هو من
(1) النهاية: 1 / 11.
(2)
النهاية 1/ 11.
حديثه أو من حديث غيره (1) ؟ وسوف نتناول صنيعه هذا في موضع آخر من هذه الدراسة، إن شاء الله. وبعد هذه المقدمة يشرع ابن الأثير في مواد معجمه.
ب - منهج ابن الأثير في النهاية:
اجتمع لابن الأثير قَدْرٌ غزيرٌ من نصوص الحديث والأثر، تحتاج إلى بيان ما فيها من غريب، كما تحتاج إلى منحى تنظيمي دقيق يجعل التعامل معها ميسوراً في مرحلة جَمْعِها، ثم تحريرها وضبط الإحالة عليها، وفيما يعقب ذلك من مرحلة الإفادة منها، والعودة إلى مادة منشودة منها. ويتضح لنا منهجه في"النهاية"من خلال المعالم التالية:
1 ـ إنّ اختيار منهج محدد يبدو أمراً لازماً، ولاسيما أنَّ طائفة من مصنَّفات"غريب الحديث"من قبله تفتقد المنهج الميسَّر المطَّرد في تنظيم مادتها، ويعتورها ضروب من العُسْرِ في استخراج حديث منها. فهل ينثر مادته من غير ترتيب معيّن، أو يذكر غريبه وَفْقَ المسانيد، كما هي طريقة أبي عبيد وابن قتيبة في مصنفهما المتقدم:"غريب الحديث"، أو وَفْقَ طريقة التقاليب والمخارج، كما هي طرف من طريقة أبي إسحاق الحربي في غريبه، أو وَفْقَ ترتيب الحروف الهجائية: أ، ب، ت، ث، ابتداءً من الحرف الأخير للكلمة، ثم العودة إلى الحرف الأول، كما هي طريقة الجوهري في"صحاحه"، أو وَفْقَ ترتيب الحروف الهجائية من الحرف الأول للكلمة، كما هي طريقة الهروي
(1) النهاية: 1 / 12.
في "الغريبين" والزمخشري في "الفائق"؟
لا ريب أنَّ الخبرة الواسعة في الصناعة المعجمية التي عَجَمت عود مؤلف في القرن السابع؛ كابن الأثير، منَحتْه خبرة واسعة في معالم كل طريقة ومحاسنها، وجعلته يُرَجِّح الطريقة الأخيرة، فهي يسيرة تتجاوز الصعوبات التي قد تكتنف الطرق الأخرى، فنَثْرُ المادة من غير ترتيب لا يُقرُّه أحدٌ لعسر استخراج المادة المنشودة، وقد لا يُدْرِك المُراجِعُ اسمَ الصحابي الراوي للحديث الغريب، كما أنَّه قد يجتهد طويلاً في قراءة مسند معيّن للوقوف على حديث منشود، كما أنَّ طريقة التقاليب والمخارج بما تحمله من صعوبةِ استخراج الغريب منها تجعله يتجنبها.
لقد حَدَّد ابن الأثير وجهته التي هو مُوَلِّيها، فهي ترتيب المادة وَفْقَ الحروف الهجائية. وقد كان تحت هذا الترتيب ثلاثة اتجاهات معجمية: فثمة من يُرَجِّح اختيار الحرف الأخير من الكلمة بعد تجريدها من الحروف الزائدة، ورَدِّ الحرف الأصليِّ المحذوف، ثم العودة إلى الحرف الأول من الكلمة. وثمة من يرجِّح اختيار الحرف الأول ابتداءً، ثم الحرف الثاني فالثالث؛ لأنَّه يحقق سهولة وسيرورة مباشرة في تصوُّر اللفظ المنشود؛ وذلك لأنه تَصَوُّرٌ سهل قريب، يبتعد عن سلوك تركيب عنصرين من عناصر التفكير، أولهما التوجُّه نحو الحرف الأخير، وثانيهما العودة إلى لفظ الحرف الأول، وهذا الترجيح في اختيار الحرف الأول هو الذي مضى عليه ابن الأثير.
أمَّا الاتجاه المعجمي الثالث الذي عزف عنه صاحب "النهاية" فهو: أنَّ الحديث الواحد قد يتضمن أكثر من مفردة غريبة، فهل يَسْرد النص كاملاً وفق الترتيب الهجائي لأول لفظٍ غريب، ثم يَذْكر اللفظ الغريب الثاني في
الموضع نفسه، كما فعل الزمخشري في"فائقه"، أو يُوَزِّع نصّ الحديث إلى مقطعات عديدة، فيذكر كل لفظ غريب وَفْقَ ترتيبه الهجائي الأول؟ وهو الذي اختاره ابن الأثير.
إنَّ اختيار ابن الأثير لهذا المنهج الدقيق يجعله يتجاوز مظاهر العسر التي تكتنف الطرق الأخرى، فطريقة المسانيد يصعب معها الاهتداء إلى الموضع المطلوب، ولا سيما إن جهل المراجِعُ اسم صاحب المسند، ولو عرفه لتعب في الوصول إليه، من خلال عشرات الأحاديث، التي يرويها ذلك الصحابي، وإن كان لدينا فهارس حديثة كاشفة، احتاج المراجِعُ إلى الوقوف على أحاديث كل مادة ليصل إلى مبتغاه من حديث معيّن، وفي ذلك هَدْرٌ كبير للوقت والجهد.
أمَّا طريقة التقاليب والمخارج فقد ثبت من خلال تجربة الخليل في كتاب"العين"والحربي في"غريبه" أنها وَعْرَة لا تتكشَّف المادة معها إلا بعدلأيٍ ونَصَب. وأمَّا طريقة الزمخشري في "فائقه" فتتميز بسهولتها لأنها تعتمد الحروف الهجائية، بيدَ أنَّ المُراجِع قد يجهل أول الحديث، فلا يَتَبَيَّن له موضع الغريب الأول الذي شرع فيه الزمخشريُّ ليجعلَه منطلقه، فينثر ما فيه من غريب؛ وذلك لأنَّ مادة الغريب في الحديث الواحد متعددة.
إنَّ الطريقة التي تَوَخَّاها ابنُ الأثير في معجمه "النهاية" تجعل من يقف على عتبته يصل إلى مبتغاه على نحوٍ ميسور، فلا يلزمه إلا أن يُجَرِّد اللفظة الغريبة من زوائدها، أو يردَّ لها الحرف المحذوف الأصلي، ثم يمضي في الوصول إلى الحرف الأول منها فالثاني، فالثالث، وَفْقَ ترتيب الحروف الهجائية المعهود: أ، ب، ت، ث. وقد رافق هذا الاختيار معالم كثيرة لتيسير تناوُل معجمه، كما
سيتبين لنا في تفصيل منهجه.
ويرى الدكتور حسين نصار (1) في دراسته حركة التأليف في صناعة المعاجم العربية من خلال مدرسة الحرف الهجائي الأول أنَّ معجم"أساس البلاغة"للزمخشري له فضل السبق إلى هذه الطريقة"، وكان ذلك للمرة الأولى في تاريخ المعاجم العربية العامة، وإن سبَقَتْه رسائل صغيرة"، ويزهو الزمخشري في مقدمة"أساس البلاغة"باهتدائه إلى هذا الترتيب فيقول (2) :"وقد رُتِّب الكتابُ على أشهر ترتيبٍ مُتَداوَلاً، وأسهلهِ متَناوَلاً، يَهْجُم فيه الطالب على طَلِبَتِه، موضوعة على طرف الثُّمام (3) وحَبْلِ الذِّراع، من غير أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع (4) ، وإلى النظر فيما لايُوصَل إلا بإعمال الفكر إليه". ولكن لا يفوتُنا أن نشير إلى أنَّ الهروي (ت: 401هـ) في "الغريبين"(5) أسبق من الزمخشري (ت: 538هـ) في"أساس البلاغة"، وإن كان اتجاه المصنِّفَيْن مختلفاً، فالهروي يضع معجماً في غريب الحديث، والزمخشري يضع معجماً لمفردات اللغة، ذلك أنَّ حقل التصنيف اللغوي يستوعب الاتجاهين معاً.
يبدأ معجم ابن الأثير بحرف الهمزة، ويندرج تحته عنوان بارز:"باب الهمزة مع الباء"، وتحت هذا العنوان مادة أَبب، ثم مادة أبد، ثم مادة أبر،
(1) المعجم العربي: ص / 693.
(2)
أساس البلاغة: (ل) .
(3)
قولهم: "هو مني على طرف الثمام وعلى حبل الذراع""إذا كان حاضراً قريباً.
(4)
الإيجاف والإيضاع: ضربان من السير.
(5)
أشرنا في حركة التأليف في الغريب إلى أنَّ كتاب الجيم لشَمِر كان السابق في اختيار هذا المنهج المعجمي، ولكنه لم يصلنا.
