الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن يا كريم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهب أنك - أخي القارئ - قد عُدت إلى منزلك في يوم من الأيام فوجدت رجلًا في انتظارك وبصحبته زوجته وأولاده، ومعه رسالة من أحد أصدقائك الذين لا يمكنك أن ترد لهم طلبًا، يخبرك فيها بأن حامل رسالته أخ لك في الله، قد تعرض لمحن وابتلاءات كثيرة، وهو الآن بلا مال ولا مأوى، وعليك أن تستضيفه وعائلته في منزلك، وأن تقتسم معه مالك، وطعامك، فضلًا عن مسكنك، وليس لهذه الاستضافة مدة معلومة، فقد تمتد شهورًا أو سنين
…
فماذا تتوقع أن يكون رد فعلك تجاه هذا الأمر؟!
هل ستكون سعيدًا بهذه الرسالة وما تحتويه؟ أم سيضيق صدرك ويشتد غمك، فالراتب لا يكفي إلا بالكاد، والمسكن يضيق بأفراد الأسرة، فكيف سيكون الحال لو تم اقتسام الراتب والمسكن بينك وبين أخيك؟
وحتى إن كنت موسرًا؛ فمن يتحمل أن يتعايش مع أُناس لا يعرفهم ولا يعرف طباعهم وأسلوب حياتهم؟
لا أكتمك القول - أخي - بأنني قد تخيلت نفسي في هذا الموقف، فتوقعت مقدار الحرج الذي سيصيبني، ومدى الضيق الذي قد يتولد في صدري والذي قد يزيد بطول مدة الاستضافة، ومن المتوقع أن تدور أمنيتي وقتها حول إمكانية كون هذا الرجل قد أخطأ في العنوان، وأن المقصود شخص آخر غيري، وقد أُسارع بالاتصال بمن كتب الرسالة محاولًا التملص من هذا العمل، وأتعلل بظروف كثيرة تحول بيني وبين استضافة هذه الأسرة، وإن وافقت على استضافتها فستكون موقوتة بمدة محددة، وسأجتهد في أن تكون هذه المدة قصيرة قدر الإمكان
…
هذا الموقف - الذي نتمنى ألا نتعرض له - قد تعرض له الأنصار في صدر الدعوة، فلقد خرج المهاجرون فارين بدينهم من مكة تاركين فيها ديارهم وأموالهم، وتوجهوا إلى يثرب تنفيذًا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. هاجروا إليها دون أن يكون لهم فيها مأوى، ولم يكن معهم من الأموال ما يُمكنهم من الإنفاق على أنفسهم، أو اقتناء مساكن تؤيهم، وفي المقابل كان أهل المكان من الأنصار فقراء، فضلًا عن أنهم لم يكن بينهم وبين المهاجرين سابق صلة أو معرفة، ومع ذلك كان عليهم أن يستضيفوا إخوانهم المهاجرين استضافة كاملة .. فماذا كان تصرفهم تجاه هذا الأمر؟!
تُجيبنا كتب السيرة بأنهم كانوا في سعادة غامرة بتلك الاستضافة إلى حد تسابقهم وتنافسهم فيما بينهم للفوز بكل مهاجريّ يصل إلى المدينة .. هذا التسابق والتنافس الذي كان على أشُده جعلهم يلجأون إلى إجراء القرعة لتحديد الفائز باستضافة الوافد الجديد .. نعم، لقد حدث هذا، حتى قيل: ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.
ولعلك - أخي القارئ - تعجب من هذا التصرف الذي نعجز عن القيام به، ولعلك كذلك تتساءل معي: ما الذي جعلهم يصلون إلى هذا المستوى، وهذا السلوك الذي يفوق طاقات احتمال البشر؟
يُجيب القرآن على تساؤلاتنا، ويبين لنا السبب الذي دفع هؤلاء الأنصار لهذا الإيثار العظيم مع فقرهم وشدة حاجتهم وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
…
} [الحشر/9].
فالآية الكريمة تصف هؤلاء بأنهم تبوءوا الدار: أي استوطنوا يثرب قبل مجيء المهاجرين، وتقول عنهم الآية كذلك بأنهم استوطنوا الإيمان ..
ولكن كيف يُستوطن الإيمان؟! أليس من المعلوم أن الإيمان هو الذي يدخل القلب؟!
نعم هو كذلك، ولكن من شدة تمكُّن الإيمان منهم: فكأنهم هم الذين دخلوا فيه واستوطنوه، والدليل على ذلك هو هذا الفعل العجيب: الإيثار مع الحاجة ..
الأمر إذن واضح؛ إن أردنا سلوكًا صحيحًا، واستقامة جادة، وأخلاقًا حسنة، فعلينا بالإيمان، فكلما ازداد الإيمان انصلح القلب، فتحسنت الأفعال.
ولكي يصبح الإيمان راسخًا في القلب ومهيمنا عليه لابد من ممارسة أسباب زيادته، وتعاهد شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارًا طيبة بصورة دائمة.
أو بعبارة أخرى: نحتاج ممارسة «التربية الإيمانية» مع أنفسنا، ومع كل من نتولى أمر تربيته إن أردنا الإصلاح الحقيقي لأنفسنا وأمتنا.
فإن قلت: وكيف لنا أن نفعل ذلك؟!
كانت الإجابة بأن هذه الصفحات التي بين يديك - أخي - تُعطيك صورة عامة عن ذلك، فهي بمثابة مبادئ وإشارات حول التربية الإيمانية من حيث: ثمارها، وأهدافها، وحقيقتها، وجناحيها (أعمال القلوب، وأعمال الجوارح) وإن شئت قلت: الإيمان، والعمل الصالح ..
نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا بفضله وكرمه كل خير أفاض به علينا في هذه الصفحات، وأن يغفر لنا زلَّاتنا، وألا يحرمنا - بجوده - الأجر إن أصبنا أو أخطأنا (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا).