المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٥

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ

القول في تأويل قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‌

(263) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (قول معروف) ، قولٌ جميل، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم (1) .. = (ومغفرة)، يعني: وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته (2) . = (خير) عند الله = (من صدقة) يتصدقها عليه = (يتبعها أذى) ، يعني يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها، كما: -

6037 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن

(1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 371، 372 / ثم 4: 547، 548 / 5: 7، 44، 76، 93، 173.

(2)

انظر تفسير"المغفرة" 2: 109، 110، وفهارس اللغة.

ص: 520

جويبر، عن الضحاك:(قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًّا وأذى.

* * *

وأما قوله: (غنيّ حليم) فإنه يعني:"والله غني" عما يتصدقون به = (حليم) ، حين لا يعجل بالعقوبة على من يَمنُّ بصدقته منكم، ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. (1) .

وروي عن ابن عباس في ذلك، ما: -

6038 -

حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:(الغني) ، الذي كمل في غناه، و (الحليم) ، الذي قد كمل في حلمه.

* * *

القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (يا أيها الذين آمنوا) ، صدّقوا الله ورسوله = (لا تبطلوا صدقاتكم)، يقول: لا تبطلوا أجورَ صدَقاتكم بالمنّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله = (رئاء الناس) ، وهو مراءاته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه، وهو غيرُ مريدٍ به الله ولا طالب منه الثواب، (2) . وإنما ينفقه كذلك ظاهرًا

(1) انظر تفسير"حليم" فيما سلف 5: 117.

(2)

في المخطوطة والمطبوعة: "وهو مريد به غير الله"، وهو سهو من الناسخ، والسياق يقتضي أن تقدم"غير"، وهو نص المعنى.

ص: 521

ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخيّ كريم، وهو رجل صالحٌ" فيحسنوا عليه به الثناء، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر.

* * *

وأما قوله: (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر)، فإن معناه: ولا يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق; وإنما قلنا إنه منافق، لأن المظهرَ كفرَه والمعلنَ شركه، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيًا. لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله، وفي الباطن مريبة سريرةُ عامله، مرادٌه به حمد الناس عليه. (1) . والكافر لا يُخِيلُ على أحدٍ أمرُه أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان (2) - إذا كان معلنًا كفرَه - لا لله. ومن كان كذلك، فغير كائن مرائيًا بأعماله.

* * *

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

6039 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال أبو هانئ الخولاني، عن عمرو بن حريث، قال: إن الرجل يغزو، لا يسرق ولا يزني ولا يَغُلّ، لا يرجع بالكفاف! فقيل له: لم ذاك؟ قال: إن الرجل ليخرج، (3) . فإذا أصابه من

(1) في المطبوعة: "وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه"، وهو تصرف من الطابع، وفي المخطوطة:"وفي الباطن مربيه عامله مراد به حمد الناس عليه"، وهي غير مفهومة المعنى، وبين أنه قد سقط منها"سريرة" من قوله"مربية سريرة عامله"، وهو إشارة إلى ما مر في تفسيره قبل من قوله:"فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر". فاستظهرت أن الصواب زيادة"سريرة"، لتتفق مع معاني ما قال أبو جعفر رحمه الله.

(2)

أخال عليه الأمر يخيل: أشكل عليه واستبهم. وسياق الجملة بعد ذلك: "إنما هي للشيطان لا لله".

(3)

في المطبوعة: "قال: فإن الرجل"، وفي المخطوطة:"فإن إن الرجل" تصحيف والصواب ما أثبت.

ص: 522

بلاءِ الله الذي قد حكم عليه، سبَّ ولعَن إمامَه ولعَن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا! فهذا عليه، وليس له = مثلُ النفقة في سبيل الله يتبعها منٌّ وأذى. فقد ضرب الله مثلها في القرآن:(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صَدقاتكم بالمنّ والأذى) ، حتى ختم الآية. (1) .

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر = و"الهاء" في قوله:(فمثله) عائدة على"الذي" = (كمثل صفوان) ، و"الصفوان" واحدٌ وجمعٌ، فمن جعله جمعًا فالواحدة"صفوانة"، (2) . بمنزلة"تمرة وتمر" و"نخلة ونخل". ومن جعله واحدًا، جمعه"صِفْوان، وصُفِيّ، وصِفِيّ"، (3) . كما قال الشاعر:(4) .

* مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ * (5)

(1) الأثر: 6039 -"أبو هانئ الخولاني": هو: حميد بن هانئ المصري من ثفات التابعين، روى عن عمرو بن حريث وغيره. وروى عنه الليث وابن لهيعة وابن وهب وغيرهم من أهل مصر مات سنة 142. و"عمرو بن حريث"، هو الذي يروي عنه أهل الشام، وهو غير"عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي الكوفي. وانظر ترجمته في التهذيب 8: 18.

(2)

في المطبوعة: "واحد وجمع، فمن جعله جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.

(3)

انظر ما سلف في تفسير"الصفا" 3: 224، 225، وقوله: جمعه صفوان" يعنى: بكسر الصاد وسكون الفاء، وهو قول الكسائي، وقد تعقبوه وخطئوه في شاذ مذهبه. انظر القرطبي 3: 313، وتفسير أبي حيان 2: 302، ومن أجل ذلك أسقطه أصحاب اللغة من كتبهم.

(4)

هو الأخيل الطائي.

(5)

سلف شرح هذا البيت وتخريجه 3: 224، وسقط ذكر هذا الموضع في التخريج السالف فأثبته هناك.

ص: 523

و"الصفوان" هو"الصفا"، وهي الحجارة الملس.

* * *

وقوله: (عليه تراب)، يعني: على الصفوان ترابٌ = (فأصابه) يعني: أصاب الصفوان = (وابل) ، وهو المطر الشديد العظيم، كما قال أمرؤ القيس:

سَاعَةً ثُمَّ انْتَحَاهَا وَابِلٌ

سَاقِطُ الأكْنَافِ وَاهٍ مُنْهَمِرُ (1)

يقال منه:"وَبلت السماء فهي تَبِل وَبْلا"، وقد:"وُبلت الأرض فهي تُوبَل".

