المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي - نظام الإثبات في الفقه الإسلامي - جـ ٦٢

[عوض عبد الله أبو بكر]

الفصل: ‌الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي

‌الحكم بالفراسة والقرائن

‌أولاً: الحكم بالفراسة

‌الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي

نظام الإثبات في الفقه الإسلامي "دراسة مقارنة"

للدكتور: عوض عبد الله أبو بكر أستاذ مساعد بكلية الشريعة

-4-

الحكم بالفراسة والقرائن

أولاً: الحكم بالفراسة:

من وسائل الإثبات المختلف فيها عند فقهاء الشريع الحكم بالفراسة، وهل تصلح دليلا يعتمد عليه القاضي في بناء أحكامه، أم لاتصلح دليلا لبناء الأحكام القضائية. وقبل أن نعرض آراء الفقهاء ينبغي معرفة المقصود من الفراسة.

الفراسة لغة:

الفراسة بالكسر من التفرس. يقال: تفرس الشيء إذا توسمه، وتفرست فيه خيرا، توسمته، وهو يتفرس يتثبت وينظر، فالتفرس والتوسم معناهما واحد أي يفسر أحدهما بالآخر1.

الأصل في الفراسة ومعناها الفقهي:

الأصل في الفراسة قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (الحجر:75)، فذكر أهل التفسير أن المتوسمين يعني المتفرسين وذلك اعتمادا على ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم. فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. ثم تلا الآية"2.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم" 3

1 - تاج العروس "فصل الفاء من باب السين"

2 -

نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول للحكيم الترمذي ص271.ط. العثمانية.

3 -

مجمع الزوائد للهيثمي: 1/268

ص: 119

يقول الألوسي: "قال الجلال السيوطي: هذه الآية أصل في الفراسة"1.

معنى هذا أن الفراسة قد ورد اعتبارها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنها سمة من سمات المؤمنين، إذ أن الأحاديث مادحة للمتفرسين، وأن الفراسة مدرك من مدارك المعاني؛ لأن المؤمن المتفرس ينظر بنور الله، فالله عز وجل هو الذي يريه ويفيض عليه.

فإذا ثبت هذا فلينظر كيف سارت تفسيرات العلماء للفراسة:

يقول ابن العربي المالكي في تفسير الآية السابقة: "التوسم: هو تفعّل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها، وهي الفراسة وحقيقتها: الاستدلال بالخَلقْ على الخُلق، وذلك بجودة القريحة، ووحدة الخاطر، وصفاء الفكر"2.

ويقول القرطبي: "هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها

" وقال ثعلب3: "النظر من القرن إلى القدم، واستقصاء وجوه التعريف، وذلك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وزاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا وتطهيره من أدناس المعاصي، وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا"4.

ويفسرها الحكيم الترمذي بقوله: "والتفرس أن يركض بقلبه فارساً بنور الله إلى أمر لم يكن فيدركه

وإذا امتلأ القلب من نور الله تعالى نظرت عينا قلبه بنوره فأدرك في صدره مالا يحاط به وصفا"5.

ويفسرها ابن الأثير بقوله: "الفراسة بمعنيين: أحدهما: ما دل عليه ظاهر الحديث، وهو ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس. والثاني: يعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق"6.

نلاحظ أن هذه التفسيرات مترددة بين اتجاهين:

الأول: إن الفراسة علامة يستدل بها على مطلوب غيرها- وأصحاب هذا التفسير يوافقون المعنى اللغوي، ويقولون: إن العلامات لما كانت متفاوتة منها ما يظهر من أول وهلة

1 تفسير روح المعاني لشهاب الدين الألوسي. ط. دار إحياء الكتب العربية وانظر تفسير ابن كثير. ط. المنار.

2 أحكام القرآن ج 3 ص 1119.

3 هو أحمد بن يحي بن زيد الشيباني المعروف بثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة كان راوية للشعر ومحدثا مشهورا

ومن كتبه "معاني القرآن " و"مجالس ثعلب "، "وما تلحن فيه العامة" توفي سنة 291 هـ.

4 تفسير القرطبي ج10 ص 44.

5 نوادر الأصول ص 271.

6 النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج3 ص 191. ص191. ط. العثمانية.

ص: 120

ولكل فرد من الناس، ومنها ما كان خفيا لا يدرك بباديء النظر، كان الخفيّ منها لا يعرفه إلا ذوو التجربة وصفاء الفكر، والفراسة في جميع هذه الأحوال استدلال بالعلامة لا مدخل للإلهام فيها، بل إن أصحاب هذا القول استنكروا على الصوفية وغيرهم ممن يرون أن الفراسة نوع من الإلهام والكرامة.

