الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثانى: الجيتو
الجيتو: تاريخ
Ghetto: History....
«الجيتو» هو الحي المقصور على إحدى الأقليات الدينية أو القومية. ولكن التسمية أصبحت مرتبطة أساساً بأحياء اليهود في أوربا. وللكلمة معنيان: عام وخاص. يعني الجيتو بالمعنى العام أي مكان يعيش فيه فقراء اليهود دون قسر من جانب الدولة، أو حي اليهود بشكل عام. ويعود تاريخ هذه الجيتوات إلى الإمبراطورية اليونانية والرومانية. أما الجيتو بالمعنى الخاص الذي أصبح شائعاً، فيعني المكان الذي يُفرَض على اليهود أن يعيشوا فيه، وقد استُخدمت الكلمة بهذا المعنى للإشارة إلى جيتو البندقية (عام 1516) . وأصل الكلمة غير معروف على وجه الدقة، فيُقال إنها حي اليهود في البندقية نسبة إلى «فلجيتو villgetto» أو «مصنع المدافع» الذي أقيم بجواره. ويُقال أيضاً إن الكلمة مشتقة من الكلمة الألمانية «جهكتر أورت Geheckter Ort» التي تعني «المكان المحاط بالأسوار» ، أو هي من الكلمة العبرية «جت» أو «جيط» بمعنى «الانفصال» أو «الطلاق» الواردة في التلمود. وربما كان أكثر الافتراضات قرباً من الواقع هو ذلك الذي يعود بالكلمة إلى لفظة «بورجيتو» الإيطالية التي تعني القسم الصغير من المدينة، أي أن كلمتي «جيتو» و «بورجوازية» مشتقتان من أصل واحد. ومن أسماء الجيتو الأخرى في ألمانيا:«يودين شتراس Judenstrasse» أي «شارع اليهود» ، أو «يودين جاسي Judengasse» أو «جاسي Gasse» فقط، أي «حارة اليهود» ، أو «يودين فيرتيل Judenviertel» ، أي «حي اليهود» . وفي البرتغال سُمِّي الجيتو «جوديا Judiaria» وفي فرنسا سُمِّي «جويفيري Juiverie» ، وفي إيطاليا سُمِّي «جيديكا Guidecca» ، وسُمِّي بالإنجليزية «جوري Jewry» . وكلها كلمات تصف اليهود باعتبارهم كتلة. والشتتل (أي المدن اليهودية الصغيرة في أوكرانيا وغيرها من بلاد شرق أوربا) هو أحد أشكال الوجود الجيتوي وأهمها على الإطلاق من منظور تاريخ الصهيونية والمسألة اليهودية في شرق أوربا، وتورد بعض المراجع اسم «حارة اليهود»
باعتباره شكلاً من أشكال الجيتو في مصر. ولكن حارة اليهود لا تختلف عن أية حارة أخرى في مصر، مثل: حارة النحاسين وحارة النصارى وحارة الروم ودرب البرابرة، وغير ذلك كثير. ولعل ظاهرة الجيتو لم تظهر في العالم الإسلامي، إلا في المغرب في أحياء «الملاح» التي كان اليهود يُعزَلون داخلها في مراحل تاريخية كانت تتسم بالتوتر. والواضح أن عدم انتشار ظاهرة الجيتو في المجتمع الإسلامي راجع للبنية التاريخية والدينية والاقتصادية لهذا المجتمع ولموقف الإسلام من الأقليات.
وفي العصور الحديثة، اكتسبت كلمة «جيتو» في اللغات الأوربية معنى قدحياً سلبياً (وحينما دخلت الكلمة العربية جاءت وهي تحمل الدلالات السلبية المرتبطة بها) . ولكن الأمر لم يكن كذلك دائماً. ولفهم تَطوُّر معنى الكلمة، لابد أن نضع الظاهرة في إطار تاريخي وإنساني عام. ولكن، قبل استعراض تاريخ الجيتو ثم بنيته، يجب التنبيه إلى أنه لا يوجد مسار تاريخي واحد لمثل هذه الظاهرة، وخصوصاً بعد القرن الخامس عشر الميلادي مع بداية ظهور التشكيلات القومية الغربية المختلفة ومع اختلاف معدلات العلمنة والتحديث والثراء والفقر والصراع الطبقي فيها. ومع هذا، سنحاول أن نقدم مخططاً عاماً آملين أن نقدم بعض السمات العامة التي تساعد على فهم الظاهرة دون أن نتجاهل قدر الإمكان عناصر التعاقب التاريخي أو السمات الخاصة للجيتوات المختلفة.
ويمكن القول بأن المجتمع الإقطاعي عامة، وبالذات في الغرب، ذو طبيعة مغلقة، لكل فرد فيه مكانه ومكانته سواء كان فلاحاً أو نبيلاً. وكان المجتمع مبنياً على الفصل بين الطبقات والاحتفاظ بمسافة اجتماعية واضحة بينها. وكان هذا الفصل من سمات التنظيم الاجتماعي المعمول به في مجتمعات العصور الوسطى الزراعية والإقطاعية في الغرب والمجتمعات التقليدية على وجه العموم. ويظهر هذا الفصل الواضح في عدم السماح للغرباء بالبقاء في المدن لأية مدة، حيث كان يتعيَّن عليهم دفع ضريبة كبيرة للحصول على حق البقاء المؤقت. وفي داخل المدينة نفسها، كان أعضاء كل مهنة أو حرفة يعيشون في أحياء مقصورة عليهم. والفصل هنا شكل من أشكال تقسيم العمل، علماً بأن معظم المهن والحرف كانت تورَّث في نفس العائلة. وهذا تأكيد للمسافة الاجتماعية اللازمة لأداء النسق وضمان أن يظل الاحتكاك بين الطبقات والأقليات والجماعات الإثنية المختلفة عند حد معقول يضمن تحاشي التفجرات بينها. كما كان وسيلة من وسائل الإدارة في غياب نظام إداري مركزي قوي. ولعل بعض هذه السمات هي التي سمحت باستمرار الجيتو حتى العصر الحديث في مدينة مثل نيويورك حيث يُوجَد حي للزنوج (هارلم) وحي للصينيين (تشاينا تاون) وحي للعرب في بروكلين وأحياء اليهود المختلفة في بروكلين وغيرها. كما توجد مناطق يُطلَق عليها «ليتل إيتالي» أي «إيطاليا الصغيرة» و «ليتل بولاند» أي «بولندا الصغيرة» ، وهكذا.
ولا يمكن أن يشكل أعضاء الجماعات اليهودية استثناء من هذه القاعدة الاجتماعية الإنسانية إذ كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة في المجتمع الغربي تضطلع بمهنة التجارة والربا، كما كانوا يُعتبَرون بمنزلة اتحادات تجارية أو حرفية تابعة للملك أو النبيل الإقطاعي الذي كان يمنحهم المواثيق التي تمدهم بالحماية والمزايا نظير ما يرتجيه من ورائهم من نفع، بل كان ينظر إليهم أساساً باعتبارهم مصدراً للربح أو أداة إنتاج وإدارة. وكان أعضاء الجماعة اليهودية غرباء بالنسبة إلى التجار المحليين، ولذا فإن وجودهم داخل المدينة نفسها كان يمثل خطورة على هؤلاء التجار. وكلما كانت شوكة التجار المحليين (والمرابين الدوليين فيما بعد) تَقوى، كان الخطر يتعاظم. ولذا، كان الجيتو هو الطريقة المثلى لحماية أعضاء الجماعة اليهودية وضمان بقائهم، أي أن الجيتو هو تعبير عن صراع بنيوي يدور في المجتمع الإقطاعي الغربي، وهو الصراع بين البورجوازية المحلية وحماة اليهود من ملوك وأساقفة ونبلاء.
واليهودي، علاوة على هذا، لم يكن وضعه محدداً داخل المجتمع الإقطاعي، إذ كان غريباً بمعنى الكلمة، غير مرتبط بالأرض ولا يقوم بالزراعة أو القتال، وهما الحرفتان الأساسيتان في مجتمعات العصور الوسطى في الغرب. وكان المجتمع الإقطاعي الذي يستند إلى الشرعية المسيحية لا يعطيه أية شرعية. ومن هنا كان الجيتو يشكل مسألة حيوية بالنسبة إليه لا يضمن بقاءه وحسب وإنما مكانته وهويته أيضاً. ومما دعم الحاجة إلى الجيتو مجموعة الشعائر اليهودية الخاصة، مثل: قوانين الطعام، وتحريم الزواج المختلط، وعدم شرب خمر صنعها واحد من الأغيار، والختان، والنصاب اللازم لصلاة الجماعة، وعادات الدفن والمدافن، وشعائر السبت.
