المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٥

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ

القول في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‌

(244) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وقاتلوا"، أيها المؤمنون="في سبيل الله"، يعني: في دينه الذي هداكم له، (1) لا في طاعة الشيطان= أعداء دينكم، (2) الصادين عن سبيل ربكم، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم، ولا تجبنوا عن حربهم، (3) فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم، (4) فتذلوا، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه، (5) كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، الذين قصصت عليكم قصتهم، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري، وحل بهم قضائي، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه، إذ دافعت عنهم مناياهم، وصرفتها عن حوبائهم، (6) فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني، فإن من حيي منكم فأنا أحييه، (7) ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله.

(1) انظر ما سلف في تفسير: "سبيل الله" 3: 583، 592، والمراجع هناك.

(2)

"أعداء. . . " مفعول"قاتلوا"، والسياق:"قاتلوا أيها المؤمنون. . . أعداء دينكم".

(3)

في المخطوطة"ولا تحموا عن قتاله عند لقائهم، ولا تحبوا عن حربهم" غير منقوطة، بإفراد ضمير"قتاله"، فغيرها مصححوا المطبوعة، إذ لم يحسنوا قراءتها فجعلوها:"ولا تجبنوا عن لقائهم، ولا تقعدوا عن حربهم" غيروا وبدلوا واسقطوا وفعلوا ما شاءوا!! . وقوله: "ولا تحتموا عن قتالهم" من قولهم: احتميت من كذا وتحاميته: إذا اتقيته وامتنعت منه. و"من" و"عن" في هذا الموضع سواء.

(4)

في المطبوعة: "فيدعوه ذلك إلى التفريد"، وهو خطأ، وزاده خطأ بعض من علق على التفسير، بشرح هذا اللفظ المنكر. والتعريد: الفرار وسرعة الذهاب في الهزيمة. يقال: "عرد الرجل عن قوله"، إذا أحجم عنه ونكل وفر.

(5)

وأل إلى المكان يئل، وؤولا ووئيلا ووألا: لجأ إليه طلب النجاة. والموئل: الملجأ.

(6)

الحوباء: النفس، أو ورع القلب.

(7)

في المطبوعة: "فأنا أحيحه"، وأثبت ما في المخطوطة.

ص: 280

ثم قال تعالى ذكره لهم: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم"سميع" لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي: لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا="عليم" بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم، (1) وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي.

يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين: فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي، وغير ذلك من أمري ونهيي، إذ كفر هؤلاء نعمي. واعلموا أن الله سميع لقولهم، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، محيط بذلك كله، حتى أجازي كلا بعمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.

* * *

قال أبو جعفر: ولا وجه لقول من زعم أن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال، بعد ما أحياهم. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، لا يخلو- إن كان الأمر على ما تأولوه- من أحد أمور ثلاثة:

= إما أن يكون عطفا على قوله:"فقال لهم الله موتوا"، وذلك من المحال أن يميتهم، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.

= أو يكون عطفا على قوله:"ثم أحياهم"، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله بالقتال، وقوله:"ثم أحياهم"، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض، لو كانا جميعا خبرين، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟

= أو يكون معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، ثم أسقط"القول"،

(1) في المطبوعة: "بما تخفيه صدورهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وأجن الشيء: ستره وكتمه وأخفاه.

ص: 281

كما قال تعالى ذكره: (إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)[سورة السجدة: 12]، بمعنى يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها.

* * *

القول في تأويل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: من هذا الذي ينفق في سبيل الله، فيعين مضعفا، (1) أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله، ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه.

وإنما سماه الله تعالى ذكره"قرضا"، لأن معنى"القرض" إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له، ليقضيه مثله إذا اقتضاه. فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة، سماه"قرضا"، إذ كان معنى"القرض" في لغة العرب ما وصفنا.

وإنما جعله تعالى ذكره"حسنا"، لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه، احتسابا منه. فهو لله طاعة، وللشياطين معصية. (2) وليس

(1) أضعف الرجل فهو مضعف: ضعفت دابته، يعينه بإبداله دابة غيرها.

(2)

في المطبوعة: "وللشياطين معصية"، وفي المخطوطة:"وللسلطان"، وهو سهو من الناسخ.

ص: 282

ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه، ولكن ذلك كقول العرب:"عندي لك قرض صدق، وقرض سوء"، للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته، (1) كما قال الشاعر:(2)

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا

أو سيئا، ومدينا بالذي دانا (3)

* * *

فقرض المرء: ما سلف من صالح عمله أو سيئه. وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها تعالى ذكره: (4)(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[سورة البقرة: 261] .

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:

5617-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال: هذا في سبيل الله="فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: بالواحد سبعمئة ضعف.

5618-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، جاء ابن الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ مما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال: فكان النبي صلى الله

(1) في المطبوعة"يأتي فيه الرجل. . . "، وفي المخطوطة:"يأتي فيه الرجل" غير منقوطة، ونقل أبو حيان في تفسيره 2: 248 هذا القول عن الأخفش، ونصه:"لأمر تأتي مسرته أو مساءته"، ولكني استظهرت قراءتها كما أثبت، فجميع ما مضى تحريف.

(2)

هو أمية بن أبي الصلت.

(3)

ديوانه: 63، واللسان (قرض) ، وروايته"أو مدينا مثل ما دنا"، وفي الديوان:"كالذي دانا".

(4)

في المطبوعة: "قال الله فيها تعالى ذكره"، وأثبت ما في المخطوطة.

ص: 283

عليه وسلم يقول:"كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة! (1) .

5619-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بهذه الآية قال:"أنا أقرض الله"، فعمد إلى خير حائط له فتصدق به. قال، وقال قتادة: يستقرضكم ربكم كما تسمعون، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده. (2)

5620-

حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال أبو الدحداح:

(1) الحديث: 5618 - هذا حديث مرسل، فهو ضعيف الإسناد، لأن زيد بن أسلم تابعي، ولم يذكر من حدثه به من الصحابة.

والحديث ثابت في تفسير عبد الرزاق، ص: 31 (مخطوط مصور) ، عن معمر، به.

وهو عند السيوطي 1: 312، ولم ينسبه لغير عبد الرزاق والطبري.

وقد ذكر ابن كثير 1: 594 أن ابن مردويه روى نحو الحديث الآتي: 5620"من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، مرفوعا بنحوه".

وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ضعيف جدا، كما بينا في: 185 فلا قيمة لهذا الرواية.

وسيأتي عقب هذا حديث آخر مرسل بمعناه، ثم: 5620، من حديث ابن مسعود. ونرجئ بيان أصل القصة حتى نتحدث عنها هناك.

قوله"ابن الدحداح" و"لابن الدحاح": هذا هو الثابت في تفسير عبد الرزاق، وهو الذي أثبتناه هنا. وفي المخطوطة -فيهما-"الدحداحة". وفي المطبعة"أبو الدحداح"، و"لأبي الدحداح". وما في تفسير عبد الرزاق أرجح، لأنه الأصل الذي روى عنه الطبري.

قوله: "إنما أعطانا لأنفسنا": هو الثابت عند عبد الرزاق، وهو أجود. وكان في المطبوعة"مما" بدل"إنما".

"العذق"(بفتح فسكون) : النخلة. أما"العذق" -بكسر العين: فهو عرجون النخلة. و"المذلل"- بفتح اللام الأولى مشددة: الذي قد دليت عناقيده، حتى يسهل اجتناء ثمرته، لدنوها من قاطفها.

(2)

الحديث: 5619- وهذا مرسل أيضًا، فهو ضعيف الإسناد، وآخره موقوف من كلام قتادة. وذكره السيوطي 1: 312، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، فقط. ولم يذكر كلام قتادة في آخره.

في المخطوطة: "ويسعر عباده"، هكذا غير معجمة ولا مبينة، وتركت ما في المطبوعة على حاله، فهو في سياقة المعنى. والأثر في الدر المنثور 1: 321، ولكنه أسقط هذه الجملة الأخيرة عن قتادة.

ص: 284

يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟! قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: يدك! قال: (1) .

فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطا فيه ستمئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة. (2)

* * *

(1) في المطبوعة: "قال: يدك قبل، فناوله"، وفي المخطوطة:"يدك قيل" ثم وضع ألفا على رأس الياء بعد القاف، كأن أراد أن يجعلها"قال" كما أثبتها ورجحتها، لنص مجمع الزوائد 9: 324: "قال: أرنا يدك. قال: فناوله يده".

(2)

الحديث: 5620 - وهذا إسناد ضعيف جدا.

محمد بن معاوية بن يزيد الأنماطي - شيخ الطبري: ثقة مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد 3: 274- 275.

خلف بن خليفة بن صاعد الأشجعي: ثقة، تغير في آخر عمره، مات نحو سنة 181، وهو ابن 101 سنة، وقد فصلنا القول في ترجمته في المسند:5885.

حميد الأعرج الكوفي القاص: هو حميد بن علي، على ما جزم به البخاري في +الكثير 1/ 2 / 351، والضعفاء، ص:9. ويقال: "حميد بن عطاء" وهو الذي جزم به ابن أبي حاتم 1 / 2 / 226 - 227، وابن حبان في كتاب المجروحين، رقم: 265. وهو ضعيف جدا. قال البخاري: "منكر الحديث". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، منكر الحديث، قد لزم عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود، ولا يعرف لعبد الله بن الحارث عن ابن مسعود شيء! ". وقال ابن حبان: "يروى عن عبد الله بن الحرث عن ابن مسعود- نسخة كأنها موضوعة. لا يحتج بخبره إذا انفرد".

عبد الله بن الحارث الزبيدي النجراني المكتب: ثقة. سبق في ترجمة الراوي عنه قول أبي حاتم أنه لا يعرف له شيء عن ابن مسعود. فالبلاء في هذه الرواية من حميد الأعرج.

وهذا الحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن خلف بن خليفة، بهذا الإسناد. على ما نقله عنه ابن كثير 1: 593- 594.

وذكره السيوطي 1: 312، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن سعد، والبزار، وابن المنذر، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 320، بنحوه. وقال:"رواه البزار، ورجاله ثقات". ثم ذكره مرة أخرى 9: 324 بلفظ آخر نحوه. وقال: " رواه أبو يعلى، والطبراني، ورجالهما ثقات. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح".

هكذا قال الهيثمي في الموضعين. وليس عندي إسناد من الأسانيد التي نسبه إليها، ولا الكتب التي ذكرها السيوطي، إلا ابن سعد. ولم أجده فيه، لأن النسخة المطبوعة من طبقات ابن سعد تنقص كثيرا من الكتاب، كما هو معروف.

ولقصة أبي الدحداح أصل آخر صحيح. من حديث أنس، رواه أحمد في المسند: 12509 (3: 146 حلبي)، بإسناد صحيح:"عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة، فأبى، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي! ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم،. فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من عذق راح، لأبي الدحداح، في الجنة. قالها مرارا، قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها".

وحديث أنس هذا في مجمع الزوائد 9: 323-324. وقال: "رواه أحمد، والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح". ووقع في مطبوعة مجمع الزوائد سقط نحو سطر أثناء الحديث، يصحح من هذا الموضع.

وله أصل ثان صحيح. فروى مسلم في صحيحه 1: 264، عن جابر بن سمرة، قال:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح، ثم أتى بفرس عري، فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به، ونحن نتبعه نسعى خلفه، قال: فقال رجل من القوم: إن لنبي صلى الله عليه وسلم قال: كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح". "أو قال شعبة: لأبي الدحداح".

و"أبو الدحداح": هو ثابت بن الدحداح، أو ابن الدحداحة. ويكنى"أبا الدحداح" أو"أبا الدحداحة"، مترجم في الإصابة 1:199. ثم ترجمه في الكنى 7: 57 - 58، وذكر الخلاف في أنه واحد أو اثنان. ثم زعم أن الحق أن الثاني غير الأول! واستدل بحديث نقله من رواية أبي نعيم ضعيف، وأن في إسناده رجلا"واهى الحديث"!! فسقط الاستدلال به دون ريب.

الحائط: بستان النخيل إذا كان عليه جدار يحيط به، فإن لم يكن عليه الحائط فهو"ضاحية".

ص: 285

وأما قوله:"فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، فإنه عدة من الله تعالى ذكره مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته، ما لا حد له ولا نهاية، كما: -

5621-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو.

