المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث عشر: يهود اليديشية في أوكرانيا وجاليشيا ورومانيا والمجر - موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - جـ ١١

[عبد الوهاب المسيري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامس عشر: التهجير الآشوري والبابلى

- ‌الجزء الثاني: تواريخ الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي

- ‌الباب الأول: الشرق الأدنى القديم قبل وبعد انتشار الإسلام

- ‌الباب الثانى: إسبانيا الإسلامية (الأندلس)

- ‌الباب الثالث: الدولة العثمانية وفارس بعد انتشار الإسلام

- ‌الباب الرابع: العالم العربي منذ القرن التاسع عشر

- ‌الجزء الثالث: تواريخ الجماعات اليهودية في بلدان العالم الغربي

- ‌الباب الأول: الإقطاع الغربي وجذور المسألة اليهودية

- ‌الباب الثانى: الجيتو

- ‌الباب الثالث: الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وإسبانيا المسيحية

- ‌الباب الرابع: فرنسا

- ‌الباب الخامس: إنجلترا

- ‌الباب السادس: ألمانيا

- ‌الباب السابع: النمسا وهولندا وإيطاليا

- ‌الباب الثامن: بولندا قبل التقسيم (ظهور يهود اليديشية)

- ‌الباب التاسع: بولندا من التقسيم حتى الوقت الحاضر

- ‌الباب العاشر: روسيا القيصرية حتى عام 1855

- ‌الباب الحادى عشر: روسيا القيصرية حتى اندلاع الثورة

- ‌الباب الثانى عشر: الاتحاد السوفيتي

- ‌الباب الثالث عشر: يهود اليديشية في أوكرانيا وجاليشيا ورومانيا والمجر

الفصل: ‌الباب الثالث عشر: يهود اليديشية في أوكرانيا وجاليشيا ورومانيا والمجر

‌الباب الثالث عشر: يهود اليديشية في أوكرانيا وجاليشيا ورومانيا والمجر

أوكرانيا

Ukraine....

كلمة «أوكرانيا» تعني «منطقة الحدود» . وتُعَدُّ منطقة أوكرانيا من أهم المناطق المرتبطة بتجربة الجماعات اليهودية في شرق أوربا (أي يهود اليديشية) ومن أهم مسارح الأحداث التي تحدَّد فيها مصيرهم، ويُطلَق على أوكرانيا أحياناً اسم «روسيا الصغرى» . وكان يهود أوكرانيا يشكلون واحدة من أكبر الجماعات اليهودية على الإطلاق حتى منتصف القرن العشرين. ثم أصبحت كلمة «أوكرانيا» تشير إلى الجمهورية السوفيتية التي كانت تحمل هذا الاسم والتي أصبحت في الآونة الأخيرة دولة ضمن كومنولث الدول المستقلة، وحدودها مختلفة عن حدود أوكرانيا القديمة (روثينيا) التي كانت تابعة لبولندا وليتوانيا، والتي قُسِّمت بعد ذلك بين روسيا وبولندا عام 1667. ثم استولى الروس عليها بأسرها عام 1793.

ويعود استقرار اليهود في أوكرانيا إلى القرن التاسع، وذلك مع انتشار وتوسيع إمبراطورية الخزر. لكن الاستيطان على نطاق واسع تم في منتصف القرن السادس عشر، مع بدايات الإقطاع الاستيطاني البولندي فيها. ذلك أن النبلاء البولنديين كانوا يريدون تطوير هذه المنطقة اقتصادياً بعد ضمها إلى اتحاد بولندا وليتوانيا فقاموا بتوطين عناصر يهودية تجارية تقوم باستئجار المزارع نظير مبلغ محدد فيما يُسمَّى «نظام الأرندا» . وقد تسبَّب هذا في تحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية تجارية وسيطة تعتصر الفلاحين والأقنان لصالح النبلاء الغائبين الذين كانوا يقومون بدورهم باعتصار اليهود. وقد كان التقسيم الطبقي في أوكرانيا يدعمه تقسيم إثنى وديني يزيده حدة واستقطاباً. فالفلاحون أوكرانيون أرثوذكس يتحدثون الأوكرانية، والنبلاء بولنديون كاثوليك يتحدثون البولندية، والوسطاء يهود يتحدثون اليديشية. وقد بلغ عدد اليهود في أوكرانيا، مع نهاية القرن السادس عشر، 45 ألف يهودي من مجموع 100 ألف يهودي في بولندا، زاد عددهم قبل هجمات شميلنكي إلى 150 ألفاً.

ص: 476

وحين شهد منتصف القرن السابع عشر هجمات شميلنكي، كان أعضاء الجماعة اليهودية في مركز الصراع. فقد نصت المعاهدة التي وُقعت بين شميلنكي وملك بولندا، بعد انتشار القوزاق عام 1649، على أنه «لن يُسمح لليهود بالإقامة كملاك أو كمؤاجرين ولا حتى كسكان في المدن الأوكرانية التي توجد فيها فرق قوزاق» . وبعد عامين، بعد أن ألحقت القوات البولندية الهزائم بالقوزاق، وُقعت معاهدة عام 1651 التي اعترف شميلنكي فيها بحق اليهود في أن يستقروا كسكان ومؤاجرين في ضياع جلالة الملك وضياع النبلاء البولنديين (شلاختا) ، أي أن صعود اليهود وهبوطهم كان مرتبطاً بصعود وهبوط القوة البولندية العسكرية؛ تماماً مثلما ارتبط صعود وهبوط المستوطنين الصهاينة بصعود وهبوط القوة الإنجليزية ثم الأمريكية في الشرق العربي والعالم الإسلامي.

وقد قُسِّمت أوكرانيا بين روسيا وبولندا عام 1667، فضمت روسيا الجزء الذي يقع عن يسار نهر الدنيبر، وظل الجزء الذي عن يمينه تابعاً لبولندا. وقد تعرَّض يهود هذه المنطقة البولندية من أوكرانيا لهجمات الهايدماك (وهم ورثة شميلنكي الذين كانوا يقومون بذبح البولنديين وعملائهم اليهود) . ورغم كل هذا، تزايد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في أوكرانيا، فبلغ عددهم قبل التقسيم الأول لبولندا نحو 258 ألف يهودي زاد إلى 600 ألف عام 1847. وقد بلغ عددهم في أول إحصاء رسمي (عام 1887) 1.297.268، أي 9.2% من كل سكان أوكرانيا وهي من أعلى النسب العددية التي وصل إليها أعضاء الجماعات اليهودية في أي بلد في العصر الحديث. ومما يجدر ذكره أن أوكرانيا كانت تقع ضمن منطقة الاستيطان التي كان يُصرَّح لليهود بالسكنى فيها. وكانت أوكرانيا من أخصب المناطق التي انتشرت فيها الأفكار الشبتانية والفرانكية والحسيدية.