لكل هذا، نجد أن الجيتو لم يكن قيداً يُفرَض على اليهود وإنما كان حقاً يسعون إليه ويشترونه. وكان عليهم في بعض الأحيان شراؤه مرة في العام بل أحياناً مرة كل ثلاثة أشهر. ففي عام 1084، قام الأسقف هاوتسمان، أمير مدينة سبير، بكتابة وثيقة جاء فيها أنه أراد أن يزيد عزة مدينته ومجدها فأحضر اليهود فيها وأسكنهم خارج المناطق التي يسكن فيها بقية المواطنين وأحاطهم بأسوار عالية حتى لا يضايقهم الآخرون. وحينما استعاد المسيحيون الأندلس، طالب اليهود بهذا الحق. ومن مآثر جيمس الأول، ملك أراجون، أنه منح اليهود عام 1239 الحق في أن يعيشوا في حي خاص بهم. وقد كان اليهود يعترفون بالجوانب الإيجابية للجيتو حتى أن الصلوات كانت تُقام كل عام في جيتو فيرونا احتفالاً بالذكرى السنوية لإنشائه.
والواقع أن إنشاء الجيتو، برغم أهميته القصوى من ناحية إدارة المجتمع وحماية الأقلية وضمان تسيير المجتمع دون احتكاك كبير بين فئاته وطبقاته، ساهم في عزل اليهود وتجريدهم، أي تحويلهم إلى عنصر مجرد غير إنساني. كما أن العزلة خارج المدينة، داخل الأسوار العالية، جعلت علاقتهم ببقية السكان علاقة غير مباشرة وتعاقدية تستند إلى ميثاق مكتوب، فهي إذن علاقة مالية مجردة أكثر من كونها علاقة اجتماعية. ولقد ساهم تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية تجارية، مع ما يتطلبه الأمر من حياد وتَجرُّد من العواطف، في ظهور الجيتو.
ولهذا، يمكن القول بأن الجيتو، في علاقته مع العالم الغربي، يشكل أول جيوب العلمانية والنفعية والتعاقدية الحقة في أوربا، ذلك أن العلاقات هنا لا يشوبها أي حب أو عاطفة بل هي علاقات رشيدة تماماً؛ عقلانية مادية، خاضعة للحسابات الصارمة للعرض والطلب وتنضوي داخل نسق هندسي كمي.
ومع هذا، ظل وضع الجماعات اليهودية داخل أو خارج الجيتو مقبولاً ومحتملاً وأساسياً بشكل عام. ومن المعروف أن بعض الأباطرة وبعض سكان المدن كانوا يخشون أن يهرب اليهود منهم، الأمر الذي يُعَدُّ تبديداً للثروة وفقداً لأداة مهمة من أدوات الإنتاج والإدارة. وكانت معظم الهجمات التي تُشن عليهم، حتى نهاية الألف الأول بعد الميلاد، هجمات متفرقة ذات طابع فردي. فالتاجر يقوم بوظيفة حيوية بالنسبة للمجتمع، ولكن نتيجة التحولات التي مر بها المجتمع الإقطاعي الغربي، والتي أدَّت إلى ظهور طبقات محلية مسيحية تعمل بالتجارة المحلية والدولية وبأمور المال، فَقَد اليهود كثيراً من وظائفهم وبدأوا يتجهون نحو مهنة الربا التي تجعلهم عرضة لغضب الجماهير والطبقات التي تضطر إلى الاقتراض. وتَمثَّل التعبير عن هذا التحول إبان حروب الفرنجة في وقائع فتك الجماهير والقوات الشعبية بأعضاء الجماعات اليهودية. وأدَّى هذا إلى مزيد من تجريد اليهود وعزلهم، وبالتالي أصبح الجيتو هو المكان الذي يُعزَلون فيه لحمايتهم ولضمان بقائهم. ومع فقدانهم وظيفتهم الربوية، ازدادت هامشية اليهود وازداد اتجاه الجيتو إلى الانهيار. وبدأ هذا التحول في القرن الرابع عشر الميلادي، وظهر أول جيتو قسري في ألمانيا. ووصلت عملية العزلة القسرية إلى قمتها في القرن الخامس عشر الميلادي. ومع عصر النهضة، كان الجيتو الشكل الشائع في أوربا. ويمكن الإشارة إلى أن الجيتو الذي أنشأه الملك أراجون صار قسراً عام 1390.وأصدر فرديناند وإيزابيلا عام 1480 قراراً بإحاطة أحياء اليهود والمسلمين بالجدران. وطُبِّق قرار مماثل في البرتغال. وفي بولندا، طُرد اليهود من كراكوف واضطروا إلى السكنى في ضاحية كازيمير التي أحاطوها بالأسوار للفصل بينها وبين المدينة. ومع هذا، لم يخضع يهود بولندا لهذا الحظر الذي فُرض على اليهود في الغرب، حيث كان لليهود مدنهم الخاصة المسماة «شتتل» . وأصدر البابا قراراً
بطرد اليهود من الولايات البابوية، باستثناء مدن معيَّنة صرِّح فيها بإقامة جيتوات. وأقيم جيتو روما عام 1555. وفُرض الحظر أيضاً على اليهود في جنوب فرنسا بالولايات الواقعة تحت حكم البابا، وفُرضت القيود عليهم عام 1344، ثم ظهرت الجيتوات عام 1461. وكانت تُوجَد أهم جيتوات أوربا في فرانكفورت والبندقية وروما، وفي لوبلين وبوزنان في بولندا.
وأخذت هذه العزلة في الانحسار التدريجي ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي مع الثورة المركنتالية ووصول اليهود السفارد الذين احتاجت إليهم الدول التجارية، مثل: هولندا وإنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال. وتَمثَّل هذا في تَحوُّل موازين القوى داخل الجيتو لصالح الطبقة المالية التي حلت محل الأرستقراطية الحاخامية. وبدأت هذه الدول جميعاً في تخفيف حدة القوانين التي تحد من حركة اليهود. ففي فرنسا مثلاً، كانت السلطة الحاكمة تتعامل مع يهود المارانو باعتبارهم مسيحيين مع علمها بأنهم يهود. كما يُلاحَظ أن التجمعات اليهودية الجديدة لم تكن تُوطَّن في أماكن مقصورة عليهم. وقد شهدت هذه الفترة بداية ضعف المسيحية كنسق قيمي وتَزايُد معدلات العلمنة. وساهمت هذه التحولات الاقتصادية والثقافية في زيادة تَقبُّل اليهود من قبَل مجتمع الأغلبية. ومع منتصف القرن السابع عشر الميلادي، اختفت الهجمات الشعبية على اليهود.
وفي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن التاسع عشر الميلادي، مع بدايات الثورة الفرنسية وظهور المجتمع الغربي الحديث، أخذت أسوار الجيتوات في السقوط، الواحد تلو الآخر، تحت ضغط الشعوب والحكومات الأوربية التي كانت تحاول توحيد السوق القومية. واكتسحت حركة الاستنارة والتنوير والإعتاق، في طريقها، كثيراً من هذه الجيتوات التي كانت تُعدُّ من مخلفات عصر انقضى. وبدأت الجماعات اليهودية في شرق أوربا ووسطها صفحة جديدة من تاريخها.
وكان كثير من الصهاينة يتصور أن سقوط الجيتو سيتسبب في اختفاء اليهودية، لأن وجودها حسب هذه الرؤية مرتبط عضوياً بالعزلة، وبالتالي فلابد أن يتعارض مع ظروف الإعتاق والاندماج. وبالفعل، واجه كثير من اليهود صعوبة في التكيف مع الأوضاع الجديدة. ولذا طالب الصهاينة بإنشاء دولة/جيتو (أي الدولة الشتتل) يمكن أن يمارس اليهود فيها شعائرهم وأن يحيوا حياتهم الثقافية والحضارية والقومية دون تَدخُّل من الأغيار.
وقد استخدم النازيون كلمة «جيتو» للإشارة إلى أحياء اليهود في المدن البولندية التي أُغلقت على اليهود، بحيث أصبح محظوراً عليهم الخروج من هذه الأحياء إلا بإذن من السلطة النازية. وقد سيطرت هذه السلطة على استيراد الطعام والمواد الخام، وعلى تصدير البضائع التي ينتجها الجيتو، وعلى الخدمات التي يؤديها سكانه. وكانت أدوات الإنتاج ملكية جماعية للجيتو. أما الأجر المدفوع نظير العمالة، فكان كميات من الطعام والملابس تُوزَّع على العاملين وأسرهم وكذلك الخدمات التي توفرها سلطات النازي للجيتو.
وعلى طريقة أوربا في العصور الوسطى، كان النازيون يعتبرون اليهود مصدراً من المصادر المالية للدولة الألمانية، التي تديرها فرق الصاعقة والجستابو والتي كانت تؤجر هذا المصدر إما للسلطة العسكرية وإما لشركة مدنية نظير ثمن يفوق كثيراً تكلفة الإبقاء على المصدر وإدارته، ومن ثم ظل عائد الجيتو عالياً إلى درجة كبيرة. وكانت السلطات النازية تخفض مستوى المعيشة في الجيتو إلى ما دون مستوى الكفاف، وذلك حتى تنخفض تكاليف إدارته. ومع استمرار العمالة وبذل كمية الطاقة البشرية نفسها وتَناقُص الطعام والرداء إلى ما دون حد الكفاف، كان من المتوقع أن يموت سكان الجيتو خلال ستة أو سبعة أعوام دون اللجوء إلى أي عنف. وكانت هذه الطريقة من أكثر طرق الإبادة رشداً وعملية إذ لم يكن يُبدَّد فيها أي شيء. غير أن عملية الترشيد هذه، أي توظيف الوسائل على أحسن وجه لخدمة الأهداف، تفسر تأكيد القوات النازية أهمية العمل وعلى مدى نفع اليهود لاقتصاد الحرب في ألمانيا.
وقد نجح النازيون في عملية الترشيد هذه إذ مات 19% من سكان جيتو وارسو حتى يوليه عام 1942. كما مات 35% من سكان جيتو لودز في الفترة من مايو عام 1940 حتى عام 1944، وهو ما يعني أن فترة 7 ـ 9 سنوات كانت بالفعل كافية لإبادة يهود الجيتو (وهذا دليل آخر على أن هلاك ستة ملايين في أفران الغاز أمر مبالغ فيه) .
ومما تجدر ملاحظته أن وضع الجيتو لم يكن يختلف من ناحية البنية، ومن ناحية علاقته بالسلطة المستغلة، عن وضع كثير من المستعمرات الأوربية في آسيا وأفريقيا في علاقتها بالدولة المُستعمرة، فهي الأخرى تم ترشيدها والتحكم في مواردها وصادراتها ووارداتها، كما تم توظيف كل جوانب الحياة فيها لخدمة الدولة المُستعمَرة.
ويُطلَق مصطلح «الجيتو» الآن على أحياء يهود اليديشية الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة واستوطنوا فيها. ولكن الاستخدام هنا مجازي إلى أقصى حد، ويفترض استمراراً حيث لا يُوجَد استمرار قط، فالجيتوات الأمريكية تختلف في بنائها الاقتصادي والمعماري والوجداني عن جيتوات شرق أوربا، وهي لا تختلف من قريب أو بعيد عن أيٍّ من ضواحي أمريكا حيث لا يسكنها إلا من يريد من اليهود أو المسيحيين البيض أو أي شخص يسمح له دخله بذلك، في حين يستبعد الزنوج وبعض أعضاء الأقليات الأخرى مثل أهل بورتريكو. فالحاكم هنا معياران: عرْقي ومالي. والمعيار العرْقي لا يستبعد اليهود، أما المعيار المالي فلا يستبعد أحداً سوى الفقراء.
بنية الجيتو
Structure of the Ghetto
«الجيتو» مكان داخل المدينة أو خارجها محاط بسور عال له بوابة (أو أكثر) تُغلَق عادةً في المساء. وكان من غير المصرح به لأعضاء الجماعات اليهودية، في بعض المراحل التاريخية ببعض الدول، أن يظهروا خارج الجيتو في يوم الأحد أو في أيام أعياد المسيحيين. وكان الجيتو بأسواره العالية يهدف إلى عدة أشياء متناقضة، منها: حماية اليهود كجماعة وظيفية وسيطة، وسهولة تحصيل الضرائب منهم، ومراقبتهم وعزلهم وفصلهم عن الأغلبية المسيحية. كما كان يضمن ألا يهرب أعضاء الجماعة إلى بلد آخر، فقد كانوا مادة استعمالية وأداة إنتاج وإدارة يستفيد الإمبراطور أو الحاكم من وجودها.
ومن المعروف أن ازدواج المعايير الأخلاقية من سمات الجماعات الوظيفية الوسيطة. فعضو هذه الجماعة يدخل في علاقة نفعية مادية رشيدة تعاقدية باردة مع أعضاء مجتمع الأغلبية، ويدخل في علاقة حميمة دافئة مع أعضاء جماعته. وهو يرى مجتمع الأغلبية على أنه مجتمعاً مباحاً لا حرمة له. ولكن رؤيته هذه تُناقض تماماً رؤيته لأعضاء جماعته، إذ يراها جماعة لها قداستها وحرمتها. ولذا، فهو يراعي حرمتها ويؤثرها على نفسه. ولكن هذا الازدواج في المعايير ينصرف فقط إلى الموقف الأخلاقي والعاطفي العام لأعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة إذ يظل قانون الدولة والأعراف السائدة هي الإطار المرجعي القانوني الذي يحتكم إليه الجميع، سواء أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة أم الأغلبية. والجيتو لا يشكل استثناء القاعدة إذ كانت هناك مجموعتان من القوانين تنظم علاقته مع العالم الخارجي أولاهما: المواثيق التي كان يمنحها الأباطرة والأمراء لليهود وتنظم علاقتهم بمجتمع الأغلبية، وثانيتهما: مجموعة القوانين التي تنظم علاقة اليهود بعضهم ببعض كأعضاء داخل الجيتو وكجماعات يهودية داخل التشكيل الحضاري نفسه. وكان القانون الداخلي الذي ينظم علاقات اليهود فيما بينهم (في الأمور الدينية والشخصية) هو التلمود. أما علاقات الجماعات اليهودية بعضها بالبعض الآخر، فكان ينظمها قانون تحريم الاستيطان. وكان الجيتو يتمتع بقسط وفير من الإدارة الذاتية، شأنه في هذا شأن كثير من المؤسسات في مجتمعات العصور الوسطى. فكانت تديره هيئة إدارية تصل أحياناً إلى اثني عشر شخصاً، منتخبة في بعض الأحيان ومعينة في البعض الآخر، وإن كانت القيادات المنتخبة تنتمي إلى مجموعة من الأسر المحدودة. وكانت لهذه المؤسسة (القهال بين الإشكناز، والماهاماد بين السفارد) قوة تنفيذية ضخمة، فكانت تقوم بإتمام عمليات الزواج والطلاق وتنفيذ العقوبات مثل الجلد والسجن (بل الإعدام في حالات نادرة) . وكان من حق هذه
المجالس أن تصدر قراراً بالطرد من حظيرة الدين (حيريم) ، كما حدث مع إسبينوزا، وكان من حقها النظر في المنازعات بين اليهود والحكم في القضايا حسب الشريعة اليهودية. وكان أعضاء المجلس يعرفون كل صغيرة وكبيرة عن سكان الجيتو بسبب صغر حجمه وقلة عددهم، ولذا كان من السهل التحكم فيهم.
وكان يتبع المجلس مجموعة من الموظفين بعضهم لا يتقاضى أي مرتب، وبعضهم الآخر يعمل نظير أجر. وأهم وظائف القسم الأول البرناس وهو رئيس الجماعة الذي كان يترأسها في كل المناسبات كما كان يرأس اجتماعات الهيئة الإدارية التي كان يُشار إليها أيضاً بـ «البرناسيم» ، وكان البرناس يراقب الموازين ويقرر المرتبات التي تُدفَع للموظفين التابعين للمجلس، وكان يُعَدُّ قائد الجماعة اليهودية على المستويين الديني والدنيوي، ولذا كان يُختار أكثر الناس تفقهاً في الدين لهذا المنصب. ولكن، مع بدايات الثورة العلمانية في الغرب، بدأ المنصب يتحول إلى منصب دنيوي، وأصبحت مسئولية الحاخامات مقصورة على الأمور الدينية وحدها حيث تم فصلها عن الأمور الدنيوية، وهو شكل من أشكال علمنة الجيتو. وكان يلي البرناس الجابي أو المحصل، ووظيفته أهم الوظائف بسبب طبيعة الجماعة اليهودية في العصورالوسطى في الغرب كعنصر نافع مالي. وكان الجابي هو الذي يحدد الضرائب ويقوم بجمعها لصالح السلطات الحاكمة. وفي معظم أنحاء أوربا، كان يتبع مؤسسة القهال حاخام لم يكن يُدفَع له راتب حتى القرن الثالث عشر الميلادي. وبعد أن زاد عدد أعضاء الجماعة، تَفرَّغ هذا الحاخام لمهمته وأصبح موظفاً بأجر. وكان الحاخام يقوم أحياناً بدور القاضي الشرعي (ديان) ، ولكن كان يوجد في أحيان أخرى قاض متفرغ. وكان للقهال أحياناً شرطته الخاصة التي كانت تتبعه.
ومن الوظائف التي كان يتقاضى صاحبها راتباً وظيفة الشوحيط وهو الذابح الشرعي، والموهيل وهو الذي يقوم بعمليات الختان، والمرتل (حزان) الذي يقوم بالقراءة والإشراف على أداء الصلاة والشعائر المرتبطة بها مثل إخراج لفائف الشريعة من سفينة العهد وإرجاعها. وكان يوجد أحياناً مرتل ثان أو بديل. ومن أهم الشخصيات الأخرى داخل الجيتو الشماس أو حارس المعبد اليهودي الذي كان يقوم بوظائف متعددة إذ كان يشرف على المعبد وينفذ أحكام دار القضاء (بيت دين) أو المحكمة اليهودية، وكانت واجباته هذه تجعله مسئولاً عن جمع معلومات تفصيلية عن اليهود فأصبح سيداً للجماعة التي كانت تخاف إرهابه وسيفه المصلت. وكانت الحلقات التلمودية (يشيفا) ترسل المشولاه (الوكيل) ليجمع التبرعات لها من الجماعات اليهودية المختلفة.
ومن الوظائف الأخرى داخل الجيتو، الواعظ المتجول (مجيد) الذي كان يعيش على هبات المستمعين وينتقل من جيتو إلى آخر، والشادخان وهي الخاطبة التي ترتب الزيجات. وظهرت نماذج إنسانية أصبحت مألوفة لدى يهود الجيتو مثل الشنورر أو الشحات الوقح المتسول والتساديك أو الرجل التقي والبتلانيم أو العاطل الذي يعيش من لا شيء، ويتسكع بجوار المعبد ليبتز المصلين حين لا يكتمل النصاب اللازم للصلاة.