وقد: -

5622-

وقد حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال: إن الله أعطاكم

ص: 286

الدنيا قرضا، وسألكموها قرضا، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمئة، إلى أكثر من ذلك. وإن أخذها منكم وأنتم كارهون، فصبرتم وأحسنتم، كانت لكم الصلاة والرحمة، وأوجب لكم الهدى. (1)

* * *

قال أبو جعفر: وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (فيضاعفه) بالألف ورفعه، بمعنى: الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له= نسق"يضاعف" على قوله:"يقرض".

* * *

وقرأه آخرون بذلك المعنى: (فيضعفه) ، غير أنهم قرءوا بتشديد"العين" وإسقاط"الألف".

* * *

وقرأه آخرون: (فيضاعفه له) بإثبات"الألف" في"يضاعف" ونصبه، بمعنى الاستفهام. فكأنهم تأولوا الكلام: من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله:"فيضاعفه" جوابا للاستفهام، وجعلوا:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" اسما. لأن"الذي" وصلته، بمنزلة"عمرو" و"زيد". فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل:"من أخوك فتكرمه"، لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء= إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل= نصبه.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب، قراءة من قرأ:(فيضاعفه له) بإثبات"الألف". ورفع"يضاعف". لأن في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" معنى الجزاء. والجزاء إذا دخل في جوابه"الفاء"، لم يكن جوابه

ص: 287

ب"الفاء" لا رفعا. فلذلك كان الرفع في"يضاعفه" أولى بالصواب عندنا من النصب. وإنما اخترنا"الألف" في"يضاعف" من حذفها وتشديد"العين"، لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربا دونه يعبدونه. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي: -

5623-

حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا حجاج= وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا= حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد وقتادة، عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله الباسط القابض الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال". (1) .

* * *

(1) الحديث: 5623 -عبد الملك بن محمد الرقاشي أبو قلابة- شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 4331.

الحجاج؛ هو ابن المنهال الأنماطي.

أبو ربيعة: هو زيد بن عوف القطعي، ولقبه"فهد". تكلموا فيه كثيرا لأحاديث رواها عن حماد بن سلمة. وأما البخاري فقال في الكبير 2/1/ 369:"سكتوا عته". وهو مترجم أيضًا في ابن أبي حاتم 1/2/ 570 - 571، ولسان الميزان.

ومهما يكن من شأنه، فإنه لم ينفرد بهذا الحديث، فلا يؤثر فيه ضعفه إن كان ضعيفا.

والحديث صحيح بهذا الإسناد، من جهة الحجاج بن المنهال، ومن الروايات الأخر التي سنذكر.

فرواه أحمد في المسند: 12618 (3: 156 حلبي) ، عن سريج ويونس بن محمد، عن حماد ابن سلمة، عن قتادة وثابت البناني، عن أنس.

ورواه أيضًا: 14102 (3: 286 حلي) ، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن قتادة وثابت وحميد، عن أنس.

ورواه الترمذي 2: 271- 272، وابن ماجه: 2200- كلاهما من طريق الحجاج بن النهال بهذا الإسناد. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

ورواه أبو دواد: 3451، من طريق عفان، عن حماد، به.

وذكره السيوطي 1: 313، وزاد نسبته للبيهقي في السنن.

ص: 288

قال أبو جعفر: يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره. فكذلك قوله تعالى ذكره:،"والله يقبض ويبسط"، يعني بقوله:"يقبض"، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه= ويعني بقوله: و"يبسط" يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم.

وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك، حث عباده المؤمنين- الذين قد بسط عليهم من فضله، فوسع عليهم من رزقه- على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله، (1) فقال تعالى ذكره: من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني -أيها الموسع- (2) الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به= والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به، من غنى وفاقة، وسعة وضيق، عند رجوعكما إلي في آخرتكما، ومصيركما إلي في معادكما.

* * *

(1) الحمولة (بفتح الحاء) : كل ما يحمل عليه الناس من إبل وحمير وغيرها. والحمولة (بضم الحاء) الأحمال والأثقال. هذا وأخشى أن يكون صواب العبارة في الأصل"بالأنفاق عليه وعلىحملته" وقوله: "علي النهوض" متعلق بقوله: "ومعونته".

(2)

في المطبوعة: "فإني أنا الموسع الذى قبضت"، وهو كلام لا يستقيم أبدا، والصواب ما في المخطوطة. و"الموسع": الغني الذى كثر ماله. من قولهم: "أوسع الرجل"، صار ذا سعة وغنى وكثر ماله. وقال الله تعالى:"علي الموسع قدره وعلي المقتر قدره". وانظر ما سلف في تفسير"الوسع" في هذا الجزء: 45. وسياق العبارة"فانى.... الذي قبضت".

ص: 289

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

5624-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" الآية، قال: علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى، فندب هؤلاء فقال:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط"؟ قال: بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، (1) وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له، فقوه مما في يدك، يكن لك في ذلك حظ.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإلى الله معادكم، أيها الناس، فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه، وأن يحمل المقتر منكم- إذ قبض عن رزقه- إقتاره على معصيته، والتقدم على ما نهاه، (2) فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه، ما لا قبل له به من أليم عقابه. (3)

* * *

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يبسط عليك" مضارعا، وهو لا يطابق قوله بعد:"وقبض". فجعلتها"بسط"، وإن شئت جعلت الأخرى:"ويقبض"، كما في الدر المنثور 1: 313، وأنا أرجع الأولى.

(2)

في المطبوعة: "وأن يحل بالمقتر منكم فقبض عنه رزقه، إقتاره...."، وهو كلام فاسد وفي المخطوطة:"وأن يحمل المقتر منكم فقبض عنه رزقه. . . " وهو لا يستقيم أيضًا، ورجحت أن تكون الأولى" المقتر" كما في المخطوطة، وأن تكون الأخرى"إذ قبض"، أو"بقبضه عنه

" وسياق الجملة: "وأن يحمل المقتر منكم

إقتاره علي معصيته) .

(3)

في المطبوعة: "فيستوجب بذلك منه بمصيره. . . وهو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "عنه مصيره"، وظاهر أن الهاء المرسلة من"عنه"، دال"عند".

ص: 290

وكان قتادة يتأول قوله:"وإليه ترجعون"، وإلى التراب ترجعون. (1)

5625-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإليه ترجعون"، من التراب خلقهم، وإلى التراب يعودون. (2)

* * *

(1) في المخطوطة: "وإلى الثواب"، و"من الثواب

" وهو ظاهر الفساد، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق.

(2)

في المخطوطة: "وإلى الثواب"، و"من الثواب

" وهو ظاهر الفساد، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق.

ص: 291

القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر"، ألم تر، يا محمد، بقلبك، (1) فتعلم بخبري إياك، يا محمد="إلى الملأ"، يعني: إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم="من بعد موسى"، يقول: من بعد ما قبض موسى فمات="إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل (2) بن بالى (3) بن علقمة (4) بن يرحام (5) بن إليهو (6) بن تهو بن

(1) انظر معنى"ألم تر"، و" الرؤية" فيما سلف: ص: 266، والمراجع في التعليق.

(2)

ساذكر في التعليقات الآتية ما جاء في هذا النسب من الأسماء، على رسمها في كتاب القوم الذي بين أيدينا، من أخبار الأيام الأول. في الإصحاح السادس. و"شمويل" هناك هو"صموئيل".

(3)

"بالي"، لم يرد له ذكر في نسب"شمويل" من كتاب القوم، بل هو عندهم"صموئيل بن"القانة".

(4)

(ألقانة)

(5)

(يروحام) . وفي المطبوعة: "برحام" خطأ، وهو في المخطوطة غير منقوط وأما في تاريخ الطبري 1: 242 فهو بالحاء المعجمة.

(6)

(إيليئيل) . الظاهر أنه هو"إليهو".

ص: 291

صوف (1) بن علقمة بن ماحث (2) بن عموصا (3) بن عزريا بن صفنية (4) بن علقمة بن أبي ياسف (5) بن قارون (6) بن يصهر (7) بن قاهث (8) بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

5626-

حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (9) عن وهب بن منبه.

5627-

وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: هو شمويل، هو شمويل- ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق. (10)

* * *

وقال السدي: بل اسمه شمعون. وقال: إنما سمي"شمعون"، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب الله لها دعاءها، فرزقها، فولدت غلاما فسمته

(1)(توح)، وفي المطبوعة:"يهو صوق"، وهو خطأ، وفي المخطوطة"بهو صوف" غير منقوط، وكلاهما أسقط"بن" بين الكلمتين. والصواب من تاريخ الطبري. و" توح" مذكور في كتاب القوم، في كتاب صموئيل الأول، الإصحاح الأول برسم:"توحو".

(2)

(محث) .

(3)

(عما ساى) والنسب في كتاب القوم بعد ذلك: "عما ساى بن ألقانة بن يوثيل بن عز ريا بن صفنيا بن تحث بن أسير بن أبياساف"، وبعضه لم يذكر في النسب الذي رواه الطبري، وفيما رواه بعد ذلك تقديم وتاخير كما ترى.

(4)

(صفنيا)، وفي المطبوعة والمخطوطة:" صفية".

(5)

(أبياساف) وفي المطبوعة: "أبى ياسق"، وفي المخطوطة" أبي ياسف".

(6)

(قورح) .

(7)

(يصهار) .

(8)

(قهات) .

(9)

في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحق"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في الطبري عن"محمد بن إسحق" صاحب السيرة.

(10)

في المخطوطة والمطبوعة: "كما نسبه إسحاق"، وهو خطأ ظاهر، وانظر التعليق السالف.

ص: 292

"شمعون"، تقول: الله تعالى سمع دعائي.

5628-

حدثني [بذلك] موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (1)

* * *

فكأن"شمعون""فعلون" عند السدي، من قولها: إنَّه سمع الله دعاءها. (2)

* * *

5629-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم"، قال: شمؤل. (3)

* * *

وقال آخرون: بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله، يوشع (4) بن نون بن أفراثيم (5) بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

5630-

حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ)، قال: كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون، قال: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. (6)

* * *

وأما قوله:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، فاختلف أهل التأويل في

(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق، كما في إسناد الأثر السالف،

(2)

في المطبوعة: "من قولها سمع" أسقط" أنه" وأثبت ما في المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: " شمعون"، وهو خطأ لا شك فيه، والصواب ما في المخطوطة والدر المنثور 1:315.

(4)

(يشوع) .

(5)

(أفرايم) ، وفي المطبوعة (أفراثيم)، والصواب ما أثبت من التاريخ 1: 225، وفي المخطوطة غير منقوطة.

(6)

يعني المذكورين في قوله تعالى في [سورة المائدة: 23]{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} ، الآية.

ص: 293

السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك.

فقال بعضهم: كان سبب مسألتهم إياه، ما: -

5631-

حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله. ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا (1) يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف فيهم حزقيل (2) بن بوزي، وهو ابن العجوز. ثم إن الله قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله. فبعث الله إليهم إلياس (3) بن نسى (4) بن فنحاص (5) بن العيزار (6) بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، (7) وكان يسمع منه ويصدقه. فكان إلياس يقيم له أمره. وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا، إلا ما كان من ذلك الملك. والملوك متفرقة بالشام، كل ملك

(1)(يفنة) وفي المطبوعة: " يوقنا"، والصواب من المخطوطة والتاريخ 1:238.

(2)

(حزقيال) في كتاب القوم.

(3)

(إيليا)، وهو"إيليا التشبى" مذكور في"الملوك الأول" إصحاح:17.

(4)

لم أجد نسب"إيليا"، وقوله:"نسى"لم أجده. وهو في المخطوطة"سى" غير منقوطة ولا واضحة، وفي تاريخ الطبري 1: 239"إلياس بن ياسين".

(5)

(فينحاس) .

(6)

(العازار) .

(7)

(أخاب)"في الملوك الأول" الإصحاح: 16، 17. وهو في المطبوعة والتاريخ والمخطوطة:"أحاب"، مهمل الحاء.

ص: 294

له ناحية منها يأكلها. (1) فقال ذلك الملك= الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه = يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا! والله ما أرى فلانا وفلانا- وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل (2) - قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، (3) ما ينقص من دنياهم [أمرهم الذي تزعم أنه باطل] ؟ (4) وما نرى لنا عليهم من فضل. ويزعمون - (5) والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه. ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون. (6) ثم خلف من بعده فيهم اليسع، (7) فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه. وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم، (8) إلا هزم الله ذلك العدو. (9) ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء، (10) وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم -فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته. فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب، فمالت عنقه، فمات كمدا عليه. فمرج أمرهم عليهم، (11) ووطئهم عدوهم، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم. (12) وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم، فكانوا لا يقبلون منه شيئا، يقال له"شمويل"، (13) وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد:"ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" إلى قوله:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، يقول الله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، إلى قوله:"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين".

