المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث: فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان - موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - جـ ١

[عبد الوهاب المسيري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية

- ‌ فكرة عن مدى شمول الموسوعة

- ‌السيرة الذاتية لمؤلف الموسوعة

- ‌ المراجع:

- ‌المجلد الأول: الإطار النظرى

- ‌الجزء الأول: إشكاليات نظرية

- ‌الباب الأول: مقدمة

- ‌الباب الثانى: مفردات

- ‌الباب الثالث: فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان

- ‌الباب الرابع: الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية

- ‌الجزء الثاني: النماذج كأداة تحليلية

- ‌الباب الأول: النماذج: سماتها وطريقة صياغتها

- ‌الباب الثانى: أنواع النماذج

- ‌الباب الثالث: النموذج الاختزالي والنموذج المركب

- ‌الجزء الثالث: الحلول الكمونية الوحدانية

- ‌الباب الأول: الحلولية ووحدة الوجود والكمونية

- ‌الباب الثانى: الحلولية الكمونية الواحدية والعلمانية الشاملة

- ‌الجزء الرابع: العلمانية الشاملة

- ‌العلمانية: إشكالية التعريف

- ‌الباب الثانى: إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم «علمانية»

- ‌الباب الثالث: نموذج تفسيري مركب وشامل للعلمانية

الفصل: ‌الباب الثالث: فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان

‌الباب الثالث: فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان

تؤكد العقلانية المادية عناصر التجانس والتكرار والكم والسببية والآلية، ولذا فهي تتسم بمقدرة عالية، نوعاً ما، على رصد حركة الأشياء ودراستها. فالعقلانية المادية تتحرك في إطار الواحدية المادية التي تخضع لها الأشياء، أما الإنسان فهو ظاهرة تتجاوز حدود الواحدية المادية. ولذا، فإن سلوكه، سواء في نُبله أو ضعته، في بطولته أو خساسته، ليس ظاهرة مادية محضة وإنما ظاهرة مركبة لأقصى حد:

1 ـ فعقل الإنسان له مقدرات تتحدى النموذج التفسيري المادي، حتى أننا نجد عالماً مثل تشومسكي ينكر تماماً أن عقل الإنسان مجرد صفحة بيضاء سلبية (وهو الافتراض الوحيد المتاح أمام الماديين) وإنما هو عقل نشيط يحوي أفكاراً كامنة فطرية. ولذا، نجد أن تشومسكي يتحدث عن «معجزة اللغة» باعتبارها ظاهرة لا يمكن تفسيرها في إطار مادي وإنما لابد من تفسيرها في إطار نموذج توليدي يفترض كمون المقدرة اللغوية في عقل الطفل بما يعني أن العقل ليس مجرد المخ، مجموعة من الخلايا والأنزيمات. ويقدم جان بياجيه رؤية توليدية لتطور الإنسان وتطوُّر إحساسه بالزمان والمكان. وتزايد الاعتماد على النماذج التوليدية، مقابل النماذج التراكمية، هو دليل على تراجُع النموذج المادي.

ص: 153

2 ـ ثم نأتي إلى مشكلة الفكر. يدَّعي الماديون أن الفكر صورة من صور المادة أو أثر من آثارها (فالعقل صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية وتتحول إلى أفكار كلية بطريقة آلية) . وهي مقولة قد تبدو معقولة ولكنها تخلق من المشاكل أكثر مما تحل. والسؤال هو: لماذا يأخذ الفكر هذه الصورة بالذات؟ ولماذا تختلف أفكار شخص عن أفكار شخص آخر يعيش في نفس الظروف؟ وهل الأفكار عصارات وأنزيمات تتحرك أم أنها شيء آخر؟ وما علاقة المؤثر المادي بالاستجابة الفكرية أو العاطفية؟ ولنأخذ فكرة مثل «السببية» . المعطيات الحسية المادية غير مترابطة ولا علاقة لها بأية كليات، ومع هذا يُدرك العقل الواقع لا كوقائع متناثرة وإنما كجزئيات تنضوي تحت كلٍّ متكامل، ولا يمكن أن يتم الإدراك إلا بهذه الطريقة، ولذا نجد أن الماديين (في عصر ما بعد الحداثة) ينكرون تماماً فكرة الكل، ويعلن نيتشه موت الإله الذي يعني في الواقع نهاية الكل. وهجوم الماديين والطبيعيين على الكل أمر مُتوقَّع، ففكرة الكل تُذكِّرنا بمعجزة الإنسان الذي يتجاوز النظام الطبيعي وحركة الأنزيمات والذرات والأرقام، ومن ثم فإنها تخلق ثنائية فضفاضة تستدعي مرجعية متجاوزة للنظام الطبيعي هي الإله. فالكل يؤكد تجاوز الإنسان، وتجاوز الإنسان يؤكد وجود الإله كمقولة تفسيرية معقولة. ولذا، لابد أن تهاجم هذه الفلسفة فكرة الكل حتى يعود الإنسان إلى الطبيعة ويُستوعَب فيها. وهكذا بدأت المادية بمحاولة تحطيم خرافة الميتافيزيقا، وانتهت بالهجوم على فكرة الحقيقة نفسها.