ص: 477

ويهود أوكرانيا من أهم قطاعات يهود اليديشية، وهم يتسمون بالتميز الوظيفي والاقتصادي نفسه الذي يتسم به يهود اليديشية، بل كان تميُّزهم أكثر حدة. وعلى سبيل المثال، فإن 90% ممن يعملون في تقطير الخمور عام 1872 كانوا من اليهود. وكان معظم أعضاء الجماعة اليهودية يعملون إما في مصانع صغيرة أو يقومون بأعمال تجارية، ولكن لم يكن يوجد يهود بأعداد كبيرة في الصناعات الثقيلة. وفي عام 1897، كانت أغلبية يهود أوكرانيا الساحقة لا تعمل بالزراعة. وكان بناؤهم الوظيفي على النحو التالي:

43.

2% في التجارة

32.

2% في الحرف والصناعة (الخفيفة أساساً) .

وأوكرانيا هي المنطقة التي ولدت فيها جمعية أحباء صهيون والبيلو وكثير من المؤسسات الصهيونية الأخرى، كما ظهر فيها كثير من الحركات الثورية بين اليهود (مثل حزب البوند) .

ص: 478

ونظراً لوجود أوكرانيا على الحدود بين بولندا وروسيا والنمسا، وجد أعضاء الجماعة اليهودية أنفسهم في مفترق الطرق بين القوى المتصارعة. وربما كانت الفترة من 1917 حتى 1920 خير مثال على ذلك، فقد ألغى السوفييت منطقة الاستيطان وأسس الأوكرانيون مجلساً قومياً أعلن استقلال أوكرانيا عن روسيا وعقدوا تحالفاً مع أعضاء الجماعة اليهودية في أوكرانيا وجاليشيا لمقاومة النفوذ البولندي. وكانت المنطقة مسرحاً لصراعات عسكرية عديدة، فكان هناك في بداية الأمر جيش احتلال ألماني يحارب ضده الجيش الأوكراني تحت قيادة سيمون بتليورا الذي انضمت إليه جماعات من الفلاحين والقوزاق المؤيدين له، وكان هناك الجيش الروسي الأبيض أو جيش المتطوعين المعادي للبلاشفة تحت قيادة دينيكين، كما كان هناك بطبيعة الحال الجيش الأحمر. وقد وجد أعضاء الجماعة اليهودية أنفسهم في مفترق الطرق، فتحالفوا في بادئ الأمر مع الألمان، ذلك أنهم كانوا يتحدثون اليديشية (وهي لهجة ألمانية) ، كما أن ألمانيا كانت تعتبر يهود اليديشية عنصراً بشرياً تابعاً لها يمكنها تجنيده ضد غالبية السكان. وبعد انسحاب الألمان، وجد أعضاء الجماعة أن من صالحهم الارتباط بالنظام البلشفي، ذلك لأن قواته العسكرية قامت بحمايتهم، وهو ما زاد الشائعات القائلة بأن الثورة البلشفية ثورة يهودية. وقد أدَّى هذا إلى تأليب العناصر الشعبية الأوكرانية ضد أعضاء الجماعة اليهودية، ويُقال إنه قُتل منهم حوالي 60 ألف يهودي. ولا شك في أن ميراث اليهود التاريخي والاقتصادي في أوكرانيا كان له أعمق الأثر في توسيع الهوة بين الأوكرانيين وأعضاء الجماعة اليهودية. وانتصر البلاشفة في نهاية الأمر عام 1920، وضُمت أوكرانيا إلى الاتحاد السوفيتي. وقد رحب أعضاء الجماعة اليهودية بالضم السوفيتي.

ص: 479

وفي عام 1922، تم القضاء على كل التنظيمات الشعبية المعادية لليهود في أوكرانيا والاعترف باليديشية كلغة رسمية. وفُتحت مدارس تابعة للنظام التعليمي اليديشي السوفيتي، ولكن الآباء اليهود فضلوا إرسال أولادهم إلى المدارس التي تعلِّم الروسية حتى تيتح أمامهم فرصاً للحراك الاجتماعي. وقد اعتمدت جماعة الجوينت (لجنة التوزيع الأمريكية المشتركة) 200 ألف دولار لتشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة. وخصصت حكومة أوكرانيا أرضاً لهذا الغرض، وبلغ عدد اليهود الذين استقروا على هذه الأراضي 80 ألفاً (عام 1933) من مجموع 200 ألف يهودي استفادوا من سياسة التوطين الزراعي في الاتحاد السوفيتي. ولكن السوفييت قرروا التخلص من هذه السياسة وحاولوا توطين أعضاء الجماعة في القرم في بادئ الأمر ثم في بيروبيجان. وحينما غزا النازيون أوكرانيا في يونيه ـ يوليه 1941 واستولوا عليها، فرَّت أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة اليهودية. وقد حاولت السلطات النازية تأليب الجماهير ضد «الثورة البلشفية اليهودية» وضد اليهود، ويبدو أنهم لم ينجحوا في ذلك كثيراً.

ص: 480

بلغ عدد يهود أوكرانيا عام 1926 نحو 1.574.391 (أي 5.44% من كل سكانها) . ثم انخفض عام 1939 إلى 1.572.827 (أي 4.9%) . وانخفض هذا الرقم مرة أخرى إلى النصف تقريباً عام 1959 أي إلى نحو 840.319 (2% من سكانها) ، واستمر الانخفاض الحاد فوصل عددهم إلى 634.000 عام 1979، ووصل عام 1989 إلى 485.975 ثم إلى 276.000عام 1992. وبذا يكون قد تم تصفية واحدة من أهم الجماعات اليهودية في العالم (يذكر مصدر إحصائي آخر أن عدد يهود أوكرانيا عام 1995 هو 446.000) . وقد انخفض العدد بسبب هجرة يهود أوكرانيا داخل الاتحاد السوفيتي إلى المناطق الصناعية الأساسية في موسكو وكييف وغيرهما بعد تطبيق مشروعات السنوات الخمس. ومنذ عام 1924، بدأت عملية أكرنة المؤسسات (أي صبغها بصبغة أوكرانية) ، وصدر قرار بأن كل من يشغل وظيفة حكومية لابد أن يجيد اللغة الأوكرانية. وأدَّى ذلك إلى استقالة آلاف اليهود الذين كانوا يتحدثون اليديشية والروسية من وظائفهم. وقد أباد النازيون أيضاً بضعة آلاف من أعضاء الجماعة اليهودية. وساهمت حركة الهجرة إلى خارج الاتحاد السوفيتي، إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، في تناقص أعضاء الجماعة اليهودية، وخصوصاً من المراحل العمرية الشابة، ولذا أصبحت الجماعة اليهودية مسنَّة. كما أن معدلات الاندماج والزواج المُختلَط المرتفعة تُعَدُّ من أهم العناصر التي تؤدي إلى موت الشعب اليهودي في أوكرانيا. وكانت أوكرانيا من أهم مراكز الثقافة اليديشية، ولكن لم يَعُد هناك متحدثون باليديشية فيها إلا من كبار السن. ونظراً لارتفاع مستوى يهود أوكرانيا التعليمي، نجد أن المهاجرين بينهم يؤثرون الهجرة إلى الولايات المتحدة على الهجرة إلى إسرائيل. ولذا، نجد أن نسبة المتساقطين بينهم مرتفعة. وبعد استقلال أوكرانيا ورغم تصاعد نعرة القومية الأوكرانية إلا أن الجماعة اليهودية هناك مستقرة مندمجة، لا تشعر بقلق شديد حيال الظروف الجديدة.