= قال ابن إسحاق: فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر

(1)(يأكلها) أي يغلب عليها، ويصير له ما لها وخراجها. وفي حديث عمرو بن عنبسة: (ومأكول حمير من آكلها، الماكول: الرعية -والآكلون: الملوك. وهم يسمون سادة الأحياء الذين يأخذون المرباع وغيره" الآكال"، وفي الحديث:"أمرت بقرية تأكل القرى"، هي المدنية، أي يغلب أهلها بالإسلام على غيرها من القرى.

(2)

في المطبوعة: "يعدد ملوكا. . " وأثبت ما في المخطوطة، وفي تاريخ الطبري:"يعد".

(3)

في المطبوعة: "مالكين"، وفي المخطوطة:"ملكين"، وأثبت ما في تاريخ الطبري.

(4)

الزيادة التي بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم الكلام إلا بها.

(5)

في المطبوعة: "ويزعمون" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.

(6)

إلى هذا الموضع رواه الطبري بإسناده هذا في تاريخه1: 239 / ثم الذي يليه في 1 / 240 فصلت بينهما روايات أخرى.

(7)

(أليشع) في كتاب القوم.

(8)

في المطبوعة والمخطوطة: "وكانوا. . . "، وأثبت ما في التاريخ، فهو أجود.

(9)

بعد هذا في التاريخ ما نصه: "والسكنية - فيما ذكر ابن إسحق، عن وهب بن منبه، من بعض أهل إسرائيل -رأس هرة ميتة، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرة، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.

(10)

(عالي) في كتاب القوم وفي تاريخ الطبري"إيلاف". والمرجح أن الذي في المطبوعة والمخطوطة هو الصواب، لقربه من لفظ"عالي" وإن كان الطبري قد ذكر في تاريخه 1: 243"عيلى"،. وعالي، من عظماء كهنة بني إسرائيل وقضى لهم أربعين سنة. وخبر موت عالي عند استلاب التابوت، مذكور في كتاب القوم"صموئيل الأول" الإصحاح الرابع.

(11)

في تاريخ الطبري: "فمرج أمرهم بينهم". ومرج الأمر: اختلط والتبس واضطرب في الفتنة.

(12)

إلى هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في التاريخ 1: 240-241.

(13)

(صموئيل) في كتاب القوم.

ص: 295

الرسل، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا، وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد، فلا يظهر علينا فيها عدو، فأما إذ بلغ ذلك، فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا في جهاد عدونا، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا.

5632-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل" إلى:"والله عليم بالظالمين"، قال الربيع: ذكر لنا -والله أعلم- أن موسى لما حضرته الوفاة، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى. ثم إن وشع بن نون توفي، واستخلف فيهم آخر، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه. ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا. ثم استخلف آخر، فأنكروا عامة أمره. ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله. ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم، (1) فقالوا له: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا"، إلى قوله:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم".

5633-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال قال ابن عباس: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم. (2)

(1) في المطبوعة: "في نفوسهم"، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

استخرج (بالبناء للمجهول) : حمل على الخروج من بلاده. وهذا لفظ لم يذكره أصحاب المعاجم، وهو عربية معرقة.

ص: 297

5634-

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان.

* * *

وقال آخرون: كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك، ما: -

5635-

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، قال: كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت، (1) وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم. وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى، فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها. فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته شمعون. (2) فكبر الغلام، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس، (3) وكفله شيخ من علمائهم وتبناه. فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ= وكان لا يتمن عليه أحدا غيره= (4) فدعاه بلحن الشيخ:"يا شماول! "، (5) فقام

(1)(جليات) في كتاب القوم.

(2)

في تاريخ الطبري بعد قوله شمعون: "تقول": الله سمع دعائي". وانظر الأثر السالف رقم: 5628 وما قبله وما بعده.

(3)

في المطبوعة: "فأرسلته يتعلم"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.

(4)

في المطبوعة: "لا يأتمن"، وفي تاريخ الطبري مطبوعة مصر:"لايئتمن" في الأوربية والمخطوطة: "لا يتمن". وأمنه وأمنه وائتمنه واتمنه (بتشديد التاء) سواء، وانظر تعليق صاحب اللسان على قول من قال إن الأخيرة نادرة.

(5)

اللحن: اللغة واللهجة. وفي التاريخ: "شمويل"، وظاهر هذا الخبر يدل على أن"شمعون" هو"شمويل" وأنهما لغتان بمعنى واحد. وانظر الآثار السالفة 5626 -5629، والتعليقات عليها.

ص: 298

الغلام فزعا إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه، دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول:"لا" فيفزع الغلام، فقال: يا بني ارجع فنم! فرجع فنام. ثم دعاه الثانية، فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني! فلما كانت الثالثة، ظهر له جبريل فقال: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تئن لك! (1) وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك! فقال لهم شمعون: عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا. (2)

* * *

قال أبو جعفر: وغير جائز في قول الله تعالى ذكره:"نقاتل في سبيل الله" إذا قرئ"بالنون" غير الجزم، على معنى المجازاة وشرط الأمر. فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون، بمعنى: الذي نقاتل به في سبيل الله، (3) فإن ذلك غير جائز. لأن العرب لا تضمر حرفين. (4) ولكن لو كان قرئ ذلك"بالياء" لجاز رفعه، لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل"الملك"، فيصير تأويل الكلام حينئذ: ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله، كما قال تعالى ذكره:(وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ)[سورة البقرة: 129] ، لأن قوله" يتلو" من صلة الرسول. (5)

* * *

(1) في المطبوعة"ولم تنل لك" وهو تصحيف. وفي تاريخ الطبري: "ولم تبالك"، من المبالاة، وهي ليست بشيء. وفي الدر المنثور:"ولم يأن لك"، وفي المخطوطة:"ولم تنل لك" وظاهر أنها"تئن". من"آن يئين أينا": أي حان. مثل"أني لك يأني"، بمعناه، أي لم تبلغ بعد أوان أن تكون نبيا.

(2)

الأثر: 5635- في تاريخ الطبري 1: 242، والدر المنثور 1: 315، وفي المطبوعة ختم الأثر بقوله:"والله أعلم"، وهي زيادة من ناسخ لا معنى لها هنا، وليست في المخطوطة.

(3)

في المخطوطة والمطبوعة: " الذي نقاتل" بحذف"به"، وهو خطأ يدل عليه السياق، وما جاء في معاني القرآن للفراء 1:157.

(4)

يعني"الذي" و"به".

(5)

انظر معاني القرآن للفراء 1: 157- 162، فهو قد استوعب القول في هذه القراءة، وفي هذا الباب من العربية. و"الصلة": التابع، كالنعت والحال، ويعني به نعت النكرة، هنا.

ص: 299

القول في تأويل قوله: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله:"هل عسيتم"، هل، تعدون (1)"إن كتب"، يعني: إن فرض عليكم القتال (2) ="ألا تقاتلوا"، يعني: أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟ ="قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، يعني: قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله="وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، بالقهر والغلبة؟

* * *

فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول"أن" في قوله:"وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، وحذفه من قوله:(وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) ؟ [سورة الحديد: 8]

قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف"أن" مرة مع قولها: (3)"ما لك"، فتقول:"ما لك لا تفعل كذا"، بمعنى: ما لك غير فاعله، كما قال الشاعر:(4)

* ما لك ترغين ولا ترغو الخلف *

(1) انظر هذا التفسير في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 77.

(2)

انظر معنى" كتب" فيما سلف 3: 357، 364- 365، 409/ 4:297.

(3)

في المطبوعة والمخطوطة: "مع قولنا"، والسياق الآتي يقتضي ما أثبت.

(4)

لم أعرف قائله، وإن كنت أذكر أنى قرأته مع أبيات أخر من الرجز. وهو في معاني القرآن للفراء 1: 163، واللسان (خلف) . والخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) الناقة الحامل، وجمعها خلف، وهو نادر، وهذا البيت شاهده، وإنما الجمع السائر أن يقال للنوق الحوامل"مخاض"، كقولهم:"امرأة، ونسوه"، وهذا الراجز يقول لناقته: ما زغاؤك، والحوامل لا ترغو؟ يعني أنها إنما ترغو حنينا إلى بلاده وبلادها. حيث فارق من كان يحب، كما قال الشماطيط الغطفاني لناقته: أرار الله مخك في السلامى

إلى من بالحنين تشوقينا!!

فإني مثل ما تجدين وجدي،

ولكني أسر وتعلنينا!

وبي مثل الذي بك، غير أني

أجل عن العقال، وتعقلينا!

هذا، وقد كان في المطبوعة"ملك ترعين ولا ترعوا الخلف"، وهو في المخطوطة على الصواب، ولكنه غير منقوط كعادة ناسخها في كثير من المواضع.

ص: 300

وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب.

= وتثبت"أن" فيه أخرى، توجيها لقولها:"ما لك" إلى معناه، إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)[سورة الأعراف: 12]، ثم قال في سورة أخرى في نظيره:(مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)[سورة الحجر: 32] ، فوضع"ما منعك" موضع"ما لك"، و"ما لك" موضع"ما منعك"، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر:(1)

يقول إذا اقلولى عليها وأقردت:

ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم? (2)

(1) هو الفرزدق.

(2)

ديوانه: 863، والنقائض: 753، ومعاني القرآن للفراء 1: 164، واللسان (قرد)(قلا)(هلل) يهجمو جريرا، ويعرض بالبعث، وقبله، يعرض بأن قوم جرير، وهم كليب بن يربوع، كان يغشون الأتن: وليس كليبي، إذا جن ليله

إذا لم يجد ريح الأتان، بنائم

يقول- إذا اقلولي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفي المطبوعة: "تقول". وقد شرحه ابن بري على هذه الرواية شرحا فاسدا جدا في"قرد"، وشرحه ابن الأعرابي أيضًا في (قلا) على هذه الرواية، فكان أيضًا شرحا شديد الفساد. ورغم أنه أراد امرأة يزنى بها. والصواب أنه أراد ما ذكرت من غشيان إناث الحمير، لا إناث البشر!! وقوله:"اقلولي" أي علا على ظهرها مستوفزا قلقا لا يستقر، واختيار الفرزدق لهذا الحرف عجب من العجب في تصوير ما أراد. وأقرد الرجل وغيره: سكن وتماوت. يريد أن الأتان قد رضيت فأسمحت فسكت له. فلما بلغ ذلك منه ومنها قال: "ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم"، يكشف عن شدة حبه وشغفه بذلك، وأنه يأسف ويتحسر علي أنه أمر ينقضي ولا يدوم. وقد زعموا أن"هل" هنا بمعنى الجحد أي ليس أخو عيش لذيذ بدائم. (اللسان: هلل) .

ص: 301

فأدخل في"دائم""الباء" مع"هل"، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر" ما" التي في معنى الجحد، لتقارب معنى الاستفهام والجحد. (1)

* * *

وكان بعض أهل العربية يقول: (2) أدخلت" أن" في:"ألا تقاتلوا"، لأنه بمعنى قول القائل: ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا، لجاز أن يقال:"ما لك أن قمت= وما لك أنك قائم"، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال، كما يقال:"منعتك أن تقوم"، ولا يقال:"منعتك أن قمت"، فلذلك قيل في" مالك":"مالك ألا تقوم" ولم يقل:"ما لك أن قمت".

* * *

وقال آخرون منهم: (3)" أن" ها هنا زائدة بعد" ما لنا"، كما تزاد بعد" لما" و" لو"، (4) وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل" أن" وهي زائدة، وقال الفرزدق:

لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها

إذن للام ذوو أحسابها عمرا (5)

(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 163- 164، وقد استوفى الكلام فيما فتحه الطبري.

(2)

هو الكسائي، كما صرح به الفراء في معاني القرآن 1:165.

(3)

هو أبو الحسن الأخفش، كما يتبين من تفسير أبي حيان والقرطبي والمغني.