وقد يكون من المفيد أن ننظر إلى البناء الوظيفي للجيتو من الداخل ثم إلى علاقته بالعالم الخارجي. أما الأعمال التي كان يقوم بها يهود الجيتو فتنقسم إلى قسمين: الأعمال التي تفيد الجماعة اليهودية وحدها، وتلك التي كانت تلبي حاجات خاصة بالجماعة اليهودية ولكنها يمكن أن تفيد الأغيار في الوقت نفسه. وتضم المجموعة الأولى الحاخامات والمدرسين ومن يقومون بأعمال الذبح والشعائر وكتبة لفائف الشريعة وموظفي الحمام الطقوسي وحراس المعابد والمدافن. أما المجموعة الثانية فتضم الجزارين وصانعي الشموع وتجار الكتب وناسجي شال الصلاة (طاليت) . وقد بلغت العمالة المخصصة للخدمات الداخلية لمجتمع الجيتو نحو 10% من مجموع العمالة اليهودية.
وكانت تُوجَد مؤسسات أخرى في الجيتو تتبع القهال، مثل: المقبرة لدفن موتى أعضاء الجماعة، وحمام عام، وحمام طقوسي، وأحياناً منزل للفقراء والعجزة ونظام تعليمي يضم المدارس الأولية الخيرية (تلمود تورا) والمدارس التلمودية العليا (يشيفاه) . وكانت تُوجَد أحياناً فرق مسرحية للترفيه عن سكان الجيتو. ولكن أهم المؤسسات على الإطلاق كان المعبد، فهو بيت العبادة والدراسة والاجتماع.
وكانت علاقة اليهودي بعالم الأغيار علاقة موضوعية مجردة، فهذا العالم كان يمثل بالنسبة إليه قيمة استعمالية وحسب، ومن ثم فهو عالم خال من الحب والعواطف والطمأنينة والأمن. أما في داخل الجيتو، فهو يجد كل ما كان يفتقده. كما أنه كان يمارس في الجيتو شعائر اليهودية بكل حرفيتها دون حرج، ويمتنع عن العمل يوم السبت، ويعيش داخل شبكة من العلاقات الإنسانية الدافئة القوية التي ازدادت قوة مع ازدياد حدة الصراع مع الأغيار. ويرى بعض دارسي الجيتو أن الأشكال الثقافية التي كانت سائدة فيه، سواء كانت الثقافة شعبية متمثلة في الرقص والغناء أو كلاسيكية متمثلة في الدراسات الدينية والفقهية، كانت تتسم بكثير من الثراء، وأنها بطبيعة الحال كانت مستمدة من ثقافة عالم الأغيار. ولكن ما يهمنا تأكيده هنا هو أن اليهودي داخل الجيتو كان يتصور أن هذه الأشكال الثقافية يهودية خالصة وتتسم بخصوصية يهودية. ولذا، فقد كانت ثقته بنفسه تزداد ويزداد إحساسه بهويته الوهمية، وفي نهاية الأمر عزلته عن العالم.
وكان اليهودي يتلقى داخل الجيتو التأكيدات بأنه ينتمي إلى الشعب المقدَّس والشعب المختار وأن الجيتو ليس إلا وجوداً مؤقتاً يحفظ فيه الإله الأمة وروحها إلى أن يحين الحين ويشاء إعادة شعبه إلى أرضه المقدَّسة وحريته الكاملة. وفكرة الوجود المؤقت فكرة أساسية في تفكير الجماعات الوظيفية الوسيطة، فهي دائماً تنتمي إلى «بلد أصلي» جاءت منه وستعود إليه في نهاية الأمر. ومما عمَّق هذه الأفكار أن التراث القبَّالي الحلولي، ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، وضع اليهود في موضع مركز العالم. فكان اليهودي يعلم أنه حينما يمتنع عن العمل يوم السبت فإنه يُعجِّل في واقع الأمر بمقدم الماشيَّح ليخلص العالم ويسود الشعب اليهودي. بل تصبح كل المعاناة والآلام التي يتحملها اليهودي خارج الجيتو من علامات الاختيار والتميز، وكلما زاد الاضطهاد زادت الساعة اقتراباً.
والواقع أن الجيتو مؤسسة تهدف، كما أسلفنا، إلى خلق مسافة بين أعضاء الجماعة والأغلبية للتقليل من الاحتكاك والصراع بينهم، لكن قدراً من الصراع والاحتكاك يسم الوجود الإنساني بالطبع، وإن كان هذا القدر يتفاوت في حدته وكميته بتفاوت الزمان والمكان. وكانت الصراعات التي يواجهها الجيتو تدور على ثلاثة مستويات:
1 ـ الصراع داخل الجيتو بين الطبقات والفئات المختلفة:
كانت تُوجَد داخل الجيتو طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة، فكان هناك الغني والفقير والمستغل والمستغَل. غير أن الطبيعة المغلقة لهذا البناء الاقتصادي ووظيفية الجماعة اليهودية فرضت تَداخُل الطبقات والفئات كافة. كما زاد نظام الضرائب في المجتمعات الأوربية هذا التداخل إذ كانت الضريبة تُفرَض في كثير من الأحيان على الجماعة ككل سواء كانت جماعة دينية اقتصادية مثل اليهود أو جماعة اقتصادية ذات طابع ديني مثل نقابات الحرفيين. وحيث إن فقراء الجيتو كانوا غير قادرين على دفع الضرائب، فإن الأثرياء كانوا يقومون بدفعها كلها نيابة عن الجماعة، فتحولوا بذلك إلى أرستقراطية ذات ثقل كبير فرضت هيمنتها على اليهود. وقد انعكس هذا الوضع على التنظيم الاجتماعي للجيتو، فكانت الجماعة اليهودية تقوم برعاية مصالح سائر أعضائها بصرف النظر عن انتمائهم الطبقي أو الفئوي.
2 ـ الصراع بين الجيتو الواحد والجيتوات الأخرى:
كان كل جيتو حريصاً على الاحتفاظ باستقلاله والدفاع عن مصالحه تجاه الجيتوات الأخرى، إذ كانوا يتنافسون فيما بينهم في المجالات نفسها ومن أجل المزايا نفسها التي يحصلون عليها من خلال المواثيق. ومن هنا كان لكل جيتو حق حظر الاستيطان (حيريم ها يشوف) ، وهو حق منع أي يهودي آخر من القدوم إلى الجيتو والإقامة فيه إلا بإذن خاص ولمدة محددة ونظير أجر معيَّن.
3 ـ علاقة الجيتو بمجتمع الأغلبية:
أما من ناحية علاقة الجيتو بالمجتمع الخارجي، فإن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكن في صفوفهم بعض الطبقات الاجتماعية مثل: الملوك والأمراء والنبلاء والأشراف والفلاحين. ولهذا، لم تكن هناك مشكلة منافسة اقتصادية حادة بينهم وبين اليهود. أما علاقة اليهود بالتجار والحرفيين وصغار النبلاء فكانت علاقة منافسة قوية، ولذلك نجد أن المحرِّضين على الثورات ضد أعضاء الجماعات اليهودية كانوا بالدرجة الأولى من بين صفوف هذه الجماعات، كما كان طرد اليهود ككل يتم تحت ضغط هذه الطبقات والفئات الاجتماعية. ولكن هذا لم يمنع وجود احتكاكات شديدة في بعض الأحيان بين أعضاء الجماعات اليهودية وصغار النبلاء والفلاحين.
هذه هي البنية الأساسية للجيتو، وهي دون شك ذات قدر كبير من التجريد ولكنه تجريد يبسط الواقع بعض الشيء حتى يتسنى فهمه. وقد ظل الجيتو قائماً كمؤسسة تقوم بدور حيوي من حيث هو بنيان اقتصادي اجتماعي يوفر لأعضاء الجماعات اليهودية الاستقلال كجماعة وظيفية وسيطة لها مصالحها ومشاكلها الاقتصادية ولها هويتها الدينية والإثنية المستقلة.
ولكن، بالتحول التدريجي للمجتمع الإقطاعي ابتداءً من القرن الحادي عشر الميلادي، وبظهور أنماط الرأسمالية التجارية المحلية التي اضطلعت بالتجارة الدولية، بدأ اليهود يفقدون دورهم الاقتصادي، وانهار مركزهم عبر القرون من تجار دوليين إلى مرابين ثم أخيراً إلى مرابين صغار يقومون بإقراض كميات صغيرة من النقود للمواطنين العاديين الذين كانوا يرهنون ممتلكاتهم الخاصة ويدفعون فوائد باهظة. وحينما كان المدين يعجز عن الدفع، تصبح السلعة المرهونة ملكاً للمرابي الذي كان يسلمها للشخصية الأساسية الثانية في الجيتو (أي التاجر المتجول) . وإلى جانب هذا، ظل أعضاء الجماعات اليهودية يقومون بأعمال خفيفة، مثل: التطريز وحياكة الملابس والحلاقة.