فمادة أبس، فمادة أَبض، وهكذا تبقى، ويراعي ترتيب الأوائل فالثواني فالثوالث داخل المادة الواحدة إن تَوافَرَتْ معها مادة من الأحاديث تُوَفَِّي ذلك.
2 ـ دأب ابن الأثير على أن يكتفي بشرح اللفظة الغريبة التي تدخل في المادة اللغوية التي عقدها، فإن ورد غريبان أو أكثر في الحديث نفسه اكتفى بغريب الباب، وإن أراد المُراجِع معرفة باقي غريب الحديث الذي أورده فَلْيتتبَّعْ مَظانَّه في سائر المواد وَفْقَ حرفه الهجائي:
ففي حديث أُصَيْل الخزاعي (1) حين قَدِم عليه المدينة قال له: كيف تَرَكْتَ مكة؟ قال: تركتُها وقد أحْجَنَ ثُمامُها، وأَعْذَق إذخِرُها، وأَمْشَرَ سَلَمُها. فقال:"إيهاً أُصَيْلُ، دعِ القلوبَ تَقِرُّ" فقد اختار من نص الحديث لفظة"إيه"لأنها هي المَعْنِيَّة في ترتيب المواد وفق حروف المعاجم، فيشرحها بقوله:"أي: كُفَّ واسكت، ثم يُوَزِّع الألفاظ الغريبة في هذا الحديث على الحروف الهجائية المختلفة. وفي حديث صلاة الأوَّابين (2) "حين تَرْمَضُ الفِصال" شرح لفظة"الأوَّابين"وأحجم عن شرح"تَرْمَضُ الفِصال".
وفي حديث سليمان (3) : "احشروا الطير إلا الشَّنقاءَ والرَّنقاء والبُلَتَ"، شرح"البُلَتَ"بقوله:"طائر مُحْرِق الريش"، ولم يشرح الباقي.
بيد أنَّ ابن الأثير في أحيان نادرة يضطر إلى شرح ألفاظ الحديث
(1) النهاية: 1 / 87.
(2)
النهاية: 1 / 79.
(3)
النهاية: 1 / 150.
مجتمعةً"فإنَّه إذا فُرِّقَ لا يكاد يُفهم الغرض منه"وذلك كما في الحديث (1) : "وإنَّ ممَّا يُنْبِتُ الربيعُ ما يَقْتُلُ حَبَطاً أو يُلِمُّ، إلا آكلة الخَضِر فإنها أكلَتْ، حتى إذا امتدَّتْ خاصِرتاها استقبلَتْ عينَ الشمسِ فثَلَطَتْ وبالَتْ ثم رَتَعَتْ....".
وفي حديث الكوثر (2) : "طِينُه المِسْكُ، ورَضْراضُه التُّوم" يقول: "الرَّضْراض: الحصى الصِّغار، والتُّوم: الدُّرُّ".
3 ـ وقد يرى أحد علماء الغريب رأياً في جذر لفظةٍ من ألفاظ الغريب، فيورد ابن الأثير المادة اللغوية وَفْقَ مذهب من يخالفه، وَيُعَقِّب على ذلك بما يراه من وجهته صحيحاً. فقد أورد حديث حذيفة (3) "لَتَبْتَلُنَّ لها إماماً" أي: لَتَخْتارُنَّ"
ثم قال: "هكذا أورده الهرويُّ في هذا الحرف، وجعل أصله من الابتلاء: الاختبار، وغيرُه ذكره في الباء والتاء واللام، وكأنه أشبه".
وقد يكون لِلَفْظِ الغريب روايتان أو أكثر، فيحرص ابن الأثير على ذِكْرِ هذه الروايات مكررةً بحسب مواردها اللغوية، بناءً على أنَّ المُراجِع قد يستحضر روايةً معينة، ولا يستحضر غيرها، فيعود إلى موضعها ليجدَها. فقوله صلى الله عليه وسلم (4) :"أعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْن"شرحه في مادة (كون) ثم قال: "ويروى بالراء: الكَوْر، وقد تقدم"(5) .
(1) النهاية: 2 / 40.
(2)
النهاية: 2 / 229.
(3)
النهاية: 1 / 156، الغريبين: 1 / 210.
(4)
النهاية: 4 / 211.
(5)
انظر: النهاية: 4 / 208.
4 ـ ومن الطبيعي أن تَحْظَى بعض المواد اللغوية بغزارة أحاديثها وشواهدها، واختلاف دلالتها واستعمالاتها ومقاصدها، فتجد في المادة اللغوية الواحدة عشرات النصوص من أحاديث الغريب، وذلك من مثل: هود، خلف، ركب، دين، دخل، سمع، وفي مقابل ذلك قد لا يتوافر في بعض المواد أكثر من حديث غريب واحد في المادة من مثل: رصح، رصغ، رتت، رتم، رثأ.
وقد يورد مادةً لغويةً ولا يذكر ضمنَها أيَّ حديث، وإنما يشير إلى تكرار ذكر لفظة معينة، فيتحدث عنها مفردةً، كقوله في"هَلُمَّ (1) :"قد تكرر في الحديث ذكر"هَلُمَّ"ومعناه: تعال، ومنه لغتان، فأهل الحجاز يُطْلقونه على الواحد والجميع والاثنين والمؤنث، بلفظ واحد مبني على الفتح، وبنو تميم تُثَنِّي وتجمع وتؤنث فتقول: هلُمَّ وهَلُمّي وهَلُمَّا وهَلُمُّوا".
وكقوله (2) : "تكرر ذكر التوكل في الحديث، يقال: تَوَكَّل بالأمر إذا ضَمن القيام به، ووكَلْتُ أمري إلى فلان أي: ألجأته إليه، واعتمدت فيه عليه. وكقوله (3) : "قد تكرر ذكر"المُزْن"وهو الغيم والسَّحاب، واحدته مُزْنة. وقيل: هي السحابة البيضاء".
5 ـ ومن معالم منهجه أنه يحرص على تعيين موارده التي يستقي منها، وذلك شأن المحقق الذي يسبر هذه الموارد، ويقف على أقوال صاحبها؛ ليُمَكِّنَ المُراجعَ من مراجعة المسائل العلمية في مظانِّها، ويدرس ما هو مبثوث
(1) النهاية: 5 /272.
(2)
النهاية: 5 / 221.
(3)
النهاية: 4 / 325.
فيها من أقوال. ففي الحديث (1)"أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ قلوباً وأبخَعُ طاعة" يقول: "أي: أبلغُ وأنصحُ في الطاعة من غيرهم. قال الزمخشري: "هو من بَخَع الذبيحة إذا بالغ في ذبحها، وهو أن يقطع عَظْمَ رقبتها ويبلُغ بالذبح البِخَاع -بالباء- وهو العِرْقُ الذي في الصُّلب، والنَّخْع بالنون دون ذلك. هكذا ذكره في كتاب"الفائق في غريب الحديث"، وكتاب"الكشاف"في تفسير القرآن، ولم أجده لغيره، وطالما بحثت عنه في كتب اللغة والطب والتشريح فلم أجد البِخَاع بالباء مذكوراً في شيء منها".
وعرض لحديث علي (2) رضي الله عنه "فبعث الله السكينة، وهي ريح خَجُوجٌ فتطوَّقَتْ بالبيت"، ويقول:"وأصل الخَجِّ الشَّق، وجاء في كتاب"المعجم الوسيط"للطبراني عن علي رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: السكينة ريحٌ خجوج".
وذكر حديث جرير (3) : "حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنَّه مُذْهَبَةٌ"يقول: هكذا جاء في سنن النسائي، وبعض طرق مسلم، والرواية بالدال المهملة والنون، فإن صحَّت الرواية فهي من الشيء المُذْهَب".
وقد يُعَيِّن موارده من خلال تحديد المصنِّف الذي أخرج الأثر، فقد أورد حديث (4) ابن عباس رضي الله عنه"أرض الجنة مَسْلوفة". ثم قال: "هكذا
(1) النهاية: 1 / 102.
(2)
النهاية: 2 / 11.
(3)
النهاية: 2 / 173.
(4)
النهاية: 2 / 390.
أخرجه الخطابي والزمخشري عن ابن عباس، وأخرجه أبو عبيد عن عُبيد بن عمير الليثي، وأخرجه الأزهري عن محمد بن الحنفية".
ويذكر حديث (1) أسيد بن مظعون "طِرْت بغنائها وفُزْت بحيائها" يقول: هكذا ذكره الدارقطني من طرق في كتاب"ما قالت القرابة في الصحابة"، وفي كتاب"المؤتلف والمختلف"، وكذلك ذكره ابنُ بَطَّة في الإبانة".
ومن الطبيعي أن يستقي ابن الأثير جُلَّ النصوص التي يستشهد بها على مادته اللغوية، من الحديث الشريف نفسه، وكان من منهجه أن يسوق شواهد عديدة منه، تتفق وحديثَ الباب الذي انطلق منه، وكان يحرص على بيان الصلة التي تربط بين هذه الشواهد.