(4)

في المطبوعة: " زائدة بعد فلما ولما ولو"، وهو تخليط. وفي المخطوطة "بعد مليما. . . " مضطربة الكتبة، فالصواب عندي أن تكون:"مالنا"، ولما أخطأ الناسخ الكتابة والقراءة، حذف "كما تزاد"، وهذا هو صواب المعنى والحمد لله

(5)

ديوانه: 283، وسيأتي في التفسير 9: 165، والخزانة 2: 87، والعيى (الخزانة) 2: 322 يهجو عمر بن هبيرة الفزاري وهو أحد الأمراء وعمال سليمان بن عبد الملك. وقومه. فزارة ابن ذبيان، من ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر. وهو شعر جيد في بابه، وقبل البيت أبيات منها: يا قيس عيلان، إني كنت قلت لكم

يا قيس عيلان: أن لا تسرعوا الضجرا

إني متى أهج قوما لا أدع لهم

سمعا، إذ استمعوا صوتي، ولا بصرا

ثم قال بعد ذلك أبيات: لو لم تكن غطفان. . . . . . .

هذا مجمع من رأيت يذهب إلى إن"الذنوب"جمع"ذنب"، وهو عندي ليس بشيء، وإنما انحطوا في آثار الأخفش، حين استشهد بالبيت على إعمال"لا" الزائدة. وصواب البيت عندي (لا ذنوب لها) وليس في البيت شاهد عندئذ. والظاهر أن الأخفش أخطأ في الاستشهاد به. والذنوب (بفتح الذال) : الخط والنصب، وأصله الدلو الملأى. وهو بهذا المعنى في قوله تعالى:{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، أي حظا من العذاب. قال الفراء:" الذنوب الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب به إلى الحظ والنصيب". وقال الزمخشري: "ولهم ذنوب من كذا" أي نصيب، قال عمرو ابن شأس: وفي كل حي قد خبطت بنعمة

فحق لشأس من نداك ذنوب

أقول: يقول الفرزدق: لو لم تكن غطفان خسيسة لاحظ لها من الشرف والحسب والمروءة -"إذن للام ذوو أحسابها عمرا". وبذلك يبرأ البيت من السخف ومن تكلف النحاة. هذا وانظر هجاء الفرزدق لعمر بن هبيرة في طبقات فحول الشعراء: 287- 288وقوله: فسد الزمان وبدلت أعلامه

حتى أمية عن فزارة تنزع

يقول: تبدلت الدنيا، حتى صارت أمية تحتمي بفزارة وتصدر عن رأيها. يتعجب من ذلك لخسة فزارة عنده.

ص: 302

والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب=" ولا" زائدة فأعملها. (1)

= وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل" أن" زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن" أن" زائدة، معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله:

* لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها *

(1) استشهد بهذا على إعمال الزائدة وهو"لا"، كما أعملت"أن" في الآية.

ص: 303

= فإن" لا" غير زائدة في هذا الموضع، لأنه جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله:"لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها"، إثبات الذنوب لها، كما يقال:"ما أخوك ليس يقوم"، بمعنى: هو يقوم.

* * *

وقال آخرون: معنى قوله:"ما لنا ألا نقاتل": ما لنا ولأن لا نقاتل، ثم حذفت"الواو" فتركت، كما يقال في الكلام:"ما لك ولأن تذهب إلى فلان"، فألقي منها"الواو"، لأن"أن" حرف غير متمكن في الأسماء. وقالوا: نجيز أن يقال:"ما لك أن تقوم"، ولا نجيز:"ما لك القيام"، لأن القيام اسم صحيح و" أن" اسم غير صحيح. وقالوا: قد تقول العرب:"إياك أن تتكلم"، بمعنى: إياك وأن تتكلم.

* * *

وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا: لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله، لوجب أن يكون جائزا:"ضربتك بالجارية وأنت كفيل"، بمعنى: وأنت كفيل بالجارية= وأن تقول:"رأيتك إيانا وتريد"، بمعنى:"رأيتك وإيانا تريد". (1) لأن العرب تقول:"إياك بالباطل تنطق"، قالوا: فلو كانت"الواو" مضمرة في"أن"، لجاز جميع ما ذكرنا، ولكن ذلك غير جائز، لأن ما بعد"الواو" من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها، (2) واستشهدوا على فساد قول من زعم أن"الواو" مضمرة مع" أن" بقول الشاعر:

فبح بالسرائر في أهلها

إياك في غيرهم أن تبوحا (3)

(1) في المطبوعة: "رأيتك أبانا ويزيد، بمعنى: رأيتك وأبانا يزيد"، وهو كلام ساقط هالك. والصواب من المخطوطة، وإن كان غير منقوط الحروف، ومن معاني القرآن للفراء 1:165.

(2)

"الأفاعيل" الأفعال. ووقوعها على ما قبلها، إما بالعمل فيه أو بالتعليق به.

(3)

لم أعرف قائله، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 165، والسرائر جمع سريرة، والسريرة: السر هنا.

ص: 304

= وأنَّ " أن تبوحا"، لو كان فيها"واو" مضمرة، لم يجز تقديم"في غيرهم" عليها. (1)

* * *

وأما تأويل قوله تعالى:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، فإنه يعني: وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم.

* * *

وأما قوله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله="تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: أدبروا مولين عن القتال، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد.

والقليل الذي استثناهم الله منهم، هم الذين عبروا النهر مع طالوت. وسنذكر سبب تولي من تولى منهم، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله، إذا أتينا عليه.

* * *

يقول الله تعالى ذكره:"والله عليم بالظالمين"، يعني: والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه، فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه.

* * *

وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره لهم: إنكم، يا معشر اليهود، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه

(1) في المخطوطة والمطبوعة: " تقديم غيرهم" بإسقاط"في"، والصواب من معاني القرآن للفراء 1: 166، وقد استوفى الكلام في ذلك، وكأن ما هنا منقول عنه بنصه.

ص: 305

فيه، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه- أحرى.

* * *

وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام:"قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"= فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث لهم ملكا، وكتب عليهم القتال=" فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين".

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقال للملأ من بني إسرائيل نبيهم شمويل: إن الله قد أعطاكم ما سألتم، وبعث لكم طالوت ملكا. فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك، قالوا: أنى يكون لطالوت الملك علينا، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب= وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوة= ونحن أحق بالملك منه، لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب="ولم يؤت سعة من المال"، يعني: ولم يؤت طالوت كثيرا من المال، لأنه سقاء= وقيل: كان دباغا.

* * *

وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل، وقولهم ما قالوا لنبيهم شمويل:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"، ما: -

5636-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له، سأل الله نبيهم شمويل أن يبعث

ص: 306

لهم ملكا، فقال الله له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك، (1) فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، (2) فهو ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه منه وملكه عليهم، وأخبره بالذي جاءه- (3) فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه. (4) وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، (5) وكان من سبط بنيامين بن يعقوب. وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوة ولا ملك. فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته، (6) ومعه غلام له. فمرا ببيت النبي عليه السلام، فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا، فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير! فقال طالوت. ما بما قلت من بأس! فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها، إذ نش الدهن الذي في القرن، فقام إليه النبي عليه السلام فأخذه، ثم قال لطالوت: قرب رأسك! فقربه، فدهنه منه، ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم! = وكان اسم"طالوت" بالسريانية: شاول (7) بن قيس بن أبيال (8) بن ضرار (9) بن يحرب (10) بن أفيح بن آيس (11) بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم= فجلس عنده، وقال الناس: ملك طالوت!! فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم وقالوا له: ما شأن طالوت يملك علينا، وليس في بيت النبوة المملكة؟ قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا! فقال لهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".

5637-

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل، عن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: قالت بنو إسرائيل لأشمويل: (12) ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله! قال: قد كفاكم الله القتال! قالوا: إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه! فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا، وادهنه بدهن القدس. فضلت حمر لأبي طالوت، (13)

فأرسله وغلاما له يطلبانها، فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، (14) فقال: إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل. قال: أنا؟ قال: نعم! قال: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ (15) قال: بلى. قال: أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي؟! قال: بلى! قال: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قال:

(1) القرن: قرن الثور وغيره، وكأنه أراد هنا: القنينة التي يكون فيها الدهن والطيب، وكأنهم كانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها، وقد سموا المحجمة التي يحتجم بها"قرنا" ولم أجد هذا الحرف بهذا المعنى في كتب اللغة، ولكنه صحيح كما رأيت.

(2)

نش الماء ينش نشا: ونشيشا: صوت عند الغليان.

(3)

في المخطوطة"بالذي حاه" غير منقوطة، ولولا أن في المطبوعة، صواب أيضًا، لقلت إنها:"بالذي حباه الله"، يعني الملك.

(4)

هكذا جاءت هذه الجملة في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 1: 351. وأخشى أن تكون"متى" زائدة، أو تكون"مأتى ذلك الرجل 00".

(5)

الأدم جمع أديم. وهو جمع عزيز، وقال سيبوله: هو اسم للجمع. قال التوزي: "الجلد أول ما يدبغ فهو أديم، فإذا رد في الدباغ مرة أخرى فهو اللديم".

(6)

يقال: أضله الأمر: إذا ذهب عنه وفارقه فلم يقدر عليه. وهذا من عجيب العربية. وفي المخطوطة: "أطلته"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة والدر المنثور.

(7)

في المخطوطة والمطبوعة: "شادل". والصواب من التاريخ 1: 247، والدر المنثور 1: 315، وهو كذلك في كتاب القوم.

(8)

(أبيئيل) في كتاب القوم.

(9)

(صرور) في كتاب القوم.

(10)

(بكورة) في كتاب القوم، وفي التاريخ"بحرت"، وكأنها الصواب.

(11)

لم أجد في كتاب القوم، وفي التاريخ (أيش) .

(12)

في تاريخ الطبري 1: 244"لأشمويل"، وفيما سيأتي بعد"أشمويل" في سائر المواضع.

وكذلك في المخطوطة، أما المطبوعة، فكان فيما"لشمويل"، وفي سائر المواضع"شمويل" فأثبيت ما في المخطوطة والتاريخ.

(13)

في المطبوعة: " وضلت"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.

(14)

في المخطوطة والمطبوعة: "فجاؤوا. . . يسألونه عنها"، والصواب ما في التاريخ كما أثبته.

(15)

في المخطوطة والمطبوعة: " وما علمت" وأثبت ما في التاريخ، وهو مقتضى السياق.

ص: 307

بلى! قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت بمكان كذا وكذا نزل عليك الوحي! فدهنه بدهن القدس. فقال لبني إسرائيل:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".

5638-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما كذبت بنو إسرائيل شمعون، (1) =وقالوا له: إن كنت صادقا، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك. قال لهم شمعون: عسى أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" الآية= دعا الله، فأتي بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها. وكان طالوت رجلا سقاء يسقي على حمار له، فضل حماره، فانطلق يطلبه في الطريق. فلما رأوه دعوه فقاسوه بها، فكان مثلها، فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". قال القوم: ما كنت قط أكذب منك الساعة! ونحن من سبط المملكة، وليس هو من سبط المملكة، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك! فقال النبي:"إن الله اصطفاه عليكم وزاد بسطة في العلم والجسم". (2)

5639-

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: كان طالوت سقاء يبيع الماء.

5640-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بعث الله طالوت ملكا، وكان من سبط بنيامين، سبط لم يكن فيهم

(1) انظر الأثر السالف: 5635، وما قبله في الاختلاف في اسم هذا النبي عليه السلام.

(2)

الأثر: 5638- هو تتمة الأثر السالف: 5635، وهو في تاريخ الطبري بعلوله 1: 242- 243.

ص: 309

مملكة ولا نبوة. وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط مملكة. وكان سبط النبوة سبط لاوي، إليه موسى = وسبط المملكة يهوذا، إليه داود وسليمان. فلما بعث من غير سبط النبوة والمملكة، أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة! فقال الله تعالى ذكره:"إن الله اصطفاه عليكم".

5641-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ابعث لنا ملكا"، قال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ قال: وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة، فقال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".

5642-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط خلافة، فلذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ يقولون: ومن أين يكون له الملك علينا، وليس من سبط النبوة ولا سبط الخلافة"؟ قال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".

5643-

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"أنى يكون له الملك علينا"، فذكر نحوه.

5644-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال"؟ الآية، قال: فبعث الله طالوت ملكا. قال: وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة. فلما بعث لهم

ص: 310

ملكا، أنكروا ذلك وعجبوا وقالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة؟ فقال:"إن الله اصطفاه عليكم" الآية.