* * *

وقوله: (فتركه صلدًا) يقول: فترك الوابلُ الصفوانَ صَلدًا.

و"الصلد" من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره، وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء، وكذلك من الرؤوس، (2) . كما قال رؤبة:

لَمَّا رَأَتْنِي خَلَقَ المُمَوَّهِ

بَرَّاقَ أَصْلادِ الجَبِينِ الأجْلَهِ (3)

(1) ديوانه: 90، وطبقات فحول الشعراء: 79، وغيرهما كثير. وهو من أبيات روائع، في صفة المطر والسيل أولها: دِيَمةٌ هَطْلَاءُ فِيهَا وَطَفٌ

طَبَقَ الأَرْضِ تَحَرَّي، وَتَدِرّْ

ثم قال بعد قليل: "ساعة" أي فعلت ذلك ساعة، "ثم انتحاها" أي قصدها، والضمير فيه إلى"الشجراء" في بيت سباق. و"ساقط الأكناف"، قد دنا من الأرض دنوًّا شديدًا، كأن نواحيه تتهدم على الشجراء. "منهمر": متتابع متدفق. واقرأ تمام ذلك في شرح الطبقات.

(2)

هذا البيان عن معاني"صلد"، لا تصيبه في كثير من كتب اللغة.

(3)

ديوانه: 165 من قصيدة مضى الاستشهاد بأبيات منها في 1: 123، 309، 310 /2: 222، والضمير في"رأتني" إلى صحابته التي ذكرها في أول الشعر و"خلق": بال. و"المموه" يقال:: وجه مموه" أي مزين بماء الشباب، ترقرق شبابه وحسنه. وقوله"خلق المموه"، بحذف"الوجه" الموصوف بذلك. يقول: قد بلي شبابي وأخلق. "أصلاد الجبين"، يعني أن جبينه قد زال شعره، فهو يبرق كأنه صفاة ملساء لا نبات عليها. و"الأجله". الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي جبهته ومقدم جبينه، وذلك كله بعد أن كان كما وصف نفسه: * بَعْدَ غُدَانِيِّ الشَّبَابِ الأَبْلَهِ *

فاستنكرته صاحبته، بعد ما كان بينه وبينها في شبابه ما كان، وليت شعري ماذا كان يبغي رؤبة منها، وقد صار إلى المصير الذي وصف نفسه! ! .

ص: 524

ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي:"قِدْرٌ صَلود"،"وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا، ومنه قول تأبط شرًّا:

وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رَعْدٍ وَقِرَّةٍ

وَلا بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ أعْزَلِ (1)

* * *

ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثلَ لأعمالهم، فقال: فكذلك أعمالهم بمنزلة الصَّفوان الذي كان عليه تراب، (2) . فأصابه الوابلُ من المطر، فذهب بما عليه من التراب، فتركه نقيًّا لا تراب عليه ولا شيء = يراهُم المسلمون في الظاهر أنّ لهم أعمالا - كما يُرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله، اضمحلّ ذلك كله، لأنه لم يكن لله،

(1) اللسان (جلب)(عزل) ، وغيرهما. ولم أجد القصيدة، ولكني وجدت منها أبياتًا متفرقة ورواية اللسان والمطبوعة وغيرهما: وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رِيحٍ وَقِرَّةٍ

وَلَا بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ مَعْزِلِ

ولكنه في المطبوعة واللسان أيضًا"جلب ليل"، والظاهر أن المطبوعة نقلت البيت من اللسان (جلب) دون إشارة إلى ما كان في المخطوطة، ولكنى أثبت رواية المخطوطة، فإنها لا تغير وهي سليمة المعاني.

الجلب (بكسر الجيم أو ضمها وسكون اللام) : هو السحاب المعترض تراه كأنه جبل، ويقال أيضًا: هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه. ورواية الطبري في المخطوطة تقتضي المعنى الأول: والقرة (بكسر القاف) والقر (بضمها) : البرد الشديد، يقول: لست امرءًا خاليا من الخير، بل مطيفًا بالأذى، كهذا السحاب المخيل المتراكم، مخيف برعده، ويلذغ ببرده، ولا غيث معه. أما رواية اللسان وغيره، فشرحها على معنى السحاب الرقيق جيد. وقوله:"أعزل" من"عزل الشيء يعزله" إذا نحاه جانبًا وأبعده، كما سموا الزمل المنقطع المنفرد المنعزل"أعزل"، فهو من صميم مادة اللغة، وإن لم يأتوا عليه في كتب اللغة بشاهد. وهذا شاهده بلا شك. أما قوله في الرواية الأخرى"معزل" فهو بمعنى ذلك أيضًا: معتزل عن الخير، أو معزول عنه. وهو مصدر ميمي من ذلك، جاء صفة، كما قالوا:"رجل عدل"، وكما قالوا"فلان شاهد مقنع" أي رضا يقنع به، مصدر ميمي من"قنع"، وهذا بيان لا تجده في كتب اللغة فقيده واحفظه.

(2)

في المخطوطة: "عليه ثواب"، وهو تصحيف غث، ولكنه دليل على شدة إهمال الناسخ وعجلته.

ص: 525

كما ذهب الوابل من المطر بما كانَ على الصفوان من التراب، فتركه أملسَ لا شيء عليه

= فذلك قوله: (لا يقدرون)، يعني به: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يقول: لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا، لأنهم لم يعملوا لمعادهم، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلبَ حمدهم. وإنما حظهم من أعمالهم، ما أرادوه وطلبوه بها.

* * *

ثم أخبر تعالى ذكره أنه (لا يهدي القوم الكافرين)، يقول: لا يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون (1) .

فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفةُ أعمالهم، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنِّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر، عند الله. (2) .

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

6040 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) فقرأ حتى بلغ: (على شيء مما كسبوا)، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس

(1) في المخطوطة: "ولكنه تركهم"، والصواب ما في المخطوطة.

(2)

في المخطوطة: "واليوم عند الله" سقط منه "الآخر"، وهو دليل على ما أسلفت من عجلته.

