المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثانى: إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم «علمانية» - موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - جـ ١

[عبد الوهاب المسيري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية

- ‌ فكرة عن مدى شمول الموسوعة

- ‌السيرة الذاتية لمؤلف الموسوعة

- ‌ المراجع:

- ‌المجلد الأول: الإطار النظرى

- ‌الجزء الأول: إشكاليات نظرية

- ‌الباب الأول: مقدمة

- ‌الباب الثانى: مفردات

- ‌الباب الثالث: فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان

- ‌الباب الرابع: الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية

- ‌الجزء الثاني: النماذج كأداة تحليلية

- ‌الباب الأول: النماذج: سماتها وطريقة صياغتها

- ‌الباب الثانى: أنواع النماذج

- ‌الباب الثالث: النموذج الاختزالي والنموذج المركب

- ‌الجزء الثالث: الحلول الكمونية الوحدانية

- ‌الباب الأول: الحلولية ووحدة الوجود والكمونية

- ‌الباب الثانى: الحلولية الكمونية الواحدية والعلمانية الشاملة

- ‌الجزء الرابع: العلمانية الشاملة

- ‌العلمانية: إشكالية التعريف

- ‌الباب الثانى: إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم «علمانية»

- ‌الباب الثالث: نموذج تفسيري مركب وشامل للعلمانية

الفصل: ‌الباب الثانى: إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم «علمانية»

ولا يمكن القول بأن كل فرد يمر في حياته من خلال المتتالية العلمانية والانتقال من الجزئي إلى الكلي والشامل (فهذه عملية اجتماعية تاريخية) . ومع هذا لا يتبنى الفرد النموذج السائد في مجتمعه بقضه وقضيضه، فمعظم البشر يعيشون حياتهم المتعينة مستخدمين أكثر من نموذج وأكثر من مرجعية، بعضها قد يكون متناقضاً تماماً مع البعض الآخر. فيمكن أن يعلمن الإنسان حياته الاقتصادية والسياسية بشكل كامل ويُخضعها للمرجعيات والمعايير والمنظومات العلمانية الشاملة، وفي الوقت نفسه يرفض (بشكل واع أو غير واع) ، علمنة سلوكه أو حياته الشخصية بنفس الدرجة (أو لا يَجسُر على ذلك) ويرفض إخضاعها لنفس المرجعية والمعايير والمنظومات التي طَبَّقها على حياته العامة، أي أنه في حياته السياسية والاقتصادية يخضع للعلمانية الشاملة والواحدية المادية ويصبح شيئاً بين الأشياء، وفي حياته الخاصة يدور في إطار مرجعية متجاوزة ولذا فإنه يظل بشراً حر الإرادة ذا حس خُلقي قوي يعي ثنائيات المطلق والنسبي، أي يدور في إطار العلمانية الجزئية.

ومع هذا، تجب الإشارة إلى بعض الأفراد ممن يتبنون نماذج علمانية شاملة ويستخدمون ديباجات جزئية عن وعي وبدهاء مقصود، لأن الناس ينفرون بفطرتهم الإنسانية من العلمانية الشاملة بسبب وحشيتها وعدميتها.

‌الباب الثانى: إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم «علمانية»

إشكالية اختلاط الحقل الدلالى لمصطلح "علمانية"والمفاهيم الكامنة وراءه

من أهم الإشكاليات التي تواجه دراسي الظواهر العلمانية أن مصطلح «علمانية» (سواء في المعجم الغربي أو العربي) مختلط الدلالة، فكل معجم يأتي بعده تعريفات متضاربة. فإذا انتقلنا إلى تعريف المفهوم الكامن فإن الأمر يزداد اختلاطاً. وفي المداخل المتبقية في هذا الباب سنتناول التعريف المعجمي لكلمة «علمانية» في العالم الغربي والعربي ثم تعريف المفهوم.

التعريف المعجمى لمصطلح "علمانية" فى العالم الغربى

ص: 463

كلمة «علمانية» هي ترجمة لكلمة «سكيولاريزم secularism» الإنجليزية التي لها نظائرها في اللغات الأوربية. والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «سَيكولوم saeculum» وتعني «العصر» أو «الجيل» أو «القرن» . أما في لاتينية العصور الوسطى (التي تهمنا في سياق هذا المدخل) ، فإن الكلمة تعني «العالم» أو «الدنيا» (في مقابل الكنيسة) . ويوجد لفظ لاتيني آخر للإشارة إلى العالم، وهو «موندوس mundus» . ولفظة «سيكولوم» مرادفة للكلمة اليونانية «آيون aeon» والتي تعني «العصر» ، أما «موندوس» فهي مرادفة للفظ اليوناني «كوزموس comos» والذي يعني «الكون» (في مقابل «كيوس chaos» بمعنى «فوضى» ) . ومن هنا، فإن كلمة «سَيكولوم» تؤكد البُعد الزماني أما «موندوس» فتؤكد البُعد المكاني.

وقد استُخدم المصطلح سكيولار secular» » ، لأول مرة، مع نهاية حرب الثلاثين عاماً (عام 1648عند توقيع صلح وستفاليا وبداية ظهور الدولة القومية (أي الدولة العلمانية) الحديثة، وهو التاريخ الذي يعتمده كثير من المؤرخين بدايةً لمولد الظاهرة العلمانية في الغرب. وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة ولا يتسم بأي نوع من أنواع الشمول، إذ تمت الإشارة إلى «علمنة» ممتلكات الكنيسة وحسب بمعنى «نقلها إلى سلطات سياسية غير دينية» ، أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة. وفي فرنسا، في القرن الثامن عشر، أصبحت الكلمة تعني (من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية)«المصادرة غير الشرعية لممتلكات الكنيسة» . أما من وجهة نظر مجموعة المفكرين الفرنسيين المدافعين عن مُثُل الاستنارة والعقلانية المادية والمعروفين باسم «الفلاسفة» (فيلوسوف Philosophes)(ويشار إليهم أيضاً باسم الموسوعيين) ، فإن الكلمة كانت تعني «المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة» .

ص: 464

ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع، وبدأت الكلمة تتجه نحو مزيد من التركيب دون أن تصل إلى الشمول الكامل على يد جون هوليوك John Holyooke (1817 ـ 1906) أول من نحت المصطلح بمعناه الحديث وحوَّله إلى أحد أهم المصطلحات في الخطاب السياسي والاجتماعي والفلسفي الغربي. ولم يكن جون هوليوك، لسوء الحظ، يتسم بكثير من العمق الفلسفي أو التحليلي، ولذا ساهم تعريفه في تعميق مشكلة العلمانيتين واختلاط الحقل الدلالي. وقد حاول أن يأتي بتعريف تَصوَّر أنه محايد تماماً (ليست له علاقة بمصطلحات مثل «ملحد» أو «لاأدري» ) . فعرَّف العلمانية بأنها "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".

والحديث عن "إصلاح حال الإنسان" يفترض وجود نموذج متكامل ورؤية شاملة ومنظومة معرفية قيمية. فهل العلمانية إذن هي هذه الرؤية الشاملة؟ إن كان الأمر كذلك، فإن هوليوك لم يعطنا ملامح هذا النموذج وهذه المنظومة، فهو لا يتصدى البتة لقضية القيمة (هل هي قيم مادية؟) أو قضية المعرفة (هل مصدرها الحواس وحسب؟) . وهو يتحدث عن الإنسان دون تعريف للسمات الأساسية لما يشكل جوهر الإنسان الذي ستتم العملية الإصلاحية عليه وباسمه (هل هو إنسان طبيعي؟) . وهناك الحديث عن الإصلاح "من خلال الطرق المادية" فهل يعطينا هذا مفتاحاً لطبيعة النموذج الذي سيتم تبنيه؟ أليست هذه هي العلمانية الشاملة؟ وهذا الموقف ألا يعني الرفض الكامل للإيمان، وليس عدم التصدي له وحسب، كما يدَّعي؟ فالمصطلح يحتوي على قضايا خفية كثيرة وعلى ميتافيزيقا خفية وعلى منظومة قيمية انسلخت عن الإيمان الديني وتبنت الطرق المادية، فكأنه تبنى النموذج الشامل للعلمانية دون أن يدرك هو نفسه ذلك، وتصور أنه سيترك الإيمان الديني وشأنه.