5645-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أما ذكر طالوت إذ قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان: كان في أحدهما النبوة، وكان في الآخر الملك، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوة، ولا يملك على الأرض أحد إلا من كان من سبط الملك. وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من أحد السبطين، واختاره عليهم، وزاده بسطة في العلم والجسم. ومن أجل ذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من واحد من السبطين؟ قال: ف"إن الله اصطفاه عليكم" إلى:"والله واسع عليم".

5646-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى" الآية، هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم ="فلما كتب عليهم القتال"، وذلك حين أتاهم التابوت. قال: وكان من بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة، = فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من أحد السبطين: لا من سبط النبوة، ولا سبط الخلافة؟ "قال إن الله اصطفاه عليكم"، الآية. (1)

* * *

(1) الأثر: 5646- هو تتمة الأثر السالف: 5633.

ص: 311

وقد قيل: إن معنى"الملك" في هذا الموضع: الإمرة على الجيش.

* ذكر من قال ذلك:

5647-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، قال: كان أمير الجيش.

5648-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله= إلا أنه قال: كان أميرا على الجيش.

* * *

قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"أنى"، ومعنى"الملك"، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)

* * *

القول في تأويل قوله: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال نبيهم شمويل لهم:"إن الله اصطفاه عليكم"، يعني: اختاره عليكم، كما: -

5649-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"اصطفاه عليكم"، اختاره. (2)

5650-

حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال: اختاره عليكم.

(1) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398- 416، وتفسير معنى"الملك" فيما سلف 1: 148- 150، ثم 2:488.

(2)

انظر تفسير"الاصطفاء" فيما سلف 3: 91.

ص: 312

5651-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم"، اختاره.

* * *

وأما قوله:"وزاده بسطة في العلم والجسم"، فإنه يعني بذلك أن الله بسط له في العلم والجسم، وآتاه من العلم فضلا على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله، وأما"في الجسم"، فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم. كما: -

5652-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: لما قالت بنو إسرائيل:" أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". قال: واجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا.

* * *

وقال السدي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها. فقاسوا طالوت بها فكان مثلها.

5653-

حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (1)

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده" مع اصطفائه إياه"بسطة في العلم والجسم". يعني بذلك: بسط له مع ذلك في العلم والجسم.

* ذكر من قال ذلك:

5654-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، بعد هذا.

* * *

(1) الأثر: 5653- هو بعض الأثر السالف: 5638.

ص: 313

القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الملك لله وبيده دون غيره يؤتيه="يؤتيه"، يقول: يؤتي ذلك من يشاء، فيضعه عنده ويخصه به، ويمنعه من أحب من خلقه. (1) يقول: فلا تستنكروا، يا معشر الملإ من بني إسرائيل، أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه، فلا تتخيروا على الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

5655-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، الملك بيد الله يضعه حيث شاء، ليس لكم أن تختاروا فيه.

5656-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: ملكه سلطانه.

5657-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، سلطانه.

* * *

وأما قوله:"والله واسع عليم"، فإنه يعني بذلك"والله واسع" بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء= (2)"عليم" بمن هو أهل لملكه الذي

(1) في المطبوعة: "ويمنحه من أحب

"، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

في المخطوطة: "فينعم له، والصواب ما في المطبوعة: وفي المطبوعة: "ويريد به من يشاء"، وفي المخطوطة: " ويريد فيه

" غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت.

ص: 314

يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه به، وبأنه لما أعطاه أهل: إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو به. (1)

* * *

القول في تأويل قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}

قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه به، دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول، لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم نبيهم بذلك، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها، ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم"، فقالوا له: ما آية ذلكإن كنت من الصادقين؟ (2) ="قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت". وهذه القصة = (3) وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله، ونبأً عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته، (4) ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله، من

(1) في المخطوطة: "وإما لا نه" وبينهما بياض على قدر كلمة، ولم أستطع أن أجد كلمة في البياض، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وإن كنت لا أرضاه كل الرضى.

(2)

في المطبوعة: "فقالوا له: ائت بآية على ذلك

"، وفي المخطوطة: " مما أتى به ذلك" وقد ضرب على الباء من"أتى". واستظهرت قراءتها كما أثبتها، لقوله تعالى بعد: " إن آية ملكه".

(3)

في المطبوعة: " هذه القصة" بإسقاط الواو، وإسقاطها مخل بالكلام.

(4)

في المطبوعة: " بناء عما كان منهم من تكذيبهم"، وهو غث من الكلام. وفي المخطوطة:"بنا عما كان. . . " غير منقوطة، والصواب ما أثبت مع زيادة"الواو" عطفا على قوله:"وإن كانت خبرا. . . ".

ص: 315

الجهاد في سبيل الله، بالتخلف عنه حين استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه، وفتح الله على القليل من الفئة، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه= (1) فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه= مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقيقة نبوته، بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم = (2) أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي، مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقية نبوته، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم ويجاهدون معه في سبيل ربهم، ابتداء منهم بذلك نبيهم، وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك= (3) وحض لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيله، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عند لقائه العدو، ومناهضته أهل الكفر بالله وبه، على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله= (4) وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب، وترك تهيب قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله:(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[سورة البقرة: 249] ،= (5) وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشر.

* * *

وأما تأويل قوله:"قال لهم نبيهم"، فإنه يعني: للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله".

* * *

وقوله:"إن آية ملكه"،: إن علامة ملك طالوت= (6) التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي: إن الله بعثه عليكم ملكا، وإن كان من غير سبط المملكة="أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوا لهم قدموه أمامهم، وزحفوا معه، فلا يقوم لهم معه عدو، ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم، حتى ضيعوا أمر الله، (7) وكثر اختلافهم على أنبيائهم، فسلبهم الله إياه مرة بعد مرة، يرده إليهم في كل ذلك، حتى سلبهم آخرها مرة فلم يرده عليهم، (8) ولن يرد إليهم آخر الأبد. (9)

* * *

ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، وهل كانت بنو إسرائيل سلبوه قبل ذلك فرده الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت، أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك، ولكن الله ابتدأهم به ابتداء؟

فقال بعضهم: بل كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه، (10) حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به، ثم رده الله عليهم آية لملك طالوت. وقال في

(1) سياق الجملة: وهذه القصة، وإن كانت خبرا من الله00 0 ونبأ عما كان منهم

فإنه تأديب

".

(2)

سياق هذه الجملة: "وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا

أن يكونوا كأسلافهم

".

(3)

قوله: "وحض

" معطوف على قوله آنفًا: "فإنه تأديب

".

(4)

قوله: "وشخذ

" معطوف ثان على قوله آنفًا: " فإنه تأديب

".

(5)

قوله: " وإعلام

" معطوف ثالث على قوله: "فإنه تأديب

".

(6)

انظر تفسير"آية" فيما سلف 1: 106 / 2: 397، 398، 553 / 3: 184 / 4: 271.

(7)

في المطبوعة والمخطوطة: "حتى منعوا أمر الله". وهو تصحيف لا معنى له، والصواب ما أثبت.

(8)

في المطبوعة: "حتى سلبهم آخر مرة"، والذي في المخطوطة هو الصواب الجيد، وإن كانت الأخرى قريبة من الصواب على ضعف.

(9)

في المخطوطة: "ولم يرده إليهم آخر الأبد"، وهو خطأ بين.

(10)

في المطبوعة: " كان ذلك عندهم"، بحذف"بل".

ص: 316

سبب رده عليهم ما أنا ذاكره وهو ما: -

5658-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: كان لعيلي الذي ربى شمويل، ابنان شابان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه. كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين (1) فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، (2) فجعله ابناه كلاليب. (3) وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن. فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلي، إذ سمع صوتا يقول: أشمويل!! (4) فوثب إلى عيلي فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لا! ارجع فنم! فرجع فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول: أشمويل!! فوثب إلى عيلي أيضا، فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل:"لبيك" مكانك،"مرني فأفعل"! فرجع فنام، فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل!! فقال: لبيك أنا هذا! مرني أفعل! قال: انطلق إلى عيلي فقل له:"منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما"! فلما أصبح سأله عيلي فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا. فسار إليهم عدو ممن

(1) في المطبوعة والمخطوطة: " كان مشرط القربان الذي يشرطونه به"، وهو خطأ لا معنى له، والصواب من تاريخ الطبري 1:243. والمسوط (بكسر الميم) : المسواط خشبة أو ما يشبهها، يحرك بها ما في القدر ليختلط. ساط الشيء في القدر يسوطه سوطا: إذا حركة وخاصه، ليختلط ويمتزج. وقربان اليهود هذا هو"التقدمة"، كانت من دقيق مع زيت ولبان، يؤخذ قليل من الدقيق المقدم والزيت وكل اللبان، ويوقد على المذبح، أو يعمل منه قطائف علي صاج، وأما البقية فكانت للكمهنة (قاموس الكتاب المقدس 2: 208) . والكلاب (يضم الكاف وتشديد اللام) : سفود من حديد أو خشب، في رأسه عقافة معطوفة كالخطاف، وجمعه:"كلاليب".

(2)

في المطبوعة والمخطوطة: "للكاهن الذي يستوطنه"، وهو خطأ، صوابه من التاريخ.

(3)

في المطبوعة والمخطوطة: "فجعل ابناه

"، والصواب من التاريخ.

(4)

في المخطوطة والتاريخ في هذا الموضع وما بعده: "أشمويل"، والذي قبله:"شمويل"، وأثبت ما فيهما، كما سلف قريبا ص: 308، تعليق:5.

ص: 318

حولهم، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو. فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان وعصا موسى لينصروا به. (1) فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم، جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: إن ابنيك قد قتلا وإن الناس قد انهزموا! قال: فما فعل التابوت؟ قال: ذهب به العدو! قال: فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات. وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم، والصنم من فوقه، فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم. ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه، وأصبح ملقى تحت التابوت. فقال بعضهم لبعض: قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوه من بيت آلهتكم! فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟! فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل: لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم! فأخرجوه من قريتكم! قالوا: كذبت! قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط، ثم تضعوا وراءهم العجل، (2) ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، (3) حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، (4) ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه، فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات. فقال لهم نبيهم شمويل: اعترضوا، (5) فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه. فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل، (6) أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة. فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل. (7)

5659-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، وإن آية ملكه= وإن تمليكه من قبل الله= أن يأتيكم التابوت، فيرد عليكم الذي فيه من السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو، وتظهرون به عليه. قالوا: فإن جاءنا التابوت فقد رضينا وسلمنا! وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل جبل إيليا فيما بينهم وبين مصر، وكانوا أصحاب أوثان، وكان فيهم جالوت. وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم، وقوة في البطش، وشدة في الحرب، مذكورا بذلك في الناس. وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين يقال لها:"أزدود"، (8) فكانوا قد جعلوا التابوت في

(1) في التاريخ: "لينتصروا به"، أي ليجلبوا النصر لأنفسهم به.

(2)

في المطبوعة: "وراءهم" والصواب من التاريخ والمخطوطة. والنير: الخشبة التي تكون على عنق الثور بأداتها.

(3)

في المطبوعة: " ينطلقان مذعنين"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.

(4)

في المطبوعة: "حضار"، وفي المخطوطة:"حصار"، غير منقوطة، والصواب ما في التاريخ.

(5)

في التاريخ: "اعرضوا"، وهما سواء.

(6)

في التاريخ: "فلم يقدر أحد على أن يدنو منه"، والذي في المخطوطة والمطبوعة حسن.

(7)

الأثر: 5658- في التاريخ 1: 243- 244، وهو صدر الأثر السالف رقم: 5637، وساقهما الطبري في التاريخ سياقا واحدا.

(8)

في المطبوعة: "يقال لها: أردن"، وهو خطأ لا شك فيه، وأما ما في المخطوطة فهو، "أردود" بالراء، وأنا أظنه بالزاي وأثبته كذلك. فإنه الذي في كتاب القوم في"كتاب صموئيل الأول" الإصحاح الخامس:"أشدود"، وقال صاحب قاموسهم:"أشدود"(حصن، معقل) ، إحدى مدن فلسطين الخمس المحالفة

وموقعها على ثلاثة أميال من البحر المتوسط بين غزة ويافا. قال: وهي الآن قرية حقيرة تسمى: أسدود، وفي جوارها خرائب كثيرة". والذي يرجع ما ظننته أنها بالزاي أن ابن كثير قال في تفسيره 1: 602 أنه يقال لها: " أزدوه"، وقال مصحح التفسير بهامشه أنها في نسخة الأزهر:"أزدرد". وفي البغوي بهامش ابن كثير 1: 601"أزدود" كما أثبتها.