ففي مادة (أشر) يورد في الخيل حديث (2) : "ورجل اتخذها أشَراً وبَذَخاً" ثم يقول: الأشَرُ: البطَر، ومنه حديث الزكاة"كأَغَذِّ ما كانت وأسمَنِه وآشَرِه". أي: أبطرِه وأنشطِه، ومنه حديث الشعبي:"اجتمع جوارٍ فأَرِنَّ وأَشِرْنَ".
وفي مادة (حثل) يورد حديث (3) : "لا تقوم الساعة إلا على حُثالةٍ من الناس" ثم يقول: "الحُثالة الرديء من كل شيء". ومنه الحديث: "كيف أنت إذا بَقِيتَ في حُثالة من الناس" يريد: أراذلهم، ومنه الحديث:"أعوذ بك من أن أبقى في حَثْلٍ من الناس".
وفي مادة (نضب) يورد حديث (4) : "ما نضب عنه البحر وهو حيٌّ
(1) النهاية: 3 / 168.
(2)
النهاية: 1 / 51.
(3)
النهاية: 1 / 339
(4)
النهاية: 5 / 68.
فمات فكُلوه". يقول: "نَضَبَ الماءُ: إذا غار ونَفِد"، ومنه الحديث: "كنَّا على شاطئ النهر بالأهواز وقد نَضَبَ عنه الماء". وقد يُستعار للمعاني، ومنه حديث: "نَضَبَ عُمْرُه"أي نَفِدَ".
وفي مادة (دأل) يورد حديث خزيمة (1) : "إنَّ الجنة محظورٌ عليها بالدآليل". ويقول: "أي: بالدواهي والشدائدِ. وهذا كقوله: "حُفَّت الجنةُ بالمكاره".
وفي مادة (نكر) يورد حديث أبي سفيان (2) : "إنَّ محمداً لم يُناكِرْ أحداً قطُّ إلا كانت معه الأهوالُ". ويقول: "أي: لم يحارب، والأهوالُ: المخاوِفُ"
ولم يكن ابن الأثير يحرص على أن يستشهد على معنى الغريب الذي عقد له المادة اللغوية بالقرآن الكريم، ومن هنا ندرت الشواهد القرآنية في"النهاية". ومن ذلك استشهاده بقوله تعالى:{وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء الآية: 20] على مادة الحَظْر بمعنى المنع (3) .واستشهاده بقوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف الآية: 80] على مادة (خلص)(4) أي: تميَّزُوا عن الناس متناجِين.
وقد يركن إلى بعض القراءات المتواترة أو الشاذة ليُجلي المعنى الذي يذهب إليه في شرح غريبه. ففي مادة (طيف) يقول (5) : "وأصل الطَّيف الجنون، ثم استعمل في الغضب ومَسِّ الشيطان ووسوسته، ويقال له: طائف.
(1) النهاية: 2 / 95.
(2)
النهاية: 5 / 114.
(3)
النهاية: 1 / 405.
(4)
النهاية: 2 / 61.
(5)
النهاية: 3 / 153.
وقد قرئ بهما قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف الآية: 201](1)، وفي الحديث (2) :"أنشدك اللهَ لمَّا فعلتَ كذا"، يقول: أي: إلا فَعَلْته، وتُخَفف الميم وتكون"ما"زائدة. وقُرئ بهما قولُه تعالى:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق الآية: 4](3) أي: ما كل نفس إلا عليها حافِظ، وإن كلُّ نفسٍ لعليها حافظ".
وفي حديث فَضالة (4) : "حتى يقول الأعراب مجانينُ أو مجانُون". يقول: "المجانين جمع تكسير لمجنون، وأمَّا مجانون فشاذٌّ كما شَذَّ شياطون في شياطين، وقد قُرئ: "واتَّبَعوا ماتتلو الشياطون" (5) .
أما شواهده من الشعر العربي الفصيح، فقد عني بها ابن الأثير عناية واضحة، وكان يوردها في المادة اللغوية التي عقدها، فيشرحها أو يُوردها ليؤكِّد معنىً ذهب إليه في شرح غريبه، ومن ذلك قوله في مادة (بدر) في حديث المبعث"فرجَعَ بها ترجُفُ بوادِرُه". (6) هي جمع بادِرَة، وهي لَحْمَةٌ بين المَنكِب والعنق، والبادِرَة من الكلام الذي يسبق الإنسان إليه في الغضب. ومنه
(1) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي. انظر: السبعة ص301، والحجة لابن زنجلة ص305، والبحر 4/449.
(2)
النهاية: 4 / 274.
(3)
قرأ أبو عمرو ونافع والكسائي وابن كثير بالتخفيف، والباقون بالتشديد. انظر: السبعة: ص / 678.
(4)
النهاية: 1 / 309.
(5)
الآية: 102 من البقرة. والشياطون قراءة الحسن والضحاك. انظر: شواذ ابن خالويه: ص / 8، والبحر: 1 / 326.
(6)
النهاية: 1 / 106.
قول النابغة:
ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم تكن له
…
بوادِرُ تَحْمي صَفْوَه أن يُكَدَّرا
وفي مادة (حتف)(1) يورد حديث عبيد بن عمير: "ما مات من السمك حَتْفَ أنفه فلا تأكله". يعني الطافي، ومنه حديث عامر بن فُهيرة:"والمرء يأتي حَتْفُه من فوقه"
أي: "إنَّ حِذْرَه وجُبْنه غيرُ دافع عنه المنيَّة إذا حَلَّتْ بِه".
ويورد ابن الأثير في حديث الاستسقاء (2) قولَ الشاعر:
أتيناكِ والعَذْراءُ يَدْمَى لَبانُها
فيقف على لفظة"لَبانها"ويقول: "أي يَدْمَى صدرُها لامتهانِها نفسَها في الخدمة، حيث لا تجد ما تُعطيه من يَخْدُمها من الجَدْب وشدَّة الزمان، وأصل اللَّبانِ في الفرس موضع اللَّبَب ثم اسْتُعير للناس".
ومن القصائد التي عُني بها ابن الأثير في"نهايته"قصيدة كعب بن زهير: "بانت سعاد". حيث أوْرَد معظمها في مظانِّها من الغريب وفق الترتيب الهجائي، وشَرَح ألفاظها حسب منهجه.
(1) النهاية: 1 / 337.
(2)
النهاية: 4 / 230.
ج - أوجه عناية"ابن الأثير"بالغريب:
أسهمت كتب غريب الحديث بنصيبٍ وافرٍ في بناء المعجم اللغوي العربي؛ لِما قَدَّمَتْه من تأصيلٍ واسعٍ لمفردات العربية، من حيث استعمالاتُها وشواهدُها، وجذورُها اللغوية، ولغاتُها وضبطُ حروفها، والتمييزُ بين الفصيح وغير الفصيح منها، وما طرأ عليها من انتقالها من المعنى المحسوس المحدود إلى المعنى الحضاري الواسع.
وكتاب"النهاية في غريب الحديث والأثر"من المراجع اللغوية التي كان لها أثر في مَدِّ المعاجم العربية بمادتها الغزيرة، ويكفي أن نعلم أنَّ معجم"لسان العرب"لابن منظور قد أقام كتابه على أُمَّاتٍ من المصنفات اللغوية كان منها"نهاية"ابن الأثير. يقول في مقدمته (1) :"فرأيت أبا السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجَزَري، قد جاء في ذلك بالنهاية، وجاوز في الجودة حدَّ الغاية"، ثم يقول:"وليس لي في هذا الكتاب -يعني اللسان- فضيلةٌ أَمُتُّ بها، ولا وسيلةٌ أتمسَّك بسببها، سوى أني جمعتُ فيه ما تفرَّق في تلك الكتب من العلوم".
لقد خدم ابن الأثير في معجمه: "النهاية"غريبَ الحديث خدمة وافية جعلَتْه يستوعب تراثاً غنياً سبقه، فتمثَّله وأضاف إليه نظرات نقدية فاحصة. ويمكن أن نقسم هذه الخدمة إلى جانبين:
1 ـ جانب التأصيل اللغوي للغريب.
2 ـ جانب البيان المعنوي للغريب.
(1) اللسان: 1 / 18.
1 ـ جانب التأصيل اللغوي للغريب
أمَّا جانب التأصيل اللغوي للغريب الوارد في الأحاديث التي رتَّبها في كتابه وَفْقَ الترتيب الهجائي المعروف، فيتضح في الجوانب التالية:
1ـ كان ابن الأثير يشرح معنى اللفظة الغريبة بعبارة قريبة مأنوسة، فحديث"خيرُ المال مُهْرَةٌ مأمورة وسِكَّةٌ مأبورةٌ" (1) يورده تحت مادة (أبر) ويقول:"السِّكة: الطريقة المصطفَّة من النخل، والمأبورة: هي الملقَّحة. يقال: أبَرْتُ النخلة وأبَّرْتُها، فهي مأبورة ومُؤَبَّرة، أراد: خيرُ المال نِتاجٌ أو زرعٌ". وفي قوله: "إذا سافرتم في الخِصْب فأعطوا الرُّكُبَ أسِنَّتها (2) ". يقول: "الرُكُب جمع رِكاب وهي الرَّواحل من الإبل. وقيل: جمع رَكُوب، وهو ما يُرْكَبُ من كل دابَّة، فَعُول بمعنى مفعول".
