المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء: - نظام الإثبات في الفقه الإسلامي - جـ ٦٢

[عوض عبد الله أبو بكر]

الفصل: ‌القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء:

‌القضاء بالفراسة في آراء الفقهاء:

لما كان الاستدلال بالفراسة لا يقوم على أسس واضحة ظاهرة حيث أنّ خطوات الاستنتاج فيها خفية غير معروفة لغير المتفرِّس فقد منع جمهور الفقهاء بناء الأحكام القضائية على الفراسة، وقالوا: إنها لا تصلح مستنداً للقاضي في فصل الدعوى، إذ أن القاضي لابد له من حجة ظاهرة يبني عليها حكمه.

يقول الشيخ الدردير المالكي فيما يتصف به القاضي: "فالمطلوب الدهاء ويندب ألا يكون زائدا فيه عن عادة الناس، خشية أن يحمله ذلك على الحكم بين الناس بالفراسة وترك قانون الشريعة من طلب البيّنة وتجريحها، وتعديلها، وطلب اليمين ممن وجهت إليه وغير ذلك"1.

ويقول ابن العربي المالكي: "إذا ثبت أن التوهّم والتفرّس من مدارك المعاني، ومعالم المؤمنين، فإن ذلك لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعاً، مدركة قطعاً، وليست الفراسة منها"2.

وجاء في تبصرة الحكّام لابن فرحون قوله: "والحكم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحرز والتخمين، وذلك فسق وجور من الحكم، والظن يخطئ ويصيب"3، ثم بيّن الشاطبي في كتابه الموافقات: أن الفراسة لا تصلح مستنداً للقاضي في حكمه لأن الاعتبارات الغيبية لا دخل لها في بناء الأحكام القضائية، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعظم المتفرِّسين - لم يعتبرها دليلا يعتمد عليه فقال:"إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". فقيّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك"4.

كما أن صاحب (معين الحكام) الحنفي قد ذكر من القول في منع الحكم بالفراسة مثل ما قدمناه عن صاحب تبصرة الحكام، وأن الحكم بها حكم بالظن والتخمين5.

1 الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 4/136.

2 أحكام القران 3/1119.

3 تبصرة الحكام 2/ 104.

4 انظر الموافقات للشاطبي 2/ 185 والحديث رواه البخاري عن أم سلمة- رضي الله عنها صحيح البخاري كتاب الشهادات باب "من أقام البينة بعد اليمين".

5 معين الحكام للطرابلسي ص 204. ط. الأميرية.

ص: 123

رأي ابن القيم:

خالف ابن القيم جمهور الفقهاء وذهب إلى القول بجواز الحكم بالفراسة وقال إنها مدرك صحيح للأحكام، واستخراج الحقوق وفصل الدعاوى، ومن قوله في ذلك:"ولم يزل حذّاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدّموا عليها شهادة ولا إقراراً"1.

وهو في ذلك يرى أنّ الفراسة من القرائن، ويفسِّرها بالعلامة، ويظهر ذلك من فحوى اعتراضه على تفرقة أبي الوفاء بن عقيل- أحد فقهاء الحنابلة - بين الفراسة والأمارات. قال:"وسئل أبو الوفاء بن عقيل عن هذه المسألة - أي مسألة الحكم بالقرينة والأمارات - فقال: "إن الحكم بالقرينة ليس من باب الحكم بالفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج".

فاعترض ابن القيم قائلا: "وقول أبي الوفاء بن عقيل ليس هذا فراسة فيقال: لا محذور في تسميته فراسة، فهي فراسة صادقة، وقد مدح الله الفراسة وأهلها في مواضع كثيرة من كتابه فقال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وهم المتفرسون الآخذون بالسّيما وهي العلامة2.

ومن هنا يتضح لنا أن ابن القيم لا يفرّق بين الاستدلال بالعلامات كانت هذه العلامات خفية لا تدرك إلا للمتفرسين، أم كانت ظاهرة تدرك لكل أحد، ومع أنه قد ذكر جانباً من الأمثلة التي تقدّمت عن الفراسة التي يختفي فيها طريق الاستدلال بالعلامة ويتضح فيها جانب الإلهام كتلك التي قدمناها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلا أنه يرى أن كل ذلك استدلالا بالعلامة ويجوز بناء الأحكام القضائية عليه.

وزيادة على ذلك فقد استدل ابن القيم على القضاء بالفراسة بما كان يفعله إياس بن معاوية وشريح، إذ اشتهر عنهما ذلك، وذاع ذكاؤهما وحسن فراستهما، وقد أورد ابن القيم في الطرق الحكمية آثارا كثيرة عنهما تنم عن ذكاء وصفاء فكر وحدّة فراسة تميّزا بها في إرجاع الحقوق إلى أهلها.

تعقيب.

ومن رأينا أن الفراسة لا تصلح مستندا لحكم القاضي وفصل الدعاوى وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء خلافا لابن القيم، وذلك للأسباب التالية:

1 الطرق الحكمية ص 28.

ص: 124

الأول: أنه لم يرد في الشرع الحكيم ما يدل على اعتبارها والأخذ بها في القضاء، ومع أن الله عز وجل قد مدح المتفرّسين، وأنه تعالى هو الذي يفيض عليهم ويهديهم هذه المعارف التي لا يدركها غيرهم، إلا أن مدارك الأحكام القضائية معلومة شرعا، وقد وضّحها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم خير المتفرسين وأفضلهم وأعرف الناس بالناس. قال:"إنكم تختصمون إليّ.." الحديث، فلم يجعل للاعتبارات الخفية مدخلا، ولم يترك لوسائل الاستنباط غير المنضبطة والمستترة مجالا.

ثانيا: لما كانت الفراسة غير مدركة بالعين الحسية، فقد يكون الاحتجاج بها مدخلا لذوي النفوس المريضة والأغراض والدعاوى الباطلة، فيحكمون بما يوافق أهواءهم وأطماعهم مما يؤدي إلى اختلاف الأحكام وفساد القضاء.

ثالثا: إذا كنا قد وافقنا الفقهاء القائلين بعدم السماح للقاضي القضاء بعلمه لكون طريق الإثبات غير معروف لغير القاضي، فمن باب أولى ألا نوافق في القضاء بالفراسة لنفس السبب. وإن كان فساد الزمان من أسباب منع القاضي أن يقضي بعلمه فهو أيضا سبب كاف لمنع الحكم بالفراسة1.

رابعا: قول ابن القيم رحمه الله "إن الفراسة من الاستدلال بالعلامة" محل نظر لوجود حالات كثيرة للفراسة يختفي فيها الاستدلال بالعلامة، وفيما قدّمنا من أمثلة دليل صادق على صحة قولنا. أما الفراسة التي يكون الاستدلال فيها مبنيا على العلامة الظاهرة فحكمها ملحق بحكم العمل بالقرائن والعلامات. وهو ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

أما فعل إياس بن معاوية وشريح، فقد رجعت إلى كثير من القضايا المأثورة عنهما ووجدت استدلالهم بالعلامة الظاهرة واضحا، غير أنه يظهر جليا ذكاؤهما وفراستهما في الوصول إلى هذه العلامة. ثم إن القضاة ليسوا كإياس وشريح حتى يسيروا سيرهما. كما أنّ جمهور الفقهاء لا يتفق معهم على الأخذ بمنهجهما في القضاء.

وعلى هذا أرى أن الفراسة لا تصلح أن تكون طريقاً من طرق الإثبات في الفقه الإسلامي.

1 يراجع مقالنا في العدد (60) من هذه المجلة.

ص: 125