ص: 465

وقد تم تبسيط تعريف هوليوك للعلمانية فأصبح المصطلح يعني «فصل الدين عن الدولة» ، أي فصل العقائد الدينية عن رقعة الحياة العامة، وهو تعريف أكثر جزئية من تعريف هوليوك وأشد شمولاً من تعريف الكلمة عند توقيع صلح وستفاليا. ومرجعية هوليوك التاريخية هي أوربا في القرن التاسع عشر وتعريفه للعلمانية ينبع من هذه المرجعية. ومن المعروف أن التاريخ لم يتوقف قط في العالم الغربي، فحدثت تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية أدت إلى تحولات هائلة في رقعة الحياة العامة والخاصة وكافة العلاقات الإنسانية. وأخذت هذه التحولات في التصاعُد في بداية القرن العشرين وتصاعدت حدتها في منتصف القرن. فالمؤسسة الحاكمة في الغرب لم تَعُد الدولة الصغيرة الضعيفة التي تنافسها العديد من المؤسسات الأهلية الأخرى، بل أصبحت دولة ذات أذرع طويلة وتتبعها مؤسسات أمنية عديدة. وظهر قطاع الإعلام واللذة في المجتمع، وهما قطاعان ضخمان رهيبان يصلان إلى الرجال والنساء والأطفال في كل مكان وزمان. وكل هذه المؤسسات الحكومية وغير الحكومية تتدخل في أخص خصوصيات حياة الإنسان وضمن ذلك حياته الجنسية وعلاقة الآباء بأطفالهم وتصوغ صورة الإنسان لنفسه. في هذا الإطار الجديد، بأي معنى من المعاني يمكن الحديث عن العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، أي دولة نتحدث عنها؟ وما دور قطاع اللذة؟ هل لا يزال الحديث عن علمانية جزئية، أم عن شيء مغاير تماماً أكثر جذرية وشمولاً يمكن أن نطلق عليه «العلمانية الشاملة» ؟

ص: 466

ويتضح الاختلاط بين العلمانيتين الجزئية والشاملة في التعريفات التي ترد في المعاجم اللغوية الغربية الحديثة. وقد حاول قاموس أكسفورد أن يحصر الحقل الدلالي المتسع لكلمة «علمانية» ، فأورد استخدامات عديدة للكلمة لا تعنينا كثيراً، مثل «ينتمي إلى عصر أو مدة زمنية طويلة» أو «يُحتفَل به مرة كل عصر أو قرن، وفي كل فترة طويلة» ، فيقال:«الألعاب والمسرحيات والعروض العلمانية» بمعنى «الألعاب والعروض التي كانت تُقام في روما القديمة مرة كل عصر (أو كل مائة وعشرين عاماً) وتستمر لمدة ثلاثة أيام وليال» ، ويُقال «قصيدة علمانية» بمعنى «قصيدة تُتلى في هذه الأعياد» . وفي اللغة العلمية، يُشار إلى «التغيرات العلمانية» باعتبارها التغيرات التي تحدث على فترة زمنية خلال عصور طويلة.

وتُستخدَم كلمة «علماني» أيضاً للإشارة إلى "أعضاء الكهنوت الذين يعيشون في الدنيا لا في عزلة الأديرة". أو للإشارة إلى «العوام» (وهو استخدام نادر) . وهذه الاستخدامات كلها ـ كما أسلفنا ـ لا علاقة لها بكلمة «علمانية» بالمعنى الاصطلاحي الحديث للكلمة، وإن كانت كلها تتضمن فكرة الزمن والدنيا.

أما بقية الاستخدامات، فهي تشير إلى عملية التأرجح بين الجزئية والشمولية، دون أن يُسمِّيها المعجم كذلك. ويورد قاموس أكسفورد التعريفات التالية لمصطلح «علمانية» :

1 ـ ينتمي للحياة الدنيا وأمورها (ويتميَّز في ذلك عن حياة الكنيسة والدين) . مدني وعادي وزمني [ويُلاحَظ ترادف كلمات مثل «مدني» و «زمني» و «علماني» ] . والواضح أن الكلمة تحمل هنا مدلولاً سلبياً وحسب، فهي تعني «غير كهنوتي» و «غير ديني» و «غير مقدَّس» .

ص: 467

2 ـ وكانت الكلمة تُطبَّق على الأدب والتاريخ والفن، وخصوصاً الموسيقى، ومن ثم على الكُتَّاب والفنانين. وكانت تعني أيضاً «غير معني بخدمة الدين» و «غير مُكرَّس له» و «غير مقدَّس» و «مدنَّس» بمعنى «مباح» . وتُستخدَم الكلمة أيضاً للإشارة إلى المباني، و «المباني العلمانية» هي «المباني غير المُكرَّسة للأغراض الدينية» .

3 ـ أما في مجال التعليم، فإن الكلمة تشير إلى الموضوعات غير الدينية (وأصبحت الكلمة مؤخراً تعني استبعاد تدريس المواد الدينية في المعاهد التي يُنفَق عليها من المال العام) . ومن هنا، فإن تعبير «مدرسة علمانية» يكون بمعنى «مدرسة تعطي تعليماً غير ديني» .

4 ـ ينتمي إلى هذا العالم الآني والمرئي تمييزاً له عن العالم الأزلي والروحي، الآتي وغير المرئي.

5 ـ يهتم بهذا العالم وحسب؛ غير روحي (استخدام نادر) .

6 ـ يختص بمذهب العلمانية ويتقبله.

ويُلاحَظ أن 1 ـ 3 تعريفات جزئية للعلمانية. أما 4 ـ 6 فهي تعريفات تميل نحو الشمول.

ولكن حين انتقل المعجم من كلمة «سكيولار» إلى كلمة «سكيولاريزم secularism» ، أي «العلمانية» فقد عرًَّفها تعريفاً شاملاً، باعتبارها «العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لابد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة [الدنيا] واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى [الآخرة] » . والعلماني (سكيولاريست secularist) هو المؤمن بذلك. والعلمنة (سكيولارايزيشن secularization) هي تحويل المؤسسات الكنسية والدينية وممتلكات الكنيسة إلى ملكية علمانية وإلى خدمة الأمور الزمنية، وتعني كذلك صبغ الفنون والدراسات بصبغة علمانية غير مقدَّسة، ووضع الأخلاق على أسس غير أخلاقية (أي على أسس مادية علمية) وحصر التعليم في موضوعات علمانية.

ص: 468

أما في اللغة الفرنسية، فهناك كلمة «لاييك laique» . وقد انتقلت الكلمة إلى الإنجليزية في كلمة «ليك laic» بمعنى «خاصة بجمهور المؤمنين» (تمييزاً لهم عن الكهنوت) ، ومنها كلمة «لييتي laity» وهم الكافة (باستثناء رجال الدين) ، وكلمة «لييسيزم laicism» بمعنى النظام العلماني، أي النظام السياسي المتميِّز بإقصاء النفوذ الكهنوتي عن الدولة (التعريف الجزئي) . واشتق كذلك فعل «لييسايز laicize» بمعنى أن ينزع الصبغة الكهنوتية أو يُعلمن (وخصوصاً المدارس) . و «لييسايزيشن laicization» معناها نَقْل كثير من وظائف رجال الدين والكهنوت، كالتعليم والقضاء والخدمات الاجتماعية، إلى خبراء يتم تدريبهم تدريباً زمنياً لا علاقة له بالعقائد الدينية التي تستند إلى الإيمان بما وراء الطبيعة، بحيث تصبح مهمة رجال الدين مقصورة على الأعمال الدينية (تعريف شامل) . والفعل الإنجليزي المشتق عن الفرنسية يحمل بصمات أصوله الفرنسية والتجربة الفرنسية في العلمنة (المرتبطة بالثورة الفرنسية) التي أخذت شكلاًّ حاداً وقاطعاًَ. فمؤسسة الكنيسة كانت قوية في المجتمع الفرنسي القديم، وكانت امتيازات النبلاء واضحة محدَّدة، كما كان هناك تداخل شبه كامل بين طبقة النبلاء ورجال الدين (وخصوصاً ذوي المراتب الرفيعة) ، ولذا كان رد فعل الثوار عنيفاً ومنهجياً يأخذ شكل رفض النظام القديم (متمثلاً في الحكومة الملكية المطلقة) ونظام الطبقات السائد ومؤسسة الكنيسة وكل الرموز السياسية والدينية القائمة. ووصل الرفض إلى حد ذبح النبلاء وكثير من أعضاء طبقة الكهنوت، وإلى حد تحويل بعض الكنائس إلى معابد تُعبَد فيها ربة العقل. كما أنهم وضعوا سياسة منهجية صريحة تهدف إلى تصفية أي مضمون ديني في التعليم أو القانون.

ص: 469

وهناك كلمة أخرى وردت في معاجم اللغة الإنجليزية وهي «دي كريستيانايز dechristianize» أي «ينزع الصبغة المسيحية عن المجتمع» وهو مصطلح محدَّد الدلالة لا يصلح إلا للمجتمعات التي تسود فيها المسيحية.