ص: 319

كنيسة فيها أصنامهم. فلما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان: من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم- جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رؤوسها، وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا، تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا، (1) قد أكلت ما في جوفه من دبره. قالوا: تعلمون والله، لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم مثله، (2) وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا!! مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها! فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحملوا عليها التابوت، ثم علقوها بثورين، ثم ضربوا على جنوبهما، وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان قدسا. فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران، حتى وقف على بني إسرائيل، فكبروا وحمدوا الله، وجدوا في حربهم، واستوسقوا على طالوت. (3)

5660-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: لما قال لهم نبيهم: إن الله اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم- أبوا أن يسلموا له الرياسة، حتى قال لهم:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم". فقال لهم: أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله للملائكة!!

(1) في المطبوعة: "تثبت الفأرة"، وليست صوابا، والذي في المخطوطة" تبيت" غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت. بيت القوم العدو: أتوهم في جوف الليل فأوقعوا بهم وهم في غفلة عنه. والاسم: "البيات"، وفي البغوي 1: 601 (بهامش ابن كثير) : "فكانت الفأرة تبيت مع الرجل".

(2)

في المطبوعة: "أمة من الأمم قبلكم"، وفي المخطوطة:"أمة من الأمم قبله"، والذي أثبت أقرب إلى رسم المخطوطة، مع التصحيف فيها.

(3)

في المطبوعة: "واستوثقوا". وهو خطأ والصواب ما في المخطوطة. ومعناه: اجتمعوا على طاعته. وأصله من"الوسق"وهو ضم الشيء إلى الشيء، وفي حديث أحد:"استوسقوا كما يستوسق جرب الغم. أي: استجمعوا وانضموا. وفي حديث النجاشي: "واستوسق عليه أمر الحبشة"، أي اجتمعوا على طاعته. وهو المراد هنا. وانظر ما سيأتي في الأثر:5707.

ص: 321

= وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها. فنزل فجمع ما بقي فجعله في ذلك التابوت= قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه لم يبق من الألواح إلا سدسها. قال: وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت- والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا- فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت، حتى وضعته عند طالوت. فلما رأوا ذلك قالوا: نعم! فسلموا له وملكوه. قال: وكان الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين يديهم. ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن. وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.

5661-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل فقال:"أنى يحيى هذه الله بعد موتها، فأماته الله مئة عام". ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة. فلما ذهبت المئة، رد الله إليه روحه، وقد عمرت، فهي على حالتها الأولى. (1)

(2)

................................................................................

................................................................................

................................................................................

فلما أراد أن يرد عليهم التابوت، أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم: إما دانيال وإما غيره: إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض، فأخرجوا عنكم هذا التابوت! قالوا: بآية ماذا؟ قال: بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملا قط، فإذا نطرتا

(1) الأثر: 5661- سيأتي هذا الأثر نفسه برقم: 5912 وهو أثر"مبتور" بلا شك ولم أستطع أن أتمه، وانظر التعليق على الأثر التالي المذكور آنفًا.

(2)

أما موضع النقط هذا، فإنه سقط بلا شك فيه، فإن خبر أرميا السالف، لا يمكن أن يكون هذا الكلام من صلته، فإن فيه ذكر رد التابوت في عهد طالوت وداود، وهما قبل أرميا بدهر طويل. وأخشى أن يكون الناسخ قد قدم ورقة على ورقة في النسخة العتيقة، أو تخطى وجها من الكتاب الذي نسخ منه. وليس من الممكن إتمام هذا النقص، فلذلك فصلت بين الكلامين بهذه النقط، حتى يتيح الله نسخة أقدم من النسخ التي بين أيدينا تسد هذا الخرم أو تصحح مكان الكلام.

وهذا الذي بعد النقط، خبر عن القرية التي وضع فيها التابوت حين سبي، كما ذكر في الأثر رقم: 5658، وهو أثر ضاع صدره عن وهب بن منبه، كما هو واضح في السياق الآتي. ولم أجد صدره في شيء من الكتب التي بين يدي. هذا ونسختنا في الموضع كثيرة الخطأ السهو، كما يتبين ذلك من خط كاتبها، ومن الأخطاء السالفة التي ذكرتها في التعليقات.

ص: 322

إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشد عليهما، (1) ثم يشد التابوت على عجل، ثم يعلق على البقرتين، ثم يخليان فيسيران حيث يريد الله أن يبلغهما. ففعلوا ذلك، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما، وقطعتا حبالهما، وذهبتا. فنزل إليهما داود ومن معه، فلما رأى داود التابوت حجل إليه فرحا به = فقلنا لوهب: ما حجل إليه، قال: شبيه بالرقص= فقالت له امرأته: لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت! قال: أتبطئيني عن طاعة ربي!! لا تكونين لي زوجة بعد هذا. ففارقها.

* * *

وقال آخرون: بل التابوت= الذي جعله الله آية لملك طالوت= كان في البرية، وكان موسى صلى الله عليه وسلم خلفه عند فتاه يوشع، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت. (2)

(1) في المخطوطة: "فإذا نظرتا إليها"، والصواب ما في المطبوعة.

(2)

عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها هنا ما نصه:

"يتلوه إن شاء الله تعالى: ذكر من قال ذلك:

وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا.

على الأصل.

بلغت بالقراءة من أوله والسماع على القاضي أبي الحسن الخصيب، عن عبد الله، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري، والقاضي ينظر في كتابه. وسمع معي أخي على حرسه الله، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد بن علي

وعبد الرحيم بن أحمد البخاري. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي، في شعبان سنة ثمان وأربعمئة بمصر"

"ثم يتلو في أول الجزء التالي:

"بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر".

ص: 323

* ذكر من قال ذلك:

5662-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية: كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية، وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره.

5663-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" الآية، قال: كان موسى - فيما ذكر لنا - ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو في البرية. فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت، فأصبح التابوت في داره.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه: من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت"، و"الألف واللام" لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه، الذي كنتم تستنصرون به، فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره

ص: 324

ومبلغ نفعه قبل ذلك، لقيل: إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم.

* * *

فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما، وكذلك أمره وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع، فإن الذين قالوا هذه المقالة، زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن كان الأمر على ما وصفوه، فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها، فجاز أن يقال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا، (1) أبين الدلالة على صحة القول الآخر، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما.

* * *

وكانت صفة التابوت فيما بلغنا، كما: -

5664-

حدثنا محمد بن عسكر والحسن بن يحيى قالا أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال: سألنا وهب بن منبه عن تابوت موسى: ما كان؟ قال: كان نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. (2)

* * *

(1) في المطبوعة: "ففساد هذا القول"، "والصواب ما في المخطوطة.

(2)

الأثر: 5664-"محمد بن عسكر"، هو محمد بن سهل بن عسكر، سلف في رقم:5598. بكار بن عبد الله اليماني، روي عن وهب منبه. روى عنه بن ابن المبارك، وهشام بن يوسف وعبد الرزاق. قال أحمد: ثقة. مترجم في الكبير 1/2/120، وابن أبي حاتم 1/1 /408.

ص: 325

القول في تأويل قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فيه"، في التابوت="سكينة من ربكم".

* * *

واختلف أهل التأويل في معنى"السكينة".

فقال بعضهم: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.

* ذكر من قال ذلك:

5665-

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي وائل، عن علي بن أبي طالب قال: السكينة، ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.

5666-

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان= عن سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي ريح هفافة.

5667-

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سلمة بن كهيل، عن علي بن أبي طالب في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، قال: ريح هفافة لها صورة= وقال يعقوب في حديثه: لها وجه= (1) وقال ابن المثنى: كوجه الإنسان.

5668-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سلمة بن كهيل قال، قال علي: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفافة. (2)

(1) في المخطوطة: "كما وجه"، وما بينهما بياض، ولعل أقرب ذلك ما في المطبوعة.

(2)

في المخطوطة: "هى ريح" بإسقاط الواو.

ص: 326

5669-

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال، قال علي: السكينة ريح خجوج، ولها رأسان. (1)

5670-

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة، يحدث عن علي، نحوه.

5671-

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، وحماد بن سلمة، وأبو الأحوص، كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي، نحوه. (2)

* * *

وقال آخرون: لها رأس كرأس الهرة وجناحان.

* ذكر من قال ذلك:

5672-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:" فيه سكينة من ربكم"، قال: أقبلت السكينة [والصرد] وجبريل مع إبراهيم من الشأم= (3) قال ابن أبي نجيح، سمعت مجاهدا يقول: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان.

5673-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

5674-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: السكينة لها جناحان وذنب.

(1) الأثر: 5669- هو بعض الأثر السالف رقم: 2058 في ذكر بناء الكعبة.

(2)

الأثران: 5670، 5671- انظر الأثران السالفان: 2059، 2060.

(3)

ما بين القوسين، زيادة من الأثار التي رويت عن مجاهد في ذلك، في تاريخ مكة للأزرقي 1: 22-28، ونصه في لسان العرب (صرد) . والصرد (بضم الصاد وفتح الراء: طائر أبقع ضخم يكون في الشجر وشعب الجبال لا يقدر عليه أحد، وهو من سباع الطير.

ص: 327

5675-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لها جناحان وَذَنَب مثل ذنب الهرة.

* * *

وقال آخرون: بل هي رأس هرة ميتة.

* * *

* ذكر من قال ذلك:

5677-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه، عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال: السكينة رأس هرة ميتة، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.

* * *

وقال آخرون: إنما هي طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.

* ذكر من قال ذلك:

5678-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس:"فيه سكينة من ربكم"، قال: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.

5679-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فيه سكينة من ربكم"، السكينة: طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضع الألواح. وكانت الألواح، فيما بلغنا، من در وياقوت وزبرجد.

* * *

وقال آخرون:"السكينة"، روح من الله تتكلم.

* ذكر من قال ذلك:

5680-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار

ص: 328

بن عبد الله، قال، سألنا وهب بن منبه فقلنا له: السكينة؟ قال: روح من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.

5681-

حدثنا محمد بن عسكر قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا بكار بن عبد الله: أنه سمع وهب بن منبه، فذكر نحوه. (1)

وقال آخرون:"السكينة"، ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه.

* ذكر من قال ذلك:

5682-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"فيه سكينة من ربكم"، الآية، قال: أما السكينة فما يعرفون من الآيات، يسكنون إليها.

* * *

وقال آخرون:"السكينة"، الرحمة.

* ذكر من قال ذلك:

5683-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فيه سكينة من ربكم"، أي رحمة من ربكم.

* * *

وقال آخرون:"السكينة"، هي الوقار.

* ذكر من قال ذلك:

5684-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، أي وقار.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى"السكينة"، ما قاله عطاء بن أبي رباح: من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها. وذلك أن

(1) الأثران: 5680، 5681-"محمد بن عسكر"، و"بكار بن عبد الله". انظر التعليق على الأثر رقم:5664.

ص: 329

"السكينة" في كلام العرب"الفعيلة"، من قول القائل:"سكن فلان إلى كذا وكذا"= إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه="فهو يسكن سكونا وسكينة"، مثل قولك:"عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة"، و"قضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية"، ومنه قول الشاعر:(1)

لله قبر غالها! ماذا يجن?

لقد أجن سكينة ووقارا

* * *

وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفت، فجائز أن يكون ذلك على ما قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه، وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه وما قاله السدي، لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس، وتثلج بهن الصدور. وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفنا، فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت، التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها، إنما هي مسماة بالفعل وهي غيره، (2) لدلالة الكلام عليه.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وبقية"، الشيء الباقي، من قول القائل:"قد بقي من هذا الأمر بقية"، وهي"فعلية" منه، نظير"السكينة" من"سكن".

* * *

(1) أنشده ابن بري لأبي عريف الكليبي. وأنا في شك من صحة اسمه.

(2)

يعني بقوله: " الفعل" مصدر الفعل"سكن"، وهو"السكينة"، كما يقال:"رجل عدل"، فلو سميت الرجل"عدلا"، كان مسمى بالفعل، وهو غيره.

