الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: مواقف أتباع التابعين
توطئة:
أتباع التابعين هم من القرون المفضلة التي امتدحها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم
…
)) (1).
ولتابعي التابعين مواقف حكيمة يستفيد منها الدعاة إلى اللَّه - تعالى - وسأذكر منها - بعون اللَّه تعالى - نماذج في المطالب الآتية:
المطلب الأول: مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه اللَّه تعالى.
المطلب الثاني: مواقف الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى.
المطلب الثالث: مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى.
المطلب الأول: من مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه الله
-:
للإمام مالك بن أنس (2) رحمه الله مواقف حكيمة مشرفة، منها على
(1) البخاري مع الفتح، 5/ 259، (رقم 2652)، ومسلم، 4/ 1964، وتقدم تخريجه.
(2)
الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو، إمام دار الهجرة، ولد سنة 93هـ عام موت أنس بن مالك بن النضر، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب العلم بصدق وإخلاص، فكان أحد الأئمة الأربعة، فنفع الله به المسلمين، وتوفي عام 179هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 49 - 135، والبداية والنهاية، 10/ 174، وتهذيب التهذيب، 10/ 5.
سبيل المثال ما يلي:
1 -
من أعظم مواقف الحكمة التي وقفها: موقفه مع من سأله عن الاستواء. فقد جاء إليه رجل، وقال: يا أبا عبد اللَّه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء (2)، ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال:((الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة ((وأمر به فأُخرج (3).
وهذا موقف حكيم مُسدّد؛ لأنه أجاب بالإجابة الصحيحة بعد التأمل والتفكر، فكانت هذه الإجابة قاعدة ثابتة لأهل السنة والجماعة، تُجرى عليها صفات اللَّه - تعالى - كلها، فالكيف للصفة مجهول لنا لا نعرف كيفيتها؛ لأن اللَّه لم يخبرنا بالكيفية، والصفة معلومة بدليلها من الكتاب والسنة الصحيحة أو بأحدهما، والإيمان بالصفة - التي تثبت بالدليل - واجب، والسؤال عن كيفية الصفة بدعة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من
(1) سورة طه، الآية:5.
(2)
العرق إثر الحمى، أو عرق يغسل الجلد كثرة. انظر: المعجم الوسيط، مادة (رحض)، 1/ 334.
(3)
أبو نعيم في الحلية، 6/ 325، وانظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 100، 101، 106، ومجموع فتاوى ابن تيمية، 5/ 26، 5/ 144.
الصفات، بل كل صفة من صفات اللَّه - تعالى - تدل على معنى حقيقي نؤمن به ونثبته للَّه كما يليق بجلاله (1).
2 -
من مواقفه الحكيمة ما رد به على بعض العبَّاد حينما كتب إليه يعظه ويحضه على الانفراد والعزلة عن الناس، ويحضه على العمل، فكتب إليه مالك:((إن اللَّه قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتحَ له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتحَ لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر)) (2).
وهذا الرد الحكيم المسدد مما يدل على فقه الإمام مالك وحكمته، فإن نشر العلم خير أعمال البر، وأفضل من نوافل الصلاة والصوم والصدقة وغير ذلك من نوافل العبادات، لقوله صلى الله عليه وسلم:((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) (3).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فواللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)) (4).
فرحم اللَّه مالكاً فقد نطق بالحكمة، وطبق ما كان يقوله ويرغِّب
(1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 5/ 5 - 121.
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 8/ 114.
(3)
مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، 3/ 1506، (رقم 1893).
(4)
البخاري مع الفتح، 7/ 476، ومسلم، 4/ 1871، وتقدم تخريجه.
فيه الناس، فكان هو أولى به حيث قال:((بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى إلا نطق بالحكمة)) (1).
ولهذا قال الإمام الذهبي (2): ((إلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة)) (3).
ولكن الإمام مالك قد أنصف حينما رسم للناس قاعدة يسيرون عليها، حيث قال:((كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم)) (4).
وهذا كلام حكيم وعظيم، يدل على أن جميع الناس ليسوا معصومين من الخطأ، إنما الذي عُصِمَ في تبليغ الشريعة هو محمد صلى الله عليه وسلم.
3 -
والإمام مالك كان يصدع بالحق ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: ((كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاك،
(1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 8/ 109.
(2)
هو الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ولد رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة 673هـ، بدأ طلب العلم مبكراً، ورحل في طلبه، وبرع فيه، ثم عمي قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، وتوفي رحمه الله ليلة الاثنين من ذي القعدة قبل نصف الليل سنة 748هـ، وله آثار علمية بلغت نحو من 215 مؤلفاً رحمه الله. انظر: البداية والنهاية، 14/ 225، ومقدمة سير أعلام النبلاء، 1/ 12 - 140.
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 92.
(4)
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 8/ 93.