ويُعنى بضبط الفعل في الماضي والمضارع، ويُورد مصدره، كقوله (3) في حديث أبي الأسود:"إن سُئِل أرَزَ"أي: "تقبَّض مِنْ بخله، يقال: أرَزَ يأرِِزُ أرْزاً فهو أرُوزٌ"، وكقوله في حديث (4) :"أنَّ عبداً لابن عمر أَبَقَ فلحق بالروم".
فيورده تحت مادة (أَبق) ويقول: "أبَقَ العبدُ يأبَقُ ويأبِقُ إباقاً إذا هرب، وتأبَّق إذا استتر".
ويقول في حديث (5)"فجعل المشركون يُؤَبِّسون به العباس"أي: يُعَيِّرونه،
(1) النهاية: 1 / 13.
(2)
النهاية: 2 / 256.
(3)
النهاية: 1 / 38.
(4)
النهاية: 1 / 15.
(5)
النهاية: 1 / 15.
يُقال: أَبَسْتُه أَبْسَاً وأَبَّسْتُه تَأْبِيساً".
وقد يرى مناسبة لذكر لغات الفعل، ففي الحديث (1) :"لمَّا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناسُ قِبَلَه"، يقول:"أي: ذهبوا مسرعين نحوه. يُقال: جَفَلَ وأَجْفَلَ وانجَفَل".
وفي حديث (2) : "أنَّ عجوزاً دخلت عليه فسألها فأَحْفَى"، يقول:"أَحْفَى فلانٌ بصاحبه، وحَفِي به، وتَحَفَّى، أي: بالغ في بِرِّه، والسؤال عن حاله".
ويُعْنى ابنُ الأثير بضبط الغريب الوارد في المادة، والنصُّ على هذا الضبط، كأن يقول (3) في حديث":"إنكم سَتَلْقَوْنَ بعدي أَثَرَة"."الأَثَرة -بفتح الهمزة والثاء- الاسم من: آثَرَ يُؤْثِر إيثاراً، إذا أعطى، والاستئثار: الانفراد بالشيء". وقد يكون ثمة أقوال في تفسير الغريب الوارد في الشاهد، فيجمع ابن الأثير هذه الأقوال، ففي حديث (4) :"لا تقتلوا عَسِيفاً ولا أسيفاً"."الأسيف: الشيخُ الفاني، وقيل: العبد، وقيل: الأسير".
وقد يرى حاجةً إلى بيان لغات قبائل العرب ونسبةِ كلِّ لغة إلى قبيلةٍ بعينها، وذلك في سياق بيان المادة اللغوية المتصلة بغريب الحديث، وقد كان اللغويون مَعْنِيِّين بتصنيف قبائل العرب، ومعرفة بطونها وأفخاذها، لتمييز الفصيح من غير الفصيح منها، وعَزْوِ ما وَرَدَ من شواهد السماع العربي إلى أصولها من القبائل العربية.
(1) النهاية: 1 / 279.
(2)
النهاية: 1 / 409.
(3)
النهاية: 1/ 22.
(4)
النهاية: 1 / 48.
وقد يُبدي ابنُ الأثير في"نهايته"حِرْصاً على تعيين اسم القبيلة التي تجري على لسانها اللهجة الواردة في غريبه، أو تراه ينقل أقوال اللغويين في المسألة. من ذلك قوله في الحديث (1) :"أَصْبح بحمد الله بارئاً"، أي: مُعافى. يقال: بَرَأتُ من المرض أبْرَأُ بَرْءاً بالفتح، فأنا بارِئٌ، وأبرأني الله من المرض. وغير أهل الحجاز يقولون بَرِئْتُ - بالكسر- بُرْءاً".
ومن ذلك قولُه في حديث صلاة الحائض (2) : "قد كُنَّ نساءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحِضْنَ فأَمَرَهُنَّ أن يَجْزِين"، أي: يَقْضِين". قال الجوهري (3) : "وبنو تميم يقولون: أجزَأَتْ عنه شاةٌ، بالهمز. أي: قَضَتْ".
وعَرَض لحديث: "واغفر لنا حَوْبَنا" أي: إثمنا وتفتح الحاءُ وتضم. وقال (4) : "وقيل: الفتح لغة الحجاز، والضم لغة تميم".
وفي حديث ابن عباس (5) : "أجاز لها العِِيَرات"جمع عِير. قال سيبويه (6) : "اجتمعوا فيها على لغة هُذَيل"يعني تحريك الياء والقياس التسكين.
وقد يَحْكُمُ بغير الفصاحة على بعض اللغات التي قيلت إزاء لغة الحديث، من دون أن ينسبَ هذه اللغة إلى قبيلة بعينها. يقول في حديث (7) "آمِرُوا
(1) النهاية: 1 / 111.
(2)
النهاية: 1 / 270.
(3)
الصحاح (جزى) 6 / 2302.
(4)
النهاية: 1 / 455.
(5)
النهاية: 3 / 329.
(6)
الكتاب: 3 / 600.
(7)
النهاية: 1 / 66.
النساءَ في أنفسهن"أي: "شاوِروهُنَّ في تزويجهن. ويقال فيه: "وامَرْتُه"، وليس بفصيح".
ويقول في حديث (1) : "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الآهِلَ حَظَّيْن، والأعزب حَظَّّاً": "الآهلِ: الذي له زوجة وعِيال، والأعزب: الذي لا زوجة له. وهي لغة رديئة، واللغة الفصحى عَزَب".
وفي الحديث (2) : "ما إخالُك سَرَقْتَ"، أي:"ما أظنك. تقول: خِلْتُ إخال بالكسر والفتح، والكسر أفصح وأكثر استعمالاً، والفتح القياس".
وقد ينثر صاحب"النهاية"في مادة الغريب التي عقدها قواعد كلية يحصر من خلالها مفردات مسألة معينة، أو يسعى في تأصيلها وبيان حدودها، شأنه في ذلك شأن المعياريِّ الخبير بطبيعة المفردات التي يتعرض لها. ففي حديث (3) :"فهذا أوان قطعتْ أَبْهَري"، ينقل "أنَّ الأَبْهرَ عرقٌ منشؤه من الرأس ويمتد إلى القدم، وله شرايينُ تتصل بأكثرِ الأطراف والبدن، فالذي في الرأس منه يسمَّى النَّأْمة، ويمتد إلى الحلق فيسمّى فيه الوريد، ويمتد إلى الصدر فيسمّى الأبهر، ويمتد إلى الظهر فيسمَّى الوَتين، ويمتد إلى الفخذ فيسمَّى النَّسَا، ويمتد إلى الساق فيسمَّى الصافِنَ".
وفي حديث (4) عمرو بن معد يكرب: "وأشربُ التِّبْنَ من الَّلبَن"، يقول: "التِّبْن أعظم الأقداح، يكاد يُرْوي العشرين، ثم الصحن يُرْوي العشرة، ثم
(1) النهاية: 1/ 84.
(2)
النهاية: 2 / 93.
(3)
النهاية: 1 / 18.
(4)
النهاية: 1 / 181.
العُسّ يُروي الثلاثة والأربعة، ثم القَدَح يُرْوي الرجلين، ثم القَعْب يُرْوي الرجل".
وفي حديث (1) : "وأطعموا مُلْفَجيكم" يقول: "المُلْفَجُ بفتح الفاء: الفقير، يقال: ألفج الرجل فهو مُلْفَج، على غير قياس، ولم يجئ إلا في ثلاثة أحرف: أسهب فهو مُسْهَب، وأحصن فهو مُحْصَن، وألفج فهو مُلْفَج، الفاعل والمفعول سواء".
ويقول ابن الأثير في موضع آخر (2) : "تكرر ذِكْرُ الوعد والوعيد، فالوعدُ يستعمل في الخير والشر، يقال: وعدتُه خيراً، ووعدتُه شَرَّاً، فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعِدَة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد".
ويُعنى أصحاب المعاجم عادة بجموع المفردات وضوابطها وأنواعها، وما هو سماعي وقياسي منها، وكثيراً ما كان صاحب"النهاية" في تأصيله لِلَّفْظ الغريب يذكر أوجه جمعه ويضبطها. ففي حديث عائشة (3) رضي الله عنها:"اغتسلي من ثلاثة أبْؤُر"، يقول:"أبْؤُر جمع قلة للبئر، وتُجمع على: آبار وبِئار".
ويقول في حديث مجاهد (4) : "ليس في الخَضْرَوات صدقة": "وقياس ما كان على هذا الوزن من الصفات؛ ألا يُجْمَعَ هذا الجمع، وإنما يجمع به ما
(1) النهاية: 4 / 259.