ص: 481

سيمون بتليورا (1879-1926)

Simon Petlura

زعيم قومي أوكراني أسَّس عام 1905 حزب العمال الأوكرانيين الاشتراكي الديموقراطي. كان ضابطاً في الجيش الروسي. وعند سقوط الحكومة القيصرية عام 1917، انضم للرادا (المجلس) الذي أعلن استقلال أوكرانيا، ثم عُيِّن وزيراً للحرب في الحكومة الجديدة. ولكن الألمان احتلوا أوكرانيا وأقاموا حكومة عميلة، فحاربت قواته ضدهم. وحين انسحبت القوات الألمانية (1918) ، لعب بتليورا دوراً قيادياً في حركة الاستقلال، فترأس الرادا وأصبح أتمان (أي رئيس) الحكومة الأوكرانية المؤقتة، كما أصبح قائد الجيش الأوكراني وقاد المعركة من أجل استقلال أوكرانيا. واجهت قوات بتليورا جيوش البلاشفة الحمراء وجيوش الروس البيض حيث سعى كل من الجيشين إلى الاحتفاظ بأوكرانيا كجزء من روسيا. فعند انسحاب جيوش الروس البيض في 1919، وقعت أوكرانيا تحت هيمنة السوفييت. وحتى يتمكن بتليورا من التغلب على السوفييت، عقد اتفاقاً مع يوسف بيلسودسكي رئيس الدولة البولندية وأيد البولنديين في حربهم ضد روسيا السوفيتية. وقد نجح البولنديون في صد القوات السوفيتية، ولكنهم لم ينجحوا في مساعدة أوكرانيا في الحصول على استقلالها. وفي النهاية، هُزمت قوات بتليورا واستقر هو في باريس (ولكنه احتفظ بحكومته في المنفى ووببقايا جيشه) .

وإبّان هذه المعارك، هاجمت قوات بتليورا أعضاء الجماعات اليهودية، ويُقال إنها قتلت ما يزيد على ستين ألفاً. وهذا يرجع ولا شك إلى تحالف أعضاء الجماعات اليهودية مع الألمان في بادئ الأمر ثم ترحيبهم بالقوات البلشفية بعد ذلك. ولا شك في أن ميراث الأرندا والإقطاع الاستيطاني البولندي لم يكن قد اختفى تماماً، بل عزَّز الهوة بين العناصر وأعضاء الجماعة اليهودية.

ص: 482

وعقد بتليورا اتفاقاً مع الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي يسمح له بتكوين ميليشيات يهودية لحماية الجماعات اليهودية حين يعود بتليورا إلى أوكرانيا. ولقي بتليورا حتفه في باريس على يد أحد اليهود انتقاماً لليهود الذين قُتلوا في أوكرانيا.

ويشبَّه بتليورا عادةً بشميلنكي، فكلاهما كان أتمان الحكومة الأوكرانية وكلاهما كان يبحث عن استقلال بلاده، الأول ضد بولندا بمساعدة روسيا والثاني بمساعدة بولندا ضد روسيا. وفي نضالهما من أجل الاستقلال، اصطدما بأعضاء الجماعة اليهودية الذين لم تكن لهم جذور عميقة في أوكرانيا بقدر ما كانت لهم علاقات قوية بالقوة الغازية المهيمنة. والواقع أن هجوم قوات بتليورا على أعضاء الجماعات اليهودية، مثل هجوم قوات شميلنكي عليهم، له مضمون شعبي تحريري رغم وحشيته ولاإنسانيته. ولم تُحدَّد المسئولية الشخصية لبتليورا في المذابح والهجمات الشعبية. ولكن الأوكرانيين يعتبرونه بطلاً قومياً بلا منازع، ويفسرون المذابح بأنها نتيجة الفوضى التي ضربت أطنابها أثناء حالة الحرب بين عدة جيوش متصارعة.

ليتوانيا

Lithuania

ص: 483

يعود وجود اليهود في ليتوانيا إلى القرن الرابع عشر حين كان معظمهم من القرّائين (وهو ما قد يشير إلى أصولهم الخزرية) . وقد بلغ عدد اليهود في فلنا وجرودنو وكوفنو عشرة آلاف عام 1495، وكان معظمهم من الإشكناز الذين استوطنوا في بلد متخلف اقتصادياً. وقد بلغ عدد اليهود في دوقية ليتوانيا الكبرى التي كانت تضم فلنا وجرودنو وكوفنو وبرست ليتوفسك ومنسك وسمولنسك وغيرها من المقاطعات، نحو سبعة وعشرين ألفاً عام 1578، واثنين وثلاثين ألفاً عام 1676، ووصل العدد إلى 157.520عام 1766. وقد مُنح أعضاء الجماعة ميثاقاً عام 1388 لحمايتهم وضمان حريتهم حتى يَسهُل عليهم الاضطلاع بوظائفهم التجارية والمالية، وسرعان ما احتكروا التجارة الدولية والالتزام. ومع هذا، تم طردهم في الفترة 1495 ـ 1502 بسبب الصراع الذي نشب بينهم وبين النبلاء والتجار، ولكن تم السماح لهم بالعودة عام 1503 وأُعيدت إليهم حقوقهم كاملة فتمتعوا بكثير من الاستقرار. كما لعبوا دورهم، كتجار وملتزمي ضرائب، دون تدخُّل. وقد اتحدت ليتوانيا وبولندا عام 1569 بحيث أصبحتا منذ هذا التاريخ بلداً واحداً له تاريخ واحد تقريباً. وكان يهود ليتوانيا ممثَّلين في مجلس البلاد الأربعة، ولكنهم شكلوا مجلسهم الخاص عام 1623 حين أصبح لليتوانيا نظامها الضرائبي الخاص. وقد كان يهود ليتوانيا بمنأى عن هجمات شميلنكي والهايدماك، الأمر الذي ضمن لهم كثيراً من الاستمرارية والطمأنينة.

