الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك يشبه أن يكون الأمر في الحركة التي في الهواء والحركة التي هي في نفس القارع والمقروع في حاسة السمع، ولذلك ما نرى الحركتين المتضادتين في الماء عن وقع الحجارة فيه ليس تتعاوق الدوائر الحادثة عنها.
وأما المحسوسات التي يقبلها الجسم المركب فقط، أعني الممتزج فإما أن لا توجد لها الحاجة إلى هذا المعنى من التوسط، وأما أن وجد لها فبجهة أخرى، وكانت حاجة هذه إلى المتوسط مع حاجة تلك مع هذه بضرب من التشكيك. ولذلك الأشبه أن نقول في هذه الرطوبة أنها إنما تعين على هذا الفعل من جهة انه يعرض للمطعومات اليابسة أن تترطب بها بضرب من النضج يعتريها في الفم، ولذلك نجد اللوك والمضغ يعين على درك كثير من المطعومات، وبخاصة التي إنما ندركها بعد لبثها في الفم، والحال في هذه كالحال في بعض المشمومات التي تدرك بالفرك، وكان هذين الصنفين من المطعومات هي محسوسة بالقوة.
وأما المطعومات التي هي رطبة بالفعل فإما أن لا تحتاج إلى هذه الرطوبة في الفم، وأما إن احتاجت فحاجة يسيرة، ولذلك الأولى أن نقول في هذه الرطوبة إنها من بعض آلات الإدراك للذوق من أن نقول إنها متوسطة وأن هذه الحاسة مما تحتاج إلى متوسط. ونطلق القول في ذلك كإطلاقه في البصر والسمع والشم.
ولهذا نرى أن الإسكندر فيما قال أحفظ لوضعه، إذ كان الأشهر من حاسة المتوسط إنما هو أن يكون المحسوس غير ملاق لآلة الحس، وذلك أنه لما كان الأفضل في حفظ بقاء الحيوان أن لا يحس فقط بالمحسوسات التي يماسه بل وبالمحسوسات التي من خارج وعلى بعد منه ليتحرك نحوها أو عنها بالضرورة ما كانت الحاجة في هذه ماسة إلى متوسط.
ولما كانت هذه الآلة إنما تدرك الطعم من جهة ما هو رطب أو مترطب كان ما هو بالقوة شيء ما واجب فيه أن لا يكون بالفعل شيء من ذلك الذي هو قوي عليه كانت آلة هذا الإدراك يابسة.
ولما كانت هذه الرطوبة التي تترطب بها المحسوسات اليابسة حتى تدركها هذه الحاسة هي كالموصل بوجه ما بالواجب ما لزم فيها أن يكون غير ذات طعم في نفسها، وإلا لم تتأدبها الطعوم إلى الحاسة على كنهها كما يعرض ذلك للمرضى، وهذا من فعل هذه الرطوبة أقرب ما تشبه به إلى المتوسط.
ولما كانت هذه الحاسة وحاسة الإبصار يدركان محسوساتهما في موضوعاتهما الأول اشتركتا في إدراك الشكل والمقدار.
وأما حاسة السمع والشم فلما كانت تدرك محسوساتها وقد انفصلت عن موضوعاتها الأول لم يوجد لها هذا المحسوس المشترك والقول في هذه الأشياء على الاستقصاء يستدعي قولاً أبسط من هذا بكثير. لكن قولنا جرى في هذه الأشياء بحسب الأمر الضروري فقط، وأن فسح الله في العمر وجلى هذه الكرب فسنتكلم في هذه الأشياء بقول أبين وأوضح وأشد استقصاء من هذا كله، لكن القدر الذي كتبناه في هذه الأشياء هو الضروري في الكمال الإنساني وبه يحصل أول مراتب الإنسان. وهذا القدر لمن أتفق له الوقوف عليه بحسب زماننا هذا كثير، فقد قلنا ما هي هذه القوة وما آلتها وبأي جهة تدرك محسوساتها.
وأما القول في الطعوم وتفصيلها فأليق المواضع بذلك هو كتاب الحس والمحسوس.