وتَسبَّب الانهيار التدريجي للأساس الاقتصادي للجيتو في انهيار تدريجي معنوي وأخلاقي. ولكن ينبغي هنا أن نميِّز بين جيتوات أوربا والعالم الجديد من جهة، وجيتوات يهود اليديشية في شرق أوربا ووسطها وفي الألزاس واللورين من جهة أخرى. ففي هولندا، أخذت أحوال اليهود في التحسن ولم تُفرَض عليهم قيود شديدة عند استقرار يهود المارانو بها. والوضع نفسه في بوردو وبايون في فرنسا حيث كانتا تضمان جماعتين سفارديتين. وحينما استوطن اليهود في العالم الجديد، فإنهم لم يُوطَنوا في أحياء خاصة بهم، ومما سهل هذا أن هذه بلاد لم تكن ذات كثافة سكانية يهودية كبيرة.
ولكن الوضع كان على عكس ذلك تماماً في شرق أوربا ووسطها حيث تضاعف عدد اليهود في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، الأمر الذي أدَّى إلى ازدحام الجيتوات. ومما زاد الطين بلة أن الأرض المصرح ببناء منازلهم عليها كانت محدودة حتى اضطروا في غالب الأمر إلى الاتساع الرأسي. ومن هنا كانت عمائر الجيتو متلاصقة، كما كانت تتميَّز بارتفاعاتها التي تفوق عمائر المدينة. وتَسبَّب ارتفاع العمائر وتَلاصُقها إلى حجب الشمس عن حارات الجيتوات، فأصبحت لذلك رطبة وغير صحية كما أصبحت أماكن شديدة القذارة تنتعش فيها الأمراض وتتراكم القاذورات (ومع هذا لنا أن نلاحظ أن كثيراً من الأحياء في مدن أوربا في القرن التاسع عشر لم تكن تختلف كثيراً عن جيتوات أعضاء الجماعات اليهودية) .
وقد ترك الانحطاط الاقتصادي والمعماري للجيتو أثراً عميقاً في وجدان يهود شرق أوربا ووسطها القاطنين فيه، وعمق انفصالهم عن العالم الخارجي. وقَدم عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني، ثم عصر الاستنارة في أوربا، واليهود داخل أسوار الجيتو الاقتصادية والوجدانية، فكان معظم أعضاء الجماعات اليهودية من يهود شرق أوربا معزولين عن الثقافة العامة لا يدرسون إلا التوراة والتلمود والمدراش، ولا يقتربون البتة من تاريخ الأغيار، إذ كان كل ما يعنيهم هو تاريخ اليهود كما جاء في كتب اليهود المقدَّسة.
وكانت الجيتوات التي أفرزت الصهيونية، والتي تهمنا أكثر من غيرها، موجودة أساساً في شرق ووسط أوربا. وقد لخص ديفيد فرايدلندر المقدَّرات الفكرية لطالب المدرسة التلمودية العليا أو مثقف الجيتو في القرن التاسع عشر الميلادي على النحو التالي: كان في إمكان مثل هذا الطالب أن يفتي إن كان من الواجب رجم أو حرق ابنة الحاخام الزانية، ولكنه في الوقت نفسه كان لا يعلم شيئاً عن تاريخ البلد الذي يعيش فيه.
وكان جهل الحاخامات، وهم القيادة الثقافية للجماعة، مزرياً جداً، إذ كانوا لا يعرفون أكثر من أن اتجاه القدس هو نحو الشرق وحسب، كما ورد في بعض الكتب الدينية. ولذا، كان حاخامات بولندا يخطئون في تحديد اتجاه القدس فيتجهون شرقاً. وكانت القدس، في الواقع، تقع نحو الجنوب (بالنسبة إلى موقعهم) . وحينما نُشر أول كتاب في الجغرافيا بالعبرية عام 1803، اشتكى المؤلف من أن كثيراً من الحاخامات لا يزالون ينكرون وجود أمريكا.
وساهم الوضع اللغوي ليهود شرق أوربا في زيادة عزلتهم وتخلفهم. فلم تكن قيادتهم الثقافية تعرف أياً من اللغات الأوربية الحية، مثل الألمانية أو الروسية، معرفة كافية. وإن تصادف وعرفوا إحدى هذه اللغات، بحكم وجودهم الفعلي في البلد، فإنهم كانوا يجهلون التراث الثقافي لهذا البلد. وكانت اللغات المعروفة في الجيتو هي العبرية لغة العبادة، والآرامية لغة التلمود والقانون، وهما لغتا النخبة الثقافية. أما لغة الشارع فكانت اليديشية، وهي لغة الحديث اليومي بين اليهود.
الجيتوية
Ghettoism
«الجيتوية» هي طريقة التفكير التي أفرزها وضع أعضاء الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية وسيطة في الحضارة الغربية على مدى مئات السنين. وبإمكان القارئ أن يعود إلى المجلد الخامس (الصهيونية) لدراسة الجانب الجيتوي في الفكر الصهيوني الغربي اليهودي وغير اليهودي.
حظر الاستيطان
Ban on Settlement
«حظر الاستيطان» ترجمة للعبارة العبرية «حيريم هايشوف» ، وهو مفهوم قانوني كانت تُنظَّم على أساسه العلاقة بين الجماعات اليهودية المختلفة في الغرب، فهو يعطي أعضاء كل جماعة في مدينة (أو غير ذلك من الوحدات السكنية) حق منع اليهود الآخرين من السكنى معهم باعتبار أن هذا الحق مقصور على أعضاء الجماعة وحسب. ولذا، كان على كل وافد جديد أن يحصل على تصريح من أعضاء الجماعة يُسمَّى «حزقات هايشوف» أو «حزقات هاقهيلا» أي «حق الاستيطان» . وكان عادةً ما يحصل الوافدون على هذا الحق عن طريق شراء أو استئجار عقار أو أرض. وكان الهدف من هذا القانون أو العرف حماية التجارة اليهودية. ومن ثم استثنيت بعض القطاعات التي لا تعمل بالتجارة من الحظر، ومن بين هؤلاء طلبة المدارس الدينية العليا والحاخامات الذين لا يمارسون عملهم، والخدم واللاجئون شريطة أن يكون بقاؤهم مؤقتاً. ولم يكن مصرحاً لليهودي الغريب بالبقاء في المدينة أكثر من ثلاثة أيام، ولم يكن من حقه أن يستأجر منزلاً ولا أن يستصدر وثيقة الزواج فيها خشية أن يعطيه هذا الحق في البقاء.
وبطبيعة الحال، كانت القوانين التي تحظر استيطان غير اليهود أكثر تعنتاً، فمثلاً كان بإمكان التاجر اليهودي أن يستأجر غرفة لحضور إحدى الأسواق التجارية شريطة ألا يبيع سلعة لسكان الجماعة نفسها وأن يقتصر نشاطه على السوق الذي أتى لحضوره (وقد كان من المحظور توفير التسهيلات نفسها للتاجر غير اليهودي) .
وقد ساد المفهوم بين الجماعات الأوربية حتى بداية العصر الحديث، وخصوصاً في بولندا، حيث أصبح حق الحظر من حقوق القهال الأساسية. وكانت للحظر أبعاد طبقية واضحة إذ كان من صالح الجماعة اليهودية أن تُوطِّن الأثرياء ليساعدوا في دفع الضرائب. ولذا، حينما كان أحد الأثرياء اليهود يفكر في الهجرة، كان أعضاء الجماعة يستخدمون كل وسائل الإقناع لإبقائه، وإن أصر على مغادرة الجماعة كان عليه أن يدفع نصيبه من الضرائب. أما الفقراء، فكان يتم تشجيعهم على ترك المدينة. وكان الفقراء الغرباء دائماً في حالة تَنقُّل من مدينة إلى أخرى، الأمر الذي عقَّد مشكلة الفقر والتسول بين يهود أوربا. ومما يجدر ذكره أن الجماعات اليهودية في الدولة العثمانية لم تكن تُطبّق هذا المفهوم أو تمارسه.
ويبدو أن يهود الغرب الأثرياء، في ألمانيا وإنجلترا وغيرها، نظروا إلى يهود الشرق، أي يهود اليديشية المعدمين، حينما جاءوا في القرن التاسع عشر الميلادي، من هذا المنظور، أي على اعتبار أنهم وافدون يُطبَّق عليهم حظر الاستيطان. ولعل هذا كان أحد الدوافع وراء تبنِّي الحل الصهيوني التوطيني، فهو حل يحظر استيطانهم في الغرب عن طريق توطينهم في مُستوطَن (يشوف) آخر بعيد، فكأنهم طبقوا قانون حظر الاستيطان (حيريم هايشوف) على مستوى قومي. ويطلق الصهاينة على المُستوطَن الصهيوني اسم «يشوف» ، وقد حاولوا تطبيق الحيريم هايشوف على اليهود غير البيض، وهم الآن يطبقونه على الفلسطينيين من كل دين ولون.