ص: 330

وقوله:"مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني به: من تركة آل موسى، وآل هارون.

* * *

واختلف أهل التأويل في"البقية" التي كانت بقيت من تركتهم.

فقال بعضهم: كانت تلك"البقية" عصا موسى ورضاض الألواح. (1)

* ذكر من قال ذلك:

5685-

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عكرمة قال: أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح.

5686-

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر قال، حدثنا داود، عن عكرمة= قال داود: وأحسبه عن ابن عباس= مثله.

5687-

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى ورضاض الألواح.

5688-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: فكان في التابوت عصا موسى ورضاض الألواح، فيما ذكر لنا.

5689-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: البقية عصا موسى ورضاض الألواح.

5690-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، أما البقية، فإنها عصا موسى

(1) انظر صفحة 332، تعليق:1.

ص: 331

ورضاضة الألواح. (1)

5691-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، عصا موسى وأثور من التوراة. (2)

5692-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: التوراة ورضاض الألواح والعصا= قال إسحاق، قال وكيع: ورضاضه كسره.

5693-

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح.

* * *

وقال آخرون: بل تلك"البقية" عصا موسى وعصا هارون، وشيء من الألواح. (3)

* ذكر من قال ذلك:

5694-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن ابن أبي خالد، عن أبي صالح:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان فيه عصا موسى وعصا هارون، ولوحان من التوراة، والمن. (4)

(1) رضاض الشيء (بضم الراء) : كساره (بضم الكاف) ، وهو ما تكسر منه، وقطعه. ورض الشيء رضا: كسره فصار قطعا. و"رضاضة" بالتاء في آخر رقم: 5690، وهي عربية صحيحة، وإن لم تذكر في المعاجم. ومثلها في مطول هذا الأثر في التاريخ 1:243.

(2)

في المطبوعة: "وأمور من التوراة". وفي المخطوطة: "وأسور من التوارة". ورجحت قراءتها"وأثور" جمع أثر: وهو بقية الشيء، وما بقى من رسم الشيء، وجمعه آثار وأثور. وهي هنا بمعنى الرضاض.

(3)

في المخطوطة: "بل ذلك البقية

"، والذي في المطبوعة أجود الصواب.

(4)

الأثر: 5694- في الدر المنثور 1: 317 مطولا. وفي المخطوطة والمطبوعة: "عن إسماعيل عن ابن أبي خالد"، والصواب ما أثبت، وهو الذي يروي عنه جابر بن نوح، مترجم التهذيب.

ص: 332

5695-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى، وعصا هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ورضاض الألواح.

* * *

وقال آخرون: بل هي العصا والنعلان.

* ذكر من قال ذلك:

5696-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، سألت الثوري عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: منهم من يقول: البقية قفيز من من ورضاض الألواح- ومنهم من يقول: العصا والنعلان. (1)

* * *

وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدها.

* ذكر من قال ذلك:

5697-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، قلنا لوهب بن منبه: ما كان فيه؟ = يعني في التابوت= قال: كان فيه عصا موسى والسكينة. (2)

* * *

وقال آخرون: بل كان ذلك، رضاض الألواح وما تكسر منها.

* ذكر من قال ذلك:

5698-

حدثنا القاسم قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:" وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها، فجعل الباقي في ذلك التابوت.

(1) القفيز: مكيال من المكاييل، كان عند أهل العراق ثمانية مكاكيك.

(2)

الأثر 5697- بكار بن عبد الله اليماني، مضى في الآثار: 5664، 5680، 5681، وكان في المطبوعة والمحفوظة"بكار عن عبد الله"، وهو خطأ محض.

ص: 333

5699-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، [قال] العلم والتوراة. (1)

* * *

وقال آخرون: بل ذلك الجهاد في سبيل الله.

* ذكر من قال ذلك:

5700-

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني ب"البقية"، القتال في سبيل الله، وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أمروا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه = الذي قال لأمته: (2)"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" = أن فيه سكينة منه، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون. (3) وجائز أن يكون تلك البقية: العصا، وكسر الألواح، والتوراة، أو بعضها، والنعلين، والثياب، والجهاد في سبيل الله = وجائز أن يكون بعض ذلك، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول.

* * *

(1) زدت ما بين القوسين: لظني أنها سقطت من الناسخ لعجلته، كما يتبين من خطه في هذا الموضع.

(2)

في المطبوعة: "لصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته"، زاد:"وسلم"، وأسقط"الذي قال"، والصواب من المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: "مما تركه آل موسى"، وأثبت ما في المخطوطة.

ص: 334

القول في تأويل قوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ}

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت.

فقال بعضهم: معنى ذلك: تحمله بين السماء والأرض، حتى تضعه بين أظهرهم.

* ذكر من قال ذلك:

5701-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت.

5702-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قال لهم= يعني النبي، لبني إسرائيل: ="والله يؤتي ملكه من يشاء". قالوا: فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا! ما هو إلا لهواك فيه! قال: إن كنتم قد كذبتموني واتهمتمون، فإن آية ملكه:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية. قال: فنزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين، وقرأ حتى بلغ:"والله مع الصابرين".

5703-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما قال لهم نبيهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، قالوا: فإن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك! قال:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة". وأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت.

5704-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا

ص: 335

معمر، عن قتادة في قوله:"تحمله الملائكة"، قال: تحمله حتى تضعه في بيت طالوت.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الملائكة الدواب التي تحمله.

* ذكر من قال ذلك:

5705-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن بعض أشياخه قال: تحمله الملائكة على عجلة على بقرة.

5706-

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال:"حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل". (1) وذلك أن الله تعالى ذكره قال:"تحمله الملائكة"، ولم يقل: تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها، فهي غير حاملته. لأن"الحمل" المعروف، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما ما حمله على غيره = وإن كان جائزا في اللغة أن يقال"حمله" بمعنى معونته الحامل، (2) وبأن حمله كان عن سببه= فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه، في تعارف الناس إياه

(1) في المطبوعة: "حتى وضعته في دار طالوت" بإسقاط"لها"، أي لبني إسرائيل. وفي المطبوعة:"في دار طالوت بين أظهر بني إسرائيل" بإسقاط"قائما"، وكانت هذه اللفظة في المخطوطة:"ما بين أظهر لبني إسرائيل"، وقرأتها:"قائما".

(2)

في المخطوطة والمطبوعة: "أن يقال في حمله بمعنى معونته"، والصواب إسقاط"في".

ص: 336

بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، (1) ما وُجد إلى ذلك سبيل.

* * *

القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة="لآية لكم"، يعني: لعلامة لكم ودلالة، (2) أيها الناس، على صدقي فيما أخبرتكم: أن الله بعث لكم طالوت ملكا، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك="إن كنتم مؤمنين"، يعني بذلك:(3) إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.

* * *

وإنما قلنا ذلك معناه، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، بقولهم:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، = وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا، (4)

فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار: لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله: = وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه، لأنهم سألوا الآية

(1) في المطبوعة: "أولى من توجيهه إلى أن لا يكون الأشهر00"، وهو خلط من كلم الموسومين!! وفي المخطوطة"إلى إلى أن لا يلر". وضرب على"إلى" الثانية. وصواب قراءته ما قرأت، وقد مضى مثله مرارا في كلام الطبري.

(2)

انظر معنى"آية" فيما سلف قريبا: 317 تعليق: 1 وفيه المراجع.

(3)

انظر تفسير"الإيمان" بمعنى"التصديق" فيما سلف من الأجزاء. في فهارس للغة.

(4)

في المطبوعة: "فإن كان ذلك منهم"، والصواب ما في المخطوطة.

ص: 337

على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه، فقال لهم: في مجيء التابوت- على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به.

* * *

ص: 338

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ}

قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام:"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"، فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم، وأذعنوا له بذلك. يدل على ذلك قوله:"فلما فصل طالوت بالجنود". وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له، لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها.

* * *

وأما قوله:"فصل" فإنه يعني به: شخص بالجند ورحل بهم.

* * *

وأصل"الفصل" القطع، يقال، منه:"فصل الرجل من موضع كذا وكذا"، يعني به قطع ذلك، فجاوزه شاخصا إلى غيره،"يفصل فصولا"، و"فصل العظم والقول من غيره، فهو يفصله فصلا"، إذا قطعه فأبانه، و"فصل الصبي فصالا"، إذا قطعه عن اللبن (1) . و"قول فصل"، يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد.

* * *

(1) انظر تفسير"الفصال" فيما سلف من هذا الجزء: 67.

ص: 338

وقيل: إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل، لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته، أو كبير لهرمه، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه.

* ذكر من قال ذلك:

5707-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة، أو ضرير معذور، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها. (1)

5708-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. (2)

* * *

قال أبو جعفر: فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا، قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، يقول: إن الله مختبركم بنهر، ليعلم كيف طاعتكم له.

* * *

وقد دللنا على أن معنى"الابتلاء"، الاختبار، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3)

* وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول.

5709-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله تعالى:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: إن الله يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.

* * *

(1) الأثر: 5707- استوسقوا له: اجتمعوا له بالطاعة: ودانوا، (انظر ما سلف ص: 231) في آخر الأثر: 5659، والتعليق عليه. والضرير: المرض المهزول، قد أضر به المرض.

(2)

الأثر: 5708- في التاريخ 1: 243 من خبر طويل مضى أكثره فيما سلف.

(3)

انظر ما سلف 2: 49/3: 7، 220.

ص: 339

وقيل: إن طالوت قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله:"إن الله مبتليكم بنهر".

* ذكر من قال ذلك:

5710-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر" الآية.

* * *

"والنهر" الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به، قيل: هو نهر بين الأردن وفلسطين.

* ذكر من قال ذلك:

5712-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، أنه نهر بين الأردن وفلسطين.

5712-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" إن الله مبتليكم بنهر"، قال: ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين.

5713-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: هو نهر بين الأردن وفلسطين.

5714-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس: فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت، قال طالوت لبني إسرائيل:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: نهر بين فلسطين والأردن، نهر عذب الماء طيبه.

ص: 340

وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين.

* ذكر من قال ذلك:

5715-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل، نهر فلسطين.

5716-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله مبتليكم بنهر"، هو نهر فلسطين.

* * *

وأما قوله:" فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم". فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت بما قال لجنوده، إذ شكوا إليه العطش، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر، (1) ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه= يعني بذلك: أنه ليس من أهل ولايته وطاعته، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه. ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره:(فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله:(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)، وأخبرهم أنه من لم يطعمه= يعني: من لم يطعم الماء من ذلك النهر."والهاء" في قوله:"فمن شرب منه"، وفي قوله:"ومن لم يطعمه"، عائدة على"النهر"،

(1) في المخطوطة والمطبوعة: "00 عن طالوت أنه قال لجنوده، 00 فأخبر أن الله"، وهي عبارة لا تستقيم علي جادة الكلام، فجعلت"أنه"، "بما"، وجعلت"فأخبر"، "فأخبرهم". وأعود فأقول إن الناسخ في هذا الموضع كثير السهو والخطأ من فرط عجلته.

ص: 341

والمعنى لمائه. وإنما ترك ذكر"الماء" اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك: (1) أن المراد به الماء الذي فيه.

* * *

ومعنى قوله:"لم يطعمه"، لم يذقه، يعني: ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني= يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي، والمؤمنين بالله وبلقائه. ثم استثنى من"من" في قوله:"ومن لم يطعمه"، المغترفين بأيديهم غرفة، (2) فقال: ومن لم يطعم ماء ذلك النهر، (3) إلا غرفة يغترفها بيده، فإنه مني.

* * *

ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا من اغترف غرفة بيده".

فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (غرفة) ، بنصب"الغين" من"الغرفة" بمعنى الغرفة الواحدة، من قولك،"اغترفت غرفة"، و"الغرفة"، و"الغرفة" هي الفعل

(1) في المخطوطة والمطبوعة: "كذلك"، والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: اكتفاء بفهم السامع لذلك بذكر النهر: أن المراد00

(2)

أكثر المفسرين قد جعل الاستثناء من قوله: "فن شرب منه"، وقال أبوحيان في تفسيره 1: 265 وقال: "وقع في بعض التصانيف ما نصه: "إلا من اغترف"، استثناء من الأولى، وإن شئت من الثانية، لأنه حكم على أن من لم يطعمه فإنه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه. والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه. وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها: أن من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن من اغترف غرفة بيده منه، فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك. وهكذا الإستثناء، يكون من النفى إثباتا، ومن الإثبات نفيا، على الصحيح من المذاهب في هذه المسالة".

