الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف/170].
فالدعوة إلى الله هي عمل الرسل وأتباعهم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف/108].
ونجاح الداعية في دعوته للناس يعني التأثير الإيجابي فيهم .. هذا التأثير يستلزم وجود روح حي، ورغبة جارفة تهيمن على قلبه تستحثه لإنقاذ الآخرين، فيخرُجُ كلامه محملًا بالحرقة والشفقة عليهم .. ولا يمكن التلبس بهذه الحالة إلا من خلال يقظة الإيمان وتمكنه في قلبه.
الإيمان الحي يدفع صاحبه للبدء بنفسه في القيام بالعمل الصالح قبل أن يدعو الناس إليه، فيصدق قوله فعله، ومن ثَمَّ يزداد تأثيره في الآخرين.
يقول سيد قطب: الكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال، ويؤيدها العمل هي الكلمة المثمرة، التي تُحرك الآخرين إلى العمل.
ويقول: أيما داعية لا يصدق فعله قوله، فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب مهما كانت كلماته بارعة، وعباراته بليغة (1).
القلوب بيد الله:
إن الذي يفتح القلوب لكلام الدعاة هو الله عز وجل فإن رأى منهم صدقًا وإخلاصًا، ورغبة في نفع المدعوين، وشفقة صادقة عليهم فإنه سبحانه يفتح لهم - بفضله - قلوبهم.
وكلما علت منزلة العبد عند ربه بالإيمان أحبه الله عز وجل، ومن ثَمَّ وضع له القبول في الأرض كما في الحديث:«إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» (2).
أصلح نفسك تُصلَح لك رعيتك:
انظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمشي بجانب راحلة عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو يوصيه قبل سفره على رأس الجيش المتوجه إلى الشام قائلًا: «يا عمرو، اتق الله في سرائرك وعلانيتك واستحيه، فإنه يراك ويرى عملك .. فكن من عمال الآخرة، وأَرِد بما تعمل وجه الله، وكن والدًا لمن معك، ولا تكشفن الناس عن أستارهم، واكتفِ بعلانيتهم .. وإذا وعظت أصحابك فأوجز، وأصلح نفسك تُصلَح لك رعيتك» (3).
ولما حضر أبا بكر الموت أوصى باستخلاف عمر بن الخطاب، ثم بعث إلى عمر فدعاه فكان مما وصاه به:
إن أول ما أحذرك نفسك، وأحذرك الناس .. فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت الله وفَرَقْته (4).
وعن المِسوَر بن مخرمة قال: كنا نتعلم من عمر بن الخطاب الورع (5).
ومن ثمار الإيمان:
تاسعًا: اتخاذ القرارات الصعبة
يتعرض المرء في حياته لمواقف تحتاج منه إلى اتخاذ قرارت قد ينتج عنها نقص يلحق به، أو أذى يُصيبه، أو ضيق الآخرين منه، لذلك تجده مترددًا قبل اتخاذها، ويظل يُفكِّر فيها، ويوازن بين الواجب الديني الذي يحُثُّه على فعل الشيء وبين الأضرار التي قد تترتب على فعله، مما قد يؤدي في النهاية إلى ترك القيام به، فيُفوِّت على نفسه مصالح كثيرة في دنياه وآخرته.
هذا الحال يعكس ضَعف القلب وعدم تمكن الإيمان منه، وفي المقابل؛ كلما ازداد الإيمان قَوِي القلب وسهل على صاحبه اتخاذ القرارات التي قد يكون لها من الناحية الظاهرية تأثير سلبي عليه ..
(1) في ظلال القرآن 4/ 2369.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (3/ 1175، رقم 3037)، ومسلم (4/ 2030، رقم 2637).
(3)
حياة الصحابة 1/ 544.
(4)
حياة الصحابة 1/ 541.
(5)
أخرجه ابن سعد (3/ 290).
ومن أمثلة هذه القرارات: الشهادة على النفس أو الآخرين، الاعتراف بالخطأ، قبول النُصح، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأصدقاء وأصحاب المناصب، الإنفاق في وقت العُسرة، التضحية بما يحبه المرء ..
نماذج مشرقة:
وإليك أخي القارئ بعض الأمثلة العملية من حياة الصحابة، والتي تؤكد هذا المعنى:
- جلس عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء، فقال: بالله يا رسول الله، ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أَبِي، لعل الله يُطهر بها قلبه. فأفْضَلَ له، فأتاه بها، فقال له أبوه: فهلَّا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أما أذِنْت لي في قتل أَبِي؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل ترفق به وتُحسن إليه» ؟ (1).
- وقال عروة: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك ذلك، فقال: لمَّا أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفسي نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها (2).
- عن أنس أن رجلًا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، قال: عذت معاذًا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فحمل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويُقدم ابنه معه، فقدما، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضربه، فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله ضربه ونحن نُحب ضربه فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يُرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه، فقال عمر لعمرو: مُذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحرارًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني (3).
- وعن ابن عمر قال: اشتريت إبلًا وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت قدمت بها، فدخل عمر السوق فرأي إبلًا سمانًا فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل لعبد الله بن عمر، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر: بخ بخ، ابن أمير المؤمنين، فجئت أسعى، فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قلت: اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال: ارعو إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر، اغدُ إلى رأسِ مالك، واجعل الفضل في بيت مال المسلمين (4).
إسداء النصيحة:
بعد انتصارات خالد بن الوليد المتتالية في العراق بعث إليه أبو بكر الصديق برسالة تهنئة ونصيحة فقال فيها:
وعندما أمَّر عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص على حرب العراق أرسل إليه وأوصاه فقال:
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/ 199، وأخرج بن أبي شيبة في مصنفه حديثا بمعناه (ج 3/ ص 538 حديث رقم: 6627).
(2)
صلاح الأمة في علو الهمة للدكتور سيد حسين العفاني (5/ 435).
(3)
إسناده ضعيف: رواه ابن عبد الحكم في (فتوح مصر)، كنز العمال (36010).
(4)
السنن الكبرى للبيهقي (6/ 147، 12156)، وسنن سعيد بن منصور، ومصنف ابن أبى شيبة، وأورده المتقي الهندي في كنز العمال (36006).