ويُستخدَم مصطلح «علماني» أحياناً بمعنى «ملحد» . ففي كتابات بيتر جاي Peter Gay، أحد أهم مؤرخي حركة الاستنارة في الغرب، نجد هذا الترادف. وقد كتب كتاباً بعنوان يهودي بلا إله: فرويد والإلحاد وتأسيس التحليل النفسي A Godless Jew: Freud، Atheism، and the Making of Psychoanalysis حيث نجد هذا الترادف واضحاً. فالتحليل النفسي يوصف بأنه "علم علماني، لا علاقة له بالدين بل معاد له يهدف إلى تحطيمه" وهكذا.

ويستخدم رورتي كلمة «علماني» بمعنى "محصور بنطاق الزمان والمكان" ثم يبيِّن التضمينات الفلسفية للمصطلح، بأنه نزع القداسة عن كل شيء.

التعريف المعجمى لمصطلح "علمانية" فى العالم العربى والعالم الثالث

منذ ما يُسمَّى «عصر النهضة» في تاريخ الفكر العربي ومعظم تعريفاتنا للظواهر الإنسانية تستند إلى تعريفات الغرب وتجاربه. فنحن نستورد كثيراً من مصطلحاتنا من الغرب، وهو ما يُبيِّن إيماننا بمركزية الغرب وعالميته. وقد استوردنا مصطلح «علمانية» فيما استوردنا، فكان من أكثر المصطلحات غموضاً وإبهاماً، رغم شيوعه في الآونة الأخيرة. ويعود إبهامه للأسباب التالية:

1 ـ مصطلح «علمانية» منقول من المعجم الأجنبي، ومن التشكيل الحضاري الغربي، تتحدَّد دلالته الحقيقية بالإشارة إلى هذا المعجم وهذا التشكيل الحضاري ويكتسب مضمونه الحقيقي منهما.

ص: 470

2 ـ رغم محاولتنا الجاهدة الدائبة في اللحاق بركب الغرب ومواكبته، فإن المصطلحات التي نستوردها (مثل:«الاستنارة» ـ «التقدم» ـ «التحديث» ـ «العقل» ) تشير إلى معنى الكلمات كما وردت في المعجم الغربي (اللغوي والحضاري) حتى منتصف أو أواخر القرن التاسع عشر ولم يتسع مجالها الدلالي كما حدث في الغرب. ولذا، فإن مصطلحاتنا بريئة تماماً من كل المشاكل التي ظهرت بعد تحقق المتتالية الترشيدية والتحديثية والعلمانية الغربية، فهي بسيطة أحادية البُعد تشع تفاؤلاً لا أساس له في الواقع. واصطلاح «علمانية» لا يشكل أي اسثناء لهذه القاعدة، فنحن نتحدث عنها على طريقة فولتير ولوك وكوندورسيه وغيرهم من الفلاسفة التبسيطيين الاختزاليين.

3 ـ تُوجَد داخل هذا التشكيل الحضاري عدة تشكيلات فرعية: فهناك التشكيل الفرنسي (الكاثوليكي) والتشكيل الحضاري الإنجليزي وهناك التشكيل الألماني (البروتستانتي) والتشكيل الروسي (الأرثوذكسي) ، وقد عرَّف كل تشكيل هذا المصطلح بطريقة مختلفة إلى حدٍّ ما من خلال تجربته الخاصة.

4 ـ خاضت هذه التشكيلات الحضارية تحولات مختلفة، وتزايدت فيها معدلات العلمنة واختلفت المواقف من العلمانية باختلاف المرحلة التاريخية وباختلاف الجماعة التي تقوم بعملية التعريف.

رغم كل هذا استوردنا مصطلح «علمانية» ولصقناه في معجمنا بإبهامه ولا تحدده وتأرجحه بين الجزئية والشمول. ومع انتقال المصطلح إلى العالم العربي الإسلامي، ازداد المجال الدلالي المضطرب للكلمة اضطراباً واختلالاً للأسباب التالية:

أ) حينما ينتقل مصطلح مثل «علمانية» من معجم حضاري إلى معجم حضاري آخر وتتم «ترجمة» المصطلح، فإنه يظل يحمل آثاراً قوية من سياقه الحضاري السابق الذي يظل مرجعية صامتة له.

ص: 471

ب) تجربة العرب والمسلمين مع متتالية العلمنة مختلفة، فعمليات العلمنة لم تنبع في واقعهم التاريخي والاجتماعي (رغم وجود عناصر علمنة مختلفة فيه) وإنما أتى بها الاستعمار الغربي.

وقد اختُزلت مناقشة المصطلح إلى طريقة ترجمته، ولم تَعُد القضية هي وصف الظاهرة العلمانية وتحليلها وتسميتها حسبما نراها نحن (من خلال تجربتنا وسعادتنا أو شقائنا بها) بل انصب الجهد الفكري والبحثي على مناقشة أحسن الترجمات لكلمة «علمانية» وأقربها إلى المعجم الغربي وأكثرها دقة. وهكذا سقطنا في الموضوعية المتلقية.

وتُوجَد في المعجم العربي ترجمات مختلفة لكلمة «سكيولار» و «لائيك» :

1 ـ «العلْمانية» (بكسر العين) نسبة إلى «العلْم» .

2 ـ «العَلْمانية» (بفتح العين) نسبة إلى «العَلْم» بمعنى «العالم» .

3 ـ «الدنيوية» أي الإيمان بأنها هي الحياة الدنيا ولا يوجد سواها.

4 ـ «الزمنية» بمعنى أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأي ماورائيات.

5 ـ وتُستخدَم أحياناً كلمة «لائيك» نفسها دون تغيير.

والتأرجح بين الجزئية والشمول يُوجَد بشكل أكثر حدة في العالم الثالث، فهناك حديث عن «علمانية وسطية» (وإن كان هناك أيضاً في الغرب حديث عن «علمانية مسيحية» ، أي عن المسيحية التي تؤدي إلى العلمانية) .

وقد لوحظ، في العالم الثالث، أن ثمة تداخلاً بين مصطلح «علمنة» ومصطلحين آخرين:

ـ «مودرناينز modernize» أي «يُحدِّث» . والمصطلح يعني إعادة صياغة المجتمع بحيث يتم استبعاد المعايير التقليدية وإخضاع كل شيء للمعايير العقلية العلمية المادية التي تتفق مع معايير الحداثة (برؤيتها للإنسان والكون) ، وهذا هو أيضاً الترشيد.

ص: 472

ـ «ويسترنايز westernize» أي «يُغرِّب» ، بمعنى «يفرض أنماط وأساليب الحياة الغربية» . وحيث إن المعايير السائدة في الحضارة الغربية الحديثة هي المعايير العلمانية، وحيث إن المجتمعات الغربية الحديثة هي المجتمعات الأولى التي طبقت هذه المعايير وتصاعدت فيها معدلات العلمنة حتى سادت المعايير العلمانية بشكل كبير حتى تكاد تقترب هذه المجتمعات من الحالة النماذجية التي يقال لها «مجتمع علماني» ، لكل هذا، ثمة تداخل كبير يقترب من حد الترادف بين هذا المصطلح وسابقه. وفي العالم الثالث، تؤدي العلمنة في معظم الأحيان إلى التغريب.

ولا تَسلَم هذه المصطلحات هي الأخرى من عملية التأرجح المشار إليها. وهناك بطبيعة الحال من يرون أن ثمة ترادفاً كاملاً بين الرؤية المادية من ناحية والرؤية العلمانية من ناحية أخرى، ومن ثم فكلمة «علماني» في تصورهم مرادفة لكلمة «ملحد» أو «معاد للدين والأخلاق» أو حتى «إباحي» .

تعريف مفهوم "العلمانية" فى العالم الغربى

من أهم المعاجم المتخصصة التي حاولت أن تتوجه لمشلكة مفهوم «العلمانية والعلمنة» معجم علم الاجتماع المعاصر Dictionary of Modern Sociology لمؤلفه توماس فورد هولت Thomas Ford Hoult الذي أورد ثلاث مواد لها صلة بمصطلح «العلمانية» : «علماني Secular» و «علمنة Secularization» و «مجتمع علماني Secular Society» . وقد بيَّن المعجم أن كلمة «علماني» لها عدة معاني:

1 ـ الدنيوي؛ غير الروحي؛ وغير الديني؛ ومن هنا يقف العلماني على طرف النقيض من المقدَّس.

2 ـ ينتمي إلى ما هو عقلاني أو نفعي بشكل خالص أو أساسي.

