المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومع هذا التداخل بين القرينة والعرف يجب ألا يغيب عن - نظام الإثبات في الفقه الإسلامي - جـ ٦٢

[عوض عبد الله أبو بكر]

الفصل: ومع هذا التداخل بين القرينة والعرف يجب ألا يغيب عن

ومع هذا التداخل بين القرينة والعرف يجب ألا يغيب عن نظرنا التفرقة بينهما، فالقرينة كما قدمنا هي العلامات التي يستنتج منها الواقعة المجهولة التي يراد إثباتها أو الحكم فيها، فقد تكون هذه العلامات مستفادة من أعراف الناس وما تواطأوا عليه، وقد تكون من غير ذلك. بمعنى آخر إن للقاضي أن يبني حكمه بناء على قرينة تعارف الناس على كذا، وقد يبنيه على علامات أخرى في الدعوى ليست مستفادة من العرف والعادة. ومن ثم فإن دائرة القرينة في مجال الإثبات أوسع لأنها تضم العرف وغيره.

ص: 129

‌القضاء بالقرينة:

لم تحظ القرينة بالاتفاق على صلاحيتها كدليل لبناء الأحكام القضائية إلا أنه بالرغم مما يبدو لنا من خلاف حول تحكيم القرائن في فصل النزاع القضائي، فإن جميع المذاهب لا تخلو من إعمال القرائن في بعض المسائل حتى ولو كان ذلك تحت ستار العرف والعادة. ولكن هذا التحكيم للقرائن يختلف من مذهب لآخر، فيتسع مداه لدى فقهاء المالكية ومتأخري الحنابلة ويتوسط لدى الحنفية ويضيق عند فقهاء الشافعية والظاهرية.

وقبل أن نعرض أمثلة توضح أخذ المذاهب المختلفة بالقرائن نطرح أولا أدلة الفريقين، القائلين بتحكيم القرائن والمانعين لها.

أدلة القائلين بالقرينة:

أولا: القرآن الكريم:

لعل من نافلة القول أن نذكر أنه ليس في القرآن الكريم نص قطعي الدلالة على اعتبار القرينة في الأحكام أو عدم اعتبارها، ولكن القائلين بالقرينة قد استنبطوا اعتبارها بدلالة ظنية لبعض النصوص في القرآن الكريم ورأوا جواز الأخذ بها.

والآيات التي استنبط منها الفقهاء جواز الأخذ بالقرينة في الأحكام هي:

(1)

قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} . (يوسف: (18) .

(2)

قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم} . (يوسف: 26- 28) .

ص: 129

ومحل الاستدلال الوارد في هذه الآيات ما ذكره المفسرون من أنّ يعقوب عليه السلام استدل بقرينة سلامة القميص من التمزيق عَلى كذب دعوى إخوة يوسف- عليه السلام بأن الذئب قد أكله، وكذلك استدل الشاهد بقرينة قدّ القميص من دبر على كذب امرأة العزيز وبراءة يوسف- عليه السلام.

ونرى الآن منهجهم في استنباط حكم القرينة من هذه الآيات.

الشاهد الأول:

يقول ابن العربي المالكي عن قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ

} الآية: "فيها ثلاث مسائل- نذكر منها:

المسألة الأولى: إنما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم فروي في الإسرائيليات أن الله تعالى قرن بهذه العلامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التلبيب. والعلامات إذا تعارضت تعيَّن الترجيح، فيقضى بجانب الرجحان وهي قوة التهمة لوجوه تضمنها القرآن، منها طلبهم إياه شفقة ولم يكن من فعلهم ما يناسبها فيشهد بصدقها بل كان سبق ضدها وهي تبرمهم، ومنها أن الدم يحتمل أن يكون في القميص موضوعاً، ولا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من تخريق، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات (العلامات) وتعارضها.

المسألة الثانية: القضاء بالتهمة إذا ظهرت كما قال يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ولا خلاف في الحكم بالتهمة، وإنما اختلف الناس في تأثير أعيان التهم"1.

ومن ذلك أيضا قول القرطبي في تفسيره "استدل فقهاؤنا بهذه القرينة على إعمال الأمارات في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها وأجمعوا على أنّ يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص، وهكذا يجب عَلى الناظر أن يلحظ الأمارات والعلاقات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهى قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها"2.

1 أحكام القرآن 3/ 1065.

2 تفسير القرطبي 9/ 150.

ص: 130

الشاهد الثاني:

إنه لما نشب النزل بين يوسف عليه السلام وامرأة العزيز التي قذفته بما قذفته من إرادة الفاحشة، قال يوسف عليه السلام مكذبا لها، ودفعا لما نسب إليه، {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} فعند ذلك جاء دور الشاهد الذي وصفه القرآن الكريم بأنه من أهلها والذي فصل الخطاب بما ذكره من القرائن التي بان بها الحق وانفض بها النزاع.

والقرائن التي ذكرها الشاهد هي أنه إذا كان قميص يوسف قدّ من القبل فالمرأة صادقة في دعواها بأنه هو الذي أرادها، أما إذا كان قدّ من دبر فهي كاذبة ويوسف بريء من التهمة. والحاصل أن القميص قدّ من دبر، وهذا دليل إدباره عنها وهو دليل براءته1.

وقد يعترض على العلامة المذكورة إذ أنها لا تدل قطعا على براءة يوسف عليه السلام لاحتمال أن الرجل قصد المرأة بطلب الفاحشة فغضبت عليه المرأة فعدت خلفه لتضربه، فعلى هذا الوجه قد يتمزّق القميص من دبر، والمرأة بريئة من الذنب.

وأجيب على هذا الاعتراض بأن القرائن كانت كثيرة وكفيلة بصرف هذه التهمة عنه، أما القرينة المذكورة في الآية إنما جاءت دليلا مرجحا ومقويا لتلك القرائن، ومن هذه القرائن التي ذكرها المفسرون أن يوسف عليه السلام كان عبدا في ظاهر الأمر والعبد لا يمكن أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد، كما أنهم رأوا أن المرأة زيّنت نفسها على أكمل الوجوه، ولم يكن على يوسف عليه السلام آثاراً للتزين. ثم إنّ أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة تدل على براءته إذ لم يروا منه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك مما يقوى الظن. وقيل: إن زوج المرأة كان عاجزا وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة2.

فلما حصلت هذه الأمارات الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كانت من المرأة استحى الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف هو الصادق والمرأة كاذبة، أظهر الله ليوسف دليلا يقوي تلك الدلائل فجاءت تلك القرينة على لسان الشاهد.

كما اعترض على هذه القرينة من ناحية الشاهد المذكور، فقد اختلفوا فيه فقيل:"إنه كان ابن عم المرأة وكان حكيما يستشره الملك"، وقيل:"إنه طفل تكلّم في المهد". فقالوا: إن كان

1 أحكام القرآن3/1073، تفسير الطبري 12/ 116، تفسير الرازي 5/ 179.

2 تفسير الرازي 5/ 179، تفسير الخازن 3/16.

ص: 131

الشاهد طفلا تكلم في المهد لا يكون في الآية دليل على إعمال الأمارات إذ أن الدليل هو كلام الصبي في مهده.

وقد دفع هذا الاعتراض بأنه يستبعد أن يكون الشاهد صبيا بل كان رجلا حكيما وهو الذي يناسب سياق الآية، فلو أنطق الله الطفل لكان كافيا قوله:"إنها كاذبة" ولما احتاج إلى نصب العلامة، ثم قوله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ليكون أولى بالقبول في حق المرأة ولو كان صبيا لا يتفاوت الحال كونه من أهلها أو من غير أهلها. كما أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا لمن تقدمت معرفته بالواقعة وإحاطة بها1.

وقيل: إنه لا تعارض بين كونه صبيا تكلم في المهد وبين الأمارة المنصوبة، فقد يتكلم الصبي، ومع ذلك ينبههم إلى الدليل الذي غفلوا عنه وهي أمارة القميص2

وهناك اعتراض ثالث هو أن هذه الآية تبيِّن شرع السابقين وشرع من قبلنا لا يلزمنا.

وقد أجيب على هذا الاعتراض بالأدلة التي يحتج بها مثبتو العمل بشرع من قبلنا إذا لم يرد دليل على نسخه عنا.

ثانيا: السنة الشريفة وعمل الصحابة رضوان الله عليهم:

كذلك احتجّ القائلون بالقرينة في الأحكام بآثار كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن هذه الآثار:

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: "إنما ذهب بابنك "، وقالت الأخرى: "إنما ذهب بابنك"، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان ابن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقّه بينكما"، فقالت الصغرى:"لا تفعل يرحمك الله هو ابنها "، فقضى به للصغرى"3.

فاستدل بقرينة رضا الكبرى أن يشقّه نصفين وعدم شفقتها عليه أنه ليس ابنها، بينما أشفقت الصغرى وامتنعت عن الدعوى حتى لا يذهب الطفل، فهذا يدل على أنه ابنها إذ أن الله أودع في قلوب الأمهات الشفقة على أبنائهن.

1 روح المعاني 12/ 222، أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1071، والكشاف بهامشه الانتصاف 2/93.

2 أحكام القرآن لابن العربي3/1073، تبصرة الحكام لابن فرحون2 /93.

3 صحيح البخاري 4/ 104 "كتاب الفرائض ".

ص: 132

(2)

ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "أردت السفر إلى خيبر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته"1.