(2)
النهاية: 5 / 206.
(3)
النهاية: 1 / 89.
(4)
النهاية: 2 / 41.
كان اسماً لا صفةً نحو: صحراء وخُنفُساء، وإنما جَمَعه هذا الجمعَ لأنه قد صار اسماً لهذه البقول لا صفةً، تقول العرب لهذه البقول: الخضراء، لا تريدُ لونَها".
وقد يكون اللفظ الغريب الذي عَقَدَ له المادة مُعرَّباً فينص على ذلك، ففي الحديث (1) :"من لعب بالأَسْبَرَنج والنرد فقد غمس يده في دم خنزير". يقول: "هو اسم الفَرَس الذي في الشطرنج، واللفظة فارسية مُعَرَّبة".
وفي الحديث (2) : "ولا أَحْبِس البُرْدَ". يقول: "أي لا أَحْبس الرسُل الواردِين عليَّ، والبريد كلمة فارسية يُراد بها البغل، وأصلها بريده دم، أي: محذوف الذَّنَب لأنَّ بِغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأُعْرِبَتْ وخُففت".
وشغلت مسائل التذكير والتأنيث بال اللغويين، وكان لهم في ذلك مصنفات ودراسات غزيرة، منها مؤلفات تخصصت في هذا الجانب، ومنها ما هو مبثوث في معاجمهم. ويشارك ابن الأثير في كثير من مسائل التذكير والتأنيث، ولا سيَّما ما يتعلق بمادة الغريب الذي عقد له المادة، فقد أورد من شعر العباس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
وأنتَ لمَّا وُلِدْتَ أشرَقَتِ الْ
…
أرضُ وضاءَتْ بنورِكَ الأُفُقُ
يقول (3) : "أنَّث الأفق ذهاباً إلى الناحية".
وفي قصة حنين (4) : "كإمرار الحديد على الطَّسْت الجديد". يقول:
(1) النهاية: 1 / 47.
(2)
النهاية: 1 / 115.
(3)
النهاية: 1 / 56.
(4)
النهاية: 1 / 246.
"وصف الطَّسْت وهي مؤنثة بالجديد وهو مذكَّر: إمَّا لأنَّ تأنيثها غير حقيقي، فأوَّله على الإناء والظرف، أو لأنَّ فَعِيلاً يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث نحوُ: امرأة قتيل، وكفٌّ خَضيب".
ويشير إلى الحديث (1) : "بادروا بالأعمال ستاً". يقول: "في تأنيث الست إشارة إلى أنها مصائبُ ودواهٍ".
كما يشير إلى حديث (2) أمِّ زَرْع: "بَرُود الظلِّ". أي: طيِّب العِشْرة"، ويقول: "وفَعول يستوي فيه الذكر والأنثى".
ومن أوجه عنايته بشرحه لمادة الغريب التي عقد لها المادة، أنه قد يمرُّ بعَلَمٍ من أعلام الأمكنة، فيُعنى بضبطه وتحديد موقعه، ففي الحديث (3) :"اغِرْ على أُبْنى صباحاً". يقول: "هي بضم الهمزة والقصر، اسم موضع من فلسطين، بين عَسْقَلان والرَّملَة، يُقال لها"يُبْنى"بالياء".
وورد في الحديث (4) : "الأبْواء". يقول: "هو بفتح الهمزة وسكون الباء والمد. جبل بين مكة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه".
ويُعَرِّف بـ"أَبْيَن"فيقول (5) : "بوزن أحمر، قرية على جانب البحر ناحية اليمن. وقيل: هو اسم مدينة عَدَن".
(1) النهاية: 2 / 37.
(2)
النهاية: 1 / 115.
(3)
النهاية 1 / 18.
(4)
النهاية: 1 / 20.
(5)
النهاية: 1 / 20.
وورد"بَرْثان"فيقول (1) : "بفتح الباء وسكون الراء، وادٍ في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وقيل في ضبطه غير ذلك".
وقد يكون بيان معنى الحديث الغريب في حاجة إلى تقدير محذوف، فيُعنى بتعيينه ليتمَّ المعنى في ذهن من يراجع"نهايته". ففي الحديث (2) :"كان يأمرنا أن نصوم الأيام البيض". يقول: "هذا على حذف المضاف، يريد أيام الليالي البيض، وهي الثالثَ عشرَ والرابعَ عشرَ والخامس عشرَ".
وفي الحديث (3) : "قالت: أجَنَّك من أصحاب محمد تقول هذا؟ ". قال: "تريد من أجل أنَّك، فحذفت "من" واللام والهمزة، وحُرِّكت الجيم بالفتح والكسر، والفتح أكثر. وللعرب في الحذف باب واسع".
وفي حديث عائشة (4) رضي الله عنها: "تزوَّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيتٍ قيمته خمسون درهماً". قال: "أي متاع بيت، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مُقامه".
وقد يُعنى ابن الأثير بإيراد نظائر لِلَّفْظة الواردة في غريب الباب، وشأنُ مُصَنَّفه شأنُ بعض المصنفات في فقه اللغة، التي تخصصت بهذا الجانب. وما كتاب الثعالبي:"فقه اللغة" عنَّا ببعيد، إذ حشد لكل معنىً من المعاني الواردة على ألسنة الكتَّاب، نظائر ومتشابهات، تُعين المتأدب في رسائله، وتعبيره عن مقصوده.
(1) النهاية: 1 / 113.
(2)
النهاية: 1/ 173.
(3)
النهاية: 1 / 27.
(4)
النهاية: 1/ 170.
ومن ذلك قوله في حديث (1) : "من لم يُجْمِع الصيام من الليل فلا صيامَ له". "أجْمَعْتُ الرأي، وأَزْمَعْتُه، وعزمتُ عليه بمعنىً".
وفي حديث (2) : "جمّ الغفير" يقول: "يقال: جاء القوم جمَّاً غفيراً، جُعلت الكلمتان في موضع الشمول والإحاطة، وهو منصوب على المصدر كـ: طُرَّاً وقاطبة".
وفي حديث (3) : "الأرواح جنود مُجَنَّدة". يقول: "مجنَّدة أي: مجموعة كما يقال: ألوف مؤلَّفة، وقناطير مقنطرة".
ويقول في حديث سطيح (4) : "فإنَّ ذا الدهر أطوار دهارير"، قال الجوهري (5) : يقال: "دهرٌ دهارِير، أي: شديد، كقولهم: ليلة ليلاء، ويوم أَيْوَم".
وتعاملَ ابنُ الأثير مع طرف من لحن العامَّة، إن اتصلت مسائله بمادة الغريب، التي يَعْرِضُ لها، وشارك في جهودِ كثيرٍ من اللغويين في هذا الباب، فقد يمرُّ بلفظٍ أو تركيبٍ أو استعمالٍ أو دلالةٍ، فيشير إلى اللحن الشائع في صياغتها. فقد أورد الحديث (6) :"فَضْلُ عائشة على النساء، كفضل الثَّريد على سائر الطعام"أي: باقيه، ويقول:"والناس يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء".
(1) النهاية: 1 / 296.
(2)
النهاية: 1 / 299.
(3)
النهاية: 1 / 305.
(4)
النهاية: 2 / 144.
(5)
الصحاح: (دهر) 2 / 661.
(6)
النهاية: 2 / 327.
وفي حديث عثمان (1) : "وأنا أشرب ماء المِلْح". يقول: "ماء مِلْح إذا كان شديد الملوحة، ولا يقال: مالح، إلا على لغةٍ ليست بعالية".
وكان صاحب"النهاية"- وهو الخبير بمفردات اللغة واشتقاقاتها وأوزانها- يتذوَّق الكلمة، ويلمح ما تحمله من سعة في دلالاتها، وامتداد في تأثيرها، فيحكم على هذا الوزن - أو هذه اللفظة - بأنه أبلغُ من قَسيمه.
يقول في أسماء الله تعالى الرحمن الرحيم (2) : "وهما من أبنية المبالغة، ورحمن أبلغ من رحيم، والرحمن خاصٌّ لله لايُسَمَّى به غيره، ولا يُوصف، والرحيم يوصف به غيرُ الله تعالى، فيُقال: رجل رحيم، ولا يُقال: رحمن".
وقد يلحظ صاحب"النهاية"أنَّ اللفظ الغريب الذي يتحدث عنه ينتمي إلى أسرة لغوية عُرِفَتْ في مصنفات اللغويين بالأضداد، فيشير إليها، ويحيط بدلالتها، ومن ذلك حديث (3) :"كان يبدو إلى هذه التِّلاع"، فيقول:"التِّلاع: مسايل الماء من عُلْوٍ إلى سُفْل، واحدها تَلْعَة. وقيل: هو من الأضداد يقع على ما انحدر من الماء وأشرف منها".