3 ـ تُستخدَم كلمة «علماني» أحياناً بمعنى «مُدنَّس» أو «غير مُقدَّس» . ولكن الكلمة الأخيرة تعني «المعادي للدين» (بالإنجليزية: أنتي ريليجيوس anti-religious) بينما كلمة «علماني» تعني في واقع الأمر «لا علاقة له بالدين» (بالإنجليزية: نان ريليجيوس non-religious) .

ص: 473

4 ـ تُستخدَم الكلمة أحياناً للإشارة إلى تَراجُع وانحسار الإيمان بالعقائد الدينية التقليدية في مرحلة معيَّنة. ثم أورد المعجم ما قاله ج. م. ينجر Yinger في الموضوع: "من الأكثر حكمة في تقديري أن نستخدم كلمة «علمانية» لنشير إلى الاعتقاد والممارسات التي لا علاقة لها بالجوانب غير النهائية (بالإنجليزية: نان ألتمييت non- ultimate) للحياة الإنسانية. ومن ثم فالعلمانية ليست معادية للدين، ولا هي بديل عن الدين، إنها هي مجرد قطاع واحد من قطاعات الحياة".

ثم انتقل المعجم إلى مدخل «العلمنة» فبيَّن أن ثمة ستة استخدامات أساسية في العلوم الاجتماعية (نقلها المعجم عن مقال للاري شاينر Larry Shiner بعنوان "مفهوم العلمنة في البحوث التجريبية") :

1 ـ انحسار الدين وتَراجُعه ("الرموز والعقائد والمؤسسات [الدينية المهيمنة] تفقد مكانتها ونفوذها" (.

2 ـ التركيز على الحياة المادية في الوقت الراهن بدلاً من [التطلع إلى] مستقبل روحي ("إن ذروة عملية العلمنة هي مجتمع مُستوعَب تماماً في مهام الحاضر العملية") .

3 ـ الفصل بين المجتمع والدين ("إن ذروة هذا النوع من العلمنة هو ظهور عقيدة [دينية] ذات طابع داخلي [جواني] محض، لا تؤثر لا في المؤسسات ولا في الأفعال الجماعية") .

4 ـ اضطلاع منظمات غير دينية بالوظائف الدينية ("المعرفة وأنماط السلوك والترتيبات المؤسسية التي كان يُنظَر لها [في مرحلة سابقة] باعتبارها تستند إلى القوة الإلهية، يُعاد النظر فيها لتصبح ظواهر من إبداع الإنسان وحسب، فتقع تبعتها على الإنسان وحده" (.

5 ـ اختفاء فكرة المقدَّس ("يفقد العالم تدريجياً طبيعته المقدَّسة عندما يصبح الإنسان والطبيعة خاضعين للتفسيرات السببية العقلانية وللتوظيف" (.

ص: 474

6 ـ إحلال المجتمع العلماني محل المجتمع المقدَّس ("أي العمليات التي يتحول المجتمع من خلالها من مرحلة يُنظَر فيها لسائر الظواهر ذات المعنى باعتبارها مقدَّسة، إلى مجتمع ينظر لجميع الظواهر تقريباً من منظور نفعي، ومن ثم يمكن نبذها حين ينتهي نفعها" (.

) وتعريف «المجتمع العلماني» هو امتداد لكل الاستخدامات السابقة وخصوصاً الأخيرة، فالمجتمع العلماني هو المجتمع الذي يقوم أعضاؤه بإصدار أحكامهم على جميع العمليات ذات المعنى والمعايير والعقائد وعوامل الترابط انطلاقاً من قيم نفعية رشيدة (.

وبعد كل هذه التعريفات وصل محرر المعجم إلى حالة من اليأس بسبب اختلاط الدلالات، فاقتبس من مقال شاينر العبارة التالية:"إن النتيجة المناسبة التي يمكن التوصل لها [بعد دراسة] الإيحاءات المختلفة والظواهر المتعددة التي يشير لها مصطلح «علمنة» هو أن نُسقطه كليةً وأن نستخدم بدلاً منه مصطلحات مثل «ترانسبوسيشن transposition» أي «إحلال» أو «ديفرانشيشن differentiation» أي «تَمايُز» لأنها عمليات أكثر وصفية وحياداً".

وهناك عشرات من المحاولات الأخرى لتعريف مفهوم العلمانية في المعجم الحضاري الغربي. فالبعض عرَّفها بأنها «نزع القداسة عن كل شيء» ، والبعض ربطها بعمليات الترشيد المادية، وربطها فريق آخر بالتفكيك، وهكذا.

تعريف مفهوم "العلمانية" عند بعض المفكرين العلمانيين فى العالم العربى

تتأرجح التعريفات العربية لمفهوم العلمانية بين العلمانية الجزئية) (الإنسانية ـ الأخلاقية) والعلمانية الشاملة (المادية ـ العدمية) :

ص: 475

1 ـ يرى محمد عابد الجابري مفهوم العلمانية جزءاً من التشكيل الحضاري الغربي الذي يعني "فصل الكنيسة عن الدولة". ويعتبر أن مفهوم العلمانية غريب عن الإسلام لأنه يرى أن "الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة"، وعلى هذا فالعلمانية ليست قضية الفكر العربي. ولذا أكد الجابري ضرورة استبعاد مصطلح «العلمانية» من قاموس الفكر العربي لأنه لا يُعبِّر عن "الحاجات العربية الموضوعية" ويرى تعويضه بشعاري الديموقراطية والعقلانية، لأنهما يُعبِّران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي. والديموقراطية لديه تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد وحقوق الجماعات. والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج. ويؤكد الجابري أن هذه المفاهيم تتصالح مع الإسلام، "فلا الديموقراطية ولا العقلانية تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام"!

ص: 476

2 ـ ويذهب الدكتور وحيد عبد المجيد إلى أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية أو نظاماً فكرياً، وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويُميِّز الدكتور وحيد عبد المجيد بين «اللادينية» و «العلمانية» ، فهو يرى أن الصراع بين الملوك والسلطة البابوية وظهور العلم التجريبي المنفصل عن الدين وسيادة مفهوم سلطان العقل هو الذي أدَّى إلى ظهور العلمانية اللادينية. ولكن بعد الثورة الفرنسية نحت العلمانية الغربية منحى وسطياً يختلف بوضوح عن الاتجاه اللاديني ويدافع عن التسامح الديني. ولا تقوم العلمانية بهذا المعنى المعاصر على الفصل بين الدين والدولة كما هو شائع لدينا، وإنما على الفصل بين الكنيسة (أو الدين عموماً) ونظام الحكم. كما لا تقيد دور الدين في المجتمع، لأنه مجتمع حر أساسه المؤسسات الخاصة، وتتمتع فيه الكنائس والمؤسسات الدينية بإمكانات واسعة. ولذلك ظلت المسيحية نشيطة في كل الدول العلمانية، وتمارس أنشطتها الداخلية والخارجية بلا قيود ولا يتعارض ذلك مع حرية العقل، التي من نتاج رسوخ الديموقراطية قبل كل شيء.

ص: 477

- والتعريفات السابقة للعلمانية لم تعطها صفة العالمية والشمول، كما قلَّصت من نطاقها لتشير إلى المجال السياسي، وربما الاقتصادي، ولم تمتد بأية حال لتشمل المجالات الأخرى للحياة (الحياة الخاصة ـ القيم الأخلاقية ـ القيم الدينية) ومن ثم فهي تعريفات لعلمانية جزئية لا تشمل كل جوانب الواقع ولا كل تاريخ البشر، وتسمح بوجود حيز غير علماني (مطلق ـ كلي ـ نهائي ـ غائي ـ غير مادي) يسمح بانفصال الإنسان عن الطبيعة وبإمكانية تجاوزه لها، ويترك مجالاً واسعاً للمطلقات الإنسانية الأخلاقية والدينية، ولفكرة الجوهر والكليات، بل لقدر من الميتافيزيقا. ولذا فهذه العلمانية تتسم بقدر من الثنائية (غير المادي مقابل المادي ـ الإنساني مقابل الطبيعي ـ المطلق مقابل النسبي ـ الأخلاقي مقابل غير الأخلاقي ـ الكلي مقابل الجزئي ـ الثابت مقابل المتغير) كما تتسم بقدر من التعددية الحقيقية ولا تتبنَّى النماذج الواحدية الساذجة. بل يمكن القول بأن المرجعية النهائية للعلمانية الجزئية هي عادةً مرجعية غير مادية، لأن الرؤية المادية الحقة لا تقبل التجزئة ولا الثنائية ولا التجريد ولا تجاوز سطح الحركة الدائمة.