ص: 484

ومنذ عام 1795،منذ تقسيم بولندا وحتى عام 1918، أصبحت ليتوانيا جزءاً من روسيا، وقد كانت (في ذلك الوقت) مركزاً ثقافياً مهماً لليهود الإشكناز، وكانت فيها واحدة من أهم المدارس التلمودية العليا. وكانت ليتوانيا مركزاً لحركة المتنجديم والموسار، وفي الوقت نفسه مركزاً من أهم مراكز حركة التنوير. وأثناء التمرد البولندي الليتواني ضد الحكم القيصري عام 1864، وقف يهود ليتوانيا ضد حركة المقاومة وأخذوا جانب المحتل الروسي. وبعد الحرب، حصل اليهود على حقوقهم وعلى قدر كبير من الإدارة الذاتية تضمَّن حق فرض الضرائب، تحت إشراف الحكومة، وتم تأسيس مجلس قومي يهودي تحت رعاية وزارة الشئون اليهودية.

وبعد عام 1924، تقلص حق الإدارة الذاتية واقتصر على إدارة الشئون الدينية فقط، وكانت توجد عدة مدارس يهودية معظمها تدرِّس بالعبرية وبعضها باليديشية. وكان تعداد اليهود عند اندلاع الحرب العالمية الثانية 175 ألفاً، رحل 25 ألفاً منهم إلى روسيا وأبيد البعض الآخر عام 1943. وقد هاجرت أعداد كبيرة إلى جنوب أفريقيا، وبلغ عدد يهود ليتوانيا عام 1960 خمسة وعشرين ألفاً، وبلغ عددهم 6.500عام 1992. وليتوانيا هي الوطن الأصلي للحاخام إلياهو (فقيه فلنا) أهم شخصيات اليهودية الحاخامية في أواخر القرن التاسع عشر، كما أن عديداً من الزعماء الصهاينة (مثل بن يهودا وسمولنسكين) كانوا من اللتفاك، أي من يهود ليتوانيا الذين يتحدثون اليديشية بلكنة خاصة. وتوجد داخل إسرائيل الآن قطاعات من المؤسسة الدينية يُطلق عليها «الليتوانيون» ، وهم امتداد لحركة المتنجديم ويتركزون في حزب داجيل هاتورا.

جاليشيا

Galicia

ص: 485

«جاليشيا» كلمة منسوبة إلى «جاليش» ، وهي عاصمة منطقة تاريخية في جنوب شرقي بولندا وشمال غربي أوكرانيا. ويُطلَق مُصطلَح «جاليشيا الغربية» على منطقة كراكوف ولوبلين، أما «جاليشيا الشرقية» فتشير إلى باقي المنطقة التي تقع بين المجر وبولندا من جهة وإمارتي كييف وفولينيا الغربيتين من جهة، وقد ظلت مطمع جيرانها نظراً لخصوبة أراضيها وعلاقاتها التجارية المهمة. وقد ضمتها إمارة كييف عام 981 ولكنها أصبحت إمارة مستقلة عام 1087. وقد حققت جاليشيا خلال القرن اللاحق قدراً كبيراً من القوة والثراء، وقامت بضم فولينيا (أو لودوميريا) فأصبحتا إمارة واحدة هزمت كلاًّ من البولنديين والمجريين الذين حاولوا الاستيلاء عليها. لكن الخلافات والصراعات الداخلية، بين الأمراء من جهة والنبلاء الذين كانوا يمتلكون السلطة الحقيقية من جهة أخرى، أضعفت الإمارة. وفي الفترة بين عامي 1327 و1241، استولى المغول على المنطقة. ورغم أن ملك جاليشيا تم تتويجه عام 1253 على يد ممثل بابويّ، إلا أنه اضطر إلى الاعتراف بسلطة الخان المغولي. ورغم ذلك، لم يجر إخضاع جاليشيا بشكل كامل للإمبراطورية المغولية مثل سائر الأراضي الروسية. وقد انتخب نبلاء جاليشيا أميراً بولندياً لجاليشيا. وبعد وفاته، قام ملك بولندا كاسيمير الثالث (الأعظم) بضم جاليشيا إلى أراضيه عام 1349. وفي ظل حكم بولندا، استوطن النبلاء البولنديون (شلاختا) في جاليشيا وأصبحوا الطبقة الحاكمة في المنطقة، فاضطر نبلاء جاليشيا إلى تَقبُّل اللغة البولندية والمؤسسات التشريعية والاجتماعية البولندية والمسيحية الكاثوليكية.

ص: 486

وعند تقسيم بولندا للمرة الأولى عام 1772، ضمت النمسا جاليشيا الشرقية والمنطقة الواقعة في الغرب بين نهري السان والفيستولا. وفي عام 1795، تم ضم مناطق أخرى واقعة غرب وشرق نهر الفيستولا إلى النمسا. وفي الفترة التي بين عامي 1786 و1849، قامت النمسا بإدارة منطقة بوكوفينا (التي ضمتها من الدولة العثمانية) باعتبارها جزءاً من جاليشيا.

وبعد التعديلات التي أقرَّها مؤتمر فيينا عام 1815، أصبحت ممتلكات النمسا في بولندا تُعرَف باسم «مملكة جاليشيا ولودوميريا» . وفي عام 1846، تم ضم جمهورية كراكوف إلى المملكة.

ثم ألغت النمسا، خلال العامين 1848 ـ 1849 نظام الأقنان في جاليشيا، ثم أعطت لهذه المنطقة (بعد عام 1867) قدراً أكبر من الإدارة الذاتية فأصبحت وحدة إدارية مستقلة. ومع أواخر القرن التاسع عشر، بدأت تنمو حركة قومية بين السكان الأوكرانيين الذين كانوا يشكلون أغلبية سكان جاليشيا الشرقية حيث تزايد رفضهم لسيطرة الأقلية البولندية عليهم.