ص: 154

3 ـ وهناك حس الإنسان الخُلقي والديني، والجمالي، وقلقه، وتساؤله عن الأسئلة النهائية الكبرى. وهي أحاسيس لا يمكن تفسيرها على أساس مادي، فالأمر أكثر صعوبة من مجرد تفسير وجود الأفكار. وكما ينتهي الفكر المادي بإنكار الفكر، وإنكار الكل، فهو ينكر أيضاً الحس الخُلقي والجمالي ويُسقط الأسئلة النهائية. وعلى هذا، فإن عبارات مثل «القتل شر» و «هذه اللوحة جميلة» و «قلق الإنسان على مصيره في الكون» هي عبارات لا معنى لها من منظور مادي، تماماً مثل عبارة «الله رحيم» أو «الله موجود» ، فكلها عبارات لا يمكن إثباتها أو دحضها من خلال المنهج العلمي المادي.

4 ـ المادية تفشل في تفسير إصرار الإنسان على أن يجد معنى للكون ومركزاً له. والحقيقة أنه حينما لا يجد هذا المعنى، فإنه لا يستمر في الإنتاج المادي مثل الحيوان الأعجم وإنما يتفسخ ويصبح عدمياً ويتعاطى المخدرات وينتحر ويرتكب الجرائم دون سبب مادي واضح. وتزداد قضية المعنى حدة مع ازدياد إشباع الجانب المادي في الإنسان، فكأن إنسانية الإنسان لصيقة بشيء آخر غير مادي. والبحث عن المعنى عبَّر عن نفسه على هيئة فنون وعقائد. وكما يقول علي عزت بيجوفيتش، فإن "الدين والفن مرتبطان بالإنسان منذ أن وُجد على وجه الأرض، أما العلم (المادي) فهو حديث، وفشل العلم المادي (الذي يدور في إطار نماذج مادية) في تفسير الإنسان وفي التحكم فيه هو دليل فشله في إدراك الظاهرة الإنسانية وإدراك أن الحلول التي يأتي بها حلول ناقصة".

5 ـ والفلسفات المادية تدور في إطار المرجعية المادية، ولذا فإنها ترسم صورة واحدية للإنسان إما باعتباره شخصية صراعية دموية قادرة على خرق كل الحدود وعلى إعلاء إرادتها وتوظيف قوانين الحركة لحسابها، أو باعتباره شخصية قادرة على التكيف مع الواقع والخضوع لقوانين الحركة. وهذه صورة ساذجة غير حقيقية:

ص: 155

أ) الصورة الأولى تفشل في رصد تلك الجوانب النبيلة في الإنسان مثل مقدرته على التضحية بنفسه من أجل وطنه أو من أجل أبيه أو أمه، ومقدرته على ضبط نفسه من أجل مُثُل عليا.

ب) الصورة الثانية تؤكد أن الإنسان غير قادر على الثورة والتجاوز. وبالفعل، يُلاحَظ في العصر الحديث هيمنة نظم سياسية تسيطر عليها رؤى تكنوقراطية محافظة. ومع هذا، لم تنجح المادية تماماً في قمع الإنسان وتسويته بالأمر الواقع. فالإنسان لا يزال قلقاً وغير راض، وهو إن لم يُعبِّر عن قلقه من خلال الثورة الناضجة فهو يُعبِّر عن هذا القلق بأشكال مرضية.