ص: 526

عليه شيء، أنقى ما كان عليه. (1) .

6041 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(لا تبطلوا صدقاتكم بالمن) إلى قوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) ، هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة، يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيًّا لا شيء عليه.

6042 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى قوله: (على شيء مما كسبوا) أما الصفوان الذي عليه تراب، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا. فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس، (2) . ذهب الرياءُ بنفقته، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًّا، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم. فقال للمؤمنين:(لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى) فتبطل كما بطلت صَدقة الرياء.

6043 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خير من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فضرب الله مثلهما جميعًا:(كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منًّا وأذى.

6044 -

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثنى أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) ليس عليه شيء، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب.

6045 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:

(1) في المطبوعة: "أنقى ما كان"، حذف"عليه"، كأنه استنكرها، وهي معرقة في الصواب.

أي: أنقى ما كان عليه من النقاء.

(2)

في المطبوعة: "فكذا هذا الذي ينفق"، لا أدرى لم غير ما في المخطوطة.

ص: 527

قال ابن جريج في قوله: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) قال: يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها.

6046 -

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى)، فقرأ:(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) حتى بلغ: (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئًا؟ فكذلك منُّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئًا. وقرأ قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)، وقرأ:(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ)، فقرأ حتى بلغ:(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) . [البقرة: 270-272] . (1) .

* * *

القول في تأويل قوله عز وجل: {صَفْوَانٍ}

قد بينا معنى"الصفوان" بما فيه الكفاية، (2) . غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل.

6047 -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(كمثل صفوان) كمثل الصفاة.

6048 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:(كمثل صفوان) والصفوان: الصفا.

6049 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

(1) ما في المخطوطة والمطبوعة: "وما أنفقتم من خير فلأنفسكم"، وهو خطأ ظاهر، والصواب أنه يعني آيات سورة البقرة التي بينتها كما أثبتها.

(2)

انظر ما سلف قريبًا ص: 523، 524 والمراجع في التعليق عليه.

ص: 528

6050 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما (صفوان) ، فهو الحجر الذي يسمى"الصَّفاة".

6051 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.

6052 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:(صفوان) يعني الحجر.

* * *

القول في تأويل قوله عز وجل: {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ}

قد مضى البيان عنه. (1) . وهذا ذكر من قال قولنا فيه:

6053 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما وابل: فمطر شديد.

6054 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:(فأصابه وابل) والوابل: المطر الشديد.

6055 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.

6056 -

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

* * *

القول في تأويل قوله عز وجل: {فَتَرَكَهُ صَلْدًا}

* ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك:

6057 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن

(1) انظر ما سلف قريبا ص: 524.

ص: 529

السدي: (فتركه صلدًا) يقول نقيًّا.

6058 -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:(فتركه صلدًا) قال: تركها نقية ليس عليها شيء.

6059-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله:(فتركه صلدًا) قال: ليس عليه شيء.

6060 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا، أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:(صلدًا) فتركه جردًا.

6061 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: خبرنا معمر، عن قتادة:(، فتركه صلدًا) ليس عليه شيء.

6062 -

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:(فتركه صلدًا) ليس عليه شيء.

* * *

ص: 530

القول في تأويل قوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ومثل الذين ينفقون أموالهم) فيصَّدَّقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله، ويقوُّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وفي غير ذلك من طاعات الله، طلب مرضاته = (1) .

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "طلب مرضاته، وتثبيتًا يعنى بذلك وتثبيتًا من أنفسهم يعنى لهم وهو كلام مختل، والظاهر أن الناسخ لجلج في كتابته فأعاد وكرر، فحذفت"وتثبيتًا يعني بذلك" وأضفت"بذلك وتثبيتا" بعد"يعنى الثانية التي بقيت.

ص: 530

= (وتثبيتًا من أنفسهم) يعني بذلك: وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا، من قول القائل:"ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر" - إذ صححت عزمَه، وحققته، وقويت فيه رأيه -"أثبته تثبيتًا"، كما قال ابن رواحة:

فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى، وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا (1)

* * *

وإنما عنى الله جل وعز بذلك: أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتَتْهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصححت عزمهم وآراءهم، (2) . يقينًا منها بذلك، (3) . وتصديقًا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله:(وتثبيتًا)، وتصديقًا = ومن قال منهم: ويقينًا = لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالَهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، (4) . إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله.

* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:

6063 -

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي:(وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: تصديقًا ويقينًا.

(1) سيرة ابن هشام 4: 16، وابن سعد 3/ 2 /81، والمختلف والمؤتلف للآمدي: 126 والاستيعاب 1: 305، وطبقات فحول الشعراء: 188، من أبيات يثني فيها على رسول رب العالمين. وروى الآمدي وابن هشام السطر الثاني"في المرسلين ونصرًا كالذي نصروا". ولما سمع رسول الله عليه وسلم هذا البيت، أقبل عليه بوجهه مبتسمًا وقال:"وإياك فثبت الله".

(2)

في المخطوطة: "فيثبتهم في إنفاق أموالهم

"، وهو سهو من الناسخ، أو خطأ في قراءة النسخة التي نقل عنها. وفي المطبوعة: "فثبتهم

وصحح عزمهم"، فغير ما في المخطوطة، وجعل"صححت"، "صحح"، لم يفهم ما أراد الطبري. وانظر التعليق التالي.

(3)

في المطبوعة: "وأراهم"، ومثلها في المخطوطة، والصواب"وآراءهم" كما أثبتها. يعنى أن نفوسهم صححت عزمهم وآراءهم في إنفاق أموالهم. وهذا ما يدل عليه تفسير الطبري. لقولهم"ثبت فلانا في الأمر"، كما سلف منذ قليل.

(4)

"إياهم" مفعول المصدر"تثبيت"، أي أن أنفسهم ثبتتهم في الإنفاق.

ص: 531

6064 -

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي:(وتثبيتًا من أنفسهم) قال: وتصديقًا من أنفسهم ثبات ونُصرة.

6065 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: يقينًا من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين.

6066 -

حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله:(وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: يقينًا من عند أنفسهم.