وتبلغ مساحة جاليشيا 77 ألف كيلو متر مربع، وتعدادها نحو 3.500.000 نسمة. وحينما احتلت القوات النمساوية جاليشيا عام 1772، كانت المنطقة تضم بين 150 ألفاً و220 ألف يهودي يعيش ثُلثهم في القرى. وكان اليهود والألمان يكوِّنون العنصر التجاري والحرفي الأساسي في المدن.

وقد بدأت النمسا بتطبيق قوانين تهدف إلى محاولة انقاص عدد أعضاء الجماعات اليهودية من خلال الطرد، والحد من الزيجات، وتقليص نشاطهم الاقتصادي. كما حُدِّدت حرية اليهود في السكنى والإقامة والانتقال، وزيدت الضرائب الخاصة على اليهود (مثل ضريبة الطعام الشرعي وشموع السبت) .

ص: 487

لكن هذا الاتجاه تغيَّر حينما بدأ جوزيف الثاني حكمه بمحاولة تحديث أعضاء الجماعات اليهودية وإصلاحهم وجعلهم نافعين، فصدرت قوانين تحظر عليهم الاشتغال ببيع الخمور أو الالتزام بجمع الضرائب أو إدارة الفنادق، كما حرم عليهم القيام بدور الأرندا. وأصبح بإمكانهم الالتحاق بالخدمة العسكرية، وأن يشغلوا الوظائف المدنية، وأن يستثمروا أموالهم في أي قطاع اقتصادي يجدونه مناسباً، وأن يكون لكل يهودي اسم عائلة أو أن يتسمَّى بأسماء ألمانية. وفُتحت المدارس العلمانية الحكومية للأطفال اليهود، كما فُتحت أمامهم المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد الجامعية. وكان يتم تشجيع اليهود على الاشتغال بالزراعة، فكان كل من يقبل منهم يُمنح قطعة أرض وقروضاً. وجرى توسيع نطاق براءة التسامح التي صدرت عام 1782 بحيث شملت جاليشيا عام 1789. وتؤكد براءة التسامح تساوي اليهود مع المواطنين جميعاً، كما تؤكد أن لهم حقوق وواجبات المواطنين، وضمنها حق التنقل والسكنى بحرية في أي مكان واختيار الوظائف التي يريدونها. وقد نُزعت جميع صلاحيات الحاخامات والقهال، فتقلص نطاق نفوذهم بحيث انحصر في الأمور الدينية وحسب، ومن ثم أُلغيت المحاكم الحاخامية. وحُظر على أعضاء الجماعة اليهودية إرسال أي نقود إلى فقراء اليهود في فلسطين أو أن يستخدموا العبرية أو اليديشية بالذات في الوثائق التجارية التي يكتبونها (منعاً للغش التجاري) . كما مُنعوا من ارتداء أزياء مميَّزة، ومن دراسة التلمود قبل الانتهاء من الدراسة في المدارس الحكومية. كما فُرض عليهم إنشاء نظام تعليمي علماني تديره الجماعة اليهودية بنفسها، ومُنحوا حق إنشاء أية مدارس يشاءون ما دامت لا تختلف عن النظام التعليمي العام.

ص: 488

وكان الحصول على شهادة مدرسية شرطاً أساسياً للحصول على رخصة زواج، بل كان على كل من العريس والعروس أن يقرآ كتاباً معيناً هو كتاب بني صهيون الذي كتبه داعية التنوير هرتز هومبرج عام 1812، ويجتاز اختباراً بالألمانية حتى تضمن الدولة أن الزوجين قد استوعبا كل الأفكار اللازمة لتحديثهم وتحويلهم إلى مواطنين في الدولة القومية. كما صدر مرسوم بأن تكون الصلوات بالألمانية بدلاً من العبرية. وفي عام 1836، قررت الحكومة أنه سيمُنع (بعد عشر سنوات) تعيين حاخام إلا بعد تلقيه دراسة أكاديمية خاصة. كما مُنعت طباعة الكتب الدينية التلمودية وكتب القبَّالاه.

وبعد ثورة 1848، بدأت أحوال عضاء الجماعات اليهودية تتحسن بشكل أكبر، فقد مُنحوا الحقوق السياسية والمدنية كافة عام 1849 وشاركوا في الحياة السياسية. وانتُخب خمسة نواب يهود عام 1874 (بين 155 نائباً في برلمان جاليشيا) ، وانتُخب الكثيرون منهم في مجالس الأقاليم، وانتُخب عشرة عُمَد يهود في عشرة مدن مختلفة.

وتحسنت أحوال أعضاء الجماعات اليهودية الاقتصادية، فاستثمر أثرياؤهم أموالهم في البنوك وأعمال الاستيراد والتصدير وتجارة الزيت. وزاد عدد اليهود من ملاك الضياع، كما دخل اليهود الخدمة المدنية والقضائية فكانوا يشكلون نحو 58% من مجموع الموظفين والقضاة. وبلغ عدد مدارس البنين 107 مدارس علمانية ينتظم فيها أربعة آلاف طالب. وساعد كل ذلك على أن يسود فكر حركة التنوير اليهودية بعض الوقت في هذه المنطقة، وأصبحت جاليشيا مركزاً للأدب المكتوب بالعبرية وساد الفكر الاندماجي بين القيادات اليهودية (وإن انقسموا إلى قسمين: أحدهما اندماجي ألماني والآخر اندماجي بولندي) .

ص: 489

غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، فجاليشيا تتميَّز بأنها لم تضم أغلبية إثنية واحدة، فكان هناك عناصر ألمانية وأوكرانية وبولندية ويديشية، كما لم تكن هناك حكومة مركزية أو رأسمالية قوية. ولذا، لم تظهر حركة قومية موحدة وإنما ظهرت حركات قومية صغيرة متنوعة. وتسبَّب هذا في ظهور جيوب اقتصادية منغلقة، فنظمت العناصر البولندية (46% من السكان) نفسها كجيب مستقل له طبيعته المستقلة ومصالحه الخاصة، كما قام الأوكرانيون (الذين كانوا يشكلون 43% من السكان) بتنظيم أنفسهم أيضاً على الأسس نفسها. وقد أدَّى كل هذا إلى خلق موقف صراعي، وإلى استبعاد أعضاء الجماعة اليهودية من الأعمال التجارية رغم أنهم عنصر تجاري بالأساس. وقد ظهر حزب اجتماعي مسيحي في النمسا قاد عملية مقاطعة اليهود، كما كان لكلٍّ من البولنديين والأوكرانيين أحزابهم القومية المعارضة لليهود والمعادية لهم. وقد زادت حدة حركة المقاطعة مع نهاية القرن، ولكن البولنديين كانوا يتحالفون دائماً مع أعضاء الجماعة اليهودية ليحتفظوا بتفوقهم العددي الضئيل على الأوكرانيين.