القول في اللمس
وهذه القوة هي القوة التي من شأنها أن تستكمل بمعاني الأمور الملموسة، والملموسات كما قيل في كتاب الكون والفساد إما أول وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وإما ثوان وهي المتولدة عن هذه كالصلابة واللين، وهذه القوة لما كانت إنما تدرك هذه الملموسات على نحو ترتيبها في وجودها فهي تدرك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أولاً وبالذات، وتدرك الكيفيات الأخر المتولدة عن هذه بتوسط هذه، ولهذه العلة بعينها لزم من تكون هذه القوة تدرك أكثر من تضاد واحد بخلاف ما عليه الأمر في البصر والسمع. وذلك أنه لما كانت إنما تدرك هذه الملموسة على نحو كنهها في وجودها وكانت كل واحدة من هذه الكيفيات تقترن به كيفية أخرى كالحرارة التي تقترن بها اليبوسة والرطوبة كان إدراكها لهذه القوى معاً.
وأيضاً فإن القوى المنفعلة فيها، أعني الرطوبة واليبوسة لما كانت كالهيولى للقوى الفاعلة، أعني الحرارة والبرودة والفاعلة لها كالصورة، كان من الواجب أن تكون هذه القوى تدركها معاً. ولو كان إدراك الحرارة والبرودة بقوة واحدة والرطوبة واليبوسة بقوة أخرى لم تدرك ولا واحدة منها هذه المتضادات على كنهها، وليس كذلك الأمر في السمع والبصر. فإن حاسة البصر إنما تدرك تضاداً واحداً وهو الأبيض والأسود من جهة أنه ليس يقترن بذلك تضاد آخر وكذلك الحال في إدراك السمع الثقيل والخفيف، وقد تدرك غير هذه الحاسة أكثر من تضاد واحد، وهو المتضادات الموضوعة لمحسوسها الأول كإدراك السمع الخشن والأملس الذي هو موضوع الصوت، ومثال إدراك البصر البراق ولا براق اللذين موضوعهما الأبيض والأسود.
وبهذه ينحل الشك الذي يظن به أن هذه القوة أكثر من قوة واحدة أن كانت تدرك أكثر من تضاد واحد.
وقد يظهر ذلك أيضاً إذا تبين أن آلة هذه القوة واحدة وذلك أن أحد ما تتعدد به هذه القوى هي آلتها، إذ كنا نرى ضرورة أن القوة الواحدة لها آلة واحدة وأن هذا منعكس. ولذلك ما ينبغي أن نفحص أولاً ما هذه الآلة وهل هي واحد أو كثير، فإنه ليس الأمر في ذلك بيناً كبيانه في الحواس الأخر وإن كان هذا الفحص أليق بكتاب الحيوان.
فنقول إنه مما تبين في ذلك الكتاب أن الأعضاء آلة للنفس وإنها إنما اختلفت خلقها لاختلاف أفعال النفس، حتى تكون العين مثلاً إنما وجدت مركبة من ماء وهواء من أجل الإبصار، وهذا بين في الأعضاء المركبة وهي التي لعس تشبه أجزاؤها بعضها بعضاً.
وأما الأعضاء البسيطة وهي التي أَجزاؤها لشبه بعضها بعضاً فيظهر في كثير منها إنما كونت من أجل المركبة كاليد التي تأتلف من عظام وأوتار وغير ذلك، وقد يظهر أيضاً في بعضها أنها إنما وجب أن تنقسم إلى بسيط ومركب من اجل انقسام قوى النفس، وذلك أن القوى الأربع التي تقدم ذكرها إنما توجد في أعضاء آلية.
وأما حس اللمس فلما كان شائعاً في جميع الجسد ومشتركاً لجميع الأعضاء وجب ضرِورة أن يكون العضو الذي يخصه مشتركاً بسيطا غير آلي. ولما كانت أيضاً هذه القوة ليس يخلو منها حيوان لزم ضرورة أن لا يخلو حيوان من هذا العضو، وليس في الحيوان شيء يرى أنه بهذه الصفة غير اللحم، وذلك انه العضو الذي يرى أنا إذا غمز ناعليه أحسسنا مع أنه مشترك لجميع الحيوان.