وفي حديث ابن مسعود (4) : "كنَّا عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فَأَكْرَيْنَا في الحديث". أي: أَطَلْنَاه، يقول:"وأكرى من الأضداد، يقال: إذا طال وقَصُرَ، وزادَ ونقص".
(1) النهاية: 4 / 355.
(2)
النهاية: 2 / 210.
(3)
النهاية: 1 / 194.
(4)
النهاية: 4 / 170.
2 ـ جانب البيان المعنوي للغريب:
تتضح خدمة ابن الأثير للغريب من جانب المعنى في المظاهر التالية:
1 ـ قد لا يلمح صاحب"النهاية"في حديث الباب الذي يعرض له، لفظة غريبة معينة، وإنما يلحظ جلاء معناه العام، ومقاصده، فيشرحه شرحاً إجمالياً، لأنه لم يستوقفه فيه غريب معين، وكأنَّ الغريب معناه العام، فيشرع في بيانه. ففي الحديث (1) "الهَدْيُ الصالح والسَّمْتُ الصالح جزء من خمسةٍ وعشرين جزءاً من النبوَّة". يقول:"أي إنَّ هذه الخِلال من شمائل الأنبياء، ومن جملة الخصالِ المعدودةِ من خصالِهم، وأنها جزءٌ معلومٌ من أجزاء أفعالهم، فاقتَدوا بهم فيها، وتابِعوهم عليها. وليس أنَّ المعنى أنَّ النبوَّة تتجزَّأُ، ولا أنَّ من جَمَعَ هذه الخلالَ كان فيه جزءٌ من النبوَّة، فإنَّ النبوَّةَ غيرُ مكتسَبة ولا مجتلَبَةٍ بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله تعالى، ويجوز أن يكون أراد بالنبوَّة هاهنا ما جاءت به النبوةُ ودَعَتْ إليه من الخيرات".
ويعرض للحديث (2)"يُبْصِرُ أحدكم القَذَى في عين أخيه ويَعْمَى عن الجِذْعِ في عينه". فيقول: "ضربه مثلاً لمن يرى الصغير من عيوبِ الناس ويُعَيِّرهم به. وفيه من العُيوب ما نِسْبَتُه إليه كنسبة الجِذْعِ إلى القَذاة".
ويشير إلى الحديث (3) : "أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: متى تُوتِرُ؟ قال: أولَ الليل. وقال لعمر: متى تُوتِرُ؟ فقال: من آخر الليل. فقال لأبي بكر: أخَذْتَ بالحزم، وقال لعمر: أخَذْتَ بالعزمِ". يقول ابن الأثير: "أراد أنَّ أبا بكر حَذِرَ فواتَ الوِتْر بالنوم فاحتاط وقَدَّمه، وأنَّ عمر وَثِقَ
(1) النهاية: 1/ 265.
(2)
النهاية: 4 / 30.
(3)
النهاية: 3 / 232.
بالقوة على قيام الليل فأخَّره، ولا خيرَ في عَزْمٍ بغير حزم، فإنَّ القوة إذا لم يكن معها حَذَرٌ أوْرَطَتْ صاحبها".
وفي الحديث (1) : "لولا أنَّا نَعْصي الله ما عصانا". يقول: "أي: لم يمتنع عن إجابتنا إذا دعوناه، فجعل الجواب بمنزلة الخطاب فسمَّاه عصياناً، كقوله تعالى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران الآية: 54] .
2 ـ ويُعْنَى صاحبُ"النهاية"بتحرير الأصل الدلالي للاستعمال اللغوي الوارد في الحديث الغريب، من قبيل فقه معاني اللغة وعَقْدِ صلةٍ بين أصل الدلالةِ اللفظيةِ الحسيَّة، وانتقالِ هذا الأصل إلى دلالة معنوية فيها جِدَّةٌ وسَعَةٌ. ففي الحديث (2) :"اللهم أرِّ بينهما". يقول ابن الأثير: "أي ألِّفْ، وأثْبِتِ الوُدَّ بينهما، من قولهم: الدابَّةُ تَأْرِي الدابَّةَ إذا انضمَّت إليها، وأَلِفَتْ معها مَعْلَفَاً واحداً، وآريْتُها أنَا".
ويذكر حديث عائشة (3) رضي الله عنها في والدها"وَرَأَبَ الثَّأْيَ". يقول: "أي: أَصْلَحَ الفَسادَ، وأصلُ الثَّأْيِ خَرْمُ مَواضِعِ الخَرْزِ وفسادُه".
وفي الحديث الآخر (4) : "ونَجَح إذ أكْدَيْتُمْ". يقول: "أي: ظَفِرَ إذ خِبْتُمْ ولم تَظْفَروا، وأصله من حافِرِ البئر، ينتهي إلى كُدْيَةٍ، فلا يمكنُه الحفرُ فيتركه".
وفي الحديث (5) : "أحبط الله عمله". يقول: "أي: أبْطله، يقال: حَبِط
(1) النهاية: 3 / 251.
(2)
النهاية: 1 / 42.
(3)
النهاية: 1 / 205.
(4)
النهاية: 4 / 156.
(5)
النهاية: 1 / 331.
عملُه، وهو مِنْ قولهم: حَبِطَتْ الدابةُ حَبَطاً، إذا أصابَتْ مَرْعىً طيباً فأفْرَطَتْ في الأكل حتى تنتفِخَ فتموت".
3 ـ وقد يسوق ابنُ الأثير في"نهايته"الاحتمالاتِ المختلفةَ لمعاني اللفظ الغريب، في الحديث الذي يورده. وفي ذلك فُسْحَةٌ لمن يطالع في كتابه لاختيار ما يراه مناسباً لمعنى الحديث ومقاصِدِه، وهذا يَدُلُّ على اطِّلاعه على أقوال علماء الحديث والغريب، في فهم منطوق الحديث. ففي حديث الصدِّيق (1) لمَّا عُرِض عليه كلامُ مسيلَمة قال:"إنَّ هذا لم يَخْرُجْ من إلّ". يقول: "أي: من رُبُوبيَّةٍ، والإلُّ هو الله تعالى. وقيل: الإلُّ هو الأصلُ الجيد. وقيل: الإلُّ النسَبُ والقرابة فيكون المعنى: إنَّ هذا كلامٌ غيرُ صادرٍ عن مناسبة الحق، والإدلاء بسببٍ بينه وبين الصدق".
وفي حديث (2) : "فجعل المشركون يُرْبِسُون به العبَّاس"يقول: "يَحتمل أن يكون من الإرْباس وهو المراغَمَةُ، أي: يُسْمِعونه ما يُسْخِطُه ويَغيظُه، ويحتمل أن يكونَ من قولِهم: جاؤوا بأمورٍ رُبْسٍ أي: سُود، ويحتمل أن يكون من الرَّبيس، وهو المُصاب بمالٍ أو غيره أي: يُصيبون العباس بما يَسُوءُه".
ولابن الأثير حِسٌّ لغويٌّ دقيق في تعليل التسمية، التي تُطْلق على اللفظ الغريب الذي يبحث فيه. وقد أَوْلَى هذا الجانبَ من مفردات اللغة عنايةً كبيرة؛ ممَّا يَدُلُّ على فقهٍ واسعٍ بمنطوق اللغة، وتعليل مسمَّياتها. فهو يعرِّف الارْش (3) بقوله: "وهو الذي يأخذه المشتري من البائع، إذا اطَّلَعَ على عيبٍ في
(1) النهاية: 1 / 61.
(2)
النهاية: 2 / 184.
(3)
النهاية: 1 / 39.
المبيع، وسُمِّي أرشاً لأنه من أسباب النِّزاع. يقال: أَرَّشْتُ بين القوم إذا أوقعتَ بينهم".
ويشرح المسألة المبهمة (1) بقوله: "يريد مسألةً مُعْضِلَةً مُشْكلة، سُمِّيت مبهمةً؛ لأنها أبهمَتْ عن البيانِ فلم يُجْعَلْ عليها دليلٌ".
وفي حديث (2) : "يا أَمَةَ الجبَّار". يقول: "إنما أضافها إلى الجبَّار دونَ باقي أسماء الله تعالى؛ لاختصاص الحال التي كانت عليها؛ من إظهارِ العطرِ والبَخُورِ، والتباهي به، والتبختر في المشي".
وفي حديث (3) : "تحريمُها التكبير"يقول: "كأنَّ المصلِّيَ بالتكبير والدخول في الصلاة صار ممنوعاً من الكلامِ والأفعالِ الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالِها، فقيل للتكبير"تحريم"لمَنْعِه المصلِّيَ من ذلك؛ ولهذا سُمِّيَتْ تكبيرةَ الإحرام، أي: الإحرام بالصلاة".