ص: 478

3 ـ ولهذا السبب نجد مفكراً علمانياً بارزاً مثل الدكتور فؤاد زكريا يصف العلمانية بأنها "الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة" ويلتزم الصمت بشأن مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد ـ الأدب ـ الجنس

إلخ) . ولكن الدكتور فؤاد زكريا في كتيبه المهم المعنون في النموذج الأمريكي يصف المجتمع الأمريكي بأنه "مجتمع مادي"، بل من "أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر" التي تُعرِّف الإنسان باعتباره كائناً "لا يعمل إلا من أجل المزيد من المال، ومن الأرباح، ومن المستوى المادي المرتفع". يرفض الدكتور فؤاد زكريا هذه المادية العدمية التي تودي بالإنسان ويضع مقابلها "القيم الإنسانية والمعنوية"، ثم يطرح رؤية للإنسان مختلفة عن الرؤية المادية التي تهيمن على المجتمع الأمريكي. فما يحرك الإنسان ـ حسب هذه الرؤية الإنسانية ـ "ليست الماديات وحدها

لأن في الإنسان قوى تعلو على السعي المباشر إلى الكسب والاقتناء"، أي تعلو على المادية. ويبدو أن هذه هي المرجعية الثنائية التي تجعل من الإنسان إنساناً.

4 ـ ويذهب محمود أمين العالم إلى أن العلمانية ليست مجرد فصل الدين عن الدولة وإنما هي "رؤية وسلوك ومنهج". وهذه الرؤية "تحمل الملامح الجوهرية لإنسانية الإنسان وتعبِّر عن طموحه [الثنائي] الروحي والمادي للسيطرة على جميع المعوقات التي تقف في طريق تقدمه وسعادته وازدهاره". كل هذا يعني أن علمانية د. العالم لا تسقط في النسبية والعدمية ولا ترفض فكرة الكل والجوهر والروح والمطلق. في هذا الإطار لا غرو أن الأستاذ العالم يرى أن العلمانية لا تُعارض الدين "بل لعل العلمانية تكون منطلقاً صالحاً للتجديد الديني نفسه بما يتلاءم ومستجدات الحياة والواقع".

ص: 479

- وقد يُقال إن كلمة "روح" هنا (كما هو الحال في كتابات الدكتورفؤاد زكريا وكثير من العلمانيين العرب) تنبع من المعجم الهيجلي حيث لا تمييز (في نهاية الأمر) بين الروح والمادة. ولكننا لسنا في نهاية الأمر والتاريخ بعد، ولذا تظل الروح (رغم كل أبعادها المادية والتاريخية) منفصلة عن المادة وحركتها، وتظل الثنائية قائمة (حتى لو كان البرنامج الفلسفي لهؤلاء الكُتَّاب يزعم أنه تَجاوزها) .

5 ـ وتقف التعريفات السابقة للعلمانية، التي تسمح بقدر من الثنائية وباستقلال الظاهرة الإنسانية، على طرف النقيض من التعريفات المادية المصمتة الشاملة الواحدية. فالدكتور مراد وهبة يجعل من العلمانية ظاهرة واحدية نسبية، فهي "تحديد" للوجود الإنساني بالزمان والتاريخ" (أي بالنسبي "دون مُجاوَزة لهذا العالم") ! ولذا يَخْلُص الدكتور مراد وهبة إلى أن العلمانية هي التفكير في "النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"، وهي نسبية مطلقة لأنها تحدد الوجود الإنساني والطبيعي، أي كل شيء. كل هذا يعني في واقع الأمر أن ثنائية الإنساني والطبيعي (والمادي والمعنوي) قد تم محوها تماماً، ويتحول الإنسان إلى كائن طبيعي (حيوان طبيعي/اجتماعي) يستنبط معلوماته من التجربة الحسية وأخلاقه من حركة الطبيعة/المادة. وكل ما هو إنساني يُرد في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى أصول مادية وتاريخية. وهذا يدخل بنا في عالم العلمانية الشاملة والواحدية المادية والنماذج أحادية الخط التي لا تعرف مطلقات ولا ثوابت ولا ثنائيات ولا منحنيات ولا خصوصيات ولا كليات. ويُلاحَظ من ثم تَراجُع الإنسان في هذا العالم المصمت واندماجه الكامل في الطبيعي وخضوعه وإذعانه له. ويرى الدكتور وهبة أن العلمانية "هي المسار الإنساني في حضارتنا"، أي حضارة كل البشر في كل زمان ومكان، أي أن العلمانية والعولمة شيء واحد. وقد قام الدكتور وهبة بالدفاع عن التطبيع مع إسرائيل وتأييد تحالف كوبنهاجن بقوله

ص: 480

إن ما دفعه إلى هذا إيمانه بفلسفة التنوير القائلة بأنه "لا سلطان على العقل إلا للعقل وحده"(وهذا هو أحد تعريفاته للعلمانية أيضاً!) . (ومع هذا، رغم صلابة الدكتور وهبة وواحديته إلا أنه يتأرجح أحياناً ويتحدث عن الإنسان باعتباره مطلقاً، ومن ثم نجد رواسب ميتافيزيقية عنده لم ينجح في التخلص منها تأخذ شكل الإيمان بالطبيعة البشرية (.

6 ـ ويتغنى الكاتب السوري (المقيم في باريس) هاشم صالح بطريقة صوفية عن أوربا، فهو يتحدث عن "أوربا علمانية، متحررة، عقلانية، لا أثر للأصولية الدينية فيها"، كما يتحدث عما يسميه "معجزة الحداثة" عن "حظ أوربا أو سر تفوقها على بقية سكان العالم، ونجاحها الذي يخطف الأبصار". بعد هذه الغنائية الصوفية في وصف المعجزة العلمانية بنورها المتدفق يبيِّن لنا الأستاذ صالح مفتاح الجنة. لقد قامت أكبر ثورة علمية وروحية في تاريخ البشرية في أوربا، وأتت بما يسميه "الصورة العلمية" وهي "صورة الكون الفيزيائي الموحَّد الخاضع للقوانين (والمرجعية) الصارمة للفيزياء الرياضية، وراحت هذه الفيزياء الرياضية تُفسِّر الظواهر كافة سواء في مجال العلوم الطبيعية أم في مجال العلوم الإنسانية"، أي أن سمة الجنة هي أن الإنساني يخضع للقوانين الصارمة للفيزياء الرياضية، أي يختفي تماماً، فهذا هو المسار الطبيعي في حضارتنا.

- وكثير من التعريفات العربية لمفهوم العلمانية لا تأخذ بالتعريف الجزئي الذي يسمح بقدر من الثنائية ويقبل بوجود حيز غير علماني بجوار الحيز العلماني وحيز إنساني بجوار الحيز الطبيعي/المادي، إلا أنها لا تأخذ أيضاً بالتعريف الشامل الواحدي الصارم الذي يلتزم بالحيز العلماني (النسبي ـ المادي ـ الطبيعي.. إلخ) وإنما تتأرجح بينهما (ويُلاحَظ في كتابات بعض من ذكرناهم باعتبارهم ممثلين للعلمانية الجزئية أن تعريفات للعلمانية ترد باعتبارها ظاهرة عالمية شاملة كاسحة لا تترك أي حيز لأي رؤية أخرى) .

ص: 481

7 ـ ويرى الدكتور حسن حنفي أن العلمانية ظاهرة تنتمي للحضارة الغربية، تعني "الفصل بين الكنيسة والدولة"، أي أنه يأخذ بالتعريف الجزئي دون تَحفُّظ (ولنا أن نلاحظ أن معظم من يأخذون بالتعريف الجزئي لا يرون العلمانية باعتبارها ظاهرة عالمية وإنما يرونها نتاج المجتمعات الغربية المسيحية وخصوصيتها) . انطلاقاً من هذا التعريف يرى الدكتور حسن حنفي أن العلمانيين في بلادنا "كلهم من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام" ممن "تربوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير" ولذا كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ودعوا إلى النمط الغربي في التقدم ثم تبعهم في ذلك بعض المسلمين. وقد أدَّى ذلك بالحركات الإسلامية إلى رفض العلمانية "عن حق" وربطها "بالتغريب"، بما يتضمن ذلك من استعمار وتبشير ورفع شعار الحاكمية. فالخطأ الأول، نقل العلمانية الغربية، أحدث، في تصوره، رد فعل خاطئ وهو الحاكمية.