ومما زاد الأمور تعقيداً أن أعضاء الجماعة اليهودية تزايد عددهم، فعندما ضُمت جاليشيا إلى النمسا كان عدد اليهود 224.980 ألفاً (عام 1772) أي 9.6% من السكان، ثم زاد العدد إلى 768.845 ألفاً في عام 1890 أي إلى حوالي 11.7%. ورغم أن نسبة أعضاء الجماعة اليهودية إلى عدد السكان لم تزد كثيراً، فإن العدد الإجمالي زاد زيادة هائلة واستمر في الزيادة ليصل إلى 871.895 عام 1910. وقد تركَّز اليهود في المدن، ففي عام 1910 كان 38.8% منهم يقطنون المدن الكبرى و29.3% في المدن الصغيرة و 36.06% في المناطق القروية.

ص: 490

ولم تكن عملية التحديث تتم برضا الجماهير بل رغماً عنها، إذ كانت تُفرض من أعلى. وانضم دعاة التنوير إلى الحكومة في محاولة فرض التحديث ومن أهمهم هرتز هومبرج (وهو من تلاميذ موسى مندلسون) الذي عُيِّن مفتشاً للنظام التعليمي الجديد الذي أنشأته الدولة. وقد حاول هومبرج أن يغلق المدارس اليهودية التقليدية والمدارس التلمودية العليا (يشيفا) دون أن ينجح في ذلك. ولم ينجح التحديث في المجال الوظيفي، لأن أكثر من نصف أعضاء الجماعة اليهودية (53.5%) كانوا يعملون في التجارة والخمور والنقل، ولم يكن يعمل منهم في الزراعة والغابات سوى10.7%. وبحلول عام 1822، لم يكن يوجد سوى 836 فلاحاً يهودياً في جاليشيا بأسرها، لكن هذا العدد زاد قليلاً بعد ذلك. غير أن الصورة العامة لم تتغيَّر كثيراً. وانعكس فشل عملية التحديث والدمج في انصراف أعضاء الجماعة اليهودية عن مدارس الحكومة العلمانية. فقد قوبلت محاولة استجلاب المدرسين اليهود الألمان بمعارضة شديدة. ورغم أن المدارس والجامعات كانت مستعدة لقبول التلاميذ والطلبة اليهود بين صفوفها، فإن عدد الذين التحقوا بالمدارس كان ضئيلاً إلى أقصى درجة.

ص: 491

وانتشرت الحسيدية في جاليشيا مع منتصف القرن التاسع عشر. وكانت أغلبية يهود جاليشيا حسيدية، وهو ما أدَّى إلى تسلُّمهم قيادة العناصر الدينية، ومنها الأرثوذكس. وانضم الفريقان إلى الحرب ضد دعاة التنوير الذين لجأوا إلى الدولة لحمايتهم وللهجوم على العناصر اليهودية التي وقفت ضدهم. ولجأ الحسيديون إلى عقوبة الطرد من حظيرة الدين، ورفضوا تسجيل الزيجات اليهودية في سجلات الحكومة، ولم يلجأوا إلى المحاكم المدنية. وتملصت المعابد من دفع الضرائب المقررة عليها عن طريق إقامة العبادة سراً في منازل خاصة. وفي بعض الأحيان، كانت المعركة تأخذ شكلاً أكثر حدة. فعلى سبيل المثال، دس الحسيديون السم للحاخام الإصلاحي أبراهام آكون ولأعضاء أسرته في مدينة لفوف عام 1848، فقضوا نحبهم، وذلك لأنه أقام احتفالاً بالبرمتسفاه (بلوغ سن التكليف الديني) في المعبد (ومن المفارقات أن البارمتسفاه أصبح فيما بعد أهم المناسبات بين يهود الولايات المتحدة) . وقد كانت جاليشيا مصدراً أساسياً للبغايا اليهوديات في العالم، وربما يعود هذا إلى عدة أسباب من بينها قلقلة الأوضاع في جاليشيا وافتقارها إلى شخصية قومية محددة. كما أن جاليشيا تقف على الحدود بين شرق أوربا ووسطها، وهي محطة أخيرة لمعظم المهاجرين ومعبر لهم. كما كانت هي نفسها من أكبر مصادر المهاجرين اليهود. ولا شك في أن معدلات العلمنة السريعة والمفاجئة أدَّت إلى خلخلة الوضع الاجتماعي، وإلى ضعضعة الأسرة اليهودية. كما أن الضائقة الاقتصادية كانت تلعب دوراً مهماً هي الأخرى، لكن الانفجار السكاني زاد حدتها. وقد أدَّت كل هذه الأسباب مجتمعة إلى ضعف القيم وتيسير تجنيد الفتيات للعمل بالدعارة. ومن الطريف أن يهود النمسا كانوا يُطلقون على جاليشيا مصطلح «فاجينا جودايوروم vagina judaiourum» وهي عبارة لاتينية تعني «فرج اليهود» (ولا ندري هل كان هذا يُطلَق عليها باعتبار أنها كانت مكاناً يتوالد فيه

ص: 492

اليهود بأعداد ضخمة، أم لأنها كانت مصدراً مهماً للبغايا، أم لكلا السببين معاً؟) .

وقد أسست جماعة أحباء صهيون فرعاً لها في جاليشيا، وبدأت تظهر التشكيلات الصهيونية الأخرى حيث انتخب يهود جاليشيا عام 1907 تسعة نواب (منهم ثلاثة صهاينة) انضموا إلى المندوبين عن منطقة بكوفينا ليكوِّنوا هيئة برلمانية يهودية (لوبي يهودي) وهذه أول مرة يحدث فيها مثل هذا في تاريخ الجماعات اليهودية في أوربا. ومع هذا، ظل الاندماجيون بين اليهود يقومون بمحاولاتهم لدمج اليهود مع بقية أعضاء المجتمع.

وقد ضُمت جاليشيا إلى بولندا مرة أخرى عام 1919. ولكن، في عام 1939، بعد تقسيم بولندا بين السوفييت والنازي، تم ضم غرب جاليشيا إلى ما كان يُسمَّى «الحكومة العامة البولندية» التابعة للنازي وضُم الجزء الشرقي منها لأوكرانيا السوفيتية، وهو ما كان يعني ضم نحو 550.000 يهودي للحكم السوفيتي.

