الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتبين من هذا أن الإمام ابن القيم يرى أن هذين الأثرين لا يمنعان العمل بالقرينة، إنما يؤيدان الحكم بالقرائن إذ أنه عليه السلام أمر برجم الرجل الذي وجد عند المرأة وادّعى إغاثتها وليس هناك ما يدعوه إلى إصدار هذا الحكم بالرجم إلا القرائن الظاهرة. ويرى ابن القيم أن في هذا الحديث تأييداً لمذهبه القاضي بإعمال القرائن في إثبات الحدود.
رأينا في الموضوع
رأينا في الموضوع
…
رأينا في الموضوع:
تبين مما سبق أن الحديث الذي استدل به من رفض القرينة اختلفت فيه أقوال الرواة فظهر الاضطراب في متنه، ومع ذلك ففيه الدلالة على تحكيم القرائن. وكذلك الأثر المروي عن علي- رضي الله عنه وأعوانه فيه اتهام بنقصان الرواية حيث لم تبين كل ظروف القضية المطروحة، ومع ذلك فمن رأيي أن القرائن في هذا الأثر مع أنها دلت على خلاف الواقع إلا أن فيه دلالة على إعمالها أيضا، فالمتهم الأول بالرغم من أنه لم يرتكب الجريمة إلا أنه علم أنه لا يستطيع دحض القرائن الظاهرة فآثر الاعتراف بما لم يجنه. ونفس هذه القرائن هي التي جعلت عسكر علي رضي الله عنه يلقون القبض على المتهم، ولو لم تكن القرائن دليلا في الدعوى لما قبضوه ولما ذكروا أنه القاتل، وإلا كيف يكون الحال إذا وجدنا رجلا مذبوحا وإلى جواره آخر يحمل سكينا مضرجة بالدماء ثم نتركه لاحتمال أن يكون القاتل غيره، فإن صح وجود قاتل غيره كما في هذا الأثر فإنه في حكم النادر.
ففي اعتقادي أنه لا خلاف في أن القرائن لا تخلو من بعض الاحتمالات التي توهن اعتبارها وتضعفها كدليل، ولكن يمكن القول بأن هذه الاحتمالات -كما تدخل في القرينة- قد تدخل في غيرها من طرق الإثبات، فالبينة قد يتطرق إليها كذب الشهود أو نسيانهم، والإقرار قد يدخل الغرض وتحقيق مصلحة ذاتية، ومع ذلك لم يلغ الشارع الحكيم اعتبارهما واعتمادهما كأدلة للإثبات لتوهم هذه الاحتمالات، فالشريعة لها الظاهر والله يتولى السرائر. فإذا كان الاحتمال قد يدخل في أقوى الحجج الشرعية، فليس هو بحجة يمنع بها اعتبار القرائن، وكما يكون هناك ضحايا في القرائن في مثل هذه الاحتمالات، فلا تخلو الأدلة الأخرى أيضا من ضحايا.
ولكن هذه الاحتمالات ليس هي الغالب في أحوال القرينة كما أنها ليست الغالب في الإقرار والبينة. والشارع الحكيم قد عول على الظاهر ودلالة الحال في مواطن كثيرة لا يمكن تجاهلها منها ما ذكرنا ومنها مالا يتسع المجال لذكره. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:
"إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"1. فجعل الشهادة على إيمانه مبنية على الظاهر من حاله وهو ارتياد المساجد. وما الحكم بعدالة الشهود إلا بناء على الظاهر من حالهم، فالغالب من الأحوال أن الظاهر يطابق الواقع. أما الاحتمال فهو في حيز التوهم، فيجب ألا نلقي بالتعويل على القرائن لمجرده. ثم إننا بهذا القول الذي نطلب فيه من القاضي النظر إلى القرائن والأمارات نشترط عليه إمعان النظر والفكر والتثبت فلا يحكم بالقرائن الضعيفة المتهافتة التي لا يقوى بها الظن على ظهور الحكم. فلا بد أن يؤسس حكمه على قرائن ظاهرة يتبين فيها وضوح الدلالة وقوة الحجة بحيث يكون مطمئنا لذلك الحكم منشرح الصدر.
ثم إن هؤلاء المانعين للعمل بالقرائن إذا كانوا قد عاشوا في مجتمعات سليمة غلب على الناس فيها الأمانة والصدق والورع، مما جعلهم يتورعون إلى هذا الحد ويوجبون على القاضي ألا يتعدّى في أدلته على المذكور، فإنّ أعراف اليوم قد تغيَّرت تماما، وتعقّد أسلوب الحياة، ومع هذا التعقيد انعدم الضمير والوازع، وانتشر الفساد وضرب أطنابه، وتكونت للسلب والنهب والسطو عصابات وجمعيات ليس في البلد الواحد فحسب بل أصبحت لها شبكات وفروع عالمية، وانتشرت دعاوى التزوير والغش، وسهل التعدي على النفس والعرض والمال، وكل ذلك يتم وقلّ أن يكون في حادثة منها شاهد عيان واحد، أو إقرار ممن قام بها، وليس هناك من الوازع الديني أو الأخلاقي ما يجعل المتهم يقر بحق عليه أو جريمة ارتكبها، ولو تركناه لليمين لحلفها وحلف عليها ألفاً أنه ما فعل ولا أخذ، فلو قصرنا الإثبات على الأدلة المذكورة لما ثبتت جريمة ولا استخلص حق. ولعمري أن رجال هذا المذهب -مع قلتهم بالنسبة للقائلين بالقرائن- لو وقعت عليهم مثل ما يقع اليوم من الحوادث والقضايا، أو لو أنهم عاشوا حتى رأوا ما نرى لما توقفوا في الإفتاء بما يوافق متطلبات هذه الحوادث والمنازعات، خصوصا وقد عرف منهم حرصهم الشديد على إقامة الحق والعدل.
ثم إنه مع هذا التقدم العلمي الذي يشهده عالم اليوم أمكن التوصل إلى قرائن قوية تبين الحق وتعين على فهم الدعوى كالتحليلات المعملية من فحص للدم وغيره ومطابقة بصمات الأصابع ومضاهاة الخطوط وغير ذلك. فإننا إذا أهملنا هذه القرائن وألقينا بها في البحر بحجة ما يتطرق إليها من الاحتمال لعرضنا الشريعة الإسلامية لتهمة الجمود وعدم
1 سنن الدارمي 1/ 222 وفي تخريج أحاديث الدارمي يقول عبد الله هاشم اليماني: "رواه أيضا أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن غريب " وابن ماجة والحاكم وقال صحيح الإسناد.