ويذهب الدكتور حسن حنفي إلى أن هذا الوضع قد خلق تصوراً خاطئاً بأن ثمة تعارضاً بين العلمانية والإسلام! وهنا سنكتشف أن الدكتور حنفي بدأ يترك نطاق الحضارة الغربية والعلمانية الغربية، كما بدأت العلمانية عنده تتحول إلى ظاهرة عالمية، بل حتمية، ولذا نجده يتحدث عن ذلك الجوهر العلماني للإسلام. ولا تختلف هذه العلمانية الإسلامية الجديدة كثيراً عن العلمانية الغربية إلا في أنها نابعة من الداخل وليست من الخارج. والإسلام ـ حسب تصور الدكتور حسن حنفي ـ دين علماني (بالمعنى العالمي لا الغربي)، للأسباب التالية:

أ) النموذج الإسلامي "قائم على العلمانية" بمعنى "غياب الكهنوت".

ص: 482

ب) "الأحكام الشرعية الخمسة [الواجب ـ المندوب ـ المحرَّم ـ المكروه ـ المباح] تُعبِّر عن مستويات الفعل الإنساني الطبيعي

وتصف أفعال الإنسان الطبيعية، كما يبغي العلمانيون، خارج دائرة الحلال والحرام الصوريين المفروضين من الخارج". ثمة تَطابُّق مذهل هنا بين الداخل والخارج، بين الشريعة والطبيعة، بين الإسلامي والعلماني، بين ما هو كامن في الإنسان وما هو متجاوز له، يُذكِّر المرء بمحاولة الفلسفة المثالية الألمانية بأن تحل كل مشاكلها بافتراض تَماثُل بين قوانين العقل وقوانين التاريخ وقوانين الطبيعة (وعلى كلٍ يرى الدكتور حسن حنفي أن ثمة تَماثُلاً بين المقدَّس والزمني) .

جـ) الفكر الإنساني العلماني الذي حوَّل بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان "وُجد بشكل متخفٍّ في تراثنا القديم، مغترباً في الله في علم أصول الدين، وعقلاً خالصاً في علوم الحكمة، وتجربة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه". ولنلاحظ هنا الحلول والكمون الكامل في الإنسان الذي يغترب عن جوهره في الإله المتجاوز، وكل هذا يشي بأن الدكتور حسن حنفي يقف ضد كل ما هو متجاوز للإنسان، ويحوِّل الإنسان إلى مطلق، كما فعل الأستاذ العالم والدكتور فؤاد زكريا وغيرهما من العلمانيين العرب، أي تأكيد المرجعية الإنسانية المطلقة المتجاوزة للمادة (وأثر فيورباخ على أطروحات الدكتور حسن حنفي أمر واضح) . (ولكن شبح الطبيعة/المادة رابض دائماً في كل الفلسفات ذات التوجه الهيجلي، فالإنسان في كتابات الدكتور حسن حنفي هو الإنسان الطبيعي/المادي الذي لا مرجعية له سوى المرجعية المادية، ولا عقل له سوى هذا العقل الدنيوي المادي (.

ص: 483

بعد أن تتحول العلمانية إلى ظاهرة عالمية يتسع نطاقها لتصبح علمانية شاملة تترك السياسي لتغطي كل مجالات الحياة. فالعلمانية في تَصوُّر د. حنفي لم تعد مجرد فصل الدين عن الدولة وإنما أصبحت رؤية كاملة للكون (تحويل بؤرة الوجود من الإله إلى الإنسان) و"جزءاً من الحياة اليومية". ولذا نجد أن الغرب بتبنيه العلمانية قد تبنى رؤية للكون تم بمقتضاها نفي الدين تماماً من الدساتير، بحيث لم يَعُد الدين ينظم العلاقة بين الأفراد ولا النظم التربوية، ولم يعد يُسمَح بالدعوة الدينية في أجهزة الإعلام. كل هذا يعني في واقع الأمر أن الرؤية العلمانية تغطي كل هذه المجالات وتُزوِّد الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، يمكن للقارئ أن يستخلص ملامحها من كتابات الدكتور حسن حنفي (ولعل وصفه للعناصر العلمانية في الإسلام هو أيضاً وصف لهذه الرؤية للكون (.

ص: 484

8 ـ ويُلاحَظ نفس النمط من التأرجح في كتابات الدكتور عاطف العراقي. فهو يبدأ بتقرير أن ما يُشاع عن العلمانية من اتهامات باطل: فالقول بوجود ترابط بين العلمانية والدعوة ضد الدين جاء عن سوء فهم للعلمانية، فالفصل بين الدين والدولة، والقول بأن الدين لله والوطن للجميع، لا يمكن أن يمثل اتجاهات غير دينية. ثم يسوق الدكتور العراقي تعريفاً فضفاضاً جداً للعلمانية "يتمثل معنى العلمانية أو يدور حول التمييز بين العلم من جهة والدين من جهة أخرى"، أي أنه يقبل الثنائية ووجود حيز علماني وآخر غير علماني. ومادام الأمر تمييزاً فهذا يعني أن لكل مجاله وأن هناك مجالاً للدين في المجتمع. وبالفعل يضيف الدكتور العراقي أن العلمانية "لا تدعو إلى إلغاء الدين وإنما تدعو إلى عدم الاعتراف بالسلطة الدينية" وحسب وإلى "نقد القول بإمكانية وجود حكومة دينية" وإلى «فصل الدين عن الدولة» . وضرورة "التمييز بين الدين من جهة ورجال الدين من جهة أخرى" لا يعني دمغاً أو رفضاً للدين. كل هذا يعني أن الدكتور العراقي يدور في إطار العلمانية الجزئية بلا أي إبهام. ولذا فهو يرى عدم وجود أي مجال للتعارض بين التقدم العلمي والقيم الأخلاقية المطلقة أو "مع السمو الأخلاقي الروحي"، بل يمكن أن يكون "التقدم العلمي وسيلة لنشر الأخلاق".

ص: 485

ولكن الدكتور العراقي يتحرك خارج هذا النطاق، ويبدأ الحديث عن مبدأ التنوير. وفلسفة التنوير فلسفة عقلانية مادية شاملة لا تسمح بوجود مطلقات إنسانية أو أخلاقية أو دينية. ثم تدريجياً يتحوَّل هذا العقل إلى المطلق والمرجعية النهائية "فالعقل والعقل وحده هو الركيزة الكبرى" و"إذا أردنا أيديولوجية لفكرنا العربي فلابد أن يكون شعارها تقديس العقل". وفي لغة صوفية جذابة يقول د. العراقي: إن العقل "يمثل النور والضياء واليقين". ونحن نعرف من كتابات الدكتور العراقي الأخرى أن هذا العقل الذي يتم تقديسه هو العقل المادي، وهو عقل عالمي مجرد يقوم على الإيمان بالثقافة الخالدة "الثقافة الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان". وكما هو الحال دائماً، حينما نصل إلى هذه الدرجة من العولمة والكوكبة نكتشف أننا في رحاب العالم الغربي، باعتبار أن الحضارة الغربية الحديثة هي أعظم تجلٍ لهذا العقل. "فعلى أساسه أقامت أوربا حضارتها". ولذا "لا تنوير بدون نشر مبادئ الحضارة الغربية". وهكذا ينتهي الأمر بنا إلى تعريف العلمانية بأنها التحديث على النمط الغربي ونشر مبادئ الحضارة الغربية، وهي علمانية شاملة، تتغلغل في مجالات الحياة كافة، ولا تعرف أية مطلقات من أي نوع، وتمحو أي حيز أو خصوصية تحاول أن تستقل عنها.

ـ ويُعدُّ الدكتور عزيز العظمة من أهم الدارسين العرب لظاهرة العلمانية وتتبدَّى كل الاتجاهات (الجزئية ـ الشاملة ـ المتأرجحة) في كتاباته. فهو يصل بالخطاب العلماني العربي إلى كثير من نتائجه المنطقية. إلا أن الدكتور العظمة يعود ويضيف بعض المطلقات الأخلاقية ثم يعود مرة أخرى للنسبية المطلقة، وهكذا.

ص: 486

يبدأ الدكتور العظمة في عالم التعريفات الجزئية حين يقول: "تعني العلمانية الاستقلال النسبي للمجتمع المدني عن التحكم الرسمي به وبحياته العامة ومعاملاته ومبادلاته وفقاً لمبادئ دين الأكثرية وعقائده وشرائعه.. إلخ، كما تعني المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الإثنية، كما تعني صياغة حرية الضمير والمعتقد للجميع". ويُعرِّف الدكتور العظمة ما يسميه «وجه العلمانية السياسي» بأنه عزل الدين عن السياسة، ويُلخص ما يسميه «وجهها المؤسسي» بأنه اعتبار المؤسسة الدينية مؤسسة خاصة كالأندية والمحافل (أو "كنوادي الشطرنج" إن أردنا استخدام الصورة المجازية التي استخدمها ماكسيم رودنسون، وهي أكثر دقة ودلالة) .

