الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه)) (1).
وهذا الكلام من الدعوة إلى اللَّه بالحكمة؛ لأن من الناس من يحتاجون إلى الغلظة أحياناً، ولا يخرج ذلك عن الحكمة؛ لأن اللَّه - تعالى - وهو أحكم الحاكمين - قال لأحكم الناس أجمعين:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (2) وقال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3).
وللإمام مالك مواقف حكيمة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها (4).
المطلب الثاني: من مواقف الإمام الشافعي رحمه الله
-
للإمام الشافعي (5) رحمه الله مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه
(1) انظر: حلية الأولياء، 6/ 324، وسير أعلام النبلاء، 8/ 99.
(2)
سورة التحريم، الآية:9.
(3)
سورة العنكبوت، الآية:46.
(4)
انظر: مواقف له حكيمة في: حلية الأولياء، 6/ 325، وسير أعلام النبلاء، 8/ 94، 98، 99، وانظر: مواقفه مع بني أمية وحكمه في طلاق المكره وعدم وقوعه في سير أعلام النبلاء، 8/ 80، 95، 96.
(5)
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن السائب، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، ولد في غزة، وقيل: بعسقلان، سنة 150هـ، ومات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ بها وقرأ القرآن، ورحل إلى مالك في المدينة وعرض عليه الموطأ بعض حفظه له، ثم رجع إلى مكة، ورحل إلى اليمن، ثم حمل إلى العراق سنة 184، ثم عاد إلى مكة ثلاث مرات، ثم رحل من العراق إلى مصر، وبقي فيها حتى توفي سنة 204هـ. انظر: البداية والنهاية، 10/ 251.
وإخلاصه، ومن مواقفه رحمه الله.
موقفه مع أهل الكلام ودفاعه عن علم الكتاب والسنة:
وقف الشافعي رحمه الله موقفاً حكيماً مسدداً مع أهل الكلام (1)، فقال رحمه الله:
((حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في الأسواق والعشائر، ينادى عليهم ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام)) (2).
وقال: ((مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد)) (3).
(1) العلم بالدين علمان: العلم بالأمور الخبرية الاعتقادية، كالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأخبار الأنبياء، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك الجنة والنار
…
والجدال في هذا القسم بالعقل يسمى: كلاماً.
الثاني: الأمور العملية من أعمال الجوارح والقلوب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، وهذا من جهة كونه علماً واعتقاداً أو خبراً صادقاً أو كاذباً يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأموراً به أو منهياً عنه يدخل في القسم الثاني. انظر: فتاوى ابن تيمية، 11/ 335، 336، 19/ 134.
فالجدال في علم العقائد يسمى كلاماً، والسلف الصالح حينما يذمون علماء الكلام فهم يريدون من يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين، عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو الذي ذمه الشافعي رحمه الله. انظر: فتاوى ابن تيمية، 12/ 460، 461.
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 10/ 29، والبداية والنهاية، 10/ 254، وفتاوى ابن تيمية، 16/ 473.
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء، 10/ 29.
وقال: ((حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ)) (1).
وغرس الشافعي في نفوس الناس بغض الكلام وأهله، وحب الكتاب والسنة والتمسك بهما، قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي (2): قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث (3) كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. فقال الشافعي رحمه الله: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب (4).
وجاء رجل من أهل الكلام إلى الشافعي - وهو في مصر - فسأله عن مسألة من الكلام فقال له الشافعي: أتدري أين أنت؟ قال الرجل: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق اللَّه فيه فرعون، أبلغك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قال: لا. قال: هل تكلم فيه الصحابة؟
(1) قدم صبيغ بن عسل الحنظلي المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، وقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه بعراجين النخل حتى دمي رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 2/ 198.
(2)
يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة، شيخ البخاري، أبو موسى الصدفي، ولد سنة 170هـ، وتوفي سنة 264هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 12/ 348.
(3)
هو الليث بن عاصم بن كليب، الإمام القدوة العابد المصري، ولد سنة 115هـ، وتوفي سنة 211هـ. انظر: تهذيب التهذيب، 8/ 419، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 10/ 188.
(4)
أي: والسنة. انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص510، وسير أعلام النبلاء، 10/ 23.
قال: لا. قال: هل تدري كم نجماً في السماء؟ قال: لا. قال: فكوكب منها تعرف جنسه، طلوعه، أفوله، مم خُلق؟ قال: لا. قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه، تتكلم في علم خالقه؟ ثم سأله الشافعي عن مسألة من الوضوء فأخطأ فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم يصب في شيء من ذلك، فقال له: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه، وتتكلف علم الخالق؟ إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى اللَّه، وإلى قوله – تعالى –:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية (1)، فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك.
فتاب الرجل (2) على يد الشافعي من علم الكلام، وأقبل على فقه الكتاب والسنة (3)، وكان يقول بعد التوبة:((أنا خلق من أخلاق الشافعي)) (4).
وقد أصبح هذا الرجل (المزني) علماً من أعلام الإسلام في فقه
(1) سورة البقرة، الآيتان: 163 - 164.
(2)
وهذا الرجل الذي تاب من علم الكلام على يد الشافعي، هو المزني، الإمام العلامة علم الزهاد، أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن عمرو بن مسلم المزني المصري، تلميذ الشافعي، ولد سنة 175هـ، وله المختصر في الفقه، وقد شرحه عدة من العلماء، توفي ‘ سنة 264هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 492.
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء، 10/ 25، 26، 31، 32.
(4)
انظر: المرجع السابق، 12/ 492.