القسم اليهودي
Jewish Oath
«القَسَم اليهودي» ترجمة لعبارة «أوث موري جودايكو oath more judaico» ، وهي عبارة إنجليزية لاتينية معناها «القَسَم حسب عرف اليهود» ، والقسم اليهودي هو ذلك القسم الذي كان اليهود يتلونه في القضايا بينهم وبين غير اليهود. ويعود إلى أيام شارلمان (771 ـ 814) . وكان نص القسم والطقوس الرمزية التي تصاحبه يعطيانه شكل اللعنة التي يستمطرها المرء على نفسه ويجعلانه يتضمن وضعاً تفصيلياً للعقوبة التي ستحل إن كان اليهودي كاذباً في قَسَمه. وقد جاء في صيغة أحد الأقسام ما يلي:"إن كنت كاذباً في قَسَمي فلتنزل اللعنة على سلالتي ولأتحسس طريقي بين الحوائط كالأعمى، ثم لتنشق الأرض وتبتلعني".
ويبدو أن استمطار اللعنات بهذا الشكل كان يهدف إلى تخويف اليهودي حتى لا يكذب، وخصوصاً أنه كان معروفاً في العصور الوسطى أن اليهود يتلون دعاء كل النذور في صلاة يوم الغفران ويتحللون من خلال ذلك من أية نذور قطعوها على أنفسهم أو أية أيمان التزموا بها في العام السالف. أما الطقوس التي كانت تصاحب القَسَم، فكانت أكثر تطرفاً حيث كان على اليهودي أحياناً أن يمسك بعصا القاضي ويلقي القَسَم. وفي إحدى المحاكم، كان على اليهودي أن يقف ووجهه نحو الشمس على كرسي نُزعت إحدى أرجله الأربع، فصار بثلاث أرجل، وهو يلبس قبعة اليهود ويلتفع بشال الصلاة (طاليت) . وأحياناً كانت تُوضَع تحت الكرسي مواد قذرة مثل جلد أنثى الخنزير، وهو حيوان كريه لدى اليهود. ولعل الهدف من كل هذا هو أن يحاول اليهودي أن يركز على الاحتفاظ بتوازنه ويردِّد القَسَم، فلا يمكنه أن يكذب في عقله الباطن ويَصدُق في قَسَمه ويستمطر على نفسه اللعنات بالفعل.
والقَسَم اليهودي تعبير عن وضع اليهود القانوني الشاذ باعتبارهم عنصراً غريباً في مجتمع مسيحي يستند إلى الشرعية المسيحية ولا يقبل غيرها ولا تُوجَد فيه فلسفة واضحة تجاه الأقليات الدينية. وقد استمر القَسَم اليهودي، دون الطقوس التي تصاحبه، حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. ولم يُعرَف القَسَم اليهودي لا في إنجلترا الحديثة (بعد إعادة توطين اليهود في القرن السابع عشر الميلادي) ولا في الولايات المتحدة.
علامة اليهود المميِّزة
Jewish Badge
كان أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم من الجماعات يرتدون زياً خاصاً لتمييزهم عن بقية السكان، وهذا أمر مألوف في المجتمعات التقليدية المبنية على الفصل الحاد بين الطبقات والجماعات. فكان على كل جماعة أن ترتدي زياً خاصاً بها، وتلبس غطاءً للرأس، وتقص شعرها بطريقة مميِّزة. وكان هذا يُسهِّل عمليات الإدارة وجمع الضرائب. ففي العصور الوسطى في الغرب، كان رداء الفرسان مختلفاً عن رداء القساوسة، وكان لكل حرفة علامة مميِّزة يرتديها ممارسوها، ولم يكن هذا عاراً وإنما امتيازاً يحصل عليه من يرتدي مثل هذه العلامة. ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية في العصور الوسطى في الغرب استثناء من هذه القاعدة، فقد كانوا يطلبون امتياز ارتداء أزياء مميِّزة حتى يَسهُل التعرف عليهم فيتمتعوا بالحماية التي زودهم بها الإمبراطور أو الأمير حسب المواثيق التي منحهم إياها، والتي يستند وجودهم إليها. والقبعة اليهودية التي كان اليهود يلبسونها في وسط أوربا كانت من ابتداع أعضاء الجماعة اليهودية هناك. وكانت هذه الأردية والعلامات المميِّزة تشبه أسوار الجيتو التي تعزل أعضاء الجماعة اليهودية حتى تَسهُل حمايتهم، ولم تكن تهدف قط إلى إذلالهم.
ولكنها، مثلها مثل أسوار الجيتو، تغيَّرت وظيفتها بالتدريج، وخصوصاً بعد حروب الفرنجة، حيث بدأ اليهود يفقدون أهميتهم في غرب أوربا ووسطها كجماعة وظيفية وسيطة وتجار دوليين ومرابين، فتحوَّلت أسوار الجيتو إلى وسيلة لعزلهم وأصبحت العلامة والأردية المميِّزة وسيلة لإذلالهم. وهكذا أصبحت العلامة المميِّزة دلالة العار، وتحولت من مجرد وظيفة وإجراء إلى رمز ذي مضمون سلبي محدَّد.
ومع ظهور الدولة القومية، حاولت هذه الدولة أن توحِّد المواطنين في ملابسهم وفي طريقة قص شعورهم. وقد استجاب أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا بسرعة، ولكنهم في وسطها وشرقها تمسكوا بضرورة إطلاق اللحية وارتداء القفطان، حتى اضطرت الدولة إلى إصدار قوانين لمعاقبة من يرتدي مثل هذه الملابس وجعلتها مقصورة على الحاخامات. وكانت المعارك تقوم بين ممثلي الدولة وبعض أعضاء الجماعات اليهودية. وقد أعاد النازيون العمل بالعلامة المميَّزة، كما أن الحسيديين مازالوا يرتدون الرداء المميِّز ليهود شرق أوربا.
احتكار السلع وأسرار المهنة
Monopoly and Exclusiveness
يتميَّز المجتمع الإقطاعي الغربي بالفصل بين الطبقات والفئات والجماعات. وكانت كل طبقة أو فئة تضطلع بوظيفة محددة تحاول قدر استطاعتها احتكارها والإبقاء على أسرار المهنة بعدم إتاحة الفرصة للآخرين للحصول على المعلومات. ومن هنا، كان الجيتو اليهودي وغير اليهودي يؤدي وظيفة أساسية إذ كان يتيح الفرصة لأصحاب المهنة أو الفئة الواحدة أن يمارسوا حياتهم ومهنتهم بعيداً عن أعين الآخرين الذين قد يطلعون على هذه الأسرار. وكان هذا قانون العلاقات الاجتماعية الذي ينطبق على اليهود انطباقه على غيرهم. ولم يكن الاحتكار واستبعاد الآخرين مؤامرة مُوجَّهة من اليهود ضد الأغيار، وإنما كان ذلك يمثل ظاهرة اجتماعية عامة وخصوصاً أن الجماعة اليهودية، باعتبارها جماعة وظيفية، كانت تمثل هذه الظاهرة بشكل أكثر حدة. فالجماعة الوظيفية يستند وجودها بأسره إلى وظيفتها وإلى أسرار المهنة، فإن عُرفت هذه الأسرار خارج نطاقها انتفى أساس وجودها نفسه. ولذا، كان بعض اليهود يستبعدون الأغيار، كما كان البعض منهم يحتكرون الوظائف الاقتصادية والمالية ويحاولون بطبيعة الحال الحفاظ على هذا الاحتكار لأن في نهايته نهايتهم.
وكان مفهوم الاحتكار والاستبعاد مفهوماً أساسياً في تفكير الجماعات اليهودية منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي. وقد علق راشي على عبارة «تاجرة الشعوب» (حزقيال 27/3) ، وفسرها بأنها إشارة إلى قانون الاحتكار الذي كان يُمنَع بمقتضاه التجار الغرباء من الاتجار في المدينة التي يقيمون فيها بصفة مؤقتة كوافدين غرباء إذ كان يطبق عليهم قانون حظر الاستيطان (حيريم هايشوف) .
ولم يكن الحظر مقصوراً على السكنى وحسب، أو المنافسة الاقتصادية، بل كان يمتد ليشمل الإحسان. وقد ورد في التلمود أن «فقراء مدينتك أولى من فقراء المدن الأخرى برغم أن كليهما يهود» . وبلغ هذا الاتجاه مداه بين يهود بولندا إذ طوروا نظاماً مركباً للتحكم في حق السكنى وفي العمل بالمهن وفي الزواج والاقتراض بل أحياناً السفر وفي كل جوانب الحياة الأخرى.
وكانت الجماعة اليهودية تمنح حق الاستيطان لليهود الذين يدفعون رسوم الدخول وتنكر هذا الحق على الآخرين. وكانت الجماعة أحياناً تطرد بعض اليهود أو تُنقص حقوقهم أو حريتهم في العمل، وكثيراً ما كان أعضاء الجماعة، إما بمفردهم أو بالاشتراك مع جماعات غير يهودية، يقدمون التماسات للدولة أو للمدينة للحد من نشاط الأجانب اليهود أو غير اليهود.
وكان استبعاد غير اليهود أكثر حدة، فكان من المحظور على الوسطاء والوكلاء اليهود أن يقوموا بتعريف رجل أعمال غير يهودي بآخر غير يهودي أو أن يدلوا مستهلكاً غير يهودي على محل غير يهودي. وقد أصدر القهال تحذيرات عديدة فيما يخص إفشاء أسرار مهنة التجارة لغير اليهود، أو لليهود من أعضاء الجماعات الأخرى. وكان محظوراً على اليهود الذين يُحضرون جلوداً أو فراءً أن يبيعوها إلا لليهود، وقد اعترض كثير من المسيحيين على هذه القواعد التي كانت تستبعدهم.