لكن تلخيص د. العظمة لرؤيته على هذا النحو هو تلخيص مبتسر، يتجاهل كثيراً من التضمينات الفلسفية لخطابه. ولذا نجده بعد لحظات التعثر الأولى يطرح هذه التعريفات الجزئية المستأنسة جانباً ويتبنى تعريفاً شاملاً يُمثِّل موقفه الفلسفي، فيُعرِّف ما يسميه «وجه العلمانية المعرفي» بأنه "نفي الأسباب الخارقة عن الظواهر الطبيعية والتاريخية"، وهو ما يعني الاكتفاء بالأسباب المحسوسة المادية وقوانين الحركة. كل هذا يعني الإيمان بـ "دنيوية هذا الواقع، وحركيته وتحولاته"، أي ماديته الكاملة (مرجعيته المادية الواحدية) ، ولذا فهو لا يتوجه للقضايا الفلسفية التي تقع خارج نطاق هذه الحدود المادية الواضحة، فيُنكر من ثم وجود الماهيات والمطلقات والكليات والغائيات (باعتبارها أشكالاً من الميتافيزيقا، "ظلال الإله" حسب تعبير نيتشه) .

ص: 487

ثم يُعانق العظمة حالة السيولة بحماس بالغ. ويُعرِّف العلمانية بأنها تؤكد "أولوية اللانهائية"، أي اعتبار حركة المجتمع حركة مستمرة لا نهايات ولا غائيات لها، "حركة منفتحة أبداً على التحول". ولذا فهو لا يرفض الرؤى الميتافيزيقية وحسب، وإنما يرفض أيضاً "الرؤى الماهوية"، أي أنه يقفز قفزة واسعة إلى عالم ما بعد الحداثة، ومن ثم فلابد أن يرفض تعريفات محمود أمين العالم وفؤاد زكريا وحسن حنفي (وربما عاطف العراقي) التي لا تزال تدور في إطار بعض المفاهيم الإنسانية العتيقة البالية مثل المطلق والجوهر والكل، ومثل هذه الأمور التي تتسم بالثبات والصلابة، والتي لا تزال تمنح الإنسان مركزية ليس لها ما يبررها، من منظور الحركة المادية المتدفقة.

وتظهر نفس المادية والحركية والسيولة حينما يتحدث العظمة عما يسميه «وجه العلمانية الأخلاقي» ، فجوهر المنظومة الأخلاقية العلمانية هو ربطها الأخلاق لا بالثوابت وإنما "بالتاريخ والزمن"(المعطى الزمني المادي المباشر ـ الأمر الواقع ـ الظروف الموضوعية) . ولكنه يحاول بعد ذلك تدارك الأمر فيتحدث عن "ربط الأخلاق والوازع بالضمير بدلاً من الإلزام والترهيب بعقاب الآخرة". لكن لابد لنا أن نفهم هذا كحديث عن آليات وحسب، فالتغير والحركية هما سنة الوجود العلماني، ومصدر الأخلاق (كما أكد لنا الدكتور العظمة من قبل) هو التاريخ وحركية المجتمع التي لا غائية لها، ولذا من حقنا أن نتساءل لماذا يشكل الضمير استثناء داخل "دنيوية هذا الواقع، وحركيته وتحولاته"؟

ص: 488

ويتسع نطاق العلمانية ويصل إلى درجة كاسحة حين يؤكد لنا العظمة أن العلمانية تتبدَّى في تاريخ الإنسانية بأسره فهي ذات "وجهة تاريخية، على نحو مقرر، لا انفكاك عنه أو على جميع الصعد". وهذه لغة هيجلية، لغة نهاية التاريخ التي لا تُبقي ولا تذر، تُذكِّر الدارس بفلسفات القرن التاسع عشر التي كانت تحاول تفسير كل الظواهر بردها إلى عنصر واضح حاسم، وتُدخِله كله منظومة عضوية واحدة لا تتخللها أية ثغرات أو أي شكل من أشكال عدم الانقطاع. وبالفعل نكتشف أن العلمانية في كتابات الدكتور عظمة هي "العالمية"(أو "الزمانية العالمية" في رواية أخرى) وأن مسيرة التاريخ الكوني آيلة إلى العلمانية وهو أمر "تمليه القيم العالمية". وإن تساءلت عن مضمون هذه القيم، جاءتك الإجابة أن "الكونية الفكرية مؤسسة على مركب علماني من النفعية والعلموية والتطورية". (هل التطورية هذه محاولة لبقة من جانبه لتحاشي وجه الداروينية القبيح؟) . مهما كان الأمر فإن الفلسفات الثلاث التي ذكرها فلسفات ذات مرجعية زمنية مادية لا تُهمِّش الدين وحسب وإنما تُهمِّش القيم الأخلاقية والغائيات الإنسانية وفكرة الكل وأي شكل من أشكال الثبات وأي شكل من أشكال الخصوصية، فهي "كونية" و"عالمية" و"حتمية".

ومشكلة المشاكل بالنسبة لنا (نحن المتمسكين بالقيمة وبالخصوصية والغائيات الإنسانية) أننا لا نعرف الحتميات التاريخية اليقينية التي بيَّنها الدكتور العظمة. فإذا كانت مسيرة التاريخ الكوني آيلة إلى العلمانية بمعناها الشامل (كنفعية وعلموية وتطورية) ، فمسيرة التاريخ الثقافي العربي محكومة بهذا المسار. ولذا بدلاً من أن نسبح مع التيار وبدلاً من أن نلقي بأنفسنا (في سعادة غامرة، محايدة وموضوعية) في السيل الدفاق للعالمية والكونية (ونزع الخصوصية) وبدلاً من أن نتصالح مع الحتمية التاريخية لهذه السيولة، تجدنا نشعر بعُقَد النقص تجاهها.

ص: 489

ولكن المشكلة ـ في تصوُّرنا ـ أننا إن قررنا أن نسبح مع هذا التيار العالمي الحتمي سنكتشف أنه في واقع الأمر غربي (تماماً كما بيَّن لنا الدكتور العراقي) . فثمة تَرادُف بين العالمية والغرب، فالواحد هو الآخر. وهو أمر مفهوم تماماً في إطار النموذج الأحادي الاتجاه (يوني لينيار unilinear) (والنماذج المادية لابد أن تكون أحادية صلبة أو ذرية [بالإنجليزية: أتومتستيك atomistic لا مركز لها) . فثمة نقطة واحدة، عالمية نهائية سننتهي فيها جميعاً. وهناك من خضع للحتمية وحث الخطى (مثل أهل الغرب) فوصل إلى أرض الموعد والمنتهى، ولكن هناك من يمارس عُقَد النقص ويقاوم. ولذا ينصحنا الدكتور العظمة، بدلاً من أن نضيع الوقت ونكد ونتعب، أن نُوجِّه أنظارنا حيث نجد تطبيقاً متبلوراً للقوانين العالمية العامة الحتمية، فتبني المُثُل الغربية هو تبني المُثُل العالمية، والمُثُل العالمية (كما بيَّن لنا هاشم صالح) تعني سيادة القوانين المادية الطبيعية العالمية التي لا تعرف المكان أو الزمان أو الغائيات الإنسانية أو الخصوصيات القومية (فهي "زمانية عالمية") تحوِّل الإنسان إلى كيان طبيعي/مادي لا يختلف كثيراً عن الكائنات الطبيعية/المادية الأخرى، يسري عليه ما يسري عليها من قوانين. ومن ثم يمكن تطبيق النماذج الكمية أحادية الخط العالمية. وهكذا ننتهي بإنكار، لا الميتافيزيقا وحسب، وإنما الإنسان المتجاوز للطبيعة ولمفهوم الكل والماهية.

وثمة مشكلات أساسية في التعريفات السابقة، الجزئي منها والشامل، نورد بعضها فيما يلي:

أ) تعاملت معظم التعريفات مع التعريفات المعجمية العامة للكلمة وأصولها اللغوية واشتقاقاتها ومعناها، ولم تتعامل مع مدلول الكلمة في معاجم علم الاجتماع أو علم الفلسفة، كما لم يتصد أحد تقريباً لتطوُّر الحقل الدلالي للكلمة.

ب) أهملت معظم التعريفات قضية المرجعية النهائية للكلمة (والمفهوم) ، وميتافيزيقا العلمانية الكامنة.

ص: 490

جـ) تعرضت كثير من التعريفات للعلمانية باعتبارها أساساً ظاهرة غربية وحسب.