4 ـ وقد يقتضي الأمر من ابن الأثير؛ أن يورِدَ في بيان معنى الحديث: بعض المحترزات والضوابط، التي تُفيد في تعيين مقاصد الحديث ودلالاته، ففي الحديث (4) :"احثُوا في وجوه المدَّاحين الترابَ". يقول: "أراد بالمدَّاحين الذين اتخذوا مدحَ الناسِ عادةً، وجعلوه صناعة يستأكلون به الممدوح، فأمَّا من مدح على الفعل الحسنِ والأمرِ المحمود؛ ترغيباً في أمثاله، وتحريضاً للناس على الاقتداء به، في أشباهه، فليس بمَدَّاح، وإن كان قد صار مادحاً بما تكلَّم به من جميل القول".
(1) النهاية: 1 / 168.
(2)
النهاية: 1 / 235.
(3)
النهاية: 1 / 373.
(4)
النهاية: 1 / 184.
وفي حديث (1) أبي هريرة رضي الله عنه: "إنَّ يوسفَ مني بريء، وأنا منه بَراءٌ". يقول: "أي: بريء عن مُساواتِه في الحكم، وأن أُقاسَ به، ولم يُرِدْ براءةَ الولاية والمحبَّة؛ لأنه مأمورٌ بالإيمانِ به".
وفي الحديث (2) : "أشدُّ الناسِ عذاباً يومَ القيامة من قَتَلَ نبياً، أو قتله نبيٌّ" يقول: "أراد من قتله -وهو كافرٌ- كَقَتْلِه أُبَيَّ بن خَلَفٍ يوم بدر، لا كمن قَتَله تطهيراً له في الحدِّ كماعِزٍ".
وفي الحديث (3) : "لا يُعَذِّبُ اللهُ قلباً وعى القرآن". يقول: "أي: عَقَلَه إيماناً به وعَمَلاً. فأمَّا من حَفِظَ ألفاظه وضَيَّع حدودَه فإنَّه غيرُ واعٍ له".
5 ـ وابن الأثير فقيهٌ شافعي متمكن، يظهر في"نهايته"آثار اطلاعه على مذاهب الفقه المختلفة، إذ كان يشير إلى المشهورِ منها. وقد ذكرنا في مؤلفاته: أنَّ له مُؤَلَّفاً في الفقه الشافعي، هو:"شرح مسند الشافعي".
ومن آثار عَرْضه مذاهب الفقهاء؛ قولُه في الحديث (4) : "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاةُ فمن تركها فقد كفر"."ذهب أحمد بن حنبل إلى أنَّه يكفُر بذلك حَمْلاً للحديث على ظاهره، وقال الشافعي: يُقتل بتركها، ويُصَلَّى عليه ويُدْفَنُ مع المسلمين".
وفي الحديث (5) : "نهى عن بَيْعِ العُرْبان"، فيعرِّفه ثم يقول:"وهو بَيْعٌ باطلٌ عند الفقهاء؛ لما فيه من الشرط والغَرَرِ، وأجازه أحمد، وروي عن ابن عمر إجازته".
(1) النهاية: 1 / 112.
(2)
النهاية: 4 / 13.
(3)
النهاية: 5 / 208.
(4)
النهاية: 1 / 188.
(5)
لنهاية: 3 / 202.
وفي الحديث (1) : "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا". يقول: "اختلف الناس في التفرُّقِ الذي يصحُّ، ويَلْزَمُ البيعُ بوجوبه، فقيل: هو التفرُّق بالأبدان، وإليه ذهب معظم الأئمة والفقهاء، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة ومالك وغيرُهما: إذا تعاقدا صَحَّ البيعُ، وإن لم يتفرَّقا، وظاهر الحديث يشهد للقول الأول".
وفي الحديث (2) : "لا تجوز شهادةُ بدويّ على صاحب قرية". يقول: "إنما كره شهادةَ البدويِّ لما فيه من الجفاء في الدين، والجهالة بأحكام الشرع، ولأنّهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها. وإليه ذهب مالك، والناسُ على خلافهِ".
6 ـ وابن الأثير نحويٌّ متمكن من علوم العربية، وقد ترك مؤلفات ذائعةَ الصيت في هذا الباب، منها كتابه المطبوع"البديع". ونجد في"نهايته"بصماتٍ واضحةً لكثيرٍ من التخريجات النحوية والأعاريبِ التي يسجِّلها على شواهده من الغريب الذي يتتبَّعُه، ممَّا يَدُلُّ على استيعابه جوانبَ الخدمة المطلوبة للحديث، وممَّا يدلُّ على فقهه الواسع بعلوم العربية وأدواتها.
ومن شواهدِ المسائل النحوية في"النهاية"قوله في الحديث (3)"فهذا أوانُ قَطَعَتْ أَبْهَري": "يجوز في"أوان"الضمُّ والفتح، فالضمُّ لأنه خبر المبتدأ، والفتحُ على البناء، لإضافته إلى مبني كقوله:
على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا
…
وقلتُ ألمَّا تَصْحُ والشيبُ وازعُ
(1) النهاية: 3 / 438.
(2)
النهاية: 1 / 109.
(3)
النهاية: 1 / 18.
وفي حديث عطاء (1) : "كان معاوية إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة كانت إياها". يقول: "اسم كان ضمير السجدة، و"إياها"الخبر، أي كانت هي هي، و"إيا"اسم مبني وهو ضمير المنصوب، والضمائر التي تضاف إليها من الهاء والكاف والياء لا موضعَ لها من الإعراب في القول القوي، وقد تكون"إيَّا"بمعنى التحذير".
وفي حديث زيد بن أرقم (2) : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم فقال: "أما بعدُ". يقول: "وتقدير الكلام فيها: أمَّا بعدَ حَمْدِ الله تعالى فكذا وكذا، و"بعد"من ظروفِ المكانِ التي بابُها الإضافة، فإذا قُطِعت عنها وحُذِفَ المضاف إليه بُنِيَتْ على الضم كـ قَبْل".
وأورد الحديث (3) : أنَّه عليه الصلاة السلام، كان يُرَقِّصُ الحسن والحسين ويقول:
حُزُقَّةٌ حُزُقَّهْ
…
تَرَقَّ عينَ بَقَّهْ
فقال: و"حُزُقَّةٌ"مرفوعٌ على خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنت حُزُقَّةٌ، و"حُزُقَّة"الثاني كذلك، أو أنه خبر مكرر، ومن لم ينوّن"حُزُقَّة"أراد: يا حُزُقَّة، فحذف حرفَ النداء، وهو من الشذوذ، كقولهم: أطرِقْ كرا؛ لأنَّ حرف النداء إنما يحذف من العَلَم المضموم أو المضاف".
وذكر حديث لقيط (4)"لَعَمْرُ إلهكِ" فقال: "وهو رفعٌ بالابتداءِ، والخبر محذوفٌ تقديره: لَعَمْرُ الله قسمي، واللام للتوكيد، فإن لم تأت باللام نصَبْتَه
(1) النهاية: 1 / 88.
(2)
النهاية: 1 / 140.
(3)
النهاية: 1 / 378.
(4)
النهاية: 3 / 298.
نَصْبَ المصادرِ، أي بإقرارِك لله وتعميرك له بالبقاء".
ويتعامل ابن الأثير مع المسائل الصرفية تعاملَ الخبير بأغوارها العارف بأوزانها وجذورها، وما يلحقها من إعلال وإبدال وحذف. ففي الحديث (1) :"فأدخلتُها الدَّوْلَجَ". يقول: "أصله وَوْلَج لأنه فَوْعَلٌ، من وَلَجَ يَلِجُ إذا دخل، فأبدلوا من الواو تاء فقالوا: تَوْلَج، ثم أبدلوا من التاء دالاً فقالوا: دَوْلج، والواو فيه زائدة".
وفي الحديث (2) : "فادَّخَروا" يقول ابن الأثير: "وأصل الادِّخار اذْتِخار وهو افتعال من الذُّخْر، فلما أرادوا أن يُدْغموا ليخفَّ النطق قلبوا التاء إلى ما يقاربُها من الحروف، وهو الدال المهملة لأنهما من مَخْرَج واحد، فصارت اللفظة مُذْدَخِرٌ، بذال ودال، ولهم حينئذٍ مذهبان أحدهما: وهو الأكثر أن تُقْلَبَ الذال دالاً، وتُدْغم فيها، فتصير دالاً مشددة. والثاني: وهو الأقل أن تُقْلَبَ الدال المهملة ذالاً، وتُدْغَم فتصير ذالاً مشددة".
ويتعرض صاحب"النهاية"للفظة"الأَشاء"(3) الواردة في الحديث، فيقول:"الأشاء صغار النخل، الواحدة أَشاءة، وهمزتُها منقلبةٌ من الياء؛ لأنَّ تصغيرَها أُشَيٌّ، ولو كانت أصلية لقيل أُشَيْء".
ويذكر لفظة"يتخذ"(4) ويقول: "هو افتعل من"تَخِذَ"، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى، وليس من"أخذ"في شيءٍ، فإنَّ الافتعال من أخذ ائتخذ؛
(1) النهاية: 2 / 141.
(2)
النهاية: 2 / 155.
(3)
النهاية: 1 / 51.
(4)
النهاية: 1 / 183.