وفي محاولة لتفسير هذه الجوانب الإنسانية غير المادية من الوجود الإنساني، يذهب الماديون إلى أن كل هذا حدث بالصدفة من خلال عملية كيميائية بسيطة ثم وصلت الكائنات بعد ذلك إلى درجة من التركيب من خلال قانون التطور. وهو ما يعني أن قانون الصدفة وقانون التطور هما القانونان الأساسيان؛ فالصدفة هي سفر التكوين أو قصة الرؤية المادية بشأن الخلق، والتطور هو تاريخها غير المقدَّس، الزمني المكاني. والتطور نفسه خاضع للصدفة وصراع القوة، فكأن الصدفة أو القوة (أو كلتيهما) محرك للكون وضمنه الإنسان. هذا التفسير المادي للأمور هو تفسير ميتافيزيقي رغم إنكاره للميتافيزيقا؛ وهو يهدف إلى سد الثغرة في النظام الطبيعي وإلى تصفية ظاهرة الإنسان وإلغاء الحيز الإنساني، ذلك لأن التفسيرات المادية غير قادرة على استيعاب أية ثنائية أو أي تركيب يتحدى النظام الواحدي المادي البسيط (فهي تفسيرات تُؤثر البساطة والواحدية على التركيب والتعددية) .

ص: 156

ولكن ليست هناك أية ضرورة لرفض مقولة الإنسان المركب الذي لا يُرَدُّ إلى المادة أو الاستغناء عنها، وخصوصاً أنها جزء من تجربتنا الوجودية وإدراكنا لذاتنا وواقعنا الإنساني. ولذا، وبدلاً من التأرجح بين العقلانية المادية التي تحاول تفسير كل شيء من خلال السببية الصلبة المطلقة من جهة واللاعقلانية المادية التي تعجز عن تفسير أي شيء من جهة أخرى، وبدلاً من الإصرار على إلغاء الثنائية نشعر (نحن البشر) بوجودها في عالمنا المادي، وذلك باسم البساطة والواحدية والتناسق الهندسي القاتل، قد يكون من الأمانة أن نُسمِّي هذا الجانب في الوجود الإنساني «الجانب الرباني» ، وعلينا من ثم أن نستدعي ثنائية أخرى ذات مقدرة تفسيرية عالية لا يمكن إلغاؤها. وبدلاً من مجرد استخدام مقولات مادية تفسيرية تفرض الواحدية على الواقع، وتُسوي الإنسان بالطبيعة والكيف بالكم وغير المادي بالمادي، يمكن استخدام مقولات تفسيرية مركبة تحوي عناصر مادية وغير مادية، كما يمكن استدعاء مدلول متجاوز للنظام الطبيعي ولقوانين المادة نصنف تحته كل الظواهر التي لا تخضع للقياس ونفسر من خلاله كل ما لا يدخل شبكة السببية الصلبة المطلقة وندرك من خلاله كل التجليات التي تظهر في عالمنا الطبيعي دون أن نتمكن من تفسير جميع جوانبها، أي مقولة غير مادية تكمِّل (ولا تَجبُّ) المقولات المادية، مقولة تتجاوز العقل المادي دون أن تحطمه، وهذه المقولة هي ما يُطلَق عليه «الإله» ؛ مركز الكون الموجود خارج المادة، والذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد، يُعنَى بدنيانا وبمسار التاريخ ولكنه ليس كمثله شيء، ووجوده تعبير عن وجود كل من الطبيعة وما وراء الطبيعة، وما يُقاس وما لا يُقاس، ووجود الإنسان كإنسان يستند إلى وجوده.

النزعة الربانية

ص: 157

نذهب إلى أن الإنسان تتنازعه نزعتان كامنتان فيه: النزعة الجنينية نحو إزالة الحدود والحيز الإنساني والهوية الإنسانية والذات المتعينة ومحو الذاكرة التاريخية والذوبان في الطبيعة/المادة والهرب من المسئولية الأخلاقية والمقدرة على التجاوز من ناحية، ومن ناحية أخرى، النزعة الربانية نحو تجاوز الطبيعة/المادة وتقبُّل الحدود والمسئولية وعبء الوعي وتأكيد الهوية الإنسانية وتركيبيتها. والنزعة الربانية تعبير عن وجود عنصر غير مادي غير طبيعي داخل الإنسان، وهو عنصر لا يمكن رده إلى الطبيعة/المادة نسميه «القبس الإلهي» ، وهو ذلك النور الذي يبثه الإله الواحد المتجاوز في صدور الناس (بل في الكون بأسره) ، فيمنحه تركيبيته اللامتناهية، ويولِّد في الإنسان العقل الذي يدرك من خلاله أنه ليس بإله، وأنه ليس بالكل، وأنه مكلف بحمل الأمانة، وأن عليه أعباء أخلاقية وإنسانية تشكل حدوداً وإطاراً له. ولكن هذه الحدود هي نفسها مصدر تميزه، فهي تفصله عن كل من الإله والكائنات الطبيعية، وتميِّزه عن هذه الكائنات بعقله ووعيه والمسئولية المناطة به. فكأن الحدود هي حيزه الإنساني الذي يمكن للإنسان أن يحقق فيه إمكانياته أو يجهضها. وهو الحيز الذي يتحول فيه الإنسان إلى كائن اجتماعي قادر على أن يرجئ رغباته ويُعلي غرائزه ولا يطلق لشهواته العنان حتى يمكنه أن يعيش مع الآخرين ويتواصل معهم، وأن ينتج أشكالاً حضارية إنسانية تتجاوز عالم الطبيعة/المادة وعالم المثيرات والاستجابات العصبية والجسدية المباشرة.

