الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
العنف في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه
أتم عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد أن تولى الخلافة بعد مقتل عمر رضي الله عنه مسيرة الفتوح الإسلامية. ففُتحت أرمينيا والقوقاز في عهده، وأتم فتح بلاد فارس ومملكة الروم وانتقل المسلمون إلى هذه المناطق وعم الخير البلاد الإسلامية وأقبلت الدنيا على الناس في عهده وامتلأت أيديهم من المغانم.
ولعل هذه هي البداية الحقيقية للفتنة العمياء التي انتهت بقتل عثمان رضي الله عنه صابرا محتسبًا راجيًا الأجر من الله تعالى.
وتعود قصة مقتل عثمان إلى ما رواه ابن جرير رحمه الله حيث يقول: "كان عبد الله بن سبأ يهوديًا من أهل صنعاء، أمه سوداء فأسلم زَمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين، يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريدُ عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر"(1) . وجمع حوله أناسًا من المفسدين.
(1) تاريخ الطبري، 2 / 647.
ووضع لهم خطة أوجزها بقوله: "انهضوا في هذا الأمر فحرِّكوه، وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر"(1) .
"وبث دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار، وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جعلوا يكتبون إلى الأمصار بكُتُب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهلُ كُل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويُسرِّون غيرَ ما يبدون، فيقول أهلُ كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتُلي به هؤلاء"(2) .
(1) المرجع السابق، 2 / 647.
(2)
تاريخ الطبري، 2 / 647، انظر: الكامل في التاريخ، 3 / 77، 78.
"وأحاط الثوار بالمدينة للمرة الأولى، مظهرين الأمر بالمعروف وهم يريدون أن يذكروا لعثمان أمورًا زرعوها في قلوب الناس، حتى يرجعوا إليهم فيقولوا لهم: إنا قررناه بها فلم يَعْدِل عنها!! وقد تلطف معهم عثمان، فأجاب عن تساؤلاتهم، وقد أدرك المسلمون أنهم أصحاب شر، فأشاروا على الخليفة بقتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم، فانصرفوا، وقد تواعدوا المجيء في شهر شوال من سنة خمس وثلاثين، حتى يَغزوهُ وكأنهم حجاج".
ولما كان في الموعد المحدد خرج الثوار قاصدين المدينة، جاء في رواية أبي سعيد أن عثمان سمع أن وفد مصر أقبلوا، فاستقبلهم، فقالوا:ادعُ بالمصحف، فدعا به، وقالوا: افتح السابعة يعنون يونس، فلما قرأ:{قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} أوقفوه، وقالوا: أرأيت ما حَمى من الحِمى، آلله أذن لك أم على الله تفتري؟ ثم ذكروا له أشياء أخرى، وكلما ذكروا له شيئًا قال أمْضِه نزلت في كذا. . . فيدفعهم إلى المعنى المقصود منها.
ثم إنهم خرجوا راضين، وأخذ عليهم ميثاقًا ألا يشقوا ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شروطهم، ورجعوا راضين.
فيما هم في الطريق إذا براكب يتعرض لهم ويفارقهم، ثم يرجع إليهم، ثم يفارقهم، قالوا: ما لك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه، فإذا هم بكتاب من عثمان وعليه خاتمه، وفيه الأمر بصلبهم أو قتلهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم، وأقبلوا نحو المدينة، فأتوا عليًا، فقالوا ألم تر إلى عدو الله كتب فينا بكذا وكذا؟ وأن الله قد أحل دمه، فقم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلِمَ كتبت إلينا؟! قال: والله ما كتبتُ إليكم كتابًا، فنظر بعضهم إلى بعض، وخرج علي من المدينة، فانطلقوا إلى عثمان، فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنهما اثنتان، أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ، ولا أمليتُ ولا عَلِمتُ، وقد يكتبُ الكتاب على لسان الرجل، ويُنقش الخاتم على الخاتم. قالوا: قد أحل الله دمك، ونقضت العهد والميثاق، وحاصروه (1) .
(1) تاريخ الطبري، 2 / 655، 656.