رومانيا

Rumania

جمهورية أوربية ذات أهمية خاصة في دراسة تاريخ الجماعات اليهودية في أوربا لا بسبب حجم الجماعة اليهودية الذي كان كبيراً بالقياس إلى حجم الجماعة في فرنسا وإنجلترا وصغيراً بالنسبة إلى حجم يهود روسيا وبولندا، وإنما بسبب تاريخ رومانيا ذاته ونتيجة انتقالها الفجائي من اقتصاد العصور الوسطى التقليدي الذي يتميَّز بعدم وجود سلطة مركزية إلى اقتصاد صناعي يتميَّز بظهور دولة مركزية. وهذه الفجائية توضح للدارس بشكل متبلور العملية التاريخية التي تحوَّل أعضاء الجماعات اليهودية من خلالها من جماعة وظيفية وسيطة إلى طبقة وسطى.

ص: 493

كانت رومانيا القديمة تتكون من إمارتين: مولدافيا وعاصمتها جاسي، وفالاشيا وعاصمتها بوخارست. ثم ضمت مقاطعات بكوفينا وبساربيا وترانسيلفانيا عام 1919 وتكوَّنت بذلك رومانيا العظمى. وكان الوضع السياسي في مولدافيا وفالاشيا غير مستقر بالمرة، فرومانيا، مثلها مثل بولندا، تقع وسط ثلاث إمبراطوريات عظمى متصارعة هي النمسا وروسيا (التي أخذت تلعب دوراً متزايداً في سياسة رومانيا ابتداءً من القرن التاسع عشر) والدولة العثمانية (وهي القوة العظمى التي سيطرت فعلياً على رومانيا من القرن الخامس عشر حتى عام 1829 واسمياً حتى عام 1879) . وأدَّت هذه العوامل إلى فقدان رومانيا استقلالها وإلى تبعيتها لإحدى هذه القوى مع كل ما ينجم عن التبعية من ضعف وتدهور وتخلف حضاري واقتصادي. وظلت إمارتا جاسي وفالاشيا، منذ تأسيسهما في القرن الرابع عشر حتى 1880، دون استقلال إلا في الأمور الإدارية الداخلية، بل إن تبعيتهما كانت ملحوظة في المجال الثقافي. فقد دخلت على ثقافتهما مؤثرات سلافية ثم يونانية ثم فرنسية، ولم تظهر الرومانية كلغة لها أهميتها إلا في القرن التاسع عشر، ولم يظهر أدب روماني حتى عام 1880.

وقد حكم مولدافيا وفالاشيا حكام تابعون للدولة العثمانية، كانوا في بداية الأمر جماعة وظيفية من اليونانيين المقيمين في إستنبول ثم تم اختيار الحكام، فيما بعد، من بين طبقة النبلاء المحليين (بويار) . وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان الفلاحون مجرد أقنان ملتصقين بالأرض، ولم يتم تحريرهم إلا عام 1864. وكان الاقتصاد زراعياً، من الناحية الأساسية، بل ورعوياً في بعض الأماكن. ولم تكن توجد أية مراكز للحضارة إلا في بعض الأديرة كما كان الحال في أوربا في العصور الوسطى. وكان كثير من أعضاء النخبة من البويار أميين يجهلون القراءة والكتابة، ولم تكن هناك بطبيعة الحال طبقة وسطى.

ص: 494

وقد ظل الوضع مستقراً هادئاً إلى أن وقعت الحرب الروسية العثمانية (1828 ـ 1829) التي تغيَّر بعدها الوضع في رومانيا تماماً. فقد وُقعت معاهدة أدرنة بين روسيا وتركيا عام 1829، وتحوَّلت المقاطعتان (مولدافيا وفالاشيا) بمقتضاها إلى محميتين روسيتين من الناحية الفعلية، وتم فك احتكار الدولة العثمانية للتجارة، وفُتحت حدود مولدافيا الشمالية للتجارة فزادت التجارة الدولية من نقطة الصفر تقريباً لتصبح نحو 60 مليون لي (العملة الرومانية التي كانت تعادل فرنكاً ذهبياً) عام 1839 ثم إلى 210 ملايين لي عام 1859. وكانت الطبقة المحلية من التجار والحرفيين صغيرة هزيلة للغاية، بدائية إلى أقصى حد وغير مهيأة لهذا التحول، إذ كانت تنقصها الخبرة الإدارية وفهم آليات السوق المحلية والدولية ورأس المال. ومن ثم لم يكن هناك مفر من ملء الفراغ بعنصر أجنبي يضطلع بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة. وهذا ما قام به اليونانيون والأرمن وبعض عناصر من يهود اليديشية الذين أخذ يتزايد عددهم بنسبة كبيرة.

ص: 495

ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في زيادة عدد اليهود في رومانيا أضعافاً مضاعفة، تقسيم بولندا والأحوال المتردية فيها. وقد أدَّى ذلك الوضع إلى تسلُّل الآلاف من يهود اليديشية منها، وخصوصاً أن حدود رومانيا كانت مفتوحة تماماً. وقد بلغ عدد أعضاء الجماعات اليهودية في رومانيا عام 1803 نحو 12 ألفاً، زاد إلى 18 ألفاً عام 1838، وإلى 119 ألفاً عام 1858، ثم إلى 266.652عام 1880 (أي 4.48% من السكان) . وكان مرجع هذا تدفُّق الفائض البشري اليهودي. كما أن 200 ألف يهودي كانوا يعيشون في مولدافيا التي كان اليهود يشكلون فيها ما بين 33% و44% من سكان المدن. وفي بعض المدن، كان عدد اليهود يصل إلى 55% بل إلى 60%. وكان الرومانيون يسمون هذه الهجرة «الغزو اليهودي» . وهذه الهجرة التسللية هي التي أدَّت إلى ظهور ما يُسمَّى «المتشردون اليهود» أو «المتسولون» ، وهم جماعات من اليهود كانت تهيم على وجهها من مدينة إلى أخرى (دون وظيفة محددة) تبحث عن أية وسيلة للبقاء.