ص: 158

والإنسان الإنسان، ثمرة النزعة الربانية، يقف على طرف النقيض من الإنسان الطبيعي/المادي ثمرة النزعة الجنينية، فهو ذو هوية محدَّدة يكتسبها من خلال الحدود المفروضة عليه ولكنه لا يتمركز حول ذاته، وفي إطار المرجعية المتجاوزة يمكنه تأكيد إنسانيته لا بالعودة إلى ذاته الضيقة (الطبيعية) والرغبة في التحكم في الكون، وإنما بالإشارة إلى النقطة المرجعية المتجاوزة. وهو أيضاً لا يفقد ذاته ولا يتمركز حول الموضوع (الطبيعة/المادة) ، أي أنه لا يتأرجح بين الواحدية والثنائية الصلبة ولا بين الصلابة والسيولة. فوجود المركز المتجاوز ضمان لأن يحتفظ بهويته وذاته ولا يغوص في حمأة المادة ولا يذعن لقوانينها وحتمياتها.

والإنسان الإنسان، على عكس الإنسان في الحالة الجنينية، قادر على تفسير العالم والنصوص، فاللغة ليست أيقونات تُشير إلى ذاتها، وإنما مفردات وجُمل لها قواعدها، وهو للسبب نفسه قادر على التواصل مع الآخرين، ومن ثم قادر على تجاوز ذاته والتحرك مع الآخرين داخل الحدود التاريخية والاجتماعية والحضارية، التي تشكل حيزنا الإنساني الذي نحقق فيه جوهرنا الإنساني. فهو إنسان فرد له قصته الصغيرة، ولكنها صدى للإنسانية المشتركة وللقصة الإنسانية الكبرى.

الثنائية الفضفاضة: نمط إنسانى (ربانى) عام

ص: 159

«النزعة الربانية» تعني خروج الإنسان من نطاق المرجعية الكامنة المادية ودخوله في نطاق المرجعية المتجاوزة مما يعني ظهور ثنائية أساسية لا يمكن محوها، هي ثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة. هذه الثنائية تعني زوال أية واحدية ذاتية كانت أم موضوعية. لأن في إطار المرجعية المتجاوزة لا يمكن للإنسان أن يسقط في الجنينية التي تحطم الحدود بين الكل والجزء، ولا يمكن أن يتمركز حول ذاته. كما لا يمكن للموضوع (المادي) أن يتمركز حول نفسه، إذ يظل مركز الكون خارجه. وثنائية الخالق والمخلوق الفضفاضة ينتج عنها ثنائية أخرى هي ثنائية الإنسان والطبيعة، فالإله يزود الإنسان بالعقل الذي يميِّزه عن سائر الكائنات، وهذا ما يجعله إنساناً إنسان (أو إنساناً ربانياً) ، أي إنساناً غير طبيعي/ مادي، له جوهره الإنساني المتميز عن الطبيعة/المادة، يعيش في الحيز الطبيعي/المادي نفسه ولكنه قادر على تجاوزه وتجاوز ذاته الطبيعية. وهذا الكائن الذي يحوي داخله الأسرار، يستعصي على التفسيرات الطبيعية/المادية ولا يمكن اختزاله أو رده إلى مبدأ واحد ولا يمكن التحكم فيه تحكماً كاملاً، إنه إنسان يبحث عن المعنى في الكون ولا يستسلم للعبث أو العدمية أو الواحدية المادية، إنسان حر قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسئولية، ومن ثم يشكِّل ثغرة في النظام الطبيعي وتحدياً للمنظومات المعرفية والأخلاقية الواحدية المادية.

كل هذا يعني انفصال الإنسان عن الطبيعة وأسبقيته وأفضليته عليها. ولكنها تفترض أيضاً وجوده فيها واعتماده عليها واحترامه لها، فهو ليس بمركز الكون، وهو ليس سيد الطبيعة، فمالكها هو الله. ولذا فهو مستخلف فيها يتفاعل معها.

ص: 160