د) تناولت معظم التعريفات إشكالية الأصول، أي كيف نشأت العلمانية في الغرب، ولكنها أهملت دراسة المجتمعات العلمانية المختلفة في الغرب (باعتبارها الترجمة الفعلية للنموذج العلماني) .

هـ) تجاهلت معظم التعريفات الظواهر المصاحبة لظهور العلمانية مثل الإمبريالية والاستهلاكية والحروب العالمية والحركات الشمولية ولم تحاول اكتشاف ما إذا كان ثمة علاقة بين تصاعد معدلات العلمنة في المجتمع وتزايد مركزية هذه الظواهر وهيمنتها.

و) لم تحاول أي من التعريفات دراسة النظريات الاقتصادية والسياسية المختلفة، خاصةً المعادي منها للإنسان (النظريات التنموية ـ نظريات الدولة ـ نظرية المواطن) وعلاقتها بالعلمانية.

ز) لم يُناقش أي من التعريفات بعض المسلمات النظرية الأساسية التي تُعَدُّ ترجمة مباشرة للرؤية العلمانية مثل الماكيافيلية والهوبزية والداروينية والفرويدية ونظرية بنتام في المنفعة.

ح) لم يُناقش أي من التعريفات المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في العلوم الإنسانية الغربية لوصف بعض جوانب المجتمعات العلمانية الحديثة مثل الاغتراب والتشيؤ والتسلع والأنومي (اللامعيارية) .

ط) لم يتناول أي من التعريفات الحركات الفنية والأدبية الحديثة وعلاقتها بتصاعد معدلات العلمنة.

ي) ولكن من أكثر الأشياء غرابة أن أياً من التعريفات لم تحاول أن تربط بين العلمانية وتاريخ الفلسفة في الغرب، ولم يحاول أي من الدارسين أن يُبيِّن علاقة البنيوية (التي تميت الإنسان على حد قول جارودي) ، وما بعد البنيوية (التي تحاول أن تذيبه) ، بالعلمانية. الجميع قد يشير إلى كانط وربما إلى هيجل، ولكن الجميع يبتعد عن نيتشه ودريدا ومن ثم لم يتناول أي منهم قضية العدمية والفوضوية.

ص: 491

ك) لم تتناول أي من التعريفات الحياة اليومية في المجتمعات العلمانية في الوقت الحاضر، وماذا حدث للإنسان بعد أربعة قرون من ازدهار العلمانية وترعرها في المجتمعات الغربية (ظهور ثقافة شعبية منحطة ـ انتشار العنف ـ انتشار المخدرات ـ أمركة العالم) .

ل) لم يتعرض أحد للتراث الغربي الثري في نقد العلمانية وما بعد الحداثة، فهم يلزمون الصمت تجاهه، أو يدرسونه ويعرضون له في دراسات تبيِّن مدى "موضوعية" الغرب و"مدى مقدرته على تصحيح أخطائه" دون أن يستوعبوا هذا النقد في تعريفهم للعلمانية.

وما حدث هو أن دارسي العلمانية فصلوا المصطلح (والظاهرة) عن غيره من المصطلحات بحيث تحولت العلمانية من كونها رؤية للكون (بالألمانية: فلتنشوونج Weltanschauung) إلى ظاهرة مستقلة من ضمن ظواهر عديدة، لها تاريخ مستقل. بل الأسوأ من هذا أن تاريخ العلمانية أصبح جزءاً من تاريخ الأفكار فتجمد المصطلح وانفصل عن مضامينه التاريخية والحضارية، وأصبحت العلمانية، في كثير من الدراسات، برنامجاً إصلاحياً أو برنامجاً تآمرياً وتم تجاهل عمليات العلمنة البنيوية الكامنة المسئولة الأساسية عن تحوُّل المجتمع. ثم تدهور الأمر بين أعداء العلمانية ودعاتها إذ يقول أتباع الفريق الأول:"إن العلمانية كفر وإلحاد وغزو ثقافي" ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو شراً مستطيراً. أما أتباع الفريق الثاني فيقولون: "إن العلمانية هي أن يكون الإنسان إنساناً وأن يُحكِّم ضميره ويحب الخير كنهاية في ذاته ويُدافع عنه وعن حرية الفكر والإبداع والتسامح والمحبة"، ثم يضيفون إلى هذا كل ما يبدو جميلاً ورائعاً ونبيلاً. وانطلق دعاة العلمانية يلهجون بالثناء عليها ويتحدثون عن أن لا سلطان للعقل إلا للعقل ويشيرون إلى أوربا مهد النور والعقل والعلمانية

إلخ.

ص: 492

ولا شك في أن مثل هذه التعريفات المريحة لها قيمة نفسية عالية بالنسبة لمستخدميها، فهي ولا شك تُدخل على قلوبهم الراحة ولكن ليست لها أية قيمة تفسيرية، فهي ليست بتعريفات تحاول وصف الواقع وتفسيره وإنما هي أحكام أخلاقية تعكس لنا رؤية أصحابها وموقفهم النفسي والأخلاقي من ظاهرة لم يقوموا بتعريف حدودها.

وربما كان الأجدى أن ينظروا إلى تاريخ أوربا الاستعماري من نهب وسرق وتدمير (لبلادنا ولبلاد غيرنا) ولعلهم لو فعلوا لعرفوا أن العقل لم يحكم حضارة العقل كثيراً، ولو نظروا لتاريخ أوربا المعاصر، ورأوا هتلر وستالين ومسرح العبث وسياسات النظام العالمي الجديد والعنصرية القديمة والنازية القديمة والجديدة ومادونا وأفلام العنف لأدركوا أن المقدمات العقلية للعلمانية لم تؤد دائماً إلى ازدهار العقل والمرشد.

ولكن بدلاً من مناقشة العلمانية في هذا الإطار المُركَّب أصبحت القضية: متى نشأت العلمانية وأين؟ هل العلمانية نسبة إلى العالَم أم إلى العلم؟ وهذا أمر مثير للدهشة باعتبار أن دعاة العلمانية هم في غالب الأمر دعاة لتَبنِّي مُثُل الحضارة الغربية ومن بينها الرؤية النقدية. ولعلهم لو قاموا بتعريف العلمانية مسترشدين بدراسة متعمقة للحضارة الغربية، مبينين حلوها من مرها، ولو قدَّموا لنا حساب المكسب والخسارة في التجربة العلمانية في الغرب لتم الحوار بشأن العلمانية بطريقة أكثر تركيبية ورحابة وأقل حدة.

ما بعد العلمانية

ص: 493

» ما بعد العلمانية» (بالإنجليزية: بوست سيكولايزم post-secularism) مصطلح سكه البروفسير جون كين على وزن «ما بعد الحداثة» و «ما بعد الأيديولوجيا» وغيره من المصطلحات التي تتحدث عن «ما بعد» . وكلمة «ما بعد» هنا تعني في واقع الأمر «نهاية» ، و «ما بعد الحداثة» تعني «نهاية الحداثة» ، و «ما بعد الأيديولوجيا» تعني «نهاية الأيديولوجيا» (ويظهر هذا في مصطلح «نهاية التاريخ» ) . ولكن أصحاب هذه المصطلحات آثروا أن يستخدموا الكاسحة «بوست (ما بعد) » ليشيروا إلى أن النموذج المهيمن قد فقد فعاليته، ولكن النموذج الجديد البديل لم يحل محله بعد، و «ما بعد العلمانية» تعني أن نموذج العلمانية قد دخل مرحلة الأزمة، ولكن لم يحل محله نموذج آخر. وبالفعل يتحدث البروفسير كين عن أن العلمانية لم تف بوعودها لا في العالم الأول (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية) ولا في العالم الثالث (حيث تحالفت العلمانية مع الفاشية والقوى العسكرية) .

العلمانية الفاشية

«العلمانية الفاشية» (بالإنجليزية: فاشست سيكولايزم Fascist secularism) مصطلح شاع في الآونة الأخيرة في بعض الصحف الغربية للإشارة إلى العلمانية في تركيا. فالمؤسسة العسكرية هناك هي التي تقوم بالدفاع عن «العلمانية» التي تعني في المعجم العلماني التركي «محاربة الدين» . وكي تنجز المؤسسة العسكرية هذا الهدف تلجأ للأساليب الفاشية المعروفة ومنها التهديد بقلب نظام الحكم. وقد ضغطت المؤسسة العسكرية في الآونة الأخيرة، ونجحت بالفعل، في إقصاء حكومة أربكان عن الحكم رغم أن حزب الرفاه قد حصل على عدد من أصوات الناخبين يفوق ما حصل عليه أي حزب آخر، أي أن القوى العلمانية في تركيا معادية للديموقراطية، ومن هنا تسميتها «العلمانية الفاشية» .

ص: 494