فأقام العلامة مقام الشهادة.

(3)

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا:"يا رسول الله وكيف إذنها؟ " قال: "إذنها صماتها". أو قال: "أن تسكت"2.

فجعل عليه الصلاة والسلام صماتها قرينة على الرضا.

(4)

أنه صلى الله عليه وسلم حينما صالح يهود خيبر كان لحي بن أخطب مال كثير فأخفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم عنه؟ فقال ابن أبي الحقيق عم حيّ ابن أخطب:"أذهبته الحروب والنفقات"، فقال صلى الله عليه وسلم:"العهد قريب والمال أكثر من ذلك"، ثم دفعه إلى الزبير فضربه حتى أقر بمكان المال3. فيظهر اعتماده صلى الله عليه وسلم على الأمارات وشواهد الحال قرب العهد وكثرة المال.

(5)

عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: "عرِّفها سنة ثم اعرف وكاءها ووعاءها وعفاصها ثم استنفع بها فإن جاء ربها فأدها إليه"4. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يدفع اللقطة إلى صاحبها بمجرد الوصف لأن وصفه لها بما يطابق الواقع قرينة على ملكيته.

(6)

أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسحتما سيفيكما؟ " قالا: "لا". قال: "فأرِياني سيْفيكُمَا"، فلما نظر فيهما قال لأحدهما:"هذا قتله وقضى له بسلبه"5.

(7)

أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالقافة وجعلها من أدلة ثبوت النسب وليس فيئها إلا مجرد العلامات والأمارات6.

1 سنن أبى داود 3/ 351.

2 صحيح البخاري كتاب "النكاح " 3/207.

3 السيرة النبوية لابن هشام 3/337. قال في فتح الباري: "أخرجه البيهقي بإسناد رجاله ثقات ". انظر فتح الباري 7/ 386.

4 رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" سنن الترمذي6/173. ط. الصاوي- مصر.

5 صحيح مسلم بشرح النووي 12/62.

6 القافة جمع قائف كبائع وباعة وهو من يعرف النسب بالشبه. وفى الصحيحين أن مجززا المدلجي رأى أسامة-

ص: 133

(8)

حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجم المرأة التي ظهر حملها ولا زوج لها ولا سيد. كما ورد في المتفق عليه قوله في شأن الرجم: "وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف"1.

(9)

كذلك ما ورد في الموطأ وكذلك عن مسلم عن عمر وعثمان وابن مسعود -رضوان الله عليهم - بحد من وجدت منه رائحة الخمر2.

هذا نزر قليل من الأدلة الكثيرة التي أوردها مثبتو العمل بالقرائن في القضاء راعيت في اختياره قوة الثبوت ووضوح الدلالة، ولنقف الآن قليلا مع أدلة المانعين لإعمال القرائن في بناء الأحكام القضائية.

أدلة المانعين:

تتركز حجة هؤلاء في خطورة الأخذ بالقرائن لما يحوطها من الاحتمالات من شأنها أن تؤدي إلى القصاص من متهم بريء، أو إنزال العقوبة على شخص لا يستحق العقاب.

ومن الآثار الواردة في هذا المعنى:

(1)

ما روي أنه أتي برجل وجد في خربة بيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله علي رضي الله عنه فقال:"أنا قتلته"، قال علي:"اذهبوا به فاقتلوه"، فلما ذهبوا به أقبل رجل مسرعاً، فقال:"يا قوم لا تعجلوا ردّوه إلى علي"، فردوه، فقال الرجل:"يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته" فقال علي للأول: "ما حملك على أن قلت: أنا قتلته ولم تقتله؟ " قال: "يا أمير المؤمنين وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحَّط في دمه وأنا واقف وفي يدي سكين وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة، فخفت ألا يقبل مني وأن يكون قسامة فاعترفت بما لم أصنع واحتسبت نفسي عند الله"، فقال علي:"بئسما صنعت فكيف كان حديثك؟ " قال: "إني رجل قصاب وخرجت إلى حانوتي في الغلس فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي أخذني البول فأتيت

وزيدا قد غطيا رءوسها وبدت أقدامها فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض "، فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لكون المشركين كانوا يشككون في نسبهما لاختلاف لونيهما. انظر البخاري (باب الفرائض) 3/ 139، مسلم بشرح النووي10/ 42.

1 بلوغ المرام مع سبل السلام 4/8.

2 الموطأ مع المنتقى 3/142. ط. السعادة. مصر، وانظر صحيح مسلم مع شرح النووي11/216.

ص: 134

خربة كانت بقربي فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا وأخذوني فقال الناس:"هذا قتل هذا ما له قاتل سواه"، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه"، فقال علي للمقر الثاني: "فأنت كيف قصتك؟ " فقال: "أغواني الشيطان فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا، فاعترفت بالحق". فقال للحسين رضي الله عنه:"ما الحكم في هذا؟ " قال: "يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} "(المائدة:32) فخلّى عليّ عنهما، وأخرج دية القتيل من بيت المال"1.