ويحيط الثوار بدار عثمان رضي الله عنه، ويتسابق الصحابة في الدفاع عنه، ويستعينون بأبنائهم في الوقوف معه، فإذا هو يستقبلهم، ويقسم عليهم أن يكفوا أيديهم، فيسكنوا، حتى إن بعضهم لبس الدرع مرتين، وحتى إن الأنصار يسألونه أن يكونوا أنصار الله مرتين، فيأمرُهم بالكف، ويقول: لا حاجة ليَ في ذلك (1) .
وبذلك يضرب عثمان أروع الأمثلة على قوة يقينه، ورباطة جأشه وشجاعته، وثباته على رأيه فإن أحدًا من الناس في مثل حال عثمان وشأنه، لم يلق ما لقي عثمان، ولا شيئًا منه، ولم يصبر أحد على ما لقي من البلاء والمحنة مثل ما صبر عثمان. وكيف بصبر ينتهي بصاحبه على علم منه وبصيرة إلى الموت قتلا، وكان له لو كان جزوعًا وأراد ألا يصبر عن يقين ورضا مخارج ينفذ منها، ويعيش في خفض من العيش، ولكن عثمان رضي الله عنه لم يكن ضعيفًا ولا مستضعفًا كما يزعم القاصرون والمقصرون بل كان قوي الإيمان، عظيم اليقين، كبير النفس، عبقري الشجاعة، نبيل الصبر، نفاذ البصيرة، ففدى الأمة، ووضع لها بذلك أعظم قواعد النظام في تكوينها الاجتماعي (2) .
(1) انظر: تاريخ الطبري، 2 / 674، وانظر: كتاب سير الشهداء، من ص48 إلى ص52.
(2)
انظر: الخليفة المفترى عليه، ص 65، وانظر: العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ص 129.
ومما يدل على صبر عثمان رضي الله عنه وثباته عند الفتنة ماورد عن أبي سهلة قال: قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهدًا، فأنا صابر عليه (1) .
وقبل استشهاده بيوم يرى عثمان رضي الله عنه في المنام اقتراب أجله، فيستسلم لأمر الله تعالى، ويأمر من كان عنده في الدار وكانوا سبعمائة تقريبًا من المهاجرين والأنصار يأمرهم أن يكفوا أيديهم، ويذهبوا إلى منازلهم، كما قال لرقيقه: من أغمد سيفه فهو حر (2) .
ويتسور الثوار داره، وتتوزع سيوفهم دماءه الطاهرة، وهو صائم يقرأ القرآن (3) .
وبذلك يتحقق ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الفتنة ، وأن عثمان رضي الله عنه على الحق وأنه سيقتل ظلمًا وذلك لما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فقال:«يُقتل فيها هذا مظلومًا» يعني عثمان رضي الله عنه (4) .
وروى ابن ماجة في "سننه" من طريق عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يومًا، فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله يعني الخلافة فلا تخلعه"، يقول ذلك ثلاث مرات» (5) .
(1) صحيح سنن الترمذي، باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 3 / 212 رقمه (2928) .
(2)
انظر: البداية والنهاية، 7 / 160.
(3)
انظر: كتاب سير الشهداء، ص 52.
(4)
صحيح سنن الترمذي، 3 / 210 رقمه (2925) .
(5)
أخرجه ابن ماجة في سننه، باب فضل عثمان، 1 / 41، وصححه الألباني «صحيح سنن ابن ماجة» ، 1 / 25 رقمه (90) .
فكان قتله رضي الله عنه خسارة للمسلمين ومصيبة عظيمة، حيث لم يخطر ببال الصحابة رضي الله عنهم أن يقتل. ولكن ظنوا أن الخوارج الذين حاصروه أعتبوه في شيء ، وأن الأمر يؤدي إلى تسكين وسلامة (1) .
ولهذا كان موقف الصحابة رضي الله عنهم من الفتنة ومن الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه واضحًا. فابن عباس رضي الله عنهما يفسر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) .
قال: الذين يأمرون بالقسط من الناس: ولاة العدل، عثمان وضربه (3) . وروي أن عليًا رضي الله عنه حين أتاه الخبر بمقتل عثمان: قال: رحم الله عثمان وخلف علينا بخير، وقيل: ندم القوم فقرأ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} (4) . (5)
(1) انظر: كتاب تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، ص 87.