وحينما ظهرت الحركة القومية البولندية بدفاعها عن مصالح البورجوازية البولندية، طالبت الجماهير البولندية بمقاطعة رجال الأعمال اليهود، وهو استمرار لميراث العصور الوسطى في بولندا.
الوسيط (شتدلان)
(Intermediary (Stadlan
كلمة «شتدلان» كلمة مشتقة من فعل آرامي معناه «يبذل جهداً» أو «يتوسط» . والمصطلح يشير إلى اليهودي (من قيادات الجماعات اليهودية) الذي كان يقوم بدور الوسيط بين السلطة الحاكمة وأعضاء الجماعة. والآن، يُشار أحياناً إلى الصهيونية باعتبارها حركة تقوم بدور الوسيط بين الجماعات اليهودية والقوى الاستعمارية.
الرئيس (برناس)
Parnas
«برناس» اشتقاق من الكلمة العبرية «برنيس» أي «يدعم» . والرئيس (برناس) أهم موظف إداري لا يتقاضى أجراً في الجماعة اليهودية. وكان يترأسها أحياناً على المستويين الديني والدنيوي. ولكن ابتداءً من القرن السادس عشر، أصبح البرناس رئيساً إدارياً يعمل مع مجلس البرناسيم (وهي صيغة الجمع في العبرية لكلمة «برناس» ) . ويذهب بعض العلماء إلى أن كلمة «برناس» لا تشير إلى الرئيس وإنما إلى مجلس الأمناء بأكمله.
قوانين الترف
Sumptuary Laws
«قوانين الترف» مجموعة من القوانين أو القواعد التكميلية (بالعبرية: «تاقانوت» ) التي أصدرها الحاخامات لتحد من إظهار أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية لمظاهر الترف والثراء. وقد صدرت قوانين الترف للأسباب التالية:
1 ـ تحوَّلت الجماعات اليهودية في معظم أنحاء أوربا إلى جماعات وظيفية، ومثل هذه الجماعات لابد أن تتسم بقدر عال من الانضباط الداخلي والخارجي والترابط الكامل حتى يمكنها أداء وظيفتها بكفاءة وحتى يمكن حوسلتها. ولإنجاز هذا، كان من الضروري القضاء على كل النزعات الفردية وتقليل حدَّة التنافس، وخصوصاً أن أعضاء الجماعات اليهودية يعيشون داخل الجيتو في مساحة صغيرة الأمر الذي يجعل التنافس باهظ التكاليف من الناحية الاجتماعية والنفسية.
2 ـ كان أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية ينجحون في مراكمة الثروة، وكان هذا يجعلهم محط حقد أعضاء الأغلبية، ولذا فإن مظاهر الترف والثراء كانت تجلب عليهم المزيد من السخط.
3 ـ كان الربا من الوظائف الأساسية التي اضطلع بها أعضاء الجماعة اليهودية الوظيفية، ولذا كان يقع في يد المرابي ملابس فاخرة ومصنوعات مترفة لم يستطع أصحابها سداد الدين واستردادها. وكثيراً ما كان المرابي وأفراد أسرته يرتدون هذه الملابس والحلي، وهو ما كان يجعلهم محط سخرية الأغيار (بسبب عدم التناسق) ، وخصوصاً أن كثيراً من المرابين كانوا فقراء (على عكس التصور الشائع) .
4 ـ كانت الضرائب تُفرَض على الجماعة اليهودية بشكل جماعي. ولذا، فإن انغماس بعض الأفراد في أشكال من الترف، كان هذا يعني في واقع الأمر تبديد الثروة والعجز عن دفع الضرائب، ولهذا فقد كان من صالح الجماعة ككل فرض مثل هذه القوانين.
وتغطي قوانين الترف نشاطات كثيرة متنوعة تختلف من جماعة يهودية إلى أخرى. فقد حددت بعض قوانين الترف كمية الجواهر التي يُسمَح للنساء أن يَتَزيَّن بها، بل كان ذلك ينطبق على الرجال في إيطاليا حيث اتسمت جماعتها اليهودية بالمبالغة في الترف والإنفاق (شأنها في هذا شأن الإيطاليين في كل زمان ومكان!) .
ويبدو أن حفلات الأفراح كانت من أهم المناسبات، لإظهار الثروة أمام الآخرين والانغماس في الترف (كما هو الحال في مصر في التسعينيات حيث تحولت الأفراح من مناسبة يتآلف فيها الناس ويتم فيها إطعام الفقراء إلى مناسبة ينقسم فيها المجتمع وتزيد حدة الصراع الطبقي) ولذا، صدرت قوانين ترف تحدد عدد الذين يمكن دعوتهم لحفل الزفاف ونوع وعدد الهدايا التي يمكن أن يعطيها عريس لعروسه، وعدد المشاعل التي يمكن أن تصاحب العريس حينما يذهب لزيارة عروسه، وتمنع إلقاء الحلوى أو العملات في موكب العروسة. وصدرت قوانين تحدد ثمن الشعر المستعار الذي يُسمَح للرجل بارتدائه والمروحة التي يمكن للأنثى حملها. وكانت إيطاليا من أكثر البلاد الأوربية التي صدر فيها قوانين الترف التي كانت تُسمَّى «برجماتيكا» .وحدَّد أحد قوانين الترف عدد الأطباق التي يمكن أن تُقدَّم في حفل عشاء خاص، بل وصدر في ساردينيا قانون يحدد كمية البسكويت المصرح لليهودي بأكلها وسمي القانون «تاقاناه دي بسكوتيني» .
وكانت القوانين تصل أحياناً إلى درجة من التطرف تدعو أعضاء الجماعة اليهودية إلى الجأر بالشكوى فتضطر السلطات أحياناً إلى التدخل. أما قيادات الجماعة اليهودية، فكانت تلجأ لكل الطرق لفرض قراراتها. ولذا، كانت تفرض أحياناً عقوبة الطرد من حظيرة الدين (حيريم) . وكان الممتنع عن تنفيذ القوانين يُمنَع من زيارة المعبد اليهودي، كما كان يُمنَع أعضاء الجماعة اليهودية من زيارة مثل هذا الشخص الذي يمتنع عن تنفيذ القوانين.
النظم القضائية والمحاكم
Judicial Systems and Courts
لم يختلف النظام القضائي بين العبرانيين عما كان عليه في البيئات الحضارية التي تنقلوا فيها. فقد عيَّن موسى قضاة يحكمون بين الناس، وهم بعد في البرية. وبعد الاستيطان في كنعان، كان في كل مدينة قاض. ومع تَطوُّر الدولة العبرانية، تَطور النظام القضائي وازداد تركيباً ومركزية. وبعد العودة من بابل، تَغيَّر النظام القضائي بعض الشيء بما يتناسب مع الوضع الحضاري الجديد، فظهر السنهدرين (المحكمة) بدرجاته المختلفة. وبعد انتشار اليهود في مختلف البلاد، ظهرت مؤسسات قضائية أخرى داخل إطار الإدارة الذاتية التي كانت تسمح بها الدول لأعضاء الأقليات والجماعات الدينية والمهنية. فكان لكل جماعة يهودية، في بعض الأحيان، القاضي (ديان) المختص والمحاكم الخاصة التي كانت تنظر فيما قد ينشب بينهم من خلافات. أما التقاضي بين اليهودي وغير اليهودي، فكان يتم أمام قضاء المجتمع المضيف في معظم الأحيان.
وكان لبعض هذه المحاكم سلطات قد تصل إلى حد الحكم بالإعدام في حالات نادرة، كما كانت تمتلك أدوات تعذيب خاصة بها، ويتبعها سجن لإيداع المساجين اليهود، وكان هذا أمراً ضرورياً، لأن الجماعات اليهودية في أوربا في العصور الوسطى كانت تقوم بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة، ولم يكن هناك مفر من أن تتمتع القيادة بصلاحيات قضائية وأن يتبعها نظام عقوبات صارم حتى يتسنى لها فرض نوع من الانضباط الأساسي واللازم لقيام أعضاء الجماعة بدورهم. ووصل هذا النموذج إلى أعلى تَحقُّق في حالة القهال في بولندا، البلد الذي وصل فيه دور اليهود كجماعة وظيفية وسيطة إلى قمة تَبلوره.
وكان وجود أعضاء الجماعات اليهودية في مجتمع مسيحي يخلق مشاكل في التقاضي، كما كان الحال في مشكلة القَسَم. ومن هنا ظهر القَسَم اليهودي. ومع ظهور الدولة القومية المركزية، أُلغيت أشكال الإدارة الذاتية كافة، ومن بينها المحاكم، واقتصرت المحاكم اليهودية على الأمور الدينية ولم تَعُد لها سلطات تُذكَر.