ومن هنا ينحل الشك الذي نظن به أن اللحم لعلة ليس بآلة هذه القوة، وأن منزلته منزلة المتوسط، كما يظهر ذلك من قول ثامسطيوس وأرسطر في كتابه في النفس بخلاف قوله في كتاب الحيوان. فإنه كما قيل ليس في وجود اللحم يحس بالأشياء التي تلقاه كفاية في أنه آلة هذا الإدراك، بل لعل الآلة تكون من داخله ويكون هو كالمتوسط. فإنا لو لبسنا الحيوان جلداً ثم غمزنا عليه وجدناه يحس.
وذلك انه إذا تحفظ بما تبين في كتاب الحيوان وما قلناه أيضاً من أن آلة هذه القوة يجب أن تكون بسيطة ومشتركة لجميع الحيوان، وأضيف إلى هذا ما يظفر بالتشريح، وهو أنه ليس يوجد في جسد الحيوان عضو بهذه الصفة يرى أنه يحس غير اللحم تبين باضطرار أن آلة هذا الحس هي اللحم.
فأما الأعصاب التي يرى جالينوس أنها آلة الحس فهي إذا كانت ذات شكل وتجويف محسوس في بعضها، كالحال في العروق، فهي أقرب أن يكون إليه منها أن تكون بسيطة كاللحم. وأيضاً فليست مشتركة لجميع الجسد، ولو كان الأمر كما ظن لما كان يحس بجميع أجزاء اللحم الحيوان، لكن إذا تؤمل الأمر فيها وجد لها مدخل في وجود الحس بوجه ما، وذلك أنا إذا وضعنا ما يظهر بالتشريح من أن كثيراً من الأعضاء إذا اعتل العصب الذي يأتيها أو انقطع عسر حسها.
وأضفنا إلى هذه أن الطبيعة لا تفعل شيئاً باطلاً وإن كان هذه الأعصاب لمكان فعل ما أو انفعال، أعني من أفعال النفس أو انفعالاتها ظهر من مجموع هذا أن العصب له مدخل ما في وجود الحس، وذلك أن استعمال طريقة الارتفاع مجردة في استنباط أفعال هذه الأعضاء. قد تبين في علم المنطق اختلاله على ما من عادة جالينوس أن يستعمل ذلك، وكثير ممن سلف من المشرحين، لكن أن كان ولا بد للعصب "من" مدخل في وجود الحس فعلى أي جهة ليت شعري يكون ذلك.
فنقول إنه إذا تحفظ بما تبين في كتاب الحيوان أن الموضوع الأول لهذه القوة ولسائر قوى الحس هي الحرارة الغريزية التي هي في القلب بذاتها وفي سائر الأعضاء بما يصل إليها من الشرايين النابتة من القلب، وأن الدماغ إنما وجد لأجل تعديل هذه الحرارة الغريزية في آلة الحس، وذلك أنه ما كان يمكن أن تدرك هذه القوة الأشياء الخارجة عن الاعتدال إلى الكيفيات المفرطة إلا أن تكون آلتها في غاية من التوسط والاعتدال، حتى تدرك الأطراف الخارجة عنها وهذه حال اللحم، ولذلك كلما كان اللحم اعدل كان أكثر حساً كما نرى ذلك في حس باطن الكف، والعصب بعيد مزاجه من مزاج المتوسط ولذلك كان حسه عسيراً إذ كان بارداً يابساً.
وبهذا تبين أن الدماغ ليس هو ينبوع فذه الحاسة كما اعتقد جالينوس، وإنما هو ينبوع القوى المعتدلة، وإنما احتيج في آلة هذه الحاسة أن تكون معتدلة بين أطراف الكيفيات، لأنه لم يتفق فيها أن يكون خلواً من المحسوسات. التي تدركها ولا موجودة فيها بالقوة المحضة، كما اتفق في آلة الإبصار أن كانت خلوا من الألوان، وكذلك لسائر القوى الأربع. وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه الآلة إنما صارت آلة لهذا الإدراك من حيث هي ممتزجة والممتزج لا بد فيه من وجود الكيفيات الأربع.