* * *

وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم.

* ذكر من قال ذلك:

6067 -

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(وتثبيتًا من أنفسهم) قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.

6068 -

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد:(وتثبيتًا من أنفسهم)، فقلت له: ما ذلك التثبيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.

6069 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد:(وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها.

6070 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن في قوله:(وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم -يعني زكاتهم.

ص: 532

6071 -

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن علي بن علي، قال: سمعت الحسن قرأ: (ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم)، قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك.

* * *

قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأولوا قوله:(وتثبيتًا من أنفسهم)، بمعنى:"وتثبُّتًا"، فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان:"وتثبتًا من أنفسهم"; لأن المصدر من الكلام إن كان على"تفعَّلت""التفعُّل"، (1) . فيقال:"تكرمت تكرمًا"، و"تكلمت تكلمًا"، وكما قال جل ثناؤه:(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ)[النحل: 47]، من قول القائل:"تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا". فكذلك قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، لو كان من"تثبَّت القومُ في وضع صدقاتهم مواضعها"، لكان الكلام:"وتثبُّتًا من أنفسهم"، لا"وتثبيتًا". ولكن معنى ذلك ما قلنا: من أنه: وتثبيتٌ من أنفس القوم إياهم، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره.

* * *

فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظيرَ قول الله عز وجل: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا)[المزمل: 8]، ولم يقل:"تبتُّلا".

قيل: إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه:"تبتيلا" لظهور"وتبتَّل إليه"، فكان في ظهوره دلالةٌ على متروك من الكلام الذي منه

(1) في المطبوعة: "إن كان على تفعلت"، وأثبت ما في المخطوطة، وعبارة الطبري عربية محكمة، بمعنى: لأن المصدر من الكلام الذي كان

".

ص: 533

قيل:"تبتيلا". وذلك أن المتروك هو:"تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا". وقد تفعل العرب مثلَ ذلك أحيانا: تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال جل وعز:(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا)[نوح: 17]، وقال:(وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)[آل عمران: 37]، و"النبات": مصدر"نبت". وإنما جاز ذلك لمجيء"أنبت" قبله، فدل على المتروك الذي منه قيل"نباتًا"، والمعنى:"والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتًا". وليس [في] قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) كلامًا يجوز أن يكون متوهَّمًا به أنه معدول عن بنائه، (1) . ومعنى الكلام:"ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها"، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله:(وتبتَّل إليه تبتيلا) ، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.

* * *

وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، احتسابًا من أنفسهم.

* ذكر من قال ذلك:

6073 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: احتسابًا من أنفسهم. (2) .

* * *

قال أبو جعفر: وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى"التثبيت"، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى"الاحتساب"، إلا أن يكون أراد مفسِّرُه كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت، فيترجَم عنه به.

* * *

(1) في المطبوعة: "وليس قوله

كلامًا يجوز" بالنصب، وفي المخطوطة: "وليس قوله

كلام يجوز" بالرفع، وظاهر أن الصواب ما أثبت من زيادة: "في"، بمعنى أنه ليس في الجملة فعل سابق يتوهم به أن المصدر معدول به عن بنائه.

(2)

سقط من الترقيم سهوا رقم: 6072.

ص: 534

القول في تأويل قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل وعز: ومثل الذين ينفقون أموالهم، فيتصدقون بها، ويُسبِّلُونها في طاعة الله بغير منٍّ على من تصدقوا بها عليه، ولا أذى منهم لهم بها، ابتغاء رضوان الله وتصديقًا من أنفسهم بوعده = (كمثل جنة) .

* * *

و"الجنة": البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن"الجنة" البستان، بما فيه الكفاية من إعادته. (1) .

* * *

= (برَبْوة) والرَّبوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، مما رقَّ منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة:

مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ

خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ (2)

(1) انظر ما سلف 1: 384.

(2)

ديوانه: 43، وسيأتي هو والأبيات التي تليه في التفسير 21: 19 (بولاق)، من قصيدته البارعة المشهورة. يصف شذا صاحبته حين تقوم: إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرَةً

وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِن أَرْدَانِهَا شَمِلُ

مَا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ

خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ

يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ

مُؤَزَّرٌ بعَميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ

يَوْمًا بِأَطْيَبَ منها نَشْرَ رَائِحَةٍ

وَلا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الأُْصُلُ

ضاع المسك يضوع، وتضوع: تحرك وسطع رائحته. وأصورة جمع صوار: وهو وعاء المسك، أو القطعة منه. والورد: الأحمر، وهو أجود الزنبق. وشمل: شامل، عدل به من"فاعل" إلى"فعل". والحزن: موضع في أرضى بني أسد وبني يربوع، وهو أرض غليظة كثيرة الرياض ممرعة، وهو مربع من أجل مرابع العرب. مسبل: مرسل ماء على الأرض. هطل: متفرق غزيز دائم= والكوكب: النور والزهر، يلمع كأنه كوكب. شرق: ريان، فهو أشد لبريقه وصفائه.

مؤزر: قد صار عليه النبات كالإزار يلبسه اللابس، تغطى الخضرة أعواده. ونبت عميم: ثم وطال والتف.

واكتهل النور: بلغ منتهى نمائه، وذلك أحسن له. يقول: ما هذه الروضة التي وصف زهرها ونباتها ما وصف

بأطيب من صاحبته إذا قامت في أول يومها، حين تتغير الأفواه والأبدان من وخم النوم.

والأصل جمع أصيل: وهو وقت العشي، حين تفتر الأبدان من طول تعب يومها، فيفسد رائحتها الجهد والعرق.

ص: 535

فوصفها بأنها من رياض الحزن، لأن الحزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها.

* * *

وفي"الربوة" لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القرأة، وهي"رُبوة" بضم الراء، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق.

و"رَبوة" بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل الكوفة، ويقال إنها لغة لتميم. و"رِبوه" بكسر الراء، وبها قرأ -فيما ذكر- ابن عباس.

* * *

قال أبو جعفر: وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح"الراء"، وإما بضمها، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها، لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإنّ في رفض القراءة به، دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة.