وانظر أيضًا تعليق ابن المنير على الكشاف بهامش 1: 149- 150، وأما العكبري في إعراب القرآن إنه قال:"إلا من اغترب-استثناء من الجنس، وموضعه نصب. وأنت بالخيار، إن شئت جعلته استثناء من"من الأولى، وإن شئت من"من"الثانية". وهذا يرجع صواب معنى الطبري، وصواب ما صححناه، فإنهكان في المخطوطة والمطبوعة: "ثم استثنى من قوله00". والمخطوطة كما أسلف مرارا مضطربة في هذا الموضع، وفي مواضع من أشياء ذلك. وسترى ذلك في التعليق التالي.

والظاهر أن الطبري أراد أن القوم كانوا فئتين: فئه شربت من الماء، وفئة مؤمنة لم تطعم من الماء إلا غرفة. وبذلك يصح كل ما قاله. وهذا بين سيأتي بعد في ص 348- 350 أن من جاوز مع طالوت النهر: الذي لم يشرب من الماء إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير". وكأن المؤمنين جميعا -عنده- قد شربوا من الماء غرفة. هذا ما أرجحه، والله ولى التوفيق.

(3)

في المخطوطة: "فقالوا: من لم يطعم ومن لم يطعم ماء ذلك النهر00" وهو خلط من الكلام.

ص: 342

بعينه من"الاغتراف". (1) .

* * *

وقرأه آخرون بالضم، بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف. ف"الغرفة" الاسم"، و"الغرفة" المصدر.

* * *

وأعجب القراءتين في ذلك إلي، ضم"الغين" في"الغرفة"، بمعنى: إلا من اغترف كفا من ماء= لاختلاف"غرفة" إذا فتحت غينها، وما هي له مصدر. وذلك أن مصدر"اغترف"،"اغترافة"، وإنما"غرفة" مصدر:"غرفت". فلما كانت"غرفة" مخالفة مصدر"اغترف"، كانت"الغرفة" التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا، أشبه منها ب"الغرفة" التي هي بمعنى الفعل. (2)

* * *

قال أبو جعفر: وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء، فكان من شرب منه عطش، ومن اغترف غرفة روي.

* ذكر من قال ذلك:

5717-

حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، فشرب القوم على قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه.

5718-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، قال: كان الكفار يشربون فلا يروون، وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك.

(1)"الفعل" يعني المصدر، كما سلف آنفًا ص: 330 تعليق: 1، وكما سيصرح به الجمل التالية إلى آخر الكلام.

(2)

هذا تفصيل جيد قلما تصيبه في كتب اللغة. وانظر اللسان مادة (غرف) وقوله الكسائي وغيره في ذلك.

ص: 343

5719-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، يعني المؤمنين منهم. وكان القوم كثيرا، فشربوا منه إلا قليلا منهم= يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه.

5720-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي. فلما خرجوا قال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني"، فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر منهم أربعة آلاف، (1) ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي. (2) .

5721-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود، فقال: لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد. فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يتبعه منافق،

رجعوا كفارا، لكذبهم في قيلهم إذ قالوا:"لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير" = (3) وذلك

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فعبر منهم" بإسقاط"معه"، وأثبتها من التاريخ.

(2)

الأثر: 5720-هو جزء من الخبر الذي في التاريخ 1: 242- 243، وقد جزأه الطبري في هذا التفسير في مواضع كثيرة أشرنا إليها رقم: 5635، 5638، 5679، 5690، 5708.

(3)

في المخطوطة: "ولم تتبعه منافق، رجعوا كفارا، فلما رأى قلتهم قالوا: لن نمس هذه الماء" وكلتا العبارتين لا تستقيم في الحالتين. وأنا أرجح أنه قد سقط من الناسخ سطر أو بعض سطر، معناه: أن بعض الذين خرجوا معه، رجعوا كفارا لكذبهم في قيلهم ذلك. والذى يرجح ذلك عندي أنه يقول بعد"قال: وأخذ البقية الغرفة"، فهذا دليل على أنه قد أجرى قبل ذلك ذكر الذين شربوا من النهر. فن هذا، وقد كان في المطبوعة: "ولا غيرها"، فأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب.

ص: 344

أنه قال لهم:"إن الله مبتليكم بنهر"، الآية، فقالوا: لن نمس من هذا، غرفة ولا غير غرفة = (1) قال: وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم، وفضل منهم. (2) قال: والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها.

5722-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه. فمن اغترف غرفة وأطاعه، روي لطاعته. (3) ومن شرب فأكثر، عصى فلم يرو لمعصيته.

5723-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في حديث ذكره، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، يقول الله تعالى ذكره:"فشربوا منه إلا قليلا منهم"، وكان -فيما يزعمون- من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه، ومن لم يطعمه إلا كما أمر: غرفة بيده، أجزاه وكفاه.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلما جاوزه هو"، فلما جاوز النهر طالوت."والهاء" في"جاوزه" عائدة على"النهر"، و"هو" كناية

(1) في المطبوعة: "لن نمس من هذا" بزيادة"من"، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: "فشربوا منها"، وأثبت ما في المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: "روي بطاعته" والذي أثبت، أشبه بالمخطوطة وبالصواب.

ص: 345

اسم طالوت= وقوله:"والذين آمنوا معه"، يعني: وجاوز النهر معه الذين آمنوا، قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.

* * *

ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ، ومن قال منهم:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".

فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر: ثلثمئة رجل وبضعة عشر رجلا.

* ذكر من قال ذلك:

5724-

حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري= قالا جميعا، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه، ولم يجز معه إلا مؤمن: ثلثمئة وبضعة عشر رجلا. (1)

5725-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أنَّ أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمئة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر. (2)

(1) الحديث: 5724 - هذا الحديث عن البراء بن عازب في عدة أهل بدر. وقد رواه الطبري بستة أسانيد، كلها عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب.

ورواه أحمد في المسند 4: 290 (حلبي) ، عن وكيع عن أبيه -هو الجراح بن مليح- وسفيان. وهو الثوري، وإسرائيل، ثلاثتهم عن أبي إسحاق، عن البراء.

ورواه البخاري 8: 228، من طريق زهير، ومن طريق إسرائيل، ومن طريق الثوري - ثلاثتهم عن أبي إسحاق، به.

وذكره ابن كثير 1: 603، عن روايات الطبري، ملخصة الأسانيد. ثم ذكر أنه رواه البخاري.

وذكره السيوطي 1: 318، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل. ولكنه نسي أن ينسبه لأحمد.

(2)

الحديث: 5725-أبو بكر-الراوى عن أبي إسحاق: هو ابن عياش.

وقد ذكر أخي السيد محمود محمد شاكر أنه وجد في المخطوطة، في آخر هذا الحديث"كلمة غريبة جدا، بعد قوله" الذين جاوزوا النهر" وهي"فسكت"-واضحة جدا. ولم أجدها في مكان آخر ولم أستطع أن أعرف ما هي. وقد حذفت في المطبوعة".

وأقول: إني لم أجد-أيضًا- هذه الكلمة، ولم أستطع أن أعرف ما هي؟ ولذلك رأينا حذفها من مطبوعتنا هذه، مع بيان ذلك، أداء للأمانة العلمية.

ص: 346

5726-

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه، وما جاز معه إلا مؤمن. (1)

5727-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بنحوه. (2)

5728-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر، وما جاوز معه إلا مسلم. (3)

5729-

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء مثله. (4)

5730-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة

(1) احديث: 5726-أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.

(2)

الحديث: 5727-والد وكيع: هو الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي، وهو ثقة، تكلم فيه بغير حجة، كما بينا في شرح المسند، في الحديث:650. ورواية وكيع عن أبيه هذا الحديث- هي إحدى روايات المسند، التي أشرنا إليها في الحديث الماضي: 5724.

(3)

الحديث: 5728-مؤمل: هو ابن إسماعيل العدوى. وسفيان-في هذا والذي قبله: هو الثوري.

(4)

الحديث: 5729 -أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. مسعر: هو ابن كدام، مضت ترجمته في:1974.

ص: 347

أصحاب طالوت يوم لقي. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.

5731-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: محص الله الذين آمنوا عند النهر، وكانوا ثلثمئة، وفوق العشرة ودون العشرين، فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدة.

* * *

وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف، وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق، حين لقوا جالوت.

* ذكر من قال ذلك:

5732-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت، رجعوا أيضا وقالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمئة وبضعة وثمانون، وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر، عدة أهل بدر. (1)

5733-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قال الذين شربوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت

(1) الأثر: 5732 -هو جزء من الأثر الطويل الذى رواه في التاريخ 1: 242- 243، وجزأه في التفسير، كما أشرنا إليه في التعليق على الأثر:5720. ورواية أبي جعفر هنا: "وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر"، وفي التاريخ"وتسعة عشر".

ص: 348

ولقائه، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق= (1) وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" = ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم، وهم أهل الثبات على الإيمان، فقالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".

* * *

فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم، ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة، لأن الله تعالى ذكره قال:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه"، فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان، على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب، ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان، لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان= (2) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان- أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر، وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، عن المؤمنين بالمجاوزة، لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين.

والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك، قول الله تعالى ذكره:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، فأوجب الله تعالى ذكره أن"الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو

(1) في المطبوعة: "وانخذل عنه"، بالذال، وهو خطأ غث لا يقال هنا، والصواب في المخطوطة. وانخزل عنه: انقطع وانفرد، وفي حديث آخر:"انخزل عبد الله بن أبي من ذلك المكان"، أي انفرد ورجع بقومه.

(2)

السياق: "فإن ظن ذو غفلة00 فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن".

ص: 349

الله- وأن"الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله، أو شك فيه. (1)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين= أعني القائلين:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، والقائلين:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، من هما؟

فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، هم أهل كفر بالله ونفاق، وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده، لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر.

* ذكر من قال ذلك:

5734-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي بذلك.

* * *

وهو قول ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا. (2)

* * *

5735-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن

(1) هذه حجة بينة ماضية، تتضمن من البصر والفهم والدقة ما ينبغي أن يوقف عنده.

(2)

انظر الأثر رقم: 5722.

ص: 350

ابن جريج:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين اغترفوا وأطاعوا، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون، وجلس الذين شكوا.

* * *

وقال آخرون: كلا الفريقين كان أهل إيمان، ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة، بل كانوا جميعا أهل طاعة، ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض. وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". والآخرون كانوا أضعف يقينا. وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".

* ذكر من قال ذلك:

5736-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"، ويكون [والله] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض، وهم مؤمنون كلهم. (1)

5737-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت: ثلثمئة. = قال قتادة: وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر.

5438-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا، وهم الذين قالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".

* * *

ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب: أنه لم يجاوز النهر مع طالوت

(1) ما بين القوسين زيادة من المخطوطة.

ص: 351

إلا عدة أصحاب بدر- أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به، أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا. (1)

* * *

وأما تأويل قوله:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، فإنه يعني: قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله. (2)

5739-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين يستيقنون.

* * *

فتأويل الكلام: قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله، للذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"="كم من فئة قليلة"، يعني ب"كم"، كثيرا، غلبت فئة قليلة="فئة كثيرة بإذن الله"، يعني: بقضاء الله وقدره= (3)"والله مع الصابرين"، يقول: مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته. (4)

* * *

وقد أتينا على البيان عن وجوه"الظن"، وأن أحد معانيه: العلم اليقين، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. (5)

* * *

وأما"الفئة"، فإنهم الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، وهو مثل"الرهط" و"النفر"، يجمع (6)"فئات"، و"فئون" في الرفع، و"فئين" في

(1) انظرما سلف: 349، 350.

(2)

انظر القول في قوله: "ملاقو الله" فيما سلف 2: 20-22 /4: 419.

(3)

انظر تفسي"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450/ 4: 287، 371.

(4)

انظر معنى"الصبر" فيما سلف 2: 11، 124/ 3: 214، 349، وفهارس اللغة.

(5)

انظر ما سلف 2: 17 - 20/ ثم: 265.

(6)

في المطبوعة: "جمعه"، وأثبت ما في المخطوطة.

ص: 352