ص: 496

ويُلاحَظ أن يهود رومانيا لم يكونوا عنصراً واحداً متجانساً، فرومانيا القديمة، كما أسلفنا، كانت في الأصل إمارتين أو مقاطعتين مستقلتين هما: مولدافيا في الشمال وفالاشيا في الجنوب. وكانت مولدافيا تضم يهوداً من أصل بولندي أوكراني. أما فالاشيا، فكانت تضم يهوداً نزحوا إليها من شبه جزيرة البلقان، كما كانت توجد فيها أقلية سفاردية. ثم ضمت رومانيا بعض المناطق منها بكوفينا (عام 1919) والتي كانت إقليماً نمساوياً منذ عام 1774 وكانت قبل ذلك خاضعة لتركيا (كجزء من مولدافيا) ، وكان العنصر اليهودي فيها نصفه نمساوي ونصفه بولندي. ثم ضمت رومانيا بعد ذلك بساربيا التي كانت روسيا قد اقتطعتها من موالدافيا عام 1812، وكان العنصر اليهودي فيها روسياً. أما المقاطعة الثالثة، ترانسيلفانيا، فكانت تحت حكم المجر منذ القرن الثاني عشر، واستوطنها يهود من جاليشيا ذوو توجه ألماني وكذلك عنصر سفاردي. وكانت هذه الجماعات ذات الأصول الإثنية المختلفة تنقسم، من وجهة نظر الرومانيين، إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ العنصر المحلي: ويتمثل في اليهود الذين كانوا يقطنون مولدافيا وفالاشيا منذ أمد طويل، واعتُبر هؤلاء جزءاً عضوياً من الأمة الرومانية.

ص: 497

2 ـ الهرسوفلتسي Hrisovelitzi: وهؤلاء هم اليهود الذين استوردهم النبلاء الإقطاعيون (بويار) ومنحوهم مواثيق (بالرومانية: هرسوف Hrisov) يُمنح اليهود بمقتضاها مزايا معيَّنة من بينها الإعفاء من الضرائب عدة سنين، وأرض فضاء مجانية لإقامة معابدهم ومدارسهم وحماماتهم الشعائرية ومقابرهم. وقد صدرت معظم المواثيق في الفترة 1780 ـ 1850. وعلاقة يهود الهرسوفلتسي بالبويار تشبه إلى حدٍّ كبير علاقة يهود الأرندا بطبقة النبلاء البولنديين (شلاختا) . وقد أسس النبلاء ليهود الهرسوفلتسي مدناً صغيرة (شتتلات) خاصة بهم تقريباً مثل مدينة فالتسيني (1798) وجزء من مدينة فوكساني. وقد تم تأسيس ست وثلاثين مدينة من هذا النوع في مولدافيا. كما استمرت هجرة اليهود الهرسوفلتسي حتى عام 1860.

3 ـ ولكن أعداداً أخرى من اليهود هاجرت، بعد توقيع معاهدة أدرنة، إلى إمارتي مولدافيا وفالاشيا اللتين كانتا في حاجة إلى حرفيين وصناعات ورأس مال. وقد اجتذب هذا الوضع عناصر تجارية يهودية ومسيحية من البلاد المجاورة، ولكن لم تَصدُر لهم مواثيق خاصة.

ص: 498

وكان يهود الهرسوفلتسي، وكذلك يهود المجموعة الثالثة، يرتدون الأزياء البولندية المتمثلة في القفطان والقبعة المزينة بالفرو وخُصل الشعر (إستريميل) . وقد أثروا في بقية الجماعة اليهودية، حتى أنه، مع بداية القرن التاسع عشر، كانت الجماعة اليهودية بأسرها ترتدي الزي الواحد نفسه وتتحدث اليديشية وتتبع أسلوباً واحداً للحياة، أي أنهم أصبحوا تقريباً من يهود اليديشية. وظهرت الجماعات اليهودية كما لو كانت وحدة متماسكة ليست ذات أصول مختلفة، مع أنها لم تكن كذلك في واقع الأمر، وانعكست الانتماءات الإثنية المتنوعة على علاقتهم بعضهم بالبعض الآخر. وقد تم تنظيم اليهود كجماعة يرأسها «استاروستي» (وسمي بالعبرية «روش مدينا» أي «رئيس البلد» ) وظيفته أن يحدد الضريبة التي تُفرض على اليهود. وكان الرئيس الروحي لليهود هو الحاخام باشي (وهو لقب عثماني كان يُمنح للحاخام الأكبر في الدولة العثمانية) . وقد عين السلطان أول حاخام باشي عام 1719، ولكن اليهود الروس والنمساويين كانوا من الحسيديين ويتبع كل فريق منهم التساديك الخاص به، ولذا رفضوا سلطة الحاخام باشي الروحية وطلبوا من قناصل بلادهم التدخل لصالحهم. وبالفعل، قَّلصت الحكومة عام 1819 سلطة الحاخام باشي، ثم أُلغي المنصب تماماً عام 1834. ولكن إلغاء المنصب ساهم في تصعيد حدة الصراع بين الجماعات اليهودية المختلفة.

ص: 499

إن هذا العنصر الغريب إثنياً (والذي أصبحت غربته قانونية كما سنبين فيما بعد) كان يلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة، كما كان الحال في معظم دول أوربا حتى القرن الثامن عشر وفي شرق أوربا حتى القرن التاسع عشر. ولكن الوضع في رومانيا كان متميِّزاً، إذ كان أكثر حدةً ووضوحاً عنه في أي بلد آخر، وذلك بسبب تخلُّف المجتمع واتساع الهوة بين النبلاء والأقنان وافتقار رومانيا إلى طبقة وسطى. وقد ترك هذا الوضع أثره العميق في أعضاء الجماعة اليهودية، وفي أسلوب حياتهم ومناطق سكناهم وبنائهم الوظيفي والمهني.

كان معظم يهود رومانيا يتركزون في المدن. وحسب إحصاء عام 1899، كان 79.73% منهم يعيشون في المدن ويكوِّنون 32.10% من سكان المدن في رومانيا، ولم يكن يقطن سوى 20% منهم في القرى، وكانت نسبتهم لا تزيد على 1.1% من عدد سكانها. وفي مولدافيا، كان اليهود يكوِّنون أغلبية السكان في بعض المدن فبلغ عددهم 57% من عدد سكان فاليتسيني، و50% من سكان جاسي. وكانت نسبتهم أكثر من ذلك في المدن الصغيرة، فكانوا 66.2% في جرتسا و65.6% في ميهايليني، وهذا يعني أنهم كانوا في عزلة عن السواد الأعظم من الشعب الروماني. كما كان 84% من السكان الفلاحين يعيشون في الريف. وكان اليهود هم الجماعة الوظيفية الوسيطة التي تشغل الفراغ الذي خلفه غياب الطبقة الوسطى المحلية، فتدل إحصاءات عام 1904 على أن 21% من مجموع التجار كانوا يهوداً. وفي مدن مثل جاسي، كان أعضاء الجماعات اليهودية يشكلون 75% من جملة التجار و20% من مجموع الحرفيين. وتركَّز اليهود في بعض الحرف، فكانوا يشكلون 81.3% من مجموع النقاشين أو الحفارين على الخشب والمعادن و76% من السباكين و75.9% من صانعي الساعات و74.6% من مجلدي الكتب و64% من صناع القبعات و64% من المنجدين.

ص: 500