* * *

وإنما سميت"الربوة" لأنها"ربت" فغلظت وعلت، من قول القائل:"ربا هذا الشيء يربو"، إذا انتفخ فعظُم.

* * *

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

6074 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:(كمثل جنة بربوة)، قال: الربوة المكان الظاهرُ المستوي.

ص: 536

6075 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال مجاهد: هي الأرض المستوية المرتفعة.

6076 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(كمثل جنة بربوة) يقولا بنشز من الأرض.

6077 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:(كمثل جنة بربوة) والربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، (1) والذي فيه الجِنان.

6078 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:(بربوة) ، برابية من الأرض.

6079 -

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(كمثل جنة بربوة) ، والربوة النشز من الأرض.

6080 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس:(كمثل جنه بربوة)، قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.

* * *

وكان آخرون يقولون: هي المستوية.

* ذكر من قال ذلك:

6081 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:(كمثل جنه بربوة)، قال: هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه.

* * *

قال أبو جعفر: وأما قوله: (أصابها وابل) فإنه يعني جل ثناؤه: أصاب

(1) في المخطوطة: "الذي تجري فيه الأنهار"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق ما في الدر المنثور 1: 339، ولأنه هو صواب المعنى، ولأنه سيأتي على الصواب بعد قليل في الأثر:6080.

ص: 537

الجنة التي بالربوة من الأرض، وابلٌ من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه. (1) .

* * *

وقوله: (فآتت أكلها ضعفين)، فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر.

* * *

و"الأكل": هو الشيء المأكول، وهو مثل"الرُّعْب والهُزْء"، (2) . وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على"فُعْل". وأما"الأكل" بفتح"الألف" وتسكين"الكاف"، فهو فِعْل الآكل، يقال منه:"أكلت أكلا وأكلتُ أكلة واحدة"، كما قال الشاعر:(3) .

وَمَا أَكْلَةٌ إنْ نِلْتُها بِغَنِيمَةٍ، وَلا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَام (4)

ففتح"الألف"، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله:"ولا جَوْعة"، وإن ضُمت الألف من"الأكلة" كان معناه: الطعام الذي أكلته، فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنيمة.

* * *

(1) انظر تفسير"وابل" فيما سلف قريبا ص: 524.

(2)

في المطبوعة: "والهدء"، وأثبت ما في المخطوطة. ولم يشر الطبري إلى ضم الكاف في"الأكل" وهي قراءتنا في مصحفنا.

(3)

أبو مضرس النهدي.

(4)

حماسة الشجري: 24، من أبيات جياد، وقبله، بروايته، وهي التي أثبتها: وإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ إذا حَارَبُوا العِدَى

سَمَوا فَوْقَ جُرْدٍ للطِّعَانِ كِرَامِ

وإنِّي إذَا مَا القُوتُ قَلَّ لَمُؤْثِرٌ

رَفِيقِي عَلى نفْسِي بِجُلِّ طَعَامِي

فمَا أكْلَةٌ إنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكان في المطبوعة: "وما أكلة أكلتها"، وفي المخطوطة:"وما أكله إن أكلتها"، وظاهر أن الناسخ أخطأ فوضع"أكلتها" مكان"نلتها"، وإن كلام الطبري في شرح البيت يوهم روايته: "وما أكلته أكلتها

". وقوله: "بغرام"، أي بعذاب شديد. والغرام: اللازم من العذاب والشر الدائم.

ص: 538

وأما قوله: (فإن لم يصيبها وابل فطلّ) فإن"الطل"، هو النَّدَى والليِّن من المطر، كما: -

6082 -

حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج:(فطل) ندى = عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس.

6083 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الطل"، فالندى.

6084 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(فإن لم يصيبها وابل فطلّ) ، أي طشٌ.

6085 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:(فطلّ) قال: الطل: الرذاذ من المطر، يعني: الليّن منه.

6086 -

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(فطل) أي طشٌ.

* * *

قال أبو جعفر: وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل: كما ضعَّفتُ ثمرة هذه الجنة التي وصفتُ صفتها حين جاد الوابل، فإن أخطأ هذا الوابل، فالطل كذلك. يضعِّف الله صَدقة المتصدِّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتًا من نفسه، من غير مَنِّ ولا أذى، قلَّت نفقته أو كثرت، لا تخيب ولا تُخلِف نفقته، كما تضعَّف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها، قل ما أصابها من المطر أو كثُر لا يُخلِف خيرُها بحال من الأحوال.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

6087 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:(فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وابل فطل)، يقول: كما أضعفتُ

ص: 539

ثمرة تلك الجنة، فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضِعفين.

6088 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) ، هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خُلْف، كما ليس لخير هذه الجنة خُلْف على أيّ حال، إمَّا وابلٌ، وإمّا طلّ.

6089 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله.

6090 -

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:(الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله) . الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن.

* * *

فإن قال قائل: وكيف قيل: (فإن لم يصيبها وابل فطل) وهذا خبرٌ عن أمر قد مضى؟

قيل: يراد فيه"كان"، ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يكن الوابلُ أصابها، أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول القائل:"حَبَست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته"، بمعنى:"إلا أكن" - لا بدَّ من إضمار"كان"، لأنه خبر. (1) . ومنه قول الشاعر:(2) .

إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ

وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بها بُدَّا (3)

* * *

(1) هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 178.

(2)

زائدة بن صعصعة الفقعسي.

(3)

سلف تخريجه وبيانه في 2: 165، 353.

ص: 540

القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) }

قال أبو جعفر: يعني بذلك: (والله بما تعملون) أيها الناس، في نفقاتكم التي تنفقونها = (بصير) ، لا يخفي عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء، يعلم مَنِ المنفق منكم بالمنّ والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، فيُحصي عليكم حتى يجازيَ جميعكم جزاءه على عمله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.

وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذيرَ من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه، أو يفرّطَ فيما قد أمر به، لأن ذلك بمرأى من الله ومَسمَع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه بالمرصاد. (1) .