وقد وقع نظير تلك القضية في عهده صلى الله عليه وسلم إلا أنها ليست في القتل.

عن علقمة بن وائل عن أبيه: أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه من نفسها، فاستغاثت برجل مرّ عليها وفر صاحبها، ثم مرّ ذوو عَدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه إليها فقال:"أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر"، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل:"إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني"، فقالت:"كذب، هو الذي وقع عليَّ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انطلقوا به فارجموه"، فقام رجل فقال:"لا ترجموه فارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل" واعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة. فقال: "أما أنت فقد غفر لك"، وقال للذي أغاثها قولا حسنا. فقال عمر رضي الله عنه:"أرجم الذي اعترف بالزنا"، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"لا. لأنه قد تاب"، وفي رواية فقالوا:"يا رسول الله أرجمه"، فقال:"لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم"2.

وعند الترمذي أمر برجمه، فقال:"ارجموه لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم"3.

مما لا شك فيه أن هذين الأثرين يوهنان الأخذ بالقرينة ويفتان في عضد الاحتجاج بها ويقويان شبهة المانعين للعمل بها من حيث أن شواهد الحال كثيرا ما تكذب، وأن الأمر قد

1 الطرق الحكمية ص 67.

2 الحديث رواه أبو داود في سنه 4/233 مع حاشيته عون المعبود.

3 سنن الترمذي6/236.

ص: 135

يكون خلاف ما دلت عليه القرائن الظاهرة، فلو أخذنا بها لذهبت دماء وأموال لمجرد الاحتمال. غير أنه لا يفوتنا في هذه المقام أن نورد ما ذكره الإمام ابن القيم- رحمه الله عن هذين الأثرين.

يقول ابن القيم عن القضية التي عرضت على أمير المؤمنين علي-رضي الله عنه: "وهذا إن كان صلحا وقع برضا الأولياء فلا إشكال، وإن كان بغير رضاهم فالمعروف من أقوال الفقهاء أن القصاص لا يسقط بذلك؛ لأن الجاني قد اعترف بما يوجبه ولم يوجد ما يسقطه فيتعين استيفاؤه، وبعد فلحكم أمير المؤمنين وجه قوي"1.

رأي ابن القيم: أن القصاص قد وجدت موجباته فليس هناك ما يمنع استيفاءه، اللهم إلا أن يكون قد تم ذلك برضاء الأولياء، فكأنه يرى نقصان الرواية لكونها لم تبين وجه عدول أمير المؤمنين علىّ عن استيفاء القصاص.

أما الحديث الثاني فيقول عنه: "وهذا الحديث إسناده على شرط مسلم، ولعله تركه لهذا الاضطراب في متنه"، ويقصد بالاضطراب في المتن ورود رواية بعدم رجم الذي اعترف بالزنا، ورواية الترمذي أنه أمر برجمه. قال ابن القيم:"إن الراوي إما أن يكون قد جرى على المعتاد برجم المعترف، وإما أن يكون اشتبه عليه أمره برجم الذي جاءوا به أولا، فوهم وقال: إنه أمر برجم المعترف. ثم بين أن الذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون، ولم يكن هذا من بينهم. والظاهر أن راوي الرجم في هذه القصة استبعد أن يكون قد اعترف بالزنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجمه، وعلم أن من هديه رجم الزاني فقال: "وأمر برجمه".

وبعد أن بيّن ابن القيم رحمه الله هذا الاضطراب في متن الحديث، ووهّم أحد رواته ذكر أن القرائن في هذا الحديث مع أنها دلت على خلاف الواقع، إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد حكّم القرائن أيضا، وإلا فكيف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم المتهم الذي كان مغيثا للمرأة مع عدم إقراره ولم تقم شهادة على رؤية الزنا. قال:"فيقال: - والله أعلم- إن هذا مثال إقامة الحد باللوث الظاهر القوي، فإنه أدرك وهو يشتد هارباً بين أيدي القوم، واعترف بأنه كان عند المرأة، وادعى أنه كان مغيثا لها، وقالت المرأة: "هو هذا" وهذا لوث ظاهر، وقد أقام الصحابة حد الزنا والخمر باللوث الذي هو نظير هذا أو قريب منه وهو الحمل والرائحة

ولما انكشف الأمر بخلاف ذلك تعين الرجوع إليه، كما لو شهد أربعة بزنا المرأة لم يحكم برجمها إذا ظهر أنها عذراء أو ظهر كذبهم"2

1 الطرق الحكمية: 67.

2 المرجع السابق: ص70- ا 7.

ص: 136