(2)
سورة آل عمران، الآية:(21) .
(3)
تاريخ دمشق، ص 210.
(4)
سورة الحشر: الآية: (16) .
(5)
تاريخ الرسل، 4 / 392 ، انظر: تاريخ دمشق، ص 447.
وفي رواية الإمام الطبري عن عائشة رضي الله عنها: "كان الناس يتجنون على عثمان رضي الله عنه ويزرون على عماله ويأتوننا فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنًا منه كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده بريًّا تقيًّا وفيًّا، ونجدهم فجرة كذبة يحاولون غير ما يظهرون، فلما قووا على المكاثرة كاثروه فاقتحموا عليه داره، واستحلُّوا الدم الحرام والبلد الحرام بلا ترة (1) وعذر"(2) .
وروى البلاذري من طريق عروة عن عائشة قالت: "ليتني كنت نسيًا منسيًا قبل أمر عثمان، فوالله ما أحببت له شيئًا إلا منيت بمثله حتى لو أحببت أن يقتل لقتلت"(3) .
وروى ابن شبّة عن طَلْق بن خُشَّاف قال: "قلت لعائشة: فيم قتل أمير المؤمنين عثمان؟ قالت: قتل مظلومًا، لعن الله قتلته"(4) .
وقالت أم سليم الأنصارية رضي الله عنها لما سمعت بقتل عثمان: "رحمه الله أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دمًا"(5) .
ورُوي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهنَّ قلن حين قتل عثمان: "هجم البلاء، وانكفأ الإسلام"(6) .
وعن أبي مريم قال: "رأيت أبا هريرة يوم قتل عثمان وله ضفيرتان وهو ممسك بهما وهو يقول: قتل والله عثمان على غير وجه الحق"(7) .
(1) ترة: بمعنى النقص. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 1 / 189.
(2)
تاريخ الرسل، 4 / 464.
(3)
أنساب الأشراف، 1 / 596، وفضائل الصحابة، 1 / 462. قال المحقق:إسناده صحيح.
(4)
تاريخ المدينة المنورة، 4 / 1244.
(5)
البداية والنهاية، 7 / 195.
(6)
تاريخ دمشق، ص 539.
(7)
المرجع السابق، ص 493.
وروى ابن كثير في البداية عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: " لأن أخرّ من السماء إلى الأرض أحب من أن أُشرَك في قتل عثمان "(1) .
قال ابن الزبير: "لعنت قتلة عثمان، خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب "، يعني هربوا ليلا، وأكثر المسلمين كانوا غائبين، وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه (2) .
وقال كنانة مولى صفية:"كنت أقود بصفية، لترد عن عثمان، فلقيها الأشتر فضرب وجه بغلتها حتى (مالت) فقالت: ردوني ولا يفضحني هذا الكلب، ولما أخفقت في الوصول إلى دار عثمان، وضعت خشبًا بين سطح منزلها وسطح منزل عثمان - وكانت جاره - لنقل الطعام والشراب "(3) .
فهذا يدلنا على هذا الموقف المجمع عليه من الصحابة رضي الله عنهم في استنكارهم لهذا الحدث المفجع الذي وقع من أولئك الغلاة الذين استحلوا دم خليفة المسلمين وقتلوه وهو يقرأ القرآن الكريم ظلمًا وعدوانًا، فكان موقف الصحابة رضي الله عنهم موقف المستنكر لهذا التصرف.
(1) تاريخ دمشق، ص94. انظر: كتاب تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص 30، 31.
(2)
انظر: كتاب ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ص 203.
(3)
عصر الخلافة الراشدة، ص 432.
وهو كما يرشدنا إلى موقفهم يهدينا إلى أن هذا العنف لا ينتهي عند حد. فقد كان هذا الانحراف الفكري لدى أولئك السبب الرئيس في إسالة دم الخليفة الراشد الثالث وهم يظنون أنهم يؤدون عبادة ويفعلون قربة. نعوذ بالله من الضلال.