* * *

القول في تأويل قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}

قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: (2) . (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صَفوان عليه تراب فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) = (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها

(1) في المطبوعة: "بخلقه". لم يحسن قراءة المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: "يعنى تعالى ذكره". لا أدرى لم غيره الطابع.

ص: 541

من كل الثمرات وأصَابه الكبر) ، الآية. (1)

* * *

ومعنى قوله: (أيود أحدكم) ، أيحب أحدكم، (2) . أن تكون له جنة - يعني بستانًا (3) . = (من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار)، يعني: من تحت الجنة = (وله فيها من كل الثمرات)، و"الهاء" في قوله:(له) عائدة على"أحد"، و"الهاء" و"الألف" في:(فيها) على الجنة، (وأصابه)، يعني: وأصاب أحدكم = (الكبر وله ذريه ضعفاء) .

* * *

وإنما جعل جل ثناؤه البستانَ من النخيل والأعناب = الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له = (4) . مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فالناس -بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته = (5) . في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا (6) . من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته، ويكتسب به المحمَدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلا لعمله، بأن فيها من كل الثمرات. (7) .

* * *

(1) يعنى أبو جعفر: أن هذه الآية، مردودة على الآية السابقة التي ساقها.

(2)

انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470.

(3)

انظر تفسير"جنة" فيما سلف قريبا: 535 تعليق: 1، ومراجعه.

(4)

وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعًا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان

مثلا لنفقة المنافق

في حسنه كحسن البستان وهي الجنة

من نخيل وأعناب

".

(5)

وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان

مثلا لنفقة المنافق

في حسنه كحسن البستان وهي الجنة

من نخيل وأعناب

".

(6)

وضعت هذا الرقم علىهذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان

مثلا لنفقة المنافق

في حسنه كحسن البستان وهي الجنة

من نخيل وأعناب

".

(7)

في المطبوعة والمخطوطة: "بعمله" والصواب ما أثبت، وسياق الجملة: "كما وصف جل ثناؤه الجنة،

بأن فيها من كل الثمرات".

ص: 542

ثم قال جل ثناؤه: (وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء)، يعني أنّ صاحب الجنة أصابه الكبر = (وله ذرية ضعفاء) صغارٌ أطفال = (1) . (فأصابها) يعني: فأصاب الجنة - (إعصار فيه نار فاحترقت) ، يعني بذلك أنّ جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار، في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره، وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها. فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار.

يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مُسْتَعْتَبَ له، (2) . ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوجَ ما كان إليها فبطلت منافعها عنه.

* * *

وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله:(فمثله كمثل صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) .

* * *

قال أبو جعفر: وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدةٌ إلى المعنى الذي قلنا في ذلك، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي.

(1) قد مضت"ذرية" فيما سلف 3: 19، 73، ولم يفسرها. وذلك من اختصاره لتفسيره كما بينا في مقدمة الجزء الأول، وكما جاء في ترجمته.

(2)

لا مستعتب: أي لا استقالة ولا استدراك ولا استرضاء لله تعالى: من قولهم: "استعتبت فلانًا" أي استقلت مما فعلت، وطلبت رضاه، ورجعت عن الإساءة إليه.

ص: 543

6091 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر ولا ذرية ضعفاه فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا. (1) . فكذلك المنفق رياء.

6092 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:(أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) كمثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت. قال، يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار، (له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نار فاحترقت) ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئًا، وولده صغار لا يغنون عنها شيئًا، وكذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حَسْرة.

6093 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

6094 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: سأل عُمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدًا يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إنِّي أجد في نفسي منها شيئًا، قال: فتلفت إليه، فقال: تحوَّل ههنا، لم تحقّر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل

(1) في المخطوطة: "ريح فيها سمره" الهاء الأخيرة متصلة بالراء، ولم أجد لها وجها، والذي في المطبوعة، هو ما في الدر المنثور 1: 340، وفي سائر الآثار الأخرى.

ص: 544

فقال: أيودُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوجَ ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه.

6095 -

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سليم، عن ابن أبي مليكة: أن عمر تلا هذه الآية:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"، قال: هذا مثل ضرب للإنسان: يعمل عملا صالحًا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمل عمل السوء. (1) .

6096 -

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فيم تَرَون أنزلت:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"؟ فقالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا:"نعلم" أو"لا نعلم". فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عنيٌّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها= قال: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه. (2) .

(1) الأثر: 6095 -"محمد بن سليم المكي أبو عثمان". روي عن ابن أبي مليكة، قال الحافظ ابن حجر:"ولم أر له رواية عن غيره". روى عنه وكيع بن الجراح، وعبد الله بن داود الخريبي، وأبو عاصم النبيل. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر أشار إليه في الفتح 8: 151 في كلامه عن الأثر: 6096.

(2)

الأثر: 6096 -رواه البخاري من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، وأشار الحافظ في الفتح 8: 151، إلى رواية الطبري له من طريق ابن المبارك، عن ابن جريج. وكان في

المطبوعة: "رحل عنى" مهملة، والصواب ما أثبت من المراجع. وانظر التعليق التالي.

ص: 545

6097 -

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير= قال: ابن جريج: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس= قالا جميعًا: إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه= إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بالحسنات، ثم يُبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي. (1) .

6098 -

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها= ثم قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد= قالا ضربت مثلا للأعمال = قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ضربت مثلا للعمل، يبدأ فيعمل عملا صالحًا، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة، مثلا لإساءته التي مات وهو عليها. قال ابن عباس: الجنة عيشُه وعيش ولده فاحترقت، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت.

يقول: هذا مثله، تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ، فلا يجد له عندي شيئًا، (2) ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، (3) كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات= قال

(1) الأثر: 6097 -رواه الحاكم في المستدرك 2: 283، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 151 وهو مكرر الذي قبله. وسلقه الحاكم بلفظة وقال"وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

(2)

في المطبوعة: "تلقاه"، وفي المخطوطة "للعال" مصحفة مضطربة الخط، وهذا صواب قراءتها.

(3)

في المخطوطة: "من كبره وصغره أن يعملوا جنته"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.