وفي إسرائيل، هناك محاكم حاخامية تختص بالأحوال الشخصية مثل: الزواج والطلاق والنفقة. وهذه المحاكم تستخدم المعايير الأرثوذكسية وهو ما يجعلها تصطدم بكثير من المهاجرين، خصوصاً في المسائل الخاصة بالزواج والطلاق وتعريف الهوية اليهودية والتهود. هذا ولا يمكن تعيين المتهود قاضياً حسب الشريعة اليهودية.
الطرد من حظيرة الدين والجماعة (حيريم)
Excommunication (Herem)
تشير كلمة «حيريم» العبرية إلى الأشياء التي تُعزَل أي تُكرَّس للأغراض المقدَّسة (لاويين 27/28) ، أو إلى الأشياء التي يُحرَّم لمسها بسبب طبيعتها المحرمة، مثل الأشياء الوثنية (تثنية 7/26) . ويستخدم عزرا الكلمة بمعنى «مصادرة الملكية» (عزرا 10/8) . ولكن الاستخدام التلمودي للكلمة يشير إلى «الطرد من حظيرة الدين أو الجماعة الدينية» ، ويُمنَع أعضاء الجماعة تماماً من الاتصال بالشخص الذي يتم طرده. ولذا، كان الحيريم سلاحاً استخدمته المؤسسات اليهودية، مثل القهال والمحاكم الشرعية، ضد أعضاء الجماعة حتى العصر الحديث. ومن أشهر قرارات الطرد، ذلك الذي صدر ضد إسبينوزا، وربما كان عدم اكتراثه بالقرار واستمراره في حياته دون أن يتنصر، ربما كان في حد ذاته رمزاً لوصول العصر الحديث بتعدديته ونسبيته. وقد فقد قرار الطرد كل فعاليته، إذ لم يَعُد المواطن اليهودي في العصر الحديث معتمداً على جماعته في حياته الاقتصادية أو حتى الثقافية. ومع هذا، قام بعض الحاخامات من مؤيدي الصهيونية عام 1983 بإصدار حيريم رمزي (في الولايات المتحدة) ضد بعض الشخصيات اليهودية التي هاجمت إسرائيل لما قامت به من مذابح في صبرا وشاتيلا. وفي المعارك الانتخابية في إسرائيل يُستخدَم أحياناً سلاح الحيريم لضمان تصويت الناخبين (التابعين للأحزاب الدينية) لمرشح بعينه دون غيره.
الشتتل
Shtetl
كلمة «شتتل» صيغة تصغير يديشية مشتقة من كلمة «شتوت» ومعناها «مدينة» . والكلمة عبرية في الأصل وتعني «شتلة» ويُقصَد بها زرع أو شتل كيان ما داخل التربة. والشتتل تَجمُّع سكاني يهودي (يبلغ عدد سكانه ما بين ألف وعشرين ألفاً) استوطن فيه اليهود ممثلين للإقطاع البولندي الاستيطاني في أوكرانيا، ووكلاء للنبلاء البولنديين (شلاختا) ، وجامعي ضرائب، أي أنهم كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة تقوم بعملية الاستغلال لصالح النبلاء الغائبين الذين كان كل همهم زيادة دخلهم. ورغم أن الشتتل أحد الأشكال الجيتوية، فإنه يختلف عن الجيتو في كثير من النواحي. فالجيتو مجرد شارع أو حي في مدينة، أما الشتتل فهو نوع من المستوطنات ارتبط بالإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا بعد اتحاد مملكة بولندا وليتوانيا (في القرن السادس عشر) وظهور نظام الأرندا وزيادة المدن التابعة للنبلاء، الأمر الذي شجع أعضاء الجماعة على هجرة المدن الملكية التي كانت تتحكم فيها البلدية والمصالح التجارية البولندية والكنسية.
والشتتل كان مدينة ريفية الطابع مستقلة ذاتياً، معظم سكانه من اليهود الذين جمعهم النبيل الإقطاعي ووطَّنهم فيه ليضطلعوا بمهمة الوكالة عنه في إدارة الضياع وجمع الضرائب. وكانت هذه المراكز شبه الريفية شبه الحضرية حلقة اتصال بين احتياجات المدن الكبيرة والريف. ولذا، كان الشتتل يقع في موقع إستراتيجي يوفر للفلاحين من ناحية سهولة الوصول إليه، ويوفر لليهود (من ناحية أخرى) العزلة وعدم الاختلاط مع بقية السكان، وكان القانون البولندي، بسبب الوضع المتفجر في أوكرانيا، يفرض على رب العائلة اليهودية أن يحتفظ ببنادق بعدد الذكور وبثلاث خرطوشات وثلاثة أرطال من البارود. أي أن الشتتل ترجمة معمارية لوضع الجماعة اليهودية في إطار الأرندا الزراعية الإقطاعية الاستيطانية. وكان هناك أسواق تباع أو تقايض فيها الأغنام والماشية جنباً إلى جنب مع البضائع المصنوعة في المدن ومنتجات الصناعات المنزلية الريفية. وكانت الشتتلات في الوقت نفسه المراكز التي يمارس فيها الحرفيون حرفهم من صانعي ومصلحي العجلات والعربات إلى الحدادين وصاغة الفضة والخياطين والذابحين الشرعيين والطحانين والخبازين وصانعي الشموع ومقطري الخمور. وكان هناك أيضاً كتبة الخطابات للأميين، ومعابد للمتدينين، وفنادق للمسافرين والصيارفة والوسطاء من جميع الأنواع.
وتدور الحياة في الشتتل حول المعبد اليهودي والمنزل اليهودي ثم السوق التي يلتقي فيها اليهود بالأغيار. وكانت تُوجَد في الشتتل أيضاً المدارس الدينية اليهودية، وكان هناك رواة للأقاصيص وشعراء شعبيون يتجولون من شتتل إلى آخر.
ونظراً لوجود أغلبية يهودية في الشتتل، فإنه حقق قدراً من الاستقلال الثقافي عن البيئة المحيطة به. ومع هذا، ونظراً لبعد الشتتلات عن المراكز الدينية اليهودية والمدارس التلمودية العليا، تأثر سكان الشتتل بالجو السلافي المسيحي المحيط بهم. وبعد تقسيم بولندا، كانت معظم الشتتلات تُوجَد في منطقة الاستيطان في روسيا.
وقد وصف حاييم وايزمان حياة اليهود في الشتتل بأنها «كانت حياة غرباء بمعنى الكلمة عن حياة الأغيار وتفكيرهم وأحلامهم ودينهم وأعيادهم وحتى لغاتهم، فكانت تمر أيام يُستبعَد فيها عالم الأغيار حتى من وعينا [اليهودي] كما هو الحال يوم السبت وفي أعياد الربيع والخريف. وكان يفصلنا عن الفلاحين عالم كامل من الذكريات والتجارب» . ومع هذا، ورغم هذا البُعد الظاهري، فإن الشتتل جزء من التشكيل الحضاري السلافي، وذلك كما يتضح في الحركة الحسيدية التي يظن المرء لأول وهلة أنها مغرقة في اليهودية رغم أنها في واقع الأمر متأثرة بالحركات المسيحية الأرثوذكسية الروسية المعارضة للكنيسة (وخصوصاً جماعة الخليستي) . وقد نشأت القيادات الصهيونية في جو الشتتل، كما أن كثيراً من وقائع وشخصيات وحوادث الأدب اليديشي مستقاة منه، كما أن فن مارك شاجال (الرسام الروسي الأصل الفرنسي الجنسية) وقصص بارنارد مالامود (القاص الأمريكي) تعالج موضوعات مأخوذة من عالم الشتتل.
ويرى الكاتب آرثر كوستلر أن أصول الشتتل خزرية وأنه، كمؤسسة فريدة، إحدى ثمرات الدياسبورا الخزرية، أي انتشار الخزر، فهو يشبه المدن التجارية في إمبراطورية الخزر. كما يرى كوستلر أن احتكار يهود الشتتل تجارة الخشب يذكرنا بأن الأخشاب كانت مادة البناء الأساسية عند الخزر وأحد صادراتهم الأساسية، وأن تَخصُّص يهود الشتتل في صنع العربات هو استمرار لعادات الخزر البدوية في الانتقال ونقل الخيام والبضائع. ومن الأعمال الأخرى التي كان يمارسها يهود الشتتل، ولا يمارسها يهود الجيتو، إدارة الفنادق وتشغيل مطاحن الدقيق وتجارة الفراء، وربما يعود هذا أيضاً إلى اختلاف أصول يهود الشتتل عن يهود جيتوات شرق أوربا.
ويجب أن يضاف إلى هذه الملامح المتميِّزة طراز الباجودان (من كلمة «الباجودا» ) الذي أقيمت وفقه أقدم المعابد اليهودية الخشبية في الشتتل والباقية حتى اليوم والتي يعود تاريخها إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو طراز مختلف تماماً عن كل من طراز العمارة المحلية وطراز البناء المُستعمَل لدى اليهود الغربيين. كما تختلف الزخارف الداخلية لأقدم معابد الشتتل اختلافاً تاماً عن نمطها في الجيتو الغربي، فقد كانت جدران معبد الشتتل تُغطَّى بزخارف تشبه الزخارف العربية الإسلامية وتُصوَّر عليها الحيوانات التي تُبرز التأثير الفارسي الموجود في المشغولات الفنية للخزر المجريين.