لأنّ فاءه همزةٌ، والهمزةُ لا تُدْغم في التاء". وقال الجوهري (1) :"الاتخاذ افتعال من الأخذ، إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدالِ التاء، ثم لمَّا كَثُر استعماله بلفظ الافتعال توهَّموا أنَّ التاء أصلية فبنَوا منه فَعِل يَفْعَلُ، قالوا: تَخِذَ يَتْخَذُ"، وأهل العربية على خلاف ما قال الجوهري.
وأمَّا جانب الأدوات فلابن الأثير باع طويل فيه، حيث وصل في خدمته للحديث الشريف إلى دقيق المسائل، وأجلى كثيراً من الغوامض والمبهمات، وكان تحليلُه للأدواتِ الواردةِ في الحديث، يُنْبئ عن فقه لغوي سديد في العربية. ففي حديث الحج (2) : إنكم على إرثٍ من إرثِ أبيكم إبراهيم"، يقول: "(مِنْ) هنا للتبيين، مثلُها في قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج الآية: 30] .
وأورد حديث أنس (3) : "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهراً". أي: حَلَفَ لا يدخل عليهن. ويقول: "وإنَّما عدَّاه بـ"من"حَمْلاً على المعنى، وهو الامتناعُ من الدخول، وهو يتعدَّى بـ من".
ويردُّ (4) على الجوهري (5) الذي يقول: "ولا يُقال بنى بأهله". ويرى ابن الأثير أنَّ هذا الحكم فيه نظر، ويستشهد على تعدِّيه بالباء بالحديث:"في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب".
(1) الصحاح (أخذ) : 2 / 559.
(2)
النهاية: 1 / 37.
(3)
النهاية: 1 / 62.
(4)
النهاية: 1 / 158.
(5)
الصحاح: (بني) : 6 / 2286.
ويذكر الحديث (1) : "نظر إلى نَعَم بني فلانٍ وقد عَبِسَتْ في أبوالها". يقول: "وإنما عَدَّاه بـ"في"؛ لأنَّه أعطاه معنى انغَمَسَتْ.".
ولابن الأثير قدم راسخة في مباحث البلاغة العربية، بمختلف صنوفها وفنونها، ويتضح من"نهايته": اهتمامه ببيان الوجه البلاغي في الحديث الغريب، الذي توجَّه لشرحه، فيشير إلى التشبيه ووجهه، والاستعارة، والكناية، وغير ذلك من فنونِ البلاغة، ومن ذلك قوله في حديث الحسن في ابن عباس (2) :"إنه كان مِثَجا". أي: كان يصبُّ الكلام صَبا، شبَّه فصاحته وغزارةَ منطقه بالماء المثجُوج، والمِثَجُّ من أبنية المبالغة".
وفي الحديث (3) : "ويَفْتَرُّ عن مثل حَبِّ الغَمام". يقول: "يعني البَرَدَ، شبَّه به ثَغْره في بياضه وصفائه وبَرْدِه".
وفي الحديث (4) : "وتقيءُ الأرضُ أفلاذَ كَبِدِها". يقول: "أي تُخْرِجُ كنوزَها المدفونة فيها، وهو استعارةٌ".
وفي حديث الحديبية (5) : "قد لبسوا لك جلودَ النّمور". يقول: "هو كناية عن شدَّة الحقد والغضبِ، تشبيهاً بأخلاق النِمر وشراسته".
وفي حديث إبراهيم (6) : "فضاق بذلك ذَرْعاً". يقول: "ومعنى ضيق الذِّراع والذَّرْع قِصَرُها. ووجه التمثيل: أنَّ القصير الذراع لا ينالُ ما يناله
(1) النهاية: 3 / 171.
(2)
النهاية: 1 / 207.
(3)
النهاية: 1 / 326.
(4)
النهاية: 3 / 470.
(5)
النهاية: 5 / 118.
(6)
النهاية: 2 / 158.
الطويل الذِّراع ولا يُطيق طاقَتَه، فَضَرَبَ مثلاً للذي سقطَتْ قوتُه دون بلوغ الأمر".
7 ـ ويُعنى ابن الأثير بعرض احتمالات تصريف مادة الغريب، ووجه اشتقاقها. ففي الحديث (1) :"كلُّ مالٍ أدَّيْتَ زكاته فقد ذهبتْ أَبَلَتُه"ويُروى"وَبَلَتُه". يقول: "الأَبَلَةُ: الثِّقَلُ والطَّلِبة. وقيل: هو من الوَبال. فإن كان من الأول فقد قُلِبت همزتُه في الرواية الثانية واواً، وإن كان من الثاني فقد قلبت واوُه في الرواية الأولى همزةً".
وقد يذكر اللغات الأخرى في الغريب، ففي الأثر (2) :"إنما هو أَتِيٌّ فينا". يقول": أي غريب، يقال: رجل أَتِيٌّ وأَتاوِيٌّ".
وابن الأثير حَلْقة من منظومة علمية ذات شأوٍ بعيدٍ في علم غريب الحديث. ومن الطبيعي؛ أن تتبايَنَ الآراءُ في تأصيل مادة غريب الحديث، سواءً في مفردات هذا الغريب أو دلالاتِه. وقد كان قبل ابن الأثير مصنفون كبار أَدْلَوا بدلائهم في هذا العلم، فكان يتتبَّعُ أقوالَهم بالنقد والتمحيص.
ففي حديث هرقل (3) : "فمشى قيصر إلى إيلياءَ لمَّا أبلاه الله تعالى". يقول: "قال القتبيُّ: يُقال من الخير: أَبْليته أُبْلِيه إبلاءً. ومن الشر بَلَوْتُه أَبْلُوه بلاءً، والمعروف أنَّ الابتلاء يكون في الخير والشر معاً، من غير فَرْقٍ بين فعلَيْهما، ومنه قوله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء الآية: 35] .
(1) النهاية: 1 / 15.
(2)
النهاية: 1 / 21.
(3)
النهاية: 1 / 155.
وفي حديث (1)"صلاة الجماعة تَفْضُل صلاة الواحد ببِضْعٍ وعشرين درجة"
يقول: "قال الجوهري (2) : "تقول: بضع سنين، وبضعة عشر رجلاً، فإذا جاوزت لفظ العشر لا تقول: بضع وعشرون، وهذا يخالف ما جاء في الحديث".
وفي حديث عليّ (3) : "وجَبَّار القلوب"يقول القتيبيّ (4) : "لم أجعله من أَجْبَرَ؛ لأنَّ أفْعَل لا يُقال فيه فَعَّال. قال ابن الأثير: قلت: يكون من اللغة الأخرى، يقال: جَبَرْتُ وأَجْبَرْتُ بمعنى: قَهَرْتُ".
وفي حديث عمر (5) : "فيمَ الرَّمَلان"؟. يقول: "وحكى الحربي (6) فيه قولاً غريباً قال: إنه تثنية الرَّمَل وليس مصدراً". يقول ابن الأثير: "وهذا القولُ من ذلك الإمام كما تراه، وهو مصدر، وكذلك شرحه أهل العلم، لا خلاف بينهم فيه، فليس للتثنية وجهٌ".
وفي حديث عمرو بن العاص (7) : "أَرَدْتَ أن تُبَلِّغَ الناسَ عني مقالة يَزْعَنُونَ إليها، أي: يَميلُون إليها". قال أبو موسى (8) : "أظنُّه: يَرْكَنون إليها فَصُحِّفَ".
(1) النهاية: 1 / 133.
(2)
الصحاح: (بضع) : 3 / 1186.
(3)
النهاية: 1 / 236.
(4)
غريب الحديث له: 2 / 145.
(5)
النهاية: 2 / 265.
(6)
ليس في القطعة المطبوعة من غريب الحربي.
(7)
النهاية: 2 / 303.
(8)
المجموع المغيث: 2 / 17.
قلت: الأقرب إلى التصحيف أن يكون يُذْعِنون، من: الإذعان؛ وهو: الانقيادُ، فعدَّاها بـ إلى بمعنى اللام، وأمَّا يركنون فما أبعدها من يَزْعَنُون".
وفي حديث أبي خيثمة (1) : "يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحِّ والريح" وأنا في الظِّل". يقول: "أي: يكون بارزاً لحَرِّ الشمس وهُبوب الرياح. وذكره الهروي (2) فقال: "أراد كثرةَ الخيل والجيش"هكذا فَسَّره الهروي، والأول أشبه بهذا الحديث".
وفي الحديث (3) : "لا يَتَبَيَّغْ بأحدِكم الدمُ فيقتلَه". يقول: "تبيَّغَ به الدمُ إذا تردَّد فيه. وقيل: إنه من المقلوب، أي: لا يبغي عليه الدمُ فيقتله من البغي، وهو مجاوزةُ الحدِّ. والأول الوجه".
(1) النهاية: 3 / 75.
(2)
ليس في القطعة المطبوعة من الغريبين.
(3)
النهاية: 1 / 174.