ص: 546

ابن جريج، عن مجاهد: سمعت ابن عباس قال: هو مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت = قال ابن جريج، وقال مجاهد: أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنة؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئًا، (1) وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئًا. وكذلك المفرِّط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة.

6099 -

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار" الآية، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة (2)" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون"،: فهذا مثلٌ، فاعقلوا عن الله جل وعز أمثاله، فإنه قال:(وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ)[سورة العنكبوت: 43] ، هذا رجل كبرت سنه، ورَقَّ عظمه، وكثر عياله، (3) ثم احترقت جنته على بقية ذلك، كأحوج ما يكون إليه، يقول: أيحب أحدكم أن يضلَّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه؟

6100 -

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ" إلى قوله:"فاحترقت" يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سِنُّه وضعُف عن الكسب="وله ذرية ضعفاء" لا ينفعونه. قال: وكان الحسن يقول:"فاحترقت" فذهبت أحوجَ ما كان إليها، فذلك قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوجَ

(1) في المطبوعة: "حين أحرقت جنته"، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: "سموم شديدة"، و"السموم" مذكر، ويؤنث، لمعنى الريح الحارة.

(3)

في المخطوطة والمطبوعة: "دق عظمه"، والصواب بالراء، وفي حديث عثمان:"كبرت سني، ورق عظمي"، وقولهم:"رق عظم فلان"، أي كبر وضعف. والرقق (بفتحتين) . ضعف العظام، قال الشاعر في ناقته: خَطَّارَةٌ بَعْدَ غِبّ الجَهْدِ نَاجِيةٌ

لم تَلْقَ فِي عَظْمِهَا وَهْنًا وَلا رَقَقَا

.

ص: 547

ما كان إليه؟

6101 -

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ضرب الله مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسنٌ تبارك وتعالى. وقال قال:(1)"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل" إلى قوله:"فيها من كل الثمرات" يقول: صنعه في شبيبته، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة، إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب، (2) كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه، (3) ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا: كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزَن عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطعٌ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا، ويخلد فيها مهانًا، من أجل أنه [فخر على صاحبه] ووثق بما عنده، (4) ولم يستيقن أنه ملاق ربه. (5) .

(1) في المخطوطة: "وقال قال أيوب: أيود أحدكم"، وقوله:"أيوب" لا معنى له هنا، ليس في هذا الإسناد من اسمه"أيوب"، ولو كان أيضًا، لكان سياقًا مضطربًا. وظاهر أن"أيوب" هي"أيود"، والناسخ في هذا الموضع قد اضطرب. كما سترى في التعليق التالي. وصحته ما جاء في الدر المنثور 1: 340، كما سترى بعد.

(2)

كان بين الكلمات في المخطوطة بياض هكذا: "ذرية ضعفاء عمره فجاءه إعصار فيه نار فاحترقت عنده قوة إن نسله خير يعودون الكافر يوم القيامة إذا رد إلى خير فيستعتب"، وهو مع البياض خلط من الكلام! وأثبت ما في المطبوعة، وهو نص الأثر كما أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 340، ونسبه لابن جرير، وأبي حاتم. وابن كثير في التفسير 2: 38، 39.

(3)

في المخطوطة والمطبوعة: "كما ليس له قوة"، والصواب من الدر المنثور، وابن كثير.

(4)

الذي بين القوسين هو ما ثبت في المطبوعة، أما المخطوطة فكانت:"من أكل أنه ووثق بما عنده" بياض. ولم أجد بقية الأثر في المراجع السالفة، فتركت ما استظهره طابع المطبوعة على حاله. ولو استظهرته لقلت:"من أجل أنه كفر بلقاء ربه"، والله أعلم.

(5)

الأثر: 6101 -في الدر المنثور 1: 340، وابن كثير 2: 38، 39، كما أسلفت.

ص: 548

6102 -

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أيود أحدكم أن تكون له جنة"، الآية، قال:[هذا مثل ضربه الله] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [له فيها من كل الثمرات] ، والرجل [قد كبر سنه وضعف] ، وله أولاد صغار [وابتلاهم الله] في جنتهم، (1) فبعث الله عليها إعصارًا فيه نار فاحترقت، (2) فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر، (3) ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوجَ ما كان إليها. يقول: أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوجَ ما كان إليه؟ فيقول: ابن آدم، أتيتني أحوجَ ما كنت قطُّ إلى خير، فأين ما قدمت لنفسك؟

6103 -

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وقرأ قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى"، ثم ضرب ذلك مثلا فقال:"أيود أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب"، حتى بلغ"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت". قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. أيودُّ أحدكم هذا؟ كما يتجمَّل أحدكم إذ يخرُج من صدقته ونفقته، (4) حتى إذا كان له عندي جنّة وجرت أنهارها وثمارها،

(1) الذي وضعته بين الأقواس، هو ما استظهر الطابع في المطبوعة فيما أرجح، وكان مكانه في المخطوطة بياض.

(2)

كان في المخطوطة: "فبعث الله عنها إعصار فيه نار"، وهو تحريف وخطأ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.

(3)

في المخطوطة: "من الكفر". وهو خطأ بين.

(4)

في المطبوعة"فما يحمل"، وفي المخطوطة"كما يحمل"، ثم فيهما جميعًا:"أن يخرج"، وهو كلام لا مفهوم له. واستظهرت قراءاتها كذلك، لأن الذي يخرج نفقته رئاء الناس، إنما يتجمل بذلك عندهم. وهذا هو الصواب سياق الأثر. والمخطوطة كما تبين من التعليقات السالفة، فاسدة كل الفساد من اضطراب كتابة الناسخ، ومن عجلته، أو عجزه عن قراءة النسخة التي نقل عنها.

ص: 549

وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها.

6104 -

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار"، رجل غرس بستانًا فيه من كل الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرًا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا.