وأما منفعة هذا التبريد الذي للدماغ في حاسة حاسة فقد فحص عنه في كتاب الحيوان، وإذا وضعنا هذا كله هكذا وأضفنا إلى هذا أن العصب إنما ينبت من الدماغ لأنه شبيه بجوهره، حصل منِ مجموع هذا كله أن اللحم إنما يحس بالحرارة الغريزية التي فيه حساً تاماً.
فأما إذا تعدلت حرارته بالأعصاب الواصلة إليه من الدماغ ويشبه أن تكون هذه الأعصاب إنما هي موجودة في الحيوان الكامل من اجل الأفضل وإلا فالحيوان الضعيف الحرارة كالحيوان المخزز وما أشبهه فإنه لا غناء لوجود هذه الأعصاب فيه، وبخاصة في الحيوان الذي ليس يوجد له من قوى الحس غير هذه القوة كالإسفنج البحري وغير ذلك.
ولذلك نرى كثيراً منِ الحيوانات التي ليست أعضاؤها كثيرة الآلية إذا فصلت تبقى زماناً تتحرك وتحس الأجزاء المقطوعة فيها بخلاف الحال في الحيوان الكثير الأعضاء الآلية، بل يكفي في وجود كثير من هذه الحيوانات وجود القلب والدماغ فقط أو ما تنزل منزلتها. وقد جمح بنا القول عما قصدنا له، إذ كان الفحص عن هذه الأشياء أليق المواضع به كتاب الحيوان، فقد تبين من هذا القول ما آلة هذه القوة، وأما أن هذه القوة ليست تحتاج في إدراكها إلى متوسط فهو بين مما قلناه فيما سلف أن المتوسط إنما احتيج إليه في الحواس لأحد أمرين: أحدهما تكون المحسوسات غير ملاقية لآلة الحس. والثاني لمكان الترقي من الوجود الهيولاني إلى الوجود الروحاني، إذ كانت الطبيعة إنما تصير إلى الأضداد أبداً بمتوسط وهذه القوة من جهة أن محسوساتها إنما تحس بها وهي ملاقية لآلتها، لم تحتج إلى متوسط بهذه الجهة، ومن جهة أيضاً أن آلتها إنما تقبل هذه المحسوسات قبولاً هيولانياً، وذلك أنها تسخن وتبرد ولم تحتج إلى المتوسط بالمعنى الثاني.
فأما ما يراه ثامسطيوس ويعطيه ظاهر كلام الحكيم من أن هذه الحاسة وأن كانت تلقى محسوساتها وتماسها فإنه ليس يمكن أن تتماس وليس بينهما هواء أصلاً، كما ليس يمكن السمك ينعاش في الماء دون أن يكون بينهما ماء، ويجعل هذا حجة على أن هذه الحاسة قد تحتاج بوجه ما إلى المتوسط الذي من خارج، فيشبه أن كان الأمر على هذا ولا بد أن يكون ذلك لاحقاً لحق هذه الحاسة، لا أن ذلك أحد ما يتقوم به هذا الحس. فقد تبين ما هذه القوة وما محسوساتها وأي آلة آلتها وأنها ليست تحتاج إلى متوسط بالجهة التي تحتاج إليها الحواس الأخر.
وقد نرى مع هذا أن هذه القوة تدرك تضاداً آخر ليس منسوباً إلى المتضادات الأربعة، وهو الثقل والخفة، وليس ذلك شيئاً اكثر من أنها تدرك التحريك المضاد للقوة المحركة الموجودة في الحيوان. ولذلك تحس بالكلال والإعياء. وقد يظن أن الثقل والخفة من المحسوسات المشتركة، وذلك إنا قد نحسه بمتوسط إحساساً بالحركة، والحركة كما قيل من المحسوسات المشتركة، لكن من جهة أن سائر الحيوان وأن كانت تدرك الثقل والخفة فكثيراً ما نغلط فيه. إذ كنا نظن بالبطيء الحركة أنه ثقيل وبالسريع الحركة أنه خلاف ذلك، وربما كان الأمر بالعكس، ولذلك قد نرى أنها لها مشتركة.