وقد تمثل هذا الاتجاه في قول ابن العربي وبه أخذ القرطبي وثعلب، وهو المعنى الثاني عند ابن الأثير.

الثاني: إنّ الفراسة خاطر إلهامي يوقعه الله سبحانه وتعالى في قلوب الصالحين من عباده، فيعرفون به أحوال الناس، ويطّلعون على مالا يطّلع عليه العامة، وقد يدركون به أمراً لم يكن بعد.

وهذا يتمثل في تفسير الحكيم الترمذي، والمعنى الأول عند ابن الأثير وإليه أشار القرطبي بقوله: "إنها تكون لمن صفى قلبه من كدورات الأخلاق وتفريغ القلب من حشو الدنيا

" الخ.

سواء كانت الفراسة استدلالاً بالعلامة أو خاطراً إلهامياً، فإن المتفق عليه في هذه التفسيرات هو أنّ سبيل الإدراك بالفراسة مستتر، وطريق المعرفة بها طريق خفي، وخطوات الاستنتاج فيها غير ظاهرة إلا لمن صفى فكره وكان حادّ الذكاء، أو كان من المؤمنين الصادقين الذين مدحتهم الآية والأحاديث وذكرت أنهم ينظرون بنور الله فتكون فراستهم صادقة ويطرد صوابها.

وجدير في هذا المقام، وحتى يتبيّن لنا معنى الفراسة، أن نذكر جانباً من الآثار التي أوردها الفقهاء تمثيلا للفراسة.

أولا: ما روي من فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

أـ أنه قال: "يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى" ونزلت الآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} . (البقرة: 125) .

ب ـ أنه قال: "يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن. فنزلت آية الحجاب".

ج ـ أنه قال حين اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة: " {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُن} . فنزلت كذلك". (التحريم: 5)1.

1 صحيح مسلم مع شرح النووي ج هـ اص 166، وفيه جاء قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث مقام إبراهيم وفى=

ص: 121

هـ ـ أنه دخل عليه قوم فيهم الأشتر فصعّد فيه النظر وصوّبه، وقال:"أيهم هذا؟ " قالوا: "مالك بن الحارث"، فقال:"ماله قاتله الله إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا"، فكان منه في الفتنة ما كان1.

ثانيا: ما روي عن ذي النورين عثمان رضي الله عنه:

أـ أنه دخل عليه بعض الصحابة، وكان قد مرّ بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه عثمان قال:"يدخل أحدكم عليّ وفي عينيه أثر الزنا". فقال له: أَوَحْياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، قال عثمان:"لا ولكن فراسة صادق"2.

ب ـ أنه لما تفرّس أنه مقتول ولابد، أمسك عن القتال والدفع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو، فأَحبَّ أن يُقتل دون أن يقع قتال بين المسلمين3.

ثالثا: ما روي من فراسة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الحسين بن علي رضي الله عنهما لمّا ودَّعه قال: "أستودعك الله من قتيل"، ومع الحسين رضي الله عنه كتب أهل العراق تناشده الحضور لنصرته، فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم4.

رابعا: ما روي من فراسة الشعبي- رحمه الله أنه قال لداود الأزدي - وهو يماريه-: "إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك"، فكان كذلك5.

والأمثلة من هذا القبيل كثيرة تجل عن الحصر، ولكن الذي يبدو كما ذكرت هو خفاء طريق الاستنتاج، وأن المتفرس يدرك الأمر بأسلوب مستتر، فقد يكون استنتاجه هذا مبنياً على علامات خفية تفرسها، وقد يكون مبنيا على خواطر إلهامية قذفها الله في قلبه ونطق بها لسانه.

- الحجاب وفي أسارى بدر. وفى رواية أخرى عند مسلم قال عليه السلام: "إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم "ج 15 ص 166. و (محدثون) : أي ملهمون، جاء في تحفة الأحوذي ج 4 ص 317: "قال الأكثر: إنه ملهم، وقيل: تكلمه الملائكة من غير نبوة- وورد في حديث أبي سعيد مرفوعا: "قيل يا رسول الله وكيف يحدث؟، قال: "تتكلم الملائكة على لسانه " وقد رويناه في فوائد الجوهري وحكاه القاسي ". اهـ.1نوادر الأصول للحكيم الترمذي ص271.

2 الطرق الحكمية لابن القيم ص 36. تبصرة الحكام لابن فرحون ج 2 ص103.

2 الطرق الحكمية ص 36.

3 المرجع السابق.

4 تفسير الفخر الرازي ج 5 ص 496.

ص: 122