* * *

قال أبو جعفر: وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدَّم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم، ثم ضرب مثلا لمن منَّ وآذى من تصدق عليه بصدقة، فمثَّله بالمرائي من المنافقين المنفقين أموالهم رئاء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل، نظيرةَ ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقُها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثلُ ما لم يَجر له ذكر قبلها ولا معها. (1)

* * *

فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"وأصابه الكبر"، وهو فعل ماض، فعطف به على قوله:"أيود أحدكم"؟

قيل: إن ذلك كذلك، لأن قوله:"أيود"، يصح أن يوضع فيه"لو" مكان"أن" فلما صلحت ب"لو" و"أن" ومعناهما جميعًا الاستقبال، استجازت العرب أن

(1) انظر ما قاله القرطبي في تفسيره 3: 318، في رد اختيار ابن جرير في تفسيره. ومذهب ابن جرير أوثق وأضبط في البيان، وفي الاستدلال.

ص: 550

يردّوا"فعل" بتأويل"لو" على"يفعل" مع"أن"(1) فلذلك قال:"فأصابها"، وهو في مذهبه بمنزلة"لو"، إذْ ضارعت"أن" في معنى الجزاء، فوضعت في مواضعها، وأجيبت"أن" بجواب"لو" و"لو" بجواب"أن"، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر؟ (2) .

فإن قال: وكيف قيل ههنا:"وله ذرية ضعفاء"، وقال في [النساء:9] ، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا) ؟

قيل: لأن"فعيلا" يجمع على"فعلاء" و"فِعال"، فيقال:"رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف.

* * *

وأما"الإعصار"، فإنه الريح العاصف، تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود، تجمع"أعاصير"، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري:

أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوارُهُمْ

أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ (3)

* * *

(1) أي: أن يردوا الفعل الماضي بتأويل"لو" على الفعل المضارع مع"أن".

(2)

هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 175، وقد استوفى الباب هناك. وانظر ما سلف في جواب"لو" بالماضي من الفعل 2: 458 /3: 184، 185، والتعليق هناك.

(3)

تاريخ الطبري 6: 178، والأغاني 17: 178: وسيأتي في التفسير 15: 53 مصحفًا أيضًا: "من فسق العراق المبذر". والبيت في المطبوعة والمخطوطة هنا: "من سوء العراق المنذر"، وهو كلام بلا معنى، ولكنى رأيت شارحًا شرحه على ذلك، فأشهد الله كاد يقتلني من فرط الضحك! وهو من أبيات ثلاثة قالها ابن مفرغ في خبره مع بن زياد، حين هجاه، وهجا معاوية بن أبي سفيان (وانظر ما سلف 4: 293 وتعليق: 2) وفارق عبادًا مقبلًا إلى البصرة، فطاف بأشرافها من قريش يسجير بهم، فما كان منهم إلا الوعد، ثم أتي المنذر بن الجارود (من عبد القيس) فأجاره وأدخله داره، ووشى الوشاة به إلى عبيد الله بن زيادة أنه دار المنذر. وكان المنذر في مجلس عبيد الله، فلم يشعر إلى بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام المنذر فقال: أيها الأمير، قد أجرته! فقال: يا منذر، واله يمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثم تجيره على! فأمر به فسقى دواء وحمل على حمار يطاف به وهو يسلح في ثيابه من جراء الدواء، فقال عندئذ لعبيد الله بن زياد: يَغْسِلُ المَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَولِي

راَسِخٌ مِنْكَ فِي العِظَامِ البَوالِى

ثم هجا المنذر بن الجارود فقال: تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ أُجَاوِرَ فِيهمُ

وَجَاورْتُ عبدَ القَيْس أَهْلَ المُشَقَّرِ

أُناسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ

أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المبَذَّرِ

فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جَذِيمةَ نَائمًا

ولا يمنَعُ الجِيرَانَ غَيْرُ المُشَمِّرِ

وقوله: "من فسو العراق"، وذلك أن عبد القيس ونبي حنيفة وغيرهم من أهل البحرين وما جاورها، كانوا يعيرون بالفسو، لأن بلادهم بلاد نخل فيأكلونه، ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير. والمبذر: من التبذير، وهو الإسراف في المال وتشتيه وتفريقه. وهذه صفة قد انتزعها ابن مفرغ أحسن انتزاع في هذا الموضع، فجعلت سخرتته بالمنذر بن الجارود، ألذع ما تكون، مع روعة قوله:"أعاصير"!!

قد جاء الأخطل بعد ذلك فهجا ابنه أيضًا مالك بن المنذر بن الجارود، فقال له: وَعَبْدُ القَيْسِ مُصْفَرٌ لِحَاهَا

كَأَنَّ فُسَاءَهَا قِطَعُ الضَّبَابِ!!

فبلغ منه ما بلغ!! ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 298، 299، والتعليق هناك.

ص: 551

قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت".

فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدةٌ.

* ذكر من قال ذلك:

6105 -

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إعصار فيه نار"، ريح فيها سموم شديدةٌ.

6106 -

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في:"إعصارٌ فيه نار"، قال: السموم الحارة التي خلق منها الجانّ، التي تحرق.

ص: 552

6107 -

حدثنا أحمد (1) قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت"، قال: هي السموم الحارة التي لا تبقى أحدًا. (2) .

6108 -

حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت" التي تقتل.

6109 -

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عباس، قال: إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من النار.

6110 -

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت"، هي ريح فيها سموم شديدٌ.

6111 -

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"إعصار فيه نار"، قال: سموم شديد.

6112 -

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"إعصار فيه نار"، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة.

6113 -

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه.

6114 -

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا حميد"، والصواب:"أحمد"، وهو:"أحمد بن إسحق الأهوازي"، كما سلف مئات من المرات في روايته عن أبي أحمد الزبيري، فاطلبه في الفهارس، وانظر الآتي رقم:6109.

(2)

في المطبوعة حذف قوله: "لا تبقي أحدًا"، وعلق عليه بقوله:"في بعض النسخ زيادة: "التي لا تضر أحدًا"، وهي في المخطوطة كذلك، ولكن الناسخ أفسد الكلمة، وصوابها كما أثبت: "لا تبقى أحدًا". وسيأتي في حديث التميمي عن عباس، وهو الحديث التالي: "التي تقتل". فهذا هذا.

ص: 553